Click to listen highlighted text! Powered By GSpeech
Get Adobe Flash player
مستمرين معاكم بإذن الله 2008-2024 **** #لان_لجيشنا_تاريخ_يستحق_أن_يروي **** ***** إنشروا تاريخنا وشاركونا في معركة الوعي **** تابعونا علي قناة اليوتيوب 1100+ فيديو حتي الان **** تابعونا علي صفحات التواصل الاجتماعي** أشتركوا معنا في رحلاتنا لمناطق حرب أكتوبر **** يرجي استخدام خانة البحث **** *** تابعونا علي تليجرام - انستجرام - تويتر

الناس والحرب - الحلقه الثانيه عشر- الاخيرة

إخـلاء للخـلف

 

    تركنى الرائد خليل قائد سرية الدبابات معتزرا بالعودة الى دباباته لأنه علم ان كوبرى العبور قد قارب من اتمامه وسيعبر الى الشرق مع وحدته مع امنياته لى بالصحة مع تهنئة بما قمت به مع وحدتى حيث كان يتابع المعركة هو ووحدته وهم مشفقين علينا مما الم بنا ولكن جسارة الرجال استطاعت ان تقف امام المدرعات المعادية ويحدث هذا الالتحام بينكما .. اخى اسامة اعيد تهنئتى لكم جميعا .. استودعك الله .. قبلنى وتركنى لاحد المساعدين “الصول” موصيه على بكل خير والعمل على سرعة نقلى الى السرية الطبية.

      السيارة التى اقف بجانبها هى لورى “زيل”  ضخم الحجم ويحمل عشاء جنود الفرقة الثالثة مشاه القادمة من القاهرة منذ ساعات والتى احتلت مكاننا ولم تشترك معنا فى العبور .. كنت اشاهد الجنود وهم يتسلمون طعامهم ولا اصدق انه فى الشرق وعلى بعد سبعة كيلومترات زملاء لهم مابين الشهيد والجريح والذى مازال يقاوم وهم فى هذه الحالة من اللهفة على الطعام وسلوكهم الغير منضبط … حضرة الصول يستنهض همم رجاله بتفريغ اللورى حتى يتسنى نقل سيادة الرائد الى عربة الاسعاف القريبة .. اخير نجح فى تفريغ حمولة اللورى من آذان التعيين الضخمة وينبه على مندوبى الوحدات بان الفرخة توزع على اربعه .. فاهمين يا بجم .. يجيبوه فاهمين يافندم .. ابتسم على هذه الشفرة التى مازلنا نستخدمها فى حياتنا ومعاملاتنا حتى فى اشد الحالات وخاصة تلك الحرب وما اجلها لحظات فيها تفارق الحياة الاجساد بسرعة والم وبكثرة عدد الذين يلاقون ربهم.

     جائنى مستبشرا ومعتزرا .. اتفضل يافندم .. يصرخ فى السائق بان يترك نصيبه فى الفرخة وبسرعة يقوم بتوصيلى والجندى وضع جزءا من لحمة الفرخة فى فمه وهذا المساعد يطارده قائلا بسرعه يا ابن .. .سيادة الرائد بيفرفر وحيموت”اقول فى سرى الملافظ سعد” ولم يكن باديا على هذا .. اخيرا ساعدنى المساعد والسائق بوضعى فى كابينة السيارة وانطلقت السيارة بى الى الجهة التى يعلمها السائق وانا عنها خالى المعلومات والذهن .. اطلب منه التمهل فى سرعته حيث المطبات تقوم بفعلها معى دافعة ببعض الدماء من رأسى خاصة اننى اشعر بصداع خطير وشعورى بان زراعى الايمن لايتحرك الا قليلا وشبه مخدر ولابد من نطره كل فترة حتى اشعر به .. يتوقف اللورى بجوار سيارة اسعاف ويطلب منى ان اتجه لها وهناك اجد طبيبا صغيراً يشاهدنى ثم يسألنى .. طيب فين اورنيك العيادة؟ !!!!!!!

       تيقنت اننى يقظ واننى بكامل قواى العقلية وما يقوله الطبيب لايقوله الا المصريين .. مازال ناظرا الى منتظراً منى اورنيك العيادة واجبته والله يادكتور وقع منى فى الشرق ساعة العبور .. لكن اوعدك باننى سوف احضره لك باكر .. هنا تدخل احد جنود الشرطة العسكرية موضحا للطبيب ان سيادة الرائد مصاب ونحن فى فترة الحرب .. ينظر الطبيب بدهشة ولقد علمت انه لا يعلم ماهى وظيفته فلقد احضروه من السرية الطبية بسيارة الاسعاف لهذا المكان لاستقبال المرضى .. صرخت فيه اخلينى الى اى مستشفى بسرعة .. اضطرب وتحرك بسيارة الاسعاف يرافقنا مندوب الشرطة العسكرية حتى يسهل تحركنا .. اخيرا وصلنا الى الكتيبة الطبية للفرقة (18) وكان بعض الجرحى قد سبقونا الى هناك ومنهم احد ضباطى “الملازم اول سيد ابراهيم الحاج” صاحب الاغنية الشهيرة “هات الازازة ياوله وتعالى لاعبنى” فحصنى احد الاطباء وطلب اخلائى الى مستشفى الصالحية العسكرى .. كنت اشعر باننى فى سباق مع الزمن .. فلقد شعرت من مقابلة الطبيب الصغير باننى لن احصل على عناية طبية فى جبهة القتال ولابد من اخلائى للخلف حتى تكون الخبرات والامكانيات متوافرة واحسن واوفر.

      سيارة اسعاف عسكرية تتحرك بى من الكتيبة الطبية فى منطقة مثلث الفرقة وهى المنطقة التى فى غرب ( مدينة القنطرة غرب) على الطريق الواصل بينها وبين الصالحية .. كان الطريق مزدحما باللوارى التى تحمل معدات المهندسين العسكريين وارتال الدبابات والمدفعية وحاملات الصواريخ المضادة للطائرات كما كان الوهج فى السماء مازال مشتعلا من الصواريخ المضادة للطائرات وسقوط بعضها كل هذا اثر على سرعة وصولى الى المستشفى خاصة ان سيارة الاسعاف العسكرية تسير مستخدمة الضوء الميدانى “ضوء خافت للغاية خوفا من الطائرات المعادية” الذى يتطلب من السائق ان يكون حذرا فى قيادته وقليل السرعة .. وصلت الى مستشفى الصالحية العسكرى واستقبلنى قائد المستشفى المقدم طبيب فوزى سويدان فى حجرة الكشف وعاين جروحى وحروقى ثم طمأننى على نفسى ورافقنى احد الممرضين الى الحجرة التى خصصت لى.

      انا متواجد بالحجرة اريد ان القى بجسدى المتهالك على السرير وكلى الام واوجاع .. ومازال الصداع ملما براسى وحروق يدى وظهرى تؤلمنى وشعرت بان عظام احد الاجناب بها بعض الالم .. اهم الان بان افرد جسدى على السرير بعد ان تخلصت من حذائى فاذا بى اسمع شخصا يخاطبنى .. سيادة/ الرائد اسامة .. تلفت جهة الصوت وكان الضوء خافتا خوفا من الغارات الجوية نظرا لوجود قاعدة جوية بتلك المنطقة ولواء صواريخ مضاد للطائرات  استفسرت .. ايوه انا من تكون؟ .. فاجابنى وهو مازال وجهه اسفل البطانية .. انا سعيد .. اعيد قوله .. من يكون سعيد؟ .. يعيد النقيب مهندس سعيد قائد فصيلة المهندسين والذى رافقتك فى العبور واقمنا حقل الغام مضاد للدبابات بشرق الساتر الترابى .. رحبت به وانا اكمل حديثى .. اسأله : اغلق الاضائة حتى لاتضايقك؟ .. يجيبنى لا لا بل انى اخفى وجهى حتى لاترانى وتنزعج من شكلى .. اضاحكه .. كيف تقول هذا ايها النقيب .. قام من رقدته وازاح الغطاء من على وجهه وقد صدرت منى صرخة مكبوتة وانا اضع يدى على عينى ..  ياه .. ماذا حدث لك ياسعيد .. يضحك !! لا اتصور ان هذا الانسان يضحك ولكننى سوف افسر ما سبب دهشتى .. وجه محترق بالكامل لاتوجد انف ولا عيون ولا حواجب .. الانف فتحتين بمسطح الوجه والعينين عبارة عن فتحتين هلاميتين وفم به شفتان لا اعرف كيف اصفهما .. اما الراس والشعر فلا وجود لشعر اطلاقا وفروة الراس محترقة .. اعود بذاكرتى لعدة ايام ماضية يوم جائنى هذا الشاب مفرود القوام وسعيد بجسده وعضلاته حيث كان بطل كلية الهندسة فى العاب القوى .. استفسر منه عما حدث .. يجيبنى : بعد ان انتهينا من حقل الغام الدبابات والتى امرتنا بان نعده جاءت دبابتين للعدو وانت منهمك فى معركتك مع باقى القوة واندفعت احدى الدبابات الى المصطبة فانفجر بها اللغم فدمرها عن آخرها بمن فيها وقد امتنعت الدبابة الثانية من دخول مربض نيرانها خوفا لما قد تلاقيه مثل سابقتها ..

      وقفت الدبابة على هذا الوضع وخشيت مع جنودى ان تتعرف علينا اوتصيبنا فامرت احدهم بان يتجه الى الدبابة ويقذفها بقنبلة”ر ب ج” ولكن الجندى بعد ان استعد قابلته دفع نيران من الخلف فارتمى جريحا وهنا امسكت بالقنبلة واتجهت من خلف الدبابة فى حماية الظلام وقذفتها بتلك القنبلة فانفجرت ونظرا لقربى منها طالنى هذا الحريق الذى صهر حديد الدبابة .. امسكت بيده اقبلها حيث لا استطيع تقبيل وجهه لما فيه من اثار الحروق .. الله يشفيك ياسعيد وربنا ياخد بيدك .. ياه على بطولتك!! يجيبنى ضاحكا وانا لا اتميز كلماته بسهولة كما اننى الاحظ ان انفه تفتح وتقفل مثل فتحتين لسمكة وهى تفتح خياشيمها .. يجيبنى بصوته المرتج : ياه احنا عملنا ايه؟ امال رجالتك اللى كنا بنشوفهم بين عجلات وجنازير الدبابات والعربات المدرعة .. ولكنى ايقنت ان هذا الشاب اشجع منى مرات ومرات .. بل انهم شباب مصر الشجاع الوفى لبلده الذى يكون صلبا عند اى محك وفى مثل تلك الظروف الصعبة.

     صباح اليوم التالى قبل الفجر ايقظنى احد جنود المستشفى ليخبرنى بان الاتوبيس المستشفى سوف يتحرك بعد عشرة دقائق ويحمل لى سندوتش وكوب من الشاى .. استفسرت منه عن النقيب سعيد  فصمت قليلا ثم قال البقية فى حياتك .. تركت ما فى يدى واتجهت الى سريره اقبل تلك الفرشة التى كان نائما عليها وتذكرت ان روحه قد خرجت من تلك الحجرة وانا معه وتذكرت ايضا اننى آخر انسان شاهده وحدثه .. ياه على المفارقات .. ياربى سأظل هكذا اقابل احباء وشهداء وجرحى ..

      امام باب المستشفى يقف قائد المستشفى وتذكرت نفسى امس وانا استعد للعبور .. الرجل صارم حازم ولاينسى صغيرة ولاكبيرة وشاهدت اتوبيسا ضخما عليه علامة الهلال التى تدل على انه مستشفى ولايجب قصفه حسب المواثيق الدولية ولكن ثبت ان تلك المواثيق هى التى يلتزم بها الضعفاء اما القوى فلا يحتاج مواثيق .. مواثيقه فى سلاحه وهى التى تلبى له كل رغباته وتحل له كل منازعاته.

     اعتذر قائد المستشفى لى بانه يمكن تأجيل رحلتى الى مستشفى كوبرى القبة بالقاهرة نظرا لازدحام الاتوبيس ولكنى اخبرته فى رغبتى بان ارحل اليوم الى المستشفى الا اذا كان لى علاج عندهم واعتذر لعدم توافر الامكانيات بخصوص حالتى كما ان المستشفى معرض للقصف من قبل الطائرات الاسرائيلية .. ثم قال لى لو امكنك التحامل على نفسك والجلوس بالمقعد الامامى الذى يجاور مقعد السائق من الجهة الاخرى وافقته وعندما صعدت الى الاتوبيس وجدته عبارة عن سراير وقد ملئت بالجرحى وما ادهشنى هو ان جميع الجرحى هم جنودى وضباطى .. لقد كنا اول المصابين واول المرحلين لمستشفى القاعدة بالقاهرة.

    غادرنا الصالحية متخذين الطريق الى فاقوس ونشاهد الفلاحين متجهين الى حقولهم بدوابهم لبدأ يوم جديد من حياة العمل والكفاح كما اشاهد منازلهم ودخان الفرن او الكانون يتصاعد لاعداد طعام قاطنيه ومنظر الخضرة على جانبى الطريق تسعد اى انسان وانا اتذكر ملحمة الامس وافكر فيما عساه يفعل جنودى والذى تركتهم امس بشرق القناة وقد لاقى قائد ثان السرية ربه ونال الشهادة التى يستحقها وانا القائد متجها الى المستشفى العام بكوبرى القبة ومعى بعض الضباط والجنود وكل ينام على سرير ومشاهد الاصابات من بتر وخلافة تزعج النفس لكنها الحرب فلا حرب بدون شهادة وخسائر واصابات وجروح مازال الاتوبيس سائرا بنا وتنتابنى من حين لاخر حالة لحظية من اغماء والمشرف الطبى معنا يعرض على ان يتوقف بنا الاتوبيس عند اى نقطة شرطة عسكرية ويطلب سيارة اسعاف عسكرية تقلنى لاى مستشفى او يتجه الاتوبيس لمستشفى فاقوس العام او مستشفى جامعة الزقازيق وانا رافض لعروضه ويخبرنى بان كل مستشفيات وزارة الصحة والجامعات فرغت من مرضاها الغير خطر على صحتهم مغادرتها من اجل القوات المسلحة وانا اخبره بانى باذن الله سوف اواصل معهم الاتجاه الى القاهرة مرافقا جنودى وضباطى مثلما رافقونى الى المعركة .. وصلنا مدينة ابوكبير وهى مركز من مراكز محافظة الشرقية كبيرة المساحة ويطلب احد المصابين ان يذهب ليتبول وقد جاوزت الساعة السابعة بقليل وهذا واضح من انكباب العدد القليل من الناس المتواجدين بالشارع لسماع آخر اخبار المعارك الذى ينتظرها الشعب المصرى والامة العربية بفارغ الصبر .. اسأل السائق هل يمكننا التوقف لانه من غير المعقول ان يظل هذا المصاب فى احتياج الى دورة مياه اكثر من ساعة ونصف حتى نصل القاهرة .. ينعطف قائد الاتوبيس جانبه الايمن جهة محطة السكك الحديدية ويعاونه المشرف على الهبوط ليقضى حاجته بجوار حائط المحطة قبل حضور البشر ويشاهده احد الباعة الجائلين والذى يحمل لوحة خشبية صغيرة ومعلقها فى كتفه يبيع من خلالها الجرائد والسجائر وبعض من الحلوى والبسكوت فيعتقد انه اتوبيس عادى فلونه اصفر مثل اتوبيسات محافظة الشرقية فيسرع للصعود اليه لعرض بضاعته وهنا يشاهده السائق فيحاول نهره وانا امنعه من هذا راغبا فى عرض الرجل لحاجاته على الجرحى الذين كانوا فى احتياج مثل تلك الاشياء .. يمر الرجل موزعا كل ما معه من بضاعة على الجرحى حتى الجرائد والمجلات بين نداءات الجرحى له ليحضر ليحصل على اثمانها والرجل رافضا ويكبر .. الله اكبر .. ياه وهيه ديك الساعة لما اشوف الابطال .. يارب يشفيكم ويرجعكم مجبورين الخاطر .. لقد فرغ الرجل كل بضاعته ولم يحصل على اى مليم وانا اعرض عليه ورقة مالية من فئة العشرة جنيهات وهو رافض ومعتذر وينظر الى قائلا : انت مستئل بيه يابيه .. دا انا وطنى وباحب بلدى ورجالة بلدى ثم تركنى ومر على الجرحى ثانية يقبل ايديهم او ارجلهم .. كل ما يستطيع الوصول اليه ليقبله دامعا بعيون الفرح ويستأذن ان يذهب وليحضر اشياء اخرى لهؤلاء الابطال بين داعائهم له بالستر وان يغنيه الله ويسعده مثل ما اسعدهم بتلك النفحة القليلة الرائعة فى معناها .. يغادر الاتوبيس فيشاهد الجندى المصاب وقد فقد احدى ساقيه ويقفز متحنجلا على قدم واحدة فيحمله على يديه مثل ما فعل معى امس البطل الهمام الجندى ابوسريع ويصعد به الاتوبيس بين تصفيق الجرحى له وبهدؤ يريح الجريح على سريره مقبلا وجهه ويديه داعيا لنا بالنصر المؤزر باذن الله .. نراه يلوح لنا والاتوبيس يغادر المكان وقد شملنا شعور وطنى وعاطفى مؤثر من هذا البائع الفقير الذى يجرى على قوت عائلته وبدلا من ان يعود لهم آخر النهار بمكسبه هاهو قد فقد رأس ماله ولكن الله لايضيع اجر من احسن عملا .. شعرت بداخلى باننى اقوى بدنيا وصحيا وشعرت ان حالة الدوخة التى صاحبتنى عدة مرات منذ مغادرة المستشفى قد توقفت من تصرف هذا البائع الفقير .. أنهم المصرين الشجعان الكرماء.

     نحن الان على مداخل مدينة ههيا وهى مركز ايضا من مراكز الشرقية وقد عرض السائق على الجنود قائلا : اى بطل يرغب فى شىء ولكنهم شكروه واكملنا سيرنا دخلنا مدينة الزقازيق عاصمة المحافظة وهى مدينتى والتى بها عائلتى اتلفت يمينا ويسارا لعلى اعثر على من اعرفه ليبلغ عائلتى باننى بخير ومتوجه للقاهرة حتى امحو قصور تأخرى عليهم مثل ما حدث فى عام 67 ولكنى لم اوفق .. مازال الاتوبيس يقطع بنا الطريق وكل سيارة فى الطريق تشاهدنا او مدنيين يشاهدون الاتوبيس ويشاهدون علامة الهلال التى ترمزالى المستشفى يلوحون لنا والبعض يقفز فرحا وسعادة بانه شاهد اتوبيس الجرحى الابطال .. الحمد لله اقتربت الساعة من العاشرة صباحا والاتوبيس يدخل بنا مستشفى كوبرى القبة واسرع جميع العاملون به الى لقاء الجرحى القادمين من جبهة القتال كنا اول جرحى نصل الى المستشفى الذى كان بحالة طوارىء مثله مثل جميع الاجهزة بالدولة وخاصة القوات المسلحة ومستشفياتها.

    جميع من بالمستشفى يحملون الجرحى على نقالات او كراسى متحركة وكل يوجه الى قسم من الاقسام وانا بين ايدى بعض الممرضات الشابات وهن يخلعن عنى ملابسى المحترقة والمليئة بالدماء الجافة ويحصلون على بيانتى الشخصية وتهتف احداهن .. عيد ميلاد الرائد اسامه النهاردة يابنات ويهللن لهذه المناسبة وانا سعيد فرح ومسرور لهذا الاستقبال ولذاكرة الفتاة التى حصلت على تاريخ ميلادى واخبرت الاخريات بذلك .. حضر عميد طبيب بعد ان بُلغ باول ارسالية قادمة من جبهة القتال وان من بينهم رائد فحضر الرجل الى مهنئا بسلامة الوصول مستفسراً منى .. هيه وصلتم ممر متلا؟ .. لقد كانت معلوماته عن الحرب واماكن القوات ضعيفة ولم يتذكر سوى ممر متلا واخبرته مثل ابناء البلد .. احنا فين وممر متلا فين .. الممر على مسافة اكثر من خمسين كيلو .. كل المعارك لسه فى شرق القناة .. اهتموا بنا واخذت لى عدة صور باشعة اكس وتناولت دواءاً مهدئاً ثم بعض الحقن لمنع التلوث وبمساعدة الكرسى المتحرك دفعوا بى الى احدى الغرف وهناك تقابلت مع نقيب من سلاح المدرعات وقد بدا عليه السرور ويقول آخيرا سأجد من ُيسلى وحدتى فلقد اصيب قبل المعارك اثناء نقل القوات ونقل الى هنا يوم الرابع من اكتوبر.. انا طريح الفراش فى الحجرة رقم (101) بمستشفى كوبرى القبة العسكرى وهذا المبنى اعُد حديثا.

    بعد قليل حضر ضابط من رواد المستشفى حيث كان يعالج منذ عشرة ايام واجريت له عملية الزائدة الدودية ورحب بى ويسألنى عن اى خدمة يقوم بها فهو القادر على الحركة .. زودته برقم تليفون خالى الضابط بالمخابرات العامة ومعى تليفون منزله واتصل بزوجته ليخبرها بان الرائد اسامة بالمستشفى وجريح .. جائنى ليخبرنى بتمام الاتصال ثم يخبرنا بأخر المعلومات التى يستقيها من الراديو عن سير المعارك وقد اثلج صدرى سقوط مدينة القنطرة شرق فى ايدى قواتنا .. انت فرح الان ياقائد الفرقة وكنت تتمنى ان ينعم الله على فرقتك بهذا الانجاز الذى تغنت به الاذاعات الاجنبية قبل المصرية.

      عصراً اقبل خالى متوجسا ويدخل الى الحجرة وعندما شاهدنى اقبل مسرعا يحتضننى ويقبلنى ويستفسر عن احوالى واصابتى وسعيد بان حالتى هكذا متسائلاً عما اريده وقد طلبت منه عدة حلاقة وبعض الغيارات الداخلية لان المستشفى زودتنا بالبيجامات فقط ومازالت ملابسى الداخلية عالق بها اثار المعركة من روائح الدخان والدماء الجافة التى سقطت من راسى .. غادرنى بعد ان جلس بعض الوقت لانه اتى من عمله مباشرة بعد ان ابلغته السيدة زوجته بنص رسالة صديقنا الاعلامى!!

      بعد مغادرته بقليل فُتح باب الحجرة وشاهدت شابا يرتدى بدلة كاملة وانيقة وفارع الجسد ويقول حرم سيادة الرئيس .. اقبلت علينا السيدة جيهان السادات ..انها كالبدر المنير ولها ابتسامة ساحرة ورقيقة الحس وتجيد فن الحديث والمديح صافحتنى ثم صافحت النقيب المتواجد فى الحجرة وتقول الف حمدلله على سلامتكم .. ربنا يخليكم لمصر وشعب مصر .. ايه يطلبه الابطال من مصر .. اسعفتنى قريحتى بان اوجه لها الشكر طالبا منها ايصال تحيتنا الى قائدنا الاعلى الرئيس السادات .. اجابت على الفور سابلغه رغم وجوده المستمر بغرفة العمليات وانشاء الله فى اول فرصه سوف يحضر لمصافحة ابنائه من ضباط القوات المسلحة الذين رفعوا رأسنا عاليا .. ودعتنا مغادرة بين رهط من الحرس والمرافقين من قيادات المستشفى.

     اليوم الثالث للحرب الثامن من اكتوبر حضر شقيقى الاكبر ويعمل طبيب بيطرى فى المؤسسة العامة للدواجن وعلم من خالى باتصال تليفونى مع خالى الاخر فى عمله بالزقازيق بحالتى .. فنحن كما سبق الحديث لانملك خطا تليفونيا فى منزلنا فهو صعب المنال على الجميع .. حضر اخى مقبلا وسعيدا بان رآنى على خير طالبا منى كتابة خطاب لوالدتى عن اى موضوعات عامة تفيدهم باننى حى ارزق .. كتبت الخطاب وانا احاور امى دائمة التلهف على اخبارى واخبرها بان اخى حضر اليوم لزيارتى وامس حضر خالى وهكذا حتى تعلم اننى اسير فى نفس التاريخ.

     حضر كبير الجراحين وقد استفسرت منه عن حالتى ويمسك بعدة صور من الاشعة التى التقطت لى وقد طمأننى بانى بخير وان بعض الشظايا موجودة برأسى وستخرج من تلقاء نفسها مثل اى شوكة تخرج من اليد ولا حاجة لعملية جراحية .. اسعدنى حديثه .. مازالت حالة الصداع الشديدة والام اليدين والظهر وخدلان بزراعى الايمن .. اليوم التالى التاسع من اكتوبر رافقنى احد العاملين لاعادة بعض صور الاشعة الغير واضحة انتظر دورى على احد الدكك الخشبية اشعر بدوران واننى سيغمى على ثم صرخت “ساقع” ولم ادرى الا وانا على بلاط الارضية والجميع يسرعون جهتى وانا اسمع وارى ولكننى لا استطيع الحركة .. تعاونوا فى اعادتى وجلوسى على كرسى متحرك ومعى مرافق وبعد اخذ صور الاشعة عُدت ثانية الى حجرتى مع اعطائى دواء وبعض الحقن وجلوكوز .. اليوم العاشر من اكتوبر حضر لى مندوبنا الاعلامى والذى يخبرنا كل يوم بعدة نشرات اخبارية عن معارك الشرق الطاحنة بين الجانبين .. قال سيادة الرائد اليوم سترحل الى مستشفى المعادى لخطورة حالتك .. نزل على الخبر مؤلما .. انا فى حالة خطرة وكنت اشعر بها لكن كلام كبير الجراحين كان شيئا مخالفا.

     حضر لى مسئول العنبر ليخبرنى بان السيارة التى ستقلنى الى مستشفى المعادى ستتحرك بعد ربع ساعة ويطلب منى اعادة العهدة اليه .. سألته عن العهدة فاشار الى البيجامة التى ارتديها فاخبرته وانا فى دهشة .. يعنى حاروح مستشفى المعادى بملابسى الداخلية والتى احضرها لى خالى امس مع عدة الحلاقة ولكنه اشار الى كيس بيده ومتأفف .. افرولك موجود فى هذا الكيس .. ارجوك ان تدفع لى بعهدتى حتى لاتخصم على .. ينظر الى المرافق وانا فى دهشة خلعت البيجامة وارتديت افرولى الذى بدون ظهر حيث احترق ظهر الافرول فى الشرق والدماء الجافة عليه .. شكرنى واصطحبنى بين وداع رفيق الحجرة والمندوب الاعلامى الى سيارة لورى صغير قديم متهالك يقف امام القسم الذى انا به فتح السائق الباب الخلفى للورى ويشير الى بالصعود .. انظر الى داخل هذا الصندوق الخشبى فاشاهد ضابطا برتبة نقيب ملقى على ارضية الصندوق وبدون حركة .. استفسر الا توجد عربة اسعاف فيصمت قبل الاجابة ويشير الى الجهة الاخرى فاشاهد اكثر من خمسة عشر سيارة اسعاف حديثه .. اندهش متسائلا طيب وليه مش نستخدمها؟ يجيبنى علشان التفتيش .. اثناء ذلك تحضر سيدة بدينة تناهز الخمسين من عمرها وتقول يالله يافندم علشان نلحق المستشفى .. يالله ياعوف والسائق يحدثها حاضر ياحاجة جمالات .. ينظر لى اتفضل يافندم ..  ادخل الى هذا الصندوق الردىء شكلا ومعنى ثم يطلب منى بان اضع راس هذا النقيب فوق “استبن” السيارة .. اسئلة الاتوجد مخدات يبتسم بسخرية ويجيبنى كل حاجه موجوده لكنها عهدة والكل خايف على العهدة .. اسالة وانت مش خايف على اللورى ده؟ فيجيب هامسا اصله يافندم بتاع ولامؤاخذه “المرحومين” اسال من هم المرحومين .. اسمع صوتا جافا .. يالله ياواد ياعوف مالك لكعى كده .. يخرب عقلك عايزه الحق اطبخ للراجل..

      اجلس بداخل اللورى منكمش فى احد اركانه بوضع القرفصاء وانا انظر لهذا المسكين الذى وضعت راسه على استبن السيارة واثناء كل مطب تتحرك راسة بشدة وهو فاقد الوعى مغمض العينين واثار شظية فى قورته من الامام .. اعتقدت انه من المرحومين الذى قال عنه سنوصله القرافة وبعدها اذا كنت حيا يوصلنى الى مستشفى المعادى .. اتذكر جلستى هذه منذ ست سنوات او اكثر بعد استقبال رجال المخابرات الحربية لنا فى الكاب عام 67 وبعد ان نلنا مكافائتنا جلست هكذا ارتعد من البرد وانا الاخر ارتعد هكذا الما وحزنا على ما نحن فيه .. امس يتركنا قائد الفرقة ويعتبرنا خسائر ونحن مازلنا احياء ثم يتبعه قائد اللواء مواسيا بانه سوف يرسل بسرية الخدمة الى معاونتى!! واليوم سيارة نقل الموتى تقلنا الى مستشفى المعادى .. رائد ونقيب بالجيش المصرى ومصابين بالعمليات الحربية ينقلوا هكذا بعد ان ينزعوا عنا ملابس مستشفى كوبرى القبة واصبح نصفى عاريا .. اللورى يقف وتغادره السيدة وانا اسأل عوف احنا فين؟ يجيبنى احنا يافندم فى سوق السلاح؟ اندهش على هذا واسأل نفسى هل لابد ان يرسلونى بسيارة تذهب لسوق السلاح .. اى لابد ان يحضروا معنا السلاح فى تلك العربة .. ولماذا المستشفى تشترى سلاح؟ .. أفكر حسب معلوماتى فلم اكن اعلم قبل هذا ان سوق السلاح مكان بالقلعة وليس خاصا ببيع السلاح للجيش.

     عادت الحاجة جمالات ومعها بعض البضائع لكننى شاهدت بعض الخضار وعدد اثنين كرمب لزوم المحشى!!!

   تحركت السيارة ثم توقفت بعد قليل وفتحت الحاجة جمالات باب المقبرة على كلانا …انا والنقيب الغائب عن الوعى وهى تعتذر”معلهش ياخويا عايزه الحق اجهز الاكل للراجل والعيال واحنا فى طوارىء اخرتكم معانا .. ماتيجوا ناكل لقمه سوا .. والنبى دا انا فى محشى الكرنب متقلشى لعدوينك عنه .. “اجبتها ياحجه عدوينى بيحاربونا دلوقتى وانا سايح فى دمى انا والغلبان ده .. آه ياقلب امه .. تلاقيه بعد الشر بعد الشر طلع منه السر الالهى.

     اخيراً تشجعت وشخطت فى السائق بان يعود بنا الى مشتشفى كوبرى القبة حتى اقابل مدير المستشفى ولكنها رجتنى بالا افعل هذا لان عوف المسكين حيتعاقب .. اخيرا تحركنا الى مستشفى المعادى بعد ان ُرقيت من السائق ورفع من هامتى ووافق ان اجلس بجواره وانا اتذكر يوم لك ويوم عليك .. يوم مع الوزير وقائد الفرقة ويوم مع جمالات وعوف .. انها مصر المحروسة اللى كل شىء فيها مباح

      كورنيش النيل فى هذا العام بهدوءه الجميل وقلة السيارات ونتجه الى هذا الصرح الضخم مستشفى المعادى للقوات المسلحة والتى تضاهى فندق هيلتون فى تلك الفترة وتدخل السيارة الى داخل المستشفى على الطريق المرتفع الدائرى المخصص لسيارات الاسعاف .. اشاهد سيدات معهد التمريض العالى برتبهم العسكرية وزيهم الجميل وهن مسرعات الينا وتفرد الاسرة المتحركة على عجل ويوضع الجلوكوز فى ازرعنا وندفع بهدؤ من مكان الى آخر الى الاسانسير ثم نصل الى باب زجاجى ضخم مكتوب عليه الانعاش.

     خلف هذا الباب عنبر كبير وفسيح وعلى مستوى من العناية والنظافة خصص لى احد الاسرة الفارغة واسترحت فيه لحين حضور الطبيب وبجوارى كميدينو عليه باقة من الزهور الطبيعية وعدد من زجاجات العصير ولم يمض وقت طويل واشاهد الطبيب وعرفنى بنفسه ممدوح سلامه .. يفتح الملف الذى ارسل معى ويشاهد صور الاشعة وينظر الى الجرح الذى فى راسى ثم الى الاشعة مرة اخرى ويسألنى عن اى مشاكل نتجت من هذه الاصابة فاخبرة بتدفق الدماء وشعورى بخدلان فى زراعى الايمن .. يهز راسة دلالة على فهمه ما يعترينى ويجيبنى بان الخدلان شىء طبيعى ناتج من الاصابة لان الاصابة فى الجانب الايسر فهذا يؤثر على الجانب الايمن من الجسم .. اسأله الحالة مطمئنة يادكتور؟ .. يجيبنى وهو شاخص فى وجههى قائلا : انت امك دعيالك!!! لأن اى حركة للشظايا التى برأسك يمينا اويسارا قيد انملة توقف جزء من جسمك عن العمل او شلل لاقدر الله لكن احمد ربنا .. اجيبه الحمد لله .. يخبرنى : الحلاق حييجى قوام ويقوم بحلق شعر راسك بالموس وبعدها تدخل العمليات وربنا يعمل ما فيه الخير .. استوضحه عن الحروق التى بيدى وظهرى والام ظهرى فيجيبنى بس لما نخلص من المشكلة الكبيرة بتاعة راسك الاول .. ينصرف ودقائق يحضر الحلاق ويقوم بعمله الذى تمرس عليه .. لقد نفض شعرى بالكامل ثم يعقبها احد العاملين قادما بكرسى متحرك سائلا اياى .. سيادة الرائد/اسامة .. اجيبه ايوه انا .. اتفضل يافندم على حجرة العمليات .. انا متواجد بحجرة العمليات وجمع من المتخصصين فى الحجرة والمساعدين واجهزة التنفس .. جاءت طبيبة البنج “التخدير” ولا اعرف لماذا اختيرت طبيبة التخدير وهى على هذا المستوى العالى من الجمال الطبيعى بعيونها الخضراء التى تشبه الى حد كبير روز زوجة وليم .. تضع ابرة التخدير فى الوريد وتطلب منى العد حتى رقم عشرة وانا شاخص لعيونها الجميلة ولم اكمل بعد العد ثلاثة ولم اشعر بنفسى .. مضى وقت وفترة من الزمن لا اتبينها ولكن كل ما شعرت به اننى ظمآن واريد شرب الماء وحضرت مسؤلة القسم بعد سماعهم لصوتى وافاقاتى وهن يطلبن منى ان اؤوجل شرب المياة فترة بعد العملية لان هذا هام جداً ..  كنت اشعر بورم فى شفتى السفلى وقد اخبرتنى احداهن بانها من اثر العملية حيث انى قضمت بشفتى العليا على السفلى .. جائتنى احداهن على استحياء تستأذننى فى ان يأخذوا الراديو الترانزستور الذى معى حتى يعلموا آذان المغرب فاشرت بالموافقة .. يتجمعن الان فى منطقة الكونتر وهو مكتب القسم الذى انا ارقد به الان”بقسم جراحة المخ والاعصاب” آه تذكرته هذا القسم الذى عثرت فيه على مدحت ابن ماما وداد منذ ستة اعوام .. يالها من مصادفة .. سمعت آذان المغرب بصوت الشيخ محمد رفعت عذب الصوت ْ وبدأت السيدات فى تناول طعام افطارهن وقوفا وهن يراقبن مكان القسم ويلاحظن المرضى ومن حين لاخر يهرعن لاحد منهم على صوت الآم او طلبهن .. مضى اكثر من ساعة واحضرت احداهن طعامى وشربت قليل من الماء بتوجيههن .. لا استطيع تناول الطعام فتساعدنى احداهن وقد اكلت القليل حيث لم اكن راغبا فى الطعام .. بدا تأثير المخدر فى الزوال وقد اعقبه شعورى بالام فى منطقة الرأس .. حضرت احدى الممرضات وادارت جسدى واعطتنى حقنة فى منطقة اعلا الفخذ ولكنها كانت مؤلمة للغاية وشعرت ان بها ماء نار وليس دواء .. اغفو بعض الوقت واستيقظ  البعض الاخر وامضيت ليلة بائسة وانا ملفوف فى شاش حول راسى يشبه العمة .. صباح اليوم التالى حضر الطبيب المعالج ومعه رئيس القسم وهما يفتشون على المرضى ونظافتهم ونظافة الاسرة موقعين العقاب على المهملات من مسئولى النظافة والرعاية للمرضى .. اطمأن الطبيب المعالج من ملاحظات الممرضات التى دونهوها بالامس عن حالتى وطلب منهن ان يحضر احداً من قسم الحروق لملاحظة حالتى الصحية والتى بادية عليها يداى .. حضرت احدى تلك الممرضات وشاهدت يدى وابدت ارتياحها بان العلاج سهل لمثل تلك الحالة واحضرت منظف وقطن وشاش وعقمت المنطقة وتنظف وانا اتألم من التصاق الرمال منذ خمسة ايام بظهر يدى ثم غطت المنطقة المحترقة بالميكروكروم .. فى آخر اليوم نقلت الى قسم العظام بسرير متحرك وهناك صورت اشعة لمنطقة الظهر الذى تبين وجود كسر بثلاثة اضلاع من مرور الدبابة فوق جسدى .. بسرعة اعُد الجبس .. وجبس ظهرى وعدت الى مكانى .. الان انا مربوط الراس واليدين وظهرى به جبس دائرى واشعر بتعب وصعوبة فى التنفس من حركة الحجاب الحاجز المحددة.

   حوالى الثانية عشرة ظهراً تكرر مشهد مستشفى كوبرى القبة بحضور عدة اشخاص وهم يقولون لى حرم سيادة الرئيس .. حضرت السيدة جيهان السادات تسبقها ابتسامتها وشعورها بالسعادة مما حققته قواتنا من انتصار على جبهة القتال .. حاولت مصافحتى ولكنها وجدت ان يداى مربوطتان وهما مكمورتان مثل الملاكمين واعتقدت اننى مبتور الكفين ولكن احد الاطباء المرافقين اخبرها بعد ان شاهد التقرير باحتراقهما ويعالجان .. رتبت على صدرى وتقول الزيارة الجاية تكون كويس وتسلم عليا .. ملكش اى طلبات .. اومأت لها براسى شاكرا وغادرتنى لتكمل مرورها على باقى الجرحى.

    قبل العصر حضر لزيارتى اخى الاكبر بعد ان توجهه الى مستشفى كوبرى القبة ولم يجدنى هناك وانزعج واعتقد انى قابلت ربى ولما علم اننى فى المعادى لاحصل على اكبر قسط من العلاج حضر وفى قسم الاستعلامات علم بمكانى واخبرنى بان الزحام خارج وداخل المستشفى كثيف وان الكثيرين من الاهالى ينتظرون دخولهم .. هذا ما كنت الاحظه منذ وصولى لهذا القسم زيارات لشخص واحد يتعدى عدد الزائرين العشرة فى بعض الاحوال .. لم تكن ادارة المستشفى ترفض الزيارة تقديراً لشعور الاهالى تجاه ابنائهم وازواجهم الا فى فترات العلاج والمرور فكانت تمنع الزيارة وبعدها يندفع الزائرون وخصوصا لاول مرة يتفحصون المرضى ومن فى حالتى يقفون امامى طويلا لاحتمال ان اكون ممن يبحثون عنه ومختفى خلف لفائف الشاش والقطن.

     خالى هو الاخر بعد ذهابة لمستشفى كوبرى القبة عاد الى المعادى ودخل عليا باشا مشجعا حالتى ومطمئنا على بانه طالما وصلت الى المعادى فستخرج منها باذن الله معاف وسليم ومازال العلاج مستمراً وبدأت اشعر بقليل من الصداع ثم احصل على وجبتى الغذائية واشعر ببعض التحسن فى راسى ولكن مازالت يداى مربوطتان وهذا يزيدنى ضيقا فكنت اشعر باننى مخنوق ولا استطيع ان اساعد نفسى بفرد الملائة او ثنيها كما كنت انتظر اخى ليصحبنى الى دورة المياة بدلا من مرافقة فتيات المستشفى لى وانتظارهن لى بخارج الحمام .. كان الخجل يعترينى منهن وخاصة من صغر اعمارهن .. كما طلبت منه ان يقوم باعطائى حمام ساخن وفعل وجازاه الله كل خير عما تحمل من مشاق من اجلى وهو صائم فى شهر رمضان قادماً وعائداً الى مدينة الزقازيق ليبلغ ابى وامى بحالتى والتى كان مشوار السفر شاقا عليهما خاصة فى شهر رمضان وهما صائمين.

 

 

 

 

 اثر الشعب فى العلاج النفسى

 

    مضى على وجودى بمستشفى المعادى خمسة ايام ومازلت اواصل العلاج وتحسنت حالتى قليلاً من جهة الاصابة بالرأس وقد تبين لى من حديث مع الطبيب المعالج وهو العميد مكلف الاستاذ الدكتور/ممدوح سلامة الاستاذ بكلية طب عين شمس قسم المخ والاعصاب بان سبعة شظايا اخترقت رأسى واستقرت فى منطقة ما بين المخ والمخيخ وارجو ان يكون هذا الاسم صحيحا وليس خطأ لان هذا الحديث منذ قرابة ثلاثة وثلاثون عاما مضت وانهم ازالوا ثلاثة شظايا وهى مكمن الخطر وتركوا اربعة مازالت اتشرف بحملها داخل رأسى اما تحت فروة الرأس فكانت هناك اربعة اخرى لم يتعرضوا لها لعدم الخطورة الحالية ويمكن بعد عدة اشهر ازالتها بعملية بسيطة لاتحتاج سوى البنج الموضعى وطمأننى الطبيب على حالتى وكنت شاعراً بصدقه نظرا لكفائته ومهارته التى لا انساها ودائما ادعو له بدوام الصحة لما قام به معى ومئات ان لم يكن الاف ممن اصيبوا فى تلك الحرب التصادمية العنيفة.

     كان هناك امر آخر اشعر انه مازال يحتاج الى رعاية وهى حروق يداى فبعد ان رفعت الاربطة اصبحت يداى سيئة ولا استطيع فرد اصابعى واصبحت مكمورة بوضعها الحالى بعد وضع الميكروكروم .. اندهش الدكتور ممدوح من هذا وطلب اخصائى لهذا التخصص .. حضر الاخصائى وكانت طبيبة يوغسلافية وازعجها هذا الاسلوب فى العلاج مقررة ان هذا لايفيد فى مثل تلك الاحوال لانها حروق وليست جروح وقررت اصلاح خطأ السيدة التى بدأت علاجها منذ اربعة ايام بأن جاءت بمشرط وقطعت خطوط عرضية خفيفة بين الامى الشديدة ولهذا اعدت عدتها بان اضع فوطة فى فمى حتى اكذ عليها مما اصابنى من الم من تشريط هذا الجلد الرقيق الذى بدأ فى التكون وابدلت هذا بشريط معقم من مادة مثل الفازلين واعيد ربط يداى ثانية وهما مفرودتان وتأتى يوميا لتلاحظ الحالة مع ثنى اصابع يدى حتى يتكون الجلد الجديد على وضعه الطبيعى.

       غفوت بعض الوقت على حالتى هذه والام يداى مازلت تؤثر فى وقد بدا هذا واضحا على معالم وجهى لان اخى عند زيارته لاحظ ذلك واخبرته رئيسة قسم التمريض بالقسم بما تم وانه كان لابد من علاج خطأ العلاج السابق .. انا نائم فى اثناء الزيارة وفتحت عيناى على سيدة تجلس على السرير المجاور من الناحية اليمنى حيث كان جارى اليسار هو النقيب الذى رافقنى فى اللورى السياحى لمستشفى كوبرى القبة (لورى المرحومين) وقالت عنه يومها الحاجة جمالات انه قد يكون قابل ربه .. مازال حيا ويفتح عينيه ويستجيب لنداءات هيئة التمريض دون مقدرة على التحدث وقد ذكرنى بالعزيز مدحت.

    نظرت الى السيدة وانا اعتقد اننى قد رايتها قبل ذلك ثم فاتحتنى فى الحديث .. ازيك يا ابنى عامل ايه؟ هوه مافيش حد بيزورك والا ايه؟ انا كل يوم هنا ومشفتش حد معاك؟

    اجيبها بصوت خافت: اصل عيلتى فى مدينة الزقازيق ووالدتى مريضة ولاتستطيع ان تحضر لزيارتى مثل الاخرين .. تبتسم لى مع نظرة اسى لحالى وهى تشير على نفسها بان تضع يدها على صدرها قائلة : تقبل انى اكون ماما لحد ما مامتك الحقيقية تيجى تزورك .. اصل انا ربنى حرمنى من الخلفة .. ايه رأيك ؟ موافق .. اجيبها : ربنا يخليكى دا شرف كبير ليا انك تكونى ماماتى .. تسألنى طيب اسمك ايه؟ اخبرها وهنا تقول خلاص بص يا اسامه يا ابنى انا من النهاردة امك .. انت تعرفنى؟ اجبتها اننى اعتقد اننى شفت حضرتك قبل كده .. تضحك وتقول فيه حد ما يعرفشى “عزيزة حلمى” انتبه لها واقول : آه ماما عزيزة حلمى بتاعة ربات البيوت .. تبتسم وتقول تمام وبرده مثلت كام فيلم .. فاكر فيلم عبدالحليم حافظ وآمال فريد لما كان عبد الحليم موظف بسيط فى شركة ابو آمال واخترع قماش مينحرقشى .. اهو انا كنت مرات سراج منير .. ضحكت واجبتها ايوه لما كنتى غاوية تقولى شعر .. تبادلنا الاحاديث وجاءت رئيسة القسم لتشكرها لانها ادخلت البهجة على قلبى وجعلت لسانى ينفك بهذا الحديث نظرا لقلة الزائرين لى.

      قبل ان تودعنى سألتنى عما اريده ان تحضره لى غداً ولكنى شكرتها طالبا منها ان تتصل ببعض اصدقائى وزودتها بتليفون ماما وداد وماما مارى فاكدت لى على انها سوف تحدثهم فور عودتها الى منزلها .. تركتنى ماما عزيزة حلمى وانا اتذكر افلامها وتمثيلياتها .. اليوم التالى بعد مرور الاطباء غفوت قليلاً ونهضت على صوت وحركة بجوارى لافتح عينى لاشاهدها .. آه ياربى انها روز .. تنظر الى باكية وهى تحادثنى. دوختنى انا وعاطف عليك ودورنا فى مستشفيات كتير ومش عارفين اخبارك .. تحادثنى ماما مارى بعتالك السلام ومقدرتشى تيجى علشان عاطف مشغول .. هيا تيجى يوم وانا اليوم التالى .. اغفو واسرح ثم انام وانتبه على صوت يحادثنى .. ابنى اسامه واسمع صوتها والذى استطيع ان اتبينه من بين مئات الاصوات انه صوت ماما وداد .. افتح عينى لاشاهدها امامى ومعها كلا من مدحت وعلا ودينا والتفوا حولى وهنا تحضر ماما عزيزة وهى شخصية مشهورة فيشكرونها على اتصال الامس وهى تشكرهم لحضورهم لزيارتى وتخبرهم بان ابنى اسامة لايزوره احد مثل باقى الجرحى .. يتكالبون حولى وكل يسأل وانا لا استطيع الاجابة لكثرة الاسئلة التى تريد وقتا لاجابتها وقد كنت تائها وقد انعكس هذا عليهم باننى احتاج لرعاية وزيارة مستمرة ودينا تستحثنى بان اشفى بسرعة لانها تريد اللعب معى ويضحك هذا عائلتها وشقيقها مدحت الذى يخبرها بانه اصبح قائداً كبيراً ولا يلاعب  الفتيات الصغيرات وهى الاخرى تخبرهم بانها كبيرة وانها سوف تقرأ فاتحتها قريبا وهنا تفرح الام وتخبرنى بانها ستؤجل كل شىء الى ما بعد شفائى وخروجى من المستشفى .. جلسوا جلسة طويلة ممتعة وهنا تحضر السيدة عزيزة حلمى بعض الزوار ومعهم الهدايا لى وبعدها بقليل تعود بزوار آخرين والاسرة مندهشة من شعبيتى بين الزائرين وفهمت بعد هذا بان ماما عزيزة حلمى تقابل الزوار بالخارج وتحضرهم لزيارة ابنها وهم يعتقدون اننى ابنها حقيقيا وليس ادبيا .. تتوالى زيارة الاسرتين فتحضر ماما مارى برفقة عاطف الذى يحاول احتضانى ولكنه يشعر بالجبس حول وسطى فيعتذر بينما امه تجلس على السرير ممسكة بيدى وتنظر الى بكل مشاعر الامومة الصادقة وتقول خلاص اخدت بتار اخوك وليم؟ .. اجيبها بكل اللى عذبهم اليهود اخدنا بتارهم واولهم اخويا وليم .. ياه انها ذكرى قد تكون مؤثرة ولكنها محببة الى القلب ان نعود ونرفع رايات النصر خفاقة عالية.

    عادت اسرة ماما وداد وتعارفت الاسرتان بعضهما على بعض واسعد هذا عاطف ان تصبح هذه امى بعد تعارفه على مدحت الذي ودعنى بعد ان احضر المسئولون طعام الغداء بزيهم الجميل وانا اقيم بحجرة صغيرة ليس بها سواى وزميلى آلاخر وهو رفيق سيارة الموتى والذى لايتكلم ولا يحدث ضجيجا وكان هوالاخر مسكين لا احد يقوم بزيارته لان احداً لايعلم من هو .. انه مثل مدحت منذ ست سنوات.

      ماما عزيزة حلمى قادمة كعادتها بالزوار حاملين الهدايا ولا اعرف كيف اشكر شباب مصر وفتياتها خاصة ابناء الجامعة فى تلك الفترة الذين كانوا دائمى الزيارة للمصابين بالمستشفيات ونحن من بينهم مستشفى المعادى للقوات المسلحة فلكم كل شكرى يا ابناء ويا بنات مصر .. احُضر طعام الافطار اثناء وجود زيارة من فتيات جامعة عين شمس وهنا تقدمت احداهن قائلة كم عدد قوالب السكر على الفنجان؟ فاخبرتها اثنان .. كان السكر من النوع الفاخر ومعبأ كقوالب مثل الفنادق وضعت السكر واضافت اللبن الطازج وناولته لى وهى تقول تعرف ياكابتن البلد كلها مافيهاش حبة سكر.. اندهشت لهذا واستفسرت منها ومن زميلاتها والتى ادلت كل واحدة بدلوها فى هذا الشأن بان احدى جارتهم لا تستطيع ان تعد رضعة طفلها لعدم توفر السكر فامتنعت عن شرب الشاى مراعاة لظروفهم ولكنهم اجابوا بنفس واحد انتم اهم منا جميعا .. انتم المدافعون عن مصر وشعبها ولكم كل تقدير وماهو السكر الا بالشىء القليل فيما قمتم به من بسالة فى ميدان المعركة..

      غادرت الزيارة مكان سريرى وحجرتى وماما عزيزة تذكرني بفيلم “ليالى الحب” للمبدع عبد الحليم حافظ وتتذكر ما حدث اثناء تصويره وبروفات غنائه وما كان يحدث من مفارقات مع زميلهم عبدالسلام النابلسى والممثل البارع محمد عبد القدوس الذى كان يقوم بدور رجل تركى فى الفيلم “ممتاز شركس” لم تهدأ وهى تقص روايتها.

      بعد قليل حضر وفد من فتيات الجامعة وهن يتمايلن بانوثتهن الرائعة وملابسهن ذات الالوان المختلفة والموديلات الجميلة واحذيتهن الرشيقة واتذكر الفنان عبدالوهاب عندما يقول ان جمال المرأة فى قدمها .. اى يبدأ من القدم من الحذاء واشاهد ماقاله هذا الفنان فأتاكد من صدق حديثه .. احدى الفتايات تنظر الى الشاب الذى معى والذى رافقنى فى لورى المرحومين على حد قول السائق وهو ينظر اليهن ولا يتحدث لم اسمع صوته بعد مرور عشرة ايام حتى الان منذ وصولنا الى المستشفى .. صرخت بصوت منخفض وتضع يدها على فمها وهى تقول  .. علاء .. علاء وهو ناظر اليها بدون انتباه او لا مبالاة .. اتدخل فى حديثها اليه .. اسمه علاء؟ .. تؤكد ايوه هوه علاء .. اسئلها اتعرفينه؟ .. تجيبنى طبعا علاء هو جوز اختى هدى .. الجميع فى دهشة وحضرت احدى المسئولات لنبلغها باسم هذا الانسان فاقد الذاكرة والمعلومات فلا يعرف احد عنه شيئا سوى انه نقيب لما يضعه على كتفه من رتبة .. ففى غمرة الاشتباكات ينسى البعض اعطاء بيانات المصاب وبعض المصابين لايحتفظون بمحافظ لاوراقهم معهم خوفا من الضياع فى المعارك ويحتفظون بها فى مؤخرة وحداتهم.

      اسرعت الفتاة تتصل بشقيقتها وعادت بعد دقائق لتزف خبر حضورها بعد قليل حاملة وليدها ذا الاربعة اشهر .. وتنظر الى قائلة اصل احنا ساكنيين هنا فى المعادى .. لم تمضى نصف ساعة الا وحضرت الزوجة الى زوجها متلهفة عليه وترتمى عليه باكية وهو مازال كما هو غير عابىء بما يحدث حوله ولكن الشىء الذى لفت انتباهه هو الطفل فينظر اليه وخالته تحمله وعيونه تلاحقه اثناء سيرها فى الحجرة فطلبت منها ان تعطيه طفله فناولته له فامسك به يقبله باكيا .. والطفل يصرخ الما من شدة قبضة ابيه عليه والام تحاول فك زراعه عنه وهو مازال باكيا ناظراً وهو ينظ الينا مستفسراً .. عمرو .. مش اسمه عمرو؟ .. تبتسم الزوجة .. ايوه ياعلاء ده عمرو ابننا .. تجلس بجواره فى السرير وبينهما الرضيع والجميع فرح وسعيد والغبطة تملأ قلوبناً .. اخيراً عرفنا علاء وعمرو وهدى واجتمع شمل الاسرة بعد اسبوعان من بداية الحرب التى مازالت تدور رحاها بيننا وبين الاعداء.

    انشغلت بكلا من هدى وعمرو فقد ملؤا علينا الغرفة سعادة وبهجة ومن منا يسمع صوت الرضيع ولا تتحرك شجونه وخاصة عندما يلاعب اى انسان ويبتسم فاتحا فمه الصغير  خالى الاسنان انه لشىء رائع وحكمة الله فى الارض .. هدى تظل طوال النهار قابعة معنا وتعرفت على ماما عزيزة. لقد إحتل كلٌ من هدي وعمرو مكانا فى قلوبنا وملؤا الحجرة فرحة وجمالا وبعد ان تعرف علاء على زوجته فأضحى انسانا آخر يتحرك وينهض ويأكل ويضحك .. آه على العلاج النفسى وآه على زيارة البشر للمرضى انها اشد قوة من العلاج العضوى كان واضحا هذا على علاء وايضا على جميع المرضى وانا من بينهم ولكن الانسان لا يستطيع ان يلاحظ نفسه ولكن الاخرين هم الذين يلاحظون الشخص المصاب.

     اشاهد عائلة قادمة تستفسر من البعض وتتفرس وجوه المرضى فى الحجرات الزجاجية والاحظهم وانا مازلت فى سريرى .. ولسان حالى يقول اننى اعرف هؤلاء .. اننى اشعر باننى رايتهم قبل ذلك .. يدخلون حجرتنا والرجل والمرأة ينظرون الى علاء بينما الفتاة تسرع الى تصافحنى بحرارة وتقول ازايك ياخويا .. انه عم عليوه المزين وادهشنى ان يعلم الرجل بمكانى ويحضر من بورسعيد لزيارتى وانا افكر هكذا اذ بسحر الجميلة الرقيقة تقطع على تفكيرى وتقول شوف بابا عرف ازاى انك فى المستشفى؟ قوله يا بابا .. بصوته الهادىء الذى اثرت فيه السنون واحداث 56 واستشهاد ابنه ممدوح .. يقول: يا ابنى الحكاية كانت صدفه ..  واقف عند الفرن اجيب عيش شافنى الاسطى وسلم عليا ولما كلمنا مع بعض عرفت منه انك انجرحت وفى المستشفى .. مازلت غير واعى ولكن الشباب اسرع توضيحا اذ قالت سحر ان بابا قابل سعيد السواق اللى جه معاك لما زرتنا فى بورسعيد وتعرفوا ببعض .. ياه اقولها وانا فرح ثم اكمل لكن ايه اللى ودى سعيد بورسعيد؟!! تضحك سحر وتقول مش انا ياخويا قلتلك لما كنت عندنا اننا حنهاجر الى القاهرة .. هما تقابلوا فى القلعة لان سعيد ساكن فى نفس الحى .. آه قلتها بعد ان اعادت سحر تركيب الحروف الهيلوغرافية فى اماكنها .. استفسرت منه .. الان انتم بالقلعة فى منزل عمتكم؟ .. اجابتنى سحر آه دلوقتى بقينا فى القلعه ومن سكان مصر وحتلاقانى كل يوم نطالك هنا وافضل طول النهار معاك .. ايه رايك؟ .. اخويا موافق والا له رأى تانى؟

      يكمل عم عليوه .. متأخذينشى يا ابنى صحتى على قد حالى وخصوصا فى رمضان لكن باذن الله ان حضرت العيد هنا حأكون معاك .. جلسوا جلستهم وهموا بالانصراف ولكن عم عليوه عاد وقال لى .. انت ابنى مش كده؟ .. ابتسم له امال ياعم عليوه من ست سنين وكام شهر يقبلنى ومازالت زوجته وابنته وابنه وقوفا على بعد عدة امتار .. ثم يقترب منى وهو يقبلنى .. مش حاوصيك لو حصل لى حاجه خد بالك من اخواتك .. انتفضت وانا اخبره قائلا : بشر ولاتنفر .. ايه اللى بتقوله ده .. يربت على كتفى ويقول الاعمار بيد الله .. السلام عليكم يا ابنى ..

     بقدر ساعادتى بقدر ما حطمت تلك الكلمات الاخيرة قلبى واشعرتنى بحزن ويأس شديدين .. لماذا يقول هذا الاب الملتاع على ابنه واسرته هذا الكلام؟ .. لابد انه يشعر بان دنو اجله اقترب ولكن كل هذا عند الله .. هونت على نفسى بان الرجل يريد ان يتأكد اننى مازلت ابنه واننى لم اتكبر او اتعالى عليه كما يشعر بعض المصريين الطيبين .. ظللت اتذكرهم واتذكر ما يتمتع به هؤلاء الناس من طيبة ورقة رغم رقة حالهم المادى .. الفتاة سحر ازدادت جمالاً وبهاء وقد تعدى عمرها العشرون عاما كما اخبرتنى منذ قليل ..

حضر بعض اخوتى من الزقازيق برفقة اخى واليوم التالى حضرا كل من ابى وامى وتقابلا مع ماما عزيزة حلمى والتى تحبها امى نظراً لاهتمامها بسماع تمثيلية عيلة مرزوق افندى والتى تقدم فى البرنامج العام بالاذاعة .. وبعد ان رحبت بهم تركتهم لاستكمال جولتها وهى مازالت على العهد بالقبض على اكبر عدد من الزوار حاملى الهدايا واحضارهم لزيارة ابنها والناس مازلوا يصدقونها وقد اتخمت بالهدايا واصبحت كثيرة وانبت نفسى لماذا لم اوزع البعض منها وخاصة على عائلة عم عليوه وابنه حمدى.

     اثناء فترة عيد الفطر تقاطر الزوار على المستشفى لزيارة الشباب من الجرحى ومازالت ماما عزيزة تقبض على الزوار وتحضرهم لى وزودت سحر ببعض الهدايا وكانت رافضة فى البداية اخذ اى شىء منها ولكنى اقنعتها انه على سبيل الامانة وتحفظ عندها واسعدها هذا .. استمرار زيارة سحر وروز اليومية يتخللها زيارات علا وبعض الاحيان ماما وداد او ماما مارى والعقيد عاطف شفيق.

   بعد اجازة العيد قام الطبيب بخلع الجبس عن ظهرى ووسطى واراحنى هذا كثيرا كما خلعت العمامة وبعض الشعر ظهر وارتفع قليلا وبعدها بيومان رفعت طبيبة الحروق كل الاربطة عن يدى واصبحت حرا طليقا بعض الشىء واستطيع ان اصافح الجميلات الثلاث وان استبقى ايديهم فى يدى بعض الوقت .. لم يمضى اسبوع  الا وقررت ادارة المستشفى خروجى ومنحى اجازة مرضية لمدة شهر تكرر ثلاث مرات متتالية بنفس المدة “اى ثلاثة اشهر” ثم بعد هذا اعرض على قسم المخ والاعصاب.

     مضى على عودتى لمنزلنا بالزقازيق الاسبوعان تحسنت صحتى الى اقصى درجة وامى اعدت دورى من الاطعمة تتنافس فى هذا الدورى كل من البط والفراخ والحمام والارانب ولحوم الاغنام بل ولحوم الجمال اعتقاداً منها بان الانسان الذى يأكل لحوم الجمال يصبح قويا صابر مثلهم!!

  

 نتائج المـــعركة

 

    بعد ُمضى اسبوعان على تواجدى بمنزل اسرتى بالزقازيق وتحسن حالتى الصحية والنفسية الى درجة كبيرة حضر الى منزلنا سيارة جيب عسكرية وبصحبتها الملازم اول مهندس فايز وهو المهندس المسئول عن صيانة المركبات المدرعة فى كتيبتى وهو شاب مهذب ومحترم وتربطنى به صلة قوية نظراً لما كان يتعرض له من انتقاد حاد من قائد كتيبتنا فريد مندور رغم انه مهتم بعمله وقليل الكلام كثير العمل لكن فى صمت وهذا حال ابناء الصعيد شديدى البأس وبعد ان عانقنى هو والسائق مرحباً بعودتى سالما الى اسرتى شكرته وسألته: احضرت الى مدينتى فى مأمورية وكيف عرفت عنوانى؟ .. ابتسم وقال : مأمورية فهذا صحيح اما كيف عرفت عنوان سيادتكم فقد زودتنى به قيادة اللواء وبالاخص قائد اللواء العقيد احمد عبده .. افندم سيادتكم اذا كنت قادراً على مصاحبتى الى الكتيبة فى شرق القناة فنكون سعداء جميعا وهذه رغبة الجميع وامر من قائد اللواء لان التلفزيون المصرى متواجد منذ يومين ويصور اماكن المعارك والابطال الذين قاموا بتلك الاعمال المجيدة وقد أجل قائد اللواء اى تصوير فى جميع قطاعات اللواء قائلا : ليس قبل ان نصور قائد مفرزة نطاق امن الفرقة الرائد اسامه لما قام به هو وقواته من اعمال فى منتهى الشجاعة كانت السبب الرئيسى فيما نحن فيه الان من شعور بالنصر والفرحة فيجب على صاحب الفرح ان يكون متواجداً بيننا وهو الذى نبدأ به الاحتفال والتصوير وطلبوا منى الحضور لسيادتكم لو كانت حالتك الصحية تسمح بالعودة الى الموقع الذى حاربت فيه.

       كنت استمع الى هذا الضابط قليل الكلام  كثير العمل وانا سعيد بكل ما جاء على لسانه فهو اولا فك عقدة لسانه ويتحدث بطلاقة وكأن النجاح يولد البلاغة فى الحديث ثم هو ينقل لى رسالة من قائدى الاعلى وما انا بشعورى من جهته هذا القائد دمس الخلق الهادىء فى اشد الظروف ضراوة وانا استمع اليه على جهاز الاتصال اللاسلكى ويطلب من قائد الفرقة عونى وانقاذى مع جنودى .. ملاحظة : اقصد فى كل كلمة تخص الجنود نحن المقاتلين قيادة وضباطا وصف وجنود اصاغر .. لم ينسانى او يتناسانى قائد اللواء فى غمرة الافراح .. اسعدنى هذا التقدير ومن منا نحن البشر لايسعده ويطربه ان يجد التقدير من الاخرين وخاصة القيادة وبعد ان تكون انجزت مهمتك التى اوكلت اليك .. يخبرنى الضابط فايز اننى على الاقل سأمضى بضعة ايام معهم فى الكتيبة لأن الجميع فى شوق الى رؤياى وسماع حديثى وروايتى خاصة بعد ان مُنيت تلك الوحدة بخسائر جسيمة وفقدت نصف قيادتها كشهداء ومنهم قائد ثان السرية النقيب حسن وقائدهم الاكبر سعادتك كمصاب.

      اعترتنى مشاعر فياضة اكثرها تأثيراً هو شعورى بالحزن على من فقدناهم وانا اعرف الكثير ممن لاقوا الشهادة اثناء حلمى او رؤيتى وانا مصاب ملقى ارضا ومدفون فى داخل الرمال بعد ان قامت الدبابات الاسرائيلية بواجبهم المقدس بدفن وهرس الموتى والجرحى والاحياء بتلك الجنازير القوية وتحت ثقل دبابة لايقل وزنها عن ستون طنا من الحديد.

   تحركت بنا السيارة الجيب بعد ان اقنعت امى التى كانت رافضة عودتى الى موقع كتيبتى وهى تقول يا ابنى اليهود حيكونوا مستنيينك وينتقموا منك!!! وكأننى شخصية معروفة لديهم .. السيارة تقطع الطريق وبعد حوالى ساعتين نصل الى هدفنا وانا مازلت رابطا يداى بالاربطة حسب تعليمات الطبيبة والا افكها الاوقت الاستحمام اما راسى فقد اوصانى الطبيب بالابتعاد عن الشمس والمحافظة عليها من برودة الشتاء مستخدما الطاقية المعدة لذلك وهى من الشاش المعقم للحماية والدفء نظرا لتعرية عظام الجمجمة وتأثير الحرارة والبرودة عليها كما ان برأسى فتحة تحت فروة الرأس بقطر اثنين سم مربع بدون عظم وكل هذا يجب على الاحتراز له.

       نقف امام الكوبرى الذى شيده سلاح المهندسين شمال جزيرة البلاح واشاهد النقطة (51) الاسرائيلية مدمرة بالكامل وينعق بها البوم .. تعبر بى السيارة الى الشرق ونتجه الى موقع رئاسة الكتيبة .. ياله من موقع انه مكان مركز ملاحظتى وارى قريبا منى ماسورة القاذف المضاد للطائرات والذى احترق واحرقنى وانقذنى معه .. سبحان الله ان اعود بعد قرابة الشهرين لهذا المكان الطاهر الذى صعدت منه ارواح شباب مصر الى ربها شهيدة الى جنة الخلد والرضوان وسبحان من له الدوام.

      تقاطر على الضباط والجنود مرحبين وسعداء ومقبليننى ومحتضنيينى وقد اعيانى الارهاق والتعب سواء من طول المشوار او من حُسن الاستقبال وكثرة الانفعالات وشعرت اننى لم استطع ان اقدر حالتى الصحية عندما وافقت على العودة لموقعى السابق اثناء الحرب ولكنها كما سبق وقلت انها رعونة الشباب واندفاعهم مهما كانت الاحوال وبايدى هؤلاء الشباب ورعونتهم تبنى الامم مجدها وقوتها .. اشاهد بعض الضباط الغرباء عن ذاكرتى واعلم من رئيس العمليات الرائد/ احمد الشيخ محمد عبده بانهم استعواض خسائر بعد ان فقدنا ربع ضباط الكتيبة فى المعركة يقود سيارة لورى صغيرة ويلف بى فى موقع عملياتى شارحا لى ماذا شاهد فى صباح السابع من اكتوبر وهو يروى ماتم بحزن وكنت لا اتصور انها حرب بل هى مجزرة بكل المقاييس ويخبرنى .. تصور يا اسامة لم اجد شهيداً الاوقد هرسته الدبابات رغم ما لحق بهم من خسائر كبيرة على ايدى رجالك ثم يتوقف بالسيارة ويقول بس تعرف انت ورجالتك كنتم عيال ميه ميه .. اى والله وده السبب اللى خلاهم عملوا فيكم كده لان معارك الكتائب المجاورة رغم محدودية خسائرهم لكن محصلهمشى كده .. لكن اليهود خسايرهم كبيرة والاهم انتم ضيعتم عليهم فرصة مساعدة النقط القوية من هنا من البلاح من مكان عبورك حتى جنوب بورسعيد .. تصور كان العميد فؤاد عزيز بيقول لاركان حربه قدامنا كلنا .. تعرفوا احسن حاجه عملتها فى الحرب دية .. ونحن ننظر اليه منتظرين ما يقول من كثرة اعماله خلالها فقد كان قائدا فذا بكل المعايير .. بعد ان صمتنا ونحن ننظر له بكل اهتمام .. يعود ويقول .. احسن حاجه هو اختيارى الشخصى لقائد مفرزة نطاق امن الفرقة .. فقد كان اختياراً فى محله ومش حأقلل من كل اللى كانوا معاه لكن اسامه كان القائد المثالى فى هذه الحرب لهذا الواجب .. دقة تنفيذ الاوامر وهدؤ الاعصاب اثناء المعركة .. ثم ينظر الى قائد اللواء العقيد احمد عبده .. قائلاً : فاكر يا احمد اتصالاتك وكلها متسجلة وموجودة عندنا وعند هيئة عمليات القوات المسلحة .. يتنحنح احمد عبده ويقول يا فندم الموقف كان خطير وانا اراقبه من الغرب على مسافة تمانيه كيلو.. مش حرب كانت طحن فى بعض .. دبابات بتدوس عساكرنا وعساكرنا بتفط على الدبابات وولعه فى الناحيتين وانفجارات مدرعاتهم مكنتش عارف افصل بينهم داخلين فى بعض .. يسأله فاكر امر الانسحاب الى اصدرناه الى اسامه .. يتبرم الرجل ويجيبه طيب يافندم ماهو كان معارض وسيادتك صممت .. ينظر جهة اركانات حربه .. قائلاً : سامعين قائد اللواء بيقول ايه؟ .. انا اقول هوه ادرى بوضعه وخلونا فى معركة القنطرة وانتم تطلبوا منه ان يعود للخلف علشان ندفع بيهم الى مكان آخر .. المهم كان حوارا ساخنا .. الى ان سأله احد قادة السرايا وهو رائد واقدم منك بعام .. افندم : لم تخبرنا بالسبب الذى اخترت على اساسه الرائد اسامه لهذا العمل .. اجاب ايوه ده سؤال مهم للقيادات الصاعده .. ايها القادة اياكم والسير بالروتين الحكومى الموجود بدولتنا اثناء المهام القتالية .. اياكم .. وحأقول على سبب اختيارى له .. اسامه احدث رائد فى قادة سرايا الفرقه ولسه مترقى فى يوليو اللى فات لكن انا اخترته قبل الترقيه يعنى رتبته هنا مكنش لها اساس فى الاختيار وكان سبب اختيارى له نقطة هامة فى راى وانا القائد والذى اختار القائد الذى يعمل فى مواجهة فرقتى:

    سرعة تنفيذ الاوامر والتعليمات بدون النظر للاوامر تنفذ ضد من .. معنا هنا مجموعة من رؤساء افرع قيادة الفرقة وهما اللى اتعرضوا لحادث اطلاق النيران من اسامه .. تعليمات قائد الجيش محدش يصطاد سمك فى تفريعة البلاح بالمتفجرات واللى يخالف الاوامر تطلق عليه النيران .. صدقونى لما قالها قائد الجيش وكلمناه بينا وبينه ضحك وقال لزوم الردع والتخويف يعنى انتم فاكرين حد حيعملها .. ما انتم كقيادات اللى بتصطادوا .. لكنها حدثت ومع قيادتى ومن وحدة صغيره عندى .. ارتجيت وارتجت قيادة الجيش.. (رئيس العمليات احمد الشيخ  يقول :متزعلشى من الكلمة اللى قالها قائد الفرقة عليك) .. فى قيادة الجيش قالوا فيه مجنون عملها وقائد الجيش اضطرب وقال : ستر من ربنا انه مافيش خسائر .. رغم ان الحكاية دية قطعت دابر عملية الصيد بالمتفجرات لانها حادثه مش هينه.

    ُعدت مع رئيس العمليات الى قيادة الكتيبة وهناك ترجلنا سيراً على الاقدام واتجهنا الى المقبرة الجماعية التى اقامتها الكتيبة لشهداء وحدتى فى نفس مكانهم ومن حُسن الحظ انه كان تجمع الكتيبة بعد وقف اطلاق النيران .. مساء حضر رئيس العمليات يرافقه المخرج مصطفى بشير كى اكون مستعداً فى الغد لتصوير بعض المشاهد بجوار الدبابات والعربات المدرعة الاسرائيلية التى دمرها جنودى الشجعان .. اعطانى الرجل فكرة مبسطة عن عملهم واخبرنى انه لن يرهقنى بكثرة التصوير لما لاحظه على من ارهاق ومنظرى وانا ملتحف بالشاش.

   

     بعد مغادرتهم المكان الذى سوف استريح فيه وانا مازلت بشرق القناة بسيناء حضر الى ضابط وعرفنى بنفسه .. رائد/ مصطفى فتحى قائد السرية الثالثة .. آه قلتها بدهشة انت اذن الذى توليت القيادة بعدى؟ ابتسم قائلا : مظبوط .. بعد ان تحدث عن بعض الامور العادية وما قامت به السرية من معركة العبور سألنى سؤال واضح .. اسامة علمت انك من الزقازيق .. اجبته بصحة هذا .. قال ساطلب منك معروفا ثم تنبه لحالتى ويقول يعنى لو مقدرتش ممكن تكلف حد يعمله مكانك .. شوف ياسيدى انا اكبر اخواتى ووالدى متوفى منذ عدة اعوام ومن قبل اول اكتوبر واحنا فى طوارىء ولحد دلوقتى اكتر من شهرين منزلتش اجازه واكيد والدتى واخواتى الصغيرين عايزين يطمئنوا على .. هل ممكن اديلك جواب وتبعته مع اى حد لهم واذا قدرت تروح لهم يبقى خير وبركة .. اجبته بالموافقة .. نهض سعيداً بانه سيذهب ويكتب الخطاب  ويعود الى .. اشاهد بعض الخطابات امامى مرسلة من الاهل لابنائهم .. اجد عددا كبيراً من تلك الخطابات باسماء جنودى وضباطى الذين لاقوا الشهادة .. اتذكرهم واتذكر ان اخوتهم او عائلاتهم تنتظر رد على خطاباتهم ولكن الشهداء لايكتبون خطابات للاحياء.

       امضيت ليلتى بجوار زملائى واحبائى الشهداء ويعترينى من حين لاخر نشوة النصر واتذكر منذ مايقرب من الشهرين كانت تدور فى هذا المكان معارك قوية مع الاعداء والحمد لله بفضل الشهداء والجرحى والباقون حصلنا على جزء من ارضنا وها انا انعم بالنوم بها بعد ان كنا ننظر لها من الغرب على انها شىء بعيد المنال.

   فى الصباح شرفنى بالزيارة قائد الكتيبة البديل للمقدم فريد مندور المصاب وهو المقدم بهاء زايد وتحدث معى الرجل بكل ود وهو يخبرنى بانه كان يتمنى رؤية قائد مفرزة نطاق امن الفرقة وكيف ادار تلك المعركة التى اختلط بها الحابل بالنابل وما حدث لكم من خسائر وانجازات .. سالته عن نتائج تلك المعركة ففتح اجندته ويقرأ منها وانا اسجل فى ذاكرتى:

خسائر قواتك                                                     

     * عدد الشهداء من الصف والجنود 64               

* من الضباط 7

* الجرحى من الصف والجنود 146

* من الضباط 3

 

خسائر معدات

* عشرة مدافع لسرية م/د الكتيبة

* اثنين مدفع هاون الكتيبة

* اربعة مدافع “جرينوف” رشاش

* اربعة لوحة الكترونية توجيه صواريخ م/د

 

خسائر العدو:

* سبعة دبابات مدمرة وواحده سليمة غرزت فى الملاحات (الاجمالى دبابة

* العربات المدرعة ستة مدمرين بالكامل

* الافراد 8دبابة ×4 فرد=32 قتيل

* عشرة فى عربة مدرعة انفجرت بهم بالكامل واحترقوا (10) قتلى

* ثمانية من افراد المشاه الميكانيكى قتلوا اثناء محاولة اسرك وذلك بواسطة الرشاش المتوسط (8) قتلى …. هؤلاء من قتلهم الجندى الشهيد احمد همام بمفرده

* الاجمالى=32+10+8= 50 قتيل اسرائيلى

الجرحى خارج السيطرة لانهم اخلوهم للخلف

الخسارة الكبيرة لليهود هو عدم مقدرتهم على انقاذ النقاط القوية التى سقطت تباعا

      اعاد القائد الجديد ثنائه على قواتى وعلى نجاح مهمتنا وعندما لاحظ شرودى من كثرة عدد الشهداء والمصابين هون على قائلا : هذه هى ضريبة الحرية وضريبة النصر .. لا يوجد انتصار بدون دماء .. ثم اخبرنى بان طعام الافطار سيصلنى ثم يحضر احد ضباط قيادة الكتيبة ليصطحبنى لاماكن التصوير متمنيا لى اقامة سعيدة بينهم.

     تركنى متجها الى عمله وبقيت اجتر احزانى على زملائى رغم علمى بكمية خسائرنا ولكننى لم اكن اتوقع هذا الكم الكبير وان نعبر القناة بدون ان يصاب اى منا وهنا تسفك دمائنا ومازلت اتذكر حديث الوزير معى ومع قائد الفرقة “حتكون معركة لحم مع حديد يا فؤاد” لقد صدقت سيدى الوزير كانت هكذا لحم مع حديد فرم اللحم بواسطة الحديد وانصهر الحديد تحت قوة نيران الرجال.

     اقف فى منطقة تدمير الدبابات المعادية والمخرج يوضح لى زوايا التصوير والفنيين والمعاونين بكاميراتهم وانا اقف بجوار ثلاث دبابات اسرائيلية مدمرة بايدى رجالى البواسل ومازالت رائحة تحلل اجسادهم المحترقة بالداخل نفاذة واتحدث حوالى عشرة دقائق عن مهمة وحدتى وموقعها وخلاصة المعركة ونتائجها وهنا يطلب منى المخرج التوقف ويقول مش معقول ياكابتن تعرف الشعب ان فيه خساير كبيره!! .. استوضحه يعنى اقول رحنا ورجعنا بالف سلامه وموتنا اسرائيل كلها وما فيش حاجه عندنا دى حرب .. يستمهلنى ويخبرنى انا عارف لكن قول عشرة شهداً وعشرين جريح باصابات طفيفه وعولجوا فى نفس المكان!! .. رفضت هذا التزوير الاعلامى وانا مندهش واقول لما نقول الكلام ده حيفيد بايه؟ الشهدا حيرجعوا من الجنة لاهاليهم مش معقول حنفضل نخبى لحد القيامة ما تقوم والناس تسأل فيه ايه نقوم نقول اصل القيامة قامت عند اليهود لكن احنا فل وآخر حلاوة .. تضايق المخرج من اندفاعى واستفزازى وطلب ضابط المخابرات المرافق له وجائنى ويقول لى : قول كل اللى انت عايزه .. نظر للمخرج قائلاً : سيبه ده بطل .. المخرج يصور ويقول دش ياعم اسامه وبعدها باسبوعان اشاهد التسجيل فى التلفزيون فلا اجد ماقلته واحنا آخر فل وكل اللى اتقال عن خسائر العدو فقط لكن ابطالنا قاعدين دلوقتى بيتشمسوا على القناة ويمصوا قصب ويلعبوا عشرتين طاولة.

      نفحنى قائد القوة التى استولت على النقطة (51) قطعة من قماش العلم الاسرائيلى احتفظ بها خصيصا لى قبل ان اغادر الموقع عائداً الى منزلى وسلمنى الضابط ابن الزقازيق خطابه وزودنى بالعنوان ووصف تفصيلى لمنزلهم الذى كان فى مكان يواجه احد النوادى الرياضية بالمدينة.

     اليوم التالى عصراً ارتديت ملابسى للخروج لايصال الخطاب لاسرة زميلى وعارضتنى امى وتخبرنى بانه يمكننى ان ارسل بالخطاب مع احد من اخوتى ولكننى كنت راغبا فى الحياة واريد ان اشاهد الناس بعد مأساة الامس فى الجبهة خاصة اثناء التصوير التلفزيونى الموجه والمحدد سلفا وقلت فى نفسى اذن لماذا يحمللوننى مشقة الذهاب اليهم وانا فى حالتى هذه طالما هم الذين يعلمون كل شىء والذى نفذ وقام بكل شىء غبى لايفهم مثلهم وخاصة ان التصوير لم يكن اذيع بعد.

      وصلت الى بغيتى وها انا فى الشارع المحدد وعلى يمنى النادى الرياضى وعلى يسارى مجموعة العمارات الحديثة وهذه العمارة التى تسكن بها اسرة زميلى مصطفى فتحى .. ادخل العمارة وبالدور الثانى العلوى اضغط على الجرس فتفتح لى الباب فتاه صغيرة فى حوالى الرابعة عشرة من عمرها واسألها وهى تنظر الى والى الشاش فوق رأسى واربطة ايدى .. مش ده بيت الرائد/مصطفى فتحى؟ .. تجيبنى بتردد ايوه هوه .. هو فيه ايه؟ .. اظهر لها الخطاب الذى معى فتسرع بالنداء على امها .. تأتى الى سيدة مسنة تعرج قليلا فى سيرها .. ايوه ياحضرة عايز ابنى فى ايه؟ .. بهدؤ واضطراب من نظرات الام والابنة سابقا .. والله ياهانم انا كنت فى لقاء مع الرائد مصطفى امبارح وطلب منى اوصلك الجواب ده .. السيدة تفتح حدقة عينها ويلازمها اضطراب وتمسك فى الجاكت الذى ارتديه طالقة عدة صرخات .. الحقونى ياهو .. مصطفى ابنى مات؟ .. صراخ وعويل وانا فى يدها وتهزنى وتدفعنى وتضربنى فى صدرى .. قوللى الحقيقة وانا على هذا الوضع فتجمعت السيدات والرجال لنجدة صديقتهم ام مصطفى ويلاحظون ما انا فيه وشعرت بالاختناق وعيونى جحظت وحضر شاب من داخل المنزل ليفك عنى قبضة تلك السيدة وانا خائف ان تدفع براسى فى الحائط فتنتهى حياتى على الفور .. جمهرة كثيرة وبعض جيران من العمارات الخلفية والمجاورة لنجدة ام مصطفى والبعض علم بان ابنها مات فحضرت السيدات بملابس العزاء الاسود وام البواب علمت فحضرت مسرعة واطلقت عدد من الصويت الحيانى وانا شبه مقبوض على مدفوع لداخل المنزل وعدد كبير من البشر يسأل والبعض يجيب وناس تسأل من يكون هذا وآخرين يجيبون بالنيابة عنى واحدى السيدات تخبرهم قائلة عنى يمكن كان مات وصحى!! .. ما انتم شايفينه عامل ازاى؟ .. اجلسونى يحاولون افاقتى وام صديقى تعيد صرخاتها وهى تنظر لى بذعر .. دا باين عليه مات وحأجيب لهم مصيبه والبعض يدلك ذراعى واحضروا طبيب واعطانى حقنة وكان امام شقتهم شقة يقطن بها ضابط شرطة فاقترح على ام صديقى ابلاغ القسم وهم الشهود قبل ان تدخلى فى حديد ومشاكل .. افقت على جموع من البشر وانا تائه ولا اعرف اين انا وبعد قليل حضرت سيارة النجدة بناء على استدعاء ضابط الشرطة والكل يسأل وانا لا اعرف كيف اجيب.

      مازلت جالسا والعديد يحيطون بى وانا لا اعرف ماذا حدث وكل ماتم .. اقول فى داخلى احضر خطابا من صديقى مصطفى لامه فتصرخ بى وتفعل هذا .. ياه تعمل معروف تلاقيه متلوف ومازلت جالسا بميل على احدى كراسى الفوتيه وجمهرة من البشر وعيون زائغة تنظر الى وضابط النجدة يقرر الاتصال بالاسعاف للحضور ونقل المتوفى الى المشرحة وانا على هذا الحال وباب الشقة مفتوح ومازال البعض يندفع الى ام مصطفى ليأخذ بخاطرها فاذا باحد الرجال المحترمين من كبار السن يطلب من الجميع العودة الى منازلهم مع بقائه هو وزوجته للتعرف على ما حدث وان الفتى مازال على قيد الحياة واحتمال انه مرهق او اضطرب لسماع تلك الاصوات بينما ام صديقى تنظر الى كل فترة وهى تعدد .. ياترى عملوا فيك ايه مصطفى؟ .. يا بكريا  يامصطفى .. وبعض من تلك الاقاويل .. بعد قليل شعرت اننى اتنفس طبيعى فاحضروا لى شيئا اشربه لا اعرفه ولكننى شربته بمساعدة الشاب الذى اتى من داخل الشقة وانقذنى من يد واظافر ام صديقى وعرفت بعد هذا انه مدرس اللغة الانجليزية لابنتهم هدى .. اخيراً سألني الرجل كبير السن  .. تقدر يا ابنى تقولى ايه الحكاية؟ .. بهدؤ وعلى مهلك .. اخبرتهم بقصة حضور سيارة وذهابى لجبهة القتال للتصوير وهناك شاهدت الرائد مصطفى فكلفنى بان احضر خطاب الى والدته لتطمئن عليه وتحاملت على نفسى لكى اقابلهم واجيب على اى استفسار منهم ولكن ام صديقى قلبت حالى وكيانى .. الام بصحيح اللى بتقوله ده .. اجيبها والله زى ما باقولك .. هوه بخير .. وانا اعتبرينى بوسطجى فقط .. قامت السيدة تاخد بخاطرى وهى تقول دا انت فوق راسنا مش حانسى لك الجميل ده وانا اقول فى سرى مش حانسالك اللى عملتيه ده .. تنظر الى الموجودين وهى تقول اعذرونى .. لما الشاب ده هو اللى جاى جايب جواب من ابنى يبقى ابنى حالته ايه؟ .. ده هوه السليم واللى بيتحرك يبقى ابنى ايه خرده فى التربه هو ده اللى حصللى .. اعذرونى .. استأذن ولكنها رفضت قبل ان تقوم بواجب معى وكذا المدرس ولم تتركنى طوال ساعتين الا وتسألنى عن ابنها وانا اجيب على قدر طاقتى.

      عُدت متأخراً بمساعدة المدرس الذى قرر السير معى لمساعدتى والتفاخر بانه يسير مع احد ابطال حرب اكتوبر على حد قوله .. ودعنى على لقاء عند ام صديقى التى اخذت منى عهداً امام الجميع ان ازورهم يوميا حتى يعود ابنها مصطفى .. شوف يا ابنى انت مكان مصطفى لحد ما ييجى .. واقفتها حتى اهرب من هذا الجحيم الذى وقعت فيه فجأة.

        شعرت برتابة الحياة فى مدينتنا فلم اجد بعد الصُحبة الحلوة ومازال باقى الشباب فى الجيش صحيح ان وقف اطلاق نار بدأ لكن مازالت الثغرة موجودة وهناك تداخل بين القوات بين البلدين .. اتذكر اين انا الان مما كنت فيه وانا جالس فى مستشفى المعادى والحسان الثلاثة “روز وعلا وسحر” حولى يتحدثن .. يتهامسن .. اما انا الان لا حول لي ولا قوة اترك امى لاجالس مع ام صديقى وكل ام تحمل هما فوق كتفها تدفعه لهذا المستمع الجيد .. اريد ان اعرف واعلم عن اخبار الاحباء لكن كيف لا تليفون لدى لكى يتصلوا بى .. لقد اتصلت بروز وعلى الان ان اتصل بعلا واسرتها اما هذه المسكينة سحر فكيف اتصل بها لابد ان اذهب اليهم فى القلعة.

   اتصلت بمنزل علا وجاء صوت ماما وداد رقيقا من الطرف الاخر للتليفون وتستفسر عن احوالى وتخبرنى بان جميع اخوتك بخير وكنت بافكر انى ابعت لك مدحت على الزقازيق يطمن عليك لكن علا قالت بلاش يا ماما ونخليه من غير ازعاج .. اجيبها اشكرك كتير يا أمى وانشاء الله فى اقرب فرصه حأكون بمصر وآجى اسعد برؤياكم جميعا .. انتهت المكالمة وهاهى علا تريد قطع حبل الصداقة بينى وبينهم.

      ينتابنى من حين لاخر شعور بالاسى لما حدث بينى وبينها ومازلت حانقا على ما بثه محمد فوزى فى عقلى وقلب حياتى الهانئة رأسا على عقب فلو لم يقل ما قاله لكنت الان ارفل بنعيم السعادة معها.

       فى الصباح التالى تشجعت واتجهت الى القاهرة محافظا على نفسى واخذت تاكسى من محطة القطارات حتى القلعة والسائق مشكوراً اوصلنى حتى باب المنزل العتيق الذى يقع فى مناطق شعبية كثيفة السكان لكنهم طيبى القلب والعشرة يسرعون للمساعدة والمساندة لابطال الحرب على حد قولهم .. عاوننى شابين من الحتة حتى وصلت الى منزلهم وفتحت زوجة عم عليوه الباب مرحبة بى قائلاً : اهلا وسهلا اتفضل .. تعالى يا سحر شوفى مين عندنا وانا انظر لها وهي قادمة ترتدي ملابس المنزل وتغطى شعرها الجميل حتى لا تصيبه العفرة جاءت مصافحة بينما الام اتجهت الى الداخل لتوقظ الزوج عليوه .. حضر لاستقبالى اصافحه واقبله ويقبلنى ولكن حالته كانت سيئة ويقول الحمد لله ربنا فرجها واعتبرواً ممدوح شهيد وجابلوا كل مستحقاتى اللى فاتت وربنا حيسترها .. يقترب منى لاهثا قائلاً كنت خايف عليهم يا ابنى مين حياخد باله منهم بعد ربنا وانت ما فيش .. وانا عارف انت قدها وقدود ولكن الانسان تقيل .. المهم اشتريت البيت ده من اختى يعنى بقى ملكى .. الشقة اللى فوق لو كان فى صحه وعمر حاجهزها لسحر تتستر فيها هيا وجوزها وتكون قريبه من امها واخوها حمدى الصغير .. يادوب خمستاشر سنه .. ايه رايك فى كلامى واللى عملته؟ .. اربت على يده واخبره خير ما عمل وانا كنت فى شوق اليهم وهنا تحضر سحر حاملة الشاى لى ولوالدها وابارك لها ملكية المنزل وهى تقترب منى وتجلس بجوارى على الكنبة التى اجلس عليها وتقول صحيح يا خويا .. انبسطت من عمايل بابا؟ .. اجيبها احسن ما فعل واجاد .. تحضر ام حمدى كما كانوا يطلقون عليها بدلا من الغائب ممدوح .. شوف بقى انت النهارده حتتغدى معانا .. حأقوم اجهز الغدا وخلى سحر معاكم تتكلم لانها مش بتخرج فى الشارع محبوسه فى البيت على طول .. قضيت نصف يوم فى منتهى السعادة وعدت الى مدينتى لاكمل اجازتى وراحتى .. واكمل ايضا زيارتى اليومية لام صديقى مصطفى فتحى.

 

مكافأة المنتصـرين

    

     تقترب الساعة من الحادية عشرة مساء احد ليالى شهر يناير من عام 74 وقد عُدت من فورى من زيارة لاسرة الرائد مصطفى فتحى حيث كان هناك فى زيارته الاولى وقد اخبرته والدته بما اقوم به من زيارات متتالية لهم بناء على رغبتها كما ابدت اسفها للقاء الاول الذى ازعجنى واثار كل الوساوس والمخاوف بداخلى ولهذا جاء الشاب الى منزلنا سعيداً باشاً شاكراً ما قمت به نحو اسرته معتذراً عن التصرف الغير مناسب من والدته تجاهى لاول مرة ولم نقف عند هذا كثيراً ولكنه طلب منى ان ارافقه لمنزلهم حيث انه لايريد ان يظل بالخارج فترة طويلة ولانه خصص تلك الاجازة لهم فأبديت اعتذارى عن مرافقته لاجعلهم يقضونه سويا ولكنه صمم على ذلك وانها رغبتهم جميعا .

     نزلت على رغبتهم واتجهت معه الى منزلهم وهناك كان الاستقبال على احسن مايكون ثم اخبرنى بان مكافآت الحرب وصلت الى الكتيبة ويخبرنى باننى حصلت على نوط الجمهورية من الطبقة الثانية .. سعدت وذكر باقى المكافآت .. فريد مندور حصل على النجمة العسكرية اما القائد الذى استولى على النقطة القوية “النقيب عصام سلطان ” حصل على النجمة العسكرية ويستحقها بكل جدارة .

       اما عن النقيب حسن ابراهيم فلم يحصل على شىء ولم تكتب عنه شهادة استشهاد اى كأنه مات على سريره وكأنه لم يعبر ولم يفعل شيئا صحيح ان جنودى غالبيتهم حصلوا على انوطة هامة مثلى او نوط الشجاعة الا ان حسن لم يكافىء بما يتناسب معه كقائد ثان لتلك المفرزة حاربنا وقاتلنا بعد ان عبرنا القناة .. احدنا لاقى ربه شهيداً وانا جريح مازلت اعالج.

   تدهورت معنوياتى وانا لم احارب من اجل نوط او نجمة ولكن اذا كان هناك ثواب فلماذا لم نحصل على ما نستحقه .. حزنت على حالنا وحال اسرة حسن الذى اذا حصل على شهادة استشهاد كان ترقى الى الرتبة التالية وحصلت اسرته على معاش شهيد ولكنها الاقدار التى يحركها بعض البشر واصحاب النفوس وخاصة الذين لا يقدرون حجم العمل وما قامت به القوات وخاصة قوات النسق الاول والمفارز التى كانت باكورة النصر على العدو لانهم رجال شجعان بدؤا العبور قبل الجميع وازالوا الرهبة والخوف عن الجميع .. اسمع ام كلثوم وهى تغنى “يالى كان يشجيك انينى” تركتها تشجن بانينى وعدت الى حالى وما انا فيه .. صباح اليوم التالى استيقظت على صوت والدتى تخبرنى بان شقيق مصطفى زميلك يريد محادثتك فاسرعت اليه وانا اطلب منه الدخول ولكنه اعتذر لانه ذاهب الى المدرسة ويخبرنى بان سحر اتصلت بك وتطلب منك الذهاب لهم بالقاهرة لان والدها مريض .. شكرته وتذكرت اننى اعطيت رقم تليفون صديقى لهم واخبرتهم بهذا مستأذنا ولم تعارض والدة مصطفى بل رحبت بما اريده راغبة فى ان تعوضنى به جراء ما اقوم به من زيارتهم والترويح عنهم طوال الشهر الماضى الى ان عاد ابنها .. اسرعت متجها الى القاهرة وها انا اصل الى منزلهم فاشاهد بعض كراسى بالشارع وبعض العامة من الحى يجلسون وانا اقترب وقلبى يدق متخوفاً ان يكون حدث مكروه الى عم عليوه .. الباب مفتوح وبعض النساء بالداخل يرتدين الملابس السوداء ومنهن من تبكى وهنا شاهدتنى سحر فاسرعت الى تحتضننى باكية وتقول اخويا .. بابا مات .. استند بيدى على احد الحوائط القريبة منى وهى مازالت قابضة على صدرى وانا ادفعها برفق فلقد شعرت بكرشة نفس .. اى اننى لا استطيع استنشاق الهواء بحرية وبالكمية المطلوبة وخرجت اجلس بالشارع وهى تراقبنى من على باب منزلهم .. لا اعرف السبب فى هذا الشعور بالحزن العميق هل لاننى تعودت ان اناديه بابا عليوه او انه رجل يستحق منى كل هذا فهو اب للشهيد الغائب طيب القلب الذى اراد ان ينفحنى ببعض القروش البقشيش الذى حصل عليها من بعض الضباط ونحن عائدون من سيناء او لانه اوصانى بعائلته .. شعرت بان شيئا ثقيلاً وقع على وشعرت بعدم قدرتى على التصرف ويأتى الناس ويشير احدهم على .. ابن المرحوم .. يصافحوننى مترحمين عليه وعلى اخلاقه ويصبروننى “البقية فى حياتك .. البركة فيك” وهكذا واجتمع نفر من اصحاب المهنة يواسوننى ومال على احدهم قائلا : يا ابنى المرحوم حبيبنا .. ان مكنش لك فى مهنتنا انا مستعد اشترى العدة كلها .. نظرت اليه بضيق قائلاً : مهنة ايه وعدة ايه فى الوقت ده .. تمت كل الاجراءات وقام رجال الشارع بهمتهم وهم ابناء البلد الذين يعتبرون ان المتوفى هو من اهلهم ولم ينتظروا حضور ابنه الكبير من الزقازيق ليقوم باجرات الدفن .. يرفعون الخشبة ويسيرون الى المدافن وليست بعيدة ووراى جسده التراب وكانت تقف خلفنا النساء يقمن بالعزف على اللحن الجنائزى المصرى الشهير .. انتهت الجنازة واخبرنى احدهم بان القعدة حتكون فى دار الضيافة توفيرا للنفقات .. بدا يتلاشى الجمع حتى بقيت والسيدة ام حمدى وحمدى وسحر وبعض النسوة لتكملة الكوبليه الاخير من المقطوعة الجنائزية .. عُدنا الى المنزل وقد كان باديا عليهم الهدؤ والسكينة بعكسى .. جلست منعزلاً باحدى الحجرات رافضا الطعام او القهوة التى تقدم فى مثل تلك الظروف لعقاب المعزيين لحضورهم فهى رديئة الى اقصى درجة وطعمها علقم الى اقصى حد .. تحاول سحر محادثتى وتخبرنى ما انت عارف ان بابا كان تعبان ومستنى يومه .. هوه قال كده ايه اللى مزعلك كده؟ .. انظر اليها ومازالت اثار دموع محبوسة فى عينيى لم تخرج بعد .. يحضر ويغادر بعض المعزيين وخاصة النساء واحداهن تسال عن هذا الشاب فتخبرها سحر او زوجة المرحوم .. ده ابن المرحوم الكبير .. تعيد حديثها ربنا يعوض عليكم .. لكن ياختى انا مشفتوش من يوم مجيتو من بورسعيد؟ ميكونشى مراته كانت منعاه يجيلكم .. تخبرها بأنه مازال اعزب ولم يتزوج بعد .. تعيد السيده قولها : خير ما عمل اما عندى له عروسه تقول للقمر قوم وانا اقعد مكانك!! .. تنفعل سحر .. يعنى ده وقته .. تعتذر السيده ايوه صحيح يقطعنى .. خلاص فى الخميس الكبير اجيبها معايا .. اسمع كل هذا وانا اشعر ان الناس فى مصر تعيش فى عالم آخر .. فإن كل مايريدون فعله وعمله يندفعون للقيام به بدون مراعاة اى شىء ليس هناك محاسبة للنفس قبل التصرف او التحدث .. امضيت ليلة بائسة فى برد الشتاء وانتهى العزاء واردت العودة الى بلدتنا ولكن الام رجتنى ان انتظر الثلاثة ايام وتقول : تعالى على نفسك يا ابنى .. المطرح واسع .. هكذا توضح ويمكن تنام مع اخوك حمدى .. الذى كان باديا عليه اثرالوفاة التى الجمت لسانه وهو الشاب الصغير الذى اتم عامه السادس عشر منذ عدة ايام.

     امضيت ليلتى افكر .. ماذا افعل؟ اننى اصبحت مسئول الشئون الاجتماعية فى مصر .. الآن لى اربع عائلات ثلاث بالقاهرة واخيراً واحدة بالزقازيق بخلاف عائلتى الاصلية .. الكل يطلب بقائى عندهم .. كل شىء اوافق عليه .. يجب ان اقول لا ولو لمرة واحدة .. مش كده وبعدين حكاية الاخوة دخلت فى الجد والجميع فاكرينى ابن المرحوم .. ما كانوا يقولوا زميل المرحوم احسن او كان صبى عند المرحوم وهو صغير!!! .. عدت الى عقلى .. يعنى ايه المشكلة فى اتنين ستات يطلبوا منى تلك القرابة وهذا الصبى الذى ينام بجوارى وهو قليل الحيلة فلقد حرمهم الله من ابنهم الكبير وكان فى مثل عمرى الان .. اذن ما المانع ان نكون سنداً لبعض وخاصة فى الازمات ولكنى كنت اشعر بانى اصبحت خبيراً فى المناسبات الاجتماعية من عزاء الى افراح الى زيارة مرضى واسأل نفسى هل كل زملائى يفعلون هذا؟ .. لا اعتقد واذا لم يفعلوه فلماذا انا افعله .. لا اعرف .. اعتقد انها الفرصة او الحظ السعيد ان يرسلك الله الى اناس يحتاجون العون منك سواء طلبوه او ان الله هدانى لان اقوم به لكى احصل على الجزاء .. مثل ما حدث مع عاطف شفيق الذى كان ينتظر شقيقه وما حدث مع مدحت الذى فقدته امه وارسلت ادارة سلاح المدفعية تخبرهم باستشهاده لان اثنان من زملائه اثبتوا هذا ثم عم عليوه المسكين الذى قابلنى فى بورسعيد ويبحث عن ابنه واخيراً هذا الشاب مصطفى الذى حل محلى ويريد الاطمئنان على اسرته .. لم افتعلها ولم ابحث عنها هى جائتنى طوعا اذن سيكافأنى الله .. ولماذا ابكى على عم عليوه هذا البكاء .. لانه منذ ثلاثة اشهر واثناء زيارته لى فى مستشفى المعادى اوصانى باسرته .. الرجل شعر بدنو اجله .. نهضت من يقظتى من فوق السرير وخرجت اجلس بالصالة بدلا من هذا الارق المتعب .. بعد قليل شعرت بى سحر فجاءت وجلست بجوارى ملتصقة بى باكية الاب الغالى الحنون وتطلب منى بحق البنوة التى بدأتها مع ابيها الا اتخلى عنهم وتخبرنى بان الناس فى بعض الظروف يستحلون كل شىء فى الضعيف مكسور الجناح وانت ترى ما نحن عليه ولم تبقى لنا شىء حتى عمتى بعد بيع منزلها لنا غادرت المنطقة الى حى امبابة فكن قريبا منا حتى نشعر بامان ولقد تعمدت ان اخبر ابناء الحى بانك اخانا حتى لا يطمع فينا احد والطامعون كثيرون وكل له رغبة فى شىء ما .. هدأت من روعها فتقول تذكرنى بابى وهو يحتضننى .. اشكرك اخى وتنظر الى وانا انظر اليها ولا اعرف كيف احادثها

     انتهت الايام الثلاثة وانا اريد العودة الى منزلى استريح واحصل على حمام واغير ملابسى .. ودعتهم بين دموع الفراق وانا اخبرهم بسرعة عودتى انشاء الله .. عدت احمل معى احزان وداع عم عليوه وتركتهم يتصرفون فى العدة فليس لى دخل بها انا اخ  شرفيا فقط  لكن فى امور الحلاقة والعدة فليس لى معرفة ولاخبرة بها.

     مضى على عودتى يومان وانا شبه ساكن لاحركة ولاحديث ولاضحكات وهى من سمات فصل الشتاء هروب الناس الى منازلهم واسرتهم مبكراً وفى اليوم الثالث جاء شقيق الرائد/ مصطفى يسال عنى فلم يجدنى فاخبر والدتى بان عائلته راغبة فى ان اقوم بزيارتهم حيث اذكرهم بشقيقه “ابيه مصطفى” .. اخبرتنى امى بهذه الرسالة وهى تضحك وتخبرنى يا ابنى ماتسيب شغلك فى الجيش وتشتغل مصلح اجتماعى .. سالتها يعنى ايه مصلح اجتماعى ياماما؟ اجابتنى والله ما انا عارفه لكن باسمعهم بيقولوا كده عن اللى بيزور الناس ويحضر عزا وافراح وطهور الاطفال انه مصلح اجتماعى!! .. شكرتها على الوظيفة الجديدة وفى المساء اتجهت الى منزلهم وجلست مع طنط ام مصطفى وقاطعتنى السيدة قائلة : ايه طنط ام مصطفى قولى طنط ايزيس .. اجيبها حاضر طنط ايزيس واوزيريس..

      صباح اليوم التالى حضر ساعى من سنترال المدينة ليطلب مقابلتى ويسلمنى خطاب مرسل من السنترال بالتوجه للتعاقد على تركيب خط تليفونى بناء على خطاب شئون ضباط القوات المسلحة رقم .. وتاريخ .. ابدلت ملابسى واتجهت الى السنترال بالخطاب فوجهونى الى مكتب التعاقد وهناك قابلنى الموظف بترحاب واخرج العقد لاوقع عليه وطلب منى توريد مبلغ من المال للخزينة لزوم التركيب وانه فى صباح الغد ستصلك العدة وقبل الظهر تصلك الحرارة .. لم اصدق ما انا فيه تركيب تليفون عام 74 بتلك السرعة .. آه .. تذكرت السيدة جيهان السادات فى زيارتها لى فى مستشفى المعادى وتسألنى ماذا تطلب؟ فطلبت منها تركيب تليفون بمنزلى .. واحد معاونيها حصل على بياناتى .. لقد نسيت هذا ولكنه سار فى طريقه وها انا اصبح لى رقم تليفون مكتوب بالعقد .. فى الصباح حضر العمال وركبوا العدة ويشدون السلك فى الشارع والناس مبهورة بان احد جيرانهم استجاب الله الى دعائه فى ليلة القدر وسيركب خط تليفونى .. وحضرت نساء الحى تبارك لوالدتى هذا التطور السعيد ويحصلوا على رقم التليفون لتبليغه لاقاربهم وخاصة المسافرين للخارج للاتصال بهم وقت الضرورة .. آخر النهار وصلت الحرارة بسلامة الله واخوتى يلعبون فى قرص التليفون كل فترة فرحين به.

     مضي علي وجودي بالزقازيق وخروجي من المستشفي ما يزيد علي عدة اشهر ومازلت أحصل علي أجازات مرضية. في أحد الأمسيات وكنت عائدا من لقاء مع صديق الدراسة الثانوية اخبرتني أمي مجرد وصولي بأن السيدة روز إتصلت بك وهي راغبة بأن تقوم بزيارتهم صباح الغد مبكرا. وأعتقد بأن شيئا غير سار بمنزلهم لأن صوتها كان متأثرا.

    اليوم التالى صباحاً وانا اقترب من منزلهم فى حى الضاهر ولا اجد اى علامات او اشارات كما شاهدتها فى وفاة عمى عليوه الشهر الماضى ولكنى قلت فى نفسى الوقت مبكر فقد اقتربت الساعة من الثامنة صباحا .. اضغط على جرس الباب فتفتح روز الباب ثم اشاهدها وهى باكية وترتدى ملابس الحداد وتنخرط فى بكاء شديد. اهدهد على ظهرها وكتفيها ثم اسمع صوت ماما مارى وهى تسأل “مين اللى جه ياروز” فتجيبها .. اسامة يا ماما .. اسمع نحيب السيدة عند سماع اسمى فاتجه اليها وانا فى دهشة ..اشاهدها راقدة فى سريرها وهى باسطة ذراعيها لى وانا اندفع اليها احتضنها .. خير يا ماما؟ .. تبكى وتقول .. اخوك .. اندهش واقول فى سرى هل حضر اخى الاكبر وتشاجر معهم؟ .. ولماذا؟ .. اسأل مرة اخرى ماذا فعل؟ تجيبنى لم يفعل لكنه انتقل الى الامجاد السماوية .. مازلت لا اعلم ما حدث وماهى الامجاد السماوية .. اسألها من هو؟ .. تبكى روز وهى تخبرنى .. عاطف !! .. لقد استراح .. يشعرون بأنى لا اعرف معنى تلك الكلمة انتبه على صوت روز وهى تقول .. بنقولك انتقل الى الامجاد السماوية يعنى راح جنب الرب ويسوع!!!! اردد عاطف حبيبى ؟ يهزون راسهم بالتأكيد .. لاحول ولاقوة الا بالله .. ايه اللى حصل؟ تفيدنى روز ومازالت عيونها الخضراء بها سحابة حمراء من البكاء وتخبرنى .. امبارح بعد المغرب اتصلت مراته وقالت انه تعب شويه ثم خرجت روحه الطاهرة الى السماء لتسكن بجوار الشهيد وليم .. اصمت ولا اعرف كيف اقول فى مثل تلك الظروف .. لقد قلتها منذ سبع سنوات الى عاطف .. اقرا الفاتحة على روح وليم .. لكن يجب اقول شيئا مناسبا ولا اعرف تقاليد المسيحيين فى مصر احببتهم ولكن لا اعرف تقاليدهم .. سكنت قليلاً واخبرتنى روز بانها سوف تستعد لنذهب سويا الى منزلهم لنرافقه الى كنيسة …… للصلاة على الجثمان ثم نودعه مع الاهل والاحباب .. مازالت جالسا فى انتظار ان تنتهى روز من استعدادها لمرافقتى للذهاب الى منزل عاطف ولا ارى اى شىء امامى حتى ماما مارى تحدثنى وانا عنها غافل وكل ما اتذكره هذا الانسان الرقيق الوديع عاطف وتغالبنى دموعى المتحجرة والتى تعكر صفو مزاجى وتصنع سحابة امام عينى وتقلل مشاهداتى بدون سقوط دموع غزيرة تغسل هذا الحزن .. تقبل روز وهى تقول انا مستعدة والام تقول صحتى مش قادره على  المواقف دية .. تكمل ماما مارى: اسامه خللى بالك من روز والرجاله كلهم سبقونا مع القديسين وبقينا لوحدنا .. اجيبها باقتضاب حاضر ماما مارى .. اتبع روز فى سيرها وخارج الشارع نستأجر تاكسى الى منزل عاطف وهناك نشاهد حشداً من الرجال والسيدات واقابل زوجة عاطف واقدم لها التعازى وعم غبريال والد روز ايضا وبعض القساوسة واسير معهم من هذا المكان الى الكنيسة وتقام الصلوات عليه وحضر عدد من زملائه من ضباط الشرطة وانا اتذكر هذا الانسان الرقيق رغم صوته القوى الجهورى لكنه عبارة عن قلب ابيض يتحرك .. اتذكر كل محاسنه لانى لم اقابل اى مساوىء منه فهو كان الاخ الاكبر لى ويعطف على من لحظة استقباله لى فى القسم ثم مرؤته معى وايصالى الى ادارة المشاه واقراضى خمسة جنيهات ومساعدتى فى معرفة صاحبة السيارة المرسيدس وزيارته لى بالمستشفى وحبه لى .. اسرد هذا الشريط الوضاء من حياته .. انتهى نصف اليوم ووارى جثمانه التراب واتذكر كلمته وهو يقول وليم احسن منى .. انا فى يوم ساقابل الرب ويسوع ولكنى لم افيد بلدى بشىء مثله.

     نقترب من الساعة العاشرة مساء واوصلتها منزلها شبه منهارة واريد مغادرة المنزل ولكن ماما مارى ترجونى الا اتركهم فى تلك الليلة الحالكة السواد .. افكر .. هل ُقرر على مرافقة الموتى سواء فى سيناء او فى مصر .. كل شهر متوفى .. ماذا افعل؟ .. سأظل اخضع لرغباتهم وما فيها من الم .. كنت متيقظا ليلاً افكرفى كل من  وليم ومدحت والقدر الذى دفعنى اليهم .. هذا النشال الكريم الذى اراد سد رمقى من الجوع.

     في الصباح ودعت السيدتان متجها إلي بلدتي. وصلت الى منزل اسرتى وعرفوا منى بنبأ وفاة الصديق عاطف وحزنا على هذا الشاب الذى لديه طفلان صغيران .. اتجه الى سريرى بعد ان شربت كوبا من الشاى يعمل على اصلاح حالتى النفسية واعدت شريط الامس وصباح اليوم واعود بذاكرتي الي سيناء وما قاسيناه نحن الشباب الستة ومما لاقيناه من الجوع والعطش ودفننا احياء مع الام الذئبة.

*******

     وفى احد الايام اخبرنى ابى عن صديقه المهندس .. وان له ابنة تدرس بالجامعة ويواصل كلامه وهو رجل فاضل واسعد بجلساتى معه .. زودنى ببعض المعلومات والبيانات عن ابنته لاذهب الى كليتها واشاهدها عن بُعد خاصة ان والدتى كانت دائبة الرغبة وتريد منى ان اتزوج وهى خائفة ان تقوم حرب اخرى واموت فيها ولا تكون لدى ذرية .. حملت رغبتها بجد واهتمام وذهبت الى الكلية وهناك تعرفت على شاب وهو الاخ الاصغر لاحد اصدقائى واستفسرت منه عن الفتاه وسأل زملائه وزميلاته واشاروا اليها ..  فتابعتها واعجبت بملابسها المحتشمة ووقارها وهى تداعب صديقاتها .. تكررت متابعتها عدة مرات بعد ذلك اثناء ذهابها الى كليتها حتى يتأكد لى انها الزوجة المناسبة لى ..  اخبرت ابى برغبتى بالتقدم الى عائلتها والذى بدوره اخبر به صديقه وبالتالى تحدد موعداً للقاء الاسرتين .. هناك فى منزلهم تعرفت الاسرتان وتعددت زيارتى لهم ووافقوا على مصاهرتى وهكذا بدأت اعُد نفسى نحو حياة اجتماعية سليمة وابتعدت تماما عما اصابنى من تعب وارهاق وتأرجح فى المشاعر فى الفترة السابقة .. تمت الاجراءات الرسمية فى مثل تلك الاحوال .. وبعد عامين تزوجنا وكانت فى العام الدراسى الاخير وانجبت ابنتى الاولى قبل حصولها على درجة البكالوريوس .. واستمرت حياتى .. اعمل واتابع اسرتى الصغيرة.

     عام 75 ابلغتنى ادارة سلاح المشاه بترشيح رياسة الجمهورية لى مع عدد من الضباط  للعمل بالمخابرات العامة وتحدد موعد ومكان الاختبار وهذا يعتبر شيئا سعيدا لاى ضابط لما فيه من مميزات وتقدير من الجهات المسؤلة .. عُقد امتحان على اعلى مستوى من الذكاء والمهارة فى الاختبارات الحديثة وبعد سته اشهر حضر الى وحدتى احد ضباط المخابرات العامة ليبلغنى بنجاحى والاستعداد لانتقالى من وزراة الحربية الى المخابرات العامة وقابل قائدى وطلب استكمال بعض بيانات شخصية  كما اخبرنا بانه خلال اسبوع سوف يحضر لاصطحابى الى الجهاز وحضور دورة تدريبية لاعدادى لهذا العمل الجديد على .. مر اكثر من شهر ويسألنى قائدى وانا اخبره باننى لا اعلم شيئا .. شهران وتوجس الرجل شرا فذهب الى القاهرة وهو برتبة لواء وله من الزملاء والاصدقاء الكثيرين وجاء حاملا بخبر ضايقة وآلمنى .. استبعادى عن تلك الوظيفة المرموقة وحصول آخر عليها بدلا منى وهو ابن احد المسئولين الكبار بالدولة .. طلب منى قائدى بان ارسل بخطاب وشكوى الى الرئيس السادات لانه هو الذى وقع على قرار ترشيحى ولكنى شعرت بانى فى بلد لايقدر من يقوم بعمله ..المزايا للمسنود والقوى .. لكن باقى ابناء الشعب العامل فلا ثمن لهم وليس هذا هو السبب الوحيد لما الم بى  من احباط فقد سبقته تقديرات الانوطة ونياشين حرب اكتوبر ثم تلاها اسلوب العلاج فى مستشفى المعادى واهمال الجرحى وتأخير عرضهم لللعلاج من آثار الاصابة ثم تلا ذلك المنع نهائيا من الاقتراب من المستشفى لتأمين ضيف مصر الذى يعالج بها وهو شاه ايران .. اذن نحن فى السَردة” فى القاع” اى فى المتبقى .. تحول ايمانى ببلدى الى العكس وليس الهجوم عليها ولكن الفكاك منها للخارج.

 

 

 الختـــام

 

   تركت الخدمة العسكرية فى بداية عام 84 وانا برتبة العقيد بين استهجان وانتقاد الاهل والاصدقاء وهم يحاولون اثنائى عن هذا ولكن انتابنى شعوراً باننى لن استطع ان اقدم لبلدى فى هذا المكان المشرف لكل مصرى وطنى اكثر مما قدمت وشعرت به من خلال الاحداث السابقة التى رويتها فى الفصل السابق بان الحق والتقدير ليس له معايير حقيقية ولأتركهم يقدرون مايريدون بعيداً عنى ويكفينى ما قمت به لبلدى خلال الفترة الهامة فى حربين معلنتين(67 ـ73) يتخللهما حرب الاستنزاف وقاسيت فيها ونزفت خلالها من دمائى الكثير وقمت بما استطيع القيام به وقد يكون هناك اشجع منى واعطوا لبلدهم اكثر ولكن الله جعل لكل انسان قدرات ويكفينى باننى لست جبانا وعبرت مع جنودى بجرأة ولم ارهب الموقف حتى سقطت جريحا وغير قادر على عمل اى شىء حتى الواجب الانسانى بمساعدة القائد الاسرائيلى الذى تسبب فى كل تلك الخسائر بنا وبى شخصيا كنت احاول انقاذه وهو مسجى امامى صارخا من قوة النيران المشتعلة به وانا احاول انقاذه ولكن حروق يدى التى تسبب بها عرقلتنى من ان اقدم تلك المساعدة الانسانية .. التزمت منزلى فترة لا اريد ان احادث احداً

       لم يكن تفكيرى فى ترك الخدمة وليد تلك اللحظة بل كنت راغبا فيه من قبل ولهذا بدأت الاتصالات لوصول الى بغيتى .. فطلبت من احد القادة الذى اعتز بهم ويعتز بى ويقدرنى بان يساعدنى فى ان احال الى التقاعد فى النشرة العسكرية القادمة وحاول الرجل معى ان يقنعنى بخطأ قرارى ولكنى كنت سائراً فى رغبتى واثناء انتظارى لتلك النشرة التى ستغير من حياتى القادمة وهى المجهول بحد عينه تقابلت مع سيادة الفريق اول محمد احمد صادق وهو رجل ذو خلق واعرفه من خلال دراستى بالكلية الحربية فى منصب كبير المعلمين ولا اعرفه شخصيا تقابلت معه فى ادارة مرور الشرقية فقد كنت ذاهبا لزيارة احد ضباط المرور التى تجمعنى به علاقة معرفة وليست صداقة حيث كان معسكر وحدتنا مجاور للمرور وهناك تقابلت معه فجأة بدون موعد وكان احيل الى التقاعد اثناء حكم الرئيس السادات واثناء حديثى معه والذى زودنى بالكثير عن تاريخ ثورة يوليو وقبلها ومآثره مع الراحل السادات وعندما اخبرته بنيتى عارضنى هو الاخر.

      اخيراً ظهرت النشرة العسكرية وقرأت اسمى بها الترقية الى رتبة العقيد والاحالة الى التقاعد .. اصابتنى الفرحة والحزن فى نفس الوقت .. هاجمنى الشعوران الاول وهو الفرح لاننى حققت رغبتى وحزنى لانى ساترك تلك الحياة الحافلة بالاحداث وما تعودت عليه من النظام العسكرى ودقة العمل ولكنى هيأت نفسى لوضعى الجديد وان الله لاينسى عباده ابدا ولايجب ان يعمل الانسان وهو كاره لعمله ليس فى طبيعة العمل ولكن للمتسلقين الذين يجهزون على كل بادرة امل وخير فى ابناء هذا الشعب وهم دائما جالسين بالمرصاد للقيام بهذا العمل الذى لايجيدون سواه .. الصيد فى الماء العكر وتلويث سمعة الشرفاء وجنى محصول وعرق الاخرين .. شئون الضباط ابلغتنى اذا كنت راغباً فى الاعتراض على قرار تقاعدى فى النشرة العسكرية مع آخرين ان اتقدم بطلب لهذا طاعنا فيه وهم سيبحثونه ويجرون معى مقابلة باحد المسئولوين فى شئون الضباط .. ولكنى رفضت وبعد مرور الفترة الزمنية المقررة على الاعتراض تقدمت الى المجلس الطبى العسكرى لتقرير حالتى الصحية من اثر الاصابة مزوداً بكل التقارير الطبية والاشاعات وصدق المجلس على اننى غير لائق للخدمة العسكرية بسبب اصابتى فى العمليات الحربية ونسبة عجز 20% .. وهذا يتيح لى ان اظل اخدم فى القوات المسلحة حتى اترقى لواء ثم احال الى التقاعد وانا اعلم هذا ولكنى اجلت عرضى هذا منذ عام 74 حتى عام 84 حتى احال بقوة القانون لانى بصراحة لست مستعداً لارتداء الزى العسكرى والذى شعرت بان الاخرين لم يقدروه حق تقديره مثل ما سبق مع ضابط المخابرات الحربية ومعاونيه فى عام 67 ونحن عائدون من سيناء.

     اشتريت قطعة ارض بمنطقة الصالحية وقمت باستصلاحها واثنائها عُرضت على بعض الوظائف المدنية لاننى حاصل على بكالوريوس تجارة شعبة محاسبة عام 79 وبكالوريوس آخر شعبة ادارة اعمال عام 80 ولكننى كرهت اى وظيفة واى رئيس .. مكثت فى مجال الزراعة فترة ثمانية اعوام تعلمت فيها الكثير وفلحت كما يقول العامة واصبحت خبيراً فى هذا المجال تحت ضربات الخسارة والتجارب التى مررت بها .. ثم جاءت فرصة لى للهجرة الى الولايات المتحدة فحملت اسرتى متجها الى تلك الدولة التى نكره المسئولين بها ونحب شعبها الطيب الذى لايعلم من امور السياسة شىء فهو شعب مغيب تحت سيطرة وسائل الاعلام .. تعلم ابنائى وتخرجوا من الجامعة وعاد بعضهم ليفيد بلدهم والبعض انتظر حضوره وليكملوا منظومة ان المصريين يكرهون الاغتراب .. هذا صحيح فرغم تطور هذا البلد لكن مصر لها روح وطعم غريب لا ينساه ابنائها حتى الامريكان الذين تعرفوا علينا وجاؤا بزيارات لمصر .. تكررت عودتهم لهذا البلد الطاهر.

    كنت اداوم الاتصال باسرة ماما وداد كل عدة اشهر قبل سفرى وبعدها وحضرت زفاف علا وبعدها دينا وباركت لهما تلك الافراح ومازالت العلاقة حميمة حتى بعد وفاة تلك السيدة العظيمة التى اسعدتنى بمساعدتها لى ونقلى من العباسية حتى محطة كوبرى الليمون وانا عاجز عن السير على قدماى ثم بعد هذا ايضا تعاملنى كابن لها وفتحت فيلتها واحضان الام لى مثل ابنائها ولم ُتسمعنى كلمة تؤثر على احساسى فى يوم من الايام .. وكنت مواظبا على رعاية اسرة عم عليوه وحضرت احتفال خطوبة سحر ثم عقد قرانها وزفافها وهى تقدمنى الى الاخرين باننى شقيقها ولكن امام زوج المستقبل اخبرته بالحقيقة وقد اسعده هذا بان يجد انسانا يحتفظ بالعهد واثناء ذلك وانا اشاهد جمالها وانا متزوج وعندى ابناء ولكننى اناغشها واقول لها.. انتى كل يوم بتحلوى .. مش معقول على جمالك!! .. تضحك ضحكتها البريئة وهى تقول وبعدين معاك ياخويا .. اسألها ثانية مش كنا اجوزنا بدل من الغريب اللى جاى يخطفك منى .. تضحك وهى تقول .. انت فكرت فى الحكاية دية؟ .. اجيبها طبعا وانتى؟ تجيبنى حصل وفكرت لكنى لقيت ان الاخوة احسن من الجواز منك .. استفسر منها فتجيبنى .. شوف ممكن اى جوز يغلط ويضايق مراته وممكن توصل الامور بينهم للطلاق .. لكن الاخ حيفضل اخ وعشان كده مكنتش باتجاوب معاك رغم حبى لك لانك اول راجل وشاب عرفته عن قرب ولكنى قلت فى نفسى احتفظى بيه اخ زى ما بابا قال .. اخوكم اسامة .. شكرتها على ذكائها وفكرها وهى الاصغر منى بعدة اعوام .. ياه على بنات مصر الطيبين الحلوين واللى تفكريهم يسبق اعمارهم .. قللت من زيارتى بعد ذلك واصبح حمدى شابا يافعا يستطيع رعاية امه اما سحر فهى متزوجة فلا داعى لظهورى امامهم الا كل فترة زمنية ..

       عام 2001 واثناء زيارتى السنوية الى مصر قادما من امريكا واهم بالخروج من احد محلات الحلوى الكبيرة بميدان الجيزة وكنت ابتاع علبة حلوى بمناسبة ترقية مدحت الى رتبة اللواء واحالته الى التقاعد فوجئت بها امامى .. تنظر الى وانا انظر اليها .. تقول اوعى تكون انت؟ .. وانا اقول لها هوه انا .. تكاد تطير من السعادة ويحيط بها شابان تعدى عمرهما الثلاثون عاما .. تنظر اليهما .. وهى تشير جهتى .. هذا عمو اسامة الذى وقف بجانبى وانا فى سيناء فترة حرب عام 67 وتنظر الى ابنها الكبير وتقول له .. بفضل هذا الرجل وزملائه من الدفعة ساعدونى وانت طفل صغير انه سليمان ابنى الاكبر .. يرحب بى الشاب كثيراً .. ثم تشير الى ابنها الثانى وهذا صالح ابنى وابن الشهيد عامر زميلكم وهى تضغط على حروفها ناظرة لى بشىء من التحذير وارحب به هو الاخر ويرحب بى .. تصمم على ان نتناول شيئا سويا وهنا يخبرها ابنائها بانهم يعتذرون وانهم يطلبون الاذن بتركنا لالتهام الحلوى لانهم مرتبطان بموعد .. تأذن لهما وهى تخبرهما بانها ستستقل تاكسيا الى المنزل .. يودعانى الشابين برجاء ان ازورهم بمنزلهم.

    نعود ونجلس على احدى الترابيزات وتقص على قصتها ومآساتها وهى تقول لقد عبرت القناة بمعاونة بعض قوات حرس الحدود المصرية واتجهت الى خالتى وبعد قليل توفى زوجها والذى دفع بى للرزيلة مبكرا .. ثم زرت زوجى عدة مرات طالبة الطلاق وبعد ان شاهد ابنه وسعد به وافقنى على الطلاق وطلب منى الاتصال بصديق له وان اخبره بكلمة سر بينهما وقابلت صديقه الذى اعطانى مبلغ عشرون الف جنيه فى عام 69 وهو يعتبر مبلغ كبير فى ذلك الوقت .. اشتريت شقة فى شارع فيصل حديث الانشاء وكانت رخيصة ثم عملت فى هذا المحل محل الحلوى عاملة وقمت على رعاية ابنائى وعلمتهم وتخرجوا من الجامعة والكبير .. سليمان  تزوج والثانى صالح يستعد .. وانا اطلب من الله ان يسامحنى فيما اقترفته من معاصى .. تضحك وهى تقول مش قابلت الحاج .. اسألها من هو؟ .. تجيبنى الحاج جويلى الدفعه اللى كان معاكم وسألته عليك واخبرنى انه لايعرف عنك شيئا ويتمنى هو وزملائه ان يروك ..  فتحت شنطة يدها واخرجت اجندة صغيرة وناولتنى رقم تليفونه واستفسرت منها قد يكون الرقم تغير من القدم ولكنها اخبرتنى بان هذا اللقاء تم فى الشهر الماضى عندما حضر لهذا المحل مع احد ابنائه لشراء بعض الحلوى .. زودتنى بعنوانها ورقم تليفونها طالبة منى زيارتهم وان تلك الايام لن تنسى لانها ايام صعبة عسيرة وكل من تصادق خلالها هم احباء واخوة .. قبل فراقنا اخبرها .. رابحة انت مازلت جميلة .. تضحك من كلامى وتقول “فات الميعاد وبقينا بعاد .. فاااات الميعاد “يودع كل منا الاخر .. اعود الى شقتى واتصل بجويلى والذى يجىء صوته من الجهة الاخرى ولم تغيره السنون والاعوام فى نبرة صوته والذى تعودت عليه وحفظته فقد استمر معى اربعة اسابيع ليل نهار لا نسمع سوى اصواتنا نحن الستة اثناء انسحابنا .. لا يصدق ويصرخ ويسأل عن اشياء كثيرة فى وقت واحد ويطلب منى ان ازوره او يأتى هو لزيارتى وعندما علم باننى سوف اغادر القاهرة بعد عدة ايام طلب عنوانى واتى لزيارتى بالشرقية من بلدته باحد مراكز محافظة الفيوم .. كان مشهداً مؤثراً وهو يحتضننى مرحبا بى ويقبل كتفى ويسال عن كل شىء ويخبرنى بانه هو وزملاء الانسحاب”مصطفى وعطية وفراج” يتقابلون كل عام فى بلدة احدهم .. اسأله هل انتم على اتصال وتعرفون عنواين بعضكم البعض .. يضحك ويقول فضلنا مع بعض حتى نهاية عام 74 ولكنك الوحيد الذى تركت الكتيبة الى وحدة اخرى ولم نستطع معرفة عنوانك لكن الحمد لله ثم يسألنى من اين حصلت على رقم تليفونه .. فأخبره فيضحك ويخبرنى بانه كان سعيداً بمقابلتها رغم ماحدث منها ولكن الله غفور رحيم .. حلفنى بابنائى ان ازورهم عند حضورى كما انه سيخبر زملائنا بهذا اللقاء.

   نهاية عام 2004 يستعد ابنى للزواج من مصرية فى القاهرة وسوف يصطحبها عائداً الى الولايات المتحدة وبعد نهاية الحفل سنتجه انا وزوجتى الى الاراضى السعودية لاداء فريضة الحج .. اتصل بكلا من مدحت وعلا ودينا وروز وسحر لحضور حفل الزفاف ولم استطع معرفة عنوان مصطفى واسرته الذين تركوا مدينة الزقازيق الى جهة غير معلومة كما دعوت محمد فوزى الجندى الذى كان معى بالكتيبة واردت ان ارسله برسالة الى منزل علا فاخبرنى بعلاقتهما والتى كانت السبب الرئيسى فى الغاء اى علاقة رسمية معها .. اما سبب دعوتى له فقد قابلنى مع اسرتى والعروس اثناء شرائنا بعض مستلزمات الفرح وبالتالى اخبرته وعلمت منه انه يعمل كرئيس مجلس ادارة لاحدى شركات المجمعات الاستهلاكية.

     ليلة الزفاف افاجىء بحضور كل من دعوتهم لحضور تلك المناسبة .. سحر تحضر اولا بصحبة زوجها وابنها وابنتها وخطيبها .. ثم يحضر مدحت وزوجته واعلم منه ان جميع بناته تزوجن وانجبن واصبح جد ثم تأتى علا .. هى كما اعرفها فهى مازالت جميلة رقيقة ويصحبها ابنها وزوجته اما ابنتها فهى مشغولة مع زوجها ثم تلحق بها دينا وابنها وعلمت ان زوج علا توفى منذ عدة اعوام .. فجأة تقبل .. انها روز كما هى جمالها البارع وطريقة مشيتها مرفوعة الراس وتقف امامى وانا لا استطيع ان اتحرك فى اتجاهها لمقابلتها .. تبتسم وهى تصافحنى .. مبروك اسامة .. خلاص كبرت وحتبقى جد .. زى حلاتى .. اسألها بدهشة هل تزوج عزيز؟ تجيبنى بسعاده .. ياه من خمس سنيين ولديه ابنان”الكبير وليم والصغير عاطف” لا املك غير ان اقول الله .. كنت ارغب فى مشاهدتهم .. تضحك وتقول انهم قادمون بعد عدة دقائق لان عزيز قابل صديقه وزوجته ويتحدثان سويا .. يحضر عزيز وزوجته وطفلاه فانحنى اقبلهم وانا سعيد مما شاهدته وتأتى زوجتى تصافحهم وتشيد بذوق روز فى اختيار ملابسها كما تشيد بجمالها وتقول انكِ اجمل من الصورة فتنظر الى روز وتقول الا زلت تحتفظ بصورتى؟ .. فاخبرها فعلا انا مازلت محتفظا بها ولكن زوجتى لم تغضب من هذا وروز هى الاخرى تؤكد لى بان صورتى رفيقة بصورة وليم وعاطف وماما مارى.

    ُيقبل محمد فوزى مع اسرته زوجته وابنته  .. يصافحوننى وانا سعيد بحضورهم .. امسك بيده واذهب به جهة الترابيزة التى تجمع عليها كل احبائى(مدحت واسرته وعلا واسرتها ودينا واسرتها وسحر واسرتها وروز واسرتها) واشير اليهم .. اتعرف هؤلاء؟ .. ينظر ثم يخبرنى قائلاً : لا اعرف اى واحد منهم .. اشير ثانية وتلك السيدة الجميلة والتى تقف الان .. انُظر .. يعيد لا اعرفها .. اعيد انها علا .. ينظر الى متسائلا .. علا!! .. من تكون علا؟ .. اجيبه علا حبيبتك اثناء الدراسة بالجامعة .. يعيد لا اعرفها .. احاول ان اذكره واخيراً يتذكر ضاحكا .. آه .. ياه انت لسه فاكر؟ .. انا كنت باضحك معاك .. انا عمرى ما شفتها .. اسأله ولماذا قلت هذا وكانت كل معلوماتك صحيحة .. يوضح كنت اعرف شقيقها مدحت ونحن فى المرحلة الثانوية ثم التحق هو بالحربية وانا بكلية التجارة .. اسأله هل انت خريج تجاره ام علوم؟ .. ينظر الى قائلا: ازاى خريج علوم يبقى محاسب وبعدين يترقى لحد ما يوصل رئيس مجلس ادارة .. انا محاسب .. اعيد سؤالى : لكن لماذا قلت هذا ؟ .. ضاحكا كنت اسليك فقط واشجعك على ارسال الخطاب معى لاحصل على اجازة .. انظر اليه بضيق وانا اخبره قائلا : .. الله يخرب عقلك .. انت عارف ايه اللى حصل من كلامك؟ .. شرحت له كل شىء والرجل مندهش وحزين لما سمعه منى ويعتذر ونادم على اسائة سمعة فتاة .. يضرب قورته ويقول .. تصور فهمت دلوقتى ان ربنا انتقم من كلامى فى الضحك والهزار .. بنتى الوحيدة اللى معانا هنا “رانيا” وهيا على اربعة شباب اولادى .. يشير جهتها وهى تجلس بجوار والدتها .. تصور بعد ما خطبت الغى العريس الخطوبة فجأة وبعد عدة اسابيع علمت من زميل لى بان العريس اخبر خالته وهى زوجة صديقى بان السبب فى الغاء هذه الخطبة انه علم من شاب بان ابنتى وهى فى المرحلة الجامعية كانت على علاقة بشاب فى الجامعة رغم ان  فترة دراستة ابنتى الجامعية كانت بالمانيا برفقة والدتها .. كنت مندهشاً لكن الان علمت ان الله انتقم منى فى ابنتى وهى اعز انسانة عندى وقد ادخل هذا الحزن الى اسرتنا .. يقول بحزن ..آه .. داين .. تدان .. داين .. تدان ..اسمعه وانا غير مصدق ما قاله واقول فى نفسى ببساطة هكذا نوزع الاخبار والاشاعات على امهات المستقبل .. انه شىء سىء للغاية.

      شعرت بان اخوتى واخواتى موجودين حولى بخلاف اشقائى الاصليين .. وكنت كلما نظرت جهة احد منهم ارى السعادة واضحة من خلال ابتسامتهم وخاصة انهم جلسوا جميعا على ترابيزة واحدة بعد تعارف واسترجاع ذكريات عام 73 ونحن فى مستشفى المعادى ولم يغب عن الحفل الا الكبار الامهات” مارى ووداد وعزيزة حلمى” وقد سعد ابنائى وبناتى بهذه الباقة من الاصدقاء والصديقات فقد اخبرتهم قبل الزفاف باحتمال حضور عدد من الضيوف واوضح مدى اهمية هؤلاء بالنسبة لى بانهم الذين ساندونى فى محنتى اثناء العلاج من اصابات الحرب ومدى تأثير زياراتهم ورفع معنوياتى.

       قبل حلول شهر رمضان ونقترب من هذا الشهر الفضيل من عام 2005 وعُدت من الولايات المتحدة بغرض الاستقرار فى مصر واتصل بالصديق جويلى الذى يصرخ فى التليفون بان ازوره وانا اخبره قائلاً : سوف يحدث هذا وهو سعيد ويقول متى هذا الموعد فاخبره بالموعد فيعيد حديثه بانه قبل وصولى اليه فى الفيوم سيكون قد عمل كل اتصلاته ليحضر زملائنا السابقون.

     انا متجهة بالسيارة الى الفيوم لمقابلة جويلى وزملاء رحلة (28) يوم التى لاتنسى اتذكر بعض الخواطر ومنها ليلة قيامنا بالمشروع وحضور الرئيس عبد الناصر فجأة وبعد ان غادرموقعنا يلومنى جنودى .. بقى ده معقول يافندم لما ييجى مقدم والا عقيد تجرى لهم وانت لابس الخوزة ومعاك الاوراق والخرايط ولما ييجى الرئيس بنفسه تقوم تمشى على مهلك وانت رايح تقابله وقالع راسك ولا خوزه ولا خرايط .. الحمد لله ان ربنا عداها على خير ويضحكون بعد هذا وانا اضحاكهم واتذكر فيلم غزل البنات للمبدع نجيب الريحانى عندما ذهب لمقابلة الباشا فشاهد رجلا انيقا فوقف يجله ويحترمه وبعدها عرف انه مخصص لرعاية الكلب وبعدها يشاهد رجلا قادما يحمل سبت به خضروات ومقص لتقطيع وتقليم الاشجار فيعتقد انه الجناينى .. انه التباس المظهر وهذا ما حدث معى بالضبط .. العربات الجيب اربع باب مخصصة لكبار القادة عقيد وعميد اما السيارات الجيب اتنين باب مخصصة لرتبة الرائد والمقدم وبعض الاحيان النقيب اما الملازمين فعليهم السير او الجرى .. ولهذا عندما شاهدت السيارة اثنين باب تأكد لى انها رتبه صغيرة وخاصة ان السيارة قديمة ولكنها طلعت انها بتاعة الباشا وبتاع الكلب ركب مكان الباشا .. يضحكون على هذا التشبيه وهذا الخلط.  

       مازالت الذكريات تتزاحم فى عقلى وفكرى واعود الى الوراء عام 1990 وقتها كنت اتقلد منصبا فى احدى شركات الاستثمار الاجنبية وعدت مساء الى منزلى فى مدينة الزقازيق ليخبرنى بعض الشباب بالعمارة التى اسكن بها انهم شاهدوا شابين حسنا المظهر يحومان حول العمارة فاحتكوا بهما وارادوا ان يسلموهما الى الشرطة ولكن الشابين اخبراهما انهما اتيا من القاهرة لتسليم “اسامة بك رسالة” ولم يقنع هذا الشباب واخبروهما بان من تسألون عنه مقيم فى القاهرة منذ فترة .. اندهشت لهذا وبعدها باسبوع تسلمنى سكرتيرة الشركة ظرف خطاب .. افتحه وانا اشاهد على الغلاف اسمى ثلاثيا وشعار دولة اسرائيل .. افتح الخطاب لاجد بداخله دعوة من سفير دولة اسرائيل لى ولزوجتى لحضور عيد استقلال دولة اسرائيل “الثانى والاربعون” والدعوة شخصية ومطلوب ابراز الهوية الشخصية ومكان الدعوة منزل السفير فى حى المعادى.

     كانت دهشتى كبيرة وتشاورت مع زوجتى التى ابدت شعورا بالسعادة ان تذهب لمنزل سفير وما يتطلب هذا من فستان جديد ولوازمه من حذاء وشنطة يد .. اسرعت اخبر بعض زملائى الضباط والذين كانوا بالخدمة فاشاروا على بابلاغ المخابرات الحربية .. توجهت بعدها بايام الى مجموعة (….) للمخابرات الحربية وتقابلت مع احد الضباط واوجزت الموضوع وناولته الرسالة فاستأذن منى فى ان يذهب الى قائده وعاد بعد قليل ويطلب منى تلبية الدعوة على شرط ان ابدل زوجتى بسيدة سترسلها الادارة معى مدربة على تلك الموضوعات وسنكون مجهزين ببعض الادوات للتسجيل والتصوير .. اعتذرت عن هذا واندهش الضابط سائلا كيف لى ان اعتذر عن عمل لخدمة بلدك .. اخبرته بأننى متقاعد ولا اعمل الان .. يجيبنى انت ضابط سابق وحالى اى ان القوات المسلحة عند احتياجها اليك سوف تقدم نفسك فورا .. شكرته واننى لم احضر الا لاخبركم واستأذنت معتذرا عن تلك المهمة.

          اليوم الاول من شهر رمضان المبارك موعد زيارتى للفيوم وها انا اصل الى المركز الذى يتبعه جويلى واشاهده جالساً مع بعض ابنائه فيقف مرحبا بمجرد هبوطى من السيارة ونتعانق سويا .. انه الزمن فقد ظهرت عليه علامات الشيخوخة مثلى ويرتدى نظارة لضعف نظره الذى كان حادا واصاب القناص الاسرائيلى فى طائرته ايام الانسحاب نتجه سويا الى سيارته التى يقودها احد ابنائه حتى نصل الى قريته او الى بلدته وارضه بعد ان قطعنا شوطا فى الصحراء والرمال من حولنا .. اشاهد جنة خضراء على  مرمى النظر فيضحك ويشير قائلاً : خلاص وصلنا “الدار” ثم يعلق : دية ارض جديدة اشترتها من خمستاشر سنه ومضيت بيها باقى صحتى وعمرى وشبابى واولادى ساعدونى ربنا يعطيهم الصحة .. والله يافندم خمسين فدان لكن ربنا طارح فيهم البركة .. تقف السيارة وعلى اصوات النفير يخرج من المنضرة باقى الاصدقاء الذين يندفعون مقبليننى ومحتضنينى وهم غارقين فى دموع الفرح التى انتقلت عدواها لى ولمضيفى الحاج جويلى ..

     نجلس ونتسامر .. كل يقص ما حدث له منذ افتراقنا فى منطقة عجرود بالسويس بعد عودتنا من سيناء والمشكلة التى حدثت مع رئيس العمليات وعلى اثرها نقلت انا وعادل زميلى الى القاهرة .. مصطفى ابن الاسكندرية يخبرنى بانه تزوج وانجب خمس بنات .. وجميعن تزوجن الا الصغيرة آخر العنقود وعمرها الان سبعة عشرة عاما .. ونجح فى عمله واصبح مقاول بياض ويقوم بعمله فى المناطق الجديدة كما ان محافظ الاسكندرية الجديد دفع بزيادة الطلب عليهم لمحاولة تحسين وتجميل المدينة والتى بدأها المحافظ النشط .. عطية يخبرنى هو الاخر انه شارك شقيق زوجته فى محل قماش بمنطقة الازهر وربنا فتحها عليهم من واسع ولديه ولدان تعلما وتخرجا من الجامعة وفتاة تزوجت منذ عدة سنوات واصبح جد .. اما فراج فهو مازال يعيش فى قنا ويعمل بالتجارة مع شقيقية فى شراء حدائق الفواكهه وربنا رزقهم من خيره .. ولديه ثلاث رجال وبنتين تزوجتا منذ فترة وله من الاحفاد ستة. 

      اقترب موعد اذان المغرب ولا يقطع تلك السامر سوى القيام للصلاة ويؤمنا الحاج جويلى والذى كان يؤمنا منذ ثمانية وثلاثون عاما .. نفس الامام ونفس المصلين خلفه.

    بعد نهاية الصلاة ينظر الينا ويطلب ان نقرأ الفاتحة على شهدائنا الابرار وبالاخص الثلاثة عشر جنديا وضابطا والتى دهستهم الدبابات الاسرائيلية لاعنا هؤلاء الناس ثم يتوجه بالدعاء الى الله ونحن خلفنا الصحراء الصفراء الشاسعة وامامنا الجنة الخضراء التى انتصرت فيها السواعد المصرية لقهرها وتحويلها الى هذا اللون الذى كنا نرنو اليه فى ايام الانسحاب .. ثم يتلو الاية الكريمة من سورة الأحزاب:

 

مِنْ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً (23) لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِنْ شَاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُوراً رَحِيماً (24) صدق الله العظيم

                                   

 

تمت و الحمد للـــــــــــه

بقلم / أســامة علــى الصــادق

مـوبايل : 0127970032

تاريخ : 10/12/2006

 

Share
Click to listen highlighted text! Powered By GSpeech