Click to listen highlighted text! Powered By GSpeech
Get Adobe Flash player
مستمرين معاكم بإذن الله 2008-2024 **** #لان_لجيشنا_تاريخ_يستحق_أن_يروي **** ***** إنشروا تاريخنا وشاركونا في معركة الوعي **** تابعونا علي قناة اليوتيوب 1100+ فيديو حتي الان **** تابعونا علي صفحات التواصل الاجتماعي** أشتركوا معنا في رحلاتنا لمناطق حرب أكتوبر **** يرجي استخدام خانة البحث **** *** تابعونا علي تليجرام - انستجرام - تويتر

الناس والحرب - الحلقه السابعه

حقيقة أم خيــال

 

      تحركنا الى النسق الاول فى منطقة الفردان .. كانت المرة الاولى التى نشاهد فيها مياه القناة ونرى العدو وجها لوجهه لا يفصلنا عنه سوى مائتى متر هى عرض القناة .. موقعنا هو بالتحديد شرق محطة سكة حديد الفردان وكان النقيب فاروق وقتها فى فرقة دراسية بالقاهرة وكنت الضابط الوحيد .. اما قائد السرية التى استبدلنا موقعه فيقيم فى منزل ناظر محطة السكة الحديد المهجورة والتى ليس بها احد من العاملين .. المنزل كبير الحجم من المبانى القديمة المرتفعة وسقفه من الخشب وارضيته ايضا وهو مكون من حجرات ثلاث وحمام ومطبخ ويقع على الرصيف الغربى للمحطة والفاصل بينه وبين ادارة المحطة شريط السكة الحديد .. يغطى المنزل من الخارج بنباتات متسلقة من نوع “ست الحسن” ولاتظهر منه سوى نوافذه فقط.

      توزع الجنود فى حجرات عمال الدريسة الموجودة فى كل محطة وهم العمال الذين يقومون على صيانة السكة الحديد سواء باستبدال الفلنكات المتهالكة او توزيع صخور البازلت الاسود اسفل الفلنكات كل فترة لعلاج هبوطها من الاوزان المتتالية التى تحملها القطارات .. كلها اعمال صيانة .. المتوفرعدة حجرات اعتقد انها تقارب الثمانية وتسع كل حجرة خمسة افراد لكل طاقم مدفع .. وزع رقيب السرية الخدمات وهى خدمات فردية اى ان كل جندى يقف فى مكان يراه الاخر لكن لايجب ان يقف اثنان سويا يتحدثان ويتركان خدمتهما ويمكن لأى متسلل ان يأتى على اصواتهما ويفعل ما يريد .. فقد عرف اماكن الخدمات.

    لم اكن امتلك سريرا للنوم وهذا وضع شائع بين الضباط على جبهة القتال ولكن كل ما امتلكه لوحه خشب”ارضية من الارضيات المخصصه للجنود للنوم فوقها ارضا” وحمالتين حديد من التى يستخدمها النجارين لوضع الخشب عليه ونشره .. وضعهم “حنتيره” وهذا اسم الجندى المراسله الذى يعمل معى والذى ورثته من الملازم اول عدلى حسان .. وهو قروى بمعنى الكلمة من كفر الشيخ ولا يفهم فى الدنيا شىء ولم يترك بلدته الابعد ان جاءه الاخطار بالذهاب الى النضاره”منطقة التجنيد” وهو جندى عادى ولم ينل قسطا من التعليم ولم يرى شيئا فى مصر غير باب الحديد .. الجندى كان على موعد مع اجازته الميدانية صباح الغد وهذا موعد دفعة الاجازات بالكتيبة ولكن معلوماتى وخبرتى السابقة ان دفعات الاجازات تتحرك فى الساعة السابعة صباحا ولكن حدث شىء مخالف هنا لان المشوار من الكتيبة المتمركزة فى محطة الفردان حتى الاسماعيلية يستغرق سيراً على الاقدام  ساعتين ولهذا وُزعت التصاريح عليهم مبكراً حتى يستطيعوا السير بدون ان ترصدهم القوات الاسرائيلية ويطلقون عليهم النيران ولكن الجندى لم يخبرنى بهذا التطور .. توجهت الى حجرتى ونمت فوق الارضية الخشب وتحتى بطانيتين وفوقى اثنين اخريين وخفضت ضؤ اللمبه الجاز رقم”5″ ورحت فى نوم عميق من مجهود التحرك داخل الموقع واستلام الذخائر والمعدات الهندسية به.

       لم اشعر بالوقت الذى امضيته فى نومى ولكن كل ما شعرت به هو شىء يطير فوق وجهى ورياح شديدة ازعجتنى من نومى فاستيقظت على شعورى بان شعر راسى يقف ويحدث صوتا كأنه طقطقة مع شعورى بالخوف والرهبة .. رفعت ضؤ اللمبة وجلست نصف جلسة وانا اقول بسم الله الرحمن الرحيم .. خير ياربى .. اشاهد فى شباك الغرفة الامامى وعلى مسافة خمسة امتار اويزيد شىء يتحرك مابين الدرفة الزجاج والشيش الخارجى ويلف حول نفسه .. احاول ان اتبينه .. انه شىء شبيه بالقط ولكنه اكبر حجما وانصع لونا فهو فى لون البيج وليس هذا لون من الوان الحيوانات التى نراها .. مخالف فى اللون والحجم واندهشت كيف لحيوان فى هذا الحجم يلف حول نفسه فى تلك المساحة الصغيرة وافكر بان اقوم من مكانى وافتح له الشباك لانقذه واتذكر اننى لم اراه اليوم والشباك كان مقفولا ولكنى اعتقدت ان حنتيره نسى وقفل الشباك على هذا الحيوان وانا فى صراعى هذا اذ تعود الرياح الشديدة ثانية وتلف حولى وانا اشاهدها كأننى فى دوامة هوائية واستغيث”حنتيره .. حنت.. يره” دون مجيب وتطفىء شدة الرياح اللمبة واصبح فى ظلام دامس وانا على هذا الوضع الفزع فهرعت من نومى اتلمس البالطو من شدة البرودة وامسكت بحزائى اريد ترك المكان فى هذا الظلام وانا مازلت جاهلا بالمكان وتقسيمات المنزل فاتخبط هنا واتخبط هناك ومازلت شاعرا بان شعر راسى واقفا وان شيئا خطيرا حدث وان هذا من عمل الجان حيث وصلت الى باب المنزل وكان مغلقا اذا من اين اتت تلك الرياح بتلك الشدة .. خرجت من المنزل لأقف على رصيف المحطة لاهث الانفاس مضطرب العقل مشوش الفكر فاقداً لسيطرتى على نفسى ولكن سرعان ما اعدت اتزانى الى نفسى عندما شاهدت جنديين الحراسة امامى ملتصقين بعضهما البعض .. فاعتقدت انهما لاحظا حالتى ولكنى كنت متأكداً اننى شبه طبيعى وقد نهرتهما قائلاً .. لماذا تخالفون التعليمات وتقفان سويا؟ .. وهنا تحدث احدهم بينما الاخر كان الفزع ملما به فقال: والله يافندم احنا من نص ساعه واحنا شاعرين ان فيه حاجه غريبه بتحصل .. اجبته غريبه!! .. زى ايه؟ .. وضح ما تقول .. اجاب : اولا شىء ما يقذفنا بالزلط والطوب .. ثم نسمع صوت اقدام خلفنا فننظر للخلف فلا نشاهد شيئا ومنذ دقائق شعرنا بهواء بارد يلف حولنا كانه مجموعة من الاطفال تدور حولنا تلاعبنا ونحن بداخل تلك اللفة من الهواء وفى حالة من الذعر من شدة الهواء ومن صوته وبرودته .. تنحنحت وشددت من همتى قائلا: بلاش كلام فارغ زى ده .. احنا رجاله فى الجيش .. انا ساقف معكم لتطمئنوا ولكنى فى الحقيقة ازددت اضطرابا وخوفا .. وقفت معهم فشاهدت احد جنود الخدمة قادما فى اتجاه زملائه وعندما شاهدنى توقف مرتعدا ويتحدث ويقول: يافندى المكان ده فيه عفاريت .. ضحكت ساخراً وفى قرارة نفسى متأكداً من حديثه .. يكمل كلامه وهو مازال يرتعد ..ايوه يافندم .. فيه حد ضربنى بالشلوت وانا واقف .. اندرت ملقيتش حد لاننى كنت بجانب الحيطة من البرد .. بقينا الى الصباح ونحن نطلب من الليل ان ينجلى ويقبل علينا نور الله لينير لنا ما يحدث للجميع حيث تواكب الجنود فرادى علينا تباعا كل يقص حكاية عن شىء مماثل.

   لم استطع ان احدثهم بما حدث لى فسوف يتركون خوفهم ويقصون قصة ضابطهم الذى خاف من ابو رجل مسلوخة ليلاً .. اثناء تواجدى بالموقع معهم وبعد ان طلبت من احد الجنود حمل مهماتى من هذا المنزل اللعين “بيت الاشباح”ووضعه فى مكان آخر قريب منهم وبدون سابق انذار تنفجر دانة دبابة فى المنزل فى حجرتى التى كنت نائما بها فتدمر الحجرة ونفحصها بعد ذلك لنجد ان الشظايا لم تترك مساحة صغيرة الا واصابتها .. ايقنت ان نعمة من عند الله اخافتنى بان ابتعدت عن هذا المكان والا لبقيت ونلت تلك القنبلة.

      توالت شكوى الجنود من ظاهرة الاصوات التى يسمعونها وبالذات من شرحهم لأصوات خطوات تحرك جندى بحذائه الميرى وعندما يخرج احداً من الغرفة لايجد شيئا .. هم كانوا اشجع منى بالطبع فهم مجموعة معا ورغم هذا اصابهم الخوف والذعر .. بل ان احدهم وهو مشهود له بانه قلبه ميت سمع طرقا على الباب فاسرع ليفتح الباب فلم يجد شيئا وهنا ذهب لسؤال كل جيرانه والكل ينفى انهم خرجوا من حجراتهم والكل يؤكد ان هذا الطرق وصل اليهم ايضا ولم يجدوا احدا عندما هموا بفتح الباب .

      امامى مشكلة كبيرة وانا متأكد من وجود شىء ما غير طبيعى واذا عرضت المشكلة على رئاسة الكتيبة فسوف اسمع لوما وتقريعا من القائد وقد كان رجلاً قاسيا مؤذيا يوزع الجزاءات على الجنود والضباط كأنه يوزع ادعية السبع آيات المنجيات التى كانت توزع فى الاتوبيسات بغرض التسول .. ماذا افعل والجنود طالبين عرض هذا الموضوع على القائد او مغادرة هذا المكان لموقع آخر وهذا ليس من سلطتى وخاصة بعد دانة الدبابة التى مزقت هدؤ المنطقة على حد قول رجال هيئة قناة السويس الذين كانوا فى مبنى الارشاد بالفردان والذين افادوا بان هذا المكان لم يحدث فيه قذف منذ نهاية 67 واستشهاد ثلاثة جنود من وحدة المدفية المضادة للطائرات والذين اسقطوا طائرة اسرائيلية بنيرانهم.

 

      كان هذا النهار صعبا علينا جميعا وخاصة انا .. فبحكم مسؤليتى يجب التصرف واتخاذ قرار ما فقد نقل الى جنودى مخاوفهم التى هى فى الاصل مخاوفى ايضا وقد تدفعهم مخاوفهم الى ارتكاب اخطاء او ان يطلق احدا نيران رشاشه القصير فيسبب خسائر فى زملائه وسيتهمنى الجميع بانهم اخبرونى بما حدث لهم ليلاً وهنا يشمر كل قائد عن ساعديه لماذا لم تخبرنى واهملت جنودك وانت تنام فى قصر فاخر”منزل ناظر المحطة”تاركا جنودك يلاقون عذاب الخوف والرهبة ليلاً.

    واذا نقلت تلك المعلومات الى القائد فسيصرخ فى قائلاً : انك ترعب جنودك لخوفك من فأر صغير شاهدته وكيف لك ان تقود جنودا فى حرب وانت تخاف ليلا تريد ان يؤنسك الاخرون وتخاف من امنا الغولة وابو رجل مسلوخة .. ايه حكايتك ياحضرة الضابط انت لسه نايم فى احلام الشاطر حسن وست الحسن والجمال .. هيه .. دا بقى جيش حليمه .. وماذا كانت تفعل الوحدات قبلكم؟ .. لم نسمع منهم انهم خافوا او تملكهم رعب مثلكم .. انصراف من امامى والا احولك الى مجلس تحقيق ثم محكمة عسكرية بجناية ارهاب الجنود فى جبهة القتال لتدفعهم للهرب من مواقعهم.

     احترت واحتار دليلى معاهم!!! ماذا افعل ولقد تيقنت ان اهم شىء افعله هو ان “اكفى على الخبر ماجور” واذا ظهر فليكن من غيرى حتى لو كان من جنودى ويقال عليهم جبناء فهو اهون ان تقال تلك الكلمة على شخصى .. طمأنت جنودى باننى سوف اذهب لمقابلة قائد الكتيبة وعرض الامر عليه ولكن بعد ان يعود من لقائه بقائد اللواء مشجعا فيهم الهمة والشجاعة مبعداً تلك الخرافات التى كانوا يتضايقون من ان اقولها لهم لانها اهانة الى رجولتهم وهم ابناء المدن الساحلية الذين لايهابون البحر ولهم نشاط فى مدنهم وليسوا من اهل الريف الذين ينامون بعد العشاء على حكايات ابوزيد الهلالى سلامة وعنترة بن شداد وايوب المصرى .. ثم ينتج بعد هذا بتسعة اشهر طفل وهكذا وكأن الليل قد خصص لهذا العمل الذى اصبحت مصر اكبر مصدر له.

        اقترب الليل وجميعنا  نستعد له .. فهذا معه سكين وآخر اقترض سونكى من صديقه فى سرية مشاه وآخرين يطلبون منى التصديق لهم بفتح النيران على العفاريت .. بقت الحكاية سيرك .. نحن ليلاً وكل مترقب قدوم هذا الوحش الخفى والذى لم يؤذى احدا حتى الان .. وما حدث امس حدث الليلة اصوات واقدام وسباب وشتيمة من الجنود باقذع الالفاظ لهذا الجنى القذر ان كان ابن راجل فليظهر وليرينى وجهه..

      صباح اليوم التالى لاحظت ان جنودى يجرون فى كل اتجاه فلقد حضر الوحش الادمى .. انه قائد الكتيبة هذا القائد الذى نجح فى ان يجعل جنود كتيبته يقفون على خط النيران واتجاهتهم معكسوة جهة الغرب جهة قواتنا وليست جهة اليهود مما يكيله للجميع من جزاءات قاسية كان فظا فى هذا كما كان فظا فى احاديثه ولايفهم سوى لغة القوة والبطش.     

      اقبلت عليه مؤديا التحية العسكرية فنظر الى بعيونه الواسعة “العسلى” اللون وجسده الضخم وصوته الجهورى .. قائلا: مين يا اسامه ضرب العسكرى بتاعى امبارح؟.. فاجئنى بسؤال فارتبكت اول الامر ثم اجبته بان الجندى المراسلة لم يحضر امس .. ضحك بسخرية ويقول هو انت حاسس بحاجه انت ُخم نوم والله اللى عملك ظابط ظلمك .. ثم نظر الى قائلا الا قوللى مين اللى عملك ظابط؟ .. اجبته وانا انتفض من الغيظ قائلا : والله اللى عملك ظابط هوه اللى عملنى .. صرخ بى (قائلاً منتظر مكتب) مضيفا .. اجمعلى اولاد الكلب بتوعك هنا .. اجبته معنديش اولاد كلب .. صرخ ثانية آه تمرد عسكرى ..انت والوسخين بتوعك عاملين تمرد .. انا حاطلب قيادة اللواء تبعت قوات تضربكم بالنار .. صرخت فيه بعد ان فاض الكيل بى .. ابعت القرف اللى انت عايزه وانا حابلغ جمال عبدالناصر انك بتدمر الروح القتاليه لنا كلنا انت قائد مقرف وفاشل .. زغر لى الرجل بعيونه الصفراء قائلا: ينهارك اسود انت عارف بتقول ايه؟ .. اجبته انا عارف باقول ايه وانا وانت قدام المحكمة العسكرية ومعايا اربعين عسكرى وصف ضابط شاهدين على كلامك الخالى من اللياقة العسكرية وسبهم اثناء الحرب باقذع الشتائم مخالفا القوانين العسكرية وسوف نذهب للمحكمه مع بعض ونرمى بالنيران مع بعض .. ايوه انت بتشتم جمال عبدالناصر”تذكرت حديث رجال هيئة قناة السويس” اسرع الرجل عائداً الى مقر قيادته ثم حضر بعد قليل الطبيب قائلاً خير القائد بيقول انك تعبان وبتهلوس .. اجتمع جنودى حولى امام الطبيب مؤكدين ان القائد سبهم وانه سب الرئيس وانهم سيتوجهون لقائد الفرقة او الجيش تظلما .. انقلبت الكتيبة راسا على عقب وتحورت الاشاعات بان جنود سرية الهاون شتموا قائدهم واخرين بانهم حاولوا ضربه ولكن الجندى المراسلة تلقى الضربة وهذا هو سبب اصابته وجاء ضابط الامن للتعرف على الاخبار لتوصيلها الى قيادة اللواء .. كل هذا تم فى النهار الثالث لاحتلالنا هذا المكان ونحن ننتظر الليل بخوف ورعب.

      تدخل فى الامر الرائد/ سعد يونس وهو رئيس عمليات الكتيبة وهو رجل شهم بمعنى الكلمة ومن مواليد السيدة زينب وتشرب منهم جدعنة ابناء البلد .. جاء الرجل يستوضح ما سبب هياج القائد .. قصصت عليه ما جرى والرجل يضحك مما قلته ثم قال هوه صحيح شتم جمال عبدالناصر صرح بعض الجنود خلفى قائلين ايوه يافندم .. ضرب الرجل كفا على كف ويقول “داهية امه سوده” كان شتم مصر كلها مكنش حد قاله حاجه .. بصوا “اكفوا على الخبر ماجور وانا حاحل كل حاجه معاه” .. المهم ايه اللى خلاكم تضربوا العسكرى بتاعة وتبطحوه .. الواد دمه سايح والدكتور اداله كام غرزه فى فروة راسه .. اصلنا كنا عايزين نتصل بيكم والخط مش شغال .. حضر ضابط الاشارة ليخبر رئيس العمليات بان ربعمائة متر من اسلاك خط تليفون سرية الهاون مقطوع ولاينفع معه الاصلاح .. قالها الرجل بصراحته المعهوده .. يخرب بيت اهاليكم .. عملتم كده ليه؟ .. تشجع احد ضباط الصف (محامى بالتامينات الاجتماعية) قائلا يافندم .. قص عليه القصة والرجل ضاحكا مما يقال فلم يسمع احدا ان عفاريت خرجت بجبهة القتال لتخيف الجنود .. قائلا انه من الاعيب اليهود .. ولكن الجميع اكدوا للرجل ما قاله زميلهم.

     اعد لى الجنود حفرة اسفل رصيف السكة الحديد بعيداً عن هذا المنزل المخيف وبعيداً عن ضربات الدبابات واسدلت على تلك الحفرة ستارة من مشمع فرش المخصص للجنود بدلا من الباب لاتقاء الضؤ نهاراً والهواء والبرد ليلاً .. دخلت الى فرشتى الجديدة يراودنى شعور باننى ساقضى ليلة هانئة .. وخفضت من نور اللمبة بعد ان تأكدت من وجود جنديين خدمة امام مخبئى هذا ورحت فى نوم عميق .. استيقظت على شىء ثقيل الوزن للغاية فوق ساقى وانا نائم وانا اشعر ان عظامى ستتكسر .. افقت من نومى وفتحت ضؤ اللمبة لاشاهد شيئا مرعبا .. حيوان مثل الامس جاثم على ساقى راقداً عليهما مثل رقود القط وهو ناظرا الى بعيونه اللامعة والمسافة بين وجهى وراسه لاتتعدى شبراً احاول ان اصرخ او استغيث ولكن صوتى وقف فى حلقى مثل الكوابيس التى تهاجمنا فى بعض الحالات والانسان يتعرض لخطر ما يريد الاستغاثة فلا يمكنه .. هذا ما حدث لى واخيراً استجمعت ارادتى خاصة اننى لا استطيع تحريك ساقى من هذا الحمل الثقيل وصرخت بكل رعب “بس .. بس .. بس” دون جدوى ومازال ناظرا الى بحجمه الضخم وشكله الغريب والذى لم اشاهده قبلا سوى الليلة السابقة لكنه هذه المرة بلون مخالف .. وبكل قوتى ضربته ولم اشعر الا وكاننى ضربت حائطا صلبا صارخا من الالم وسمعت صوت ارتطام بالخارج هرع الى الجنديان مستفسرين عن سبب صراخى وسالتهم الم تشاهدوا شيئا بالخارج فاجابا بانهم شاهداً شيئا كبير الحجم اسمر اللون يجرى .. سالتهم ما حجمه؟ اجابا لانعرف ولكنه وقف امامنا ثم شاهدناه يرتفع ويتمدد ولهذا غلبنا الخوف ونحن نسمع استغاثتك ولانستطيع الحركة..

     ايقنت اننا هالكون قبل دخول الحرب وعلى راى احد الجنود والله يافندم الحاجات اللى بتحصل معانا لومضرتناشى على الاقل حتمنعنا من الخلف لما نجوز .. لم يغمض لى جفن وانا جالس لا اعرف ماذا افعل والقائد غاضب علينا وحذرنا باننا نتعامل مع العدو ونخيف الجنود .. ماذا افعل فى هذا العدو الغامض؟.. ظهر ضؤ الصباح وحضر الطبيب بعد ان علم اننى اصبت امس وان كف يدى اليمنى يؤلمنى .. كان الورم كبيرا فى يدى والالم شديد من الضربة الى احدثتها بهذا الكائن الغريب .. تشخيص الطبيب الم فى مفصل الكف الايمن .. والعلاج المستشفى وقد رفض القائد متعللاً بعدم وجود بديل ولينتظر اسبوعا الى ان يعود النقيب فاروق من القاهرة بعد نهاية فرقته .. احضر الطبيب شريط لفه حول معصمى واشيع بين جنودى ان احد تلك الاشباح هاجمت الظابط فتشاجرت معه واخيرا تسبب فى هذا الحادث .. ارتعد الجنود .. فهذه اول خسائرنا من تلك الاشباح.

   نهاراً اقف فى وسط الموقع والجنود حولى كل يحدثنى ويتنبأ بما سوف يلم بنا لاحقا واذا بنا نشاهد حيوان الامس واقفا على ربوة عالية قريبا منا ويحرك راسه يمينا ويساراً ويحرك اقدامه فى الرمال كانه يبحث عن شىء اسرع اليه الجنود بالعصى والكواريك يحاولون الفتك به ولكنه اختفى فى مكانه بدون ان يجرى هنا او هناك.

      وقفنا نرثى لحالنا امام تلك الظاهرة الاكبر منا قوة .. اخيرا استنهضتهم قائلا: ماذا كان يبحث هذا الحيوان فى تلك المنطقة .. احفروا لنرى ما يكون .. تخوفوا اول الامر .. ولكن الجندى “المنوفى” وهذا لقبه الاخير كان شجاعا قوي البنية احضر الكوريك ليحفر امامنا بهدؤ وبعد حوالى قدم فى عمق الرمال توقف الكوريك قائلا: يا افندم فيه حاجه بتصد فى الكوريك .. انا خايف وهبط من المرتفع .. كل ينظر الى الاخر .. تشجع عيد الصغير وهو من ابناء المدبح ويعمل جزارا وبمجرد ان حفر قليلاً  انهار هذا المرتفع من الرمال لنرى مالم نراه فى حياتنا قبل هذا .. زراع بشرية مفرودة ترتدى افرولا .. تشجع الجميع للحفر ولنعثر على ثلاث جثث كاملة الوصف سليمة الاجزاء بدون رائحة ان لم اقل ان رائحتهم طيبة قريبة من رائحة ماء الورد .. انهمكنا فى ازالة الرمال عليهم .. انظر ومعى الجنود الان وثلاث جثث ممدين امامنا كانهم توفوا منذ ساعات قليلة .. لم يزد عليهم سوى عفرة الرمال .. احدهم مصاب بشظية فى بطنه والدماء سالت منه .. لمست الدماء شبه متجلطة اى قريبة الملمس من المربى .. وآخر بعض شعيرات سقطت من راسه .. اما الثالث فهو كامل .. امرت كل جنديان يرفعان احد الشهداء .. كانهم يرفعون شخصا نائما وجسده مرن ومثنى من اثر هذه الرفعة .. ذهب احد جنودى ليحصل عن اى معلومات عنهم من رجال هيئة القناة .. اجابوا بان هؤلاء الشهداء الثلاثة استشهدوا يوم 15/7/1967ونحن الان فى بداية شهر مارس من عام 1969 اى مايقرب من عشرين شهراً اى من حوالى ستمائة يوم ثلاث جثث مدفونه لنستخرجها سليمة معافة..

     اقترح ضابط صف يعمل مهندسا زراعيا فى حياته المدنيه بان ندفنهم فى مكان يليق بهم ونقدر ما قاموا به للبلد وهم الذين تصدوا لطائرات العدو واسقطوا احدى طائراته كما قال عمال الهيئة وجاءت طائرة اخرى لينالوا الشهادة .. ظل هذا الحدث امامى ما يقرب من ثمانية وثلاثون عاما واريد معرفة سببه فاذا كان شهادة فلقد شاهدت الشهداء فى سيناء منتفخى الجثة وبعضهم خرجت روائح تعفنهم الكريهة حتى تقابلت مع عالم جليل واخبرنى بان الشهادة درجات واعظمها من تصدى للعدو مجابها له وليس مدبرا .. لذا فهؤلاء الشهداء من اعلا طبقة وحرم الله على الارض ان تأكل اجسادهم مثل النبيين والصديقيين.

   اقمنا لهم مقبرة على مستوى عال اعدت من الواح محطة السكة الحديد الاسمنتية واقيم حولها سلك شائك وزرع به بعض النباتات المتطفلة .. ومنذ تلك اللحظة لم نسمع الخبط والضرب وزال الخوف عنا ولم نتعرض لشىء بعد هذا .. وتقابلت مع قائد السرية التى استلمنا موقعه واخبرته بقصتنا فضحك قائلا : خشيت ان اخبركما بتلك القصة فتهزؤا منا كما حدث مع الذين كانوا قبلنا وهزئنا منهم

     حضر قائد الكتيبة ليطيب خاطر الجنود بعد ان تأكد الرجل باننا لانهلوث ولم نفقد عقولنا ثم شاهد القبر وسعد به وما قص عليه من رواية الشهداء التى لم تتحلل جثثهم بعد عشرين شهرا ثم اشتم رائحة طيبة فاتجه الى مقبرتهم قاطفا بعض تلك الزهور البرية معتقدا ان تلك الرائحة الجميلة هى من تلك الزهور ولكن تلك رائحة الشهداء بالجنة والتى كانت خليطا من زهر الموالح والياسمين .. كانت تجربة غريبة علينا جميعا شاهدناها وعاصرناها واتذكر فى عام 1994 قبل سفرى الى الولايات المتحدة ان اخبرت زوجتى وابنائى بتلك القصة الغريبة فرغبوا ان يشاهدوا المكان ورافقتهم اليه ومستفسراً من عمال السكة الحديد عن الشهداء فافادونا بانهم مازالوا فى امان ونخرج لقرأة الفاتحة على ارواحهم بعد ان ابلغهم بعض عمال الهيئة السابقون بقصتهم سواء شهادتهم اوبقاء اجسادهم سليمة محرمة على الارض لا تقتربهم  وسبحان من له الدوام.

      بعد هذا الحدث الجلل الغريب على شباب صغير فى موقع القتال وما آل اليه حال من سبقونا متذكرين قول الحق حيث قال فى كتابه الكريم :بسم الله الرحمن الرحيم )

مِنْ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً (23)      صدق الله العظيم

 واصلنا التدريب والاستعداد لاى معركة مع العدو .. وصل النقيب فاروق الى السرية بعد انتهاء دورته التدريبية بالقاهرة .. وبعدها بعدة ايام اخبرتنى قيادة الكتيبة باننى مطلوب صباح الغد الى ادارة المحاكم العسكرية فى باب “تلاته” بالعباسية على ان اتواجد قبل الحادية عشرة .. لم اعلم السبب وبعض زملائى الذى علم بالخبر يستفسر منى ماذا فعلت وكيف تذهب الى المحكمة العسكرية ولو كان السبب من قائد الكتيبة فلابد من ان يسبق هذا مجلس تحقيق واعلم به .. قبل الفجر اتجهت الى الاسماعيلية بلورى المياه ثم الى محطة نفيشة للقطارات لان القطارات تتحرك من هناك حماية من ضرب العدو لها .. القطار الحربى متجها الى القاهرة وانا شارد الفكر عن هذا الاستدعاء للمحكمة واواسى نفسى بانها موته والا اتنين .. وصلت الساعة العاشرة الى المحكمة العسكرية وقدمت نفسى وقابلنى رائد من النيابة العسكرية ولاحظ حالتى وتوترى فطمأننى بانه لا شىء على وكل المطلوب منك هو الشهادة الحق امام هيئة المحكمة فى محاكمة الرائد/احمد …..وما حدث منه منذ اقل من عامين معك ومع جنودك فى محطة الكاب بعد عودتكم من سيناء .. تذكرت هذا الحدث المؤلم الذى تناسيته بمرور الوقت ومانحن فيه من تدريب وتحركات عسكرية لاتنتهى واشغلتنى عن هذا الموضوع.

    جلست فى الاستراحة حتى يقترب موعد الجلسة المستدعى فيها للشهادة واطمأنت نفسى بعض الشىء فالحمد لله لست متهما  بل شاهداً وتذكرت تلك الحادثة وشريط ذكريات يجرى امام عينى عما لاقيته وجنودى الاربعة على يد هذا الضابط العنيف المتغطرس هو ومعاونيه.

      ارسل ممثل النيابة العسكرية احد جنوده لاستدعائى لداخل المحكمة حيث القضاة العسكرين فى اماكنهم والرائد ممثل النيابة العسكرية موجود وبدأت الجلسة بسرد وقائع الحدث وما اقترفه المتهم(الرائد/احمد…..) فى حق الوطن والمسئول الاول عن القوات المسلحة وما قام به هو ومعه (….يذكر اسماء معاونيه…) ثم تعديهم بالسب والضرب على الملازم اسامه الصادق والجنود(….يذكر اسمائهم…) وشهادة الشهود(يذكر اسمائهم .. وغالبيتهم من عمال هيئة قناة السويس .. ثم يذكر اسمى بوجودى بالجلسة للشهادة).

     انظر يمينا ويسارا فاشاهد الضابط المتهم ومعاونيه خلف القفص الحديدى وبالقاعة بعض الوجوه التى شاهدتها قبل ذلك ولكننى لم اتذكرهم ولكن اهم ما لفت نظرى هو مندوب الاتحاد الاشتراكى الذى لازمنى حتى بورسيعد .. القاضى يطلب شهادة الشهود وبدا بى كشاهد ومجنى عليه وطلب رواية ما حدث فاخبرته بكل شىء اتذكره .. هنا سألنى القاضى .. اسمعته وهو يسب زعيم البلد؟ .. نفيت هذا باننى لم اسمع تلك العبارات .. طلب منى الجلوس ثم توالى الشهود امامه والذين ايدوا ما قلته ولكن زادوا عليه انه سب زعيم البلد امامهم  استفسر منهم القاضى بان الشاهد” وذكر اسمى” نفى علمه وسماعه بتلك الاهانات .. وقد فسروها بان الشاهد كان شبه مغمى عليه من الضرب الذى لحق به وبجنوده .. الرائد / احمد … صارخا حرام عليكم الكذب .. الله ينتقم منكم .. والمحكمة تطلب منه الصمت.

     انتهت الجلسة بعد ساعتين وراحة نصف ساعة ثم العودة للانعقاد والنطق بالحكم .. اشار لى الرائد احمد….بان اقترب من قفص المتهمين .. توجهت اليه صافحنى شاكرا مرؤتى بعدم الشهادة الزور ضده معتزراً عما بدر منه ومن معاونيه ضدى وضد جنودى معربا لى انه دائما ما يشعر بوخز الضمير كلما تذكر هذا الحادث مؤكداً لى انه يعلم بانه سيلقى عقوبة قاسية لان اسم الرئيس زج فى المحضر والمحكمة..

     عادت هيئة المحكمة للانعقاد والتى اصدرت حكمها “بالاستغناء عن خدمات الرائد/احمد…. والمعاونين الفصل من الخدمة ” وفى تفسير الحكم ان المتهم الاول قد اساء الى رمز الدولة وما كان يجب عليه التصرف هكذا حانثا فى قسمه يوم ان اصبح ضابطا بان يعمل للمحافظة على النظام الجمهورى ومحافظا على الدستور والقانون ثم ياتى ويوجه بعض الكلمات التى لاتليق بشخص الزعيم والقائد الاعلى للقوات المسلحة فى زمن الحرب كما ان المحكمة  استخدمت معه الرأفة لصغر سنه ورتبته .. رفعت الجلسة .. خرجنا من المحكمة والتف حولى موظفى الهيئة ومندوب الاتحاد الاشتراكى مهنئيننى على الحكم وانا ناظرا اليهم بدهشة قائلا الحكم لم يتطرق الينا من بعيد او قريب .. ضحكوا وهم يؤيدوننى قائلين ولهذا السبب فكرنا فى ان ننقل جرمه الى المستوى الاعلى حتى تأخذوا حقكم من طريق آخر.

 

 معارك مع العـــدو

 

     انه بداية شهر مارس من عام 1969 ولازلنا بموقعنا فى الفردان وعُدت منذ اسبوعان بعد حضور محاكمة الرائد/احمـــد ومعاونيه وما لاقوه من احكام قاسية وفقد كل واحد منهم وظيفته بدون ان يحصل على اى تعويض مادى او خلافة ونتابنى شعور بالحزن عليهم وخاصة هذا الضابط وكنت اتخيل نفسى مكانه رغم اننى لم اكن المتسبب الرئيسى فيما لاقوه من احكام ولكنها صحوة الانسان المصرى الذى يرفع صوته صارخا ولكنه فى النهاية يقول دعهم “يأكلوا عيش” هذا ما تعود عليه الشعب المصرى المتسامح فى حقه وحقوق الاخرين بانهم لايرضون الاهانة والظلم للاخرين وكانت هذه سمتى ايضا .. لعنت هذا اليوم الذى حضرت فيها المحاكمة ورفضت مجرد زيارة اسرتى الثانية ولقاء امى وداد ورغم اننى كنت راغبا فى مقابلتها والارتماء على صدرها باكيا مما سمعته فى هذا اليوم التعيس ولم اشعر بالتشفى فى هؤلاء الخمسة الذين اهانونا اهانة كبيرة بعد اربعة اسابيع مؤلمة فى سيناء كنا نصارع فيها الموت ليس كل يوم بل كل لحظة سواء من الاعداء او من الطبيعة القاسية واهمالنا بدون رعاية وعون وشاهدت نتائج هذا الثنائى الظالم العدو والطبيعة فى الاجساد الملقاة فى العراء بدون حياة ممزقة من قنابلهم او جوعا وعطشا ولهذا رفضت ان اذهب لعائلتى الرقيقة وابكى امامهم مما سمعته من منطوق الحكم فسوف ابدو ضعيفا وكان يعترينى البكاء فى اى لحظة ولهذا تماسكت حتى عُدت الى وحدتى وانفردت بنفسى باكيا كل تلك الاحداث داعيا الله بان يشملهم بعطفه وان يعوضهم بعض ما لحق بهم من جزاء من اجل عائلاتهم ومحبيهم.

     اليوم السابع من مارس من هذا العام واخبرنى النقيب فاروق متولى بان اتحرك بجنودى ومدافعى الى تبة الفردان فى آخر ضؤ للموقع التبادلى لاحتمال الاشتباك مع العدو وقد زودته مدفعية اللواء باهداف مطلوب منا قصفها بالذخيرة الحية من نوع شديد الانفجار .. التبة فى مواجهة كوبرى الفردان مباشرة وهذا المكان هو الحد الايمن لكتيبتنا وكان على الجانب الايمن لنا الكتيبة رقم 537 من نفس اللواء وتحتل الموقع رقم “6″ وهى منطقة معروفة بالاسماعيلية وبها مستشفى معروف للان بهذا الاسم .. المسافة ثلاثة كيلومترات سنقطعها الى هناك سيراً على الاقدام حاملين مدافعنا اما الذخيرة فهى موجودة منذ استلمنا موقعنا من الوحدة السابقة وكل فترة ارسل بجنديين لمتابعتها والتأكد من سلامتها .. المكان تكون من الكثبان الرملية الدقيقة التى تشبه الغبار فاقل رياح تثيرها .. تحركنا الى تلك التبة واعددنا كل شىء لزوم هذا الاشتباك الفعلى مع العدو للمرة الاولى لوحدتنا .

      الطقس شديد البرودة وخاصة بالليل فلا زلنا فى الشتاء رغم ان مارس يعتبره البعض بداية الربيع ولكن فى اجواء الصحراء يكون له احساس آخر وهى لسعة البرد التى تجمد الاطراف ولهذا زودنا جميعا بملابسنا الثقيلة حتى نتقى البرودة ليلا وصدر الامر الى بواسطة التليفون الميدانى بالاستعداد بالاهداف “ارقام……., …..,…….” للضرب.

      بمجرد ان وصل الامر الينا بالضرب لتعزف مدافعنا لحن نحن المصريين مستعدين  ونحن نقوم بدك مواقع واسلحة العدو واستمرت وحدات المدفعية الثقيلة والمتوسطة المدى فى قصفها وكان سلاحنا بالسرية هو اقل عيار فى اسلحة المدفعية واقصى مدى له ثلاثة كيلومترات ولكنه فعال اذا احكمت ادارة النيران .. انه قائد السرية النقيب فاروق متولى الذى يدير نيران السرية هذا الرجل البارع الشجاع الذى لم يكن يهاب الاصابة يقف فى مركز ملاحظته شديد البأس ليصحح باجهزته ومعاونيه من جماعة ادارة النيران ومعه الجندى مؤهلات حسين سامى السيد الحاد البصر والدقيق فى تقدير المسافة ويرافقه العريف مؤهلات سعد معروف على اجهزة الابصار ليحدد موقع تساقط قنابلنا ليقوم قائد السرية بتصحيحها .. استمرت المعركة بالنسبة لنا ساعتين وكل اهدافنا دمرت عن آخرها ولكن المدفعية الثقيلة مازالت تقوم بعملها الى وقت متأخر من الليل ليأتى الصباح على هدؤ تام على جبهتنا وقد دُمرت معدات ادارية واسلحة للعدو لا اعرف مقدارها ولكنه كان من المعلوم ان الاعداء لحقت بهم خسائر كبيرة فى الافراد والمعدات مما اغاظهم واثار مضاجعهم .. مازلنا فى موقعنا يغالبنا الارهاق والنعاس رغم اننا بالنهار وفجأة حوالى التاسعة صباحا اشاهد صواريخهم الموجهة تضرب بكل قوة موقع اليمين نمرة ستة والانفجارات تتوالى قريبة منا واستمر تبادل القصف معهم من الاسلحة الثقيلة .. فى الظهيرة امرنا بان نعود الى موقعنا الرئيسى فعدنا مرهقين مما الم بنا من مجهود ولم يبادلنا العدو القصف ولكننا علمنا بان الفريق عبد المنعم رياض رئيس هيئة اركان حرب القوات المسلحة قد نال الشهادة فى موقع نمرة ستة وكان اثنائها يتفقد قواتنا على الجبهة واصيب معه كلا من قائدالجيش الثانى اللواء عدلى وقائد الكتيبة المقدم ليون مسعد تادرس لقد فقدت القوات المسلحة الرجل الاول بها فهذا المنصب هو ارفع منصب بالقوات المسلحة رغم انه يلى وزير الحربية ولكن الوزير هو فى المقام الاول منصب سياسى لكن القيادة الفعلية فى العمليات كانت تخص رئاسة الاركان .. شملنا الحزن بعد ان فرحنا بما اصاب العدو ولكن كل نفس زائقة الموت واستشهد القائد بين جنوده على الخطوط الامامية وماله من شرف له ولنا ان تكون قيادتنا التنفيذية الاولى بتلك المكانة والشجاعة .. سعدت ايما سعادة بمهارة قائد السرية وادارته للنيران وبرود اعصابه واعتبرتها درسا مستفادا لنا جميعا وكنت اركز على هذا الشرف الذى يستحقه الرجل نظرا لضيق بعض جنودى من اهانتهم لهم ولكن تطور بعد هذا الى ان يتقبلوها بروح الدعابة لما يصاحبها من كلمات جادة ولكنها تدخل الفرح والسرورعليهم وهكذا اصبحنا وحدة مقاتلة ونجحنا فى اول اختبار فعلى مع العدو ورفع هذا من روحنا المعنوية تاركين المزايدات التى تحدث احيانا بين المصريين بأن هذا احسن وذاك افضل وما المانع بان يكون العديد امتياز وان يصبح الكثيرين شجعانا فهذا اجدى لنا بان نزيد من اعداد النابغين والمتوفوقين فى اعمالهم وخاصة فى الحروب .. ان الحروب ليست قاصرة على شخص ما .. واعود بذاكرتى للقائد الفذ خالد بن الوليد الذى كان يكتسح الجيوش المعادية امامه ويعترف رسولنا الكريم بانه سيف الله المسلول وفى عهد الخليفة الفاروق عمر ينحيه جانبا لشعوره بان كل معركة يريد المسلمون ان يتولى القيادة خالد فيعفيه ويعين آخرين لينتصروا ويبرهن لهم بان الانتصار ليس قاصراً على شخص معين فاذا انتهى وقضى نحبه نصبح ازلاء غير قادرين على الحرب .. لك الله ياعمر يا ماكنت تعلم مافى المستقبل بالهام من الله عز وجل

     حصلت على اجازتى الميدانية بعد تلك المعركة باسبوع وشعرت بمدى فرحة الناس بان لهم جيشا يستطيع التعارك مع العدو على قدم وساق .. قضيت نصفها مع عائلتى بالزقازيق والنصف الاخر مع عائلتى الحبيبة بالقاهرة وحصلت على حبهم وعطفهم ومودتهم التى كانوا يقابلوننى بها مثل ما احصل عليها من عائلتى ببلدتى ولكن كان يزيد عنها هو امكانياتهم المادية التى يعيشون فى كنفها وثانيا وهو الاهم القلب وما يريد فكانت حواسى تستعجلنى بان اصل اليهم لأشعر بكل حب اموى واخوى وانسانى عاطفى من علا .. انها التى كانت تقراء افكارى وتعلم مدى رغبتى فى التنزه والتحدث وسماع الموسيقى والاغانى .. انها توئم احساساى وتعلم ما هو الجزاء لشخص مثلى يعيش فى جبهة القتال ستة وعشرين يوما واعودهم يومان كل شهر فيحيط الاربعة بى كل يريد مكافئتى بما استحق وحسب درجة القرابة بينى وبينهم .. فماما وداد تعاملنى كأمى وتزيد واخى مدحت هو الاكبر والذى ينظر الى هذا الاخ بكل حب الاكبر الى الاصغر مغدقا على حُبه ونصائحه اما دينا فهى تكيل المشاغبات والضحكات لتعوضنى عن ايام بعدى عنهم وايام شقائى بجبهة القتال اما علا فهى كل شىء لى لا استطيع رد رغبة لها ولا نزهة معها ولاهدية ..       

      نهاية نفس العام انتقلنا الى موقع آخر وهى القنطرة غرب .. اى نعيش بداخل مدينة مهجورة من سكانها .. موقعى فى مدخل المدينة مباشرة بطريق متفرع من طريق الاسماعيلية بورسعيد وبعد عبور “سينما شطا” نجد المدخل الرئيسى للمدينة وكان هناك مدخل آخر جديد وحديث عريض شمال هذا المدخل ولكن لم يتم الانتهاء منه قبل الحرب .. كان واضحا من شرح قائد السرية التى ستغادر الموقع ونقوم نحن باحتلاله انهم يقومون باشتباكات مستمرة بقوات العدو لوجود تركيز لقواتهم بمدينة القنطرة شرق المواجهه لمدينة القنطرة غرب .. كان باديا ذلك من الانفجارت المتبقية أثارها حول الموقع .. زودنا بكل الاهداف وبياناتها كما هو متبع وتسلمنا ذخيرتهم لانها ذخيرة موقع اى انه فى التحركات نترك خلالها الذخائر ويتم تسليم وتسلم بين الوحدات .. الموقع يقع فى حديقة منزل بمساحة لاتقل عن نصف فدان تكثر بها اشجار الخوخ والرمان والتين وكان باديا على صاحب الحديقة اعجابه بالفواكه .. خلف هذا الموقع يوجد مبنى مكون من اربعة طوابق وكان مستأجرا من صاحبه وتقيم به وحدة مخابرات من خفر السواحل تراقب العدو وترسل بمعلوماتها لقيادتها وقيادة الجيش .. امام الموقع بعض عمارات قصيرة الارتفاع ثم مبنى بلدية القنطرة ثم عمارتين سكنيتين من المساكن الشعبية .. الاولى اى التى جهة العدو فارغة نظراً لقصف العدو لها باستمرار اما الثانية فكانت بها مركز ملاحظة سرية الهاون والفاصل بينى وبين الملاحظة حوالى ثلاثمائة متر والاتصال بيننا عبر خطوط التليفون الميدانى  .. خلف سريتى بمائتى متر توجد فصيلة دبابات تابعة لكتيبة دبابات اللواء وبها ضابطين .. قائد السرية وهو الملازم اول حسام ناصر وزميله ملازم اول احتياط محمود خميس السيد .. لم يمض يوم واحد وشعر العدو بانه حدث غيار بين الوحدة القديمة ووحدة جديدة فاراد ان يرسل بتحيته الينا فقصفنا بقصفات متتالية بقنابل شديدة الانفجار والفسفورى ليلاً .. اضطربنا فى تلك الليلة واختبئنا خشية الاصابات فالمنطقة جديدة علينا ولاول مرة نقصف اما فى الفردان كنا البادئين بالقصف ونشاهد اشتعال نيران وحرائق لم نعهدها فى الذخيرة التى معنا .. فكل ما نملكه من انواع الذخيرة ثلاثة انواع(ش/ف…دخان…مضىء) ولكن لم نكن نعلم ان العدو يمتلك هذا النوع وكان يجب تعرفينا بهذا حتى لانضطرب .. جرس التليفون عندى يدق واجبته فاذا هو قائد السرية يستفسر عن احوالنا وانا اخبره انى للان لم اتمم على وحدتى ويستعجلنى لان قيادة الكتيبة تريد ابلاغ قيادة اللواء بنتيجة القصف ويطلب منى ان اتوجه للجنود للاستفسار عن حالتهم وانا اخبره بدورى ان القصف مازال مستمراً ولا ائمن على نفسى من الاصابة لانه قصف عشوائى يحيط بالموقع كله وطال الطريق الاسفلت الذى سوف اسير عليه للتوجه لجنودى  انتهى القصف وتأكدت انه والحمدلله لم يصاب احد بسؤ ولكن الاضطراب مازال يلازمنا لانها المرة الاولى .. اعاد قائد السرية الاتصال والاستعداد للرد على العدو وضربه بالهدف رقم(…) وابلغنى برقم الهدف .. حدث هرج ومرج بين جنود سريتى والسبب كان واضحا لى انها المرة الاولى للاشتباك الليلى معهم فلم نشتبك ليلا الا مرة واحدة وقد اعددنا كل شىء قبل الاشتباك اما الان مطلوب منا الاشتباك .. لابد من اضاءة فانوس يعمل بالجاز او السولار وهو من الصاج الاسود والذى يمنع الاضاءة الا فى شريط رفيع يسمى خط الشعرة يصوب كل مدفع على عمود من الحديد ومعلق عليه الفانوس ليعلم كل مدفع اين عمود تصويبه .. الفوانيس تحتاج جاز ونبحث عن الجاز وبعد العثور عليه وتعمير الفوانيس فانها تحتاج لاشعال ونطلب من المدخنين ان يشعلوا الفوانيس بين الرياح التى لاتساعد على الاشعال وبعد ان تم كل شىء ربطت زوايا الهدف وتم ضرب اول قنبله بالمدفع الاول ويسمى”بهاون الاساس” ثم يقوم قائد السرية فى مركز ملاحظته بضبط الضرب حتى يتأكد بان كل شىء جاهز فيبدأ الضرب بباقى المدافع الستة دفعات مابين خمسة قنابل الى عشرة حسب الهدف .. نسمع اصوات قنابلنا تنفجر شرقا ونحن سعداء بانهم الان اما ينامون خوفا مثلنا او يصابون من جراء هذا القصف .. انتهى الضرب ونحن اشد عوداً وقوة ولكن بعد منتصف الليل اعاد العدو القصف واعاد قائد السرية الاتصال ولنبدأ بقذف الهدف رقم …. نعيد الكرة ولكننا كنا احسن حالا وتماسكا عن حالنا اول مرة فى اليوم التالى معلومات الاستطلاع تفيد انه لاخسائر لدى العدو.. كنت فى حالة ضيق مما نحن فيه وانا اندهش انه فى منتصف القرن العشرين ومازال الرووس يرسلون لنا باشياء قديمه وهل من المعقول انه لكى نقوم بالضرب نشعل فانوس يعمل بالجاز .. فى اول اجازة ميدانية من القنطرة وكانت فى سبتمبر 69 وانا فى الزقازيق شاهدت يد مقشه خشب فى منزلنا فشعرت ان تلك اليد تفيد كعمود تصويب للمدفع ولكن المشكلة ليست فى العمود وانما المشكلة فى الفانوس الذى يضاء بالكيروسين .. هرولت بيد المقشة الى نجار قريب من منزل والدى واعرفه ويعرفنى وطلبت منه عمل فتحة فى الخشبة من جهة طرفها “مثل الكوسة المقوره” بشنيور يدوى فعلها الرجل لكنى شعرت انها ضيقة وضعت بها قلمه الرصاص الذى يستخدمه فلم تدخل .. كانت فكرتى ان نقيم فتحة من اعلا ونضع به لمبة كشاف ونعمل به خط شعرة ونضع خلف تلك اللمبة “بطارية جافة” من المستخدمة فى تشغيل الراديو ترانزستور .. ساعة الاستخدام يندفع احد الجنود بالضغط على قطعة كاوتش باعلا العمود فيندفع مسمار صغير ليصل الدائرة فتضىء اللمبة وهنا يظهر خط الشعرة وبعد الانتها نعكس ما قام به الجندى حفاظا على الطاقة .. طلب منى الرجل ان اشرح له فكرة ما اريده شرحتها له فقال ان يد المقشة ذات قطر صغير واحضر عمود خشبى قطرة اكبر واقام الفتحة وخط الشعرة وجرب الحجر فوجدته على مايرام شكرته مستفسراً عن الثمن ولكنه رفض قائلا طالما انها لخدمة الجيش والحرب لن احصل على مليما طلبت منه ولو التكلفة ولكنه رفض ان يحصل على اى عائد مادى شكرته وانصرفت وعدت بهذا الاختراع البسيط الى سريتى وعرضته على جنودى وجربته ليلاً فكان فعالا سريعا الى اقصى درجة قليل المجهود .. فى اول اشتباك نفذنا استخدامه وكان محط اعجابهم وطلبوا مثله فارسلت احد الجنود الى هذا النجار الوطنى فاعد عشرة قطع حتى اذا كسر عمود من شظية يكون لدينا احتياط منه واشترى كل ما يحتاجه هذا العمود وطبقت على المدافع السته واصبحنا لانهتم بمشكلة الفوانيس والغينا استخدامها..

    نجحت فى تلك الخطوة لكن خطوة الضرب والتأثير على العدو كانت وما تزال مشكلة فان قصفنا لم يوقع به خسائر واخبرنا جنود الاستطلاع بان هذا الحال مثل باقى السرايا التى كانت قبلنا .. كانت هناك مشكلة ما .. العدو يقصف والقنبلة تستمر مابين خمسين الى خمسة وخمسين ثانية فى الهواء الى ان تنفجر وبعدها ننتبه يكون كل مدفع قصف من ثمانية الى عشرة قنابل على قواتنا وازعجتنا جميعا ويحدث بعض الخسائر .. بعد ان نستعد يكون قد فك مدافعه وذهب الى الملجأ لينام فتصله قنابلنا بعد خمس دقائق على الاقل بعد ان يكون سعيداً داخل ملجاءه فلا يؤثر فيه القصف.

      جلست فوق سطح يشرف على موقعى ليلاً فشاهدت بالصدفة اضاءة خروج اول قنبلة من قنابل العدو وبسرعة امرت المدفع المواجه لى بالضرب عدة قنابل بدون انتظار اوامر من قيادة الكتيبة ففعل ذلك بسرعة .. لم يكمل العدو قصفه وبعد ان انهينا قصفنا ُبلغنا بان هناك بعض الاشخاص اصيبوا لدى اليهود .. آه لقد وجدتها كما قال آينشتين مع الفارق بيننا .. اذن على ضؤ المدافع الذى يظهر فى لحظة انطلاق القنابل يمكننا الضرب عليه مباشرة ونحن نملك الاهداف ومرصودة .. بمدينة القنطرة شرق توجد لليهود اربعة نقاط قوية كل نقطة خلفها موقع لمدافع الهاون ومحددة منا بدقة ولكننا كنا نضرب بعد فوات الاوان .. لهذا حددت المدافع على تلك النقاط .. كل مدفع مخصص له هدف وعلى الجانبين الايمن والايسر مدفع لاطلاق القنابل المضيئة لو طلب منا .. دربت حكمدارية المدافع على الاتجاهات ووضعت امامهم عدة عُصى مابين كل عصا والاخرى رقم المدفع الذى يقوم بالقذف .. خمس قنابل شديدة الانفجار متتالية .. لم اكن اتصور مدى نجاح تلك الفكرة التى انزلها الله على وما حدث لهم من خسائر لدرجة ان مدافع هاوناتهم صمتت لفترة طويلة واستمروا لفترة لايقذفوننا بتلك المدافع وخاصة ليلاً.

       شعرنا جميعا اننا محترفى هاون وكان هذا اكيد وليس خيالاً او ضربا من الثقة فكل المعلومات كانت تصلنا من القيادة اومن مركزمخابرات السواحل خلفنا والذى  يتابع كل شىء بشرق القناة تؤكد ذلك.

     فى كل اجازة “علا” تفاتحنى لماذا لم نتخذ حتى الان اية خطوة للارتباط وهى التى كانت تعتقد باننى ساكون البادىء والراغب فى بداية تلك العلاقة الرسمية لتتوج حبنا .. كانت تلك افكارى ايضا ولكنها تبخرت بمرور الايام ليس لعدم رغبة منى فى هذا ولكن لما شاهدته من خسائر وشهداء كثرت بهم الجبهة فى نهاية العام وبداية العام الجديد 70 .. اصبحت كثرة الضحايا تخيفنى ويرن فى اذنى كلمة شقيقها مدحت عندما رفض طلبى منذ عامين “لا اريد لاختى علا ان تصبح ارملة”  طغى هذا الهاجس على عقلى خاصة من الضربات المتبادلة والتى كان يغرقنا بها العدو وعلى الاخص على سريتى لدرجة ان بعض الوحدات التى كانت قادمة لمعاونة كتيبتنا سواء مدفعية او مدرعات تترك مواقعها بجوارنا خشية الاصابة وعلق احدهم قائلا “اسامة .. النبله اللى معاك دية عامل بيها دوشه وازعاج وبتخلى الملاعين اليهود يكسروا الدنيا حواليك .. انا حأجمع رجالتى وصواريخى واسيبلكم المكان .. موقعك ُشبهه ومشكلة” يقصد بالنبلة صغر حجم مدفع الهاون 82مم  قصير مسافة الرمى ثلاثة كيلومتر ..  اصبحنا دائما فى اشتباكات مما دفع  باليهود ان يطلقوا علينا مدافعهم الكبيرة من هاوتزرات عيار 105مم ,155مم وهى شديدة القوة وفى بعض الاحوال كانت تغير علينا طائراتهم وتقصفنا بل انهم احضروا وحدات صواريخ ارض /ارض موجه بسلك لضربنا وهرع الينا سلاح المهندسين باقامة شبكة من الاسلاك الشائكة لتفجر الصواريخ بعيداً عن موقعنا وقبل ان تصلنا.

   لا انسى هذا الشاب الجسور محمود خميس(ضابط المدرعات) وهو يهرع الينا برجاله بعد كل قصف للاطمئنان علينا ومساعدتنا ان كنا دفنا تحت هذا القصف المتتالى .. نحن فى حالة استعداد للضرب سواء من دقتنا فى ضربهم او من سعى قائد السرية بتصديق على طلب ذخيرة اكثر من المقرر للاشتباكات ويخبرنى تليفونيا استعد يابطل “حنلب اليهود علقه النهارده .. بس خللى بالك من عساكرك مش عايز خسائر” ونقوم باللبة وتعود على موقعى باللبات والسودانيات والبطيخات ولهذا بعد كل لبة من لبات قائد السرية نسرع تاركين الموقع منتشرين فى منازل المدينة حتى تنتهى البطيخات التى يهدوها إلينا ..

      قيادة مدفعية اللواء حولت كل ذخائر الهاونات بالكتائب الاخرى لسريتنا التى دائما فى حالة اشتباك مع العدو واصبحنا على درجة عالية من الدقة والسرعة فى رد اشتبكاتهم بل نحن البادئين اولا وغمر هذا قيادة الكتيبة بشعور قوى بان لديهم قوة ما للوقوف امام استفزازات العدو بتلك المنطقة التى تعتبر بكل المقاييس هى الاكبر قوة وعتادا نظرا لوجودها بمدينة وايضا اربعة نقاط قوية تمثل قاعدة كبيرة لهم فى تحركاتهم وعدوانهم على القوات المحيطة بنا وقواتنا.

   هذا هو شهر فبراير من عام 70 والاشتباكات تدور رحاها على الجبهة وفى قطاعنا مدينة القنطرة غرب اصبح الجميع يعلمون ان بها سرية هاون لاتمل من الاشتباكات مع العدو  فاعطى هذا انطباعا لقوات المشاه على خط القناة بان خلفهم قوة نيران مستأسدة وجاهزة للرد والدفاع عنهم وان جميع مواقع العدو الامامية القريبة من القناة وفى مرمى سلاحنا هى تحت سيطرتنا التامة ..

     ُكلفت السرية بان تحضر مرتبات الضباط والجنود عن هذا الشهر والنقيب فاروق متولى هو ضابط عظيم الصرف .. حضر الرجل بالمرتبات والاستمارات وناولها لى مكلفنى باتمام صرف تلك المرتبات لانه غدا فى الصباح يستحق اجازته الميدانية.. صباح اليوم التالى اتصل بى الرائد/ سعد يونس رئيس عمليات الكتيبة مؤكدا لى ان يتم صرف جميع المرتبات لجميع الافراد المتواجدين خلال ثمانية واربعين ساعة حسب التعليمات وانا بدورى اخبره بانى بمفردى بالسرية وماذا يحدث للاشتباكات فقال مازحا احنا مش بنبطل ضربهم واشتباكا معهم وانت فى محيط الكتيبة ويمكنك الرجوع مسرعاً الى موقعك ويفضل ان تتم الصرف ليلاً .. استلمت المبالغ واستمارات الصرف من النقيب فاروق قبل مغادرته فى الصباح وبدات بصرف مرتبات سريتى ثم الوحدات القريبة منى وقمت بجولة حتى العصر اتممت صرف نصف وحدات الكتيبة الفرعية وملحقاتها من الاسلحة المختلفة التى تعمل فى نطاق الكتيبة .. مساءا توجهت الى السرية الثانية والتى كانت يسار الكتيبة واتممت صرف فصيلتين وتبقى فصيلة فاخبرونى انها قريبة منهم بحوالى خمسمائة متر فى اتجاه منطقة الحرش وبينهم فاصل غير محتل نظراً لان طبيعة الارض لاتساعد بوضع قوات هناك استفسرت عن الطريق وهنا فوضح لى احد ضباط الصف بانه يمكننى بان اسلك طريق القناة ولكن فى الميول الخلفية لاكون بعيداً عن مراقبة العدو .. لم اكن قد شاهدت المنطقة من قبل فكل عملى هو فى الخلف اوفى مركز الملاحظة اثناء تواجد النقيب فاروق باجازة عدا ذلك فلم يكن هناك داعى للتجول فى ارجاء الكتيبة نظرا لانشغالنا دائما بالاشتباك مع العدو كما انى كنت من الضباط الذين لايرغبون بترك مواقعهم والتجول بزيارة هذا او ذاك فى موقعه .. سرت فى الاتجاه الذى ارشدنى اليه .. سرت دون ان انتبه الى وعورة المنطقة وانكشافها امام قوات العدو المتواجدة للمراقبة فى الشرق .. عن يمينى السكة الحديد والطريق الاسفلت وترعة صغيرة تصل مياه النيل الى مدينة بورسعيد وانا اسير قريبا من منطقة تكسوها الحشائش المرتفعة الجافة ومنظرها يخيف ليلاً واحمل معى مبالغ نقدية كثيرة وبمفردى وهذا ناتج من سؤ تصرفى وجهلى بتلك الامور التى لاينتبه اليها الضباط الاصاغر وهى تأمين انفسهم ضد مخاطر السرقة فمن الممكن ان يخرج على بعض الجنود ويصيبوننى ويحصلون على ما معى من مرتبات واكون انا ضحيتها واقدم للمحاكمة سواء بالسرقة او الاهمال .. على يسارى اشاهد مبانى متفرقة من طابق واحد وهى مهجورة ومظلمة .. وانا سائر افكر فى موعد اجازتى وماذا افعل والهدؤ يغلف المكان سمعت صوت كبسولة من كبسولات مدافع الهاون المعادية والتى احفظها عن ظهر قلب فايقنت ان العدو سيقوم باشتباك مع سريتى وانا بعيد عنهم وكيف ساصل لهم وانا على مسافة اكثر من ثلاث كيلومترات فقبل ان اصل يكون الاشتباك قد انتهى ولكن ماحدث هو شىء آخر اذ هوت القنبلة قريبة منى وهذا يعنى اننى ُكشفت وان العدو قد رصدنى فارتميت منبطحا على بطنى وتوالى القذف وكان مختلط بين شديد الانفجار والفوسفورى الذى اشعل الحشائش المحيطة بى واصبح الظلام نهاراً حاراً بفعل النيران وانا مازلت راقداً على هذا الوضع لا اعرف سبيلاً الى النجاة والتصرف وشعرت بان الشظايا تتناثر حولى لقد كان تصويبهم دقيقا والنيران مازالت مشتعلة والدخان اطبق على صدرى وكدت اختنق واشاهد على تلك الاضواء زواحف من كل نوع ما بين السحالى والثعابين هاربة من النيران وانا لا استطيع ان اقلدهم واتبعهم لأنه اثناء ذلك يدوى الرشاش نصف بوصة للعدو حولى من كل جهة ووقوفى يعنى ببساطة اننى اصبحت هدفا سهلاً لهم بدفعة واحدة سالقى حتفى .. ناجيت الله ان يرفع هذا الغضب عنى ولا اعلم هل استجاب الله لتوسلاتى وانا اتضرع اليه فى تلك المحنة الهالكة او ان السماء بالصدفة هى التى انزلت المطر ليطفىء النيران .. كان مطراً شديداً ومعروف عن تلك المناطق شدة امطارها سعدت بتلك الامطار التى هبطت لتطفىء نار حقدهم على المسلمين وكنت ارتدى افرولى ولم اعبىء وانتبه بان استتر بملابس ثقيلة ونحن فى الشتاء وقد خاننى الطقس عصر هذا اليوم اذا كان دافئا ولم التفت بانه قد يجن على الليل وانا خارج موقعى .. تركت مكانى مسرعا بعد ان انطفأت النيران ومازالت اثاره باقية من تصاعد الدخان واتجهت الى الجانب العكسى من العدو فى اتجاه المنازل الفارغة التى كانت على يسارى ولكننى للاسف فى غمرة الخوف والفزع وجهلى بالمنطقى اصطدمت بسلك شائك وقعت من سرعتى على الارض وسمعت طقة فى يدى اليمنى شعرت بان يدى كسرت وجرح فى فخذى مؤلم من السلك الشائك تحسسته فاذا الدماء غزيرة تندفع منه نهضت واقفا مستعينا بيدى اليسرى التى تحمل ملفات واستمارات الصرف وشنطة الخرائط موضوع بها المرتبات ومعها تلك الاستمارات وهذا ستر من الله  والا اتلفتها مياه المطر وقفت بصعوبة ولكن الرشاش نصف بوصه يلاحقنى وهنا شعرت باول خطورة حقيقية فلقد وقفت على لغم افراد سمعت الطرقة التى بعدها ان رفعت قدمى سوف ينفجر اللغم فأهلك لامحالة ممزقا جسدى الى قطع وقد يسقط جزء منه على لغم آخر فتتوالى الانفجارت جلست القرفصاء لاتحاشى الرشاش الذى مازال يعربد من حوالى وانا اسمع صوت السكترما الناتجه من اصطدام الرصاص بزوايا السلك الشائك التى تحدد حقل الالغام الذى لم انتبه له فى الظلام وتحت الضغط  والجرى خوفا .. جلست هكذا لفترة واناعاجز عن التصرف وكيف لى بالتصرف حتى سلاح المهندسين لايستطيع علاج حالتى وتأمين اللغم .. انه لغم افراد والمرور فوقه معناه هلاك من داس عليه او اصطدم به .. ياربى وانا اناجيه هلعا وخوفا وتعبدا ان يقف معى والا يجعلنى من الهالكين وما شعور اى انسان يرى الموت امامه وان اى هزة ستطيح بحياته ممزقا الى اشلاء .. البلل من مياه الامطار وبرودة الشتاء قامت بمفعول معاكس ضدى ايضا فانا ارتجف خوفا وبرودة والام يدى وفخذى شديدة على وارتعد ويدى اليسرى تكاد تنفك من على حافظة النقود واستمارات المرتبات .. مازالت اناجى الله باكيا بصوت مسموع وانا اسمعه واحاول تخفيض صوتى بدون مقدرة اوسيطرة عليه انها ثوان واقابل ربى تلوت الشهادة متلعثما فكل ايات الذكر الحكيم طارت من ذاكرتى وحتى فاتحة الكتاب وانا على هذا الوضع المأساوى والذى لم اقابل له نظيراً حتى وانا فى سيناء واذا به امامى .. انه الشىء الشبيه بالقط والذى شاهدته مرتين فى منطقة الفردان فى العام الماضى ارتعدت وصرخت وانا احاول ان ابعده عنى بيدى اليمنى الكسيرة ولكننى لا استطيع ان احركها .. اصرخ بصوت عال ولكنه لم يبالى وهنا اقترب منى وكاد ان يحدث لى اغماء لولا ارتجاف جسدى الذى نبهنى ثم نظر الى الجهة الاخرى معطيا لى ظهره سائراً ثم نظر الى ثانية بعد ان توقف وعاد الى مرة ثانية ووقف على قدميه الخلفيتين ناظراً الى وعيناه بعينى وهو حيوان ابيض اللون ناصع البياض ويضىء حوله مثل المسبحة ليلاً وقف هكذا واضعا يديه الاماميتين على كتفى شعرت خلالها ان جبلاً على كتفى وليس حيوانا بين القط والكلب حجما ثم سار ثانية ويعلم بقدميه فى الارض بخطوط واضحة وانا مازلت فى وضعى واذا به يحدث صوتا صارخا مثل صوت العرسه او ماشابه ذلك انه صوت قوى حاد مخيف فنهضت سائرا خلفه وانا ادعو الله ان ينجينى مما انا فيه رفعت قدمى من فوق اللغم لم يحدث شىء اسعدنى هذا وشعرت بان هذا من عند الله وسرت خلفه على الخط الذى اقامه بقدمه ويا للعجب فان الخط كان عريضا كانه حافر جاموسه اى بعرض اكثر من عشرة سنتيمتر حتى خرجنا من حقل الالغام فشاهدت السلك الشائك المحدد له من الجهة الاخرى نظر الى ثم نام مثل وضع ابى الهول او اى قط ولكنى لم افعل مثله نظر الى ثانية يقف ويفعل هذا وانا مازلت واقفا متسمرا فى وضعى قفز على واذا انا مندفع من وقفتى منبطحا على الارض بصدمة قوية وهنا سمعت صوت انفجار الالغام متتابعة خلف بعضها البعض .. هنا اطلق العدو قنبلة مضيئة ليتبينوا ماذا حدث لى ولكنى مازلت راقدا على ظهرى ناظرا الى السماء اتسائل احى انا ام فى السماء فسمعت همسا بجوارى صوت انسان يطلب منى ان استمر على وضعى هذا حتى لايطلق على العدو النيران تسمرت فى رقدتى هذه كما طلب منى هذا الشخص اوالصوت المبهم لى فى الظلام وبعيداً عن اى مخلوق كان حتى انطفأت الشعلة المضيئة وحضر شخصان هما جنديان من الفصيلة التى كنت ذاهبا اليهم يستطلعون سبب تأخيرى عنهم عندما علموا ان سريتهم صرفت المرتبات ومشاهدتهم الضرب من العدو وما حدث الى وما شاهدوه من هذا الحيوان الابيض والذى تخوفوا منه لانهم لم يشاهدوا مثله قبل ذلك ساعدانى وانا ارتجف واشعر اننى محموم واهزى ولا استطيع السير .. ساراً معى حتى وصلت الى سريتى وهناك قابلتنى الخدمة من جنودى وهم ينظرون الى مستفسرين عما اصابنى والدماء غزيرة على بنطلونى الايمن وكف يدى اليمنى بجانبى لا استطيع تحريكها .. اخبرهم الجنديان بان حضرة الضابط سلك الطريق المكشوف لليهود ولم يستخدم  الطريق الخلفى المستتر من المبانى ووقع فى حقل الالغام وكادت ان تنفجر به لولا شىء لانعلمه حضر وانقذه .. انه شىء شبيه بالقط .. آه تذكر جنودى حادثة الشهداء وما شاهدوه من هذا الحيوان الغريب الوصف والشكل والتصرف .. تعاونوا على ادخالى الى ملجأى تحت الارض وحضر جندى المراسلة واعد لى كوبا من الشاى وحضر بعض ضباط الصف بعد ان ايقظهم زملائهم ليخبروهم بان ضابطنا كاد ان يقتله اليهود وما قصه عليهم الجنديان  رواه لهم .. طلبت من احد ضباط الصف العريف عياد حكيم شنوده ان يقوم بصرف مرتبات هاذين الجنديين وان يذهب احد ليخبر الطبيب بحالتى .. هرعوا اليه واصابهم شىء خطير فهاهو قائدنا نراه ونشاهد حالته وسمعنا مما شاهدوا الحادثة يروونها بكل تفاصيلها الغير معقولة ولاتحدث الا فى الروايات والاقاصيص ولكنهم هم الذين اختبروا تلك الاحداث قبل ذلك .. طلبت من الجندى حنتيره المراسلة ان يعد لى ماء ساخن لكى استحم وازيل كل ماعلق بى من قاذورات حتى استعيد انفاسى فاخبرنى بانه مجرد ان انتهى من كوب الشاى يكون قد انهى تسخين المياه  ووضعه فى حمام منزل مهجور استخدمه .. حضر واخبرنى بان كل شىء معد وعاوننى فى حمل ملابسى النظيفة حتى الحمام واضعا به فانوس ميدانى”هوركين” واخبرنى بانه احضر تنك مياه بارد”جركن” لاضيفه على الماء لو كانت ساخنه شكرته وانصرف ليعد لى طعام الغذاء الذى احضره من ميس الضباط منذ الظهيرة ولم اتناوله لمرورى على الوحدات لتسليمهم مرتباتهم التى كادت ان تودى بحياتى .. شعرت ان المياه ساخنة لا استطيع تحملها اضفت بعض الماء البارد .. استحم وانا اشتم رائحة السولار كما اشعر بان اصابع يدى تلمس شيئا ناعما يخالف ملمس المياه انتهيت من حمامى بعد ان اضفت اليه السولار الذى احضره حنتيره باعتقاده انها مياه .. فلم يكفينى ما حدث ولكن قدر على ان استحم بالسولار.. عدت الى حجرتى التمس الراحة والدفء اسفل البطاطين وافحص ملابسى التى خلعتها لاشاهد على ضؤ الفانوس الميدانى قطوع طولية محروقة من شظايا قنابل العدو تصل حتى ملابسى الداخلية فتحسست فخذى ومقعدى فوجدت اثار دماء عليهما .. اذن لقد طالنى القصف ايضا .. حضر الطبيب على عجل .. لم يكن الطبيب انه صيدلى مجند رقيب صيدلى وخريج كلية الصيدلة جامعة الاسكندرية انه الانسان المهذب خلقا وعملا .. يا لك من شاب رائع انه شنوده عبد المسيح .. حضر الرجل وهو لاهث الانفاس من الاتصال التليفونى به ومن زملائه بالسرية والذين اخبروه بحالتى فحضر ومعه كل مايلزم من تلك الادوات .. شاهد جروحى الخلفية وطمأننى عليها بانها سطحية وعقمها ووضع عليها البلاستر المعقم ثم فحص يدى ويحركها وانا اصرخ الما .. ثبتها على وضع معين وطلب المساعدة فهو يريد قطع خشب ليعملها جبيرة ولم يعثروا على طلبه وسأل عن وجود مسطره فاحضروا له المسطرة التى نستخدمها فى القياس من على الخريطة وهى خشبية فكسرها نصفين اعدها كجبيرة طلب بعض الماء الفاتر وبلل الشريط الجبس الذى معه ولفه حول معصمى ثم شاهد الجرح الغائر فى فخذى فرش عليه قليلا من مادة الاتير التى آلمتنى كثيراً وقام بخياطة الجرح باربعة غرز ثم ناولنى دواء مهدىء ليساعدنى على النوم واخبرنى بانه سيعاودنى صباح الغد .. هكذا رحت فى نوم عميق بعد ما حدث لى فى تلك الليلة وقد تكالبت على كل الانواء والاوجاع .. بقيت هكذا لفترة خمسة ايام حضر خلالها قائد السرية والذى اندهش مما حدث لى فابلغ قائد الكتيبة بانه من المستحسن ان انال اجازتى مبكراً ولكن القائد طلب عرضى على المستشفى ورافقنى الرقيب صيدلى شنوده الى مستشفى القصاصين وتأكدوا ان ما قام به هو اجراء سليم بعد الفحص بالاشعة ومنحنونى اجازة عشرة ايام سافرت من القصاصين الى بلدتى بالزقازيق وفزعت امى واخوتى لما شاهدونى عليه ولم اخبرهم بالقصة بل اخبرتهم بانها اصابة اثناء التدريب فلا اريد القصص والروايات ويتجمع الاقارب والاصدقاء ليعلموا سر هذا الكائن الذى كلما تذكرته يتملكنى شعور بالخوف واشكر الله ان اغاثنى مما انا فيه .. امضيت ثلاثة ايام فى الزقازيق توجهت بعدها الى القاهرة وهناك كان اللقاء الدافىء وحبهم وتعاطفهم معى على الاصابة وحضرت بعض صديقات علا لزيارتى ومشاهدتى والتعرف على شخصى وكانت قد اخبرتهم بان حبيبها المت به اصابة اثناء العمليات .. امضيت عدة ايام راحة وسعادة بفيلا دينا والسائق يصطحبنى وعلا للفسحة او التوجه لدور السينما .. يالها من حياة ويا لها من مصاعب الحرب وقسوتها تصديقا لقول الله تعالى“فرض عليكم القتال وهو كره لكم” .. امضيت ايام خمسة لم تتحدث خلالها علا عن موضوع علاقتنا والبدأ بخطوة للامام كما دأبت فى الاونة الاخيرة .. فقد شعرت انه وقت غير ملائم او قد تكون تنبهت الى انه كان من الممكن ان اقضى نحبى فيما حدث لى.

  عدت فى اليوم السادس الى عائلتى لاقضى باقى الاجازة معهم خاصة اننى بدات اشعر بان والدتى ليست راغبة فى ان اقيم عندهم باستمرار طالبة منى بان تكون زيارة من الصباح حتى المساء واعود اليهم يشبعوا منى واشبع منهم .. ولكن مدينة الزقازيق هى الاخرى خط جبهة خلفى والانوارتطفىء ليلاً والشوارع مظلمة معتمة ولا توجد وسائل التسلية والبهجة مثل القاهرة كما انى اتمتع بحديث ولقآت علا فانا محروم من متاع الحياه التى يتمتع به الاخرون رغم ان غالبية شباب مصر تحت خط النار اما ضابطا او جنديا.

       انتهت اجازتى عائداً لوحدتى وقد التأمت جروحى ولم يتبقى سوى الجبيرة والجبس والغرز وبعد اسبوعان سيقوم شنوده بفك هذا الجبس دلالة على تحسن حالتى .. استقبلنى جنودى بفرحة غامرة لانهم لم يتعودوا غيابى عنهم فترة طويلة ثم تأكدهم بتمام شفائى وها انا اعود اليهم احسن صحة واوفر نشاطا وسعادة مستعداً لتكملة مشوار كفاحنا وكما تقول ام كلثوم الكفاح دوار….

     لا يمر يوم الا ويكون محمود خميس فى زيارتى نتناول الشاى ونقص الحكايات ونضحك على ايامنا نريد تسلية انفسنا بكل طريقة معقولة ومهذبة وهو مثلى لايريد ترك وحدته والخروج الى تلك الوحدة ومجالسة هذا او ذاك .. كان شديد الاهتمام بنفسه سواء فى مظهره اوسلوكه كما انه لايعطى الفرصة للقادة بان يوجهوا له انتقاداتهم انه معتز بكرماته وكبريائه فارتبطنا ببعض كثيرا وكانت نوادرنا مع النقيب فاروق لا تنتهى

 

 

Share
Click to listen highlighted text! Powered By GSpeech