Click to listen highlighted text! Powered By GSpeech
Get Adobe Flash player
مستمرين معاكم بإذن الله 2008-2024 **** #لان_لجيشنا_تاريخ_يستحق_أن_يروي **** ***** إنشروا تاريخنا وشاركونا في معركة الوعي **** تابعونا علي قناة اليوتيوب 1100+ فيديو حتي الان **** تابعونا علي صفحات التواصل الاجتماعي** أشتركوا معنا في رحلاتنا لمناطق حرب أكتوبر **** يرجي استخدام خانة البحث **** *** تابعونا علي تليجرام - انستجرام - تويتر

الناس والحرب - الحلقه الرابعه

 

 

الجـزء الثــــانى

 

الاستعداد لجولة جديدة

 

 

حُسن الاستقبال بالعودة

    

     اقلنا القارب بمساعدة عمال الهيئة الى الشاطىء الغربى للقناة وقد ساعدونا على النزول منه فأعضاؤنا تيبست وأعصابنا ازدادت توترا وحالتنا الصحية على أسوأ ما يكون فمجهود السير ثلاث ساعات فى تلك الملاحات صعبٌ للغاية ، طوال الأربعة الأسابيع الماضية لم نعاني أثناء سيرنا مثل ما عانيناه في منطقة الملاحات ، ولكى نسير كنا نرفع أقدامنا من داخل البركة اللزجة بصعوبة وندفع بها الى الأمام كما ان منظر تلك الملاحات الشاسعة ذات اللون الأبيض من كثرة ما بها من أملاح وانعكاس أضواء الشمس على سطحها قد أثر بالتالى على نفوسنا بالألم واليأس.

     كنا نستقل القارب وهو يمخر صفحات مياه القناة ذات اللون الفيروزى الرائع ونقترب رويدا رويدا من الجهة الغربية للقناة ويحدونا الأمل باستمرار انتصارنا على هذا المجهول القاسى الذى تعرضنا له وماذا سيكون عليه حالنا واستقبال المصريين والمسئولين لنا .. أكيد سيكونون فى منتهى السعادة والبهجة بعودة هؤلاء الخمسة من جحيم لم يشعر به سوى الذين لاقوا مرارته وتعذبوا بما لم يقابله إنسان سواهم كما إننا عائدون بسلاحنا ونقدم أنفسنا لهم  ورهن إشارتهم.

     أخيرا وصلنا الى الجانب الغربى للقناة وكان هناك عدد من الناس فى استقبالنا ملوحين لنا ونحن فى وسط القناة ومازالوا يلوحون وبمساعدة عمال الهيئة الذين حملونا على أذرعهم فلم يكن باستطاعتنا ان نصعد الى خارج القناة تاركين اللنش وقد ربطه العمال استعدادا لاستقبال آخرين قادمين تباعا.

    نحن وقوفاً فى مبنى محطة سكة حديد "الكاب" والتى تطل من الجانب الشرقى على القناة .. ومن الجانب الغربى على طريق ضيق مرصوف ثم ترعة توصل مياه النيل الى بورسعيد كما تحيط بها بعض الأشجار .. يا لها من سعادة .. استقبلنا طبيب ومعه بعض المعاونين وهم يرحبون بنا طالبين منا التوجه الى مسئول المخابرات أولا ثم بعد هذا سيفحصوننا ويقومون بالعلاج اللازم لأى مشكلة صحية نشكو منها.

       حضر شخص يرتدى الملابس المدنية ليعرفنا بنفسه .. انه يتبع لمكتب المخابرات الحربية وانه سيتسلم منا سلاحنا وجلس على ترابيزة صغيرة من المخصصة للمدارس ومعه دفتر يدون الاسماء به ويكتب أمام كل اسم ملاحظاته .. يشير .. وأنت وهو مازال ممسكا بقلم جاف فى يده وينظر لأحدنا فيتقدم عطية ليخبره ببياناته من الاسم الرباعى والدرجة (جندى .. عريف .. رقيب .. وهكذا ..) ومعه زميل له نفس الهيئة بجسم قوى وسمين ويبلغه بالملاحظات (فقد مزيته السلاح وفرشة النظافة – بصوت مرتفع .. تخصم على المتسبب !!) ثم يشير بقلمه اللى بعده .. بنفس الطريقة السابقة وهكذا حتى بلغنى وترتيبى فى آخر المجموعة وعرفته بنفس البيانات وعندها قال حمد لله بالسلامة يا فندم.

     لم يقلها لجنودى .. وكأنهم لا يستحقون منه تلك الكلمة البسيطة. خصم علينا جميعا القطع الصغيرة المرافقة للأسلحة ، حزن الجنود ولكنى هونت عليهم بأنها بسيطة ، عدة جنيهات وجزاء بالحبس ، هذا أهون من خصم دبابة او مدفع او طائرة !! سمعنا صوتا جهورى قوى صادر من داخل المكتب .."خلصت مع أولاد ......" قال لفظا نابيا سباب بالأم " يا عبدالقوى؟ أشار له عبد القوى وهو واقف .. خلاص يافندم وأشار على كتفه بما يعنى بوجود رتبه عسكريه ، كان رد فعل صاحب الصوت بالداخل .. إيه ياعنى خليه يورينى نفسه هو كمان .. هنا طلب عبد القوى منا التوجه الى مكتب القائد .. سيادة الرائد/احمد .. منتظركم .. معاهم يا عثمان (وأشار بيده وهو ممسك بقلمه لزميله عثمان) .. سار عثمان أمامنا ونحن نتبعه ونترنح ونرتعد من البرودة التى تسرى فى أجسادنا من البلل والمياه اللزجة والطين الذى يغلفنا حيث كانت جميع ملابسنا متسخة ولونها مابين الأسود والبنى والأزرق كما ان ملامحنا لا تظهر مما علق بها وغطاها الطين الذى طمس أنوفنا وآذاننا وكل شىء لا يظهر منا إلا عيوننا الباردة التعسة لتلك الكلمات التى صدرت من سيادة الرائد وهو قابع بداخل المكتب.

     دخلنا المكتب الذي هو في الأصل مكتب ناظر محطة السكة الحديد ، الرجل فى حوالى الثالثة والثلاثين من عمره ابيض الوجه مكتنز الجسد يرتدى قميصا حريريا نصف كم وبيده ساعة رولكس وأمام مكتبه علبة سجائر كنت وولاعة لسجائره وطفاية ويسحب أنفاس سيجارته بجانب من شفتيه.

ـ ايوه مين فيكم اسم الله عليه الظابط ؟ .. أشرت له بيدى

ـ ايوه يافندم: صاح بصوته القوى

ـ عرف نفسك زى ما تعلمت يا شاطر .. ترددت قليلا ثم قلت: 

ـ ليه ْ الكلام ده يافندم؟  كلمنى لو سمحت بالطريقة العسكرية .. وكأن ثعبانا لدغه فنهض من مقعده وهو يشير إلىّ بأصبع السبابة قائلاً:

ـ أنت يا حتة عيل حتعلمنى اكلم ازاى؟  نهاركم اسود النهاردة ، حضر الطبيب ودخل علينا طالبا منه ألا تكون أسئلته بتلك الطريقة مراعاة لظروفهم فهم في حالة سيئة منذ شهر او يزيد ، نظر إليه باستخفاف قائلاًٍ:

ـ أتفضل بره وشوف شغلك انا مش بأدخل فى شغلك وأنت ملكش وجود هنا. خليك فى القطن والشاش بتوعك. خرج الطبيب صاغرا مستنكر هذا يردد:

ـ والله ده حرام .. يعيد الرائد:

ـ كنتم فين كل المدة دية يا ولاد الجزم؟ قاعدين تلعبوا فى سينا وسايبين البلد تضرب تقلب .. هنا حدثه الجندى عطية وهو ضعيف الصوت والبنية بالإضافة الى ما قاسيناه من تعب فى الساعات الأخيرة ومازال جسدنا يرتعد من البرد والألم لما حاق بنا من ملوحة منطقة الملاحات.

ـ إيه يا فندم الكلام ده .. نازل شتيمه فينا .. إحنا برضه ولاد ناس ومعانا ظابط زميلك .. لم يكمل حديثه إذ قام الضابط من على مكتبه قائلاً:

ـ إيه يا عبدالقوى جايب لى ولاد الكلب دوول وعليهم جله"روث البهائم".. تكلمت وانا محاولاً كظم غيظي.

ـ إيه الكلام اللى يفور الدم ده. بلاش غلط واحترم نفسك. نظر الى قائلاً:

ـ أنت بتشتمنى ياله. رفع يده يريد صفعى فأمسكت يده فنظر إلىّ قائلاً:

ـ يخرب بيت اهلك .. كده وسخت قميصى .. طيب .. هنا دفعه عطية ولكن الرائد صفعه على وجه فارتمى على أثرها أرضا صارخا من الألم فاندفع مصطفى ابن الإسكندرية يسبه بأقذع الشتائم فاتجه إليه ولكن الجندى عاجله بضربة رأس فى وجهه صرخ على أثرها فحضر معاونوه وأوسعونا ضربا وركلاً ونحن غير قادرين على الدفاع عن أنفسنا ولم ينتبه احد من الموجودين الى كنكة القهوة على وابور السبرتو المشتعل وأرضية المكتب من الخشب فاهتزت وسقط وابور السبرتو محدثا صوتا واشتعلت النيران بالمكتب وهنا اندفع عمال هيئة قناة السويس للدفاع عنا وقد طالتهم بعض اللكمات فسددوا بمثلها وأكثر وقد أصبحت الحجرة ساحة قتال مستخدمين كل ما يستطيع الإنسان ان يتشاجر به بين الصياح والسباب لهم ولمن أرسلهم لهذا المكان وقد شاهدت المعركة وانا مُلقى على الأرض بينهم وبين معاونى هذا الرائد الذى لم يحترم آدميتنا وشاهدته أيضا وهو ملقى على الأرض والدماء تغطى وجهه بينما يحاول البعض السيطرة على النيران التى اشتعلت بأرضية الحجرة من اثر سقوط وابور السبرتو.

     توالى سقوط معاونيه فرداً فرداً وانتهت المعركة بسقوط عشرة من المصريين جرحى انا وجنودي الأربعة والرائد ومعاونيه من ضباط الصف الأربعة اما طبيب النقطة فكان يصرخ ساخطا ناقما على هذا الضابط واتصل بوحدة الشرطة العسكرية من التليفون الملحق بالنقطة الطبية.

     تعاون رجال هيئة القناة لمساعدتنا لنقف على أرجلنا ولكننا كنا عاجزين عن ذلك فأجلسونا فى مكاننا مستندى الظهر الى الحائط  ونحن مازلنا نرتجف مما أصابنا ومن برودة أجسامنا المبللة. اما الرائد فقد وقف مهددا متوعدا الجميع بأنه سوف يدخلهم السجن وقد أطلق بعض عمال الهيئة اصواتا بأفواههم تدل على الاحتقار له ولمن سيخبرهم متوعدينه بالانتقام منه لأنه خائن لوطنه.

     بعد قليل حضر ملازم أول من الشرطة العسكرية ومعه بعض جنوده والطبيب يوضح له ما تم من اعتداء مجموعة المخابرات على هؤلاء التعساء"مشيرا إلينا" على حد قوله ونحن مازلنا بوضعنا المأساوى نرتعد برداً وألما لما حاق بنا ولم يمضى علي وجودنا نصف ساعة منذ عودتنا من سيناء بعد ثمانية وعشرين يوما. تحدث ضابط الشرطة العسكرية قائلاً:

ده موضوع كبير ثم طلب من احد معاونيه ان يتصل بقيادته لاسلكيا ليخبرهم بما حدث فى محطة "الكاب" ولكن الرائد نهره طالبا منه اخذ رجاله من هذا المكان وتركهم فورا ولكن الضابط اخبره بان هذا عمله المكلف به وهو يقوم بتأديته ولا داعى للمزايدة وتوسيع رقعة المشاكل.

     توالى حضور عمال الهيئة على ضابط الشرطة العسكرية للإدلاء بأقوالهم ومندوب الشرطة يسجل كل شىء ولكن أهم شىء قيل على لسانهم بأن ضابط المخابرات سب هؤلاء قائلاً: كنتم فين يا ولاد الكلب يا جيش عبد الناصر الجبان (الحقيقة لم اسمع تلك الجملة) وقد أيده زملاؤه ومندوب الشرطة يخبرهم بأنهم سيوقعون على تلك الأقوال الخطيرة وهم يبدون استعدادهم بان يدلوا بها أمام اى إنسان او محكمة والرائد احمد يصرخ فيهم.

     حرام تكدبوا .. ولكنهم لم يعيروه اى اهتمام وهنا سبهم ثانية وشتمهم بأفظع الكلمات وقد أراد الرجال الهجوم عليه مرة اخرى ولكن رجال الشرطة العسكرية منعوهم من ذلك وقد صرح الضابط موجها كلامه لضابط المخابرات كل ما قلته امامى سأشهد به وهنا لم يتمالك رجل المخابرات أعصابه فسبه هو وقيادته.

      جاء احد أفراد الشرطة العسكرية ليخبر ضابطه بان الحاكم العسكرى لمحافظة بورسعيد اللواء فريد طولان طلب منهم إرسال الرائد إليه فى المدينة لمقابلته على الفور وان قيادة المخابرات الحربية سترسل من يحل محله وقد كان موجودا أثناء كل هذا ممثل الاتحاد الاشتراكي فى بورسعيد الذي ادلى بشهادة مطابقة لعمال الهيئة ، طلبنا الطبيب للعلاج وقد هدأ الرجل من روعنا وتسلم إشارة تليفونية من قيادته بان الحاكم العسكرى طلب من قيادة الرائد إيقافه عن العمل ووافقت قيادته وسيحول الى تحقيق فورى وقد أسعدنا هذا رغم ما ألم بنا من جراح فى أجسادنا ونفوسنا.

     كتب الطبيب تقريره والذى يثبت فيه أننا أصبنا بكدمات فى الوجه والجسد وتسلخات فى أماكن كثيرة وأنهم فى احتياج للعلاج بالمستشفى وقد أرفق هذا التقرير مع كل ما قام به ضابط الشرطة العسكرية من تقرير وأسئلة الحاضرين وقد ابدي هو وجنوده تعاطفا معنا مستنكرين ما فعلة رجال المخابرات. حضر إلينا بعض رجال الهيئة بكمية من البرتقال نظرا لعدم وجود أطعمة معهم فشكرناهم ونحن مازلنا فى مرحلة عدم الوعى حيث تسببت أفعال وتصرفات رجال المخابرات الحربية معنا فى محو ذاكرتنا عما قمنا به من أعمال وبطولات يجب عليهم الافتخار بها ، تكلم مصطفي باكيا: تصوروا نبدأ الإنسحاب بالضرب علي قفانا وبالشلاليت عند جبل لبني وننهي الإنسحاب بالضرب بالشلاليت وعلي القفا ، إيه يارب إللي مستنينا؟

 

ملاحظة:

مارس 1968 تم محاكمة رجال المخابرات وعوقب الضابط بالاستغناء عن خدماته والطرد وباقى العاملين معه من ضباط الصف بالطرد والحبس

****

     حضر أتوبيس للجيش والذى يقل العائدين قادما من مدينة الإسماعيلية مرورا بكل نقاط جمع الشاردين وكنا آخر من سيقلهم لأنها آخر نقطة وبعدها بورسعيد .. ركبنا الأتوبيس وقد جفت ملابسنا فوق أجسادنا وبدأت القاذورات العالقة بنا تتساقط وشعرنا أننا اقل وزنا عن زى قبل مما كنا نحمله من الملاحات.

      اما مندوب الاتحاد الاشتراكي الذي تعاطف معنا مثل الآخرين فقد كان المرافق لنا الى بورسعيد وقد حصل الرجل على بعض البيانات من جويلى سريع الحديث والذى لا يستطيع ربط فمه وقد قص عليه كل ما فعلناه والرجل يستمع سعيدا ولهذا وقف يحيينا ويتحدث عن أمجادنا بعد ان ضخم من خسائر العدو وضربها فى رقم عشرة وهكذا انقلبت الحقيقة الى كذبة لان هذا لم يحدث وكنت في حالة من الدهشة والإستغراب من أين حصل على تلك المعلومات الخاطئة محاولا تصحيح كلامه وكان يغطى على كلماتى بأنه لا داعى لإنكار أعمالكم المجيدة مقررا انه سيكتب هذا فى تقريره الذى سترسله أمانة الاتحاد الاشتراكى فى بورسعيد الى الأمانة المركزية بالقاهرة موصيا بترقيتنا الى الدرجات الأعلى وكل هذا الكلام بين تصفيق الجنود الآخرين الذين لا نعلم عنهم شيئا.

      توقف بنا الأتوبيس أمام احدى المدارس الثانوية للبنات ببورسعيد وغادرناه الى داخل المدرسة وبرفقتنا مرشدين من العلاقات العامة بالمحافظة والشئون المعنوية للقوات المسلحة ، أرشدنا البعض الى حجرة لنستريح بها وهى فى الأصل فصل دراسى افرغ من محتواه وُفرشت أرضيته ببطاطين الجيش ذات اللون الرصاصى وشاهدنا بعض الجنود بتلك الحجرة كما حضرت بعض فتيات المدرسة وهن فى أعمارهن الصغيرة وبملابس التربية العسكرية التى كانت مقررة فى المدارس فى تلك الفترة عارضين على الجنود المساعدة فى كتابة خطابات لعائلاتهم او كتابة اى شكوى او مظلمة يرغبوا في إيصالها للمسئولين ، جلست كل فتاة بجانب جندى ممسكة بورقة وقلم لتسطر خطابا من الابن العائد بعد غيبة لإبلاغ سلامه الى أهله مطمئنا إياهم علي أحواله.

    حضر مندوب الاتحاد الاشتراكى الذى رافقنى من الكاب الى المدرسة متسائلاً: "أنت فين يا كابتن؟ بادور عليك فى كل مكان ، تعالى معايا علشان تروح مكان تجمع الظباط" . ودعت جنودى على أمل باللقاء فى وحدتنا ورافقت مندوب الاتحاد الاشتراكى الذى كان دمث الخلق ووطنى كريم ويراعى شعورنا خاصة بعد ما ألم بنا من مأساة الكاب على ايدى رجال المخابرات الحربية. هبطنا الى حوش المدرسة فإستوضح عن السيارة التى ستقلنى مخبرا إياهم بان ضابطا موجودا هنا على سبيل الخطأ ولابد من انضمامه لمكان تجمع الضباط حسب التعليمات ولكن احدهم اخبره بان السيارة الجيب أرسلت إلى مهمة عاجلة ويمكننى ان انتظر فى ضيافتهم الى ان تعود السيارة وتقلنى الى المبرة.

     شاهد تلك المحادثة شاب فى مقتبل العمر وقد تطوع مستفسراً عن الخدمة التى يستطيع ان يقدمها لنا فاخبره مندوب الاتحاد الاشتراكى بان ضابطا (يشير الى) موجود هنا على سبيل الخطأ ونريد إيصاله الى مبرة أبناء الشهداء لينضم الى باقى الضباط حيث ان مكان تجمعهم هناك. ابدى الشاب استعداده لأن يقوم بتلك المهمة حيث يمتلك سيارة خاصة. قدموا شكرهم لمرؤته واخبرنا احدهم بان الطبيب (....) "مشيرا جهة الشاب" يدرس بالسنه النهائية بكلية الطب وقد حضر متطوعا لخدمة الجنود مثل الكثير من زملائه. ودعنى كل الموجودين متمنيين لى الوصول بسلامة الله .. أفسح لى الشاب الطريق متقدما خطوات ليرشدنى الى سيارته وكانت من نوع (تاونس) مكشوفة (سبور) مثل الموجودة فى أفلام احمد رمزى .. وفتح لى الباب بكل ذوق رفيع وأدب جم وعرفنى بنفسه.

     يقود السيارة فى شوارع بورسعيد النظيفة قليلة الزحام وأنوار المدينة تتلألأ والناس يسيرون قادمين عائدين وتبدو عليهم النظافة وحُسن الملبس وقد شعر الشاب اننى انظر إلي هؤلاء بسعادة ودهشة ولهذا أبطأ من سرعة السيارة حتى يعطينى الفرصة للمشاهدة والاستمتاع بتلك المناظر التى اعجبتنى وهفا إليها قلبى بعد حرمان من الحياة الإنسانية أكثر من شهر ونصف ، أوقف سيارته أمام محل مزدحم برواده من الشباب ونظر الى متسائلاً: "تحب تشرب حاجه ساقعه؟ هتفت فى داخلى ياه .. أين بائع العرقسوس الذى كنت أتخيل ظهوره من خلف الهضاب والجبال محدثا اصواتا بصاجاته وينادى على بضاعته (خمير يا عرقسوس .. اشرب المتلج  يا خمير) ثم يعقبها بطرقعة الصاجات" مازال الشاب ينظر الى منتظرا جوابى على سؤاله وقد غفوت عنه سارحا فى تأملاتى السابقة. أجبته:

"آه اشرب حاجه ساقعه" ابتسم معيداً سؤاله:

إيه النوع اللى تحب تشربه؟  سكت وصمت ولا اعرف اى الأنواع فكل شىء أصبح سرابا فايقظنى قائلا .."إيه رأيك فى شوب منجه".. سرح خيالى .. ياه .. منجه .. أجبته:

آه منجه .. اتجه الى المحل واحضر شوب منجه كبير الحجم واعطانى إياه قائلاً: .."أتفضل حضرتك".. آه على الخلق الرفيع النابع من المنشأ .. أمسكت بالكوب الزجاجى الذى لم أره منذ أكثر من شهر ولمست برودة الثلج التى لم اشعر بها قرابة الشهر والنصف إلا ليلا فى صحراء سيناء الشاسعة. ان كل شىء هنا له طعم ومذاق مختلف. ارتويت وأعدت له الكوب شاكرا. عاد وقاد السيارة قائلاً:

"عندك مانع ألف معاك فى البلد شويه تشوف الناس؟ انا شاعر انك عايز تلف وتشوف الدنيا". أشرت إليه بالموافقة. كنت اشعر كأنني طفل رافقه أبوه للنزهة بعد شفائه من مرض ألم به وأقعده بالمنزل أياما عديدة وهاهو يكافئه فرحا بسلامته وشفائه بتلك النزهة الجميلة. توقف الشاب أمام محل "آيس كريم" وقال لى بصوته رقيق الإحساس والمشاعر "إيه رأيك أجيب لحضرتك "آيس كريم" نظرت إليه وقد بدأت الدموع تجرى فى عيونى لفرط حُبه وصدق مشاعره الطوعية مع مقارنتها بما لحق بنا من اهانة وسب وضرب من زملائنا فى القوات المسلحة على ايدى رجال المخابرات الحربية".

     تركنى مسرعا ليحضر لى "أيس كريم" ولكن دموعى كانت اسبق من حضوره وشاهدنى الناس الذين يقطعون الطريق وقد لفت نظرهم منظرى وهيئتى التي تدل على عجزى وسوء حالتى وقذارة ملابسى وشعرى الملىء بالقاذورات من آثار الملاحات ، توقف البعض ينظر إلي ويتساءلون عما أصاب هذا الشاب من ألم  وعن حالته وما سبب بكائه ، حضر الشاب الطبيب ليخبرهم بأنه عائد توا من سيناء وقد قضى وقاتا عصيبة هناك وانتم تلاحظون حالته وقد تعاطفوا معى وسمعت سيدة تتحدث: "يا حبيبى يا ابني .. يا قلب أمك عليك .. يا ترى أمك عامله إيه دلوقتى؟".. لقد تذكرت الآن ان لى اما تحبنى وتنتظر عودتى ولى أب وإخوة كلهم فى شوق الى رؤياى كما انا فى شوق الى رؤيتهم .. مازالت دموعى تتفجر من عيونى كتفجر مياه عين ساخنة وأحاول ان أغلق تلك العيون او ان امنعها من البكاء دون جدوى وقد وجد الشاب أننا فى وضع سىء فقد التف الناس حولنا وكل دقيقة يزداد العدد على هذا الجندى الذى يبكى بكاء مستمرا ولهذا قاد السيارة مبتعداً عن الناس ووقف قريبا من قاعدة تمثال دليسبس قائلاً "هنا أروق وأحسن وفرج عن نفسك وإذا كنت شاعر بألم قوللى وانا أساعدك فنظرت إليه والى هيئته ونظافته وانظر الى ملابسى وما عليه حالى والأفكار والخواطر تتزاحم فى عقلى الصغير الذى لم يبلغ الثالثة وعشرين عاما. ماذا حدث لى؟ ماهى جنايتى وجرمى لأصل الى كل ما وصلت إليه الآن؟ اخرجنى من افكارى التعيسة قائلا: "ولا يهمك كله حيتغير ويتبدل بس انا مش عارف إيه اللى خلاك تبكى بالشكل ده أكيد فيه حاجه حصلت؟ قهر نفسى .. حاجه من النوع ده .. بكاؤك بيقول كده .. ممكن تقولى وإلا سر؟

     أخبرته بقصة ما حدث لنا في الكاب بعد عودتنا واستقبال رجال المخابرات وقد اندفع الشاب هو الاخر فى بكاء حار وانا أحاول تهدئته دون جدوى وتكلم ويهذى ولكن ما عرفته من بعض ما قال: ليه إحنا بنعمل فى بعضنا كده؟ والله حرام .. ده شكل وإلا منظر بهدلة وشتيمه وضرب .. الله ينتقم منهم وقد هدأت نفسى بسرعة وانقطع تدفق الدموع بعد ان كاد الشاب ينهار هو الاخر ويلحق بى. اعتذر عما بدر منه قائلاً:  لكن غصب عنى اعمل إيه ماهى حاجه تفرس وتجنن".

   وصلنا الى المبرة واستقبلنا البعض فلاحظوا دموع عيوننا نحن الاثنين فهدؤا من روعنا مؤكدين لنا بأننا سنقوم بمعركة وننتصر فيها .. ودعنى صديقى المجهول او الملاك المجهول صاحب المروءة والأريحية والذى قلل من تأثير بركان الضيق الذى جثم علي صدرى  منذ وصولنا الى الضفة الغربية لقناة السويس.

      اتجهت الى داخل المبرة وهناك قابلنى طاقم من الأطباء والممرضين فاحصين حالتى وقد هالهم ما انا عليه سواء من الإصابة السابقة بيدى اليمنى او الإصابات التى حدثت عصر هذا اليوم وكان يغلب عليها التسلخات سواء فى الوجه او الجسد والكدمات التي بالوجه من اثار اللكمات التى تعرضت لها مع جنودى اما جسدى فكانت به الكثير من الكدمات من الشلاليت التى حصلنا عليها من مساعدى ضابط المخابرات.

     طلب الطبيب مشاهدة قدمى فأخبرته اننى منذ شهر لم اخلع حذائى ولم أغير جوربى ولم استحم ولكنه لم يبالى بكل ما قلته له ، لسوء الحظ لم استطع خلع حذائى او الخروج انا منه !!!.. طلب من احد مساعديه قص الحذاء بالمقص وقد علمت بعد ذلك بان لهم تجارب سابقة بخصوص ذلك وفعلا قص المساعد جلد الحذاء وقد ظهر جوربى بلا لون ورائحته تزكم الأنوف ولكن الشىء اللافت ان قدمى كانت منتفخة ، قص الشراب أيضا وعندما شاهدت قدمى تملكني الخوف فلقد أصبحت مثل المرضى بداء الفيل كانت ضخمة وتهتز إذا تحركت كأنها بالونه ممتلئة بالمياه. اخبرنى الطبيب بأنه سيقوم بعمل فتحة فى كل قدم لإخراج المياه التى بها من عناء السير لمسافة ولفترة طويلة.

     قطع فتحة فى باطن قدمى لم اشعر بها ولكنى شعرت والمياه تصفى فى حوض صغير معد لذلك ، كانت آلاما شديدة كأنها شطة حامية ألقيت بداخل قدمى وقد اخبرنى بدون ان اشتكى باننى سوف اشعر بـ .. كذا .. وكذا .. وهذا شىء طبيعى وسيزول بعد ساعة.

   اخبرنى الطبيب بأنه سيفحصنى بعد ان احصل على حمامى وهنا تسلمنى احد رجاله بالمبرة وتوجهنا الى حجرة المهمات فتسلمت افرولاً جديداً وفوطة وجه وغيار داخلى وصابونة وجه وشراب وحذاء كاوتش. كل تلك الأصناف ذات الأحجام الكبيرة والتى لا تناسب مقاسى ولكنها أحسن مما انا عليه.

    صعد بى المرافق الى حجرة كبيرة بها بعض الضباط الذي إذا شاهدتهم تشعر للوهلة الأولى بحالتهم من العيون الزائغة والحركات العصبية من حين لآخر ، أشار لى المرافق قائلا هذا سريرك وحضر نوبتجى العنبر ليخبره بان الضابط "أسامه الصادق" منذ الآن يصرف له كل شىء أسوة بزملائه وان هذا السرير خصص له وودعنى بينما اصطحبنى النوبتجى الى الحمامات تاركا لى الاستحمام براحتى وطالبا منى خلع ملابسى المتسخة ووضعها فى هذا البرميل وأشار الى برميل صاج موضوعا فى منطقة الحمامات.

       انا بداخل الحمام لأحصل على أول حمام لي منذ شهر ونصف الشهر تخلصت من ملابسى الرثة التى وصفها طويل اللسان ضابط المخابرات"بالجلة" تخلصت من ملابس الجلة وفتحت الدش وانا غير مصدق لما انا فيه والمياه تندفع فوق رأسى وتحيط بجسدى وانا مازلت فى حلمى الكبير وأقول هل عُدت وقابلت هؤلاء القوم؟ هل تناولت مشروب المانجو الساحر وأكلت آيس كريم؟ هل انا هنا واحصل على حمامى وسأبدل ملابسى التى لم تعد قذرة فقط ولكنها أصبحت شيئا آخر؟ كنت متخوفا بان يكون هذا حلما مثل ما حدث لى فى اليوم الخامس وهجوم أسراب الغربان على جسدى فى محاولة لافتراسي وانا ما زلت حيا.

    مررت بالصابونة على جسدى وانا اشعر بأن جواليص طين وقاذورات تندفع الى البلاعة وأقول فى نفسى ستسد البلاعة مما علق بي من قاذورات كان يجب على ان أقف بحديقة المبرة وان يحضر الجناينى بخرطوم المياه ويرشنى به حتى اتخلص من تلك الشوائب العالقة.

      انتهيت من حمامى وجففت جسدى واستبدلت ما كنت ارتديه بملابس جديدة. صحيح ان الملابس الداخلية فضفاضة وواسعة لكنها نظيفة ولبست الافرول برائحته المميزة للقماش الجديد حيث تكون كرائحة النشا. ألقيت بكل اوساخى فى هذا البرميل واحتفظت برتبتي العسكرية القماش رغم قذارتها. اتجهت الى الحجرة الكبيرة ومنها الى السرير جالسا فوقه مستندا بظهرى ناظرا امامى ومن حين لآخر انظر الى جيرانى الذين ينظرون الى وكاننى شىء غريب عليهم. السكون ُمطبق على الجميع لا حديث ولا ضحكات.

      حضر مندوب المبرة ليخبرنى ان الطبيب فى انتظارى. ساعدنى المندوب فى الهبوط للدور الأسفل حيث كنت غير قادراً على السير الطبيعي مثل باقى الناس لما ألم بقدمى من فتحات فى باطنها. استقبلنى الطبيب مرحبا وأعاد الكشف على جسدى بالكامل وعالج جروح يدى وكدمات ظهرى ووجهى ولكنه اخبرنى بان التسلخات وأثار اللكمات ستظل باقية لعدة أيام وسُتمحي بمرور الوقت ، طلب مني نزع ملابس الجزء العلوي ، فعلت هذا وتفحص جسدي وكان في دهشة ثم طلب من مساعده عمل أشعة لي ووزني علي الميزان ، سمعت المساعد وأنا أقف فوق الميزان يحدث الطبيب 34كيلو 800 جرام . نظر إلي الطبيب وقادني جهة المرآة متسائلا ً: إزاي أنت عايش لحد دلوقت .. دا العضم والجلد يدوب ده وزنهم ، أنا في دهشة طلب مني النظر في المرآة لم أكن أتوقع بأن تلك حالتي ، جميع العظام واضحة تغطيها كساء من الجدل ، عظام القفص الصدري واضحة ويمكن لأي شخص أن يقوم بعدها ، الكوع والركبة عبارة عن كورة من العظم مغطاة بالجلد ، حزنت لحالي ولم أكن أشعر بأنني وصلت إلي تلك الحالة الصحية المتأخرة.

        وجهنى بعد هذا لطبيب الأسنان الذى فحصنى وأزال بعض الجير المتراكم على اسنانى وضروسى من جراء الحرمان من الطعام فترات طويلة ثم طلب من احد مساعديه مساعدتى فى العودة الى سريرى. جلست على سريرى وحضر مندوب الطعام ليقدم لكل سرير صينية وعليها بعض السندوتشات من المربى والجبن والزبادى وكوب شاى ُمحلى باللبن.

     حضر المسئول عن العنبر ليخبرنا بان الوقت قارب من العاشرة وعلينا الانتهاء من الطعام حيث ستطفىء الأضواء فى العاشرة حسب التعليمات. أتناول طعامى دون شهية فكل شىء غريب على سواء نوعية الطعام او نظافتى الشخصية او السرير المريح الذى أنام عليه ، كلها أمور مخالفة لما عشت عليه فى ايامى السابقة كما ان المحيطين بى ادخلوا الخوف والرعب الى قلبى من نظرات عيونهم الزائغة.

     أثناء تناول الطعام سار احد الضباط بين "الأسرة" مرتديا بيجامه مثل الباقي بخلافى مستفسرا من كل واحد عن اسمه ورتبته وهو غير مسئول عن ذلك بل هو نزيل مثل الباقى. جاء الدور على. وحينما علم باننى ملازم رفع صوته مناديا مندوب العنبر وجاء الرجل مسرعا وتوترت اعصابى ولا اعلم سبب في هذا وأشار إلى المندوب قائلا له:

   ازاى يا مغفل تجيبوا زبالة "يشير الى" زى ده وتخلوه ينام معانا ، أسرع المندوب ليخبره باننى استحممت وغيرت ملابسى ، عاد وقال كل الموجودين هنا ضباط كبار رائد فأعلا تقوم تجيبو المفعوص ده ويبقى رأسه برأسنا. هزلت وبقت ميغه .. خده بره من هنا .. وقف المندوب وهو شخص مدنى ينظر الى وانا انظر إليه والى المجنون الذى يتحدث وقد أيده بعض زملائه وكان احدهم اقل اندفاعا فقال"مش معقول كده .. ظابط صغير زى ده تشوفوا له حته تانيه .. ونظر لزملائه مستفسرا .. مش كلنا رائد فاعلا . أشاهد من يزوم مؤيدا وآخرين يهزون برأسهم دلالة على الموافقة.

       تحير المندوب ويعيد حديثه: دى أوامر وتعليمات الحاكم العسكرى كل الظباط فى المبرة وماقلش حاجه عن حكاية الرتب. اعمل إيه دلوقتى؟ يصيح هذا المجذوب: اتصرف مش ممكن يبيت هنا .. هأ..هأ.. خلاص. عيلت. كنت اسمع وأشاهد وانا مازلت جالسا والسندوتش فى يدى ولقمة واحدة قضمتها فى فمى وقد توقفت عن المضغ والتصرف منتظر ما يقرره هؤلاء القوم فى شأنى وعقلى تائه ولا اعرف أيه حكاية الظابط الصغير اللى عامله دوشه وألم مع كل من أقابله منذ لقائى فى بداية الانسحاب عند جبل لبنى حتى الآن حتى الصول عبد الراضى رحمه الله استكبر على شخصى الضعيف ان أقود الجنود فى بداية انسحابنا وعين نفسه قائدا أعلا لمجموعة المنسحبين المنهزمين. صرخ الرجل مشيرا إليّ "انا ومندوب العنبر" انتم لسه قاعدين قوم فز أنت وهوه.

    فجأة سمعنا صوتا قويا مثل الانفجار ، هنا صرخ من بالعنبر جميعا قائلين غارة وارتموا تحت الآسرة يرتجفون صارخين من طائرات العدو ، وجدت نفسى وحيدا فى العنبر ومازلت جالسا فوق سريرى ولم أتحرك لسبب لا اعلمه ولكن لاحتمال المهاترة التى حدثت امامى وبخصوصى او ان حكاية الغارة لم تكن شيئا جديدا على شخصيا ، تنبهت لما انا فيه وهم جميعا مختبئين تحت الأسرة وكلهم ارفع منى منزلة ورتبة كما يتوهمون وكيف لا أتصرف مثلهم فهم أصحاب العلم والخبرة وأبناء الملائكة اما امثالى الذى خلقه الله لكى يشعر كل من يقابله بأنه شىء تافه لا قيمة له ، تركت ما فى يدى وانا انظر للمندوب الذي كان ينظر أن الحق بموقعى تحت السرير أسوة بهم والرجل مبتسماً مشيراً الى عقله بما يعنى أنهم مساكين. صاح المندوب قائلا ً:

إنتهت الغاره .. ترك القادة الإنبطاح أسفل الأسرة وعادوا الى مواقعهم

     علمنا بعد هذا ان صوت الانفجار الذى اعتقد الجميع بأنه غارة جوية انما ناتج من ارتطام البرميل الصاج الذى يحوى المهملات من ملابسنا القذرة وبعد ان فرغه عامل النظافة وأعاده الى مكانه لم يضعه برفق على أرضية الحمامات ولكنه سقط منه أرضا فاحدث ذلك الصوت المدوى الذى أخاف القادة الكبار. عاد إلى القائد الرافض لوجودى وهو يصدر لى أمرا. اخرج بره العنبر .. فاهم .. تدخل احدهم قائلا ً: نرفق بحاله ونتركه ينام فى البلكونة وقد استحسن الباقون هذا الحل ولهذا حملت بطانيتى واغراضى وطعامى وذهبت الى البلكونة لأكمل نوم العراء لليوم التاسع والعشرون حتى وانا فى بلدى وبين أهلى يحرمنى من هم اكبر منى رتبة من هذا الحق الطبيعى.

      هذه المرة لم احزن او أتضايق فقد رأيت بعينى وشاهدت ماهم عليه. صحيح ان حالتى الصحية مؤلمة ولكن عقلى واتزانى مازال سليما اما هم فلا حول ولا قوة. جلست ليلتى مُسهدا وانا أشاهد أضواء النجوم ومن حين لأخر تهب على رأسي نسائم البحر تدغدغ حواسى ولكن الشىء الذى كان يؤلمنى هو الهرش فقد تخلصت من أشياء لصيقة بجسدى تعودت عليها ليل نهار والآن أصبحت غير موجودة. أين القاذورات الشخصية التى كانت عالقة بنا طوال تلك الفترة وعرقنا الغزير الذى ترسب فى ملابسنا وأصبحنا مثل الأغنام التى تشم رائحتها النفاذة ولا تتضايق منها وعندما يقصون أصوافها تنتابها لعدة أيام حالات من الضيق تحاول تعويضها بان تنام مكان إخراجها حتى تعود رائحتها السابقة إليها بأقصى سرعة.

      غالب النوم جفونى بعض الاوقات ولكننى كنت استيقظ على أصوات عالية تطالب بالماء ويسرع المشرفون على العنبر باحضار أكواب من الماء ويضع كل من المصابين الكوب على الأرض بجوار سريره وقد استيقظ احدهم يريد شرب الماء ونسى انه وضع كوبه فى الجهة اليمنى ومد يده للجهة اليسرى ليشرب ولكن صاحب الكوب علي اليسار تشاجر معه وقام زملاؤه المصابين من نومهم مذعورين ليحكموا بينهم وهذا مؤيد لهذا وهذا معارض لذلك وانا اسمع وأشاهد من بلكونة الحجرة ضاحكا ومتألما فى نفس الوقت.

    شعرت ببرودة شديدة قبيل الفجر وتلصصت واسترقت النظر الى موضع سريرى الذى غادرته راغباً فى العودة إليه ولكن ما شاهدته من حالة القاطنين بالحجرة يدل على أنهم على استعداد ان يفعلوا اى شىء فهم كما يصفهم القانون "ناقصى الأهلية" وهو ما يحرم الإنسان من صحة التصرف فى ممتلكاته ويطلقون عليه اسما آخر"الصبى الغير مميز" وهو الأصغر من سبع سنوات. كانوا رجالا كبار الحجم ولكن عقولهم كانت فى جهات أخرى بسبب ما اصابهم من الحرب ومن النتائج المخالفة لما كان قد رسخ بعقولهم من القيادات. فهم الأقرب الى القيادات العليا عن شخص فى رتبتى الصغيرة .. لكن الشىء الذى ترسب فى ذهنى منذ مقابلة العميدين "جلال وحلمى" ثم شيخ العرب الذى كان يحتفظ برتب كثيرة ولم يعرض على تلك الخدمة مؤكدا ان التعليمات تأتيه بذلك ثم مقابلة رجال المخابرات الحربية وهنا بالمبرة .. أيقنت انه لا مكان لمثلى بين تلك القيادات الكبيرة ويجب على ان اعد نفسى لهذا .. وما الذى يجب ان اعد نفسى عليه .. انك يا أسامة وأمثالك "لا شىء" .. كمالة عدد مثلك مثل الجنود ويجب ان اقترب منهم فهم مثل حالى و ما اختلف عنهم فيه هو اننى اضع رتبة على كتفى ويطلقون على شخصى الضابط واحمل مسئولية لا يحملها الجندى .. لكن هم انا .. وانا هم.

      ليلا شعرت برغبة فى التبول ولكن أين؟ .. لقد أغلق احدهم علي باب البلكونة الزجاجى لشعورهم بالبرد ، تحاملت على نفسى بصعوبة بالغة حتي الصباح ، فى الصباح ايقظنى مسئول العنبر مندهشا كيف أنام هكذا ومن اصدر لى تلك الأوامر؟ فاخبرته بما حدث وقد حزن الرجل لهذا "ووبخنى"على انصياعى لهذه التعليمات بينما كان يجب على ان اخبرهم واعرفهم بما طلبه منى زملائي فى هذا العنبر .. حتى الرجل المدنى وبخنى على القهر الذى حدث لى .. وقد أخبرته بأنهم ليسوا زملائى فانا اقل منهم درجات وقد شعر بأنه أساء لى بدون قصد فاعتذر وسألنى ان رغبت فى إيصال الأمر الى المسئولين اضحكنى هذا وقلت: ليس على المريض حرج .. وقد راقه هذا التعليق شاكراً تسامحى وهذا ليس تسامحا منى ولكن ما باليد حيلة فلقد شعرت بالقهر منذ اليوم الاول للانسحاب.

     اصطحبني الى الدور الأرضي لتناول طعام الإفطار فقد تأخرت عن موعده وهم هناك منذ أكثر من ساعة يتناولون طعامهم. يكمل حديثه: بعد الإفطار عليك التوجه للحلاق. سرت معه وهناك فى المطعم أراد الرافضون لي التحدث واعتراض وجودى ولكنه كان حاسما أمامهم قائلا سيادة المحافظ موجود وحاعرفه باللى عملتوه امبارح مع الظابط الصغير ده .. فاهمين ؟ صمتوا جميعا خوفا من محافظ بورسعيد والذين يعلموا عنه الكثير عندما كان قائدا للبعض منهم. تناولت طعام افطارى وذهبت للحلاق وانا اعد الساعات والدقائق لأهرب من هؤلاء القوم الكارهين لوجودى متمنين ألا أكون قد عدت لهم من سيناء. هذا ما روادنى واعتقد انه غير حقيقى ولكنه إيحاء نابع بأنه فى كل خطوة اشعر باننى غير مرغوب فى شخصى. انه لشىء صعب على النفس خاصة مع صغر السن وعدم الخبرة.

     أسرعت الى الحلاق .. كانوا مجموعة من الحلاقين وجاء حظى مع رجل كبير السن مثله مثل الآخرين وكأن حلاقي مصر وُضعوا جميعا فى قالب واحد فخرجوا منه على تلك الهيئة من الحكاوى والأحاديث الطويلة. الرجل يعتني بشعرى عناية لم أعهدها من قبل فى حياتى السابقة ويسألنى أخلى القصة والفرقة. يمين وإلا شمال وانا أريد منه الانتهاء حيث اجبرنى على ان أكون أسير محاضراته مايقرب من النصف ساعة محركا رأسي يمينا ويسارا كأنه يحرك دركسيون سيارة مستخدما القوة والعنف ويضع يده على رأسي وفى كل مكان بدون مبالاة وانا اصرخ من اصابات الأمس فيقدم اعتذاره ثم يعيدها وكأنه أعجب بصوتى ونغماتى وانا أتأوهه ألما.

    اعتذر عن حلاقة ذقنى الخفيفة من الشعر لأن وجهى كله إصابات وتسلخات ولن يستطيع ان يقرب الموس منها ثم جاء بعطره الغير معروف وعندئذ أخبرته قائلا ً: بصراحه يا اسطي انا ما معاييش فلوس بلاش تكلف نفسك. توقف عن عمله وحديثه أيضا ثم ترك قفايا وغير وضعه ليقف امامى قائلا ً: بنبرة حزينة وكلها مشاعره صادقة. انا يا بيه مُكلف بالشغل هنا .. ومش عايز فلوس لا سمح الله لكن تصدق بالله. انا بأقص شعرك وانا فاكر ابني ممدوح. ربنا يجيبه بالسلامة .. أصله أتجند فى أول ألسنه وراح مع اللى راحوا الحرب وكل شعره بأقصها منك باقول امتى يرجع ابني من الحرب وأقص له شعره زيك.

       بكى الرجل وجاء زملاؤه يحيطون به ويخبرونه بان ابنه سيعود مثل هؤلاء الذين يعودون كل يوم .. ولكن الرجل ظل يبكي ورافقهم الى مكان جلوسى قائلا لهم: بالذمة مش البيه ده شبه ابني؟ يطيبون خاطره مؤيدين قوله .. يعود الرجل بعد ان جفف دموعه قائلا: لى شفت ازاى انا حبيتك؟ أنت تعرف عمال افكر وأقول فى نفسى إيه؟ اقول للبيه الى قدامى لو ييجى يزورنى فى بورسعيد حتى لو كل كام شهر. يمكن المقسوم والقدر يحرمنى أشوف ابني تانى وتكون أنت العوض. ربنا يخليك لأهلك ويفرحوا بيك زى ما انا منتظر ابني وبافكر أسعده وأشوفه عريس.

        "نعيماً" .. قالها ووقف امامى ينظر الى وسامتى وقيافتى ليتأكد من اننى على ما يرام وعلى أحسن ما يكون. اقترب منى هامسا قائلاً: قلت ليا انك مش معاك فلوس .. خد دول يا ابني ولو سمحت انك توافق انى أقولك كده .. احتضنته وانا أقاوم رغبة قوية للعودة للبكاء وقلت له ولا يهمك يا بابا .. انا ابنك زى ممدوح وربنا يسهل ويرجع بالسلامة واوعدك لو فيه وقت وظروفى سمحت حآجى بورسعيد واشرب الشاى معاك وازورك. احتضننى ثانية ومازال يمد يده لى ببعض فكة الجنيه "ربع جنيه وبعض العملات الفضية" شكرته فنظر الى معاتبا .. يعنى عشان فقير مش عايز تسعدنى وتاخد الملاليم دول؟ أجبته اوعى تقول كده .. بس انا حاستلم مرتب شهرين النهاردة  "مايو ويونيو" وقبلته وسمعته وانا اغادر المكان قائلاً: متنساشى .. اسمي "عليوه" .. اسأل عن الأسطى عليوه المزين دكانى جنب الشامى بتاع البسبوسة الكل عارفنى .. ودعنى وهو غارق فى سعادته وانا غارق فى أحزانى لتلك المقابلة المؤثرة على اعصابى التى لم تعد تستطيع ان تتحمل ما اقابله من مواقف وأحداث.

      تركت غرفة الحلاقة وفى بهو المبرة فوجئت بمحافظ بورسعيد امامى والذى صافحنى متسائلا ًعن اى مشاكل قابلتها وما يستطيع ان يقدمه لى من خدمات ثم توقف فجأة وطلب الطبيب الذى أسرع بالحضور موجها سؤاله إليه عن الإصابات التى فى وجهى وهنا تدخل مندوب الاتحاد الاشتراكى الذى كان برفقته هو وبعض معاونيه بان قال له "ماهو ده يا أفندم الظابط بتاع أمبارح اللى بتوع المخابرات أتعدوا عليهم بالضرب وزى ما حضرتك شايف اثار عمايلهم .. توتر المحافظ لاعنا هؤلاء مستفسرا ًمن مساعده العسكرى عما تم بخصوص هذا الموضوع والذى علم به بالأمس فاخبره المساعد بان إدارة المخابرات استبدلته بآخر وانه علم ان الإدارة سحبته الى القاهرة تنفيذا لقراركم كحاكم عسكرى بايقافه عن العمل لحين التحقيق معه .. اخرج الرجل أجندته الخاصة وكتب فيها بعض ملاحظاته ثم اخبر مساعده قائلا لو ما تابعتش الحكاية دية حتحصله .. فاهم يا سيادة العميد؟ هنا انتفض العميد مخبرا المحافظ بان هذا الموضوع من أولويات اهتماماته .. أعاد الرجل اعتذاره لى وهنا تذكرت شيخ العرب الذى كان يحتفظ بعدد كبير من القادة لإعادتهم الى مصر وما يطلبه من الإمدادات الغذائية .. فأخبرت به المحافظ .. فنظر المحافظ الى سكرتير عام المحافظة مستفسرا منه عن هذا الموضوع وقد اخبره بأنه أرسل بعدد من اللنشات الى منطقتهم منذ ثلاثة أيام. نظر الى المحافظ متسائلا عن موعد لقائى بهؤلاء البدو وقد أخبرته ان هذا من عشرة أيام او يزيد. هنا اطمأن المحافظ على ان الرجل وصله ما طلبه معيدا أوامره الى مساعده بمتابعة تلك الإمدادات ثم ودعنى مصافحا لاستكمال جولته فى المبرة.

      الساعة الواحدة تناولنا طعام الغذاء "سندوتشات خفيفة" وحضرت أتوبيسات لتقلنا الى محطة القطار ليتجه بنا الى القاهرة مع تخلف القادة الذين كانوا معى فى العنبر والذين رفضوا مجرد مبيتى تلك الليلة معهم وقد سألت مندوب العلاقات العامة عنهم وأجابنى بسخرية قائلا أنهم منذ أكثر من أسبوعين بهذا العنبر ويتذرعون بالمرض والجنون والطبيب لا يملك إلا ان يبقيهم حتى يستعيدوا حالتهم الصحية وأكمل حديثه قائلا"العملية كلها بكش".

     ركبنا الأتوبيسات وحضر بعض عمال شركة بورسعيد للمنسوجات يقدمون هدايا تذكارية للمقاتلين العائدين من جبهة القتال وهى عبارة عن علم بورسعيد وعليه اسم الشركة مطرزاً بفن وبطريقة جميلة. سارت بنا الأتوبيسات وكنا نشاهد المحافظ يتابع أحوال الجنود والضباط أثناء وقوفه بالشارع ومعه بعض مساعديه.

     فى محطة قطارات بورسعيد شاهدنا المحافظ بها وقد سبقنا الرجل إليها ليتأكد بنفسه من ان كل شىء على ما يرام.

       تحرك بنا القطار الحربى من بورسعيد متجها الى القاهرة وبعد ان ابتعد عن المدينة شاهدنا قناة السويس التى عبرناها من الشرق الى الغرب وكل واحد فينا ينتظر اليوم الذى نعود فيه عابرين القناة من الغرب الى الشرق ، ُترى هل يأتى ذلك اليوم؟ انها أمنية كل واحد منا ، نشاهد سيناء من شباك القطار والبعض يدعو الله ان يعمى إبصار اليهود عنا لان اى دبابة تستطيع بعدة قنابل ان تحولنا جميعا الى قتلى وجرحى ولكن الله سلم ولم يحدث شىء وها نحن ندخل مدينة الإسماعيلية والتى كانت هادئة مع انتشار بعض الدبابات فى الشوارع مستغلة الأشجار للاختباء بها بعيدا عن أعين الطائرات المعادية.

     انضم إلينا بعض العسكريين من الإسماعيلية وتحرك القطار الى القاهرة مرورا بمدينة أبو صوير ثم القصاصين ثم التل الكبير ثم أبو حماد والزقازيق ومنيا القمح ثم بنها وها نحن على أبواب القاهرة فى حى شبرا بعد قليل وصل القطار الى محطة مصر حوالى السابعة مساء وغادر الجميع القطار كل الى غايته وكانت غايتى هى إدارة المشاة فى العباسية فى باب (3) وهو الشارع المؤدى الى قيادة المنطقة العسكرية المركزية والذى يقع على مدخله الآن مبنى كهرباء الريف التابع لوزارة الكهرباء حاليا وكانت المنطقة فارغة بدون مبانى سوى كلية الشرطة وكان هذا الشارع مخزنا للترام ومخيف ليلا وبعده منطقة خلاء او معسكرات حتى مستشفى الأمراض العقلية والباقى صحراء.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

سلم نفسك لوحدتك فوراً

      

     غادرت القطار الحربى ويجب ان يطلق عليه قطار الإهمال مع ألاف من الجنود والضباط الى أين هم سائرون لا اعلم ولكنى اعلم جهتى وبغيتى .. وقفت فى ميدان رمسيس انظر الى هذا الفرعون الشامخ هذا الجد الكبير الذى أذاق الهكسوس مرارة الهزيمة فى معاركة على يد القائد العبقرى أحمس. أتفقد ملامحه وأقول فى نفسى يارب تمن علينا بواحد من أحفاده يعيد عظمة اجدادنا ويرفع الهوان الذى لحق بنا على أيدي هؤلاء الاعداء لله ولنا نحن العرب والمسلمين.

    اقترب منى جندى شرطة عسكرية قائلا ً: واقف هنا ليه يا دفعه؟ روح وحدتك عشان لو أتأخرت لحد بالليل حيتقبض عليك. شكرته منفذا التعليمات وكأنما شعر باننى عائد لتوي من جبهة القتال لنزولى من القطار الحربى وما انا عليه من هيئة تدل عليها اصابتى.

      ابتعدت قليلا افكر. كيف سأصل الى ميدان العباسية. انا لا املك نقودا. ولا مليم كما كنا نقول فى ذلك الزمان الذى كانت العملة تبدأ بالمليم ولا نعرف اى شىء من العملات الكبيرة الآن وكانت اكبر عملة هى الورقة ذات العشرة جنيهات. اما اكبر من هذا فلم تكن العملات قد استوت ونضجت لتصل الى فئة العشرين والخمسون والمائة جنيه .. عبرت الطريق الى الجهة الأخرى الى شارع الفجالة حيث يسير به الترام متجها الى العباسية وانا أقدح ذهني ولم اعثر بعد على حل يعفينى من الخمسة مليمات ثمن نصف تذكرة من رمسيس الى العباسية. ركبت الترام وبعد قليل جاء الكمسارى ووقف امامى قائلاً: تذكرة يا دفعة .."لم أتعرض سابقا لمثل هذا الموقف فى حياتى".. بصوت خفيض ومبحوح مقتربا منه. مش معايا فلوس .. لم يمهلنى الرجل حيث صرخ فى وجهى .. الله يخرب بيوتكم جبتولنا النكسة وكمان جبتولنا الفقر!!!

    انتبه البعض من الجالسين وقد شاهدوا جنديا ضعيف البنية وكل وجهه كدمات وجروح وقد تضايق احدهم قائلاً: "إيه يا ريس بتزعق له كده ليه؟ ده غلبان مش شايف حالته؟ متزعلشى يا ابنى. تذكرته عندى" أراد ان يقدم الرجل ثمن التذكرة وشعرت لحظتها بسعادة كبيرة باننى تخلصت من هذا العبىء ومن حديث الكمسارى السىء ولكن الكمسارى شكره قائلاً "خلاص ولا يهمك يا دفعه خليك راكب ومتزعلشى منى اصل إحنا اتكوينا باللى حصل. صحيح أنت ذنبك إيه؟  لا حول الله على رأى المثل حالى يغنى عن سؤالى".

        جلست أرضا لعدم مقدرتى على الوقوف ولكن البعض أفسح لى مكانا لأجلس فيه وتأثروا لما انا عليه من عدم مقدرتى على السير وهم ينظرون الى واحدهم يسألنى. ده من الحرب؟ ده من اليهود المجرمين أولاد الكلب؟ اللعنة عليهم واخرج احدهم حبة جوافة من كيس من الورق الأصفر من أكياس الاسمنت والتى كانت تعبأ بها الفواكه والخضروات لتعطى للناس صلابة الاسمنت قائلاً لى: خد يا ابنى .. بل ريقك .. سعدت بها وكأنها عزومة عامرة قد هبطت على وشكرته وقضمت الحبة فى قضمتين وأراد الرجل ان يكررها بواحدة اخرى ولكننى شكرته وقال احدهم الدفعة جعان يا ولداه. ثم أعقبها بكلمة "ربنا معاكم يعملها الكبار ويقع فيها الصغار بتوع أول امبارح السلام عليكم" ، غادر الترام وهو يرثى لحالى وبعد قليل ُفرغ الترام من راكبيه ووصل الى محطته النهائية وجاء الكمسارى ليخبرنى بأننا آخر الخط مقدما اعتذاره لى مرة أخرى وممسكا بيدى لمساعدتى على النزول من الترام الى الأرض.

      الحمد لله .. قلتها وانا سعيد فها انا قد عبرت محنة ركوب الترام بقليل من الألم النفسى ولقد تعودت على الاهانات ونحن فى سيناء. سرت متجها الى باب تلاته والذي يبعد حوالى خمسمائة متر عن ميدان العباسية وانا امنى نفسى بلقاء ممتع ونومه هانئة تسبقها وجبة دسمة تعيد الى جزءًا من قوتى وعافيتى التى تهاوت خلال تلك الرحلة التى اقتضت شهرا أليما. اننى ذاهب لبيتى الكبير .. إدارة سلاح المشاة .. بعد مجهود ُمضنى بالسير بعض الوقت والجلوس على الرصيف بعض الوقت للحصول على راحة من آلام قدمى التى مازالت تخرج منها بعض المياه منذ الأمس وكأن جرحا غائرا أسير عليه حتي وصلت الى باب تلاته والذى يغلفه الصمت والظلام. تحيرت وانا اقف أمام الإدارة وكيف ادخل الى هذا المبنى الضخم العتيق وإذا بأحد جنود الحراسة يحضر قائلاً: ايوه يا دفعه .. مالك .. عايز إيه دلوقتى؟ جلست أرضا أستريح لأحصل علي بعض الراحة وأخبرته برتبتى وهنا احترمنى الجندى قليلا مما ادخل البهجة الى قلبى وقلت فى نفسى اخيراً ستحترم "يا أسامة".

       أخبرت الجندى بالغرض الذى حضرت من اجله فافادنى بان أعود فى الصباح لأن جميع الضباط غير متواجدين ، تهاوت كل قلاع الأمن والسعادة .. الى أين اتجه الآن؟ .. لقد قابلت ما قابلت من اجل ان احضر الى هذا المكان وأخيرا لا أجد أحدا هنا .. سألته بصوت هامس مافيش مكان أبيت فيه للصبح؟ هز الجندى رأسه بأنه لا توجد أماكن هنا. سألته وميس المشاة والذى اسمع انه فندقا "فقيرا" مخصص للضباط. اخبرني انه حُول لأشياء أخرى تخص الحرب. أسأله: الى أين اتجه الآن وانا من خارج القاهرة وجوعان وليس معى اى مليم. سكت الجندى ثم قال الجوع ممكن أديلك تعيينى لكن غير كده ما اقدرشى. شكرته عائداً الى ميدان العباسية لعل الله يرزقنى من عنده.

     حادثت نفسى التى هى طوعى وتسمعنى وتريحنى وتطيب خاطرى ، الحمد لله ان فيه هوا وميه .. وصلت بعد جهد الى ميدان العباسية والذى كان شبه فارغ إلا من سيارة تسير كل عدة دقائق فقد اختفى البشر رغم ليالى الصيف بالقاهرة .. الى أين اتجه؟ .. سألت احد المارة عن الساعة فاخبرني بأنها قاربت علي الحادية عشر ثم أشار الى قائلاً: استخبى عساكر البوليس الحربى بيمسكوا كل العساكر اللى زيك. سعدت بهذا الخبر فسوف أجد طعاما ومأوى لى حتى الصباح ولكن جنود الشرطة العسكرية أبوا ان يلقوا القبض علىّ وخاصة أنهم يسيرون بجوارى وأتعمد ان الفت نظرهم دون جدوى وقد قررت ان أهاجمهم. اثنان يمران امامى مباشرة. اتجه إليهما. مساء الخير: احدهم يجيب مساء الخير يا دفعه. أحدثهم قائلا: والله انا متأخر عن وحدتى وعايز منكم تقبضوا على لحد ما تسلمونى. نظر إليّ أحدهم قائلاً : أنت عسكرى فى الجيش؟ أجبته ايوه امال. اجاب الاخر اركن هنا لحد الصبح لأن كل الأماكن مليانه عساكر ومافيش أماكن تانية. زميله ضاحكا خليك "كنجى" ومعناها فى الخدمة العسكرية الدور الثانى.

       كنت شاعراً بالخوف والرهبة من الناس فما حدث لى بالأمس في منطقة الكاب والإعتداء علينا واليوم من حديث كمساري الترام دفع بى الى الابتعاد عنهم لشعورى بأنى مطارد ومكروه من الجميع وإذا احتجت الى شرب المياه لا اتجه الى المحلات التجارية او القهاوى لهذا الغرض بل كان امامى موقف أتوبيسات هيئة النقل العام فشاهدت برميل صاج يملأ بالماء لتزود به الأتوبيسات لملىء اوعية التبريد فكنت اتجه لهذا البرميل لأشرب منه واضعاً كف يدى اليسرى والعق الماء رغم قذارتها ورائحة الجاز وزيوت الأتوبيسات عالقة بها.

     تركتهم حزينا ، حتى الشرطة العسكرية رافضة إلقاء القبض على. توجهت الى مبنى المؤسسة الاقتصادية للقوات المسلحة وكان وقتها مبنى قديم متهالك وجلست على سلمه ليلا فى الظلام لأغفو حتى يحين الصباح وأنسى الجوع  ثم اذهب الى إدارة المشاة. ركنت رأسي على الحائط ورحت فى نوم عميق رغم شعورى الشديد بالجوع. استيقظت على صوت غليظ وشىء ما يدفعنى فى كتفى. فتحت عينى فشاهدت شابا ممسكا بمطواة" قرن غزال" ويصرخ فى وجهى قائلاً: طلع ياد يابن الكلب اللى معاك لادبحك. كنت اعتقد أنهم جنود اسرائيليون وهجموا علينا بين النخيل فرفعت يدى صامتا(علامة الاستسلام) .. صرخ ثانية .. إيه ياله الملعوب اللى بتعمله معايا. أنت فاكرنى من بتوع السيما. لم يمهلنى حيث فتش كل جيوبى وقال يخرب بيت اهلك. دا أنت عسكرى "مقشفر" ولكننى أقسمت له بالله اننى نظيف ولست "مقشف" ضحك منى وقال طيب اقعد. بتعمل ايه هنا ياله؟  أخبرته باننى ذهبت الى وحدتى وعلمت أنهم سافروا وقال لى الضابط تعالى الصبح وانا غريب. يجيبنى وأنت غريب كمان؟  أجبته اى والله غريب ومن الساعة واحده مكلتش حاجه وجعان. يحدثنى بصوته الخشن: وله"ولد".. هو انا خلفتك ونسيتك ومالك وشك متشلفط كده ليه ومنظرك يخوف؟ تركنى سائرا وفوجىء بشاب أنيق يغادر سيارته فاخرج المطواة وطلب منه جنيه وانا سعيد بأنه ابتعد عنى وعثر علي فريسة أخرى. اخذ الجنيه من الشاب ونظر إلىّ قائلا جبنه لحلوح بحاله .. يخرب بيت فقرك.

     سار وابتعد عن ناظرى وبعد قليل شاهدته قادما فى اتجاهى مرة ثانية فأردت ان اترك المكان واهرب وأختبيء خلف صناديق القمامة المجاورة خوفا منه فقال: خليك فى مكانك .. مش بأقولك وش فقر .. توقفت وشعرت لحظتها ان مصر وسيناء كلها كارهة لى وتطاردنى وغلبنى اليأس ووقفت انتظر قدومه وانا لا اعلم كيف أتصرف فكل شىء ضدى حتى بوضعى هذا وانا اقرب الى القطط الهائمة بجوار أكوام القمامة لا أجد قلبا رحيما يأخذ بيدى. جلست ثانية لأنتظر ما يخبئه لى القدر.

    وضع لفافة امامى قائلاً: "كل" سألته ماهذا ؟اجابنى مش بتقول جعان ولضيان .. اتصرفت وخدت من الواد الخنفس جنيه ورحت جيبتلك سندوتشين كفته بـ تمانين قرش وباقى عشرين قرش .. كل .. كل .. (يهزنى فى كتفى صائحا) كل ياد مالك خايف كده ليه .. خليك سجيع!!! ثم قال : خمسه وارجع بكوبيتن شاى توزن دماغك .. غادرنى وانا متخوف .. هل آكل ما احضره من مال حرام ام انتظر لباكر؟ لم استطع الصمود أمام رائحة الكفته وحالة الجوع التي أنا عليها ، كنت التهم السندوتشات مثل القطط الجائعة التى تحاول التهام اكبر كمية من الطعام وتزوم لتخيف الآخرين .. انا الاخر .. كنت الهث وانا أتناول تلك السندوتشات ، عاد صديقى اللص حاملا كوباين من الشاى ونظر الى قائلا:ً يخرب عقلك لحقت تاكل السندوتشات ثم صرخ : إيه ياد أكلت حته من الورقة الملفوف بيها السندوتش .. ياه دا أنت باين عليك الغلب .. دا انا الى ببيت فى الشارع أحسن منك على كده .. أجبته فعلا أنت أحسن منى .. تناولنا الشاى واخرج علبة سجائر كليوباترا من الحجم الصغير ومطبقة وحالتها رثه .. فسألته : ليه أنت مبهدل العلبة كده ومخبيها فى شرابك؟ فاخبرنى بانه لم يفعل  هذا ولكن الزبون اللى لطشها منه كانت مدفوسه فى هدومه ومطبقها "واصله لمؤاخذه كان نتن ومعفن والميه مخاصمه جتته" وأعقبها بضحكه عنترية .. إذن السجائر انضمت الى السندوتشات والشاى وكله فلوس حرام .. احدث نفسى أخيرا يا أسامه بعد ما ربنا أنقذك أكلت حرام .. ثم عدت الى رشدى حرام وإلا حلال يعنى أسوأ من حالتى اللى انا فيها الآن .. ياه على الظلم والألم اللى الواحد بيقابله حتى فى بلده .. ليه كله صعب فى صعب.

       فجأة توقفت أمامنا سيارة شرطة "بوكس" ونزل منها شاويش ومعه جنديان والشاب الذى سطى عليه صديقى اللص وأشار قائلا: هما دول الحراميه يا حضرة الصول .. امسك بنا الجنديان ولا اعرف كيف وجدت نفسي لاصقا فى ظهر كابينة البوكس بعد ان طرت فى الهواء من دفعة احدهم لى والدماء تندفع من فمى وانفي حيث من شدة دفعة المخبر لى ارتطم وجهى بكابينة السيارة .. عادت بنا السيارة الى القسم "قسم الوايلي" .. غادرنا البوكس الى مكتب الضابط النوبتجى والمخبر ممسك بياقة الافرول لا اعرف كيف عصرها فى يده حتى شعرت بالاختناق رغم انه افرول فضفاض وكنت أشمر البنطلون والأكمام حتى استطيع السير .. استقبلنا المساعد(الصول) كبير الحجم غليظ القول والذى اخرج كل قواميس رجال الشرطة من البذاءات على صديقى اللص .. ثم اتجه الى قائلاً: ما أنت يا ابن الرفضى" وقد اضحكنى هذا التعبير رغم ما انا فيه من حالتى حيث تذكرت الشاويش عطية فى فيلم ابن حميدو مع إسماعيل يس واحمد رمزى" فتضايق قائلاً: بتضحك .. لك نفس تضحك .. أبشرك ان بكره حتيجى الشرطة العسكرية تستلمك .. ثم تحولك الى النيابة العسكرية .. سكت فتذكرت نفس الفيلم .. فقلت ثم .. اجاب ثم المحكمة العسكرية .. ثم الإعدام رميا بالرصاص .. إحنا فى حرب وأنت عسكرى فى الجيش عامل تشكيل عصابى وبتسرق الناس بالإكراه مستخدما السلاح الأبيض ياجزمة يا ابن الجزمة .. نهار أبوك اسود ومطين على ليلتكم يا أولاد الابالسه بقالنا أسبوعين ما فيش مشاكل ومستريحين .. الشياطين اتخمدت.

    جاء جندى يطلب من حضرة الضابط النوباتجى إرسال المتهمين لرئيس المباحث .. انفرجت أسارير الشاويش عطية"جمعه القناوى" وهذا اسمه ومشهور بعم جناوى .. يالله ياولاد الابالسه البيه رئيس المباحث سهرتكم معاه الليله حنسمع التسقيف اللى على القفا للصبح .. دفعنا الجندى من رقابنا الى مكتب ريئس المباحث ووقفنا أمام شاب فى الثلاثين او يزيد يرتدى الملابس المدنية وتذكرت حادث الكاب واستقبال المخابرات لنا فأيقنت إنني هالك ولا بد من ان أفصح عن شخصيتى.. أشار الضابط الى الجندى مستفسراً منه عن حالتى والدماء التى تملاء وجهى وفمى ثم طلب منه اصطحابى لكى اغسل وجهى من اثار الدماء.

عاد بى الجندى الى رئيس المباحث فمهد الرجل لحديثه قائلا: عسكرى فى الجيش وبيسرق وأيام الحرب شفتم المصيبة قاطعته .. لو سمحت .. وأخرجت رتبتى العسكرية القماش من جيبى .. فنظر إليها قائلا ً.. قتلت ضابط جيش واخدت رتبه .. اجبته انا الملازم أسامه الصادق وجئت اليوم من بورسعيد .."وقصصت رواياتى أمامه" ثم قال (وهو يشير الى صديقى اللص) وأنت اسمك إيه .. فاجابه .. فوزى خضر.. سأله عن اسم الشهره .. أجابه دبوس .. ضحك الرجل وقال يعنى عايز تعرفنى انك سرقت علشان الضابط ده جعان .. كويس كده.

ينادى :عسكرى .. جاء الجندى فأمره بان يأخذ دبوس"مشيرا إليه" خده لحجرة الضابط  النوبتجى ومحدش يقرب له فاهم ، أشار الى بالجلوس .. ثم قال .. حمد لله بالسلامة .. انا غير بعض ضباط الشرطة اللى واخدين موقف من الجيش لان فكرى كبير وليس هناك تعارض بينا ولا منافسه ومش معقول النملة حتنافس الفيل الجيش حاجه كبيره وإحنا هيئة شرطة وشغلنا فى داخل الجمهورية لكن شغلكم على الحدود ومع الدول ، على فكرة انا ليا أخ زميلكم بس هو كبير عنك وعنى .. اخويا الكبير فى سلاح المدرعات .. نظر الى مكتبه ساهما قائلا: ربنا يرجعك بالسلامة يا وليم يا خويا.. سألته مندفعا .. قصدك وليم شفيق؟ .. انتبه الرجل الى سؤالى قائلا ايوه .. أنت تعرفه؟ .. ماهو انا عاطف شفيق .. شايف اسمي على المكتب .. لم اجبه ولكننى قلت له اقراله الفاتحة .. نظر الى بضيق وذهول .. يعنى إيه؟ .. تقصد إيه؟ .. انه مات .. أجبته .. مش باقصد .. هو مات فعلا بس قبل ما تنفعل حزنا وألما اسمع منى قصة استشهاده.

       ياه .. قالها وهو يضرب يده على مكتبه قائلاً: تصور أول واحد مسلم اسمعه يقول على واحد مسيحى مات فى الحرب انه استشهد .. طيب كمل وانا أسمعك .. قصصت عليه ما حدث يوم أنقذنا أربعة من سلاح المدرعات كاد ان يقتلهم اليهود بدهسهم أحياء تحت جنازير دباباتهم كما حدث مع من قابلناهم قبل ذلك وبعد ان فككنا أسرهم عرفنا بنفسه وبزملائه .. رائد وليم شفيق قائد ك(....) دبابات وملازم أول مصطفى خيرى قائد ثان سرية دبابات .. رقيب ابراهيم فتحى حكمدار دبابة ورقيب أول سعيد لطفى رقيب أول سرية دبابات .. ثم أكملت حديثى معه باننى لاحظت انه "دق وشم" على يده برمز الصليب وقد أيدنى شقيقه كما أخبرته بمواصفاته مذكراً إياه بان لون الشعر والعيون العسلى يجمعهما .. عاد الرجل بكرسيه الى الخلف دامع العين مردداً .. ياه يا وليم عملت كده؟ .. دمرت تلات دبابات وأسقطت طياره هليكوبتر ومات فى دول اربعتاشر واحد من أولاد الملاعين .. انا فخور بيك .. أيدته فى هذا قائلا فى تلك الظروف يقام احتفال ولا يقام تأبين .. اجابنى .. كلامك مظبوط .. لو الوقت مش متأخر كنت كلمت "ماما " وبلغتها الخبر السعيد كمان كلمت "روز" مراته وعرفتها .. انا مبسوط .. انا سعيد وقام من مكتبه يقبلنى ويحتضننى بكل سعادة قائلاً: أنت النهاردة ضيفى .. صحيح الفقد مؤلم ولكن كل الناس حتموت .. لكن بصحيح أنت قلت ليا اقرأ الفاتحة .. ممكن تقولها لأني طبعا مش حافضها .. اعتذرت له بأننا كمسلمين نقول هذا القول فى مثل تلك الظروف .. نفى ان يكون متضايق او حزينا ويعيد رغبته طالبا منى قراءة الفاتحة أمامه .. فعلت وكان يقرأ كل أية خلفي وبعد ان انتهى .. قال انا مش شايف انها فيها حاجه تخوف ان اى واحد مسيحى يقولها تحوله لكافر وكمان كلها بتتكلم عن ربنا او ما نسميه بالرب.

     طلب الجندى الموجود على باب مكتبه ان يحضر له صاحب الشكوى .. حضر الشاب واخبره الضابط برغبته لو وافق ان يعطيه الجنيه الذى سُرق منه فى مقابل ان يتنازل عن شكواه ولكن الشاب اخبره بأنه يريد معاقبة المجرمين وأيده الضابط مضيفاً بأن ما قام به المتهم من اجل السرقة كان لهذا الضابط الصغير العائد حاليا من جبهة القتال(يشير الى) وهو جوعان فدفع بهذا اللص لأن يكون إنسانا ورحيما به وسرقك واحضر له طعاما. تأثر الشاب قائلاً تنازلت عن المحضر وسوف اذهب الى والدتى واطلب منها إعداد طعام لأقدمه لهذا الجندى الجوعان والذى دفع بالخارج على القانون الى ان يقف معه ويسانده. شكره الضابط على شعوره النبيل قائلا سأقوم انا عنك بهذا العمل ويكفيك انك تتنازل عن حقك. هنا حضر الى الشاب مصافحاً معتذرا بأنه اخطأ الظن بى وبمن ساعدنى وترك القسم بعد ان تنازل عن المحضر وخرج "دبوس" من تلك المشكلة ووقف أمام  الضابط وتعهد بأنه سيسلك طريقا شريفا ولن يضع نفسه مرة أخرى فى مثل تلك المواقف شارحا بان ما تم الليلة هو درس له وقد وعاه وفهمه وان هناك ألافا ًمن الشباب المصرى يموتون من اجلنا ونحن هنا نسرقهم ونهددهم .. ودعنى دبوس مصافحا ثم فوجئت به يقبلني  ويحتضننى وفعلت مثلما فعل بل كنت أكثر سعادة منه.

      قام الضابط عاطف ناهضا وفتح حجرة جانبية قائلا ستنام فى سريرى حتى الصباح واقوم بتوصيلك الى إدارة المشاة .. أنت صديق وحبيب آخى وآخر من رآه واخبرتنى بتلك الأخبار السعيدة المفرحة .. كنت اندهش وانا اسمعه يتحدث هكذا وقد تنبه الى ذلك وقال .. ألاحظ انك مندهش لهذا الشعور الذى يملؤنى فرحا باستشهاد آخى .. بعد ان تنتهى حياتى ويختارنى الرب الى جواره هل سأكون قدمت لوطنى مثل ما قام به وليم وزملاءه .. أجبته بالنفى .. قال إذن لى الحق ان افرح .. كنت سأحزن لو مات بدون ان يفعل شيئا ولكنه قام بعمل مجيد وأنت وجنودك شاركتم فيه .. أجبته نافيا ذلك وبأنه ومن معه هم الذين قاموا بذلك. ولكنه أشار بيده رافضا كلامى قائلاً: لو لم تنقذوا أخى وزملاءه فما الذي كان ينتظرهم من مصير؟ أجبته كانت الدبابة ستدهسهم . اجاب إذن أنقذتموهم من دهس الدبابة لتعطوهم الفرصة لان يكبدوا العدو تلك الخسائر التى هى ثأر لباقى المصريين الذين لاقوا حتفهم بدون ان يفعلوا شيئا .. أربعة شهداء أمام أربعة عشر وثلاث دبابات وطائرة .. لقد رقد بجوار يسوع والقديسين .. آه عليك يأخى وليم .. وطوبى لمن كان معهم .. صرخ فى الجندى طالبا منه اخذ السيارة والوصول الى مطعم كذا (....) وإحضار وجبتين من الطعام وعدد الأصناف التى يرغب فيها وجميعها تحتوى" كبده وكفته والسلطات وبعض المياه الغازية" .. أمضينا ليلتنا نتحدث ونأكل وحدثنى قائلاً: ان حياتى كلها جد فى جد وليست حياتى كما ترانى الآن هكذا ولكن ما حملته لى من أخبار أثلج صدرى وسوف يسعد عائلتى.

      أخيرا بعد مرور شهر منذ انسحابى أقضى ليلة سعيدة سواء من استقبال شقيق الشهيد الذى اشعرنى باننى وزملائى لا نقل بطولة وشجاعة عن شقيقه وزملائه كما أقام وليمة ممتعة كنت أتشوق إليها واعتبرها دربٌ من الخيال ونمت على سرير مريح بعد ان عانى جسدى الهزيل من الام النوم بالعراء فى الصحراء وتحت  تأثير الطقس المختلف الحرارة ليلا ونهارا .. استيقظت حوالي العاشرة حيث اخبرني بان موعد عمله انتهى وسيحضر زميل له ليتسلم مهامه وانه الآن مستعد لتوصيلى الى إدارة المشاة .. تناولنا طعام الإفطار واخبرني انه كان يستعد لتناوله مع والدته ويخبرها بخبر مفرح  وحزين فى آن واحد (فقد ابنها وشجاعته أمام الاعداء) ولكنه فضل ان يتناول إفطاره معى وكأى شخص مصرى يكون فخورا بان يقضى اكبر فترة من وقته برفقة مقاتل جسور ساعد الآخرين وكان سببا رئيسيا فى قلب كفة الشهداء الأربعة من موت بدون عائد الى موت بنصر يفرح كل إنسان وطنى غيور على بلده .. شعرت بأنه راغب بأن أتناول طعام افطارى قبل ان أصل الى إدارة المشاة حتى أكون قادرا على مواجهة هذا اليوم الجديد فى حياتى وكان ُمحقا فى ذلك.

      اتجهنا الى إدارة المشاة وقبل ان اغادر سيارة الشرطة اخرج من جيبه ورقة مالية واعطانى إياها ، رفضت هذا ولكنه صمم وأخيرا بعد ان اقسم بروح الشهيد وليم ان اقبلها وتصبح ديناً على ومرفقا بها اسمه ورقم تليفونه لأسعدهم بزيارتهم ومقابلة الأسرة خاصة أمه التى ستكون فرحة بان تقابل آخر من شاهد ابنها الشجاع. شكرته وتبادلنا القبلات والتحية وعاد الى منزله مودعا لى بكل حب دافىء بين اثنين من المصريين جمعتهم ظروف صعبة وتصادقا على ذكرى عزيزة على كل إنسان وهى روح الشهيد البطل وزملائه .. وضعت الرتب القماش على كتفى وحيانى الجندى أمام الإدارة واتجهت الى الداخل فقابلنى ضابط صف مستفسرا منى عن الخدمة المطلوبة وبإيجاز أخبرته بعودتى من سيناء أمس الاول.

     طلب منى التوجه الى مدير شئون ضباط السلاح الرائد/صلاح أبو سريع .. بعد السؤال توجهت الى المكتب والذى يقف على بابه جندى وعلم اننى أريد مقابلة سيادة الرائد فطلب منى الانتظار ودخل إليه ثم عاد قائلا أتفضل يافندم سيادة الرائد فى انتظارك.

      دخلت المكتب وشاهدت الرائد صلاح جالسا والذى استقبلني بكل بشاشة وترحاب وهنأني بسلامة العودة قائلاً: ايوه يا بطل همتك أنت وباقى رجالة مصر عشان نرد القلم اللى خدناه على خوانه .. حتسلم نفسك لوحدتك فوراً .. وقعت على كلمة فورا كصاعقة مؤلمة ، تحاورت معه بقليل من الكلمات .. أفندم انا من اكتر من شهر ونصف لم أقابل اهلى ولا يعلمون فى اى مكان انا.. حى ارزق ؟ او انتقلت الى جوار ربى .. أريد بضعة أيام .. طقطق بفمه دليلا على ان هذا لا يجب مكملا حديثه عيب راجل يقول كده .. رن جرس التليفون وكان المتحدث ضابطا برتبة كبيرة وكان هذا باديا من اهتمام الرائد صلاح بالرد عليه واحترامه وهو يحادثه بلقب حاضر يافندم .. حضرتك تؤمر.. ايوه .. وصلت من كام يوم .. عشرة أيام حمدالله على السلامة .. طيب أجهز جواب استلام العمل .. حضرتك بتقول امتى .. أسبوعين كمان .. حاضر عينيا .. تأمرنى .. طيب أبعت لحضرتك الجواب وإلا حد حييجى يستلمه .. حاضر .. مع ألف سلامه .. مع السلامه .. وضع سماعة التليفون وهو بادي السعادة كأنه سمع أغنية رائعة لام كلثوم .. ثم تنبه الى وجودى .. فصرخ قائلا:ً أنت برضه لسه واقف .. روح على مكتب الصول رجب خليه يعملك جواب عودتك لوحدتك .. طلب الجندى الذى كان يقف على الباب قائلاً: روح مع حضرة الضابط للصول رجب وخليه يكتب جواب عودته لوحدته اليوم .. وحدته الكتيبة 352 مشاه فى الشلوفه .. ثم أشار الى بقلمه"ناهرا" روح مع العسكرى ورجب حيقوم بالواجب .. حاولت الاعتراض ولكنه أمرني بصوت قاطع .. أتفضل انصراف يا حضرة الضابط .. أديت التحية العسكرية صاغراً متبعا الجندى المراسلة الى مكتب الصول رجب.

     لا ادري كيف كنت أسير حيث كنت اهذى بداخلى خاصة بعد ما سمعته من الضابط الكبير الذى عاد من عشرة أيام ويريد أكثر منها حتى يستريح اما انا فلابد من عودتى فورا وانصراف وإشارة بقلمه بطريقة باردة بعيدة عن الاحترام .. تمنيت من الله ان يقبض روحى ويخلصنى من هذا العذاب .. اهانة واحتقار والاهم الظلم البين .. غطت دموع الظلم عيناي وتوقف صوتى وشعرت ان قلبى سيتوقف عن النبض. مازلت اتبع الجندى واحدث نفسى باشارات من يدى. 

       وقفت أمام الصول رجب .. حجرة قديمة مهملة بها الكثير من الأوراق يجلس على مكتب من الصفيح قديم ومتهالك وبجواره "شنن"حديدى لحفظ الأوراق اما رجب فهو ضخم الجثة وبدين للغاية ويرتدى افرولا لا اعرف من أين أتى بهذا المقاس واعتقد أنهم افرولان وفتحهم على بعض حتى يتمكن من تغليف جسده الضخم كما وضع منديل اصفر"كاكى" من صرفية الجيش على رقبته لمنع تلوث الافرول من العرق الغزير الذى يهطل من جسده السمين وبجواره على الجانب الأيمن فوق الشانون حلة ألمنيوم وبها "طبيخ" فاصوليا بيضاء وعدة أرغفة خبز "جراية" من المخصص للجيش لتقوية الأسنان والمعدة على هرس الطعام وتكوين جدار اسمنتى بجسم الجنود لما يضاف إليه من الشوائب خاصة الرمال .. وزمزمية مياه وعدد من حبات البصل الجاف .. تحدث بعد ان حصل على أنفاسه المتلاحقة والتى يأخذها بصعوبة. ايوه أتفضل أستريح .. جلست على كرسى قديم خشيت ان يسقط بى أرضا فساعدت على انتصاب الكرسى بقدميى .. أشار الى الحلة قائلاً "بسم الله" .. شكرته .. فقال:

حاضر حاكتب جواب تسليمك لوحدتك .. سألته .. ألا نحصل على أجازات؟ ضحك قائلاً:  حتشبع أجازات فى وحدتك. أول ما توصل حتاخد كام يوم. آمال هما عارفين انك راجع من سينا. على طول حتاخد أجازة حلوه وأبقى ادعيللى. ناولنى الخطاب وهو ممسك به وكل أصابعه معطرة وملونه من طبيخ الفاصوليا الذى يعشق ان يضع الخبز بداخل الحلة وان تغوص أصابعه الى عمقها لاحتمال البحث عن لحوم او اسماك فى قاعها. قرأت الخطاب وسألته .. إيه؟ .. "الشلوفه"؟ فنظر الى قائلاً: ده مكان وحدتك بعد رجوعها من سينا. قلت أنا مش عارف الشلوفه؟ ضحك الرجل وبالتالى اهتز جسده الضخم فاهتز الشنن وحلة الفاصوليا. تحدث ضاحكا بسخرية ياه ظابط ومش عارف الشلوفه!! بكل ضيق وصوت مرتفع: ايوه مش عارف الشلوفه فين؟ أجرمت غلطت. حضر الرائد صلاح  مسرعا على صوتى المرتفع مستفهما من المساعد الذى أراد ان يقف ترحيبا به فكادت مأدبة الطعام تسقط أرضا لولا ان الرائد طلب منه الاستمرار وعدم النهوض وعرف منه باننى لا اعرف موقع الشلوفه. كان رجب يوضح للرائد صلاح هذا الجهل بعدم معرفتى للموقع بطريقة ساخرة ولكن الرائد صلاح كان حازما إذ قال له وإيه العيب فى كده؟ ضابط صغير ومرحش الأماكن دية نقوم نتريق عليه ونتكلم معاه بالشكل ده بدل ما نساعده.اخذ الخطاب منى قائلاً:  اتبعني يا أسامة .. تبعته الى مكتبه فليس لى خيار وهناك أشار الى خريطة على الحائط موضحا قناة السويس ومدينة السويس ثم منطقة الشلوفه وهى شمال السويس بعدة كيلومترات. وقع على الخطاب وزيله بخاتم النسر وأعطاه لى قائلاً على محطة كوبرى الليمون وتلحق بالقطر الحربى لحد السويس .. حيقوم بعد ساعه .. يالله يابطل ربنا معاك.

     هكذا وجدت نفسى خارج إدارة المشاة ومعى خطاب بتسليم نفسى فى اليوم السابع من يوليو عام 1967 .. سرت فى الطريق المؤدى الى ميدان العباسية وقد جاوزت الساعة الثانية عشرة ظهراً وشمس القاهرة ساطعة ملتهبة وانا أسير قليلاً واجلس كثيراً .. توقفت سيارة مرسيدس بجوارى وهتف من بداخلها .. مالك يا ابنى .. تعبان؟ أجبت على الصوت الذى يحدثنى وكان صوتا نسائيا. ايوه تعبان مش قادر أمشى. أشارت الى سائقها الذى نزل من السيارة وعاوننى على الركوب  بجانبه .. سألتنى السيدة وكانت متقدمة فى العمر ويظهر على وجهها الصلاح والمستوى الراقى اجتماعيا. ده أنت ظابط! رايح فين نوصلك؟ أجبتها محطة كوبرى الليمون .. سألت السائق هل تعرف هذا المكان فأجاب بالإيجاب فأمرته بالتوجه الى المكان المطلوب .. كنت افكر هل اعرض على السيدة نقودا مقابل تلك التوصيلة .. وما هو المقابل .. سيارة مرسيدس ملاكى بسائق .. كانت السيدة تتحدث كل فترة ثم تصمت ثم اندفعت فى بكاء شديد والسائق يحاول تهدئتها .. ربنا يرجعه لنا بالسلامه .. ثم مال على وهو يحدثنى وقال: البيه ابن الهانم زميل لكم ظابط ملازم أول ولسه منعرفش حاجه عنه لحد دلوقتى .. وكل يوم نلف على المستشفيات ورحنا إدارة سلاح المدفعية ومافيش فايده.

    تتحدث السيدة الام والتى تخيلت وتذكرت امى الآن وهى تسأل من تعرفهم وهى التى لا تملك سيارة ولا سائق وجليسة فى مدينتها بالزقازيق .. تسألني متعرفش حاجه عن ابنى يمكن تكونوا تقابلتم سوا؟ .. اسمه مدحت من المدفعية .. اعتذرت لها باننى من سلاح آخر ولا اعرف عن المدفعية وان سيناء كبيرة وانا يا دوب وصلت من أول أمبارح .. تربت السيدة على كتفى وهى تقول حمدالله على سلامتك .. ياه أظن مامتك طارت من الفرح لما شافتك .. أخبرتها وانا حزين باننى لم احصل على إجازة ومطلوب منى ان اسلم نفسى الى وحدتى فورا .. استاءت السيدة وهى تقول طيب مش تعرفهم فى البيت .. طيب كلمتهم فى التليفون .. اخبرتها بان هذا لم يحدث لأنه ببساطة لا نملك بالمنزل تليفونا. اجابتنى طيب مافيش تليفون جيران .. صمت قليلا .. فلم يتبادر الى ذهنى هذا وأخيرا اخبرتها بتليفون خالى فى عمله الحكومى حيث يتقلد منصبا رفيعا .. كتبت رقم التليفون واسم خالى واسمى وقالت ان شاء الله أول ما ارجع بيتى حكلمه يعرفهم انك بخير .. ربنا يسوقك يا مدحت يا ابني وأعادت بكاء الأم ونحيبها المكتوم.

    وصلنا الى محطة كوبرى الليمون وغادرت السيارة بين تلويحها لى وهى مازالت دامعة العين وانا الاخر أشعر بان بعض الدموع تجرى في مآقي عينى وقد هدأت من ضيقي رافضا هذا التصرف الصبيانى متسائلا كل شويه عياط وبكاء. لا لا يجب ألا يكون .. ان هذا تصرف طفل وليس تصرف رجل .. ورجل عسكرى قوى المراس. مازلت أتابع السيارة بعيونى وانا أدعو من كل قلبى لهذه الام ان يدخل الله السرور الى قلبها وابتسمت وانا أتابع اللوحات المعدنية لأرقام السيارة حيث كانت المفارقة انها تحمل رقم العام الذى ولدت فيه .. اى عام 1944.. وقلت فى نفسى فأل طيب كما يقول الناس الطيبين.

    توجهت الى القطار الذى كان قابعا على القضبان وكأنه اعُد خصيصا لنقل الأسرى والمهزومين .. قديم وسيء ومن يجلسون فيه على شاكلته وانا منهم. جلست فى ذلك القطار عبارة عن هيكل من الصفيح وعجل حديد وليس به سوى كراسى خشبية قديمة بالية اما شبابيكه فهى مفتوحة فقط ولا يوجد شيش او زجاج. تحرك القطار قبل الواحدة ظهرا وغطانا الغبار الناتج عن سيره فى طريق وعر لا تشاهد منه غير الصحراء القاحلة على الأجناب.

     كنت اسأل المحيطين بى عن الشلوفة والغالبية لا يعرفون ولكن رقيب أول شرح لى أين تقع موضحا بأن علىّ الهبوط من القطار فى محطة المثلث لان القطار سيدخل السويس وطريق الشلوفه يبدأ من المثلث .. هنا أشار لى الرجل بان هذا مكان المثلث ، غادرت القطار خاوى اليد وقد تذكرت ما نفحنى اياه ذلك الضابط الرقيق من مال ، وضعت يدى فى جيبى فعلمت انه اعطانى خمسة جنيهات .. هتفت ياه خمسة جنيه!! هذا مبلغ كبير يقترب من سدس مرتبه ان لم يزد .. غمرني شعور بالارتياح ان أجد مثل تلك الأخلاق بين المصريين على مختلف ثقافاتهم ومشاربهم وديانتهم .. هم فى الاول والاخر مصريين فقط اما باقى الألقاب والأسماء والشهادات والمراكز فهى كلام لا يقدم ولا يؤخر.

      سرت قليلا فشاهدت نقطة شرطة عسكرية وهم اقرب الناس الى معرفة أماكن الوحدات كما ان جميع السيارات العسكرية تقف عندهم .. ألقيت بتحيتى على الجندى الخدمة والذى رد بمثلها وسألته برغبتى فى التوجه الى الشلوفه إذا أمكنه ان يساعدنى .. اجاب بالإيجاب طالبا منى الجلوس خلف نقطته حتى تحضر سيارة متجهة الى ذلك الموقع .. المنطقة صحراوية ولا يوجد بها سوى بعض العمارات السكنية والتى يقال عنها مساكن شعبية ..جلست أرضا أستريح ومازالت كلمات الرائد صلاح ترن فى اذنى .. انصراف يا حضرة الضابط ومازال منظره وهو يتلقى المكالمة التليفونية وصاحبها يتمتع بإجازات ونوم هانىء فى بيته وانا مازلت ألف صحارى الجمهورية والسبب في هذا اننى ضابط صغير لا حول له ولا قوة .. انهارت كل القيم والمبادئ التى تعلمتها وشعرت ان الدنيا كلها ظلم وقسوة والضعيف لا مكان له .. تنبهت على صوت سيارة وصلت فنظرت فإذ بسيارة جيب وبجوار السائق وجدت ضابطا برتبة مقدم جالسا بجواره     

    بعد ان تفحص جندى الشرطة أوراقها اتجه للجانب الاخر يحدث الضابط ويشير جهتى .. نظر الضابط الى وأشار الى  بأصابعه بما يعنى اقترب منى .. قمت متكاسلاً أسير بصعوبة حتى وصلت إليه مؤديا التحية العسكرية .. بادرني وهو يركز نظره علىّ قائلا: إيه حكايتك؟ بتخوفنى بالشرطة العسكرية؟ .. طيب منتش راكب .. سوق ياعسكرى .. قفزت السيارة مسرعة وانا مازلت واقفا صامتا حيث لم استوعب الجملة وقد اقترب منى الجندى قائلا: والله اللى ربنا عمله فينا ده مش كتير على فرعنتنا وجبروتنا على بعض .. عربية جيش وموقع جيش وظابط من الجيش .. إيه المشكلة هيا عربية أبوك .. نظر الى قائلا خيرها فى غيرها .. شكرته وعدت أجلس في نفس المكان.

     كان واضحا ان الظلام يسرع الخطى وانا أريد اللحاق بوحدتى حتى لا أبيت فى الصحراء بمفردى .. جاء لورى نصر مدنى .. توقف أمام جندى الشرطة وقد حدثه بصوت آمر .. يا أسطى حتوصل حضرة الضابط الشلوفه .. فاهم .. أجابه انا رايح قبل الشلوفه باتنين كيلو ينفع؟ .. أشار لى الجندى فحضرت واخبرنى بان الأسطى سيصل قبل الشلوفه بكيلومترين ومن هناك قد تجد أي سيارة أخرى. مع السلامة .. ركبت بجوار السائق المدنى كبير السن وباديا عليه الضيق والألم .. اللورى مكتوب على أبوابه الخارجية مخصص للمجهود الحربى .. لقد استولت الحكومة على لوارى القطاع العام وأدخلتها الخدمة للقوات المسلحة لنقل المؤن والمعدات لتعويض الفقد الهائل لأدوات النقل فى سيناء والتى بلغت أكثر من 70%  توقف الرجل بجوار مدق رملى ليخبرنى بان هذا طريقه ويطمئننى بان الكثير من اللوارى تتحرك علي هذا الطريق.

     غادرت اللورى شاكرا صنيعه معي. وقفت انتظر قدوم اى سيارة ولكن بلا جدوى وأيقنت باننى سأمضى تلك الليلة في العراء وغربت الشمس ولم يتبق سوى الضوء الخافت الذى يعقب الغروب وماهى إلا عشر دقائق ويحل ظلام دامس علىّ فى تلك المنطقة القاحلة ، جلست أرضا لأتخلص من الام قدمى. بعد قليل شاهدت لورى قادما مسرعا فأشرت إليه ولكنه لم يتوقف ثم توقف بعد مسافة فأردت الحاق به ولكن قدمى لم تطاوعنى فسقطت أرضا أتألم من جراء السير وتسلخات باطن القدمين. حاولت النهوض من رقدتى وإذا بى أجد اللورى قد عاد ووقف بجانبى وهبط منه ضابط شاب ساعدنى على الوقوف. أقف أمامه. نظر إليّ بدهشة قائلا:ً مين؟  أسامه يخرب عقلك بتعمل إيه هنا يا مجنون؟ تفرست فى هذا الشكل وسألته اتعرفنى؟ فأجاب ايوه .. انا  حسنى زميلك .. دفعتك وقضينا تيرم فى الكلية سوا بس انا أتوزعت على المهمات وأنت رحت المشاة .. تذكرت حسنى زميلى ابن محافظة الغربية والذى كان يخطىء ركوب خط المترو النزهة من ميدان رمسيس ويتخير خطا آخر الميرغنى ويتجه به جهة كلية البنات .. احتضنني وساعدني على ركوب اللوري وأخبرته بهدفى ولكنه قال كتيبتك بقالها تلات تيام فى جبل عجرود .. بكره اشوفلك حاجه توصلك .. خليك معايا الليلة دية .. ياه دا أنت حالتك صعبه وازاى فى الاداره يبعتوك هنا وأنت تعبان بالشكل ده .. أخبرته بما سمعته فى الإدارة سواء كان موجها إلى او من المكالمات التليفونيه لضباط كبار يحصلون على أجازت وهم رهن منازلهم وبين أهاليهم.

     كانت ليلة رائعة قضيتها مع زميلى حسنى الذي أعد لى مكانا مريحا للنوم بين بالات المهمات واحضر جنوده الطعام الطازج من قسم التعيينات وشربنا الشاى وضحكنا سويا وخلدنا الى نوم هادىء ، لقد أصبحت قاب قوسين او ادنى من هدفى وهو الوصول الى وحدتى. صباح اليوم التالى تناولنا إفطارا شهيا لا يقل كفاءة عن عشاء الأمس ثم اصطحبنى الى اللورى حتى يصل بى الى منطقة المثلث ثانيه لأعود الى موقعى قريبا من الشركة الشرقية للبترول.

     وصلنا الى المثلث وتركت السيارة وطلب منى ان اعبر الطريق للجهة الأخرى حتى أكون فى اتجاه سير اللوارى ولكننى تعثرت وسقطت أرضا وأسرع هو وسائقه لمعاونتى وحملى الى اللورى وقال سوف أتأخر عن القائد ولكن لا يهم أنت تستحق هذا ، وصل بى الى موقع الشركة وأشار الى ان الكتيبة على مسافة خمسمائة متر من الطريق وشاهد جنديا يسير فسأله عن الكتيبة واخبره بموقعها واتضح انه احد جنودها .. اعتذر حسني عن عدم استطاعته الدخول الى داخل الموقع لصعوبة الطريق من الصخور التى تملأ المنطقة شكرته بينما عاد هو الى عمله. سرت قليلا وجلست كثيرا حتى تقابلت مع بعض الجنود القدامى والذين رحبوا بى وساعدونى فى التوجه الى مكتب رئيس العمليات لأسلم نفسى كما امرتنى إدارة المشاة"سلم نفسك لوحدتك فورا".

   تقابلت مع رئيس العمليات وبعد أسئلة مستفزه ضمني لأحد سرايا الكتيبة وقد تقابلت مع البعض ومنهم جنودى الأربعة الذين إنسحبوا معى من سيناء.  

 

 

 

 

 

 

 

Share
Click to listen highlighted text! Powered By GSpeech