Click to listen highlighted text! Powered By GSpeech
Get Adobe Flash player
مستمرين معاكم بإذن الله 2008-2024 **** #لان_لجيشنا_تاريخ_يستحق_أن_يروي **** ***** إنشروا تاريخنا وشاركونا في معركة الوعي **** تابعونا علي قناة اليوتيوب 1100+ فيديو حتي الان **** تابعونا علي صفحات التواصل الاجتماعي** أشتركوا معنا في رحلاتنا لمناطق حرب أكتوبر **** يرجي استخدام خانة البحث **** *** تابعونا علي تليجرام - انستجرام - تويتر

الناس والحرب - الحلقه الخامسه

 

العودة الى القاهرة

 

     تسلمت عملى الجديد مع الملازم/ مجدى جادو وهو زميلى ودفعتى وقد تقابلت مع الملازم/ محمود قابيل(النجم محمود قابيل حاليا) وهو ايضا دفعتى وتعرفت على ضابط جديد لم اتعرف عليه قبل ذلك وهو الملازم/عادل دعبس وهو ايضا دفعتى وكان واضحا من ان عادل دعبس كما يقول البعض (فاقد) اى لايهاب المواقف مع القادة مثلى وكان شديد الاندفاع ولكنه متحكم فى تصرفاته وكان ناقما على وجوده بتلك المنطقة .. وانا اؤيده فى ذلك فلقد كانت منطقة سيئة لكثرة مابها من صخور واحجار وما يتبع هذا من اماكن للثعابين والافاعى والعقارب بالاضافة الى قلة الامكانيات الناجمة عن الهزيمة ومالحق بالقوات من تدمير لاسلحتهم ومعداتهم وخاصة الشؤن الادارية .. فلم يكن بالكتيبة الا سيارة واحدة وهو لورى عتيق كان يتدرب عليه السائقون فى مركز قيادة السيارات بالجيش ولم يكن يتحمل الضغط عليه من كثرة الاستخدام وهذا اللورى يستخدمه القائد لحضور المؤتمرات مع القادة الكبار ثم يُحضر تعيين الكتيبة من المستودع بالسويس ويعمل لنقل المصابين للمستشفى العسكرى بالسويس واخيرا ينقل القمامة من الكتيبة الى مقلب بعيد بالجبل .. بينما فى السابق كان لدى الكتيبة 35 لورى مختلف الاحجام واربعة سيارات جيب وسيارة مدرعة وسيارة اسعاف ولورى لنقل المياه بالاضافة الى مقطورات الطعام وعددها ستة مقطورات تعد الطعام وهى مجرورة خلف اللوارى .. كل هذا فُقد فى العمليات.

      اليوم التالى رغبت فى ان اذهب للعلاج فى مستشفى السويس وقد تضايق رئيس العمليات وكان الملازم محمود قابيل هو الاخر قد سبقنى بيومان للعلاج بنفس المستشفى .. نستعد انا ومحمود للتوجه للمستشفى .. يتحرك بنا اللورى فى التاسعة صباحا لنصل الى المدرسة الثانوية للبنات بالسويس حيث اعُد كمستشفى فى جزء من المدرسة خصص لهذا الغرض وكان العلاج بسيطا وامكانياته قليلة وكنت اشتكى من الام مبرحة فى باطن قدمى والجرح بيدى اليمنى منذ بداية الحرب وقد مضى شهران وهو مازال مفتوحا واشعر بالم منه اما زميلى محمود فقد كان يشتكى من الام باذنه من اثر الاشتباكات التى تمت مع وحدته اثناء العمليات فى سيناء وكان يشعر بطنين فى اذنه باستمرار.. فى اليوم الرابع لم يرافقنى محمود الى المستشفى لشعوره بتعب الم به وتوجهت بمفردى ولكن اللورى تعطل بعد عشرة كيلومترات من الكتيبة والسائق لايعرف كيفية اصلاح الاعطال البسيطة لأنه مُستجد وعديم الخبرة وقد اقترح على ان اسير حوالى كيلومتر على الاقدام حتى نقطة الشرطة العسكرية للعثور على سيارة تقلنى الى المستشفى يكون اثناءها قد تمكن من احضار احد من الميكانيكية لاصلاح العطل .. تركته سائراً فى اتجاه الشرطة كما اخبرنى ولكن بعد مائتى مترا لم استطع ان اكمل المشوار لتفدغ جلد باطن قدمى وكنت اسير مفتوح القدمين واعرج فى سيرى .. وفجأة اقتربت منى سيارة جيب وتوقف سائقها بجوارى وهو ينادى على .. حضرة الضابط وقفت وتلفت جهة الصوت فاذا باللواء اركان حرب محمد فائق البورينى قائد الجبهة موجود بالسيارة وكنت اعرفه لأنه كان كبيراً للمعلمين بالكلية الحربية وانا طالب بها.

      اشار الى مستفسراً عن ما الم بى وانا اسير هكذا فاخبرته باختصار عن حالتى وعطل اللورى الذى كان يقلنى الى المستشفى فاشار الى بالصعود والركوب بجواره ولكننى لم استطع فاشار الى حارسه وهو نقيب بالشرطة العسكرية فهبط مسرعا وحملنى الى داخل السيارة الجيب وطلب من سائقه التوجه الى المستشفى .. كنت سعيداً بهذا ولاول مرة اجد من يهتم بشخصى رغم رتبتى الصغيرة  والتى آلمنى كثيرا تجاهل الاخرين لى وهناك فى المستشفى انقلبت الدنيا حيث قائد عام الجبهة موجود واسرع المدرسون والمدرسات بالاختباء وطلب من كبير الاطباء فحصى امامه فازال الطبيب الشاش من باطن قدمى وشاهد القائد حالتى وقد انزعج كثيراً لما انا عليه وتضايق وزمجر عندما علم ان ادارة السلاح كانت تعلم حالتى ورغم هذا ارسلونى الى كتيبتى فى الجبهة .. امرهم باستبقائى بالمستشفى حتى يتم علاجى واكون قادراً على السير كما شاهد جرح يدى الغائر وما به من اثار صديد وطلب من حارسه نقيب الشرطة اعلام كتيبتى بالموقف وحجزى بالمستشفى وتركنى منبها على الاطباء بُحسن رعاية المرضى وطلب منه كبير الاطباء تزويد المستشفى بالاحتياجات اللازمة ووعده بارسال المختصين بذلك هذا اليوم لحل كل مشاكله .. غادر القائد المستشفى وانهمك الطبيب مع مساعديه فى علاجى والحقونى باحدى غرف النوم المخصصه لذلك واستمر هذا الحال خمسة ايام حتى شعرت بان آلام قدمى قد قلت الى درجة كبيرة وحضر محمود قابيل فى اليوم التالى وشاهدنى وانا مستريح بالسرير فضحك من هذا قائلا ياليتنى كنت معك وحصلت على سرير مثلك.

      فى اليوم الثالث بالمستشفى كنت اسير قليلا حولها واتفقد بعض مناطقها والمدينة صغيرة ومستواها العمرانى دون المستوى لو قورنت بمدينة بورسعيد والتى عُمرت بعد العدوان الثلاثى فى عام1956 ولكن من الواضح ان شعبها يتميز بطيب الخلق وهم اناس بسطاء ويقدمون يد العون لأى انسان وخاصة العسكريين .. قال مدير المستشفى وانا اغادرها فى اليوم الخامس لقد كانت زيارتك لنا فتح خير علينا حيث تدفقت المساعدات والامكانيات الطبية والادارية والتى كنا نشكو من قلتها.

       اخيرا عُدت الى كتيبتى وتقابلت مع رئيس العمليات الذى كان ثائراً على شخصى معتقداً بأننى اشتكيتهم الى قائد الجبهة فنفيت ذلك واخبرته بما حدث ولكنه كان غير مصدق لروايتى وقال لى بالحرف الواحد “انت ظابط مشاغب” وهكذا تركت مكتبه وانا احمل صفة المشاغب التى كانت بعيدة عنى بكل المقاييس.. بين الضحك والبؤس مع زملائى وخاصة محمود قابيل الذى كان لا يكف عن الحركة والضحك وتبادل النكات والضحكات وهو ابن الاسكندرية حلو الحديث امضينا اسبوعان آخران.

      فى نهاية هاذين الاسبوعين واثناء سيرى مع عادل ليلا فى وسط موقع الكتيبة  سمعنا من ينادى علينا اثناء الظلام بقوله انت ياعسكرى انت وهو “بتعملوا ايه يا ولاد الكلب” ولكن عادل الذى لايستطيع السكوت على مثل هذا سبه بمثل قوله وانا احزره بصوت خفيض انه صوت رئيس العمليات لأن صوته كان مميزاً والجميع يعرف طريقة حديثه ولكنته الواضحة ولكنه لم يعيرنى اهتماما حيث حضر رئيس العمليات ووقف امامنا وهو يقول انتم بتشتمونى .. انا اتشتم منكم ياشوية عيال وقد اعادها عادل اليه قائلا والله مافيش عيل غيرك واحترم نفسك .. هنا صرخ الرجل مناديا حرس سلاح وتحرك الجميع الى جهة الصوت لان هذا معناه طلب النجدة واحتمال وجود متسللين من العدو وحضر جمع من الجنود والضباط الينا والرجل يشير الينا نحن الاثنان وهو يقول .. دول شتمونى وهددونى .. وهكذا وجدنا انفسنا نسير مع طاقم حراسة من الضباط بعد ان امرهم بالتحفظ علينا حتى وصلنا الى قائد الكتيبة والذى كان ينتظر عودة ظابط الامن ليخبره بما حدث حتى يبلغ القيادة والجميع بما يحدث فى موقعه معتقدا بانها قوات للعدو موجودة بكتيبتة.

      نحن فى خيمة القائد ورئيس العمليات يرغى ويزبد فى حقى وحق عادل باننا سببناه وكدنا ان نتطاول عليه ضربا فى الظلام ومجموعة من الضباط تقف حولنا والقائد يسألهم وهم يجيبوا بانهم لم يسمعوا اويشاهدوا شيئا وانهم توجهوا على صوت “نداء حرس سلاح” .. سألنى القائد وانت هل سببت رئيس العمليات .. ولكن عادل لم يمهلنى وامسك بيدى ويقول انه هو الذى سب رئيس العمليات فاندهش القائد من كلامه وصرخ قائلا : كيف تسب رئيس العمليات واجابه عادل بكل ثقة لانه يافندم سبنا بالدين .. صرخ رئيس العمليات نافيا ما قاله عادل ولكن القائد قال هذا الموضوع اكبر من سلطتى ويتم تحويلكم الى قيادة اللواء.

      اقف مع عادل خارج خيمة القائد وبالداخل رئيس العمليات يستعطف القائد بان هذا لم يحدث والرجل يخبره بانه لا يستطيع ان يحكم على هذا الامر ولنترك لمكتب التحريات والمخابرات الحربية فى بحث هذا .. فى صباح اليوم التالى تحرك بنا القائد نحن الثلاثة الى قيادة اللواء وانا متخوف وليس لى جرأة على تلك الافاعيل وهناك اتجه القائد الى مكتب رئيس الافراد وقد شاهدنا الرجل وتعرف علينا وعرفناه .. انه المقدم اسعد زكى”الشهيد اسعد زكى” حيث قال انتم الاتنين .. انا فاكركم من ايام الكلية الحربية ومشاغبين .. نهاركم اسود .. معلوماتنا عن اسعد زكى والرائد/حسين طنطاوى”المشير طنطاوى الان” انهم من احسن ضباط مادة التكتيك سواءا علما او اسلوب تعامل مع ضباط المستقبل الذى كان يتميز بالشهامة والفروسية” الجدعنة” .. ثم امرنا ان نقف خارج مكتبه والذى كان جزءا من مكاتب الشركة الشرقية للبترول .. وقفنا خمسة عشرة دقيقة يتحدث اثناءها مع رئيس العمليات وقائد الكتيبة ثم غادراً المكتب عائدين للوحدة وهنا طلبنا اسعد زكى للعودة الى مكتبه وهو يقول “بص ياد انت وهو .. وهذا كان اسلوبه معنا فى اثناء الدراسة بالكلية الحربية .. عايز الحقيقة بس .. شرح له عادل الحقيقة .. فضحك وهو يقول كذبتم على قائدكم .. كنتم حتودوا رئيس عملياتكم فى مصيبه .. طيب عشان الجدعنه والصراحه انا حنقلكم مصر .. فى وحدة بتتشكل جديد .. ايه رايكم .. فرح عادل ابن مصر الجديدة بينما لم يؤثر فى الخبر .. اعطانا خطاباً موجها الى ادارة المشاه متمنيا لنا التوفيق وعدم احداث مشاكل ..

       عُدنا الى الكتيبة لنجمع اغراضنا ونتسلم مرتباتنا التى وصلت امس وقد عالج اسعد زكى المشكلة بكل كياسة حيث اعطى لرئيس العمليات وضعه امام وحدته بنقلنا الى القاهرة كما انه لم يوقع علينا جزاء وهكذا خرجنا من الاشتباك اللفظى كل منتصر وبلا هزيمة لاحد.

    صباح اليوم التالى كنا امام ادارة المشاه وقابلنا الرائد/صلاح ابوسريع ونظر الينا متفرسا وهو يقول سيرتكم وصلت ليا امبارح .. بقى انتم بتوع المشاكل وكنتم عايزين تتعدوا على رئيس عملياتكم (وعلمنا فيما بعد ان الاثنان دفعة واحدة واصدقاء وقد اتصل الرائد/طلعت بزميله طالبا منه التوصية علينا نحن الاثنين) كتب لنا خطاب بالتوجه الى “اللواء 136مشاه ـ الكتيبة 538  ” الموجودة حاليا بالمنطقة خلف مطار القاهرة والكلية الحربية وارض السبق .. وهى ماتعرف الان بالنزهة الجديدة .. غادرنا مكتبه واخبرنى عادل بان نتلاقى بعد اربعة ايام عند محل البقالة القريب من كنيسة سانت فاتيما بمصر الجديدة الساعة الرابعة مساء على ان نتمتع بتلك الايام الاربعة لانهم رفضوا منحنا اجازة حسب المعمول به .. لاننا سنلحق بالكتيبة وهم معتقدين اننا حصلنا على اجازة قبل انضمامنا اليهم وبالتالى سنبقى حتى نهاية آخر دفعة اجازات وتذكرت المساعد/ رجب بادارة المشاه والذى اخبرنى باننى ساحصل على اجازات .. لقد كان الرجل يكذب على وهو يعلم اكثر منى بانه لاتمنح اجازة للقادم الجديد طالما لم يكتب فى خطاب التقديم الى الوحدة بان .. المذكور يستحق اجازة .. كذا يوم.

      لم ننتبه انا وعادل ونحن بداخل الادارة ونتفق على اللقاء بعد اربعة ايام بان الصول رجب كان موجودا بدورة المياه يفرغ شحنة اليوم فى مدة لاتقل عن ساعة كما عرف عنه .. سمع الرجل حوارنا واتفاقنا فاسرع ليبلغ الرائد/صلاح والذى تأكد له باننا اثنان من الضباط المشاغبين وخارجين على القانون العسكرى.

      وصلت الى بلدتى وهناك قابلتنى اسرتى بلقاء ساخن تملؤه العواطف الجياشة والانفعالات الانسانية وخاصة من امى رغم ان السيدة ام مدحت التى اقلتنى بسيارتها اتصلت بخالى فى عمله فاسرع تاركا العمل لبيت امى يخبرها بالخبر ويهنئها على نجاتى بالسلامة ورغم هذا كانت امى مازالت متخوفة تريد الاطمئنان على شخصى صوتا وصورة .. وها انا اقف امامها تقبلنى وتحتضننى باكية ودموع عينيها تسبق اقوالها .. امضيت اربعة ايام ممتعة بفضل عادل ومخالفة القانون واليوم قبل الظهيرة سوف استقل القطار عائداً الى القاهرة وتسبقنى هواجسى .. ماذا سيحدث لى لو اكتشف الامر ماذا سيكون عليه حالنا؟ .. اقف فى شارع رمسيس انتظر اتوبيس رقم (500) الذى سيقلنى الى سانت فاتيما وقريبا منى شابين فى مثل عمرى واحدهم يسأل الاخر بصوت خفيض .. الحمار اللى جنبنا تفتكر انه سريع ولا سريع اول؟ .. يلتفت صديقه جهتى ثم يعود الى وضعه السابق .. ده صغير يعنى جحش يبقى سريع .. لم اكن اعلم ماهى تلك التعبيرات والايماءات ولم اكن اتوقع انهم يتحدثون عنى .. تقابلت مع عادل واخبرته بحوار الشابين وهنا ضحك وقال يخرب بيت عقلك .. دول كانوا بيكلموا عنك .. بص ياسيدى(سريع .. يعنى ملازم,,,وسريع اول .. يعنى ملازم اول,,, وفكيك.. يعنى فريق,,, وفكيك اول .. يعنى فريق اول) ضحكنا سويا من قدرة المصريين على الفكاهة حتى فى اصعب الظروف رغم اننا لم نكن نملك سرعة ولا غيره .. ولكنه التنفيث عما يجول بخاطرهم فلقد غُرر بهم باننا منتصرون فضحوا بالغالى والنفيس من لقمة العيش ومن حياة الشباب فى تلك الحرب الفاشلة.

     نحن الان فى محل بقالة من النوع الفاخر فى ميدان تريومف بمصر الجديدة وانا وعادل مشغولان بشراء بعض اغراضنا من مأكولات محفوظة لنحملها معنا الى الوحدة بالاضافة الى السجائر والتى كان عادل شرها فى تدخينها ولقد تبادر الى سمعى صوت فتاتين تتحدثان وواحدة تقول للآخرى دوول مش عساكر .. دوول ظباط لابسين لبس الحرب .. زى اونكل فوزى جوز طنط تهانى .. تضايقت واسرعت اخبر عادل بان هناك بنتين بيتريقوا علينا زى الولدين بتوع رمسيس .. اصفر وجهه وقال مصيبة امهم سوده .. بيقولوا ايه يا اسامة .. فاخبرته فضحك وذهب للحديث معهم واعتقدت انه يعرفهم او اقرباء وهو ينادى عليا وانا خجلان من ان اتدخل فى تلك القرابة…

     انتهينا من مشترواتنا وانا احمل الاكياس وعادل يخبرنى بان (سهام وريهام) سيساعدانا فى الوصول لموقع الكتيبة لأن كل فتاة تمتلك (دراجة) عجلة تلهوان بها فى فترة الصيف وكان هذا هو من ضمن رياضات الطبقة الارستقراطية فى مصر ان بناتهم يمتلكون درجات يتريضون بها فى الشوارع النظيفة الفارغة من الناس والسيارات وخاصة حى مصر الجديدة الذى كان ما يزال بزهوته وجماله وروعته .. كل واحد فينا اخذ فتاة على العجلة امامه متجهين الى موقع الكتيبة مخترقين شارع الحجاز ثم ميدان الحجاز الذى لم يكن موجودا وباقى المنطقة فضاء الا من بعض العمارات المتناثرة هنا وهناك حتى وصلنا الى الموقع وكان لحظنا السىء ان طابور تمام المساء مصطفا وجميع الضباط والجنود موجودين وشاهدوا اثنين من الضباط يستقلان العجل مع فتاتين قادمين الى الكتيبة بهذا الوضع .. ودعنا الفتاتان بعد ان حصل عادل على تليفوناتهم واسمائهم وعبرنا السلك الشائك واصبحنا داخل الكتيبة .. انفض الطابور واقبل علينا جندى يطلب حضورنا لخيمة القائد فتوجهنا اليه وانا متوجس خيفة وقلبى يدق انفعالا وخوفا مما فعلناه ولكن الصديق عادل كان هادىء البال وبداخل الخيمة شاهدنا ما لم نتوقعه .. الرائد/صلاح ابوسريع من ادارة المشاه يجلس وينظر الينا ويوجه كلامه للقائد .. شوف جواباتهم يا سيادة المقدم .. هتف القائد نهاركم مش فايت خمس تيام غياب .. قاطعه عادل .. اربعة فقط .. نهره القائد قائلاً : انت بتهزر .. اربع تيام غياب يعنى محكمة عسكرية .. ابتسم عادل وقال له احمدك يارب .. الحمد لله “ينظر جهتى” قائلاً : جت من عندهم يا اسامه .. صرفنا القائد للبحث فى امرنا .. ولكن نتيجة البحث لم نعلم بها حتى الان!

    ُوزعت على السرية التالته مشاه اما عادل فعلى السرية التانيه  ..الجنود جميعهم حديثى التجنيد وغالبيتهم مؤهلات متوسطة او عليا والقليل عادة لكنهم يقرأون جيدا  لكن الملاحظ كثرة عدد الجنود وجميعهم حديثى العهد بالخدمة ولذا فسرعة تنفيذ الاوامر عندهم سريعة .. اما ضباط الصف فكانوا من طلبة الكلية الحربية .. لهذا اجتمع الانضباط العسكرى والنظام من طلبة الكلية الحربية مع حداثة الجنود ومستواهم الثقافى .. فترة التدريب كل يوم عشرة ساعات نعود بعدها آخر النهار ونحن منهكى القوى والبدن وقد ازدادت اواصرالصداقة بينى وبين عادل بان جمعتنا مشكلة التزويغ وصداقتنا لفتاتين صديقتين وقد كانتا الفتاتان راغبتين فى التعرف علينا وهما يستعدان لعامهم الدراسى الثانى بجامعة عين شمس .. ألان لنا هدف مشترك لكن ظروف عادل احسن منى فهو يقيم مع اسرته وجميع احتياجاته موجودة بمنزله اما انا فلا امتلك ملابس مدنية استطيع الخروج بها ومعهم ولا امتلك منزلا اقيم به ولكن هدانى تفكيرى بان اذهب الى منزل جدتى بالسبتية وابيت عندهم واترك ملابسى هناك وقد اسعد هذا جدتى لوالدى كثيرا كذا عمتى اللتين تقيمان معها وعمى الاصغر.

      توالى تدريبنا وتوالى نزولنا اوتزويغنا ولقاء الصديقتين وكانتا تلك الفتاتين السبب الرئيسى لخروجى من حالتى الانعزالية التى كادت ان تؤدى الى تعاستى والمى النفسى لما كنت اتذكره عن فترة انسحابى من سيناء وما الم بى انا وجنودى  كانت ذكرى مؤلمة تعاودنى باستمرار خاصة فى حالات انفرادى بنفسى فاندفع فى البكاء بدون صوت فى ظلام الحجرة التى اقيم بها بالمعسكر والذى لا توجد به كهرباء .. الان وبعد التدريب والشقاء نذهب للفسحة او الجلوس فى اماكن عامة وفى بعض الحالات نذهب لدور السينما التى ازدحمت بالافلام الاجنبية الفرنسية والايطالية لمقاطعة مصر الافلام الامريكية لوقوفها مع اسرائيل فى حربها ضد مصر.

   مضى على وجودى بالقاهرة حوالى ثلاثة اشهر استعدت فيها هدوئى النفسى وتوالى التدريب الشاق الذى يغلب عليه استخدام الذخيرة الحية وكانت النتائج جيدة فى الرماية نظراً لاستيعاب الجنود للتدريبات والتكتيكات التى تدرس لهم بل كان البعض يستفسر ويستوضح ويسأل عما لايفهمه وكان هذا مدعاة لأن يقوم الضابط باعداد نفسه لكل محاضرة حتى لايحرج نفسه امام هؤلاء الجنود المتعلمين وقد ذاد من حُسن الاستيعاب انهم  يتمتعون بمستوى اجتماعى طيب وقد اثر هذا عليهم نفسيا لشعورهم بانهم حصلوا على قسط من التعليم اوقسط عال لخريجى الجامعة وكأنها عدوى اصابت الجنود فالكل يريد الايكون اقل من زميله الجامعى كما ان عدد من هؤلاء الجمعيين يتولون منصب ضابط الصف المعاون للضابط  فكان متفهما للاوامر ولا ينساها بعد مغادرة الضابط كما كان يحدث قبل ذلك.

       اضافت القوات المسلحة عنصرين هامين للمساعدة فى تقدم ورقى هؤلاء الجنود .. الاول : هو زيادة مرتباتهم وهذا دفع بهم الى الشعور بالاكتفاء المادى الذى هو عنصر هام فى شعور الانسان بانه ذا كرامة وكبرياء فلا يدفعه ضيق ذات اليد الى التزويغ من الكمسارى وما يلاقيه من رد فعل كما كان يحدث مع الجنود فى السابق او مثل ما حدث معى شخصيا حينما قذفنى كمسارى الترام بكلمات قاسية نظير عدة مليمات اثناء عودتى من سيناء .. اما العنصر الثانى : هو التعليمات المشددة بعدم اهانة الجندى او التعدى عليه بالضرب والسب كما كان يحدث فى السابق وهذا عنصر انسانى ساعد لان يشعر الجندى بآدميته.

      كل تلك العوامل ساعدت الوحدات المختلفة على زيادة الاستيعاب التدريبى لدرجة ان الوحدات تقوم بعام تدريبى كل ستة اشهر بدلا من العام وبهذا تضاعف التدريب والاستيعاب وكلها امور تدخل وتصب فى النهاية الى دفعة قوية ليصبح الجندى محترف قتاليا وليس متخوفا من السلاح الذى معه لانه كسر حاجز هذا  الخوف سواء بالثقة بالنفس من حسن المعاملة او من العائد المادى لهم كما اضيف بعدا آخر بان اصبح لجميع الجنود بيجامات للنوم كل واحد يحصل على عدد اثنين من تلك البيجامات وبالتالى اصبح الافرول مخصص للتدريب .. كما تنوعت الاطعمة التى تقدم فى الوجبات لهم مما ساعدهم على تناوله وبالتالى اعطاهم الطاقة المطلوبة لتلقى التدريبات .. اما العنصر الاخر الذى لايقل اهمية فهو زيادة عدد الفرق التعليمية التى يحصل عليها الضباط على اختلاف مستوياتهم الوظيفية ( من مدارس ومعاهد القوات المسلحة ومراكز التدريب) وبالتالى ارتفع مستواهم الثقافى والعسكرى والمهنى.

 

 

 

 ان الله لايضيع اجر من احسن عملا

 

      تلعب الصدفة والحظ فى حياتنا الكثير من المواقف والاحداث والتى نندهش لها ونتساءل كيف هذا تم ولماذا مع هذا الشخص اوذاك ولكنها الاقدار التى ُتسير الانسان فى بعض الظروف .. ونسمع ونقرأ ان فلانا غير موعد حجزه فى الطائرة يوم كذا وسافر فى اليوم التالى وبهذا نجا من الحادث او عكس ذلك .. اذن ما الذى دفع هذا الشخص لأن يغير موعد سفره .. انها الصدفه والاقدار وليس ذكاءا اوشطارة منه .. وكما يقول عبدالحليم حافظ فى اغنيته الشهيرة .. صدفه يوم ما قبلتك اول مره صدفه .. .لقد كان يتغنى لمحبوبته التى قابلها لاول مرة صدفة فى القطار عائدين من الاسكندرية ولعبت الاقدار لعبتها ليحدث التلاقى بينهما ثم الحب والزواج .. انها صدف .. وهذا ما حدث  لى تماما سواء ما كتبت عنه فى الفصل الخامس عشر ولقائى بالنقيب عاطف شفيق شقيق الرائد/ وليم او فى هذا الفصل .. انها الصدفة البحتة وليست شطارة .. وكما قال العالم “لاجرانج” ان الصدفة لاتأتى الا لمن يستحقها.     

      فى احد ايام اجازتنا وكنت بصحبة صديقى عادل وبعد لقائنا سويا اخبرنى بانه سيتوجه الى مستشفى المعادى لتسليم شقيقته بعض اغراضها الشخصية حيث فوجئت بنوبتجية لها نظرا لمرض احدى زميلاتها والتى تعمل هناك برتبة نقيب فهى خريجة معهد التمريض العالى وعرض على مرافقته ثم بعد ذلك نتوجه لاى مكان نتسكع فيه ونلهو حيث الفتاتان صديقتينا مشوغلتان بامتحانات التيرم الاول .. وافقته على الفور فليس امامى مكان اتجه اليه وليس لى صُحبة الجأ اليها وهكذا توجهنا الى المستشفى حيث تقوم شقيقته بعملها مع بعض زميلاتها فى قسم جراحة المخ والاعصاب .. استقبلتنا بترحاب وانتحت بشقيقها جانبا تخبره ببعض ماتريد اخباره اما انا فجلست على سرير صغير فارغ من النزلاء ولكن السرير المجاور لى كان يرقد عليه شاب جميل الصورة وعلى عينه ضمادات (العين اليسرى) تحدثت معه وكان يبتسم ولايتحدث وانا احاول ولكن الشاب يسمعنى ويهز راسه بعدم قدرته على الحديث واخيراً سمعته يردد بعض كلماتى وهنا حضرت شقيقة عادل وسألتها عن حال هذا الضابط فاخبرتنى بانه ملازم اول وهو موجود هنا منذ عدة اشهر تحت العلاج حيث فقد احدى عينيه وبه اصابات بالراس واجريت له عملية جراحية فى المخ لكنه للآن فاقد للذاكرة وعندما سالتها عن اسمه اخبرتنى بان اسمه مدحت .. اجبتها فقط .. اجابت فقط لان العلامة الفبر التى كانت حول رقبته كسرت ولم نرى منها سوى كلمة مدحت ومن اى سلاح .. اجابت بانهم لايعرفون ويودون العثور على اى بيانات عنه وانه للان لم يحضر احد من اهله للسؤال عنه .. اجبتها بعد مرور اربعة اشهرعلى وجوده .. اشارت بتأكيد كلامها .. سألتها ان كان يحتفظ بمحفظة او ماشابه ذلك ولكنها اعتذرت بانها لاتعرف وامهلتنى عدة دقائق لتسأل رئيسة القسم وعادت قائلة كل ماعثرنا عليه تلك الصورة .. شاهدت الصورة فوجدتها ممسوخة ولايظهر منها شىء وعادل يستعجلنى بانهاء تلك الاسئلة وانا اطلب منه التمهل ثم سألتها هل يمكننى الاحتفاظ بتلك الصورة فقد تساعدنى فى التعرف عليه خاصة بعد ان قرأت خلف الصورة اسم الاستوديو وتاريخ الصورة ورقمها كما هو معروف عن مصورى الفوتغرافيا .. ذهبت لتسأل رئيستها والتى افادتنى بانه يمكننى ان احتفظ بها ثم توقفت عن الاجابة وتسألنى .. اتعرفه؟ ولكننى نفيت ذلك واخبرتها بان والدة احد ضباط المدفعية قابلتنى منذ اربعة اشهر واخبرتنى بان ابنها اسمه مدحت وهو مفقود واعتقد اواحتمال ان يكون هو هذا الشخص لاننى لا اعرف شكله .. ثم تحدثت معه وسألته هل عندكم عربة مرسيدس فاشار براسه بتأكيد ذلك ولكن شقيقة عادل سألته .. اعندكم عربه فيات فاجاب بصوت خفيض ايوه .. “فيات” واعادت السؤال .. اعندكم عربة ستروين فاجاب ايوه .. “ستروين”..هنا قالت انه مسكين ويفعل مثل الاطفال ويقول آخر شىء يسمعه.

    غادرنا المستشفى وانا ساهم وشارد الفكر وعادل يحاول اخراجى من دوامة تلك الافكار والاسئلة التى اطاحت باتزانى وهو يقول لى اللى انت بتفكر فيه غلط .. ومش هوه يابن الناس .. طلبت من عادل مرافقتى الى الاستوديو ولكنه اعتذر وانه ينوى الذهاب لمشاهدة فيلم رجل وامرائتان.

    افترقنا .. هو توجه لمشاهدة الفيلم بينما توجهت انا الى الاستوديو فى حى المنيل حسب ما هو مكتوب على ظهر الصورة .. هناك فى الاستوديوعرضت عليهم الصورة طالبا اعداد نسخة منها ولكن الرجل اخبرنى بان التاريخ قديم واحتمال ان لايعثر عليه .. ثم سأل احد عماله عن النجتيف القديم الذى طلب منه منذ اسبوع لتخلص منه .. هل تخلص منه ام لا ..  اعتذر العامل بانه انشغل مع بعض الزبائن فسوف يقوم الان بالتخلص من هذا النجاتيف .. ولكن الرجل طلب منه التمهل واعطاه الصورة الممسوخة للبحث عن صاحب النجاتيف لانه يهم “الاستاذ” مشيرا الى .. طلب منى الرجل ان اعوده بعد اسبوع وسألنى عن عدد الصور فاخبرته صورة واحدة فاعتذر بانه لايقل عن ست صور .. وافقته طالبا منه صورة كبيرة ودفعت الرسوم وغادرت المحل حاملا معى ايصال الصور وانا افكر ليل نهار هل تحدث المعجزة ويكون صاحب الصورة هو شخص نتعرف عليه ليقربنا من الحقيقة.

     بعد عشرة ايام حسب موعد اجازتى اسرعت الى الاستوديو فاحضر الرجل الصور وعرضها على وانا اشاهدها صائحا صارخا ايوه هيه .. والرجل مندهش من انفعالى ويسألنى عن صلتى بتلك السيدة العجوز هل هى والدتك؟ ولكنى اخبرته بانها صورة عمتى التى توفيت منذ اعوام ونحن نريد استخراج صورة لها للذكرى .. اخذت الصور وانا اسير طائرا فى الطريق انها صورتها لقد تأكدت الان ان هذا الشاب المسكين هو ابن السيدة صاحبة المرسيدس والتى اقلتنى من باب تلاته حتى محطة كوبرى الليمون واتصلت بخالى لكى يطمئن امى على رغم ما بها من الام فقد الابن العزيز .. ياه .. قلتها وانا سعيد ولكننى توقفت ثانية فلا اعرف اسم السيدة ولا نعرف اسم الضابط بالكامل وكل ما اعرفه هو انها تركب سيارة مرسيدس ملاكى القاهرة .. ايوه نمرة السيارة .. آه لقد تذكرت بعد ان غادرتنى السيارة  قرأت رقمها وكان هو نفس عام ميلادى .. اذن الرقم 1944 ملاكى القاهرة مرسيدس بيضاء ياه !!!!ا اين وكيف اتعرف على صاحبة المرسيدس؟ اريد عونا من احد ضباط المرور ولا اعرف احدا منهم .. مين يا اسامه؟ .. هتفت آه انه حبيبى واخى النقيب عاطف شفيق .. شقيق الشهيد وليم شفيق والذى طلب منى زيارتهم فى منزلهم ..آه عليك ياعاطف ياصاحب المرؤة والانسانية والذى اقرضنى خمسة جنيهات كاملة .. اين رقم تليفونه .. ابحث عنه ولكنه فقد منى .. اذن لا يهم ساذهب لمقابلته فى قسم الوايلى .. ركبت الاتوبيس الذى اوصلنى الى القسم وهناك توجهت الى داخل القسم وسألت عنه ولكننى علمت انه نقل الى قسم النزهه بمصر الجديدة .. اسرعت وركبت اتوبيسا اخر متوجها الى قسم النزهة وهناك اخبرونى بانه فى راحته الان وطلبت مقابلة احدا من زملائه .. فقابلت زميل له وسألته عن النقيب عاطف واننى اريد رقم تليفونه ولكنه كان فظا معى ولم يساعدنى او يحاول ذلك وعندئذ طلبت منه ان يبلغه بان اسامه زميل شقيقه وليم حضر لمقابلته وارجوا ن يترك عنوان تليفونه لاننى فقدته .. اشار لى بلا مبالاة .. قائلا : انا مش مواصلاتى رسايل .. ابقى تعالى فى نوبتجيته .. تركته غاضبا حزينا فلحق بى امين شرطة مستفسراً عن اهمية تليفون النقيب عاطف فاخبرته بانه طلب منى شيئا مهما .. فبادر لمساعدتى وزودنى بتليفون القسم للاتصل به فى الصباح وقد اسعدنى هذا الحل الذى لم يتبادر الى ذهنى.

     اثناء وجودى بوحدتى طلبت من عامل السنترال الحربى توصيلى بالرقم(…) وزودته به وجاء صوت عامل التليفون من قسم النزهة فاخبرته بشخصيتى طالبا محادثة النقيب عاطف .. طلب منى الانتظار ثم عاد واخبرنى بانه عند سيادة المأمور.. طلبت ابلاغه برسالتى وان الملازم اسامه زميل شقيقه اتصل به وسأحاول الاتصال به ثانية .. حاولت فى تلك الليلة ولكن دون جدوى حيث كانت الخطوط للوحدات مشغولة باوامر عسكرية وتلغى فى تلك الاحوال الاتصالات المدنية .. اتصلت به بعد عدة ايام ولم اجده ولكن زميل له اخبرنى بان عاطف علم باتصالك وهو سعيد بهذا وان رقم تليفونه هو….. واضاف بان مواعيد نوبتجياته هى .. وزودنى بها .

      الان معى تليفونه ومواعيد وجوده بالقسم .. وغدا راحتى وفضلت ان اقابله شخصيا لكى ارد ما على واوفى بوعدى بزيارة امه واطلب منه المساعدة فى العثور على عنوان صاحبة السيارة .. مساء الغد هبطت عليه فى القسم وانا اسأل الجندى الواقف على باب مكتبه عنه وعندما ابلغته بان يخبره بان اسامة بانتظاره .. فتح الباب واندفع الرجل يحتضننى ويقبلنى وهو يقول لقد فقدت الامل فى اننى سوف اراك ثانية اخذنى من يدى لداخل مكتبه وجلسنا نشرب الشاى ويحدثنى عن اثر لقائى به منذ عدة شهور وكيف استقبلت امه النبأ والتى قررت عدم ارتداء الملابس السوداء المخصصة للحداد قائلة : لا يجب ان نلبس تلك الملابس على ارواح الابطال انهم الان فى الامجاد السماوية مع الرب ويسوع .. وان “روز” زوجته بعد ان بكته عدة ايام عادت لرشدها خاصة انها انجبت وليم الصغير منذ شهرين .. اسعدنى هذا الخبر واخرجت الخمسة جنيهات واعطيتها له ولكنه رفض فاقسمت بروح الشهيد وليم ان ياخذها فرضخ لرجائى.

    اخبرته بان ورائى شيئين هامين .. الاول هو زيارة والدته حسب ما اتفقنا وقد اسعده هذا لانها دائما تسأله قائلة : فين ياعطف الظابط اللى قال لك على حكاية وليم .. مش قلت انه حيجى يزورنا” .. فاخبرته اننى مستعد الان ولكنه ضحك وقال اليوم خدمتى وغدا ننفذ ما اتفقنا وتعاهدنا عليه .. ثم سألنى والشىء الثانى .. فاخبرته بقصة السيارة المرسيدس وحكاية الرقم وهو ناظر الى بدهشة ويقول احنا نروح ونقعد فى بيتنا وانت تيجى تشتغل مكانا .. ضحكت واجبته بانها ام مثل ام وليم .. ادمعت عيناه قليلا ثم استفاق وقال “حاضر بكره حاروح ادارة مرور القاهرة واجبلك العنوان”.

      اتفقنا على اللقاء عصر غد لزيارة والدته بعد ان زودنى بالعنوان والوصفه وكيفية الوصول اليهم .. وايضا الحصول على عنوان صاحبة المرسيدس .. امضيت ليلتى مسهداً قلقا وانا افكر هل ستحدث المعجزة؟ .. لقد رددتها قبل ذلك ومازلت .. اننى مازلت اتذكر عيون الام الباكية على فلذة كبدها اثناء ركوبى معها بالسيارة .. ثم اتراجع قائلا : ان العديد من الامهات فقدن ابنائهن فى سيناء ولتكن هى احداهن ولكننى تذكرته وانه مايزال على قيد الحياة وانه مسكين لايعلم شيئا من اموره وكل ما فعله انه احتفظ بصورة امه فى يده حتى تحللت من اثار العرق وقد اخذوها منه عنوة اثناء العملية الجراحية  كما اخبرتنا رئيسة القسم بالمستشفى .. انه مثل الطفل وسيبقى هكذا فترة طويلة واحتمال ان يبقى هكذا للابد طالما لايستطيعون التعرف عليه وسيكتبون امامه فاقد المعرفة والاهل .. استيقظت صباح اليوم التالى ادعو الله ان يوفقنى وان يكون هذا اليوم يوم خير وبركة عليهم واتمتع بمشاهدة الابتسامة على وجه امه الطيبة الحنون التى عطفت على رغم ظروفها الصعبة.

      حسب الموعد اتجه الان الى منزل عاطف شفيق وحاملا معى هدية رمزية للوليد الصغير ابن الشهيد وليم .. ضغطه صغيرة على الجرس ويفتح الباب عاطف ليستقبلنى بكل ترحاب بصوته الجهورى صائحا : “ماما” اسامه زميل الشهيد وليم موجود .. شاهدت سيدة كبيرة فى العمر واثار السنون والهموم بادية عليها ولكنها تدارى كل هذه العلامات بابتسامة الفرح والسرور وهى قادمة لمقابلتى فاسرعت لملاقتها مصافحا اياها قائلا : لها ازيك يانينه .. سلمت على بكلتا يديها ممسكة بهما سائرة بى حتى اجلستنى وجلست امامى وهى تتفحص وجههى ثم تقول انا دلوقتى شايفه وليم وكمان مسكت ايد وليم .. ياه .. اشكرك يا ابنى وربنا يخليك لامك وادمعت عيونها ثم عادت الى هدوئها وهى تقول سامحنى الفراق صعب .. هيه .. قوللى وليم كان عامل ازاى؟ .. تفتكر كان خايف من اليهود الانجاس اللى قتلو المسيح؟ وانا انفى انه كان خائفاً بل كان شجاعاً واعيد سرد الرواية بناء على اشارة من ابنها وقد حضرت زوجة وليم حاملة رضيعها “عزيز” وصافحتنى بحرارة فقدمت اليها الهدية قائلا : هذه لابن اخى وليم شفيق”عزيز واعز الناس وابن الشهيد” شكرتنى كثيراً واحضرت سيدة كبيرة تعمل عندهم مشروبا لنا جميعا وهنا قطع الحديث عاطف ويقول كده تدوخنى وفى الاخر يطلع الرقم اللى اديتوهلى لعربية نص نقل .. ظهر الظلام فى وجههى وتحطمت كل احلامى السابقة بان انجح فيما قمت به من اجل تلك الام الطيبة الباكية الدامعة ولكنه عاجلنى بابتسامته المريحه .. قائلا: لكن انا مباحث .. انت نسيت رقم واحد فى الشمال .. يعنى الرقم11944 مش 1944 وآدى ياسيدى العنوان والإسم .. السيدة “وداد على محمود”اشرقت ضياء الشمس فى وجهى وانا فرح وسعيد وكلها ساعة واذهب لام مدحت واحمل لها نبأ العثور على ابنها.

      بعد ان امضيت اكثر من نصف ساعة استأذنت منهم وعرض على عاطف مرافقتى فى تلك المهمة ولكننى شكرته ويكفيه ما قام به .. اخذت تاكسى الى المنيل .. فكنت راغبا فى كسب الوقت ووصلت الى العنوان .. .شارع هادىء وفيلا جميلة ولكن السكون وشبح الموت يخيم على المكان .. ضغطت على جرس الباب الخارجى فخرج لى البواب مستفسرا عما اريده .. اخبرته باننى اريد مقابلة السيدة وداد .. نظر الى بعض الوقت ثم قال فيه حاجه نقولها عليها .. اخبرته اننى زميل مدحت .. انفرجت اسارير الرجل وهو يفسح المكان ويطلب من “فكيهه” زوجته بان تخبر الست هانم بان صديق لمدحت بيه موجود وعايز يقابلها ويقول لى ربنا يطمنك يابيه الست حالتها وحشه خالص .. اصل مدحت بيه الوحيد على بنتين .. الان انا جالس فى الصالون واشاهد السيدة هابطة على السلم من الدور العلوى بمساعدة شابه جميله وتوقفا امامى والسيدة تتفحص وجهى وتقول ايوه بيقولوا انك صاحب مدحت .. وقفت احتراما لها وسألتها حضرتك مش فكرانى؟ .. نظرت الى قليلاً : ثم نفت ان تكون تعرفنى او شاهدتنى .. فشرحت لها ما فعلته معى ولكن السيدة لم تتذكر شىء.

    اخرجت صورتها المكبرة والتى استخرجتها من محل الصور وشاهدتها وكذلك ابنتها وهى تستفسر من اين حصلت على تلك الصورة .. سألتها : اهى لكِ .. اجابت ايوه بس دى صوره قديمه وكانت مع المرحوم مدحت صوره زيها وشايلها معاه فى محفظته .. طلبت منها ان تستريح ولكن الابنة تشككت فى امرى وتقول بصوت مرتفع وبانفعال .. انت باين عليك نصاب .. عبده اقفل الباب حابلغ البوليس .. تسمرت على الكرسى حيث انقلبت الامور رأسـا على عقب والجميع ينظرون  الى ثم تعيد الفتاة انت عايز مننا ايه ؟ قول .. انطق .. والام تطلب منها الهدؤ وهى تقول مش كده “يا علا” يا بنتى مش نشوف هوه عايز ايه .. اخرجت الكارنيه العسكرى من محفظتى وناولته للام وهى تقول ايوه الملازم اسامه .. يابنتى ده ظابط كده يزعل مننا .. ايوه يا ابنى انا سمعاك .. اجبتها “ماما وداد” ابتسمت لهذا الاسم وهى تقول طولة العمر لك كان مدحت دايما يسكت زيك كده ويقول ماما وداد .. ايوه ياحبيب ماما عايز ايه؟ .. اجبتها عايز منك انك تلبسى هدومك عشان نزور حبيبك مدحت فى المستشفى .. سكنت السيدة قليلا : ثم قالت والنبى يا ابنى تعيد الكلمة دية تانى ولكن الابنة بصوت مرتفع تقول : حرام عليك تعشم ماما .. سيبها خلاص احنا عرفنا ان مدحت بقى عند ربنا وتأكدنا من كل ده .. ادارة السلاح عرفتنا بكده .. اعتذرت لهم وانا حزين باننى اخطأت وهممت بالخروج ولكن الام لم يطاوعها خروجى قبل ان تسمح لبصيص امل ان يطل عليها عن ابنها .. قصصت عليهم مارأيته وماسمعته منه وعن حالته وفقده لاحدى عينيه والجميع ما بين مصدق ومكذب .. ثم وصفت شكله والفجوة التى بين سنتيه الاماميتين وهنا هتفت الام ايوه هوه مدحت مش ممكن يكون غيره .. اسرعت بدون مساعدة احد للدور العلوى ولم تنتظر نداءات ابنتها والتى جلست فى مواجهتى وتقول لى وهى مبتسمة ووجها اطل منه الضياء بعد ان تلاشى الضيق والحنق من مقابلتى فى اول الامر .. لو اللى قلته ده حصل مش عارفه اكفائك بايه .. اجبتها بسعادتك انت ومامتك .. اسرعت تطلب من السائق اعداد السيارة .. هبطت الام على عجل وقد نست ارتداء حذائها فنبهتها ابنتها ولكنها لم تبالى فارسلت فكيهه لتحضر لها حذائها وهى تنظر الى .. قوللى يا ابنى اتكلمت معاه؟ .. وقاللك ايه؟ .. يعنى فايق؟ ..معلش بعين واحده حلو وكمان من غير عيون .. لو رجل واحده باقيه منه حأقبلها .. الله على السعادة .. اشكرك يارب .. ياه يا ابنى انا كانت حتضيع عينى من البكا.. تحركنا وقد اقتربت الساعة من التاسعة مساء وصاحبت الام وابنتها”علا” اما الابنة الصغرى”دينا” فامامها نصف ساعة وتعود من محاضرتها بكلية الاداب .. رفضت الام انتظار دينا وتحركنا بالسيارة تسرع  بالطريق حتى وصلنا الى مستشفى المعادى فعرقلوا دخلونا فى بادىء الامر ولكننى اخبرتهم بانى شقيق النقيبة .. فتحوا الباب واتجهنا الى قسم الاعصاب فتقابلت فى الممر بشقيقة عادل فنظرت الى قائلة مش انت صاحب عادل؟ اجبتها بالايجاب واخبرتها باننى احضرت عائلة مدحت ولم تصدقنى فى بادىء الامر وبعد ان شاهدت الاسرة عادت تصطحبنا الى سريره وكان جالسا فى سريره وبدون ان تتكلم امه صرخت .. مدحت حبيبى وتقبله وتبكى واقبلت رئيسة العنبر طالبة منهم الهدؤ وشقيقته هى الاخرى سعيدة به وهى غير مصدقة ووقفت بجوارى تعتذر وتمسك بيدى وتشدها بسعادة وفرح لما قمت به حتى استطعنا الوصول الى شقيقها .

     تنبه مدحت الى امه فبكى وحاول ان يتكلم وتضيع منه مفردات الكلمات ولكنه بعد قليل تحدث عدة جمل ويقبل يدها ويشير الى شقيقته بما يعنى انه يعرفها ولكن اسمها هرب منه وهنا اخبرتهم رئيسة القسم بان هذا شىء عادى وسيتحسن بمرور الوقت طالبة منهم مغادرة المستشفى ويمكنهم الحضور باكر لاصطحابه الى منزله ولكن الام لم توافق مقررة البيات بجواره او ان يخرج معها .. تحاول رئيسة القسم اقناعها بمغادرة المكان والعودة باكر دون جدوى .. تركتنا لعرض الامر على ادارة المستشفى واتصلت بهم وعادت باشة الوجه لتخبرنا بانه من حُسن الحظ ان نائب المدير موجود ووافق على خروجه معكم .. بعد ساعة من دخولنا المستشفى خرجنا جميعا مصطحبين مدحت .. واستأذنت منهم بان اعود لوحدتى ولكن الام كادت ان تقسم بالا اتركهم .. ولكننى اخبرتها بانه سيوقع على جزاء اذا تأخرت وانها  لاترضى بان ينالنى عقاب.

     ودعتهم مع وعد بان ازورهم كل اجازة وزودونى برقم تليفونهم .. وحصلوا على رقم تليفون وحدتى .. عُدت الى منزل عمى وقد اقترب الليل من منتصفه والبرد قارس فى الشارع ودخلت السرير لانام بضعة ساعات حتى اعود لوحدتى صباح اليوم التالى.

      صباح اليوم التالى استيقظت وانا مصاب ببرد شديد والآم ورشح وصعوبة فى التنفس  فطلبت منى جدتى ان اعتذر لهم بمكالمتهم تليفونيا ولكننى اخبرتها بان هذا غير جائز .. فاما اذهب للوحدة او الى المستشفى العسكرى .. تحاملت على نفسى وعدت الى وحدتى بعد تأخير اربعة ساعات وقد منحنى القائد اربعة ايام حجز بالمعسكر لا اغادره عقاباً على تأخرى .. كنت خلالها راقداً فى سريرى اعالج من أثار البرد ولكن الاثر النفسى الذى تركه العثور على مدحت وعودته لاهله كان مصباحاً منيراً لى دائما .. كنت احلم بما تم وانا مستيقظ وكأنه درب من الخيال وفى بعض الاوقات كنت غير مصدق معتقداً انها هلوثة من اثر اصابتى بنزلة برد .. فى اليوم الثالث لعودتى وعدم نزولى اى اجازة .. وفى المساء اخبرنى جندى المراسلة بان العيله فى البيت تطلبنى على التليفون .. تحاملت على نفسى وتحركت الى مكتب القائد لاتلقى المكالمة وانا مندهش ان عائلتى بالزقازيق تتصل بى من السنترال وماذا حدث هناك من اجل ان يتصلوا بى .. كلها هواجس وافكار سيئة مصاحبة لحالتى المرضية .. اجبت على المكالمة وكانت علا شقيقة مدحت على الجانب الاخر وبعد ان اشبعتنى بعبارات تحمل مشاعر الشكر والامتنان عما حدث معهم منذ عدة ايام استفسرت منى عن سبب عدم حضورى لهم  فاخبرتها باننى مصاب بنزلة برد وبعد ان اتماثل للشفاء ساحضر لزيارتهم .. شكرتنى كثيراً واخبرتنى ان والدتها ترغب فى محادثتى .. تكلمت معى السيدة وداد بكل حنان الام وبكل مشاعر الود الكامن لانسان انقذها مما الم بها من الام نفسية وفتح بارقة امل متجددة امامها وامام اسرتها ثم تسألنى .. مش بتقوللى ماما تانى ليه؟.. ضحكت رغم تعبى قائلا: حاضر ياماما .. اجابتنى ماما بتقولك اول اجازة تنزلها تيجى قوام عشان تبوس ايدك وراسك على اللى عملته لها .. كمان ماما بتقولك انها جهزت لك اوضه جنب اوضة مدحت حتكون بتاعتك .. اعتذرت ولكنها غضبت وتقول من اربعة ايام مكنش فيه راجل فى البيت ودلوقتى حيكونوا اتنين .. اولادى اتنين .. اسامه ومدحت .. كده ترفض كلام ماما ..  اشعرتنى بالخجل وبنفس الوقت كانت الافرازات المخاطية قد ضايقتنى واريد التخلص منها .. وافقتها وعدت الى سريرى سعيداً هانئاً بما سمعته من كلام ماما الجديدة وابنتها علا الذى كان باديا على حديثها كل الود .. مخالفة للقائى الاول بها وهى صارخة فى وجهى وتتهمنى بالنصب والاحتيال عليهم. 

 

 

Share
Click to listen highlighted text! Powered By GSpeech