Click to listen highlighted text! Powered By GSpeech
Get Adobe Flash player
مستمرين معاكم بإذن الله 2008-2024 **** #لان_لجيشنا_تاريخ_يستحق_أن_يروي **** ***** إنشروا تاريخنا وشاركونا في معركة الوعي **** تابعونا علي قناة اليوتيوب 1100+ فيديو حتي الان **** تابعونا علي صفحات التواصل الاجتماعي** أشتركوا معنا في رحلاتنا لمناطق حرب أكتوبر **** يرجي استخدام خانة البحث **** *** تابعونا علي تليجرام - انستجرام - تويتر

روايه وحش الجزيره - بقلم احمد زايد - الجزء الرابع

الغـــــــــــارة الاولــــــــــــــي

 

مضي  وقت طويل منذ ان دق انذار الامان ، وعادت قوات المشاه الي دشمها وملاجئها تحت الارض بينما ظل رجال الدفاع الجوي في مواقعهم ، مع مرور كل دقيقه كان خيري يزداد توتر فعقله يريد ان يشتبك وعينيه تبحث عن هؤلاء الكلاب الطائرة .

فأين هم ولماذا تأخروا ؟ الم يقل عبد الحميد منذ قليل ان موعد غاراتهم يبدأ عاده في العاشرة صباحا وها هي الساعه قد تجاوزت الحاديه عشر بقليل ولم يرصد طائرة واحده ؟

احس بالخذر في ذراعه ، فقد كانت اطراف اصابعه تطبق علي مقود التوجيه والتنشين بقوة ، ربما من فرط التوتر او التحفز الزائد .

لم يحس مثل ما احس به طاقم مدفعه من راحه وخمول والاستمتاع بشمس الربيع الدافئه ، بل كان متعجلا  مشاهده طائرات العدو تطبق علي الجزيرة، اطلق بصرة تجاه ارجاء الجزيرة راصدا ملامح الحياه عليها في انتظار الموت الطائر .

كان اول ما وقع بصرة عليه عددا من جنودا من المشاه يرتشفون الشاي في استمتاع ويدور بينهم حوار هادئ يتخلله عدد من الضحكات العاليه والتي تخرج من قلب منتظر الموت ويريد ان يمتص من الدنيا كل ما بها من رحيق ويستمتع بكل ثانيه ممكنه و بجوارهم اخرون ينظفون اسلحتهم الشخصيه في مهارة تامه ، بينما جلس احد الجنود يغسل ملابسه واخر يكتب خطابا .

وفي مشهد اخر القائد منعم ومعه النقيب مصطفي يتحدثان مع احد الجنود ومن خلفهم الشاويش عباس لا يفارق ظلهم .

حياه عاديه لموقع مثل مئات المواقع علي الجبهه ، حياه لجنود وضباط تعودوا علي أطلاله شبح الموت حولهم في كل لحظه وكل ثانيه ، فأستغلوا كل لحظه من اوقات الراحه في الاستمتاع بمظاهر الحياه المتوافرة لهم في ارجاء الجزيرة وعدوهم لا يبعد عنهم سوي ثوان .

تلاقت عيني خيري مع عيني قائده  ورغم بعد المسافه الا ان القائد يحفز جنوده فنظراته تحمل قدرا من الثقه في خيري

وفي عقل خيري تردد صدي قول قائده (( الدفاع عن الجزيرة  لاخر جندي واخر طلقه ))

وحيد يطلق دعابه في وسط الصمت (( براكاتك يا خيري ،شكلها  النهارده اليهود مش ناويين يزورونا ))

وفجأه يضرب جرس الانذار رافضا صدق نبؤه وحيد ، وتتحول الجزيرة الي الحركه الشديده ، فالكل يعرف موقعه تماما ودورة محفوظ عن ظهر قلب .

يأتي التبليغ عبر حكمدار المدفع رقم 1 ويسمعه شديد في التليفون الميداني  ويبلغه لخيري (( اربع اهداف من الشرق المسافه 7 كيلو )) ينظر خيري تجاه الطائرات فيرصد بنظراته المعظمه الطائرات الاربع تحمل الموت تحت بطنها تسرع تجاه الجزيرة علي ارتفاع منخفض .

تبليغ من القائد عبر تليفون شديد بحبس النيران ويجيب خيري بالعلم وعقله يعمل كمحرك نفاث

 – الطائرات تقترب بسرعه والثوان ترفض ان تمر

- بدأت الطائرات في الدخول الي مدي الضرب المؤثر له  

– قدمه  تكاد تضغط بدال الضرب

 – الاوامر تمنعه من الضرب

– ولاد الكلاب محملين قنابل علي الاخر

– ولا واحده منهم هتلمس الجزيرة بأذن الله

– محمد مات وسابني اخذ بتارة

- مدفعي اول مدفع يضرب

- ولاد الكلب في دايرة الضرب القائد منتظر ايه ؟ انا بتحرق يا فندم من جوة ، أدي الامر بقه ، بقالي أشهر في عذاب

 

يصيح شديد معلنا الامر السعيد (( اضرب – أضرب – أضرب ))

ما بين لحظه سماعه الامر وانطلاق اول طلقه كسر علي مائه من الثانيه ، وتلت الطلقه الاولي عشرات الطلقات ، بل المئات من مختلف مدافع الجزيرة لتحول سماءها الي كتله من النيران والشظايا الي تصيب في دائرة كبيرة اي شئ يمر بينها .

 

ضرب خيري مركزا طلقاته علي طائرة في مدي مدفعه كما تدرب في معسكر التدريب ، كان معدل ضربه سريع جدا مقارنه بباقي المدافع ، وتجاوب شديد ووحيد في امداده بالذخيرة طوال الوقت بينما تعاون بولس وعبد الحميد مع مناوراته للتنشين

ورغم كثافه النيران الا ان خيري لم يستطيع اصابه اي طائرة معاديه ، لكنه نجح مع زملائه في طرد طائرات العدو من سماء الجزيرة وعدم دقه توجيه قنابلها التي انفجرت كلها في المياه خارج الجزيرة ، وسرعان ما ايقنت الطائرات ضرواة الدفاع عن الجزيرة فأبتعدت تجاه الشرق مؤثرة سلامتها .

وبدأت المدافع في التوقف علي التوالي بعد خروج الطائرات الاسرائيليه من المدي ، الا مدفع خيري الذي مازال يضرب،

عينيه مرتكزة داخل دائرة التصويب فمازالت هناك طائرة اسرائيليه في مدي مدفعه ، نظر الرائد منعم تجاه الهدف الذي يضرب عليه خيري وتعجب من بعد المسافه بينها وبين الموقع ورغم ذلك مازالت الطلقات المتفجرة تنفجر حولها في تركيز ، وعلي المدفع كان خيري يردد في رتابه (( لسه – لسه )) وقدمه لا تتوقف عن الضرب المستمر ، ورغم تعجب رفاقه من موقفه الا انهم تجاوبوا مع معدل ضربه العالي ، وعم الصمت ارجاء الجزيرة تاركا لمدفع خيري الحريه لان يزغرد بمفرده ، وفجأه تصاعد دخان اسود كثيف من فتحه عادم الطائرة دليل علي اصابتها ، ليتعالي اثرها التكبير في انحاء الجزيرة ليعلو علي صوت مدفعه الذي تباطأ معدل ضربه حتي توقف بعد ان خرجت كل الطائرات من مرماه .

احس خيري بالحرارة علي وجهه ، فقد انسابت دموع الخلاص من عينيه ، فها هو البركان قد بدأ يطلق حممه ويا ويل من يقترب من نيرانه ، يا لها من راحه يحس بها ، فقد بدأ بالفعل في الوفاء بقسمه تجاه مصر وتجاه محمد .

ربت بولس علي كتف خيري مهنأ ، بينما صاح وحيد مداعبا (( الف مبروك يا خيري ، اديك عًلمت علي واحد منهم ))

وقال شديد ضاحكا (( زمان الطيار عمال يلعن اهلك كلهم )) وضحك الجميع عدا خيري الذي ارتعشت اصابعه علي المقود وهو يحاول ان يلم شتات مشاعرة المتابينه ، ولمحه عبد الحميد فتدخل في الحوار مشجعا اياه

(( زمان الطيار محتاس دلوقت ومش عارف هينزل ازاي  ، شكلنا كده يا رجاله كسبنا وحش بحق وحقيق  ))

دار خيري برأسه ناظرا لقائده الذي كان وجهه متهللا ، وتلاقت العيون ، وبوجه باسم اشار له القائد بأشارة الاجاده

 

عم الفرح ارجاء الموقع وأستمر التكبير والتهليل فترة حتي جاء انذار اخر بأقتراب تشكيل معادي اخر ، تغلب خيري علي مشاعره سريعا وتوجهت كل حواسه الي السماء بحثا عن تلك الاهداف ،

وصاح وحيد (( دول جايين لك مخصوص يا خيري ))

رصد خيري طائرتين تأتيان من اتجاه الشرق مستغله ضوء الشمس ، وتذكر البيان العملي الذي قام به امام رئيس الاركان

وبدأت المدفعيه كلها في الضرب علي الاهداف المعاديه ، لكن طائرة ميراج استطاعت النفاذ من النيران المعاديه واسقاط قنبله انفجرت علي سطح الماء قرب شاطئ الجزيرة ، لكنها لم تسلم من طلقات المدفعيه التي لاحقتها ، حاول الطيار الارتفاع السريع والخروج من مدي المدفعيه المركزه عليه الا ان احد الطلقات اصابت جناح الطائرة وأشتعلت فيها النيران بقوة وأستمات الطيار في محاوله التحكم في الطائرة للابتعاد عن الجزيرة ونجح في ذلك وقفز بالمقعد القاذف الي الماء علي مسافه امنه بعيدا عن الجزيرة

اما الطائرة الاخري فقد تخلصت من الاشتباك سريعا وعادت تجاه الشرق مسرعه وطلقات خيري تطارها بدون جدوي

وببطء هبطت مظله الطيار الي الماء ، ومن بين تكبيرات الجنود أعلن برج الملاحظه خلو السماء من الطائرات المعاديه .

ركز خيري بصرة تجاه المظله التي تهبط علي مسافه لا تقل عن خمسه كيلومترات من موقعه ، ود  لو أن معه قارب يستطيع به ان يأسر الطيار ويعود به كهديه لمصر ، لكن عاده لا تأتي الرياح بما تشتهي السفن ُ فبعد نصف ساعه أقتربت طائره هيلكوبتر اسرائيليه والتقطت الطيار وعادت به لقاعدته سالما وسط لعنات المقاتلين علي الجزيرة .

  

مضي جزء كبير من النهار بدون غارات اخري علي الجزيرة فلابد وأن (( اليهود اخذوا كفايتهم من الضرب)) كما علق وحيد مازحا وشاركه شديد وعبد الحميد وبولس في الضحك ، وعند المغرب ترك خيري مدفعه هو ورفاقه تاركين بولس بمفرده في الحراسه ، لكي يتناولوا طعام الغذاء ويستريحوا قليلا حتي يأتي دور كل منهم في تناوب الحراسه .

في طريقه الي دشمه الطعام حيث موائد الطعام تحت الارض كما هو كل شئ اخر في تلك الجزيرة ، كان خيري صامتا في سيرة ، هائما في عالمه تاركا لاذنه الاذن فقط بسماع الانذار لكي يستجيب العقل ، أما غير ذلك فالاذن صماء والعقل شارد في ذكرياته والعين لا تري الا الطريق فقط .

واثناء تناول الطعام تحدث عبد الحميد ، ورد شديد ، وعقب وحيد ضاحكا كعادته لكن خيري لم يسمع كلمه ، فقد كانت محركات عقله النفائه تعمل بلا كلل محاوله لفهم تلك المشاعر المتضاربه داخله ، فلاول مرة يكون قريبا جدا من الموت لهذه الدرجه ، فالقنابل التي انفجرت حوله داخل المياه كان الممكن ان تكون فوق رأسه تماما لو اطلقها الطيار نصف ثانيه مبكرا او استطاع التركيز اكثر اثناء التصويب ، مع اول انفجار ارتعش جسده لكنه لم يحس بالخوف وقتها ، لكنه الان يسأل نفسه لماذا لم يخاف ؟؟

أما مشاعرة الاخري فهي مشاعر حقد وكراهيه تقطع امعاءه وصدرة وقلبه من الداخل ، فهو ينتظر الغد والذي قد يحمل معه غارة ثانيه والموت له ، لكنه ينتظرة بشوق كما ينتظر الطفل لعبه من والده ، فهو في شوق بالغ لكي يري طائرات العدو تحترق حوله في الجزيرة وتتحطم بمن فيها ، وتساءل في نفسه  أين كانت تلك المشاعر الدمويه الصلبه قبل استشهاد محمد ، فقد كان شخصا وديعا مسالما بكل معاني الكلمه ، لا يدخل في مشادات او خلاف ويحاول ان يحكم عقله ويستخدم اخلاقه الطيبه في حل الخلاف ايا كان .

كانت خطوات بسيطه تلك التي سارها خيري من مدفعه الي الميس حيث تناول طعامه علي عجل كعاده الحياه في الجيش وخرج مسرعا ليصلي المغرب ، وبعد ان انهي صلاته جلس فوق صخرة لا تبعد عن مدفعه الا امتار قليله ، ووضع سلاحه بجوارة واخرج الراديو الصغير من جيبه .

كانت الاغاني والموسيقات الوطنيه تملئ كافه المحطات المصريه ، وهي عاده تتبعها الاذاعه قبل اذاعه بيان عسكري ، وانتظر خيري سماع البيان وعينيه لا تفارق صفحه المياه السوداء والمتحركه بانتظام  .

وجاء صوت المذيع يعلن البيان العسكري والذي يصف اغارات العدو الجويه علي الجبهه بدون ان يحدد مواقع وعن نتائج تلك الغارات وعدد الشهداء الذين سقطوا وفي النهايه اعلن عن اسقاط طائره للعدو واصابه اخري .

بيان عادي مكرر في تلك الاوقات لا يحمل اكثر مما قال ، لكن لاول مرة يستطيع خيري ان يقرأ ما بين السطور ، فموقعه كان مشاركا في تلك الاحداث ومدفعه اصاب تلك الطائرة ، ومدفع اخر هو الذي اسقط الاخري ، سطور هائله ومشاعر رهيبه تم اختزالها في سطر او اثنين ليخرج بيان يسمعه الاهالي في البيوت والمقاهي ، ففيما مضي كان مستمعا والان اصبح مشاركا في صنع تلك البيانات ، فيما مضي كان يدعو للجنود علي الجبهه بالصبر والنصر ، والان اصبح ممن يدعو له الشعب ، تغير هائل في حياته وفي احساسه وفي مستقبله يحس به الان بكل قوة .

تمني لو محمد يسمعه ويحس به الان من مكانه في جنه الفردوس ليراه وهو يأخذ بثأر مصر وثأرة في صبر وجلد .

وبعد انتهاء البيان واصل خيري شروده الدائم والمستمر ، ومر وقت من الزمن لم يقسه ولم يعره اهتماما لكنه تنبه الي اغنيه يسمعها لاول مرة ، كلمات الاغنيه شدته فأستمع اليها في تركيز ، كانت الاغنيه لمطرب شاب لم يسمع عنه من قبل يدعي محمد نوح ، وكان نوح يصدح بكل قوة و عزيمه

 (( مدد مدد – مدد – مدد شيدي حيلك يابلد/ مدد مدد – مدد – مدد شيدي حيلك يابلد

لو النهادره مات لك شهيد – بكرة الف هيتولد – مدد مدد ))

كانت كلمات جديده ومعاني جديده جدا علي خيري والذي الف نبرة الحزن في صوت المطربين ، لكن الان تلك الاغنيه تصيح بكل قوة ان الشعب قد عرف ان جيشه يصمد ويقاتل وان الشعب صامد معه ، فأغاني الهزيمه لم تستمر طويلا وايقن الشعب ان الجيش يحتاج لاغاني تحسه علي الصمود والقتال ، فالجميع يتقدم للثأر وليس خيري فقط ، فهو واحد من ضمن الوف وملايين لهم أب او اخ او ابن او حتي جار قد أستشهد والكل يتقدم للثأر فالمعركه لم تنته بعد ولن تنتهي الا بالنصر .

احس بالبرد يسري بسرعه في اوصاله ، فليل الجزيرة قارس البروده كما علم من شديد ، ولابد من اتخاذ كافه التدابير للوقايه منه .

افاقه البرد من شروده وطاف بعينه في انحاء الجزيرة الغارقه في الظلام ، نعم سطح الجزيرة غارق في الظلام والهدوء كما رأه بالامس ، لكنه يعرف الان ان تحت السطح يقبع وحوش كاسرة واجهزة وعقول تعمل بلا كلل للقتال والنصر .

تناهي الي سمعه صوت يأتي من بعيد ، انه صوت محرك لنش الريس غريب  ،فتبسم عندما تذكر خوف الريس من حديث الرجال علي متن اللنش حتي لا يكتشفه احد ، وها هو الصوت الان يتردد في انحاء الخليج ويمكن سماع صوته علي مسافه كبيرة جدا ، ومع اقتراب صوت لنش الريس غريب بدأت الحركه تدب علي سطح الجزيرة ، فالرجال يستعدون لاستلام ما باللنش من امدادات  .

وبدأ الشاويش عباس في اعطاء اشارات التعارف ، وعاد الرد بأشارات اخري خافته من وسط ظلام المياه ، وتزايد الصوت تدريجيا حتي توقف تماما الصوت وظهر اللنش تدريجيا منعكسا علي صفحه المياه وضوء مصباح الشاويش عباس ، وعلي مقدمه اللنش وقف الريس غريب بقامته الممشوقه يدير امور التفريغ والتحميل

وبعد دقيقتين من الحركه السريعه عاد صوت اللنش عاليا وهو مبحر عائدا الي السويس ومع ابتعاده عاد الهدوء والصمت لانحاء الجزيرة تاركا لصوت رياح بارده ان تصدح بمفردها في زهو .

ظل خيري جالسا هائما لفترة حتي في الهدوء وعقله يعمل بلا توقف حتي أحس بحاجته الي النوم ، فنزل الي الملجأ ملتمسا قليلا من النوم قبل موعد حراسته علي المدفع بعد الفجر بقليل ، وما ان اغلق عينيه حتي غرق في سبات عميق .

لم يمر الا دقائق حتي أستيقظ خيري من نومه مفزوعا علي جرس الانذار ، ولم يفكر في شئ الا في الوصول الي مدفعه في اسرع وقت ممكن ، أفادته ملحوظه عبد الحميد بضرورة النوم بملابس القتال الكامله تحسبا لاي طوارئ فهرع سابقا زملائه ليعتلي المدفع ويبدأ في البحث عن الاهداف التي من اجلها تم اطلاق الانذار ، ومن خلفه أستيقظ الموقع كله في ثوان معدوده واتخذ كل الجنود اماكنهم.

دار ببصرة وارهف سمعه بحثا عن طائرات العدو ، لكن السماء كانت خاليه ولا يُسمع الا صوت الرياح والامواج المتكسرة علي صخور الجزيرة في هدوء .

وتعجب الجميع من الأنذار وظن خيري ان خطأ قد حدث ، او انه نوع من التدريبات لضمان جاهزيه الموقع ، لكن جاء الخبر من شديد والذي أبلغ برصد زورق بحري معادي يحوم حول طرف الجزيرة الجنوبي تجاه خليج السويس .

نظر خيري خلفه واستخدم نظارته المعظمه وبالفعل استطاع رصد انوار الزورق الواضحه تماما في ظلام الخليج ، وتعجب الجميع خلال حديثهم عن ظهور الزورق بمثل هذه الطريقه الواضحه وبدون اي محاوله منه لتجنب الكشف .

أستمر الرجال في مواقعهم حتي انبلاج ضوء الفجر ، ومازال الزورق يحوم حول طرف الجزيرة الجنوبي بمسافه ، ومع تدفق اشعه الشمس علي صفحه المياه بهدوء ، ظهر الزورق واضحا علي مسافه خمسه كيلو مترات ، وقام الرائد منعم بأبلاغ الموقف الي قياده الجيش الثالث وطلب توجيه ضربه جويه او مدفعيه ضد هذا الزورق ، وكان تحليل النقيب مصطفي ان الزورق يجس نبض دفاعات الجزيرة ودرجه الاستعداد بها ، واتفق الرائد منعم مع النقيب مصطفي علي حبس النيران وضبط النفس حتي لو دخل اللنش مدي رشاشات الموقع المتوسطه والثقيله لكي لا يعطي الفرصه للاسرائيليين في معرفه مواقع الرشاشات او خطط النيران .

في نفس الوقت وفي احد قواعد القوات الجويه المتقدمه ، خرج اثنان من الطيارين من غرفه قائدهم متجهين الي دشم طائراتهم علي عجل ، وبعد  لحظات خرجت طائرتين ميج 21 محملتين بصواريخ جو ارض ، وعلي اول الممر أنتظرت الطائرتين ثوان معدوده حتي جاء صوت قائدهم من برج المراقبه (( علي بركه الله يا ولاد )) واقلعت الطائرتين في سرعه وتناسق ، واتخذتا مسارهم تجاه الشرق ، وجاء صوت قائدهم في اللاسلكي مرة اخري معيدا اليهم تعليمات الطلعه 

(( طيران ارتفاع منخفض – دورتين هجوم علي الهدف- دورة بالصواريخ ودورة بالرشاشات )) ورد قائد التشكيل بالعلم .

 

وفي الجزيرة الخضراء دق انذار اخر ، فقد تم رصد طائرتين تقتربان من الغرب ، ورغم ان غرب الجزيرة اراضي مصريه الا ان خيري ادار مدفعه وبسرعه وضع احد الطائرتين داخل دائرة تصويبه ، وعندما أستفسر عبد الحميد عن تصرف خيري ، تمتم خيري (( ولاد الجنيه دول ملهومش امان ، خليني منشن عليه لحد ما نعرف نميًزه))

وجاء التأكيد من وحيد وكررة مرتين (( ميج 21 مصري – اوقف الضرب )) فأرتخت اصابع خيري من علي مقود التوجيه ، وتهلل قلبه وهو يرصد نسور مصر لاول مرة .

أرتفعت الطائرتين قرب الجزيرة واتخذتا زاويه الضرب علي الزورق الذي اطلق لمحركه العنان هاربا من الطائرات المصريه ، واطلق عده ستائر دخان لكي تستر انسحابه ، لكن الطائرات المصريه أستطاعت تنفيذ الدورة الاولي للهجوم ،

 

صورة من كاميرا المدفع لطائرة مصريه وهي تصوب نحو زورق اسرائيلي

 

واطلقت ثمان صواريخ غير موجهه تجاه  الزورق والذي اختفي داخل الدخان الرمادي الذي اطلقه بكثافه كبيرة ،

أرتفعت الطائرات مرة اخري ودارتا تمهيدا لتنفيذ دورة الهجوم الاخر .

لكن في نفس الوقت ظهرت 4 طائرات اسرائيليه من وراء الافق فتم رصدها بسرعه من المدفع رقم 3 ، ووجهه خيري ماسورة مدفعه تجاهه الطائرات المقتربه ، لكن امر لحبس النيران صدر بسرعه البرق من الرائد منعم ، فسماء الجزيرة بها طائرات صديقه ، وكان واضحا ان الطائرات الاسرائيليه كانت علي مقربه وتنتظر اقتراب الطائرات المصريه

فتابع الرجال في ترقب ما ستسفر عنه اللحظات القليله القادمه الحاسمه ، ودار خيري بعينيه في ارجاء الجزيرة والتقطت عينيه مشاهد عديده .

  * القارب ما زال مبحرا باقصي سرعه تجاه الجنوب يحاول الهروب ومن حوله دخان رمادي كثيف يحجبه عن الرؤيه ،

      لكن ظهر وسط الدخان الرمادي دخان اسود بسيط ، فلابد وان احد الصواريخ قد اصاب الزورق

   *  القائد يتابع سماء الموقع بنظراته المعظمه وبجوارة النقيب مصطفي يتحدث في التليفون الميداني

   *  جميع افراد الموقع اعينهم في السماء تتابع ما سوف يحدث

   * قائد التشكيل المصري رصد طائرات العدو ، فألغي دورة الهجوم الثانيه واتجه تجاه طائرات العدو والتي تفوقه عددا

     بالضعف .

   * طائرات العدو اطلقت صاروخين تجاه طائراتنا ، وانتشرت في سماء الموقع محوله الالتفاف حول طائراتنا لاسقاطها

 

ولم تتمكن صواريخ العدو من اصابه اي من طائراتنا وبدأت حلقه الصراع تحتدم فوق رأس الجنود ، فطائراتنا تحاول ان تلتف حول طائرات العدو وطائرات العدو تحاول نفس الشئ ، وبعد ثوان قليله تصاعد الدخان من طائرة اسرائيليه وانسحبت من سماء المعركه وسط تكبير رجال الموقع ، فهاهي اصابه محققه من نسورنا ، وتقلص عدد طائرات العدو ،

 لكن في نفس الوقت بدأت النيران تشتعل في طائرة مصريه ، واضطر الطيار للقفز بالمظله قرب شاطئ السويس تاركا قائده بمفرده في سماء المعركه وسط ثلاث طائرات إسرائيليه .

كان الجميع متوقعا انسحاب الطيار المصري من سماء المعركه لان فرصته مستحيله ، لكن الطيار الشجاع رفض ترك سماء المعركه لعدوة وفضل ان يستمر في المناورة محاولا اصابه طائرات العدو ، وبدأ يستخدم مناورات رأسيه وافقيه حاده للهرب من صاروخين اخرين اطلقا عليه .

أيقن قائد التشكيل ان فرصته للنجاه قليله جدا ، لكنه لم يفكر في الانسحاب وترك سماء المعركه لعدوة ورغم ان فرصته ضعيفه جدا للافلات ، لكن صمم علي البقاء لاخر نفس في المعركه .

في نفس اللحطه كاد خيري ان يقفز من مكانه من غيظه ، فالطائرات الاسرائيليه في متناول يديه ولا يستطيع الضرب عليها وفي نفس الوقت الطيار المصري مستميت في المناورات وامله ضعيف جدا ، فنظر الي الرائد منعم وتلاقت النظرات ودار حوار سريع وحاسم ، خيري يستعطف قائده في الضرب لانقاذ الطيار المصري والقائد يريد ذلك لكنه خائف علي اصابه الطيار ، ثم اومأ القائد لخيري ووصل الرد الحاسم ، التقط الرائد منعم تليفونه وامر بأستمرار حبس النيران ، بينما بدأ في تلك اللحظه مدفع خيري في الضرب بمعدل نيران عال جدا وبتوجيه دقيق ، جعل شديد ووحيد يعملان بسرعه رهيبه لمحاوله التجاوب مع معدل ضرب خيري .

عم الذهول جميع من في الموقع  فور بدء خيري في الضرب ، فخيري لم يكن يوجهه طلقاته الي طائرات العدو ، انما يوجهها في المسافه الضيقه بين طائرات العدو والمصريه ، فهو يريد تشتيت تركيز الاسرائيليين ، وان يترك للطيار المصري فرصه للنجاه تحت ستر نيرانه .

مرت ثوان قليله حتي ادرك الطيار المصري ما يقوم به خيري فصاح فرحا بكل جوارحه (( ينصر دينك )) وبدلا من الانسحاب فقد بدأ في عمل مناورات حاده لادخال الطائرات الاسرائيليه في مرمي نيران خيري وكانت معركه كرامه قبل اي شئ فلا طرف يريد الانسحاب من المعركه وترك السماء لعدوة ، وبدأت بوادر نجاح خيري تظهر حيث تراجعت الطائرات الاسرائيليه وتوقف اطلاقها للنار علي الطائرة المصريه وزادت المسافه بينهم مما جعل الرائد منعم يعطي امرة بالضرب علي طائرات العدو ، وسرعان ما  اصبحت سماء الجزيرة جحيم لا يطاق لطائرات العدو ، فالانفجارت تملئ كل شبر من السماء ووجود طائرات العدو فيها اصبح مستحيلا ، وانسحبت طائرات العدو تجاه الشرق تحاول النجاه بنفسها من طلقات المدفعيه .

لم يكن امرا عاديا ان تنسحب طائرات العدو بهذه السرعه وعدم التنظيم ، وحير ذلك الرائد منعم ، لكن حيرته لم تستمر طويلا فقد جاءته تبليغ بوجود سته طائرات تقترب من الغرب ، وبعدها بثوان تأكيد انها طائرات مصريه ، ومع توقف اطلاق النار لانسحاب الطائرات الاسرائيليه عم التكبير سماء الموقع فطائرتنا استطاعت طرد الطائرات الاسرائيليه من سماء الموقع وفرضت وجودها .

دخلت ست طائرات مصريه ميج 21 سماء الجزيرة ودارت دورة تجاه الشمال ، وشارك فيها الطيار المصري ، وقبل ان ينضم للتشكيل ويعود لقاعدته اخذ الاذن وطار منفردا فوق الجزيرة ومال بجناح طائرته مرة ناحيه اليمين ومرة ناحيه اليسار  في تحيه للدفاعات الارضيه والتي انقذته من الموت وساهمت معه في السيطرة علي سماء الجزيرة ،

وتابع الرجال الطائرة وهي ترتفع لتلتحم بباقي التشكيل وهم يغادورا سماء الموقع تجاه مطاراهم

وكانت تحيه عسكريه يعرفها كل من بالموقع وفسرها بولس لخيري فتبسم الاخير في تواضع .

(( كان ذلك أقل ما يمكن عمله لهؤلاء الرجال المهرة )) هكذا كتب الطيار في تقريرة بعد عودته بسلام

 

مر باقي اليوم علي الرجال تحفزهم الدائم لكن الحديث لم ينقطع عما حدث في الصباح ونال خيري استحسان قائده وتشجيعه علي كفاءه تصويبه ودقته ودار بينهم حوار فني بحت حول المعركه ، وكمكافأه من الشاويش عباس لخيري وطاقمه فقد امر ((بـ دور شاي )) لكامل الطاقم علي حسابه الخاص ، وتهلل الجميع من تلك البادرة النارده الحدوث من الشاويش عباس.

ومع هبوط الليل وقرب انتهاء خيري من ثاني يوم له في الحرب ، أثر ان يظل علي مدفعه بعد ان تناول طعامه سريعا وصلي المغرب ، وشاركه زملاءه علي المدفع في السهر بجوار المدفع وحديثهم لا يتوقف عن معركه الصباح تخلله عده نكات من وحيد تجاوب معها الجميع في روح معنويه عاليه جدا .

 

مرت عده ايام بدون اي اغارات علي الموقع وان كان الجميع يشاهد طائرات العدو تغير علي السويس ليل نهار ، مما اثار اعصاب الرائد منعم ، فتوقف غارات العدو غريبا عما اعتادوا عليه في الاشهر الاخيرة ، ولا بد وان  العدو يدبر لهم شيئا في الخفاء ، وهو ما اثار اعصابه .

واذا كان الرائد منعم قد توجس خيفه مما يدبرة العدو لموقعه ولجنوده في الخفاء فأن خيري قد كان يشعر بالملل والغضب في نفس الوقت ، فرؤيه طائرات العدو في هجماتها ضد مواقع قواتنا حول السويس بعيدا عن مدي مدفعه كان يثير غضبه وحنقه وتمني لو ان مدي مدفعه يستطيع ان يصل الي حيث تلك الطائرات لكي يحرقها بمن فيها ويقطع اوصالها في عنف .

 

ومع مرور الاسابيع بهدوء  عرف جنود الموقع جميعهم خيري ، وعرفوا ان لديه ملكات كبيرة جدا في صيانه السلاح وفي التصويب الدقيق ، وعرف الكل رغبته الشخصيه في الانتقام و الانعزال التام وعدم ترحيبه بأي صدقات مع اي زميل ، كان الوحيد الذي يحاول ان يتقرب منه رغم فشله المتكرر هو بولس ، والذي وجد في خيري مستمعا جيدا  واستطاع ان يفتح معه حوارا هادئا بعيدا عن امور خيري الشخصيه ، وعرف عن بولس ان لديه زوجه واطفال بالصعيد وانه وجد نفسه مطلوب للتجنيد بعد النكسه مباشرة هو وشقيقه الاكبر ، فترك أرضه لاسرته ترعاها وتقتات منها ، وان شقيقه قد جُند في الجيش الثاني ، وكثيرا ما حاول بولس ان يخترق حاجز الصمت لدي خيري وان يتوغل داخله الا انه كل مرة كان يواجهه بحوائط عاليه من الرفض جعلت حياه خيري الخاصه شيئا غامضا بالنسبه للجميع في الموقع ، حيث جرت العاده بين الجنود في مواقع القتال ان يبوحوا بتفاصيل حياتهم ويشاركوها لزملائهم في محاوله للقضاء علي رتابه وصرامه الحياه العسكريه ومن شبح الموت المحيط بهم .

وقوبل انعزال خيري في اول الامر بفتور وتساؤل من جانب بقيه الجنود ، لكنهم في النهايه رضخوا لرغبته وطوت الايام تسأولاتهم ، وكانت الجمله الوحيده التي قالها خيري عن حياته الشخصيه في احد ليالي الربيع بجوار المدفع

(( محمد مات ............... مات وسابني لوحدي )) وكانت تلك الجمله مثيرة للفضول اكثر للرجال ، فتسألوا فيما بينهم عمن يكون محمد ومدي قرابته لخيري ، وهيهات حاول الرجال تجاوز حوائط خيري المنيعه بعد جملته المثيرة للفضول .

 

ومع حلول الربيع عادت الغارات علي الموقع وتفاوتت تلك الغارات بين المكثفه وبين غارات تقوم بها طائرة او اثنين وعلي ارتفاع عال واطلق عليها الرجال في الموقع غارات ازعاج ، في تلك الفترة استطاع خيري اصابه طائرتين ،واستطاعت احد الطائرات ان تصيب احد المدافع ويستشهد عدد من افراده

 لكن مع حلول صيف 68 هدأت الغارات تماما ، وبدأت تمر ايام واسابيع كامله بدون رؤيه طائره معاديه واحده في السماء

ورغم استغلال الجنود والضباط حاله السكون في الاستمتاع بجو الصيف والاستمتاع بمياه الخليج الدافئه وقضاء الوقت في صيانه السلاح والاستمتاع بيوم اخر من الحياه وامتصاص رحيقه لاخر قطرة ، في كل ذلك الجو الهادئ بالجزيرة الخضراء كان هناك بركانا داخل خيري ، فالغضب تصاعد مع سماعه اخبار القتال علي انحاء الجبهه وتواصل حرب الاستنزاف التي بدأتها مصر وسارت فيها رغم الخسائر المتبادله مع العدو .

وكانت اخبار القصف المدفعي ودوريات العبور المقاتله قاسم مشترك في كل بيانات الجبهه اليوميه وهو ما اثار اعصابه اكثر .

فالذي لم يكن يعرفه خيري وقتها ان الطيران الاسرائيلي مشغول بمهاجمه تلك المنشات الخرسانيه عجيبه الشكل التي يقوم عمال صعايده مدنيين ببنائها ، في بادئ الامر لم يكن الاسرائيليين يعرفون ماهيه تلك المنشأت العجيبه التي بدأت تقام بطول الجبهه ، لكن حل هذا اللغز وصل للقياده الاسرائيليه عبر صور اقمار صناعيه امريكيه ، فتلك المنشأت التي تقام قرب جبهه القناه ، مطابقه لتلك المنشات الموجوده في فيتنام الشماليه ، وما هي الا دشم لمنصات صواريخ ارض- جو

وفور تحليل الصور ومطابقاتها اضيئت كل الانوار الحمراء في القياده الاسرائيليه وعم الفزع والهلع القوات الجويه لديهم فوجود صواريخ سام بالقرب من القناه سيقوض دور القوات الجويه الاسرائيليه في قصف القوات المصريه وفي حريه الحركه فوق القناه .

 

وعلي الفور بدأت عجله القصف الجوي لتلك المنشات بصورة مكثفه وشديده من بورسعيد شمالا حتي السويس جنوبا

وتحولت الجزيرة الخضراء الي هدف ثانوي بالمقارنه بتلك المنشأت الخرسانيه

ودار سباق اقل ما يوصف بأنه رهيب جدا ، فالطيران الاسرائيلي يهاجم تلك المنشأت اثناء بنائها وفي بعض الاوقات كانت المنشأت تضرب قبل ان يجف الاسمنت ويتصلب ، وكان المطلوب من القوات المصريه سرعه بناء تلك المنشأت والدفاع عنها لادخال الصواريخ الي الجبهه ، وأستشهد المئات من عمال البناء المصريين تحت الانقاض ومن تأثير القنابل لاسرائيليه الثقيله ، ورغم سقوط العديد من الطائرات الاسرائيليه في عمليات القصف المتواصل الا انه نجح تماما في تدمير كل الدشم الخرسانيه وفرض سيطرته الجويه تماما علي الجبهه مما اعتبره نصرا ساحقا اخرا لذراعه الطويله .

في تلك الفترة فكر خيري كثيرا في ان يتقدم بطلب للنقل الي موقع متقدم اخر يستطيع من خلاله القتال ، فالنار في داخله اصبحت لا تطاق ، وفاتح الشاويش عباس في هذا الموضوع ، وعلي عكس المتوقع من الشاويش عباس المتجهم دائما ، فأن الرجل بحنان ابوي نادر الظهور منه ، طلب من خيري التمهل في طلبه والا يتسرع لان ذلك سيقابل بالرفض وسيترك انطباع سئ امام القائد .

وبدلا من ان يترك خيري حزينا ، فان الرجل نصح خيري بأن يأخذ اجازة ، فهو قد رفض الاجازة مرارا وقد مر قرابه سته أشهر منذ وصل للجزيرة ، ووافق خيري علي مضض .

وبعد يومين كان خيري يستقل لنش الريس غريب متجهها للسويس بعد حوالي 170 يوم قضاها علي الجزيرة ، وبدلا من ان يقف علي مقدمه الزورق فأنه وقف علي مؤخرة الزورق يشاهد ملامح جزيرته وهي تختفي في الظلام

احساس غريب انتابه في تلك اللحظات القليله التي شاهد فيها الجزيرة تختفي من امامه في الظلام ، أحساس المسافر بعيدا عن بيته وليس العكس ، فالجزيرة اصبحت هي منزله وبيته والحضن الدافئ الذي يرتمي فيه ، وزملاءه أصبحوا اهله وعشيرته ، احساس غريب جدا بأنه بدأ يفتقد زملاءه ومدفعه وملجأه وسريرة ، أحاسيس غريبه متضاربه يحس بها واللنش يبحر مقتربا من شاطئ السويس .

بعد عده ساعات كان خيري داخل صندوق سيارة نقل عسكري يخترق شوارع القاهرة الساهرة ، شتان الفارق بين السويس والقاهرة ، وبين الحرب الدائرة وبين اضواء المدنيه وضخبها ، تطلع لما يدور في الشوارع وركز حواسه علي ما يراه في شوارع وسط المدينه ، رجال ونساء يقضون اوقاتهم في التنزة في الشارع ومشاهده واجهات المحلات ، وهذا اخر يعتصر يد صديقته وهو يعبر بها الطريق ، وهذا تجمهر من الرجال امام شباك تذاكر احد دور السينما  والتي تعرض فيلما اجنبيا ، وهذا اخر يتناول مخروطا من الايس كريم في أستمتاع تام ، لا شئ يدل علي ان حربا تدور رحالها علي مسافه قصيرة جدا

، حرب يموت فيها في كل يوم رجال وشباب في عمر الزهور ، حرب تقطع اوصال الرجال وتحولهم الي معاقي حرب

حرب يحاول فيها العدو كسر صمود الجيش ، بينما القاهرة غارقه في الانوار والضخب والسهر .

اراد ان يقفز من الصندوق ويصيح في الناس ، بأن الناس تموت علي الجبهه لكي تكونوا في أمان ، وانتم لا تهتمون بما يحدث في الحرب ومستمرون في الصخب والسهر ، أراد ان يمسك بتلابيب ذلك الفتي الذي يكاد يحتضن تلك الفتاه في الطريق ، أراد ان يقول له ان عليش مات وهو في مثل سنك ، لكنه مات وهو يدافع عنك ، مات وهو ممسك بسلاحه وليس بكتف تلك الفتاه ، كانت صدمته كبيرة مما يراه ، فلا شئ يدل علي ان البلد في حرب سوي بعض مصابيح السيارات المطليه بلون ازرق داكن ، والتي تظهر بين الحين والاخر ، فلا احد يبدو انه يهتم بما يحدث .

كانت نظرات خيري وتعابير وجهه الغاضبه فاضحه جدا لما يدور في عقله ، فأنحني احد الجنود المرافقين له قائلا

 (( احنا بنموت علي الجبهه ومحدش هنا حاسس بينا ))  فتدخل اخر قائلا معترضا (( يعني يعملوا ايه يعني ؟؟ يقعدوا في بيوتهم ولا يبطلوا يخرجوا ويتفسحوا ؟؟ )) فرد الاول (( امال يعني ايه البلد في حرب ؟؟ ))

فرد الثاني (( ما الناس دي هيه اللي بتشغل المصانع والمصالح ، هما دول الناس اللي بيعملوا الاكل اللي بناكله علي الجبهه واللبس اللي بنلبسه والرصاص اللي بنضربه ، ماهم برضه بيحاربوا لكن في ميدان تاني وبطريقه مختلفه خالص ، الفرق عننا انهم بيقدروا يخرجوا بليل يتفسحوا واحنا لا )) كان الحوار بين الاثنين وخيري مستمع وعينيه تشاهد ما يحدث في شوارع العاصمه ، وعقله يخزن كل ما يراه ، لكنه اقتنع تماما ان دورة هو القتال بينما دور باقي الشعب هو تدعيم الجيش بما يمكن ان يقدمه ، فليس من الضروري ان يحمل كل فرد السلاح ، فهناك من يكون سلاحه قلم او مطرقه او حتي لحن

لكن الجميع يصب عمله في مصلحه الوطن .

كانت صورة ورديه تلك التي اراد ان يرسمها خيري في عقله لصمود الشعب ،

لكن الحقيقه ان هناك فئه كبيرة من الشعب قد هُزمت بالفعل وضاع عندها الايمان بالقضيه واختفي لديها مفهوم تحرير الارض ورضخت تماما للدعايه الاسرائيليه الغربيه وانتشرت تفسد في البلد من الداخل بكل اشكال الفاسد الخلقي والاجتماعي ، والغريب ان تلك الفئه رفضت القبول بان الجيش صامد ويقاتل وأصبحت كالخنجر في ظهر الشعب والجيش علي حد السواء .

وصل خيري الي محطه مصر ، حيث استقل القطار الي قريته ، وبعد ساعتين كانت قدماه تطأ عزبه المراكبيه مره اخري ، حيث عاد اليها والي محبوبته والي ذكريات الايام الجميله ، لا يستطيع ان يري مكانا في قريته الا وارتبط بذكريات جميله مع محمد .

أمضي خيري يومين ونصف في احضان بلدته وجو السلام والهدوء الذي يغلف كل مكان فيها ، فلا شئ يدل بالمرة علي ان الوطن في معركه مصيريه في تلك اللحظات ، فالهدوء والسكينه يغلفان جو القريه ، وسير العمل في الحقول يسير بنفس دورته المعتاده ، وأستمتع بدفء وحنان والدته وشقيقتيه والاتي اغرقته في اصناف الطعام المختلفه والحوارات المتعدده ، ولم يضع اي فرصه في امتصاص مشاعر الحب والعشق من محبوبته ، فقط كان يعيد ملئ مستودعات قلبه بمشاعر انسانيه كثيرة افتقدها كثيرا في الاشهر السته الماضيه ، فقد كانت مشاعره علي الجبهه من وجهه نظرة غير انسانيه بالمرة فكلها حقد وكراهيه وقتل ،اما الان فهو يعيد التوازن لنفسه المسالمه قليلا قبل ان يعود للجزيرة

وخلال حديثه مع والدته ارتاح فؤاده عندما علم ان مرتبه يصل لوالدته بأنتظام تام ، فقد كان يشك في ذلك وكثيرا ما سأل والدته عبر الخطابات المتواصله بينهم ولم يرتاح من تأكيدتها له فقد احس بأنها لا تريد ان تزيد من اعباؤة .

وعندما زار منزل عمه في اليوم الاخير لاجازته ، واجه صورة محمد المتشحه بالاسود بنظرة مختلفه تماما عما نظر اليها اخر مرة قبل توجهه الي الجبهه ، فنظرته هذه المرة تحمل قدرا من الطمأنيه والراحه ، فهو يسير في طريق الثأر بكل ما يستطيع من قوة وليس هناك ما يمكن ان يتم فعله ولم يقم به، ورغم ان الصورة هي نفسها التي شاهدها وناجاها عده مرات من قبل ، الا ان احساس غريب جدا تسلل اليه رغم عنه ، احساس عميق بالراحه ، وكأن وجه محمد يبتسم له .

وتعجب خيري من نفسه وهو يودع قريته ومحبوبته ، تعجب من تلك القدرة العجيبه التي اصبح يمتلكها في وضع الاحلام والامنيات الخاصه بعائله والمستقبل وراء ظهرة فور اختفاء محبوبته وقريته من الافق ، ففور ان اختفت قريته من امام انظارة ، ظهرت شخصيه خيري الجندي المقاتل مرة اخري علي السطح ، فأخرج جهاز الراديو الصغير والذي غاب عن يده طوال مده الاجازة وبدأ تدير مؤشر الترددات لمتابعه اخر الاخبار وعقله مع رفاقه في الجزيرة وتمني من كل قلبه ان يكونوا بخير كلهم .

وقرب اذان الظهر كان خيري يدخل مدينه السويس مرة اخري ، تنشق رائحه الهواء المعبئ برائحه البارود وملئ رئتيه بهذه الرائحه التي تذكرة بالموت الجاثم علي بعد مئات الامتار منه ، فها هو قد عاد لخط المواجهه ولواجبه المقدس الذي ينتظرة في شوق .

وبحلول الليل استقل خيري اللنش متجها للجزيرة وهو في شوق لمدفعه ولرفاقه ولقائده ، وخلال الطريق علم من الريس غريب ان الاحوال هادئه تماما خلال اليومين الماضيين ، فحمد خيري الله علي سلامه رفاقه .

 

Share
Click to listen highlighted text! Powered By GSpeech