Click to listen highlighted text! Powered By GSpeech
Get Adobe Flash player
مستمرين معاكم بإذن الله 2008-2024 **** #لان_لجيشنا_تاريخ_يستحق_أن_يروي **** ***** إنشروا تاريخنا وشاركونا في معركة الوعي **** تابعونا علي قناة اليوتيوب 1100+ فيديو حتي الان **** تابعونا علي صفحات التواصل الاجتماعي** أشتركوا معنا في رحلاتنا لمناطق حرب أكتوبر **** يرجي استخدام خانة البحث **** *** تابعونا علي تليجرام - انستجرام - تويتر

صراع في السماء - اللواء طيار محمد عكاشه - الجزء الثاني

 

الفصـل الثانـي

مصـر لا تقـرأ التاريـخ

العـدوان الثلاثـي 1956 :

ما أشبه الليلة بالبارحة فحين نتذكر ما حدث لمصر فى نهاية حكم محمد على وتآمر الدول عليه نجد أن عدوان 1956 هو صورة أخرى مكررة لما حدث.

انتهت الجولة الأولى من الصراع بين مصر وإسرائيل بقبول مصر بتوقيع اتفاقية رودس فى فبراير 1949 ، وقد أعطت هذه الاتفاقية لإسرائيل مساحة من الأرض تعادل مرة ونصف قدر الأرض التي كانت قد حازتها إسرائيل بموجب قرار التقسيم ، وكانت الحكومة المصرية آنذاك ومعها الحكومات العربية قد رفضت قرار التقسيم حين صدر من الأمم المتحدة ، وحفلت السنوات التالية بأحداث متلاحقة على مدار سبع سنوات أدت إلى العدوان الثلاثي الذي تم على مصر فى 1956 بواسطة التحالف الثلاثي بين إنجلترا وفرنسا وإسرائيل.

ففي مارس 1949 أي بعد توقيع الاتفاقية بشهر واحد استولت إسرائيل على قرية أم الرشراش على خليج العقبة وحولتها إلى ميناء إيلات مما وفر لها طريق مواصلات بحري إلى أفريقيا وآسيا ، وفى عام 1950 قامت إسرائيل بالاستيلاء على منطقة العوجة على الحدود المصرية بوسط سيناء. رغم أن الاتفاقية كانت تنص على أن العوجة منطقة منزوعة السلاح. كان هذا يتم استغلالاً للحالة السيئة للجيش المصري وعدم قدرة مصر على الدخول فى صراع عسكري خلال هذه الفترة.

ألقت نتائج حرب 48 وما لحق بالعرب من هزيمة عسكرية بظلالها على الأوضاع السياسية فى الداخل العربي ، فانفجرت فى سوريا الاضطرابات والانقلابات العسكرية فوقع فيها أربعة انقلابات خلال عامي 1949-1951 ، ثم كان مقتل الملك عبد الله ملك الأردن فى القدس عام 1951 على يد الفلسطينيين ، وفى مصر قام العسكريون بانقلاب ناجح أدى إلى خلع الملك فاروق وتنازله عن العرش وتم الاستيلاء على الحكم وأصبحت مصر تحكم بواسطة الجيش والعسكريين.

كان أول ما واجه العسكريون فى مصر بعد استيلاءهم على الحكم هو حل مشكلة الاحتلال الإنجليزي لقناة السويس والذي كان مستمراً منذ عام 1882 ، ونجح البكباشى جمال عبد الناصر الذي أصبح رئيساً للجمهورية بعد عزل واعتقال اللواء محمد نجيب أول رئيس للجمهورية فى توقيع اتفاقية الجلاء مع إنجلترا فى أكتوبر 1954. وكان توقيع هذه الاتفاقية يعنى تحرر مصر وقواتها المسلحة من أي نفوذ بريطاني يعوق تقدمها إلى سيناء ،

وكانت إسرائيل ترقب وتتابع المفاوضات بين مصر وإنجلترا بقلق شديد، فهي تدرك   أن رحيل إنجلترا عن مصر سيفقدها حليفاً مهماً متمركزاً على بعد أميال منها ، وأراد بن جوريون أن يزرع اسفين بين مصر والغرب بتشويه وتخريب العلاقات بينهما وإظهار مصر بصورة ضعيفة تعاني من الاضطرابات، فأرسل شبكة من العملاء والجواسيس عام 1954 إلى مصر قامت بتفجير مركز المعلومات والثقافة الأمريكي بالقاهرة والإسكندرية، ثم تفجير حريق فى محطة السكة الحديد الرئيسية ثم محاولة إشعال حرائق فى دور السينما. وتم القبض على الشبكة واكتشفت أبعاد المؤامرة.

وكان طبيعياً أن يتجه الرئيس جمال عبد الناصر إلى الغرب لطلب سلاح ومعدات للجيش المصري، فحرب 1948 كانت ماثلة أمامه تماماً خاصة وأنه كان ضمن القوات المصرية التي حوصرت فى الفالوجة ، فأرسل وفداً إلى بريطانيا والولايات المتحدة، لكن كانت نتيجة زيارة الوفد مخيبة للآمال فقد وصلت 40 دبابة بريطانية فقط وبدون ذخيرة، وبعد الاحتجاج المصري أرسلت بريطانيا كمية قليلة من الذخيرة.

وفى الأول من نوفمبر 1954 تم إعلان ثورة الجزائر وكانت القاعدة الرئيسية التي انطلقت منها تلك الثورة هي مصر والتي أعلنت من اللحظة الأولى دعمها واحتضانها لتلك الثورة. فكان طبيعياً أن تتخذ فرنسا موقفاً معادياً من مصر ومن الرئيس جمال  عبد الناصر، وقد فشلت فرنسا فى إخماد ثورة الجزائر وبدأت خسائر فرنسا تزداد  من أعمال المقاومة الجزائرية. وأصبح راسخاً لدى فرنسا وحكومتها أن مصر وعبدالناصر هما السبب فى ثورة الجزائر.

وفى عام 1955 تصاعدت الأحداث بصورة أكبر، ففي يناير أعلن مشروع حلف جديد يضم تركيا وباكستان وإيران والعراق وسمى بحلف بغداد، وكان مشروع هذا الحلف يعمل تحت المظلة الأمريكية. وكان الرئيس عبد الناصر يرى أن هذه الأحلاف تنشأ وُتصّنع لخدمـة أهـداف الغرب الاستعمارية فقام بشن حملة إعلامية وسياسية أدت فى النهاية إلى فشل ونهاية حلف بغداد.

وفى 28 فبراير 1955 شنت إسرائيل هجوماً على أحد المعسكرات المصرية فى   قطاع غزة بواسطة 50 جندي مظلات أسفر عن 38 قتيل عدا الجرحى مقابل 8 قتلى لليهود ومما أغضب عبد الناصر أن الهجوم وقع بعد أيام من زيارته للموقع وكان  حديثه مع الجنود الضباط أن القتال مع إسرائيل شيء مستبعد فى الوقت الراهن.

وفى أبريل 1955 تم عقد مؤتمر للدول الأفريقية الآسيوية فى باندونج بإندونيسيا نجح الرئيس عبد الناصر خلال المؤتمر فى تحقيق نجاح باهر تمثل فى تأييد المؤتمر لحقوق شعب فلسطين، وتأييد حق تقرير المصير لكل من تونس والجزائر والمغرب، وأيضاً تسوية سلمية لقضايا محميات الخليج ، وبهذا التأييد الذي نجح الرئيس عبد الناصر فى الحصول عليه أصبح العداء سافراً مع كل من فرنسا وإنجلترا.

وكان النجاح الأكبر الذي حققه الرئيس عبد الناصر هو فتح قناة اتصال مع الاتحاد السوفيتي للحصول على أسلحة ومعدات للقوات المسلحة المصرية.

وبعد مفاوضات مع الاتحاد السوفيتي وفى 27 سبتمبر1955 تم الإعلان عن اتفاقية الأسلحة بين مصر وتشيكوسلوفاكيا والتي كان لها وقع مدوي وشديد على إسرائيل تمثل فى تعليق موشى شاريت بقوله "إنها خطر لا مثيل له، ومن المحتم أن تؤثر تأثيراً بالغاً على أمن إسرائيل ، كما وأنها غيرت ميزان القوى تغييراً حاسماً وضع حد لتفوق إسرائيل النوعي على مصر. إنها خطر داهم لم تشهده إسرائيل منذ حرب الاستقلال"([1]).

ولم يستغرق البحث كثيراً أمام الحكومة الإسرائيلية للرد على صفقة الأسلحة المصرية- التشيكية ، فقد كان دعم مصر للثورة الجزائرية مدخل مناسب وفرصة سانحة تلقفتها إسرائيل واتجهت إلى فرنسا كحليف مشترك لها فى العداء للسياسة المصرية. ونجحت فى "التعاقد بعد عدة أسابيع على إمدادها بثلاثين طائرة أورجان وأربع وعشرون طائرة مستير، وصلت أول 15 طائرة أورجان من الصفقة فى نوفمبر 1955"([2]) ، ولهذه الصفقة معنى هام، فهي قد تمت بعد أيام من إعلان مصر عن صفقتها. والطائرات التي

 

 

 

قدمتها فرنسا لإسرائيل كانت من أحدث الطرازات لديها فقد بدأت الخدمة فى السلاح الفرنسي قبل أربع سنوات فقط.

فى يوليو 1955 تولى بن جوريون منصب رئيس الوزراء فى إسرائيل ووزير الدفاع، وهو ما يعد امتداداً لجهود الآباء الصهاينة وطموحاتهم. ومن هذه اللحظة أخذت الأحداث مجرى آخر. فهو أحد زعماء اليهود الذين عملوا بجد وإخلاص حتى أقيمت الدولة اليهودية، وكان عليه أن يستكمل مخططات المؤتمر الصهيوني الأول والتي قالت بأن الحرب الأولى مع الدول المحيطة ستقع فى عام 1957 ، ولهذا كانت بداية وصوله إلى الحكم القيام بعملية إغارة على موقع مصري فى الصبحة فى نوفمبر1955 أسفر عن استشهاد 40 جندياً مصرياً ، تبعه بغارة أخرى على سوريا قتل فيها 56 سورياً وأسر 30 آخرين وذلك رداً على بعض الأعمال الفدائية ضد إسرائيل كانت نتائجها محدودة نظراً لأنها كانت تتم بأفراد فدائيين وليس بوحدة عسكرية.

وفى 5 ديسمبر 1955 أطلع بن جوريون مجلس الوزراء على خططه القديمة لاحتلال سيناء كما طلب موشى دايان رئيس الأركان إعداد الخطط بأسرع ما يمكن لاحتلال المضايق ، كما ركز بن جوريون على زيادة التعاون مع فرنسا فى المجال العسكري وبدأ مبكراً تكليف شيمون بيريز أحد تلاميذه المخلصين فى إنشاء المفاعل النووي فى ديمونا بدعم فرنسي أيضاً، ونجح أخيراً فى "27 يونيو 1956 فى عقد صفقة أخرى اشتملت على 72 طائرة مستير"([3]) ، كان الدافع الأساسي لإسرائيل هو الخوف من تزايد القدرة العسكرية لمصر مما سيجعلها العقبة الأساسية فى سبيل تحقيق أحلامها التوسعية ، وكان على رأس القدرة العسكرية المصرية قواتها الجوية التي أخذت فى النمو والتطور.

وجاء عام 1956 يحمل فى طياته مقدمات الحرب التي ستقع فى نهاية أكتوبر، فبعد حرب إعلامية وضغوط شعبية على الملك حسين ملك الأردن تم طرد جلوب باشا قائد الجيش الأردني الإنجليزي فى مارس 1956 بعد أن خدم 18 عاماً فى الجيش الأردني. وقد حاولت إنجلترا الضغط على الملك حسين للتراجع عن قراره لكنها لم تنجح واعتبرت هذه الخطوة نصراً للرئيس عبدالناصر،

وفى مارس أيضاً وصل وزير الخارجية الفرنسية إلى القاهرة واجتمع  مع عبد الناصر لإقناعه بالتوقف عن دعم الثورة الجزائرية لكنه فشل أيضاً ،

وفى شهر مايو أعلن جون فوستردالاس وزير الخارجية الأمريكية أنه يوصى بتسليم  طائرات إلى إسرائيل لدعم سلاحها الجوي ، ورداً على هذه التصريحات والصفقات التي تمت لتسليح إسرائيل أعلنت مصر فى 16 مايو 1956 اعترافها بالصين الشعبية وأرسلت بعثة عسكرية إلى بكين ، وكان لهذه الأحداث دوى شديد فى المحيط العربي والدولي جعل موقع مصر فى المنطقة يبدو أكبر من قدرها بكثير.

وجاء الحدث الفصل فى 19 يوليو 1956 حين سحبت أمريكا عرضها لتمويل السد العالي بحجة عدم قدرة مصر على إنشاء مشروع بهذا الحجم الضخم وبهذا انضمت أمريكا إلى إنجلترا وفرنسا فى عدائها لمصر ولعبد الناصر، وجاء رد عبد الناصر على الضربة الأمريكية بضربة أشد كثيراً مما هو متوقع من الغرب ففي 26 يوليو 1956 أعلن جمال عبد الناصر تأميم قناة السويس، وعودة ملكيتها إلى مصر وشعب مصر. بعد أن كانت فى يد الأجانب لأكثر من ثمانين عاماً.

وفجرت مصر بهذا القرار قنبلة بدت فى أول الأمر خافته التأثير لكن يوم بعد يوم كانت الشظايا تتطاير فى أنحاء العالم أجمع حتى انتهى الأمر بعدوان ثلاث دول مجتمعة على مصر ، أمريكا قالت أن مصر لها الحق القانوني فى التأميم ، وفى موسكو أيدت الحكومة القرار وأعلن خروشوف أنه عمل مشروع ، لكن فى إنجلترا بدأ من صباح 27 يوليو 1956 اجتماع رؤساء أركان حرب الجيش البريطاني لبحث احتمالات العمل العسكري ضد مصر ، وكان القرار أن يتم التحضير لعملية تهدف إلى احتلال القاهرة وإسقاط عبد الناصر حتى لا يستطيع شن حرب شعبية، وكان المطلوب ستة أسابيع على الأقل للتحضير، وفى فرنسا أعلنت أنها ستقاوم هذا العمل وحدث نفس الأمر وبدأ التخطيط يوم 28 يوليو.

وكان الموقف يزداد سوءاً بين مصر وكل من إنجلترا وفرنسا يوم بعد يوم، فقد طالب إيدن رئيس وزراء إنجلترا باغتيال عبد الناصر لحل الأزمة ولأن عبد الناصر لديه طموحات لتوحيد الدول العربية. وأعطى الهجوم المستمر على عبد الناصر كسباً  معنوياً له، واندفع عبد الناصر فى لقاءاته الصحفية مهاجماً الغرب بلا هوادة.

وبدأ التخطيط والتجهيز لغزو مصر "على الجانب البريطاني - الفرنسي فقد أعلنت بريطانيا التعبئة فى الأسبوع الأول من أغسطس 1956 بحجم وصل 125 ألف جندي من قوات الاحتياط وقامت فرنسا بالتعبئة الجزئية واستدعت 50 ألف جندي من قوات الاحتياط"([4]).

كما تم تحرك الأساطيل وحاملات الطائرات وتم اختيار مالطة كقاعدة للقوات القائمة بالهجوم على مصر، وكان الهدف من الاستعدادات العسكرية هو إما  أن تؤثر على عبد الناصر حين يتأكد من أن إنجلترا وفرنسا سيقومان بالهجوم المسلح على مصر فيتراجع عن موقفه ، وإما أنه لن يهتم بهذه الاستعدادات فيتم التجهيز النهائي وتصبح القوات الإنجليزية والفرنسية جاهزة للهجوم على مصر.

وعلى الجانب الآخر فى مصر كان هناك تقدير موقف قام به الرئيس جمال عبد الناصر كتبه وأوضح تفاصيله الكاتب محمد حسنين هيكل فى جريدة الأهرام يوم 7 أكتوبر 1966 ، وننقل هنا عن كتاب أيام وأيام 1882-1956 للكاتب محمد صبيح ،

"تقدير الموقف كما كتب جمال عبد الناصر بخطه فى يوم السبت 21/7/1956 أي قبل إعلان التأميم بخمسة أيام ، وفيما يلي نصه :

وفى وثيقة "تقدير موقف من وجهة النظر الغربية فى حالة تأميم قناة السويس" فإن جمال عبد الناصر وضع وأجاب على مجموعة من العناوين الفرعية

ماذا يصنع إيدن ؟ - رئيس وزراء إنجلترا فى ذلك الوقت -

ماذا يصنع موليه ؟ - رئيس وزراء فرنسا فى ذلك الوقت -

ماذا يصنع دالاس ؟ - وزير الخارجية الأمريكية فى ذلك الوقت -

وفى آخر صفحة من الصفحات الخمس سؤال أخير للمناقشة

-            هل تستغل إسرائيل الفرصة ؟

فى هذه الوثيقة التي أتمنى أن توضع كما هي فى متحف النصر ببورسعيد أو غيره من المتاحف التي يتصل اهتمامها بالتاريخ المعاصر. توصل عبد الناصر فى تحليله وتقديره لموقف إيدن وماذا يستطيع أن يصنعه إلى عدة افتراضات لابد أن ينبني موقف مصر على أساسها :

(1)   رد الفعل فى بريطانيا سوف يكون عنيفاً، لأن الضربة القادمة فى الصميم، موجهة إلى مطامع السيطرة وإلى النفوذ السياسي والهيبة الدولية.

(2)   إيدن سوف يلجأ إلى القوة العسكرية بالتأكيد.

        ضعف موقفه فى حزبه

       ضعف موقفه فى بلده

      ضعف موقف بلده فى الخارج. ذلك كله سوف يدفعه إلى العنف ، أقصى العنف

(3)   احتمال تعاون بريطانيا مع إسرائيل مستبعد، بسبب حرص بريطانيا على أصدقائها من العرب. وتعاونها بطريقة سافرة مع إسرائيل يكشفهم ويحطمهم، واستغلال إسرائيل للموقف بغير تنسيق مع بريطانيا يعرضها لمشاكل معقدة فضلاً عن ذلك فإن بريطانيا فى حالة إقدامها على عمل عسكري لا تحتاج إلى معونة إسرائيل العسكرية فيه !

لقد خرج من هذه الوثيقة سؤال هام كان ظهر ذلك اليوم ملء مكتب جمال عبدالناصر، وملء فكره كله :

-            ما هو وضع بريطانيا العسكري فى الشرق الأوسط وفى البحر الأبيض ؟

إن السرعة هي العامل الحاسم فى الموقف ، فلو استطاع إيدن أن يتدخل فوراً وأن يبدو تدخله وكأنه رد فعل طبيعي لتأميم قناة السويس فمعنى ذلك أن إيدن سوف يجد تأييداً داخل بلده ومن جانب حلفائه ويبدو عمله أمامهم وكأنه رد مشروع فى مواجهة تحد لا يطاق !

أما إذا لم يستطيع إيدن أن يتدخل بسرعة ، ومضى وقت، شهران أو ثلاثة، فسوف تكون الفرصة قد فاتت لأن الجو النفسي يكون قد تبدل وتكون السياسة المصرية قد لعبت على المسرح الدولي دورها المطلوب. خصوصاً إذا عززته بحسن إدارة قناة السويس.

وإذن فسؤال الساعة هو :

-            ما هو وضع بريطانيا العسكري فى الشرق الأوسط وفى البحر الأبيض ؟

وكانت لدى مصر معلومات وافية عن القوات البريطانية الموجودة فى الدول العربية القريبة منها، بالتحديد الأردن وليبيا.

فى البلدين كانت هناك الفرقة المدرعة العاشرة البريطانية نصفها فى الأردن ونصفها فى ليبيا، لكن الفرقة بنصفيها كانت خارج الحساب لسببين :

  • من الصعب أن تستخدم بريطانيا قاعدة عربية فى غزو ضد مصر.

والسبب الثاني :

  • أن بريطانيا سوف تكون فى حاجة إلى هذه القوات حيث هي فى الأردن وفى ليبيا.

لحماية الوجود البريطاني فيهما أمام الثورة الشعبية التي سوف تحدثها عملياتها العسكرية ضد مصر ، وإذن تبقى من القواعد القريبة.

قبرص - مالطة - عدن

ما هي أوضاع القوة البريطانية فيها ؟"([5])

كان تقدير الرئيس جمال عبد الناصر أن احتمال العمل العسكري قائم ولكنه يقل يوما بعد يوم وأن بريطانيا لن تستطيع القيام بعمل عسكري وأن فرنسا لن تشارك فى أي حملة عسكرية نظراً لما تعانيه من صعوبة الموقف فى الجزائر من المقاومة المسلحة، واستبعد دخول إسرائيل فى أي عملية عسكرية مع إنجلترا ، وأثبتت الأحداث عدم صحة تقدير الموقف هذا وتم عكسه تماما ، كما أن عبد الناصر كان يعتمد على موقف الدول العربية المؤيدة لمصر وموقف الاتحاد السوفيتي وكذا أن البترول العربي سيلعب دوراً مساعداً فى السياسة المصرية.

وبدأت كل من إنجلترا وفرنسا وإسرائيل فى نسج خيوط المؤامرة على مصر، فالكل متفق على توجيه ضربة إلى مصر تحقق مصالحه الخاصة ، وتلاقت المصالح كلها على هذه الضربة ، وقد استغرق التحضير والتنسيق بين الدول الثلاث (شهور أغسطس وسبتمبر وأكتوبر)، كانت خلالها إسرائيل تدفع وتؤيد الدخول فى هذه الحرب فعلى رأس الحكومة الإسرائيلية بن جوريون الذي كان لا يتنازل عما قاله ومثبت فى الكتاب السنوي لحكومة إسرائيل عام 1952 "إن دولة إسرائيل قد قامت فوق جزء من أرض إسرائيل"([6]) ، وفرنسا كانت تعتقد أن القضاء على مصر وعبد الناصر سيؤدي إلى القضاء على الثورة فى الجزائر، وإنجلترا كان الصراع الشخصي بين إيدن وعبد الناصر طاغياً إلا أن المصالح والنفوذ البريطاني كان مهدد بالتآكل والانهيار لذا وجب ضرب مصر.

وفى 22 أكتوبر 1956 بدأ الاجتماع فى بلدة سيفر قرب باريس بين رؤساء كل من إنجلترا وفرنسا وإسرائيل لتوقيع الاتفاق النهائي للقيام بالهجوم على مصر بواسطة قواتهم المشتركة ، ولم تكن إسرائيل تأمن جانب سلاح الطيران المصري بل كانت تخشـى من تأثير غاراته على أراضيها، فحرب 1948 لم تكن ببعيدة عن مخيلة     بن جوريون والوفـد الإسرائيلـي ، ولم يكن ليتم الاتفاق إلا بعد تنفيذ طلبات       بن جوريون الأساسية وظهر إلى الوجود اتفاقية سيفر التي كانت تنص على :

-            أن تقوم القوات الجوية لكل من بريطانيا وفرنسا بقذف القواعد والمطارات المصرية فجر يوم 31 أكتوبر لضمان تدمير الطيران المصري على الأرض حتى تأمن إسرائيل من التهديد الجوي المصري.

-            أن تقوم فرنسا بإرسال طائرات وطيارين فرنسيين لتوفير الحماية الجوية للمدن الإسرائيلية.

وتم التصديق على خطة الغزو التي أطلق عليها "مسكيتر المعدلة النهائية" وكانت الخطة تتلخص فى :

1-       خلق صراع مسلح على مشارف القناة.

2-       استدراج أغلب القوات المسلحة إلى شرك مدبر فى سيناء.

3-       جذب أنظار القيادة المصرية بعيداً عن الهدف الرئيسي وهو الغزو الإنجلو فرنسي.

4-       توجيه ضربات رئيسية إلى القوات المسلحة المصرية المتواجدة فى سيناء وعزلها عن العمق التعبوي غرب القناة.

وكانت إسرائيل قد وضعت خطتها الخاصة بالهجوم على سيناء تحت مسمى "قادش" والتي وصفها موشى دايان رئيس الأركان وقتئذ فى كتابه قصة حياتي "سنكون كراكب الدراجة الذي يمسك بيده فى سيارة لورى مسرعة فتجره معها بسرعتها الأكبر". وكان هذا ما فعلته إسرائيل تماماً مع إنجلترا وفرنسا

ولإحكام المؤامرة وحبك الخداع قرر إيدن وجي موليه تحويل القضية إلى مجلس الأمن والموافقة على عقد مؤتمر يوم 29 أكتوبر (يوم الغزو المقرر) لاستمرار الجهود المبذولة لحل المشكلة ، ثم تبعهم بن جوريون بأن أصدر إنذار إلى الأردن رداً على دخول القوات العراقية إلى الأردن فى 12/10/1956 متهما فيه الأردن بأنها خرقت اتفاقية الهدنة. وأصدر أوامره للجيش الإسرائيلي بالاستعداد للهجوم على الأردن ، فيرد على هذا الإنذار إيدن بتحذير إلى إسرائيل لتكف عن تهديد الأردن ، وكان هذا ذروة الخداع الاستراتيجي.
حجم القوات الجوية البريطانية فى الغزو :

9 أسراب قاذفات فى مالطة

9 أسراب قاذفات + 2 سرب مقاتلات + 7 أسراب نقل جوي فى قبرص

5 أسراب مقاتلات + 2 سرب استطلاع + 1 سرب إمداد جوي فى أكروتيرى

3 حاملة طائرات عليها 13 سرب مقاتلات قاذفة

إجمالي حجم القوات                48 سرباً

حجم القوات الجوية الفرنسية :

6 أسراب مقاتلات + 3 أسراب نقل جوي فى اللد وحيفا

3 أسراب مقاتلات + 3 أسراب استطلاع فى أكروتيرى

6 أسراب نقل جوي فى تمبو

حاملة طائرات عليها 3 أسراب مقاتلات قاذفة

إجمالي حجم القوات                24 سرباً

حجم القوات الجوية الإسرائيلية :

9 أسراب مقاتلات

7 أسراب مقاتلات قاذفة

4 أسراب قاذفات

3 أسراب نقل جوي

3 أسراب استطلاع

إجمالي حجم القوات                26 سرباً

حجم القوات الجوية المصرية :

7 أسراب مقاتلات

1 سرب مقاتلات قاذفة

2 سرب قاذفات

3 أسراٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍب نقل جوي

إجمالي حجم القوات                13 سرب

وبمقارنة القوات الجوية لكلا الطرفين نجد أن :

98 سرب للتحالف الثلاثي مقابل   13 سرب لمصر

النسبة                       7.5           :        1

بدأ العدوان الثلاثي على مصر فى الرابعة والنصف عصر يوم 29 أكتوبر 1956 "بدخول 16 طائرة نقل إسرائيلية طراز داكوتا على ارتفاع 5، قدم وفى حراسة مباشرة من عشر طائرات متيور إضافة إلى ستة عشر طائرة مستير تقوم بدوريات  فوق وسط سيناء بحثاً عن أي نشاط للقواعد المصرية القريبة، لكن لم يكن هناك أي نشاط([7]).

وتمت عملية إسقاط كتيبة المظلات الإسرائيلية فى منطقة المدخل الشرقي لممر متلا الذي يبعد عن قناة السويس 50 كيلو متر دون أي تدخل من القوات المسلحة المصرية، وفوجئت القيادة السياسية والعسكرية فى مصر بهذا الهجوم خاصة وأن الأوضاع على الحدود طوال شهور سابقة كانت هادئة ، وعلى الفور فى المساء تم اجتماع الرئيس جمال عبد الناصر بالقيادة العسكرية وتم تقدير الموقف وعمل خطة دفاعية سريعة اشتملت على عبور أول كتيبة مشاة إلى سيناء لمجابهة المظليين الإسرائيليين الذين تمركزوا عند شرق ممر متلا. مع الحذر تماما من أن يؤدي عبور القوات إلى سيناء إلى توقف الملاحة فى قناة السويس.

"ومن الغريب أن جمال عبد الناصر لم ينتبه إلى احتمال التواطؤ حتى بعد أن قرأ نص البيان الإسرائيلي عن نزول قوات إسرائيلية فى منطقة قرب قناة السويس"([8]).

وفى السابعة صباح 30 أكتوبر بدأ الهجوم الجوي المصري على القوات الإسرائيلية بواسطة "2 طائرة ميج 15 أسفـرت عـن 40 قتيـل وجريـح بالإضافة إلى تدمير  6 مركبات"([9]) ، ثم توالت طلعات الطيران المصري ضد القوات الإسرائيلية حتى بلغت 40 طلعة جوية أحدثت خسائر مؤثرة فى القوات الإسرائيلية، ثم دارت معركة جوية شرق مطار كبريت بين 8 طائرة إسرائيلية طراز مستير مع 12 طائرة مصرية ميج15 أسفرت عن إسقاط طائرة إسرائيلية وخسارة 2 طائرة مصرية.

وطوال نهار 30 أكتوبر اندفع لواء المظلات الإسرائيلي للاتصال بالكتيبة التي تم إسقاطها بالأمس فى شرق ممر متلا ، وبدأت القوات الرئيسية للجيش الإسرائيلي فى اختراق الحدود المصرية ، وكان عبد الناصر مازال يستبعد التواطؤ حتى المساء ، وفي السادسة من مساء هذا اليوم تقدمت بريطانيا وفرنسا بإنذار عن طريق السفراء فى القاهرة وكان الإنذار يحتوي على ثلاث مطالب :

أولاً:        إيقاف جميع الأعمال الشبيهة بالحربية فى البحر والبحر والجو.

ثانياً:        سحب جميع القوات العسكرية المصرية والإسرائيلية إلى مسافة 10 ميل من منطقة قناة السويس ، (لم تكن إسرائيل  قد وصلت بعد حتى إلى منتصف سيناء).

ثالثاً:        تقبل مصر احتلال القوات البريطانية والفرنسية لكل من بورسعيد والإسماعيلية والسويس.

وعند منتصف الليل رفض الرئيس جمال عبد الناصر الإنذار، فى نفس الوقت الذي كانت فيه القوات المسلحة المصرية تواصل أعمال القتال مع القوات الإسرائيلية ،  لكن الرئيس عبد الناصر أدرك بعد الإنذار أبعاد المؤامرة بين الدول الثلاث ، واستمرت القوات الجوية المصرية فى مهاجمة القوات الإسرائيلية طوال ليل 30/31 أكتوبر بواسطـة القاذفـات المصرية اليوشن28 واستمر القصف الجوي طوال نهار 31أكتوبر على المواقع الإسرائيلية لأن القيادة الأنجلو - فرنسية قررت تأجيل قصف المطارات والقواعـد المصرية عن الموعد المحدد ، وكان لهذا تأثيراً مفزع على   بن جوريون والذي يصفه موشى دايان فى كتابه "وعندما عدت إلى مقر القيادة العامة قادماً من الجنوب علمت أن القوات الإنجليزية والفرنسية قد أجلت هجومها ولن تبدأ قصف القواعد الجوية المصرية فجر اليوم التالي - 31أكتوبر- كما تقضى الخطة، وذهبت لزيارة بن جوريون الذي كان ملازماً لفراشه لإصابته بالأنفلونزا وكان قلقا للغاية على ما سيكون لذلك التأجيل من أثر على موقف قواتنا فى متلا ، وقد تمثل رد فعله الفوري فى طلبه أن يتم سحب تلك القوات فى تلك الليلة نفسها"([10]) وقد تباطأ دايان فى تنفيذ الأمر حتى تم التدخل الأنجلو- فرنسي.

غربت شمس يوم 31أكتوبر والقوات الجوية المصرية مازالت محتفظة بكفاءتها وتؤثر بطلعاتها نهاراً وليلاً فى تقدم القوات الإسرائيلية ، لكن ، فى السابعة مساء الأربعاء

 

 

 

 

31أكتوبر بدأ الطيران الأنجلو- فرنسي فى قصف القواعد الجوية المصرية ، كانت الهجمات الأولى ضد قواعد ألماظة وأنشاص وأبو صوير وكبريت ومطار القاهرة الدولي ، واستمر الهجوم على ثلاث موجات متلاحقة مع إلقاء قنابل زمنية ، وفى صباح 1 نوفمبر استكمل الطيران الأنجلو - فرنسي تدمير قواعد ومطارات القناة والدلتا، واستمر الهجوم طوال يومي 2،3 نوفمبر وبذلك خرجت القوات الجوية المصرية من المعركة.

ثبت للرئيس جمال عبد الناصر بعد الغارات الإنجليزية والفرنسية التواطؤ مع إسرائيل، فأمر بإيقاف أي تحرك للقوات المصرية إلى سيناء. وبسحب القوات الموجودة حالياً فى سيناء إلى غرب القناة. كما أمر بتوزيع الأسلحة على المدنيين والمتطوعين فى منطقة القناة والاستعداد لخوض حرب عصابات فى حالة هزيمة قوات الجيش النظامية.

وبدءاً من يوم 1 نوفمبر أصبحت القوات المسلحة المصرية فى سيناء هدفاً مكشوفاً للطيران الإسرائيلي الذي قدم المعاونة الكاملة لقواته البرية ، ورغم الظروف الغير طبيعية التي أحاطت بتلك القوات فى سيناء إلا أنها استطاعت الانسحاب وإنقاذ جزء كبير من الأفراد بعد أن أدوا واجبهم على أكمل وجه بفضل الروح القتالية العالية التي كان عليها المقاتل المصري ، وسنضرب مثال واحد يؤكد هذا القول ألا وهو معركة أبو عجيلة. فقد استطاع هذا الموقع بقوة لواء مشاة مدعم بسرية دبابات أن يصمد أمام هجمات إسرائيلية متكررة 6 مرات وبقوات إسرائيلية بلغت 4 لواء مشاة ومدرعات  لمدة 84 ساعة ، ولم يسقط الموقع بل انسحبت القوات المصرية ودخلته القوات الإسرائيلية فوجدته خالياً من أي قوات ، ويتحدث عن هذا موشى دايان فى كتابه "وبعد أن فشل اللواء العاشر قام قائد المنطقة الجنوبية بتغيير قائد اللواء وقد أيدته فى ذلك ، ودون أن أدخل فى تفاصيل المصائب التي حدثت ليلة قيام اللواء العاشر بالهجوم على "أم قطف" - هي نفسها أبو عجيلة - فلم يكن سوء التوجيه أو الافتقار  إلى المهارة أو عدم القدرة على السيطرة والتحكم أو الأخطاء التكتيكية هو الذي أدى  إلى الفشل، ولكن اعتقد أن الخطأ الأكثر فداحة من وجهة النظر العسكرية ذلك أن تلك الوحدة لم تبذل الجهد المطلوب فى قتال مؤثر. وقد تمكنا فعلاً من معرفة المميزات القتالية التي يتمتع بها الجنود المصريون كما تمكنا معرفة مفهومهم للحرب. فقد كانوابوجه عام يبلون بلاء حسنا خلال المرحلة الثانية للقتال. كانوا يقاتلون بصورة فعالة ومؤثرة عندما يتحصنون داخل خنادقهم غير أنهم كانوا يتحولون إلى جنود تعوزهم الحنكة والمهارة عندما تجبرهم على الخروج من خنادقهم"([11]).

وفى 2 نوفمبر توجه الرئيس جمال عبد الناصر إلى الجامع الأزهر وألقى خطابه الشهير الذي أعلن فيه مقاومة العدوان، وكان لهذا الخطاب أثر كبير فى التفاف الشعب حول قائده وحول قواته المسلحة ، وفى ظل السيادة الجوية الكاملة فوق مصر التي كانت تتمتع بها القوات الجوية الإنجليزية والفرنسية، بدأ إسقاط المظليين فوق بورسعيد يوم 5 نوفمبر، تم إسقاط ست موجات من المظليين فى مناطق مطار الجميل، الجبانات، الرسوة، وبور فؤاد. وقد حاول الدفاع الشعبي من المدنيين وقوات الحرس الوطني والجيش مقاومة هذا الإسقاط لكن كان هذا فوق طاقتهم فاستطاعت القوات التي تم إسقاطها من الاستيلاء على موطئ قدم رغم تكبدهم خسائر كبيرة فى الجميل وبورفؤاد والرسوة ثم تبعه إمداد وتعزيز بالإنزال البحري الذي تم فى 6 نوفمبر، وقد استخدمت قوات الغزو خدعة انطلت على قوات المقاومة الشعبية إذ رفعت الدبابات التي تم إنزالها من السفن الأعلام السوفيتية، فظن أفراد المقاومة أنها دبابات صديقة جاءت لصد العدوان معها.

وفى 7 نوفمبر تم استكمال الإنزال البحري وتمت السيطرة الكاملة على مدينة بورسعيد وبورفؤاد. وتم التجهيز والتحضير للتقدم جنوباً نحو الإسماعيلية ، لكن توقف التحرك الأنجلو فرنسي يوم 8 نوفمبر بعد صدور قرار مجلس الأمن بوقف إطلاق النار،  إضافة إلى عوامل أخرى أجبرت الحكومة البريطانية والحكومة الفرنسية على التوقف وهي :-

 

1-        كان الموقف الأمريكي واضحاً من أول لحظة أنه ضد هذا العدوان الثلاثي على مصر فمنذ 30 أكتوبر فى جلسة مجلس الأمن طلب المندوب الأمريكي من  المجلس إصدار قرار بوقف إطلاق النار وانسحاب إسرائيل إلى خط الحدود الدولية. ثم توالت تصريحات المسئولين الأمريكيين برفض الموقف الأنجلو-فرنسي. وأعلن إيزنهاور الرئيس الأمريكي غضبه لأنه كان يبغي إزاحة النفوذ الأنجلو- فرنسي من المنطقة تمهيداً لدخول وسيطرة النفوذ الأمريكي بدلاً منها. كما وأن عودة إنجلترا وفرنسا كان سيؤدي إلى زيادة النفوذ السوفيتي فى المنطقة وهو ما لا ترضاه أمريكا.

2-        تحرك الاتحاد السوفيتي بصورة مسرحية تبعاً لخططه وأهدافه ففي 8 نوفمبر أي بعد بدء الحرب بعشرة أيام واستقرار إنجلترا وفرنسا فى بورسعيد أعلن عن إنذاره الشهير لدول العدوان الثلاثة مهدداً إياهم بقصف بلادهم بالصواريخ ما لم يتوقف الهجوم على مصر. وربما يكون لهذا الإنذار بعض الأثر لكنه جاء متأخراً عن عمد. فالمطلوب أن تنهزم مصر فيزداد احتياجها إلى الاتحاد السوفيتي. فيزداد النفوذ السوفيتي على مصر.

3-        شكل الرأي العام العالمي ضغطاً كبيراً على كل من إنجلترا وفرنسا بالمظاهرات وفى الأمم المتحدة ونسف أنابيب البترول فى سوريا ووقف شحن البترول من السعودية إلى كل من إنجلترا وفرنسا.

ولم تركن مصر إلى قرار مجلس الأمن الذي أوقف القتال بل دفعت بالمتطوعين وقوات المقاومة إلى بورسعيد وبدأت أعمال المقاومة المسلحة منذ 14 نوفمبر وحتى الجلاء الذي تم فى 23 ديسمبر 1956. لكن بقيت إسرائيل فى سيناء تراوغ فى الانسحاب وتنفيذ قرار مجلس الأمن حتى أجبرتها الولايات المتحدة على الانسحاب من سيناء فى مارس 1957. وبهذا يكون العدوان الثلاثي انتهى تماماً ولم يحقق أياً من أهدافه ،

حرب 1956 دراسة وتحليل :

كان للعدوان الثلاثي نتائج سياسية وعسكرية هامة سنعرض لأهمها ثم نتوقف أمام أبرز الأحداث التي وقعت أثناء الحرب وتأثيرها على ما هو قادم فى المستقبل.

1-        لما كانت الحرب هي صراع لتحطيم وتدمير القوة ثم فرض الإرادة على الطرف المهزوم فإن الدول الثلاث إنجلترا وفرنسا وإسرائيل قد فشلوا فى تحقيق الهدف النهائي للحرب، رغم نجاحهم فى تحطيم وتدمير القوات المسلحة المصرية خاصة قواتها الجوية.

فعلى الصعيد السياسي فقد حققت مصر انتصاراً مدوياً على قوى العدوان بعد أن تم انسحابها بالكامل ، ولم يتحقق أي مكسب لقوى العدوان سوى لإسرائيل التي نجحت فى الحصول على حق المرور فى خليج العقبة وكذا فى وضع قوات طوارئ دولية على الحدود بين مصر وإسرائيل ، وكان هذا المكسب البسيط فى وسط مشهد الانتصار المصري الكبير هو "كعب اخيلس" الذي بدأت منه حرب يونيو1967.

2-        فى الحروب على مدار التاريخ دائماً لابد من طرف منتصر وآخر مهزوم ،  لكن فى عدوان 1956 كان الموقف المصري والإسرائيلي متداخلاً ومحيراً ، فالقوات المسلحة المصرية اندفعت لقتال القوات الإسرائيلية فى سيناء طوال يومي 30،31 أكتوبر ثم لما وضحت أبعاد المؤامرة الثلاثية صدر لها أمر الانسحاب مساء يوم 31 أكتوبر، وعلى مستوى المعارك التي دارت خلال هذين اليومين فى رفح وممر متلا وموقع أبو عجيلة فقد حققت القوات المصرية صموداً وتفوقاً فى الدفاع. لكن الخسائر فى القوات المصرية ارتفعت فى أثناء الانسحاب ولأنها كانت مكشوفة للطيران الإسرائيلي.

كما وأن القوات الجوية المصرية استطاعت طوال نهار 30 أكتوبر وليل 30/31 ثم نهار 31 أكتوبر أن تكبد القوات الإسرائيلية خسائر ملموسة ومؤثرة. لكن الهجوم الجوي الأنجلو-فرنسي على القواعد والمطارات المصرية أخرج القوات الجوية المصرية من المعركة وأصبحت السيادة الجوية فوق سيناء للطيران الإسرائيلي. لكن  من أعطى إسرائيل هذه السيادة الجوية قوات جوية أخرى. وعلى هذا لا يمكن القول بأن الطيران الإسرائيلي حصل على السيادة الجوية بعد أن هزم الطيران المصري.

3-        كان الموقف السوري والأردني غريباً فى هذا العدوان ، ففي هذا الوقت كانت الدولتان حليفتان لمصر، رغم ارتباط النظام الأردني بإنجلترا بعلاقات خاصة. لكن الغريب أن يقفا موقف المتفرج أثناء الحرب ويتركا مصر تواجه بمفردها عدوان من ثلاث دول. اكتفاء بأعمال المظاهرات والتأييد الشعبي التي لا تؤتي ثمارها فى أعمال الحرب. علاوة على تفوقهم الجغرافي على إسرائيل بسبب طبيعة الحدود بينهما وبين إسرائيل.

ورغم النتائج السياسية والعسكرية التي عرضنا لها فقد كانت هناك أمور كثيرة على المستوى السياسي والعسكري يتحتم إبرازها وهي :-

1-        تصاعدت الأحداث السياسية التي بدأت بإعلان مصر تأميم قناة السويس فى السادس والعشرين من يوليو ، ورد الفعل البريطاني الفرنسي على هذا القرار، والمناقشات التي دارت فى الأمم المتحدة لمحاولة وضع قناة السويس تحت إشراف دولي ، وفشل المشروع نتيجة ضغط سوفيتي والدول الشيوعية التابعة له ، واستمرت تلك الأحداث والمناورات ثلاث شهور، ورغم هذا فقد فوجئت القيادة السياسية والعسكرية المصرية بالحرب لحظة وقوعها رغم أن إسرائيل كانت قد "اتخذت قرارها بالحرب فى أول أغسطس 1956 وكذا بريطانيا فى الثالث من أغسطس 1956"([12]).

2-        وضح من تسلسل الأحداث أن القرار السياسي المصري كان يتم اتخاذه دون مشاورة جادة مع المختصين وذوي الخبرة ، ومن ثم فهو ينطلق من الرئيس جمال عبد الناصر ثم بعد ذلك تتوالى تداعيات القرار فنبدأ فى مواجهة تلك التداعيات ، وما حدث فى عدوان 1956 أوضح مثال لذلك ، فقرار تأميم  القناة لم تتم دراسته وإنما اتخذه عبد الناصر رداً على القرار الأمريكي بسحب تمويل مشروع السد العالي ، واتخذه بعد 7 أيام فقط رداً على أمريكا وجون فوستر دالاس وزير خارجيتها لأنه شعر بأن القرار الأمريكي إهانة شخصية له ، قرار تأميم قناة السويس قرار وطني يعيد إلى مصر حقها المسلوب لا نقاش فى هذا، لكـن توقيـت القرار ومواجهة تداعياته وردود الفعل التي ستنجم عنه هذا هو ما نود إبرازه ، كان من الممكن أن تؤمم القناة بعد عام أو ستة شهور، تكون القوات المسلحة المصرية قد استوعبت الأسلحة السوفيتية وجهزت أفرادها ووحداتها للدخول فى حرب ، كان من الممكن أن يتم تجهيز المقاومة الشعبية خلال الثلاث شهور بين إعلان التأميم والعدوان الثلاثي حتى تصبح المقاومة الشعبية مؤثرة فى مجريات الأحداث. لكن هذا حدث بعد نزول قوات الغزو فى بورسعيد وقام به أفراد متطوعين لا يملكون سوى الحماس والروح القتالية من  أجل الوطن.

وكما ذكرنا من قبل فى حرب 1948 أن فى مصر يتخذ القرار السياسي دون مشورة العسكريين ثم يتحمل الأخطاء كلها العسكريين. ويتكرر هذا ثانيا فى 1956.

3-        وقع الرئيس جمال عبد الناصر فى فخ تصديق النفس حين قال بأنه بمرور الأيام تقل فرص الحرب وأصبح كل يوم يمر يزيده اطمئناناً ويبعد الحرب عن فكره ، ولا ندرى كيف فوجئ الرئيس عبد الناصر بالحرب رغم التحركات الإنجليزية الفرنسية الضخمة التي شملت أساطيل وطائرات وجنود بمئات الألوف، واتصالات واجتماعات بين مسئولي الدول الثلاث ألم ينتبه أحد من المسئولين المصريين لكل هذه الشواهد الواضحة ، ألم تلفت هذه الشواهد نظر السفراء والدبلوماسيين المصرييـن فى الخارج ، أين كان الملحقين العسكريين المصريين فى دول الخارج، أين كانت أجهزة المخابرات والمعلومات فى مصر. لم يتقدم أحد من  كل هؤلاء المسئولين بأي معلومة أو تقرير تشير إلى قرب وقوع الحرب. وقد تطابق هذا الصمت من المسئولين مع فكر الرئيس فصدق بأن الحرب بعيدة الاحتمال وفوجئ لحظة وقوعها.

4-        وصلـت طائـرات إسقاط المظليين وعددها 16 طائرة داكوتا فى حماية حوالي 16طائرة مقاتلة إسرائيلية وقامت بعملية الإسقاط دون أن تكتشف رادارياً رغم أنها دخلت عبر سيناء وحتى مسافة 60 كيلو متر تقريباً من القناة ، وبالرغم أن ارتفاع الطيران 150 متر ثم ارتفعت فى منطقة الإسقاط إلى أعلى من 500متر، وبهذا الموقف المتردي فى الكشف الراداري والإنذار كان طبيعياً أن تكون الطائرات المصرية رابضة على الأرض والطيران الإسرائيلي يعمل بحرية تامة لمدة 25-30 دقيقة فوق الأراضي المصرية ،

بل ويتم الإبلاغ عن الغزو الإسرائيلي بواسطة عناصر من القوات البرية المصرية بعد أن شاهدت المظليين الإسرائيليين على الأرض شرق ممر متلا.

5-        رغم أن القوات الجوية المصرية قد أتيح لها العمل طوال يوم 30 - ليلة 30/31 يوم 31 أكتوبر إلا أنها قامت بهجمات متفرقة وليست تنفيذاً لخطة محددة سلفاً، ورغم أنها حققت خسائر ملموسة فى القوات الإسرائيلية إلا أنها لم تحقق نتيجة حاسمة ضد القوات الإسرائيلية، لأنه لم يكن هناك خطة مسبقة وأهداف محددة يتم مهاجمتها عند نشوب الحرب. فمثلاً لم يبادر الطيران المصري بمهاجمة مطارات إسرائيلية أو بالهجوم بتشكيلات كبيرة مما يظهر أن مبادئ الحرب من حشد  وتركيز ومبادأة لم يكن واضحاً فى ذهن القيادات المصرية.

وعلى الجانب الإسرائيلي كان هناك العديد من الدروس والمواقف السياسية والعسكرية كان أهمها :

1-        كان القصور فى المعلومات عند الجانب الإسرائيلي عن القوات المسلحة المصرية وخاصة القوات الجوية دافعاً إلى التهويل والمبالغة فى حجم الطيران المصري. مما دفعهم إلى اللجوء إلى القوى الكبرى والنص فى اتفاقية سيفر على تدمير الطيران المصري على الأرض وحماية المدن الإسرائيلية من هجمات الطائرات المصرية.

2-        نتيجة للاتفاق بين الدول الثلاث القائمة بالعدوان بدأت المرحلة الافتتاحية للحرب بعملية إسقاط مظلي ، وقد أتاح هذا التخطيط لمصر فرصة يومين كاملين للعمل بحرية مما كبد القوات الإسرائيلية خسائر ملموسة.

بعد حرب 1956 كان الدرس الاستراتيجي الأكبر الذي كان شديد الوضوح أمام مصر هو أن على الحدود الشرقية المصرية قوة لا يستهان بها ستعمل على حماية وتنفيذ مطامع أي قوى غربية أجنبية فى منطقة الشرق الأوسط. فإسرائيل دولة قامت على  أنها ستتوسع وسيكون التوسع على حساب الغير. وقد قالها بن جوريون بعد انتهاء  حرب 1956 فى الكنيست "قواتنا لم تطأ أرض مصر ولم يكن هذا فى حسابها ، لقد كانت عملياتنا الحربية قاصرة على شبه جزيرة سيناء وحدها"([13]) وهذا القول يوضح نظرة إسرائيل إلى سيناء ، كما وأن القوة التي تهدد حدود مصر الشرقية لابد وأنها ستقاتل مصر وقواتها المسلحة لأنها المناوئ الأول فى تحقيق مصالح الغرب فى المنطقة ،

لذا كان على مصر أن تعي بأن دورها فى المنطقة يحتم أن تكون دولة قوية لها قوات مسلحة قادرة على التصدي للتهديد الإسرائيلي، وعلى رأس هذه القوات المسلحة قوات جوية ذات كفاءة عالية قادرة على حماية القوات المسلحة المصرية التي ستقاتل فى مسرح العمليات المكشوف فى سيناء ،

وعلى الجانب الإسرائيلي كان الدرس الاستراتيجي الأكبر الذي وضح للإسرائيليين  تماماً أن الاستعانة بقوى خارجية بهذه الطريقة السافرة مثلما حدث مع إنجلترا وفرنسا سيكلفها الكثير ويحرمها من ثمار أي نجاح ممكن أن تحققه ، لذا أصبح على إسرائيل أن تبحث عن حليف قوى، وبالعمل السياسي والإعلامي الدءوب مع هذا الحليف، يتم تمهيد الأرض واستغلال اللحظة المناسبة لتحقيق أهداف هذا الحليف فى الظاهر وفى نفس الوقت تحقق إسرائيل أطماعها فى التوسع.

وفى عام 1957 تمت مناقشة حرب 1956 فى الكنيست الإسرائيلي لبحث أسباب فشلها ووقف موشى دايان مدافعاً عن الجيش الإسرائيلي وأنه حقق نجاح واضح وأن الفشل كان سياسياً، لأن الموقف العالمي لم يسمح بتواطؤ ثلاث دول ضد مصر إضافة إلى رفض أمريكا وروسيا لهذا الغزو. ولهذا انسحبت إسرائيل من سيناء وغزة ،

وقد أضاف بن جوريون أيضاً أن "إسرائيل لم تنتصر بالصدفة ، والفضل للإجراءات الخاصة التي اتخذت لحماية سماء إسرائيل من الطيران المصري"([14]).

ومن هذا التحليل تقرر الاستغناء عن أي قوات جوية خارجية تهاجم لصالح إسرائيل، وأن على إسرائيل أن يكون لديها قوات جوية قادرة على تدمير الطيران المصري على الأرض وحماية سماء إسرائيل من أي هجمات جوية مصرية.

بين حربين (1957 - 14 مايو 1967) :

لم يكن أمام الأركان العامة الإسرائيلية - وقد استوعبت الدروس جيداً - من سبيل إلا أن تضع نصب عينيها هدفاً أساسياً ، هو خلق قوات مسلحة حديثة ومتطورة تتركز قوتها الضاربة أساساً فى القوات الجوية والمدرعات حتى يمكنها تنفيذ المطالب الملقاة على عاتقها من الدفاع عن دولة إسرائيل والهجوم على الدول العربية المحيطة للحصول على نصر حاسم ، على أن يتم هذا البناء فى ظل مبدأ أساسي وعقيدة ثابتة.

(العمل الهجومي ونقل المعركة خارج الحدود الإسرائيلية بعيداً عن  مناطق السكان والأهداف الحيوية).

وعلى هذا تم استبدال موشى ديان رئيس الأركان العامة وتولى حاييم لاسكوف المسئولية وعلى الفور قام بإعداد برنامج شديد الطموح أسماه "برنامج الردع" ووضع تفاصيل تنفيذه بهدف إعادة تشكيل ودعم وتدريب الجيش الإسرائيلي ، وكانت أهم نقاط هذا البرنامج :-

-            تدريب القوات على استخدام الأسلحة والمعدات الحديثة وتمكينها من الحركة السريعة.

-            زيادة التنسيق بين الأسلحة المختلفة حيث أن النصر لا يمكن تحقيقه إلا بالتنسيق الجيد بين أفرع وأسلحة القوات المسلحة.

-            التأكد من أن القوات الإسرائيلية قادرة على الاشتراك فى العمليات بكامل قواها بمجرد الهجوم على إسرائيل.

-            إنشاء نظام عسكري قوى بواسطة الإمكانيات المحدودة للدولة مع وضع نظام  صارم خاص بالتعبئه والتركيز على :-

(1)   بناء قوة جوية كبيرة من الطائرات القاذفة المقاتلة.

(2)   إنشاء قوة ضاربة مدرعة ميكانيكية وسلاح متخصص للمهندسين.

(3)   إنشاء قوة اقتحام جوي رأسي وجنود جو ذو كفاءة عالية(1).

القوات الجوية الإسرائيلية :

وعلى هذا نالت القوات الجوية الإسرائيلية الأسبقية الأولى فى برنامج لاسكوف وبالتحديد قوات جوية تعتمد على المقاتلات القاذفة ، ولم توضع هذه الأسبقية من فراغ وإنما كان عن تفهم لدور القوات الجوية وأثره الواضح فى حروب المنطقة ،

ولتنفيذ المهمة الرئيسية للقوات المسلحة الإسرائيلية وهي العمل الهجومي ونقل المعركة إلى أرض العدو ، ونتيجة للتقييم الصحيح للمرحلة الأولى فى العمليات الخاطفة فقد ألقي على عاتق القوات الجوية الإسرائيلية الحصول على السيطرة الجوية عند بداية المعركة حتى تتفرغ بالجزء الأكبر منها لدعم عمليات الوحدات البرية حتى تضمن النجاح السريع للعمليات البرية فى وقت قصير.

وكان القادة الإسرائيليين على مستوى الدولة وعلى اختلاف تخصصاتهم  مقتنعين تماماً بذلك الأسلوب فى الحرب لدرجة لا يرقى إليها الشك وقد أوضح ذلك "شيمون بيريز وزير الدفاع الإسرائيلي وقتئذ حين قال عام 1962. إن المبدأ الرئيسي الذي يشغل أذهاننا وتفكيرنا حول إسرائيل هو تدعيم القوات الجوية ، فإن الجانب الذي سيفاجئ خصمه من الجو سوف يفوز بتفوق حاسم يحدد فى الواقع مصير الحرب من البداية. إن المعركة الفاصلة ستتحقق بالطائرات فى الجو وبالمدرعات على الأرض"(1) وبتأمل هذا التصريح الذي أدلى به نائب وزير الدفاع الإسرائيلي نرى خطة واضحة تماماً لما جرى بعد 5 سنوات فى حرب يونيو لكن أحداً لم يلتفت لهذه الكلمات الهامة.

وبنظرة مكثفة على القوات الجوية الإسرائيلية فى هذه الفترة والتي تحددت مهامها فى:-

-            توفير الحماية فوق سماء إسرائيل.

-            الحصول على السيطرة الجوية فوق مسرح العمليات.

-            دعم ومعاونة القوات البرية والبحرية.

نجد أن أولى بنود التطوير الذي بدأ على يد تلكوفسكى قائد القوات الجوية فى ذلك الوقت كان هو الطائرة ، فمن دراسة ما دار فى حرب 1956 وضح محدودية دور القاذفات فى الحصول على السيطرة الجوية لذا استقر الرأي على أن القوة الرئيسية للطيران الإسرائيلي تقوم على طائرات متعددة المهام من مقاتلات ومقاتلات قاذفة.

وجاء عايزرا وايزمان قائداً للقوات الجوية الإسرائيلية من عام 1958 وحتى 1966 وقد استطاع خلال هذه الفترة تشكيل قوات جوية مكنت دولة إسرائيل من تحقيق انتصارات سياسية وعسكرية على الدول العربية لم تكن تحلم بها إطلاقاً يعود الفضل فيها أساساً إلى أنها دولة تمتلك قوات جوية قادرة على حسم المعارك فى وقت قصير.

وكان أمام وايزمان العديد من الطائرات من إنجلترا أو فرنسا أو الولايات المتحدة لكن الهدف أمامه كان واضحاً. وكانت مواصفات الطائرة المطلوبة محددة فى:-

-            طائرة ذات مدى عمل كبير يمكنها الوصول إلى عمق مصر.

-            طائرة لها قدرة عالية على حمل قنابل وصواريخ لإحداث أكبر تدمير بأقل عدد من الطائرات.

-            طائرة لها قدرة عالية فى المناورة حتى يمكنها التفوق فى الاشتباكات الجوية.

وقد وجد وايزمان كل تلك الشروط والمواصفات فى الطائرة الفرنسية ميراج  3-سى وهي التي كانت عامل الحسم فى ضربة يونيو 1967م.

وفى نفس الوقت وضعت الخطة لإعداد الطيارين بأعداد كبيرة تكفل استخدام الطائرات بأعلى معدل ممكن ، واعتماداً على نظام الاحتياط نجحت إسرائيل قبل الحرب فى الوصول بأعداد الطيارين إلى ضعف عدد الطائرات ، ولتوضيح هذه النقطة للقارئ فإن الطائرة يمكنها أن تقوم فى الحرب بعمل عشرة طلعات فى اليوم أما الطيار فله قدرة لا تزيد عن 3-4 طلعة فى اليوم فقط ، وعلى هذا فمضاعفة عدد الطيارين الإسرائيليين بالنسبة لعدد الطائرات يجعلها قادرة على تنفيذ عدد مضاعف من الهجمات.

وكان تدريب الطيارين يتم على أسس واقعية وعلى نمط الخطة التي سيتم تنفيذها فى الحرب ، فتم إنشاء مطارات ومواقع هيكلية فى صحراء النقب مشابهة تماماً لما سيتم مهاجمته من مطارات ومواقع مصرية.

ولم يغفل وايزمان عن تدريب الأطقم الفنية فأولوها عناية كبيرة فكان لها دور فعال فى إعادة التموين والتسليح للطائرة مما جعل الفاصل الزمني بين الغارة والأخرى زمناً قياسياً.

كان الهدف واضحاً تماماً أمام وايزمان مثل كل القادة والمسئولين الإسرائيليين فأنكب على وضع خطة العمليات المقبلة لتحقيق السيطرة الجوية وتدمير الطيران المصري من الساعات الأولى للمعركة حتى أنه صرح فى عام 1963 "فى حالة الحرب مع العرب، فإن أفضل أساليب الدفاع هو تجنب العمليات فوق أرض إسرائيل والعمل على تهديد دمشق واحتلال الضفة الغربية والاندفاع نحو قناة السويس. فلو اكتفت إسرائيل بالدفاع عن تل أبيب، فسيكون ذلك انتحاراً جماعياً، إذ ليس أمامها أي عمل استراتيجي بري لذلك فإن العمل الاستراتيجي يجب أن يكون هو العمق الجوي. وهكذا حدد وايزمان فى عام 1963 الاستراتيجية الأساسية لجولة يونيو 1967 قبل بدء الحرب بأربع سنوات"(1) وكان هذا إنذار ثان مما سيحدث فى 1967 لكن كلمات وايزمان مرت كما مرت قبلها كلمات شيمون بيريز.

القوات الجوية المصرية :

على الجانب المصري خرجت القوات الجوية المصرية من عمليات حرب 1956 وقد فقدت معظم طائراتها، ووضح للقيادة المصرية مدى أهمية القوات الجوية فى سير العمليات - لكنها كانت أهمية مظهرية - وانطلاقاً من هذه الأهمية اندفعت القيادة  نحو الاتحاد السوفيتي لعقد صفقات جديدة من الطائرات شملت مقاتلات من طراز ميج15، ميج17 وقاذفات متوسطة طراز اليوشن28 والتي بدأت تصل تباعا إلى مصر خلال عام 1957م.

وبتطور الأحداث السياسية فى المنطقة فى نهاية الخمسينات وتحول نظام الحكم المصري إلى النظام الاشتراكي فى مطلع الستينات بدأت سياسة التسليح المصرية تتجه بكل ثقلها إلى الاتحاد السوفيتي ، وكان لهذا أثر كبير فى تغلغل العقيدة الشرقية فى تنظيم وإعادة بناء القوات الجوية المصرية ، حيث كان تدريب الطيارين يتم فى روسيا وتشيكوسلوفاكيا ، وكذا الدورات الدراسية العليا للضباط والقادة.

وانتهى الأمر إلى أن أصبح الاتحاد السوفيتي هو المصدر الرئيسي الوحيد للطائرات والمعدات الفنية وأجهزة الرادار، فسيطر الفكر السوفيتي على القوات الجوية المصرية تنظيماً وتدريباً وتخطيطاً ، حيث ساد الاعتقاد بأن الاتحاد السوفيتي وهو إحدى القوى العظمى هو الأقدر والأدرى وأن صانع الطائرة هو خير من يستخدمها بأفضل تكتيك ، وساعد على ذلك الانغلاق التام عن أي خبرات أخرى فى الغرب نتيجة للموقف السياسي المعادي للغرب فى هذا الوقت.

وكان من نتائج هذا التحول إلى الشرق دفعة كبيرة للقوات الجوية المصرية فى أول الأمر بوصول طائرات مقاتلة ميج19 وميج21 الأسرع من الصوت وكذا القاذفات الثقيلة طراز توبولوف16 وذلك مع بداية الستينيات. ثم أصبح الأمر قيداً على القوات الجوية المصرية نتيجة لتحكم الاتحاد السوفيتي فى أنواع الطائرات وأعدادها التي يسمح بإمدادها لمصر بالإضافة إلى قطع الغيار التي كانت تؤثر كثيراً فى كفاءة القوات  الجوية المصرية.                

وقد وضح ذلك بإمداد مصر فى بداية عام 1967 بطائرات السوخوى7 وهي مقاتلة قاذفة ذات تسليح ضعيف ، وكفاءة متوسطة، لكن مصر اضطرت لقبولها لعدم وجود بديل لها.

ولم ترفع هذه الطائرات من كفاءة القوات الجوية المصرية بالقدر المتوقع نتيجة :-

1-        سياسة التدريب الخاطئة التي لم تكن قائمة على أي تصور للعمليات المتوقعة أو المهام المنتظر تنفيذها من الطيارين ، فالتدريب كان يتم على ارتفاعات عالية ومتوسطة بطريقة غير واقعية، أما الارتفاعات المنخفضة فقد كانت ممنوعة تماماً وتعتبر مخالفة لأوامر الطيران، وإن كانت تتم أحياناً بمبادرة فردية من الطيارين أو قائد السرب.

2-        من الأمور الأساسية فى رفع الكفاءة القتالية للقوات الجوية أن يقوم الطيارين بالتدريب المنتظم على قذف القنابل وإطلاق الصواريخ والمدافع بصفة دورية. لكن الطيار المصري فى هذه الآونة كان بعيد تماماً عن هذا التدريب لفترات امتدت شهور وأحياناً لسنوات.

3-        ونظراً لأنه لم يكن هناك خطط تدريب واضحة فى التشكيلات والأسراب فإن مستوى التدريب لم يكن يتم لمستوى أكبر من رف (4 طائرة). إلا فى استعراض 23 يوليو من كل عام حيث كان الطيران يتم بمستوى السرب (12 طائرة). وعلى هذا كان التدريب يسير بجهود فردية وخبرات شخصية من الطيارين وليس على منهج واضح ومحدد.

4-        كانت الكفاءة الفنية للقوات الجوية طوال هذه الفترة دون المستوى لأسباب عديدة وهناك بعض الحوادث التي يمكن أن تلقى الضوء على الكفاءة الفنية للطائرات أهمها :-

-ما حدث فى أسراب الميج19 المقاتلة من حوادث اشتعال الطائرة أثناء إدارة المحرك على الأرض وقد تكرر هذا أكثر من مرة وتوقف الطيران على هذا الطراز ثلاث شهور حتى تم اكتشاف السبب الفني.

- تكرر عطل أجهزة القيادة والتحكم فى طائرات الميج21 المقاتلة مما كان يجبر الطيار على القفز بالمظلة ، وبعد أن تكرر ذلك أيضاً أمر قائد القوات الجوية بإيقاف الطيران على هذا الطراز حتى تم علاج العطل الفني

ولعبت حرب اليمن التي استمرت زهاء خمس سنوات دوراً بارزاً وملموساً فى هبوط كفاءة القوات الجوية المصرية. فبمجرد اندلاع الثورة اليمنية فى 26 سبتمبر 1962 ودعم مصر السياسي لها منذ اللحظات الأولى تم إرسال سرب من طائرات تدريب الكلية الجوية طراز ياك 11 وهي طائرة مروحية تستخدم فى تدريب الطلبة قبل تخرجهم للعمل كضباط طيارين. تم تجهيزها بمدفع عيار 12.7مم وتركيب 2 حمالة صواريخ بالأجنحة تحملان 4 صواريخ صغيرة ، كان التصور أن تلك الطائرة كافية لتدعيم الثورة وتأمينها من ثورة وتمرد القبائل الغير موالية. لكن الوضع تفاقم وتوالى إرسال الطائرات إلى اليمن حتى بلغ بعد عدة شهور سرب مقاتلات طراز ياك11 - سرب مقاتلات طراز ميج17 - سرب قاذفات طراز اليوشن28 - سرب نقل جوي طراز اليوشن14 - سرب هليكوبتر طراز مى4. بل وتطور الأمر فى عام 1967 إلى إرسال سرب مقاتلات طراز ميج19 كما وقامت الطائرات القاذفة التوبولوف16 بقذف القنابل على اليمن منطلقة من قاعدة غرب القاهرة وهي رحلة كانت تستغرق حوالي ست ساعات ،

وفى غياب وسائل الدفاع الجوي المعادي تماماً كان يمكن أن تتم أعمال القوات الجوية المصرية فى مسرح عمليات اليمن دون خسائر تذكر وكأنها تدريب أو مناورة. لكن لضعف كفاءة التدريب وضعف الحالة الفنية وضعف التخطيط خسرت مصر العديد من الطائرات واستشهد عدد غير قليل من الطيارين، إما بواسطة حوادث للطائرات أو بالإصابة المباشرة من بعض الأسلحة الصغيرة مع اليمنيين.

ولم يقتصر الأمر على خسائر الطائرات والطيارين بل لعبت القيادة العسكرية المصرية فى أثناء حرب اليمن دوراً هاماً فى طمس الروح الجماعية فى العمل، التي هي عصب أساسي فى أي قوات جوية. حيث تمت ترقية بعض الطيارين استثنائياً ومنحت بعض الامتيازات لهم وكان المعيار الأساسي لهذه الترقيات والامتيازات بعيداً عن الكفاءة والجهد المبذول فى الميدان.

كما كان لحرب اليمن أثر واضح على الاقتصاد المصري انعكس بدوره على القوات الجوية فتأثرت به بصورة ملموسة وكان أوضح تلك الصور انخفاض عدد ساعات الطيران المحددة للتدريب ،

فالطيـار المدرب ذو الكفاءة الجيدة والمكلف بواجب الاشتراك فى العمليات يجب أن ينفذ برنامج تدريب شهري يشمل أنواع معينة من التدريب بعدد ساعات يتراوح  بين 14-22 ساعة شهرياً ، لكن الطيار المصري فى هذه الآونة كان يطير بمعدل 6-10 ساعة شهرياً فقط.

أما الطائرات والتي يجب أن تكون على الأرض داخل ملاجئ تحميها من القصف الجوي المعادي فقد ظلت رابضة فى العراء فكانت هدفاً سهلاً للطائرات الإسرائيلية صباح الخامس من يونيو.

وكانت القوات الجوية المصرية قد تقدمت بطلب اعتماد ميزانية لإنشاء دشم بالمطارات شفوياً من الفريق محمد صدقي محمود قائد القوات الجوية لكن الرئيس  جمال عبدالناصر رد قائلاً "أجيب قمح يا صدقي والا أبني دشم للطائرات"(1) ، وتم تقديم الطلب كتابة لإدراجه فى الميزانية المطلوبة لكن "لم يتصدق على الطلب تمشياً مع سياسة ضغط المصروفات والإنفاق على القوات المسلحة"(2).

العوامل السياسية والدولية 57 - 1967 :

انتهى العدوان الثلاثي على مصر وغادرت قوى العدوان بنهاية عام 1956 ، وأصبحت مصر نتيجة فشل العدوان رمزاً قوياً للمنطقة العربية ومثلاً يحتذي به فى نجاح المواجهة وإدارة الأزمة من قبل الحكومة المصرية بقيادة جمال عبد الناصر ، وإن كان هذا النجاح قد شارك فى تحقيقه عوامل دولية لا يخطئها أي محايد ، فالولايات المتحدة الأمريكية لم تكن تقبل أن تقع المنطقة مرة أخرى فى يد النفوذ  الأنجلو فرنسي واعتبرت أن ذلك مضاد لمصالحها فضغطت بشدة لإفشال العدوان ، على الجانب الآخر كان الاتحاد السوفيتي لا يقبل بدور المتفرج فى تلك الأزمة العالمية فبعث بالإنذار الروسي الشهير لدول العدوان مهدداً بالتدخل المباشر. وإن كان الإنذار  قد تم إصداره بعد سبعة أيام من بدء الحرب إلا أن تأثيره كان فاعلاً فى مجريات تلك الحرب.

وغرقت مصر قيادة وشعباً فى نشوة النصر الذي كان غائباً عنها لسنوات طويلة، فاهتزت ملامح الصورة الحقيقية وتوهمت بأن النصر قد تحقق بفضل نجاح القيادة فقط فى إدارة الأزمة وعميت عن تحليل ما دار وما وقعت فيه من أخطاء ، وساعدت الأحداث المتلاحقة بعد ذلك على ترسيخ هذا الشعور.

فقد نجحت مصر فى إفشال مشروع ايزنهاور عام 1957 بعد مقاومة كبيرة له، ثم فى فبراير عام 1958 تم إعلان دولة الوحدة بين مصر وسوريا ، وفى  العام نفسه فى 14 يوليو قامت ثورة عراقية أطاحت بالنظام الملكي وانسحبت العراق من حلف بغداد ووضح توجه قادة الثورة العراقية إلى الاتحاد السوفيتي ،

وحدثت فى صيف 1958 أحداث شغب فى لبنان أدت إلى طلب الرئيس اللبناني من الولايات المتحدة التدخل وبالفعل نزلت قوات أمريكية على شواطئ لبنان مما كان يعطى مؤشراً بوجود عسكري صريح للولايات المتحدة فى المنطقة. وتكرر ذلك في الأردن بواسطة القوات البريطانية التي وصلت إلى الأردن لدعم نظام الملك حسين.  وانتهت تلك الفترة الساخنة فى أكتوبر 1958 بانسحاب القوات الأمريكية من لبنان والبريطانية من الأردن بعد المقاومة السياسية العنيفة التي قامت بها مصر ضد النفوذ الغربي.

وقفت الولايات المتحدة حائرة أمام الضربات المتلاحقة التي تتلقاها فى المنطقة بتأثير النفوذ المصري. ثم كانت الضربة الكبرى حين أعلنت مصر اتخاذها الاشتراكية مذهباً اقتصادياً واجتماعياً ، وأصبحت مصر شوكة فى حلق الغرب ينظر إليها بقلق وترقب شديدين، ولم يهدأ هذا القلق قليلاً إلا بعد الانفصال بين مصر وسوريا عام 1961 ثم تورط مصر فى حرب اليمن عام 1962.

ولم تكن تلك الأحداث المتلاحقة بعيدة عن مخيلة حكومة إسرائيل التي تعي أن كل هذا يؤثر عليهاً مباشرةً. فكان من السهل أن تقنع أمريكا بأنها الحليف لها فى المنطقة القادر على المحافظة على المصالح الأمريكية "وقد ترجم الجنرال حاييم هيرتزوج هذا بلغة واضحة فى اللوحة التي رسمها فى كتاب النصر، لقد ادعى داوود الصغير أنه الوحيد القادر على هزيمة الشياطين وذلك أمام الغرب المذهول الذي لا يحير رداً"(1).

أثمرت الجهود السياسية الإسرائيلية فتغيرت السياسة الأمريكية فى المنطقة انحيازا نحو إسرائيل فى بداية الستينيات. ثم تدعم هذا عام 1964 بوصول ليندون جونسون رئيساً للولايات المتحدة وليفى اشكول رئيساً لوزراء إسرائيل.

"وكان جونسون معبأ ضد مصر منذ البداية، وفى الواقع منذ أزمة السويس حين اختلف مع ايزنهاور صراحة على موقفه من الأزمة وعلى الدور الذي قام به لإقناع إسرائيل بالانسحاب من سيناء وغزة فى الشهور الثلاثة الأولى من سنة 1957 ،  ولقد التقى جونسون عقب دخوله البيت الأبيض مع أراء الفريق الذي كان ينادي فى واشنطن بأنه لا فائدة من كل المحاولات التي تجرى للتفاهم مع جمال عبد الناصر وكانت أهم مواقع هذا الفريق فى وكالة المخابرات المركزية الأمريكية وفى الجناح الذي يرأسه جيمس انجلتون نائب رئيسها فى ذلك الوقت"(1).

تمت أول زيارة رسمية لاشكول إلى الولايات المتحدة فى مايو 1964 والتي تلخصت نتائجها فى حقيقتين هامتين :-

1-        "أن الولايات المتحدة سوف تقف خلف إسرائيل فى الدفاع عن نفسها وأنها لن تقف مكتوفة الأيدي إذا ما تعرضت للهجوم.

2-        أن الولايات المتحدة سوف تساعد إسرائيل فى الحصول على ما تحتاجه من الأسلحة وخاصة الدبابات وأنها سوف تزودها بها مباشرة إذا لم تتمكن من الحصول عليها من مصادر أخرى"(2).

وعم الفرح فى إسرائيل بسبب نتائج تلك الزيارة حيث كانت موافقة ضمنية لكي تواصل إسرائيل استعدادها لشن حرب مقبلة مع العرب ، وتحقق ذلك التأييد على الواقع منذ بداية عام 1965 حين انفجرت الأزمة بين ألمانيا الغربية ومصر بعد اكتشاف صفقة السلاح الألماني إلى إسرائيل "أوفد الرئيس جونسون - أفريل هاريمان كمبعوث شخصي إلى إسرائيل حيث أجرى مباحثات على مستوى عال، اتصفت بالسرية التامة، وقد دارت هذه المباحثات أساساً حول مسائل تسليح إسرائيل التي استغلت ظروف توقف ألمانيا الغربية عن إمدادها بالأسلحة وكذا إعلان الدول العربية عن إنشاء القيادة الموحدة لجيوش الدول العربية وانتهت هذه المفاوضات بالاتفاق على أن تقوم الولايات المتحدة بتزويد إسرائيل بما تبقى من صفقة الأسلحة الألمانية من دبابات وطائرات هليكوبتر ومدافع ذاتية الحركة. كما وافقت الولايات المتحدة مبدئياً على إمداد إسرائيل - لأول مرة - بطائرات أمريكية من المقاتلات النفاثة طراز "سكاى هوك" وتم توقيع اتفاقها النهائي فى مايو 1966"(1).

وتزداد العلاقة سوءاً بين مصر والولايات المتحدة بعد عدة أحداث متلاحقة. ففي نوفمبر 1964 قام طلبة الكونغو فى مصر بإحراق مكتبة الاستعلامات الأمريكية الموجودة بالسفارة الأمريكية بالقاهرة واتهمت أمريكا الأمن المصري بالتخاذل فى صد المتظاهرين.

وفى 19 ديسمبر 1964 قامت طائرة مقاتلة من القوات الجوية المصرية  بإسقاط طائرة صغيرة خاصة مجهولة قادمة من البحر قريبة من الإسكندرية وقتل قائدها، واتضح بعد التحقيق من هوية الطائرة أنها لصاحب شركة بترول أمريكي الجنسية وصديق شخصي للرئيس جونسون ،

وتواكب هذان الحادثان مع المفاوضات الجارية بين مصر وأمريكا بشأن مشتريات القمح لمصر، وحدث سوء فهم بين وزير التموين المصري والسفير الأمريكي وكان موعد اللقاء بينهما بعد حادث الطائرة المجهولة بيومان فقط. وتم نقل ما حدث إلى الرئيس جمال عبدالناصر وفى اليوم التالي 22 ديسمبر كان جمال عبد الناصر يخطب فى ذكرى تحرير بورسعيد وجاء فى خطابه "نحن لا نقبل ضغطا من أحد ولا تدخلاً، وأضاف ، أنني أقول هذا الكلام بمناسبة، فبالأمس ذهب السفير الأمريكي إلى مقابلة نائب رئيس الوزراء للتموين وكان مأموص وزعلان وقعد عنده دقيقتين، وكان المفروض أن يتكلموا عن التموين. المواد التموينية التي نجئ بها من أمريكا حسب قانون الحاصلات. وقال له والله لا أقدر أن أتكلم الآن فى الموضوع ، ليه ؟ لأن سلوكنا نحن هنا فى مصر لا يعجبهم. أنا أقول أن الذي لا يعجبه سلوكنا يشرب من البحر، والذي لا يكفيه البحر الأبيض يأخد البحر الأحمر يشربه كمان ، نحن لا نبيع استقلالنا من أجل 30 مليون جنيه قمح أو أربعين أو خمسين"(2).

دقت خلال عام 1966 وبداية عام 1967 أجراس إنذار عديدة عما يدبر فى المنطقة العربية وبخاصة مصر لكن أحداً لم يسمع تلك الأجراس وبخاصة القيادة السياسية والعسكرية فى مصر ، كانت هذه الفترة مليئة بالحملات الإعلامية على مصر فى الصحف والإذاعات الأجنبية والعربية تتهمها تارة بأنها أصبحت جزءاً من المعسكر الشيوعي ، وتارة بأنها تتخفى خلف قوات الطوارئ الدولية للهروب من مواجهة إسرائيل وممارسة دورها دفاعاً عن الأمة العربية والتي تعتبر أن جمال عبدالناصر هو زعيمها ،

كما حفلت تلك الفترة بوقائع جاسوسية مثل الألماني لوتز- تأكد فيما بعد أنه إسرائيلي - الذي قبض عليه فى القاهرة. وايلى كوهين الإسرائيلي الذي قبض عليه فى دمشق ، لكن كان أكثر العمليات إثارة ومدعاة للانتباه هو تخطيط أجهزة الدولة الإسرائيلية (حكومة - موساد - قوات جوية) للإيقاع بطيار عراقي يدعى منير روفا وإقناعه بالهرب بطائرته المقاتلة طراز ميج21 والهبوط بها فى إسرائيل ، وكان هذا مؤشراً واضحاً أن إسرائيل تدرس بعناية وتدرب طياريها على معرفة نقاط القوة والضعف فى الطائرة ميج21 أثناء القتال الجوي. وهي ذات الطائرة التي تمتلكها القوات الجوية المصرية والتي ستتصدى للطائرات الإسرائيلية فى الجو.

وفـى 20 يوليو 1966 التقـى جمال عبد الناصر بوزير خارجية باكستان السابق    ذو الفقار على بوتو وكان على دراية تامة بالسياسة الأمريكية واستمر اللقاء بينهما ساعة ونصف الساعة استعرض فيه بوتو السياسة الأمريكية وخططها على مستوى العالم وركز على أنهم يدبرون لإسقاط جمال عبد الناصر بقوله "أرجوك أن تعرف أنهم خارجون لاصطيادك يا سيدي"(1).

وفى أكتوبر 1966 التقى جمال عبد الناصر بالرئيس اليوغسلافي تيتو فى الهند وعلى هامش المؤتمر الثلاثي قال تيتو لعبد الناصر بأن إسرائيل واثقة بأنكم ستهاجمونها  وأنها تعمل على أن تسبق مصر فى توجيه الضربة لها. وفى اجتماع بين جولدمان وأشكول ورابين قال الأخير أنه "لا يشك فى صحة الوثيقة - وثيقة إنشاء جيش للقيادة العربية الموحدة - ولا يشك فى النوايا التي تتضمنها. والسؤال الوحيد الباقي أمامه هو متى ؟. أي أنها مسألة توقيت وإسرائيل لا يمكن أن تقبل توقيتاً عربياً يفرض عليها"(1).

وجاء يوجين بلاك رئيس البنك الدولي واجتمع بجمال عبد الناصر فى أول ديسمبر 1966 وأبلغ عبد الناصر بأن الرئيس الأمريكي جونسون ناقم على السياسة المصرية وتشعب الحديث إلى الأزمات بين مصر والولايات المتحدة وقد أنهاه يوجين بلاك بتعبير "إطلاق سراح كلاب الصيد لكي تطارد الفريسة" وعلق عبد النصر بأن إسرائيل فعلاً قد انطلقت للعمل سواء كان ذلك بتصريح من جونسون أو بغير تصريحه(2).

وكما كانت الأحداث السياسية متلاحقة فقد تسابقت معها الأحداث العسكرية على الأرض حتى تزيد المنطقة لهبا وسخونة ، ففي 14 يوليو 1966 دارت معركة جوية بين الطائرات الإسرائيلية والسورية وفقد فيها الطيران السوري عدد من طائراته ، وتجدد الاشتباك الجوي مرة أخرى فى 15 أغسطس ، وفى نفس الوقت شجعت الحكومة السورية منظمة التحرير الفلسطينية على القيام بعدة غارات على إسرائيل انطلاقاً من سوريا والأردن ولبنان. وسعت الحكومة السوريه برئاسة يوسف زعين إلى توقيع معاهدة دفاع مشترك بين مصر وسوريا فى أول نوفمبر 1966 ،

وجاء الرد الإسرائيلي على غارات الفدائيين بعدوان كبير على قرية السموع فى الأردن فى 13 نوفمبر 1966 وكان غريباً أن يكون الرد ضد الأردن وليس سوريا!،

ولكـن ما يقـف القارئ أمامه طويلاً هو ما ذكره السيد/ محمد حسنين هيكل فـى كتابـه الانفجـار صفحـة 369 "وفى الأيام الأخيرة من سنة 1966 كلف جمال عبدالناصر مجموعة عمل محدودة بإعداد تقرير وتصوير لخطوة سياسية يكون هدفها إنهاء وجود قوة الطوارئ الدولية على خطوط الهدنة بين مصر وإسرائيل، وبعد أيام كانت مجموعة العمل قد وضعت تصوراً يشمل عدة خطوات على النحو التالي".

وعلى التوازي من تصاعد الأحداث على الأرض بدأت حرب التصريحات فى التصاعد معها فقد أعلن رابين عقب المعركة الجوية فى أغسطس "لقد أعطينا لطيراننا حق الملاحقة والمطاردة"(1) ، وكانت هذه بداية الفخ الذي تم تجهيزه من قبل إسرائيل والدعم الكامل من الولايات المتحدة ، واندفعت سوريا إلى حرب التصريحات والتهديدات دون وعي لما خلف هذه التصريحات من تخطيط وتدبير.

وكان ترتيب إسرائيل جاهز ومخطط فقد اندفعت فى بداية عام 1967 بزيارات مكثفة لكل من أوروبا وأمريكا بهدف شرح الوضع المتوتر على الحدود الإسرائيلية السورية والتهديد الواقع على إسرائيل من سوريا شمالاً ومن مصر جنوباً بعد توقيع اتفاقية الدفاع المشترك بينهما. وجاء الدعم السياسي الأمريكي إلى إسرائيل بمشاورات جرت فى إسرائيل مع بعض المندوبين الرسميين للولايات المتحدة، فيما بين التاسع والثاني عشر من مارس 1967 التقى مساعد وزير الخارجية الأمريكي لشئون الشرق الأدنى وجنوب آسيا مستر لوشيوس باتل وكذلك مستشار الرئيس الأمريكي لشئون الشرق الأدنى مستر رولدماندرز ومندوبا وزارة الدفاع الأمريكية مستر ونسند ومستر هويس بالمسئولين الإسرائيليين فى تل أبيب والقدس ثم بنائب وزير الدفاع الإسرائيلي الدكتور/ زيفي دنيشتاين لدراسة حدود إسرائيل الراهنة مع الدول العربية بشكل عام وحالة التوتر السائدة على الحدود الإسرائيلية السورية على وجه الخصوص.

وفى 5 أبريل 1967 صرح ليفى اشكول رئيس وزراء إسرائيل فى الكنيست الإسرائيلي "إن إسرائيل قررت أن ترد بالطريقة التي تراها ملائمة على سوريا وأن الطريق إلى دمشق مفتوح"(2) ، وفى السابع من أبريل بعد يومان من تصريح ليفي اشكول انفجرت معركة جوية عنيفة وحلقت الطائرات الإسرائيلية فوق دمشق. ولما تصدت لها الطائرات المقاتلة السورية تمكنت الطائرات الإسرائيلية التي دبرت المعركة بإحكام أن تسقط ست طائرات مقاتلة سورية طراز ميج21 مقابل لا شيء للطائرات الإسرائيلية ،

وبهذه المعركة توترت الأجواء فى المنطقة بأكثر مما هي متوترة وبدأ الإعلام السوري عقب المعركة الجوية يهاجم مصر ويتهمها بأنها لم تنفذ اتفاقية الدفاع المشترك الموقعة بين مصر وسوريا ،

وعلى الفور أوفد الرئيس جمال عبد الناصر قائد القوات الجوية المصرية  الفريق أول محمد صدقي محمود إلى سوريا للقاء قائد القوات الجوية السورية وتقصى الحقائق عما يدور فى الجبهة السورية ودراسة أسباب تفوق الطيران الإسرائيلي على الطيران السوري فى المعارك التي دارت بينهما. وعاد الفريق أول صدقي محمود إلى القاهرة وقدم تقرير إلى المشير عبد الحكيم عامر يوم 12 أبريل "جاء فيه بالحرف ، إنه نقل إلى الأخوة فى سوريا أن الجمهورية العربية المتحدة تقف معهم ، ثم أورد ملاحظات قال فيهـا ، إنه أحس أن القيادة السورية تعيش فى جو تسوده عصبية شديدة، وأنه وجد لازما عليه تخفيف توتر أعصابهم الذي يؤدي إلى تصرفات تساعد على تأزيم الموقف"(1).

 

 


([1]) مركز الدراسات - الأهرام - العسكرية الصهيونية - ص184.

([2]) جاكسون - تاريخ القوات الإسرائيلية - ص92.

([3]) مركز الدراسات - الأهرام - العسكرية الصهيونية - ص204.

([4]) الفريق عبد المنعم واصل - الصراع العربي الإسرائيلي - ص77.

([5]) محمد صبيح - أيام وأيام 1882-1956 - ص498-5،.

([6]) د. عبد الوهاب المسيرى - الصهيونية والعنف - ص121.

([7]) ترفيور.ن. دوبوى - النصر المحير - ص186.

([8]) محمد حسنين هيكل - ملفات السويس - ص532.

([9]) جاكسون - تاريخ القوات الجوية الإسرائيلية - ص91.

([10]) موشى دايان - قصة حياتي - ص277.

([11]) موشى دايان - قصة حياتي - ص287.

([12]) تريفور.ن.دوبوى - النصر المحير - ص173.

([13]) أحمد بهاء الدين - وتحطمت الأسطورة عند الظهر - ص30.

([14]) المصدر السابق - ص30.

(1) مركز الدراسات بالأهرام - العسكرية الصهيونية - ص262.

(1) المصدر السابق - ص263.

(1) مركز الدراسات بالأهرام - العسكرية الصهيونية - ص265.

(1) حوار المؤلف مع الفريق أول محمد صدقي محمود - قائد القوات الجوية المصرية.

(2) أقوال الشهود فى القضية 938/67 جنايات عسكرية القاهرة.

(1) جاك كوبر - من حرب الأيام الستة إلى حرب الساعات الستة - ص125.

(1) محمد حسنين هيكل - الانفجار - ص114.

(2) مركز الدراسات بالأهرام - العسكرية الصهيونية - ص237.

(1) المصدر السابق - ص23.

(2) محمد حسنين هيكل - الانفجار - ص126.

(1) محمد حسنين هيكل - الانفجار - 305.

(1) المصدر السابق - ص315.

(2) المصدر السابق - ص361.

(1) جاك كوبر - من حرب الأيام الستة إلى حرب الساعات الستة - ص48.

(2) محمد حسنين هيكل - الانفجار - ص433.

(1) المصدر السابق - ص433.

 

Share
Click to listen highlighted text! Powered By GSpeech