Click to listen highlighted text! Powered By GSpeech
Get Adobe Flash player
مستمرين معاكم بإذن الله 2008-2024 **** #لان_لجيشنا_تاريخ_يستحق_أن_يروي **** ***** إنشروا تاريخنا وشاركونا في معركة الوعي **** تابعونا علي قناة اليوتيوب 1100+ فيديو حتي الان **** تابعونا علي صفحات التواصل الاجتماعي** أشتركوا معنا في رحلاتنا لمناطق حرب أكتوبر **** يرجي استخدام خانة البحث **** *** تابعونا علي تليجرام - انستجرام - تويتر

روايه وحش الجزيره - بقلم احمد زايد - الجزء السابع والاخير

الفصل الســــــــــــــابـــــــــــــع

الشــــــــهـــــــــــيــــــــــــــــــد

 

 

في تلك الايام من خريف 1969 كان الوضع يميل الي الاشتعال علي الموقع لايام ثم يعود ليهدأ ايام اخري ، ولم يمر يوما علي خيري بدون ان يتذكر محمد ولحظات الوداع الاخيرة في محطه القطار ، ثم صورته المتشحه بالسواد ، كان يمني نفسه بان النصر قريب وان قواتنا تذيق العدو كل يوم من نيرانها وانه اصاب واسقط العديد من الطائرات التي لم يعد يحصيها ، لكنه عاد وتسأل عن تلك النار التي لا تنطفأ داخله ابدا ، فقد اصبحت كالنابالم الذي حكي عنه حسن رفيقه منذ ما يقرب من عامين ونصف ، فنار قلبه كالنابالم تزداد اشتعالا كلما حاول اطفائها بالمياه .

في تلك الفترة ترقي النقيب مصطفي الي رتبه الرائد ، وهدأت حده الغارات علي الموقع ، فتوقع الجميع ان الطيران الاسرائيلي يركز اهتمامه الان علي موقع اخر، وسعد الجميع بهذا الهدوء عدا خيري بالطبع .

وفي احد الايام ، فاتح خيري الرائد مصطفي في رغبته في الزواج في تلك الفترة مستغلا الهدوء الحالي ، ورحب القائد بذلك جدا ووعده بتلبيه طلبه فور وصول تصديق من قياده التشكيل ، وهو اجراء متبع لمن يرغب في الزواج في وقت الحرب ،

وارسل خيري لعمه خطابا يشرح فيه الموقف ويطلب منه اتمام عقد القران في اسرع وقت ، وبعد ايام جاءة الرد من عمه بأنه علي اتم استعداد لانهاء الاجراءات فور نزول خيري اجازة ، وظل خيري منتظرا وصول تصديق القياده علي زواجه .

ولعل اهم اسبابه الشخصيه في سرعه انهاء اجراءات الزواج ، انه وجد ان نارة لن تنطفئ مهما حارب ومهما حاول بينما لا يبدو ان لتلك الحرب نهايه ، فأثر ان يتزوج ويضم محبوبته الي كنفه في اسرع وقت خاصه مع هذا الهدوء المشوب بالحذر داخل موقعه ، وبعد اسبوع تقريبا جاء التصديق (الموافقه) علي زواجه ، وكان الرائد مصطفي كريما معه لابعد الحدود عندما اعطاه اجازة لمده 5 أيام وهو يعلم ان السفر ذهابا وايابا يقتضي يومين علي الاقل ، وكانت اجازه الثلاث ايام كامله تعتبر منحه غاليه في تلك الفترة لاي جندي او ضابط في هذا الموقع .

وصل خيري الي قريته قرب الظهر ليجد ان قريته تستعد لحفل العرس وان الجميع يتكاتف انهاء الترتيبات ، ووضح ان عمه يهتم جدا بأن تكون ليله عرس يتذكرها الجميع .

وفي المساء التالي تم عقد القران وسط العشرات من الزغاريد ، وكان احساس خيري بالسعاده غريبا جدا عليه ، فهو لم يحس بالسعاده منذ فترة طويله ، فأحساس السعاده دخل نفسه ووجد نفسه غريبا وسط احاسيس الحقد والكراهيه والانتقام التي تملئ جوارحه لدرجه ان خيري الف تلك الاحاسيس وتعود عليها واصبحت جزءا منه ، لذلك كان احساس السعاده غريبا عليه ، لكنه ترك هذا الاحساس يتجول داخله في سعاده وتركه يملئ كل جوارحه في شوق الظمأن وسط الصحراء .

 

بعد ثلاثه ايام من زفافه علي محبوبته ، غادر خيري منزله بملابسه العسكريه عائدا الي وحدته ، فقد امضي ثلاثه ايام في الجنه كما احس ، كانت سعادته بزوجته تعادل سعادته بعودته الي وحدته ، فيا له من تناقض غريب مؤلم ذلك الذي يحس به وهو يركب العربه تجاه محطه القطار ، فكيف يتساوي لديه الاحساس بالجنه والنار ، كيف يتساوي احساس السعاده والكراهيه داخله ، كيف تحول خلال عامين من انسان مسالم الي شخصيه تحمل حقدا وكرها لا نهايه له .

 

احس بالسعاده تنسحب من داخله تدريجيا كلما أقترب من السويس ، وعندما دخل ضواحي السويس عاد احساسه كمقاتل كما كان ، فرائحه القتال التي كاد ان ينساها تعبئ جو المدينه ، وسرعان ما اختفت ذكريات الثلاثه ايام الماضيه مع كل خطوة يخطوها تجاه الجزيرة ، وعادت ذكريات الشهداء والمصابين والحرب مرة اخري الي ذاكرته بعد ان انزوت لثلاث ايام

 

وعلي شاطئ الخليج كان الخبر القاسي ، فقد رحل الريس غريب الي جوار ربه الليله الماضيه ، وتأثر خيري جدا بهذا الخبر فالريس غريب كان بالنسبه له ولزملائه في الجزيرة رمزا كبيرا في الوطنيه والاخلاص للبلد والتضحيه بنفسه وباللنش لكي يوصل الامدادات للموقع .

هام خيري في تفكيرة وهو يعتلي مقدمه اللنش ، فكل من حوله يقابلون ربهم سريعا واصبح لقب شهيد او مرحوم يقترن بأسماء كثيرة لاناس أكل وشرب معهم بل وقاتل معهم ، وما من صداقه في الدنيا اقوي من صداقه الحرب والدم ، لكنه تعود علي ذلك منذ أستشهاد محمد ، فأي صداقه مع زميل مرفوضه تماما من عقله وقلبه والحدود لا تتعدي زماله السلاح فقط ، لكنه في نفس الوقت كان يحس داخليا بحب قوي لكل رفاقه في الموقع ، حب طاهر جامد صلب لا يتأثر بالقتال ،  وتعود علي سقوط  الزملاء شهداء حوله في اي وقت ، وكثيرا ما فكر في دورة ومتي سيأتي الدور عليه لكي يلحق بهم ، لكنه كان دائما يحس بالخوف عندما يفكر في مكانه بطابور الشهداء ، ليس الخوف من الموت في حد ذاته رغم ان الموت يرعب اي فرد ، لكن خوفه كان في ان يموت بدون ان يؤدي واجبه تجاه ربه وبلده ومحمد ، ورغم انه لم يستطع تعريف الحد الذي يرضيه ، ويقول وقتها لنفسي انني اديت واجبي ، الا ان ذلك لم يقف امامه كثيرا ، فعشرات او مئات الطائرات المعاديه المحترقه بمن فيها لن ترضي نفسه ولن تكون معادله لشعرة من شعر محمد او الرائد منعم او اي جندي او ضابط اخر استشهد وهو يقوم بواجبه في صد العدوان عن بلده واهله .

فور ان وطأت قدمه الموقع ، وجد خيري زملائه يلتفون حوله ويحتفلون به وبزواجه ، وتعالت التعليقات من الرجال

والتف حوله رفاقه يغنون له فرحين بعوده زميلهم العريس الجديد ، ورغم انه كان متجهما فور نزوله من اللنش ، الا ان احتفال جنود الموقع به ، أضفي نوعا من البهجه علي نفسه اعادته الي وقت الزفاف ، وبعد دقائق كان خيري يدلف الي الملجأ ليضع حاجياته ، ففوجئ بصندوق هدايا من تلك التي يحضرها الدمنهوري لكنه اكبر حجما قليلا ، فتبسم خيري سعيدا بأن الدمنهوري لم ينساه ، فتح العلبه ليجد قطعه مستطيله من القماش الاصفر الفاقع ، يتخللها حروق في عده اماكن ، ونقش علي طرف القطعه رقم 101 ، أمسك خيري تلك القطعه الملساء ناعمه الملمس وهو يفكر في ماهيتها ، وتاه في التفكير للحظات ، ثم فتح المظروف المعتاد الموضوع بالصندوق ، لكنه وجد في المظروف مع ايصالات استلام المرتب ، وجد خطابا ، وعندما فتحه لاحت الابتسامه السعيده علي وجهه فورا ، فبالخطاب وجد تهنئه من قائد التشكيل ومن الدمنهوري نفسه بالزفاف ، وتوضيح بأن قطعه القماش الصفراء ما هي الا كوفيه طيار اسرائيلي اسقطه خيري فوق خطوطنا ، وان هذه الكوفيه هي هديه زواج الجيش الثالث له ،وان سبب هذه الهديه لخيري انه اسقط احد طياري النخبه الاسرائيلي والمعروف بالسرب 101 .

أمسك خيري الكوفيه واعتصرها عصرا بيده ، فمنذ وقت قريب كانت تكلل عنق طيار اسرائيلي ، كان يتباهي بها وهو يسير وسط زملائه في المطار وخارجه ، وربما كان يعرضها لاصدقائه ايضا متفاخرا بانه من النخبه ، كان فخورا بها بأنه ذاهب لقتل المصريين ، وها هي الان في يد من أسقط هذا القاتل المغرور ، ها هي الان في موقع الجزيرة الخضراء لكن اين الطيار ؟ واين طائرته ، فالطيار الان جثه متفحمه ، وطائرته عادت الي اصلها كمئات الالاف من القطع الصغيرة التي يصعب تميزها .

كانت هديه بالغه المعني من الدمنهوري وقياده التشكيل ، فقرر خيري ان يرسلها الي زوجته لتحتفظ بها ، وغير ملابسه وارتدي ملابس القتال والخوذه وامسك بسلاحه وغادر الي حيث يقف مدفعه شامخا ، وفور اعتلائه المدفع واحتلال مركزه عليه ، تلقي عده قفشات متتاليه من وحيد ضحك علي اثرها الجميع .

وفور انحسار موجه الضحك ، امسك خيري في المقود وهو يفكر في احساسه وفي كفاءته متسائلا اذا كان زواجه واحساسه القصير بالسعاده سيؤثر علي ادائه ، فهل أطفئت تلك السعاده بركان الغضب والحقد داخله ؟

اسئله كثيرة توالت علي عقل لا يكل ولا يمكل من التفكير العمل ، وكان نتيجه تفكيرة ان الغارة الجويه القادمه ستكون الجواب المثالي علي كل شكوكه وهواجسه .

 

مر وقت بدون غارات وفي هدوء كامل علي الموقع وحل فصل الشتاء مبكرا وكانت بوادره انه سيكون شتاءا قاسيا ، فأخذ خيري أحتياطاته مبكرا ، واستعد بملابس ثقيله بجوار المدفع ، ما لبست ان تطورت الي عدد من البطاطين ثم اعلن خيري استسلامه للبرد القارص ونزل الي الملجأ يلتمس الدفء في اوقات الراحه ، ومني نفسه بعدد من الغارات تعيد الدفء الي اوصاله .

عادت الغارات مع نهايه عام 1969وعاد خيري للقتال بكل كفاءه وعادت ثقته مرة اخري لنفسه وهربت الشكوك منهزمه امام طلقاته المحكمه وتصويبه الرائع .

لم يفهم احد من الضباط او الجنود سبب اختلاف وتيرة هجمات العدو  ففي اوقات تكون شديده جدا واوقات تكون خفيفه واوقات اخري يمضي الموقع اياما بدون ان يروا طائرات العدو في السماء، ولم يكن عند الدمنهوري اجابه شافيه تريح الرجال ، وايضا احتار الرجال في موضوع فتحه خيري في احد جلسات السمر في حضور الدمنهوري والرائد مصطفي ،

حيث لاحظ خيري ملاحظه جديرة بالدراسه ، الا وهي ان مستوي الطيارين الذين يهاجمون الموقع مختلف ، فتارة يكونون شديدي الخبرة والكفاءة ويكون من الصعب جدا عليه وضع ايا منهم في دائرة تصويبه ، وتارة اخري يكونون عديمي الكفاءة وكأنهم لازالوا طلبه ، فيكون من السهل اصابه اكثر من واحد في الغارة الواحده .

ولم يكن لاحد اجابه عن تساؤلات خيري والذي نضج كجندي دفاع جوي متمرس لديه خبرة كبيرة بطائرات وتكتيكات العدو لكن اجابه تساؤلاته لم تكن الا علي الجانب الاخر من القناه حيث قيادات العدو .

وعاد الهدوء لفترة اخري علي الجزيرة لكن لم تتوقف طائرات الاستطلاع المعاديه عن التحليق لاستطلاع الجزيرة ، فقد كان العدو متوقعا ان يتم ادخال وحده صواريخ الي الجزيرة ، ورغم ان القياده المصريه فكرت في ذلك الا انها عدلت عن ذلك لصغر حجم الجزيرة ولكي لا تكون مبررا لتزايد الهجمات مرة اخري علي هذا الموقع المعزول .

 

ودق جرس الانذار في احد الايام المشمسه من شهر نوفمبر عام 1969 ، وبدأ الضرب المدفعي ضد طائرات العدو المغيرة بشده علي الموقع ، ووسط عبارات التكبير والتهليل والتشجيع من الرجال ، توالت طلقات المدفعيه لفترة طويله  تزود عن سماء الجزيرة ذلك الموت القابع في السماء والذي يحاول بشتي الطرق اسكات الموقع ، ونجحت احد الطائرات في اسقاط قنبله بجوار شاطئ الموقع ، وادي تأثير تفريغ الهواء الناتج من الانفجار الضخم الي انقلاب احد المدافع علي جانبه ، وكان طاقمه من الرجال حديثي العهد بالقتال ، فهرع الرائد مصطفي يقود جماعه الاصلاح لعوده المدفع الي مكانه والقتال مرة اخري حيث لم يصاب بأي اضرار ظاهرة وعلي الرغم من بساطه الموقف الا ان الرائد مصطفي فوجئ بأحد الجنود يمسكه في ملابسه وهو في حاله صدمه صائحا فيه بحده (( قولي هنا يا فندم ، احنا بنصلي وهما لا ، احنا بنصوم وبنقرأ قران وهما لا ، يعني احنا مؤمنين وهما كفرة ، ليه ربنا مخليهم يضربونا كده )) تقدم الشاويش عباس لكي يرفع ايدي الجندي عن القائد الا ان الرائد مصطفي واقفه صائحا في الجندي بكل قوة (( عايز تعرف ليه يا فندي ، عشان هما بيشوفوا شغلهم كويس وسيادتك قاعد تعيط))

وازاح يديه من علي قميصه ولم يترك له فرصه للرد او المجادله ،  وارتقي المدفع الذي عاد الي مركزة وبدأ في الضرب

بنفسه علي طائرات العدو المغيرة ، ولم يتمالك الجندي نفسه من هذا الموقف وبدأ يغالب دموعه  وهو يسلم الذخيرة الي المدفع لكي يقوم قائده بالضرب عليه بنفسه .

وبعد انتهاء الغارة الفاشله للعدو ، عاد الرائد مصطفي الي مقرة والجندي خلفه يحاول ان يعتذر لقائده ، وتوقف القائد مكانه صائحا في الجندي (( انت اللي عملته ده يخليني احاكمك عسكريا واضربك بالنار كمان ، عشان انت عرضت الموقع كله للخطر ، انت مكانك مش هنا ، انا عايز هنا رجاله مش عيال )) ثم انصرف بينما ظل الجندي واقفا في ذهول وصمت .

 

ومع حلول الليل كان هذا الحدث هو محور الحديث بين الجنود الذين اتفقوا علي تفويض الشاويش عباس في التحدث مع القائد محاولين استسماحه في العفو عن هذا الجندي ، وفوجئ الشاويش عباس برد القائد المتسامح جدا ، فهذا الحدث يمكن ان يحدث لاي فرد لم يكتسب خبرة قتال بعد ، لكنه اصر علي ان تعنيف الجندي بهذا الشكل كان ضروريا لكي لا يتكرر هذا الموقف مرة اخري من اي جندي ، وحمله تحذيرا لاي جندي سيتراخي عن تأديه واجبه ، سيواجهه عقوبات قاسيه تصل الي الاعدام .

وفي الخامس من ديسمبر وبعد ما يقرب من شهر من الغارات المتقطعه بدأ العدو غارة مكثفه وبعدد كبير من الطائرات احصاها عبد الحميد بثمان عشر طائرة تهاجم الجزيرة في وقت واحد ، وعلي شاطئ  مدينه السويس وقف عدد من الجنود يشاهدون في تعجب هذا الكم الكبير من الطائرات يدور في حلقات حول الجزيرة التي اختفت خلف نيران المدفعيه المضاده للطائرات ، ومن خلفهم عدد من اهل السويس والذين لاحظوا ما يحدث .

كان من الواضح ان الامر قد صدر من القياده الاسرائيليه بإسكات هذا الموقع للابد ، وتوالي الضرب من الدفاع الجوي ، وكان خيري مندهشا من هذا العدد الكبيرمن الطائرات

كان مشهدا رهيبا ما يحدث علي الارض او في السماء ، حيث يضرب رجال المدفعيه بغزارة ضد اهداف مختلفه، ففي لحظه يصوب خيري علي طائرة ويجد طائرة اخري تقفز داخل دائرة تصويبه وتخرج سريعا ، لم يكن من السهل علي الرجال التعامل مع هذا العدد الغير معهود من الطائرات فوقهم ، وادرك الملازم احمد ذلك فأمر رجاله العاملين علي الرشاشات الثقيله والمتوسطه بالضرب ضد الطائرات المنخفضه للمساعده ، وبعد لحظات من بدءهم الضرب  شاركهم باقي جنود المشاه في الضرب برشاشاتهم الصغيرة ، في تلك اللحظات لم يكن هناك فرد لا يقاتل في الموقع حتي الضباط منهم فقد تعاملوا بأسلحتهم الشخصيه وتم اطلاق عدد من الصواريخ المضاده علي الدبابات  .

نظر خيري بنظره خاطفه خلفه فوجد كل رجال المشاه يصوبون سلاحهم تجاه طائرات العدو ويطلقون نيرانهم في غضب فزاد معدل ضربه فقد كان الجميع يعلم ان تلك المعركه مختلفه وانها معركه حياه او موت لكل منهم ، وتزايد الغضب وقرر الجميع بالاجماع وبلا اتفاق ان النصر لا بد وان يكون حليفهم .

وبرز ذلك الجندي الذي اشتبك وهو منهار مع الرائد مصطفي منذ شهر ، برز في تسديداته السريعه المحكمه والتي صدت طائرات العدو ونال ثناءاَ سريعا من  قائده ، اما خيري فقد غير ماسورة مدفعه مرتين اثناء الاشتباك لاعنا تلك المواسير التي لا تتحمل الضرب المكثف وكان تجاوب رفاقه معه سريعا في عوده المدفع الي الاشتباك فورا ، لم يكن هناك مكان في السماء يمكن ان تعبر منه الطائرات المعاديه من كثافه تلك النيران.

 

تابع وحيد طائرة ميراج معاديه تنفصل تجاه السويس وتنخفض وتستدير عائده الي الموقع ، فحذر خيري علي الفور، وتجاوب خيري معه سريعا وزاد من معدل الضرب تجاهها ، وظل يطلق نيرانه حتي اصابت احد الطلقات خزان الوقود الاضافي في بطن الطائرة ، وانفجرت الطائرة علي مسافه قريبه من شاطئ الجزيرة ، وتطايرت الاف الشظايا منها لتصيب احدها كتف بولس والاخري ساق عبد الحميد ، وتندفع مقدمه الطائرة محترقه علي سطح الماء وتنقلب عده مرات بسرعه كبيرة حتي تتوقف بجوار مدفع خيري بقليل

ويغالب بولس وعبد الحميد اصابتهم الطفيفه ويعود المدفع الي معدله العالي مع صياح خيري المتوالي في رجاله وتحميسه المستمر لهم  للقتال .

وبعد فترة قصيرة تنفجر طائرة اخري بحمولتها كامله وسط تكبير الرجال بعد ان تلقت عده طلقات من مدفع ثقيل

مر زمن ولم يكن من الواضح متي تنتهي هذه الغارة العنيفه ، حتي الجنود الواقفين علي شاطئ السويس يتابعون الموقف عن كثب انضم اليهم عددا كبيرا من الاهالي وتعالت الدعوات من النساء وسط قلق الرجال ، كان الامر اشبه بمتابعه مباراه مصارعه بين عده رجال وبين رجل صغير ، فكانت الدعوات في اتجاه نجاه الموقع ، وتعالت زغاريد النساء مع تحطم طائرات العدو الاثنتين وانفجارهم المدوي الذي هز الارض تحت اقدامهم علي شاطئ السويس .

وبعد فترة طويله جدا علي الرجال في الموقع ، انسحبت الطائرات الاسرائيليه ، وتذكر خيري قائده السابق الشهيد وهو يأمرة (( اول مدفع يضرب واخر مدفع يضرب)) فأستمر في اطلاق نيرانه وبولس ينصحه بالتوقف وهو يئن من اصابته

حتي خرجت الطائرات من مدي مدفعه ليتوقف عن الضرب ، ويسمع اصوات التكبير والتهليل بين الرجال ، بينما ركع هو علي الارض وسجد لله شاكرا علي النصر في هذه الغارة الفريده والقويه من نوعها ، وشاركه عدد اخر من الجنود في السجود شكرا لله علي توفيقه بينما رفع احد الجنود يديه عاليا حامدا الله .

ووسط التهليل والفرح والاحضان المتبادله من الرجال يأمر الرائد مصطفي الجميع بسرعه حصر الخسائر وتضميد الجرحي واعطاء تمام الاستعداد في اسرع وقت ، ليعيد الرجال الي ارض الواقع مرة اخري .

وعلي شاطئ السويس احتضن الرجال بعضهم البعض في فرح كأنهم هم من كانوا يقاتلون وأستمرت زغاريد النساء تسمع كل السويس لفترة فرحا .

وعلي الفور وصل الموقع برقيه تهنئه من قياده التشكيل الي الرائد مصطفي تثني عليه وعلي رجاله شجعاتهم وكفاءتهم وتطلب منهم الاستمرار في العمل القوي وتكبيد العدو اكبر قدر من الخسائر .

وفي المساء أستطاع خيري اختلاس عده لحظات للراحه والتمشيه قليلا ، فتجول في الموقع بين الجنود المرابطين في تحفز وبين الجرحي الذين يتم علاجهم علي سطح الجزيرة بعد ان اكتظت دشمه العياده بالمصابين ، ويحيي خيري رفاقه ويبث بعض عبارات التشجيع وهو يسير متباطئا والراديو يبث الموسيقي الوطنيه بصوت عال

ويسمع صوتا خافتا من خلفه يقول (( هموتك لو بلغت عني )) فيستدير تجاه الصوت ليجد احد الجنود الجرحي مصابا في ساقه ويستند علي احد الصخور و يمسك بقميص احد رجال الاسعاف وعينيه تحدق في غضب في جندي الاسعاف ، كان الجندي المصاب ضخم الجثه قوي البنيان ذو عضلات مفتوله وكأنه بطل رفع اثقال ويستكمل الجندي المصاب قائلا في نبرة حاسمه

(( سمعتني؟ لو بلغت اني اخرج للعلاج هموتك قبل ما رجلي تخطي برة الموقع ، انا مش هسيب الناس هنا الا علي جثتي ))  ويتلعثم جندي الاسعاف صغير الجسم قصير القامه في رعب خوفا من نظرات الجندي المصاب ولهجته الحاده القاطعه، ويتبسم خيري رغم الموقف الصعب ففي نفس الوقت أعيد اذاعه اغنيه (( ابنك يقول لك يا بطل هات لي نهار ، ابنك يقول لك يا بطل هات لي انتصار)) وتصادف وقت اذاعتها مع هذا الحوار الساخن بين الجندي المصاب وجندي الاسعاف في ترتيب الهي عجيب وكأن هذا الجندي ينفذ تماما ما يطلبه منه اهله ، فهو يرفض اخلائه من الموقع للعلاج ويؤثر ان يستمر مع زملائه يقاتل للوصول الي النصر رغم الموت المحيط بهم ، سار خيري متابعا احوال رفاقه والراديو الخاص به يُسمع كل من في الموقع ، وفجأه ينقطع سيل الاغاني في الراديو ليعلن عن بيان عسكري من قياده القوات المسلحه ، فيصمت الجميع وتنطلق الاذان مرهفه السمع متابعه لما سوف يقال في تركيز ، وجاء البيان عن اعمال قتال اليوم وبه اشارة الي اسقاط طائرتين معاديتين واصابه ثلاث اخري علي مستوي الجبهه ، وخص البيان الموقع ببعض العبارات عن الاغارة علي الجزيرة الخضراء وحيا قتال الرجال ، فتعالي تكبير الرجال عند سماعهم البيان وتعالي بعدها الصياح (( تحيا مصر- تحيا مصر )) ومع كلمات البيان المشجعه والتي تلتها اغاني وطنيه حماسيه ، ترقرقت الدموع مع اعين الرجال في صمت وبعيدا عن عيون الاخرين ، فما تعرضوا له اليوم من وحشيه للعدو كانت تفوق الوصف ، فقد كان الموت فاتحا ذراعيه لهم في اي لحظه ولو ستر الله وتوفيقه لهم في القتال لكان الموقع قطعه صخر صماء غارقه في دماء الرجال ، وعلا صوت المذياع بعد البيان ليشدو صوت عبد الحليم (( جيش الظلام في يوم ما هاجم فجرنا ، جرح السلام زرع الالام في ارضنا ، وقلوبنا داست علي الجراح  وحلفنا ما نسيب السلاح ، الا ان رجعنا بشمسنا ، وضحك لنا تاني الصباح )) وسمع تلك الجمله من الاغنيه الجندي المصاب الذي مر عليه خيري ، قأمسك بقميص جندي الاسعاف مرة اخري وجذبه نحوة صائحا (( سمعت حليم بيقول ايه ؟؟ وقلوبنا داست علي الجراح وحلفنا ما نسيب السلاح ، ... وانت عايزني اروح مستشفي عشان اتعالج ؟؟))

 فهز جندي الاسعاف  رأسه نفيا في هلع  .

أستمر خيري في سيرة حول ارجاء الموقع وهو ممسك بسلاحه الالي بيد والراديو بيد اخري ، وقرب احد اطراف الجزيرة

شاهد عدد من جنود المشاه ينظفون احد الرشاشات الثقيله فتبسم له وحياهم وردوا عليه التحيه .

سار خيري وعينيه تتابع الاستعدادات والتجهيزات لاستقبال غارة جديده للعدو ، وانتهي المسير بخيري بجوار بقايا كابينه  الطائرة الميراج المحطمه، والتي مازال الدخان يتصاعد من اجزاء منها رغم مرور وقت طويل علي تحطمها

وقف خيري وفي يده الراديو ، اقترب خطوات من كابينه الطيار المحطمه وكانت جثه الطيار مازالت داخلها ، فمد خيري يده من خلال زجاج الكابينه المحطم ورفع غطاء الشمس من علي خوذه الطيار والذي يغطي عينيه ، فوجد شابا في اواسط العشرينيات ، ملامحه غربيه كأنه اروبي ، وكان اول انطباع قفز لعقل خيري ان الطيار نائما ، فالاعين مغمضه والملامح مستريحه ، ووبطء نزع خيري خوذه الطيار ليظهر شعرة الاصفر من تحتها ، ثم نزع كوفيه الطيار الزرقاء والمنقوش عليها ايضا رقم 101 فتبسم من داخله فقد قتل حتي الان اثنين من سرب النخبه الاسرائيلي ، فحمل الخوذه والكوفيه عائدا الي الدشمه وهو يفكر في الداعي لكي يرسل الاسرائيليون خيرة طياريهم لتدمير الجزيرة ، فما هي اهميه هذه الجزيرة المتناهيه الصغر لاسرائيل ، فقد عرف انهم احتلوا مساحات تعادل سته اضعاف مساحتهم الاصليه .

وعندما تحدث خيري عما فكر فيه بعد قليل اثناء تناول العشاء ، رد عليه الرائد مصطفي والذي سمع الحوار مصادفه

(( يا خيري اليهود مش عايزينا نحارب ، عايزنا نفضل مستسلمين علي طول ، واول ما بيشوفوا موقع بيصمد وبيضرب ضدهم لازم يعموه ضرب عشان يبطل ، وساعتها الروح المعنويه عندنا هتنهار ومش هنفكر خالص في تحرير الارض ))

فتدخل الملازم اول احمد في الحوار وهو يدخن سيجارة بعد تناوله الطعام (( فاهمين يا وحوش ؟ دي مسأله حرب نفسيه

وكرامه ، يعني هما تعودوا من 67 اننا هنهرب كل ما حد يقرب منا ، ولما الجيش عندنا سمع ان رجاله راس العش صمدوا

معنويات الجيش كلها كانت في السما ، وهما  مش عايزين كده خالص، عايزين نفضل راكعين مستسلمين لهم ومعنوياتنا في الطين وعمرنا ما نفكر نحرر ارضنا ))

 تبسم الرائد مصطفي قائلا (( احنا مع كل طيارة بنوقعها لولاد الكلب دول ، بيرجعوا عايزين ياخذوا بتارهم ، زي ما احنا بناخذ بتار رجالتنا بتوع 67 ورجاله الموقع هنا وتار مصر كلها ، يعني المسأله مش حرب بس ده حقد وكراهيه وتار بايت عمرة ما هيروح ))

قبل اول ضوء من اليوم التالي كان الموقع في حاله استعداد قصوي ، وأمر القائد جماعه الاصلاح بأستخراج الجزء المرسوم عليه نجمه داود من حطام الطائرة ، ووضعه تحت برج الملاحظه تحت علم مصر لكي يشاهده كل من بالموقع .

وبعد ظهور شعاع الشمس بقليل ، وصل للموقع قائد التشكيل يرافقه الدمنهوري وعدد من الضباط وكميه لا بأس بها من الهدايا ، وبينما تكفل عدد من جنود الموقع من تفريغ اللنش من الذخائر والتعيينات التي تصل بأنتظام الي الموقع مع كل زيارة ،

فأن الرائد مصطفي أستقبل زوارة مندهشا بالقرب من خيري والذي سمع قائده يقول لقائد التشكيل

(( يا فندم فيه خطر عليكم هنا ، احنا متوقعين غارات جامده النهارده ))

 فرد قائد التشكيل باسما بأنه يجب ان يكون مع رجاله في اي وقت واي مكان وأردف مازحا

(( هو أحنا برضه مش من حقنا يا حضرات اننا نحارب معاكم ، ولا انتوا عايزين توقعوا طيارات اليهود لوحدكم ))

 وبدلا من دخول القاده الي مقر القياده ، فقد زاروا دشمه العياده لزيارة المصابين وأمر قائد التشكيل بإخلاء الحالات الخطرة الي السويس ، ثم مر قائد التشكيل ومرافقيه علي الجنود ، ولم يتركوا جندي الا وحيوة واعطوة هديه رمزيه

وعندما اقتربوا من مدفع خيري ، هرع خيري فجأه الي دشمته وعاد بخوذه الطيار الاسرائيلي وكوفيه الطيران الخاصه به

وقدمهم هديه الي قائد التشكيل وللدمنهوري ، وسعد الاثنين جدا بهذه الهديه ، وخاصه عندما وجدوا انه طيار سرب النخبه وقال قائد التشكيل لخيري مازحا (( كل مرة اجي هنا يا خيري عايز هديه زي دي )) وضحك كل من حوله عدا خيري

الذي رد (( باذن الله يا فندم وياريت يكون دلوقت )) فضحك القائد بصوت عال واردف واضعا يده علي كتف خيري

(( مش وقته دلوقت ، احنا دلوقت نرقيك الاول لرتبه وكيل رقيب وبعدين نبقي نشوف موضوع الطيارات )) فتبسم خيري وكل من حوله وهم يشاهدون قائد التشكيل يسلم خيري رتبته الجديده وخطاب الترقيه ، بينما قدم الدمنهوري علبه هديه الي خيري مردفا وهو ينظر الي عيني خيري (( هتلاقي فيها بطاريات زياده ، أكيد هتحتاجم الايام الجايه ))

 ووصلت الرساله الي خيري، فالايام القادمه من الواضح انها ستكون حاسمه ، وهم القاده بالانصراف وأمر قائد التكشيل بصرف مبلغ خمسون جنيها لكل جندي تقدريرا لجهودهم ، وقبل ان يهم القاده بركوب اللنش دق جرس الانذار ن فهرع الجميع الي الخنادق ، وتطلعت الانظار الي السماء باحثه عن طيارات العدو القادمه تحمل الموت اليهم .

وجاءت التبليغات من كل افراد الملاحظه بانها طائرة استطلاع علي ارتفاع عال

فتبسم الرائد مصطفي (( الجبنا بيصورونا كل يوم قبل ما يبدأوا ضرب ))

فربت قائد التشكيل علي كتف الرائد مصطفي (( كلها كام يوم ومش هتشوفوا طيارات يهودي خالص ، احنا بس ندخل الصواريخ للجبهه وانتوا ساعتها هترتاحوا ))

فرد النقيب احمد (( مش عايزين نستريح يا فندم ، عايزين نعدي بقي الناحيه التانيه ))

فتبسم الدمنهوري قائلا (( كل حاجه في وقتها يا بو حميد ))

أستدار قائد التشكيل الي الرائد مصطفي قائلا (( يا درش اعمل حسابك ان نص الشهر هيكون فترة حاسمه لكم ، عشان كده عايزك تعمل حسابك وتكمل مرتبات كل الاسلحه اللي عندك وتجهز نفسك لكام يوم نار ))

فتدخل الدمنهوري (( المعلومات اللي عندنا ان القرار صدر من رئاسه الاركان الاسرائيلي بأن الموقع هنا لازم يتشال من علي الخريطه )) تجهم الرائد مصطفي من تلك المعلومات وبدأ عقله يعمل بقوة ، بينما تحمس الملازم احمد جدا لهذا الخبر

 

وبعد مغادره جميع الزوار ومعهم عدد قليل من الجرحي ، أجتمع الرائد مصطفي بحكمداريه المدافع وضباط الموقع وأخبرهم

بالمعلومات التي وصلت اليه ، واخبرهم بأن القتال سيكون مختلفا تماما في الايام القادمه وان الاستعدادات يكون ان تكون في اعلي مستوي لها ، وطلب من كل منهم كشفا بما يحتاجه خلال الايام القادمه ، وكان القاسم المشترك للجميع هو ذخائر اضافيه ، بينما طلب خيري مواسير زياده للمدفع فتبسم الرائد مصطفي قائلا (( المصنع مش ملاحق عليك يا وحش )) وضحك الجميع من مداعبه القائد .

وفور انصرافهم من غرفه عمليات الموقع ، شرع كل منهم في اخبار جنوده بالانباء ، وتعالي الحماس علي الجميع في الموقع بينما الخوف يدق قلب كل منهم مما قد تحمله الايام القادمه .

 

وطوال الاسبوع الذي تلي ذاك الاجتماع  شهدت سماء الجزيرة غارات متفرقه غير كثيفه ، استنتج خيري ووافقه القائد انها غارات انهاك هدفها استهلاك دخائر الموقع ، فصدر الامر سريعا بالاقتصاد في استهلاك النيران .

وخلال هذا الاسبوع استطاع خيري اصابه ثلاث طائرات وكانت هذه اعلي نتيجه له خلال اسبوع واحد

وفي يوم الثاني عشر من ديسمبر 1969 أصاب خيري طائرتين ميراج في غارة واحده ، وفي المساء حضر الدمنهوري حاملا ترقيه اخري استثنائيه لخيري فتم ترقيته لرتبه رقيب ولم يكن قد مضي علي ترقيته السابقه اكثر من اسبوع فقط ، وكانت هذه سياسه الجيش الجديده في تشجيع الجنود علي الاجاده ، ولم يكن للترقيه اي تأثير علي معنويات خيري بالذات

فسعادته الشخصيه عندما يري طائرات العدو تهوي محترقه او علي الاقل يتصاعد منها الدخان دليل علي اصابتها .

وأقترب الموعد الذي حدده قائد التشكيل كأيام حاسمه ، وشاهد الجميع في الموقع امدادات يوميه تقريبا تأتي علي غير العاده ، ومع اقتراب الموعد زادت وتيرة الهجمات الجويه من اول ضوء الي اخر ضوء ، فأخرج خيري الراديو الصغير ووضعه علي المدفع ليبث الاغاني الوطنيه والمارشات العسكريه طوال اليوم .

وعلي شاطئ السويس تعود عدد من الاهالي والجنود علي متابعه الغارات اليوميه علي الجزيرة ، وسط دعاء وقلق بالغ

 

وجاء يوم السابع عشر من ديسمبر يوما شتويا باردا ملبدا بالغيوم وموج عال في مياه الخليج وايضا مفاجئا الرجال بغارة لم يسبق لها مثيل بعدد اربع وعشرون طائرة اسرائيليه من انواع مختلفه أي ان العدو كلف سربين كاملين من اسرابه القاذفه للقضاء علي الموقع ، وتحول القتال الضاري بين الطائرات وبين المدافع الي تحدي خاص ، فمع تساقط الشهداء من قنابل طائرات العدو يستميت الرجال في القتال علي الارض اكثر واكثر ، ووسط انين المصابين والشظايا المتطايرة في ارجاء الموقع يغير خيري وبولس ماسورة المدفع مرة اخري ، ويعود المدفع للضرب بصورة هيستريه ، فالطائرات في كل مكان وجميع الجنود مشتبكين بكل ما يتسير لديهم من سلاح ، ومع مرور الوقت تأتي طائرات اخري لتستكمل الغارة بينما تعود الطائرات الاولي لقرب نفاذ الوقود ، ويبدو في الافق ان الغارة لن تنتهي وان العدو مصمم علي القضاء علي الجزيرة

ويتذكر خيري الرائد منعم وهو يشد ازرهم فيكرر خيري قول قائده صائحا في سماء الجزيرة ويُسمع صوته عاليا صارخا بين الحين والاخر (( يا رجاله أفتكروا ، لاخر طلقه واخر راجل )) فيزداد حماس الرجال ومع كل طلقه يردد (يارب) طالبا الغوث والتوفيق من الله ، وتختفي السماء والسحب من سماء الجزيرة ويحل محلها دخان طلقات المدفعيه ، وتسقط قنبله يراها الجميع تسقط بالقرب من احد خنادق المشاه ، وتهتز الجزيرة في عنف وترتفع درجه الحرارة فجأه ويحس بها الجميع من تأثير الانفجار والنيران ، ويسقط الملازم اول احمد شهيدا ومع سته من جنوده وهو يقاتل طيران العدو ، ويتعالي الحماس من الجميع مع تردد صوت الرائد مصطفي (( هاتوا ابن الكلب اللي موت أحمد )) وتزداد كثافه الضرب اكثر واكثر

ويمر الوقت والعدو يأبي ان يترك سماء الجزيرة ، ويتلقي القائد مكالمات دعم وتحفيز من قياده التشكيل ، ويطلب القائد دعما جويا من قيادته لكن الرد كان بالا يتوقع دعما جويا هذا اليوم ، فالقوات الجويه مشتبكه مع طيران العدو في قطاعات مختلفه .

ارتفعت الشمس الي كبد السماء وبدأت في الاتجاه للغروب ، والغارة لم تنتهي بعد ، وبين فترات التقاط الانفاس القليله النادرة ، لابتعاد طائرات العدو قليلا او انتظارا للغارة التاليه ، كان خيري يحاول التقاط انفاسه ويجول ببصرة سريعا حول الموقع الذي تعرض للقصف طوال اليوم ، فيجد جماعات الاسعاف منتشرة في كل مكان دليل علي كثرة الاصابات ، جماعه الاصلاح تحاول اصلاح احد المدافع سريعا ، ثم يعودوا للاشتباك ، الوجوه يملئها غبار المعركه والاعين تنطق تصميما ووعيدا للعدو ، ومع بدء الضرب مرة اخري بعد توقفه لحوالي الدقيقه ، يستمر خيري في الضرب بكثافه وسرعه ،

 ويصيح عبد الحميد في خيري وسط اصوات الانفجارات (( أهدي شويه يا خيري احنا مش قادرين نلاحق عليك ، انت ضارب سبعه الاف طلقه لغايه دلوقت ))

ومع استمرار الغارة كان خيري قد اصاب حتي الان طائرتين واصابه اخري غير مؤكده ، لكن طائرات العدو تملئ دائرة التنشين ولا مجال للتأكد او التدقيق ،

وتنبه خيري الي شئ لفت انتباهه جدا ، فأذنه تلتقط اصوات مدافع الموقع بطريقه مختلفه ، فصوت دفاعات الموقع والذي ليد موسيقي مميزة في اذنه قد اختلف تماما عن صوته في بدايه الغارة ، فلابد ان عددا من المدافع قد تعطلت او دمرت ، فزاد معدل ضربه أكثر ، وجاهد الرجال حوله في امداده بالذخيرة ومتابعه الضرب ، ومع مرور الوقت خفت اصوات المدافع اكثر واكثر حتي وصل قرب المغرب الي ان مدفعه فقط هو الذي يطلق نيرانه بعد ان توقفت باقي المدافع عن الضرب ، ولكي لا يتيح فرصه للعدو لملاحظه ذلك واستغلال الفرصه فقد زاد معدل ضرب نيرانه اكثر لدرجه ان عددا من جنود المدفعيه الاخرين هرعوا لمساعده طاقم المدفع الوحيد الذي يدافع عن سماء الموقع ، وللمرة الثالثه يقفز من مدفعه وبيده العاريه يغير ماسورة مدفعه التي انصهرت تماما ولم تصبح صالحه لاي استخدام ، وتحترق يديه ويتأكل اللحم بدون ان يشعر بشئ فقد كان همه الوحيد حمايه الموقع ، وكأن روح الرائد منعم تناجيه يقفز خيري علي المدفع وهو يتمتم (( تمام يا فندم لاخر طلقه واخر راجل )) ويستكمل ضربه حتي غربت الشمس وانسحبت طائرات العدو بعد ان فشلت تماما في اخضاع صمود الموقع وكسر دفاعاته.

وبعد توقف الضرب واطلاق جرس الامان ، ينهار طاقم المدفع علي الارض يحاولون التقاط انفاسهم من عناء يوم لم يمر عليهم من قبل ، وبينما استند خيري علي المقود يلتقط انفاسه المتتابعه ، يأتيه صوت عبد الحميد لاهثا متقطعا

(( احد عشر الف طلقه يا مفتري )) ويتبسم خيري علي استحياء ، فهو رقم اكبر بمراحل عن اي رقم سمعه من قبل علي طلقات اطلقها مدفع علي الجبهه ، ووسط بعض الامطار الخفيفه ، جلس الرجال علي الارض منهكين تماما ومن حولهم  جبل من فوارغ الطلقات وعددا كبيرا من صناديق الذخيرة الخاليه .

وبعد لحظات يسأل خيري (( هيه المدافع وقفت ضرب ليه بدري ؟؟ )) فيرد عثمان احد حكمداريه المدافع والذي هرع لمساعدتهم في نهايه الغارة بعد توقف مدفعه (( المدفع رقم 3 بقي في سوي الرصيف اخذ قنبله مباشره علي نافوخ العيال اللي عليه.... الله يرحمهم ، ورقم 4 الطاقم بتاعه استشهد كله كمان والمدافع 2 و5 و6 عطلوا وقت غارة العصر  ، ورقم واحد انفجرت طلقه جوه الماسورة زي ما سمعت ونص الطاقم  مصابين ومكنش فاضل غيركم هنا ))

فيقول وحيد وهو يسند رأسه علي احد الصخور الناريه (( هنعمل ايه بكرة ؟؟ دا احنا كده اتكسحنا ))

وينظر خيري تجاه قائده مستشفا ما قد يقوم به  فيجده يمر علي المصابين وقد لف رأسه بعدد من الضمادات الطبيه .

 

وبعد دقائق يبدأ الجنود في اكتشاف حجم الخسائر ، فالشهداء اكثر من خمس وعشرين ما بين ضباط وجنود والمصابين بالعشرات منهم الشاويش عباس .

ويرسل القائد تقريرة التفصيلي الي قياده التشكيل منوها بدور خيري والملازم اول شهيد أحمد

وتأتي اشارة من القياده وينتشر خبرها وسط الجنود كالنار في الهشيم مفاد الاشاره

(( البحر العال ويتعذر ارسال امدادات لكم هذه الليله ..... الله معكم ))

ثم تلاها اشارة اخري بترقيه خيري ترقيه استثنائيه ثالثه خلال اسبوعين الي رتبه رقيب اول ، والتي لم يفرح بها تماما او يتأثر بها وكأن تلك الترقيه تخص شخصا اخرا .

ويسقط في يد الجميع ، فالظروف قد تهيأت كلها لكي يقوم العدو غدا بتدمير الموقع واكتساح دفاعاته واعلان انتصارة

لكن خيري لم يقبل الواقع المر ويصيح في الرجال بكل حماس كأنه قائد عظيم (( يا رجاله هنحارب ومش هياخدوا الموقع))

ويقابل صيحته فتور من الرجال العالمين بصعوبه الموقف فيهرع الي حيث المدافع المعطله

 

ووسط البرد القارس وقطرات المطر المستمر في هدوء ، يبدأ خيري بكل حماس في اصلاح المدفع الاول ويعاونه رجال من جماعات الاصلاح ، ويمر الوقت ولا يحسب احد الوقت ، فالغد يحمل لهم موت مؤكد بدون مدفعيه مضاده للطائرات يمكن لطائرات العدو ان تفعل ما تشاء ، وينجح الرجال في اصلاح ثلاثه مدافع قرب الفجر تقريبا ، لترتفع قوة نيران الجزيرة  الي اربع مدافع فقط أي نصف القوه الفعليه ، لكنها مازالت في موقع اقل ما يقال عنها انه موقف خطير .

 

أشرق صباح الثامن عشر من ديسمبر مشمسا دافئا ، ومع اول ضوء وعلي الفور أستطاعت قياده التشكيل دفع لنش يحمل كما من الذخائر مع وعد بسرعه تدبير مدافع وافراد لكي يتم تدعيم موقف الموقع .

رفعت امدادات الذخيرة من معنويات الرجال ، وطالب خيري بأن تكون الذخائر أقرب ما تكون الي مدفعه فتمتم عبد الحميد

(( ناوي علي ايه يا خيري )) فيرد خيري بقوة (( مش ناوي اخليهم يقدروا علينا ))

وبنظرة سريعه الي قائده في مركز القياده المتقدم والذي تهدم جزء كبير منه ، تابع خيري قائده للحظات فوجده متوترا للغايه ويدخن سيجارته في عصبيه .

كان الرائد مصطفي يعلم ان موقف الموقع صعب للغايه في ظل الاصابات التي لحقت به ، وكان يعصر عقله عصرا محاولا

إيجاد طريقه لرفع درجه النيران خاصه بعد ان اعلمته قياده التشكيل بعدم وجود دعم سريع فيما يخص المدافع المدمرة.

 

وكان الموقف مشابها في قياده الجيش الثالث ، فالمطلوب امداد الجزيرة الخضراء بأربع مدافع مضاده للطائرات لكن لا يوجد وسيله لنقل تلك المدافع التي جري سحبها من احد التشكيلات علي الفور وتجميعها قرب شاطئ الخليج تمهيدا لنقلها ، وحيث ان قارب هيئه قناه السويس الثقيل معطل ، فأنه لا توجد وسيله لنقل تلك المدافع ، فأسقط في يد القياده تماما وعجوزت عن ايجاد حل سريع لانقاذ الموقف ، فعامل الوقت ليس في صالحهم .

وكم كان قائد الجيش وقائد التشكيل منهمكين في ايجاد حل لهذا الموقف ، وتدخل احد اركان قائد الجيش مقترحا النقل الجوي رغم خطورته ، الا ان قائد التشكيل اخبره بأن المدافع كبيرة عن ان تسعها الطائرات ، فعادوا لنقطه الصفر مرة اخري ، الي ان صاح قائد الجيش غاضبا (( يعني هنسيب الرجاله كده هناك لوحدهم ؟؟))

وتوالت الاقتراحات ، وتسأل قائد التشكيل عن القوات الجويه ودورها في دعم الموقع ،رد قائد الجيش بأن القوات الجويه منهكه في الدفاع عن المطارات والقواعد الجويه وان تخصيص قوة من المقاتلات تستطيع التصدي لاعداد طائرات العدو الكبيرة سيكون خطيرا جدا لانه سيعرض باقي المطارات للخطر المحدق

اما  خيار الانسحاب المؤقت فقد كان  مستبعد تماما من الدراسه حيث ان موقف القياده العامه واضح وصريح في هذا الشأن بان القتال يكون لاخر طلقه واخر رجل وعدم الانسحاب من اي مواقع مهما كانت صغيرة او غير مهمه ، ولم يتبق غير خيار القتال بما هو موجود ، وعندما سمع الدمنهوري نتيجه الدراسه ووجد ان الجزيرة علي شفا الغرق ،قال لقائد الجيش

(( من المحتمل ان ينقطع الاتصال معاهم في اي لحظه زي ما بيحصل كتير ، انا هاخذ عربيه ومعايا لاسلكي  وهكون علي الشط وعلي اتصال دائم مع سيادتك )) وصدق القائد علي اقتراح الدمنهوري والذي كان يحس بأنه يجب ان يكون اقرب ما يكون من رجال الموقع ، وتمني لو استطاع ان يلحق بلنش الامدادات الذي ابحر فور اعتدال حاله البحر .

 

اما علي الجزيرة فكان الوضع عبارة عن حاله ترقب دائم فور اشراق الشمس ، وكم تمني الجميع لو ان الشمس لم تشرق في ذلك اليوم ، ليس خوفا علي ارواحهم كما قال وحيد ووافق بولس ، لكنه الخوف من ان يسقط الموقع في يد اليهود ، فهو بيتهم وارضهم وشرفهم ولن يتركوه الا وهم موتي ، فقد علموا ما يمثله هذا الموقع بالنسبه لشعب مصر ، ولم يستطع أحد ان يتخيل صدمه الشعب لو سقط الموقع الذي أصبح يمثل لهم صمود مصر كلها كما قال عبد الحميد .

 

صلي خيري ورفاقه الصبح في خشوع تام ، ودعا خيري ربه كما يفعل في كل صلاه بأحدي الحسنتين ، النصر او الشهاده

وبعد ان فرغ من صلاته بدأ في اعاده التأكيد من جاهزيه مدفعه وجال بعينيه في ارجاء الموقع مرة اخري ، فبين شكائر الرمل المتنثرة علي جانبي الخنادق يقبع رجال المشاه القليلين المتبقين ، وعلي اعينهم علامات الارهاق والقلق واضحه جدا ، بينما سار بينهم الشاويش عباس رابطا ساقه وهو يبث فيهم الحماس ، وتابع مئات الطلقات الفارغه التي تملئ ارجاء الموقع ، ووصل بصرة الي حيث المدفع رقم واحد والذي يقف وماسورته كالورده المتفتحه بالضبط ، واشار له زميل علي مدفع مجاور بعلامه النصر فرد له التحيه وأستمر يجول ببصرة في انحاء الموقع وكأنه يريد ان يحفظ تلك الصور في عقله

شاهد احد جنود المدفعيه ممسكا بصورة  في يده يقبلها ، فتذكر صورة محمد المتشحه بالسواد ومع بدء تذكرة لذكرياته الجميله مع محمد وقصه استشهاده بدأ شريط الذكريات سريعا في تذكر عشرات الشهداء الذين سقطوا حوله وبالقرب منه ، وتذكر تلك الذراع المحروقه التي ظلت ممسكه بمقود المدفع حتي اخر لحظات صاحبها حتي الموت وتذكر زميله شديد وقائده منعم والجندي عماد والملازم احمد وبدأ الشريط يعرض صورا عديده لشهداء ومصابين كثيرون جدا قاتلوا حتي اخر لحظه ، لم يهربوا ولم ينسحبوا بل قاتلوا طمعا في نصر يبدو الان بعيدا جدا ، وطاف خيال زوجته بمخيلته ، وتبسم عندما تذكرها معه في تلك الايام الثلاث التي اعقبت الزواج والتي اعتبرها اسعد ايام عمرة ، وتمني بكل شده ان يعود حيا في تلك اللحظه لكي ينجب ولدا واثنين وثلاثه يكونوا ضباطا في الجيش ليدافعوا عن بلدهم كما يفعل هو .

 

في تلك اللحظه وفي احد القواعد الجويه في سيناء المحتله قبعت طائرات تحمل نجمه داوود اللعينه ، وهي تحمل الموت تحت أجنحتها انتظارا للاقلاع ، وبجوار احد الطائرات وقف عدد من الطيارين يتدارسون هجمتهم القادمه ، وكان واضحا القلق والخوف علي العيون ، ثم مر عليهم قائد السرب ودار بينهم حديثا سريعا ، سرعان ما انصرف بعده كل طيار الي طائرته يتأكد من جاهزيتها .

 

وعلي شاطئ الخليج وقف الدمنهوري بنظارته المعظمه يراقب الجزيرة والتي تبدو له مثل الخط الاصفر الرفيع فوق صفحه المياه الزرقاء ،ورصد علم مصر واضحا خفاقا فوقها في شموخ ، ثم جاءته اشارة لاسلكيه بأن الرادارات قد رصدت اقتراب اهداف جويه معاديه وانها في اتجاه الجزيرة الخضراء ، فبدا القلق يتسرب الي عقله بسرعه وهو يدعو الله ان يمر هذا اليوم العصيب علي الرجال بسلام .

 

علي الجزيرة كان الوضع مازال متوترا في العقول والقلوب ، وبينما خيري يضبط مؤشر الراديو ليلتقط ارسالا أوضح

ودق جرس الانذار معلنا اول غارات اليوم ، وتم رصد اربع طائرات معاديه ، وبدأ اطلاق النيران بغزارة علي الطائرات ، والتي القت كل ما تحمله تجاه الجزيرة ، وانقجرت جميع القنابل حول الموقع في الماء نتيجه عدم دقه تصويب الطائرات بينما انفجرت احداها علي الشاطئ البعيد في تجمع للمدافع المدمرة ، وعادت ادراجها سريعا وسط تعجب الرجال علي الارض من تلك الغارة الساذجه .

لم يتحرك الرجال من أماكنهم ولم يفرح احد ، فاليوم مازال في بدايته والطائرات المعاديه لابد وان تعود حامله الموت للرجال ، نظر الرجال لبعضهم البعض لتحميس بعضهم البعض ، واشار خيري لاحد حكمداريه المدافع بأشارة معينه فهمها الاخر ، فالتنسيق بين المدافع الاربع اصبح امرا لا يحتمل اي تأخير ، فلو حدث خطأ او ارتباط لفتحت في سماء الموقع ثغرة يستطيع ان يدخل منها العدو والقاء قنابلها .

 

عاد الانذار مرة اخري ليدق بعد ربع ساعه معلنا عن اغاره اخري للعدو ، وتم رصد اثني عشر طائرة تقترب واضعه الشمس في ظهرها ، احصي عبد الحميد ست طائرات فانتوم ، وبهت الجميع عندما خرجت كلمه فانتوم من فم عبد الحميد فهم يعلمون كميه القنابل التي تحملها تلك الطائرة القاذفه المقاتله والتي تبلغ سبع اطنان من القنابل اي ما يعادل حموله سبع طائرات مصريه قاذفه ، وفكر خيري سريعا فلو طائرة واحده من الفانتوم اخترقت الدفاعات لانتهي الامر في ثوان

وتذكر تهكم وحيد عندما علموا بحموله الفانتوم من الدمنهوري عندما قال (( دي طيارة واحده منهم لو رمت قنابلها علينا هنرجع السويس طايرين ))

نظر خيري تجاه الطائرات القادمه وبدأ في الضرب السريع عليها بمساعده بقيه المدافع ، وفور بدءهم الضرب استطاع خيري اصابه طائرة فانتوم قبل ان تقترب من هدفها ، وكم كان منظرا رائعا للرجال وهم يرون الفانتوم وهي تدور حول نفسها محترقه وهي تسقط بزاويه حاده تجاه مياه الخليج لتنفجر علي صفحه المياه .

ويأتي صوت الرائد مصطفي صائحا من بعيد وصت اصوات الضرب (( تسلم ايدك يا خيري ، هو ده الشغل ))

 

بينما الدمنهوري علي شاطئ الخليج يعتصر فلتر السيجارة بأسنانه وهو يري المعركه تدور امامه بدون ان يستطيع ان يساعد ، كل ما يمكنه هو الدعاء ، وسرعان ما تجمع الناس بجوار الدمنهوري كعادتهم في تلك الايام لمتابعه المعركه والدعاء للرجال المقاتلين  

 

 

 

وبدأ الراديو يذيع اغنيه البندقيه لعبد الحليم حافظ ، وهي من الاغاني التي عشقها خيري جدا ، فسعد بهذا الترتيب الالهي

وفي كل فاصل بين طلقات خيري يعلو صوت الراديو ليسمعه طاقم المدفع واضحا يشدو بأسم مصر

ويشير خيري لاحد جنود المشاه بالاقتراب ويأتي الجندي مهرولا وسط الغارة المستمرة ووسط الضرب المستمر

ويصيح فيه لابلاغ القائد  (( خليك ورا الفانتوم ، هيه اللي عايزة تخش )) وتصل المعلومه في ثوان الي جميع المدافع ، حيث ان جميع الاتصالات بين القائد وبين رجاله قد تقطعت اثناء الغارة السابقه وتم الاتفاق علي وجود عساكر اتصال بين المدافع وبين قائدهم ، فتجد الجندي يجري من مدفع لاخر ثم للقائد ويعود وهكذا ، كل ذلك وسط الشظايا الساخنه المتطايرة في كل اتجاه والتي تحمل الموت او البتر .

وتدخل طائرة ميراج دائرة نيران خيري ويسقطها في سرعه ومهارة ، لكنه يبحث عن الفانتوم التي تدور من بعيد محاوله اختراق الدفاعات ، ويأتيه من القائد (( سيب طيارات للناس التانيه ولا ناوي توقع كل الطيارات لوحدك )) فينظر خيري للقائد فيجده مبتسما مداعبا ، واشار له خيري بأشارة النصر .

وعلي شاطئ الخليج يبلغ الدمنهوري قيادته (( الموقع وقع تاني طيارة – ربنا معاهم ))

 

وترتد طائرات العدو لمسافه ، ويصيح خيري وهو يقفز من فوق مدفعه (( غطوني )) فيهرول الجندي للمدفع المجاور لكي يغطي مكان مدفع خيري الذي بدأ في تغيير ماسورة المدفع التي قاربت علي الانصهار

وبينما يصعد علي مدفعه يخرج صوت عبد الحليم

(( بلادي – بلادي – بلادي – انا نار تحرق اعاديكي ))

ويعلو تعليق وحيد (( الله عليك يا حليم ))

ويعود خيري الي الضرب مرة اخري بمعدل عال جدا ضد طائرات العدو ، وبينما طائرات العدو تأبي ان تترك الموقع الا ارض ميته ، تلتقط اجهزة التصنت بقياده الجيش حديث احد الطيارين مع قيادته

الطيار- ((من الصعب الوصول الي درجه تصويب محكم ، الريح عاليه هنا ، واي قذف من ارتفاع عال سيكون فاشل ، هؤلاء المصريين الملاعين لا يمكن الدخول وسط نيرانهم ، اطلب الاذن بالعوده – حول ))

وبعد فترة صمت جاءه الرد من القياده (( أستمر في القتال ، يجب القضاء علي كل من الجزيرة اليوم – انتهي ))

 

وبينما يتوقف خيري للحظات لكي تبرد ماسورة مدفعه قليلا يعود صوت عبد الحليم مدويا

(( بلادي – بلادي – بلادي – انا دمي نيل يرويكي  ))

وتستمر الغارة بشده ، وتنفجر احد القنابل علي الشاطئ بصوت مدوي ويسكت معها صوت احد المدافع ويلتقط خيري ذلك باذنه ويزيد من معدل نيرانه ويصرخ فيمن حوله بسرعه تلقيم الذخيرة ، وها هي طائرة تسقط محترقه من جراء دفعه مركزة من احد المدافع ويعلو صوت خيري صارخا بكل ما اوتي من قوة (( الله اكبر يا مصر )) فطائرات العدو لا تكف عن الضرب حوله ، ومن خلفه رجال المشاه والرائد مصطفي يتابع خيري ، الموقع كله يتابع خيري وهو يقاتل بكل خلاياه .

 

وفي السويس يكاد قائد الجيش ان يقفز من مكانه غاضبا لاعنا ، فالرادارات  تلتقط موجات متتابعه من طائرات العدو تتجه نحو الجزيرة .

ورغم اسقاط طائرتين للعدو الا ان الغارة مازالت مستمرة وهاهي الثالثه تنفجر في الجو بما تحمله ، ويهلل الجميع في الموقع ويشتبك التكبير من الرجال مع طلقات المدافع المتبقيه ، وينسحب ما تبقي من الفانتوم بحمولته الكامله .

وبدأ الرجال يلتقطون انفساهم قليلا لكن ذلك لم يستمر كثيرا ، فالفانتوم انسحبت ليدخل مكانها تشكيل من طائرات سكاي هوك الاخف وزنا واكثر مناورة .

ويعود صوت عبد الحليم مع توقف الضرب لثوان

(( بلادي – بلادي – بلادي – مين غيري اللي هيفديكي ))

ويختفي صوت الاغنيه خلف طلقات صوت طلقات خيري التي خرجت لتعلن للوجود ان الموقع لن يسلم ولن يموت

لكن العدو الذي رضع مكرا وفطم علي الخداع ادرك ان دفاعات الجزيرة ليست بنفس القوة التي كانت عليها

فتحمس اكثر لكي يقضي نهائيا عليها في ذلك اليوم ، وتلقي طائرة بقنبله ثقيله من مسافه بعيده ، يرصد خيري القنبله ويحاول التصويب عليها بدون جدوي لتسقط خلف مركز القياده مباشرة وتنفجر لتهتز الجزيرة في عنف ويسقط الرجال من علي مدافعهم ويتوقف الضرب لثوان فالانفجار كان قويا، وسط الدخان الذي غلف الموقع ظهر صوت عبد الحليم مرة اخري

(( بلادي – بلادي – بلادي – هستشهد فدا اراضيكي  ))

في نفس اللحظه كان العديد من الرجال يقابلون ربهم في اطهر وانبل ما يكون اللقاء ، فقد سقط جزء من برج الملاحظه وتهدم مركز القياده المتقدم ، وانهارت دشمه العياده علي من فيها من جرحي وافراد اسعاف .

وبعد ثوان من الصمت يعود خيري للضرب مرة اخري وسط الدخان الاسود الكثيف لكل بدون احكام تصويب ، ويسمع صوت مدفع اخر يضرب معه فيزيد من نيرانه .

وعلي شاطئ الخليج يتصل قائد الجيش من غرفه العلميات ومعه قائد التشكيل ويستفسر عن الموقف ، فقد انقطع الاتصال مع الموقع ويرد الدمنهوري (( قنبله تقيله ضرب وسط الموقع بس خيري لسه بيضرب )) لا يعلم الدمنهوري لماذا كان مدركا ان مدفع خيري هو الذي  مازال يضرب تجاه طائرات العدو ، لكنه احساس قوي جدا

 

مازال خيري يطلق نيرانيه طوال الفترة الماضيه وقام بتغيير ماسوره مدفعه مره اخري ، وتأكد مع انقشاع الدخان انه تبقي مدفع اخر فقط معه للدفاع عن الجزيرة ، وطائرات العدو تأبي ان تترك سماء الموقع ، وتعالي صياح رجال المشاه في خيري لتحميسه ، واشتبكت عبارات الحماس مع عبارات الاشاده من الرجال ، وترقرقت الدموع من طاقم المدفع عندما أدركوا انه تبقي لهم في الدنيا ساعات ان لم تكن دقائق وكان كلماتهم اثناء الضرب تحمل نفس الاحساس ، فكل منهم يوصي الاخر بوصيه ينقلها لاهله ، ويأبي خيري ان يتلقي وصيه أحد ويصيح بصوت مسموع (( الشهاده يارب ))بينما عينيه لا تفارق دائرة التصويب وقدمه لا تكف عن الضرب

وعلي الطرف الاخر من الخليج وقف الدمنهوري وحوله العشرات من اهالي السويس يتابعون الجزيرة التي اختفت وسط الدخان والنار التي تملئ كل جناباتها .

أستمرت الغارة ساعتين كاملتين بلا توقف ، وخيري ورفاقه يستميتون في الدفاع عنها كأنها اخر موقع في مصر ، كانت هذه هي الروح التي ظهرت بعد النكسه والتي ولدت مقاتلين مؤمنين أقوياء مدربين جيدا علي اسلحتهم ، خلال الغارات صمت المدفع الاخر ، وتبقي مدفع خيري فقط يصدح بكل قوة ومن خلفه الرجال يشدون من ازر الرجال ، وتعاون رجال المشاه في امداد المدفع بالذخيرة

 

وأستغلت طائرات العدو ضعف دفاعات الموقع وبدأت في الهجوم الغاطس من ارتفاع عال واطلاق نيران مدافعها علي الموقع بصورة عشوائيه

وفجأه علا صوت الراديو مرة اخري ، لكن هذه المرة دب الفزع في كل اوصال خيري ، فهو لم يتوقف عن الضرب فلماذا توقف المدفع عن الضرب ؟، ادار عينه سريعا علي اجزاء المدفع فوجدها سليمه لكنه احس أيضا بسخونه في اعلي ساقه ، فنظر فأذا ساقه قد بترت من فوق الركبه من احد الشظايا المتطايرة ولم يحس الا مع توقف مدفعه عن الضرب .

تسمرت نظرات خيري ورفاقه علي باقي ساقه التي القيت فوق رمال الجزيرة بجوار المدفع ، الا ان خيري وبعزيمه واصرار عجيب ، انحني وبدأ يضرب بيده بينما يده الاخري تمسك بالمقود ، وذهل كل من يشاهد هذا المشهد ، فأحساسه بالغضب والحقد والكراهيه ورغبته في الانتقام والشهاده طفت علي اي احساس اخر بالالم يمكن ان يحس به .

 

واصل الضرب المتقطع وهو يصيح (( الله اكبر – الله اكبر – تحيا مصر ))

لم يكن من الممكن ان يحل احدا محله في ذلك التوقيت وسط طلقات طائرات العدو وقنابله التي انهمرت بغزارة ، فخرجت طلقاته متقطعه تائهه لكنها تعلن للعدو ان الموقع حي وان رجاله لن يستسلموا بأي حال من الاحوال، ومن خلفه كانت نظرات الاسي والتعاطف تضخ من عيون رجال المشاه لكنهم يعرفون خيري جيدا انه مقاتل لا يستسلم ابدا  ، فواصلوا دعمه وتشجيعه

(( اضرب يا خيري ، اضرب يا وحش ، ماتخليهومش يقربوا منا ))

 

دارت احد طائرات العدو بالقرب من الجزيرة وهو ما لم يكن ممكنا لو كان خيري في حالته ، كانت الطائرة قريبه جدا لدرجه انه خيل الي خيري ان الطيار ينظر له ويبتسم ابتسامه المنتصر الشامت ، فتعالي الغضب داخله وانفجرت كل خلايا جسده تحاول  ان تعمل بأكبر قدر ، وزاد معدل الضرب بينما النجمه السداسيه اللعينه ظاهرة لكل من في الموقع علي جناح الطائرة

 

في تلك اللحظه كان الدمنهوري علي اتصال بالقياده شارحا لهم ما يراه بنظاراته وكان علي يقين تام ان خيري هو من يقاتل الان طائرات العدو ، وكل من في غرفه عمليات الجيش تدعو للموقع بالنجاه ، فقد طغي احساس اليم بالعجز علي كل القاده جعلهم لا يملكون الا الدعاء .

 

دارت الطائره الاسرائيليه اللعينه حول الموقع وارتفعت لتبدأ هجومها ، ومن خلفها طلقات خيري ، ادرك طاقم مدفعه ان تلك الطائرة تحمل لهم الموت المحقق لكن احدا منهم لم يهرب او يحتمي ، بل استمروا في العمل وفي توجيه خيري وتحميسه

، ودارت الطائرة دورتها الكامله وتلاقت عيني خيري والطيار وكل منهم يحمل الموت للاخر ، مع الفارق الرهيب ان شهدائنا في الجنه وموتاهم في النار

الطائرة تقترب في سرعه واصبع الطيار مستعد علي زر الضرب ، وطلقات خيري تنفجر من حوله والعيون متقابله تحمل حقدا وكرها متبادلا ، وضغط الطيار مبتسما علي زر الاطلاق وسقطت القنبله وارتفع بطائرته خارجا من دائرة النيران .

 

شاهد الجميع القنبله تسقط وكتموا انفاسهم ، استمر خيري في الضرب علي الطائرة غير عابئ بالقنبله المتجهه له ، وفجأه يحس براحه غريبه وسكون عجيب ، مدفعه مازال يضرب والطائرة المعاديه تصاب في مقتل وهي تحاول الهرب ، لكن فجأه برزت امامه صورة محمد وسط السحاب ، لكنها ليست صورته المتشحه بالسواد في منزل عمه ، انها صورة محمد يبتسم له فاتحا ذراعيه راحه عجيبه تملئ كل جوانحه في صمت عجيب ملئ الموقع وبينما يده تطلق النيران بصورة اليه ، تختفي صورة محمد لتظهر له محلها صورة زوجته تحمل طفلا علي يدها وهي مبتسمه فيتعجب مما يراه وفجأه تختفي كل الصور والمشاهد والمدفع والجزيرة والحرب والدنيا كلها من امامه ، فقد انفجرت القنبله في مدفعه مفجرة المدفع ومحوله كل من عليه الي اشلاء ومخلفه انفجارا رهيبا وفجوة كبيرة بين الصخور .

 

وعلي الشاطئ الاخر شاهد الدمنهوري الانفجار وتبعه توقف الطلقات المضاده للطائرات ، فسقطت دموعه رغما عنه فقد ادرك ان خيري ورفاقه قد استشهدوا ، ووسط صدمه كل من حوله من اهالي السويس ، امسك بسماعه اللاسلكي وابلغ قيادته بأن دفاعات الموقع الجويه قد توقفت تماما .

نكس قائد الجيش وضباطه رؤسهم في حزن ، فهم يعلمون ان ارواحا كثيرة قد لاقت ربها في تلك الدقائق .

 

لكن الجزيرة لم تسقط رغم تدمير دفاعاتها الجويه ورغم غارات العدو الجويه التي استمرت فترة ضد كل شئ في الجزيرة

لم تسقط الجزيرة لان رجالها لم يتركوا طائرات العدو تنال من عزيمتهم او صمودهم ، صمدت الجزيرة حتي المغرب حيث بدأ تدفق الامدادت تحت جنح الليل ، وطبقا لاوامر القياده العامه للقوات المسلحه ، فقد تم تجميع قوات بديله لقوة الجزيرة ، واثناء الليل بدء تدفق الامدادات بغزارة وساعد علي ذلك هدوء حاله البحر .

 

كان الدمنهوري اول من نزل علي الجزيرة باسما كعادته من الخارج ، رافعا معنويات الرجال ، مشجعا ومشيدا بهم

كان اول انطباع له ان الموقع ضرب بسلاح نووي للدلاله علي حجم الدمار والخراب الذي حل بالموقع ، فبرج الملاحظه مدمر وكذلك مقر القياده المتقدم وعدد من الخنادق ردمت تماما ، وتدمرت ملاجئ اطقم المدافع وميس الطعام والعياده

وتناثرت اشلاء الشهداء في كل مكان ، كان المتبقي عددا قليلا من الجنود واطقم المدافع المصابين ، ومازال دخان الحرائق يتصاعد من بين فجوات القنابل وحرائق الدشم ، ورائحه البارود تملئ الجو ، فور نزوله علي الجزيرة تبعه عده جنود مهمتهم اخلاء الجرحي للنش سريعا ، تبعه عده لنشات تحمل جنودا ومدافع تبعا لاوامر القياده .

وبينما يصافح الدمنهوري الناجين من الغارة ، كان وجهه مبتسما لهم لكن عقله كان باحثا عن شخص بعينه ، لم يجده بين الاحياء او بين المصابين ، فسأل عنه وجاءه الخبر ، ومع الخبر قصه استشهاده خرافيه بالتفصيل لتطفو الدموع علي عينيه وتنهمر وهو يسمع كيف قاتل وكيف استشهد ، واضاف الجنود واصفين ما حدث بكل تفصيل ، واقسم احد الجنود انه لم يكن يصدق ذلك لولا انه رأه بعينيه ، ورغم كل احزانه الداخليه  الا ان الدمنهوري ابتسم قائلا (( محدش يموت كده الا خيري ))

 

وقرب منتصف الليل رفع الرجال بقايا مدفع خيري من المياه الضحله وبجوارة وجدوا جثه خيري طافيه ، وعلي الفور أخبروا الدمنهوري فركض سريعا الي حيث اشار الجندي وبدأ مع الجنود  يسحب الجثه من المياه ، ووضعه علي ظهرة علي الشاطئ ، وتفحص الدمنهوري ملامحه في صمت وخشوع ، فملامح خيري مبتسمه وعينيه تبرق كأنها تشاهد شيئا جميلا خلابا ووجه أبيض كالثلج ، فتساءل الدمنهوري في نفسه عن الذي رأه خيري في اخر لحظاته ليترك هذا الانطباع الرائع علي وجهه ، وبهدوء اغلق عينيه وهو يقرأ الشهاده بصوت مسموع ثم نزع السلسه التي تحمل رقمه العسكري ، وامر بأن يلف جسده بعلم مصر .

 

بعدها بدقائق تم استخراج بقايا جثث عبد الحميد وبولس ووحيد وتم اخلائهم الي اللنش سريعا مع رفاقهم الاخرين .

في اليوم التالي كان قرار الدمنهوري امام قائد الجيش (( انا اللي هبلغ اهله ، دي اقل حاجه لبطل زي خيري ))

وانطلق الي عزبه المراكبيه يحمل معه بقايا متعلقات خيري ، ويفكر بالطريقه التي سيبلغ بها اهله وخاصه زوجته التي لم تتزوج الا لثلاث أيام فقط ، لم يكن يعرف ماذا سيقول او كيف ، او بماذا سيبدأ  ..............................

 

مرقت السيارة الي داخل عزبه المراكبيه وسأل السائق عن منزل خيري واشار له احد الفلاحين الي الطريق ، وبعد لحظات توقفت السيارة امام المنزل ، كان عم خيري هو اول من شاهد السيارة العسكريه وبعدها زوجته من نافذه المنزل ، لم يكن الامر يحتاج الي قول أي شئ ، فالقدر كان رحيما بالدمنهوري .

فتح العم باب المنزل ودخل الدمنهوري صامتا ، ووقف بعد الباب بخطوة كأنه يأبي ان يدخل ،وخرجت الام من احد الحجرات مستفسرة عما يحدث ، بينما الدمنهوري يمد يده بحقيبه خيري، لم يتمالك العم نفسه ولم تحتمله قدميه فسقط جالسا علي احد الارائك صامتا ممسكا بالحقيبه ، جال الدمنهوري بعينه سريعا في انحاء المنزل بينما العم يمسك بالحقيبه ويحتضنها في صمت ، لمح خيري فتاه في اوائل العشرينات فلابد انها زوجه خيري  وهذه السيده العجوز المستفسرة والدته ،

بينما صورة خيري علي الحائط بملابسه العسكريه وجوارها صورة متشحه بالسواد ، (( اذن هذا الشهيد محمد )) هكذا قال عقل الدمنهوري

فيالحظ هذا البيت الذي يخرج منه اثنين من الشهداء الي الجنه

كانت اعين الزوجه والام متستفسرة حائرة صامته خائفه مما سيقوله لسان الدمنهوري ، وعندما رأو دموع العم وهو ممسك بحقيبه خيري ، دارت الدنيا بزوجته وحاولت ان تستند علي الحائط فأطاحت يدها بقنديل معلق علي الحائط ، فسقط متحطما علي الارض ، وجلست هي تمسك ببطنها في حنان ، فأدرك الدمنهوري علي الفور بأن هناك جنينا ينمو في احشائها ، بينما سقطت الام علي الارض مصدومه غير مصدقه ما لم يقله الدمنهوري ، فهرع اليها الدمنهوري ليسندها لتقوم ، وبينما يساعدها سألته بصوت مبحوح

(( يا بني هو مش كده برضه خيري يبقي شهيد ))

كان سؤال الام قاسيا وخارقا لكل دفاعات الدمنهوري الذي يحاول ان يكون متماسكا لابعد حد ، ففتح يد الام المكلومه ووضع بها سلسله الرقم العسكري في راحه يدها ، فسألته مرة اخري

فرد بصوت  لا يكاد يخرج من حنجرته (( ايوة يا حجه ، خيري شهيد بأذن الله )) فنزلت دمعه سريعه من عينيها ورفعت يدها المرتعشه تجاه فمها واطلقت زغروده مبتورة انتهت بسرعه

ومن بين زغروده الام وبكاء الزوجه ، أجتاح الدمنهوري رغبه رهيبه في الهروب من المنزل ، فهو في موقف لا يستطيع تحمله وسط حاله الصدمه .

 

قالت الزوجه وسط دموعها المنهمرة وبلهجه يملئها التحدي والانتقام والرغبه في الثأر وهي تضع يدها علي بطنها

(( بأذن الله أبنه هياخذ بتارة وتار خاله وتار مصر كلها ))

كان ذلك قاتلا للدمنهوري ، كل ما يريده هو الخروج من المنزل ، وبصوت خافت استأذن للانصراف ، وبينما يهم بالانصراف أمسكت الام يده بقوة وسالته (( هو انت كنت تعرفه يا بيه ؟؟؟))

 

حدق في وجهه الام ومسح عده قطرات دمع ملئت وجهه ليفكر في الرد ، أراد ان يقول لها نعم ، كنت اعرفه جيدا ، وانه هو الذي صدق علي زواجه وتابع ترقياته وكان يعرف كل شئ عن محمد ، فعمله يحتم عليه معرفه كل شئ عن خيري ،

 لكنه وبصوت منكسر حزين قال لها (( لا يا حاجه للاسف مكنتش اعرفه ))

وانطلق خارجا من المنزل والالم يعتصرة ، وامر السائق بأن ينطلق بينما الدمع ينهمر من عينيه في هدوء مبللا نافذه السيارة .

 

النهايه

 

احمد عبد المنعم زايد

7 يوليو

2005

 

Share
Click to listen highlighted text! Powered By GSpeech