Click to listen highlighted text! Powered By GSpeech
Get Adobe Flash player
مستمرين معاكم بإذن الله 2008-2024 **** #لان_لجيشنا_تاريخ_يستحق_أن_يروي **** ***** إنشروا تاريخنا وشاركونا في معركة الوعي **** تابعونا علي قناة اليوتيوب 1100+ فيديو حتي الان **** تابعونا علي صفحات التواصل الاجتماعي** أشتركوا معنا في رحلاتنا لمناطق حرب أكتوبر **** يرجي استخدام خانة البحث **** *** تابعونا علي تليجرام - انستجرام - تويتر

روايه ثمن الحريه - الجزء الأخير

قصة محارب صغير حقق نصراً كبيراً

تأليف: أحمد العباسي

 

 

 

إهداء..

إلى ذلك البطل الذى صنع المعجزات رغم صغر سنّه؛ وحقق وحده ما ظنّ العدو أنّه من صنع كتائب الصاعقة المصرية، ووصل بإيمانه وذكائه إلى قلب مواقع العدو ليفجرها تحت سمعه وبصره ... ذلك البطل الذى لم يبخل على الوطن حتى بعينيه .....

الجزءالاخير

الامتحان

يد قوية انتزعته من مكانه ثم دفعته لجنديين ضخمين كجنود العمليات الخاصة، فحملاه من ذراعيه وسارا به دون أن تلمس قدماه الأرض .. كان الأمر مؤلمًا بعض الشئ، لكن مُحمّد تحمّل حتى لا يشمتوا فيه، وبعد قليل ألقوا به فى غرفة بها ما يقرب من خمسة أجهزة، علم فيما بعد أنّها جميعاً مخصصة للتعذيب، كانت الغرفة تبعث على الرهبة، يشعر من يدخلها بغربة مصاحبة لبرودة تسرى بداخله، ويزيد من هذا الإحساس ذلك الماء الذى يُغطىّ أرضية الغرفة.

 جلس مُحمّد على مقعد خشبى أمام رجل، سلط على وجهه منذ جلوسه ضوءًا مبهرًا وبدأ يسأله بعربية ركيكة

-         هل تعمل مع الجيش المصرى؟

-         لا.

-         هل سبق وأمسكت سلاح فى حياتك؟

-         لا؟

-         ما سر الإصابات الموجودة فى ساقك.

-         شظايا من لغم أثناء لعبى مع أخى.

-         هل أطلقت النار على جندى إسرئيلى من قبل؟

-         لا.

-         هل تحب الإسرئليين؟

-         لا.

-         لماذا؟!

-         لأنّهم قتلوا أخى.

-         هل ستتعاون معنا.

-         فى ماذا؟!

-         تقول ما تعرفه عن الصاعقة المصرية، التى تأتى إلى عمق سيناء.

-         لا أعرف أى جنود.

-         إذاً أنت لست متعاونًا.

-         لا أعرف أي شئ.

-         سأجعلك تعرف.

كانت الجملة بمثابة إشارة للحارسين للإمساك بمُحمّد، ثم بدأ تعذيبه .. كهرباء . مواد كيماوية على يديه، جلد بالسوط، منعه من النوم أو الأكل أو الشرب، وسائل عديدة وقاسية، لكنها جميعاً فشلت فى جعله ينطق بحرف واحد.

توقف الحرّاس عن تعذيبه، ثم حملوه مرة أخرى إلى كهف، اخبروه أنّ اسمه هو كهف الجحيم. وهناك وجد أنّ اسمه هذا لم يأت من فراغ، فلقد كان الكهف موحشًا، به أدوات تعذيب تبدو أكثر تمزيقًا للأجساد وفتكًا بها، لكن الأكثر إيلاماً هو ذلك الشاب المُعلّق فى سقف الكهف، من أحد أقدامه، وقد أخذ وجهه ينزف دمًا رأى محمد ذلك في الضوء الخافت الذي سُمح له بدخول الكهف.

 

كهف الجحيم

 مرّت أيام لم يعرف مُحمّد عددها، كل ما يعرفه هو فتات خبز عفن، يقدمه إليه جندي ،إلي جانب وجبات أخري عديدة من التعذيب والاستجواب، كان الصمود هو السمة السائدة فيها ... لكن في أحد الأيام دخل أحد الضباّط إلي الكهف، ثم أنّزل مُحمّدا والشاب المعلق من قدمه، ثم قدم لهم طعامًا يبدو شهيًا، وسط دهشة مُحمّد ورفيقه، لكنهما لم يستطيعا مقاومة الرائحة الشهية للطعام، وبعد أن تناولا الطعام سألهما الضابط إن كانا يعرفان سبب إحضاره لهذا الطعام؛ فلم يجد إجابة فقال للرجل: "إنّكم في مصر تسألون المحكوم عليه بالإعدام عمّا يريد قبل تنفيذ الحكم " ثم صمت للحظات مرت كالدهر قبل أن يستطرد موجهًا كلامه للشاب: " لقد حكمت عليك بالإعدام، ورأيت أنّ أُقدّم لك وجبة شهية"

ذرف مُحمّد الدموع قبل أن ينهض ليقئ كل ما أكله، في حين بدا الإحباط الشديد علي زميله الذي ظل يأكل، وكأن الأمر لا يعنيه، وسط سخرية الضابط وبكاء مُحمّد، ثم غادر الضابط معلناً أنّه سيُنفّذ حكم الإعدام بعد نصف ساعة.

 ظل الصمت هو المتحدث الوحيد لمدة ربع ساعة، قبل أن يأخذ الرجل المحكوم عليه بالإعدام نفساً عميقاً ثم يهمس لمُحمّد:

-         أنا ميت ميت، لكن لديّ أسرارًا خطيرة، أريد إيصالها للجيش المصري.

-         أسرار؟

-         نعم فأنا ضابط مقاتل في الفرقة التاسعة عمليات خاصة، هل تعرف أحدًا من رجالها؟

-         لا.

-         هل تعرف أيًا من رجال القوات الخاصة أو العملاء، إنّها معلومات غاية في الأهمية، وأنا سأموت ... ولا أريد أن تموت معي.

فكّر مُحمّد للحظات، ثم تذكّر كلام ذلك الشاب الذي أخبره أنّ الصهاينة لا يفعلون شيئًا إلا بتخطيط، ثم سأل نفسه عن سبب إحضاره لهذا المكان، فلم يجد إجابة شافية، ما حدث معه كان من الممكن أن يحدث معه في المعسكرات أو حتي في الزنزانة، وهنا أدرك مُحمّد أنّه فخ نُصب له بعناية

ناداه الأسير مرة أخرى بتوسل

-         أرجوك سأموت، هل تعرف أحدًا؟

-         لا.. لا أعرف أحدًا، ولن أستطيع مساعدتك.

 قالها مُحمّد بحسم، وهنا دخل الضابط الاسرائيلي، لُيخرج مسدسه، ثم يُطلق رصاصة علي صدر الأسير؛ فينطلق الدم غزيرًا من صدره ويفارق الحياة.

 شعر مُحمّد بالأسي يعتصر قلبه علي هذا الشاب الذي قتله الأعداء بدم بارد، ثم شعر بتأنيب الضمير؛ لأنّه تخاذل عنه ولم يسمع سرّه ليُوصله لزملائه، لكن كل هذه المشاعر ما لبثت أن تبددت وذلك بعد أن دخل أحد الجنود بعد ما يقرب من نصف ساعة وجذب الشاب القتيل من ملابسه باستهانة، لكن قوة ملاحظة مُحمّد مكّنته من رؤية شيئين، الأول هو ذلك الكيس الموضوع داخل ملابسه والمملوء بسائل أحمر يشبه الدم، والثاني هو صدر الشاب الذي يعلو وينخفض، ما يدل أنّه يتنفس، وهنا حمد مُحمّد الله علي أنّه لم يقع في هذا الفخ المحكوم بدهاء.

 

الفرج

 أنفه ينزف، ويده تقطر دمًا، وعددًا من ضلوعه يؤلمه، هذا بالضبط ما كان يشعر به مُحمّد حينما اصطحبه الضابط ذا الملامح المصرية واللغة العربية، كان شعورًا باليأس من الخروج من هذا الكابوس في وقت قريب قد بدأ يدب في نفس مُحمّد، وحينما كان الضابط يمسكه من ذراعه بعنف وينقله من كهف الجحيم إلي زنزانة انفرادية مرة أخري حدث مالم يتوقعه مُحمّد، إذ مال الضابط قليلاً نحوه وهو يهمس

-         يبدو أنّك عانيت كثيراً من هؤلاء الوحوش.

-         تتحدث وكأنّك لست أحدهم.

ضحك الضابط مجلجلاً، فزاد غضب مُحمّد وحنقه من السعادة التي يبديها الضابط، لكن هذا الأخير عاد يهمس ثانيةً

-         إنّك لم تسألني عن اسمي.

-         وبما سيفيدني هذا؟ الكلب كلب حتي لو كان اسمه أبو السباع.

 عاد الضابط يضحك مجلجلاً، وكأنه أحد أبناء الصعيد، ثم قطع ضحكته فجأة ورسم علي وجهه الجديه وهو يقول

-         لست أبو السباع ولكن اسمي فرج، وأنا لست عدوًا ولكنّي صديق لك وللضابط خالد.

 خفق قلب مُحمّد وهو يسمع اسم الضابط خالد لكن سرعان ما عاود الحذر

-         أنا لا اعرف عمّن تتحدث.

-         هل سينجح الفأر وعملية مخزن الذخيرة في تذكيرك؟

-         ماذا ؟

 قالها مُحمّد بدهشة حقيقية.

-         لا أريد منك سوي الصبر، وسنقوم بإخراجك من هنا قريباً إن شاء الله.

 وصل الضابط بمُحمّد الي المبني ليُسلمّه إلي جندي آخر أمسكه بعنف؛ ليُلقي به في الزنزانة الانفرادية الضيقة، لكن مُحمّد لم يكن يشعر بضيقها، أو بأنّه وحده، كان يحس أنّ هناك من يفكر فيه ويسعي لنجدته.

 

 

الصفقة

دخل الشيخ عبدالرزاق إلي المعسكر وسط أربعة من الجنود الصهاينة، وبعد تفتيشه بدقة، تم إدخاله مع الضابط "فرج" إلي قائد المعسكر، حيث رفض الشيخ الحديث إلاّ معه شخصياً، وأمام القائد وقف الشيخ عبدالرزاق يبكي علي الظلم الذي لحق بابنه، وكيف أنّه يحاول منذ أن فقد ابنه الأصغر إبعاد مُحمّد عن أي شيء خطر، وبالتالي ما كان ليسمح له بقتال الاسرائيليين.

 لم يبد القائد أي تأثر بكلام الشيخ، وإن كان عقله قد عمل في الاتجاه الذي يريده الشيخ، وهنا دلف هذا الأخير لصميم الموضوع، حيث أخبر القائد عن رغبته في إبرام صفقه معه، يدله بموجبها علي مكان مخزن للذخيرة من مخلفات الجيش المصري، وهو ما يعّد بالنسبة للجيش الاسرائيلي صيد ثمين، حيث اعتاد الفدائيون علي استخدام مثل هذه المخازن في هجماتهم علي اليهود.

اقترب الشيخ من القائد الذي سرعان ما تحسسّ مسدسه، خاصةً أنّ الشيخ كان يُقلّب في ملابسه، وتبدّد قلق القائد حينما قدّم له الشيخ عملة ذهبية ضخمة، لم يتمالك القائد نفسه أمامها، حيث أمسك بها، ولعابه يسيل علي قيمتها التي لا تُقدّر.

 ابتسم القائد وهو يدس العملة في جيبه، وأشار للضابط أن يصحبه للإفراج عن ابنه، بعد أن يتأكد من موضوع مخزن الذخيرة.

 

بداية جديدة

 كانت السماء أصفي من كل يوم، والشمس تحنو علي الأشجار بأشعتها الدافئة، والشيخ عبدالرزاق يقف أمام المعسكر، يُمنّي نفسه بلقاء قريب مع ابنه الحبيب، انفتح الباب ليدخل معه شعاع أمل الي قلب الشيخ، وما لبث أن خرج مُحمّد للنور مرّة أخري.

 كانت محنه بكل معاني الكلمة، لكنها أيضاً صقلت شخصية مُحمّد وعزيمته، وفي الطريق للبيت شكر مُحمّد أباه علي ما فعل، وواسي الأب ابنه علي ما حدث له، لكن ظل الاثنان طوال الطريق يتناقشان في أمر مخزن الذخيرة، محاولين الوصول إلي مبرر له.

 لم يكن الشيخ بالتأكيد يعرف مكانه، لكن أحد الرجال آتاه قبل يومين، ليُخبره بأمر المخزن ثم أعطاه العملة الذهبية، وطلب منه أن يقوم بما قام به، ظلّ الاثنان طويلا يحاولان حل لغز هذا الرجل، إلي أن وصلا إلي البيت، وهناك كانت الإجابة.

 لقد كان الضابط خالد في انتظارهم بالقرب من الدار، يرتدي ملابس البدو ويجلس بجوار جمله، وبعد أن تعانق الجميع، وحمد كلاً منهم الله علي سلامة الآخر، ودخلوا إلي الدار ليتحدثوا بحرية أكبر، ويتناقشوا فيما حدث، وربما فيما سيحدث.

 كان الأعياء واضحًا علي مُحمّد، ونظرات خالد ترعاه في شفقة، وكلماته تبث في روحه الطمأنينة، التي افتقدها لأيام وليالي.

 قطع الشيخ عبدالرزاق الصمت سائلاً خالد عن مخزن الذخيرة، وكيف أنّهم سلمّوه لليهود بهذه البساطة، رغم أنّهم كانوا في حاجة إليه، أوعلي الأقل كان يجب إخلاء جزء منه، ويسلمونهم الباقي.

ابتسم خالد من كلام الشيخ ،الذي آلمه وصول الاسلحه للأعداء -حتي لو كان ذلك سينقذ ابنه- ثم شرح الأمر قائلاً إنّ الأعداء يعرفون هذا المخزن لكنهم تركوه ليكون فخًا للفدائيين، فهم يرصدونه حتي إذا همّ أحد بأخذ أي قطعة سلاح منه يلقون القبض عليه، ولأنّنا قمنا بالإبلاغ عنه فهو لا يشكل مكسبًا حقيقيًا لهم.

 صفّق مُحمّد علي ذكاء الضابط خالد، وهنا تنهد الشيخ عبدالرزاق وهو يقول: "إذاً أعطيانهم هذه العملة الأثرية فقط".

 ضحك الضابط خالد مرّة أخري قبل أن يستطرد "وهذه العملة أيضًا لا قيمة لها،" فهي مُزيّفة ولا تساوي شيئًا، إنّها ليست ذهبية، فقط مطلية بماء الذهب."

 نهض الشيخ ليحتضن الضابط خالد، وهو يقول: "الحمد لله إنّهم لم يكسبوا شيئًا"

دفء البيت

 كان الطعام شهيًا للغاية، ربما لأنّها المرة الأولي منذ اعتقاله يأكل بهذه الشهية، وربما لأنّ أباه الحبيب وصديقه الضابط يشاركانه الطعام، المهم أنّه استمتع بوجبة شهية من صنع يدي والدته، وتلاها الشاي الرائع قبل أن يُعاود الضابط خالد الحديث مرّة أخري، لكن هذه المرّة فارقت وجهه الابتسامة، وحلّ محلها جديته المعهودة، قدّم خالد بحديثه لمُحمّد أنّه قام بما لم يقم به أي شخص في مثل سنه، وأنّه كافح وعاني كثيراً من أجل تحرير الوطن.

أدرك مُحمّد علي الفور أنّ أمراً جللاً ما سيحدث، وأنّه سيكون من صانعي الأحداث فيه، فقاطع خالد بأدب شديد، قائلاً:

"لا داعي لهذه المقدمات، فلقد علمتنا أنّ الوقت مهم للغاية"

 أدرك خالد أنّ مُحمّد بذكائه، استنتج ما يريده، وأنّه وفّر -كعادته- عليه شرحًا طويلاً فقال: "هل أنت جاهز للقيام بعملية فدائية، نسبة النجاة فيها 10% فقط؟"

ارتعدت فرائص الأب قبل أن يتمالك نفسه، وينظر مرّة أخري لابنه منتظرًا رده.

"جاهز للتنفيذ" نطقها مُحمّد بصرامة لا تخلو من اندفاع الشباب.

-         قبل أن تعرف المهمة.

-         طالما تم ترشيحي لها، فبالتأكيد أنتم تعلمون أنّني قادر علي تنفيذها.

-         مهما كان حماسك، يجب أن تعرف المهمة وكل أبعادها، قبل أنّ تقرر شيئًا.

-         وهو كذلك، مع العلم أنّي قد أخبرتك برأيي.

 أخرج الضابط خالد مظروفًا أصفرًا كبيرًا، ليضعه أمامه، وهنا استأذن الشيخ ليدعهما لمهمتهم، ويخرج هو لآمر آخر.

 كانت الأوراق عبارة عن خرائط لسيناء، بالإضافة إلي صورة لطيار إسرائيلي، سرعان ما اكتشف مُحمّد الشبه الشديد بينهما، وهنا بدأ رأس مُحمّد يعمل بسرعة أكبر، وتوالت الصور والأحداث أمام عينيه، ثم أخرج زفيرًا ساعد علي تنظيم أنّفاسه قبل أن يقول بهدوء -لا يتناسب مع دقات قلبه المتسارعة- :"هل تُريدني أنّ أُحلّ محل هذا الضابط" لمعت عينا الضابط خالد ثم ابتسم ابتسامة ارتياح وهو يقول: " لقد اختصرت نصف الطريق أيها البطل"

 بدأ الضابط خالد يتحدث عن المعابر في سيناء، وهي عبارة عن ممرات بين الجبل، وهناك عقيدة عسكرية راسخة تقول أنّ في حالة حدوث حرب في منطقة كسيناء، فإنّ من يستولي علي المعابر، فإنّه يصبح صاحب الكلمة العليا في الحرب، والمُسيطر علي مجريات الأمور، وبالتالي فإنّ أهمية هذه المعابر، تٌعدّ في أعلي مراتب التحكم في الحرب.

 قال مُحمّد مفكراً: "لكن اليهود لم يتركوا شيئًا علي حاله في سيناء خلال السنوات الخمس التي احتلوها فيها، لقد غيرّوا كل شيء، حتي أنّهم استقطعوا بعض الأجزاء من الجبال"

 هزّ خالد رأسه مؤكداً علي كلام مُحمّد، وقد علت وجهه مسحة من الحزن.

فجأة وأثناء الحديث حدثت هزة عنيفة، مصحوبة بصوت انفجار أصمّ الآذن.

 

سر الانفجار الرهيب.

 خرج مُحمّد من البيت بأقصي سرعة باحثاً عن أبيه، ومستطلعاً ما يحدث في الخارج، وأسباب هذا الانفجار المُدوّي، تاركاًَ الضابط خالد غارقاً في بحر من الحيرة، فهو لا يستطيع الخروج حتي لا يراه أحدًا، ويرغب في معرفة سر هذا الانفجار الرهيب.

 بعد دقائق من عدوه في اتجاه صوت الانفجار، شاهد مُحمّد أعمدة الدخّان تناطح السحاب، لتصل الجبل الشرقي بالسماء، وبالرغم من أنّ ذلك الدخان الأسود يبعث علي الانقباض، إلاّ أنّ مُحمّدا شعر بشئ من السعادة، لأنّ هذا المشهد مرتبط معه دائماً بعملياته ضد الأعداء، وبانتصاراته عليهم وتحطيمه حصون ذخيرتهم، توالت الانفجارات الواحد تلو الآخر، مما أكّد حدس مُحمّد وخالد معاً أنّ هذه الانّفجارات القوية ناجمة عن انفجار عربة ذخيرة، أو ربما .. مخزن.

 تهلل وجه مُحمّد وهو يقابل والده القادم نحوه راكباً جمله، ولكن الغريب أنّ والده كان يحمل صقره "القنّاص" .. إنّه ليس موسم الصيد؟

 ربت الاب علي كتف ابنه الذي تسلق الجمل بخفة ليجلس أمام والده ويقود الجمل، إنّه كثيراً ما يستخدم هذه المهارة في ركوب الجمل دون أنّ يُنيخه.

"قلبي يحدثني أنّك وراء هذا الانفجار يا أبي" قالها مُحمّد دون أي مقدمات.
ضحك الأب بملأ وجهه، قبل أن يشير علي مكان قلب ابنه من ظهره وهو يقول

-         صدق قلبك ياولدي، فهو لا يعرف الكذب.

-         هل هو مخزن الذخيرة؟

-         نعم ... ما كنت لأترك سلاحنا في يد أعدائنا.

-         متي وكيف؟

-         حينما طلب مني الضابط إلقاء نظرة علي المكان، دون أن آخذ منه شئ، حتي أستطيع وصفه جيداً ... - كما علمنا بعد ذلك أنّه كان يريد لمن يراقبوا الموقع، أن يروني حتي يكون لكلامي مصداقية لديهم- حينها قمت بمدّ خيط من لغم داخل المخزن، ثم ربطت في هذا الخيط الريش، الذي أقوم بتدريب الصقر به علي الصيد، وأثناء خروجي من المخزن أسقطت الريش عند مدخله، بحيث يستطيع الصقر رؤيته.

-         يا لك من عبقري. قالها مُحمّد بأدب شديد.

 ابتسم الأب ثم استطرد:"كنت أُلقي نظرة من وقت لآخر على الموقع، لأنّي عرفت أنّ الصهاينة سينقلونه، طالما أخبرتهم عنه، واشتهر أمر معرفتهم به لدى البدو"

-         لم ترد تفجيره فقط.

-         نعم كنت أريد حصاد مجموعة من خبراء المتفجرات في جيش الأعداء، وحينما شاهدت سياراتهم العسكرية أمام باب المخزن اليوم، أطلقت قنّاص ليحضر الفريسة، وما إن جذب الريش محاولاً الطيران به حتي... بوووووم

العملية الكبرى

 صفّق الضابط خالد ثم انحني بطريقة مسرحية أمام الشيخ عبدالرزاق، الذي ضحك من رد فعل خالد، وهو يحكي له عن عملية مخزن الذخيرة، ثم بدأ بتضميد جراح الصقر الذي أصابته بعض الشظايا.

 "إنّكم أذكي عائلة شاهدتها في حياتي" قالها خالد بصدق شديد.

 رد مُحمّد بهدوء: "كل ما في الأمر، أنّنا نؤمن بقضيتنا ونسعي لكسبها"

 نهض الشيخ عبدالرزاق من مكانه، وهو يُشمّر ساعديه وقال "سأُصلي ركعتين لله، أشكره علي توفيقي، وأدعوه أن يوفقكما فيما تفعلا"

 أعادت هذه العبارة مُحمّد وخالد إلي حديثهما قبل الانفجار، فعادا إلي غرفة مُحمّد، دخل خالد في الموضوع مباشرة، فتحدث عمّا سيواجهه مُحمّد من مخاطر، تختلف تماماً عن أي مخاطر سابقة، وتحدّث عن التدريبات الشاقّة التي سيقوم بها مُحمّد، والتي قد تمتد إلي أكثر من شهرين.

 قام مُحمّد منتصباً أمام الضابط خالد مؤدياً التحية العسكرية، مُعلنًا استعداده لأي تدريبات، وأي مهمة، وأي مُخاطرة.

 قلّب الضابط قلمًا كان يمسكه بطريقة من يعمل عقله في أكثر من اتجاه، ثم أسند ظهره إلي ظهر المقعد ليُتيح لصدره التنفس بحرية أكبر ثم بدأ يسرد: "العملية بالتحديد هي دخول مبني الطيارين بمطار العريش، والاستيلاء علي خرائط الممرات الموجودة في حقيبة، يقومون بتسليمها للطيارين أثناء المحاضرات، ثم يُعيدها الطيارون بدورهم، بعد انتهاء المحاضرات لقد لاحظنا ذلك الشبه الذي كاد أن يصل إلي التطابق بينك وبين هذا الطيّار، لذا فكّرنا في دخولك الموقع بدلاً منه، في أحد أيام التدريب بعد أن نقوم بتأخيره، أو تدبير غيابه، المُهم أنّك ستدخل إلي دورة المياه، ثم تستولي علي الخرائط وتضعها في جيب سري في سترتك، وتُكمل المحاضرات، ثم تُغادر بعد تسليم الحقيبة، في الأسابيع القادمة سيأتي إلي هنا خبراء يعملون علي صقل لغتك العبرية، بالإضافة إلي خبراء الطيران، ليجعلوا منك طيارًا ممتازًا"

 ضحك مُحمّد وكذلك خالد الذي استطرد: "نظرياً طبعاً" ازداد ضحك الاثنان قبل أنّ يُكمل خالد: "ستعرف كل شئ عن الطائرات وتسليحها، وأنواع الأسلحة، والمطارات وأرضياتها، وممراتها وكل شيء، لكن هذا يتطلب منك عقلاً يقظًا وذاكرة فوتوغرافية"

-         ستجدني إنّ شاء الله علي قدر المسئولية.

-         بقي أن تقوم بحلق شاربك يومياً طوال شهرين، حتي يُصبح كثيفًا كشارب ذلك الطيار.

-         وهو كذلك.

 

خلية نحل

هذا بالظبط ما تحوّل اليه بيت مُحمّد طوال شهرين وبضعة أيام؛ فلقد كانت التدريبات - والتي غالباً ما تتم ليلاً- تشمل تدريبات في التمثيل حتي يتمكن مُحمّد من تقليد الطيار الإسرائيلي، كما تم صقل لغته العبرية مع الحرص علي تعليمه بعض تعبيرات اليهود الشرقيين (السفرديم ) كما يطلقون عليهم، وهم مختلفون عن اليهود (الأشيكناز) الغربيين الذين يُكثرون من إدخال مصطلحات انجليزية، كان اجتهاد مُحمّد الذي لم يفتر يوماً محل إعجاب كل من يتعامل معه، وأخيراً جاءت تدريبات الطيران، التي حدثّه عنها الضابط خالد، وهي التدريبات التي كان يخشاها الضابط خالد -وكذلك خبير الطيران- حيث تحتوي علي مصطلحات كثيرة لم يألفها مُحمّد، كذلك كانت الأمور الخاصة بتكوين الطائرات أكثر تعقيداً، ذلك أنّ مُحمّد لم ينل قسطًا كافيًا من التعليم، لكنّه وكعادته كان يملك طاقة جبّارة تدفعه لتحقيق هدفه، وذكاء يبدو في كثير من الأحيان خارقًا.

 هرولت الأسابيع، وجرت الأيام، وجاء يوم العملية سريعاً، وكأنّه لم يكن متوقعًا، رغم تحديده بدقة من أول يوم.

 كان مُحمّد مستعدًا عقلياً ونفسياً تماما،ً ولم يبق من تدريباته شيء سوى إلقاء نظرة علي صور لموقع الطيارين، وقاعات المحاضرات حتي يدخل المكان وهو يعرفه تماماً.

 كان رأي الضابط خالد أن مشاهدته لهذه الصور قبل العملية بدقائق، يجعله يألف المكان ويشعر عند دخوله أنّه كان هنا منذ لحظات، وهذا ما حدث بالفعل.

 

 

 

 

 

 

ساعة الصفر

 قبل ساعة الصفر بدقائق، كانت سيارة نصف نقل تقف خلف تبة مرتفعة علي بُعد أمتار من مبني الطيارين، ارتدي مُحمّد ملابس الطيار وأمسك بحقيبته، ثم تلا سورة الفاتحة، ودعا الله أنّ يُوفقه ليس من أجل بقاءه، ولكن من أجل تحقيق هذه المهمة لوطنه.

 وضع مُحمّد العلكة في فمه، وهو يسير واثق الخطوة في طريقه إلي مبني الطيارين، كانت العلكة لها نكهة النعناع القوية والتي جعلته يشعر بالانتعاش، كما شعر بالثقة، حيث كانت هذه العلكة أحد التفاصيل الصغيرة في شخصية الطيار، استطاع رجال المخابرات رصدها؛ حتي يُصبح الأمر مقنعًا لكل من يتعامل معه.

 ابتسم مُحمّد عند الباب لرجل الأمن الذي مد يده بهدوء، ليضع فيها مُحمّد سيجارة، ثم يعبر من البوابة ليتسلم حقيبته، التي عبرت من جهاز كشف الأسلحة والمعادن.

 دخل مُحمّد إلي غُرفة الطيارين، حيث فتح دولاب ملابسه ليضع فيه حقيبة يده، ثم يأخذ حقيبة الأوراق، وهنا تعمّد مُحمّد التأخر بعض الوقت حتي لا يتجاذب معه أحد أطراف الحديث، وما إن شعر بأنّ المحاضرة أوشكت أن تبدأ، حتي اتجه إلي قاعة المحاضرات، ودخل مبتسماً ابتسامة أخفاها شاربه الكثيف، لكن وشت بها عيناه، استمع مُحمّد إلي المحاضرة وتبادل النقاش مع زملاءه والمحاضرين، حتي أنّهم علّقوا علي اجتهاده في هذه المحاضرة، مما جعله ينتبه أنّه قد يكون بالغ بعض الشئ، فأخذ حذره و قّللّ حديثه إلي أن انتهت المحاضرة، فبدأ البعض بالتدخين، وأخذ آخرون مشروبات دافئة، فما كان من مُحمّد إلاّ أن تظاهر برغبته الشديدة في الذهاب إلي المرحاض، وهناك أخذ يُفتّش في الحقيبة، حتي وجد الخرائط في جيب سري، فأخذ جميع الأوراق التي رأي أنّها هامة، ثم انتتظر داخل الحمام، حتي بدأت المحاضرة التالية وهنا وضع اصبعه في حلقه، ليتقيأ أمام عامل النظافة الذي ساعده في الخروج من الحمام.

 ثم استعان برجل الأمن ليخرجه من المبني، ويوقف له تاكسي، وهنا أشار إليهم مُحمّد بالبقاء وأخبره أنّه سيذهب إلي المستشفي العسكري.

 لم يكن أحد ليشك لحظة أنّه ليس اسرائيليًا، فلغته تدل علي أنّه قضى في اسرائيل ما لا يقل عن عشر سنوات، ومناقشاته تؤكد أنّه طيار.

 نظر مُحمّد لمبني الطيارين وهو يبتعد عنه، كانت السعادة تملأه، لكنّه كان يبدو للسائق الذي يتابعه في المرآة في قمة الأعياء، وفجأة أمر السائق أنّ يتوقف، مُدعياً أنّه سيقئ، فما كان من السائق الذي خاف علي نظافة سيارته،إلا أن توقف فزعاً، فنزل مُحمّد من السيارة ثم قام بوضع اصبعه في حلقه مما جعل السائق يشمئز، ثم طلب مُحمّد من السائق المغادرة، لأنّه سيعود إلي مبنى الطيارين، ثم قدّم للسائق مبلغًا زهيدًا يتناسب مع المسافة التي قطعها، وهنا عرض عليه السائق متردداً أن يُوصله لمبني الطيارين، ولكن وكأي يهودي في موقفه رد مُحمّد بالرفض، إذ لماذا يدفع نقودًا وهو قادرعلي عبور الطريق وركوب أي سياره تابعة للجيش في طريقها إلي المبني؟

 غادر السائق المكان، فاتجه مُحمّد بدوره إلي التبة التي وضع خلفها السيارة النصف نقل، ليخلع ملابس الطيارين ويدفنها، ثم يرتدي ملابس البدوي في ثوان، بعد أن وضع الوثائق والخرائط في مكان آمن بالسيارة.

الفصل الاخير

 يُعرف عن الضبّاط دائماً الصلابة ورباطة الجأش، فما بالنا بضابط عمليات خاصة مثل الضابط خالد، ذلك الرجل الذي يواجه الموت يومياً، حينما يتعامل مع الألغام، ويواجهه حينما يقفز بمظلته من طائرة تُلقي به علي ارتفاع شاهق، ليهبط في الظلام في قلب سيناء خلف خطوط العدو، رجل أُصيب بجرح نافذ بجوار قلبه في حرب 67، وظل في بستان الشيخ عبدالرزاق يومين، يُصارع الموت، رجل يُعّد جسمه مثال للرياضي، وشخصيته تبدو أقوي من الفولاذ، لكن كل هذه الصلابة والقوة تلاشتا تماماً، حينما دخل مُحمّد عليه الدار، حيث كان يجلس مع أبيه في انتظاره، والقلق يكاد يقتلهما، دخل مُحمّد ووجهه متهللاً فوق العادة، فأيقن خالد أنّ تلميذه النجيب قد تغلّب علي نفسه، ونجح في مهمته التي قال عنها خالد -في أشد لحظات التفاؤل- أنّ نسبة النجاح بها 10 %. احتضن خالد مُحمّدا بشدة وانهمرت الدموع من عينيه كالمطر، كانت فرحته بعودته أكبر بكثير من فرحته بنجاح العملية، أخرج مُحمّد الخرائط والوثائق من طيات ملابسه بفرح، رافعاً إياها أمام الضابط خالد الذي احتضنه مرّة أخري علي انجازه، وعلي الفور مسح الضابط دموعه، وظهرت علي وجهه ملامح الجدية، وهو يفتح الخرائط ثم يقوم بتصويرها بكاميرا صغيرة، أخرجها من جيبه، صوّر خالد جميع الوثائق والخرائط، وانتظر آخر ضوء، ثم غادر فوراً متجهاً إلي القناة، ليُعبر متجهاً للقيادات لتسليمهم الميكروفيلم.

 كذلك غادر الشيخ بناءً علي طلب الضابط خالد ليُسلّم أصول الخرائط والمستندات لعميل آخر في البلدة المجاورة، حتي يقوم بدوره بإيصالها للجيش المصري في حال حدوث أي مكروه للضابط خالد.

 جلس مُحمّد علي سريره مسترخياً، يستعرض كفاحه واستشهاد أخيه، لكن قطع عليه تفكيره انفجار محدود أسقط باب البيت مع جزء من الجدران، ليمتلئ البيت بالغبار والدخان، اللذان شكلاً جواً خانقًا، لم يستطع فيه مُحمّد أن يرى حتي يديه، .. ولم يشعر بشئ أو يسمع أحدًا، وفجأة ووسط تلك الأحداث شعر بشيء قوي يصطدم برأسه، ليفقد الوعي تماماً.

 فتح مُحمّد عينيه، ليجد نفسه فيما يشبه غرفة عمليات مقيد اليدين والقدمين، وهناك طبيب تنقصه كلمه كافر بين عينيه، ليصبح المسيح الدجال، كان الرجل غاية في القبح والفظاظة، وهو يحقن ذراع مُحمّد الذي وجد نفسه يردد الشهادة، بينما كان الطبيب يقول بعبرية تقطر حقدًا وقسوة: "سنأخذ عينيك لنُعطيهم لضبّاط، تسببت متفجراتك في إفقادهم البصر"

 

بداية جديدة

 تحقق النصر العظيم يوم السادس من أكتوبر، في اليوم التالي لعملية مُحمّد، تلك العملية التي حكم عليه بها الصهاينة ليحرموه من بصره إلي الأبد، لكن خبر عبور القوّات المصريه للقناة جعل مُحمّد يشعر أنّ عينيه كانت هديته لمصر، لتُبصر طريق العبور، وفي المستشفي سمع مُحمّد عن الانجازات العظيمة التي حققتها الضربة الجوية، والتناغم الرهيب في عزف المدفعية والبحرية، وعزف المشاة سيمفونية رائعة، انتهت برفع العلم المصري فوق أرض سيناء بعد أقل من 6 ساعات.

 لقد ظنّ اليهود أنّهم لا يُقهرون، وأصابهم الذهول يوم الرابع من أكتوبر حينما ذهب أحد الطيارين إلي صديقه ليطمئن عليه، حيث أخبره الأمن أنّه غادر لأنّه يشعر بقيء وغثيان، وكانت المفاجأة أنّ الطيار أخبرهم أنّه لم يغادر غرفته في هذا اليوم، لأنّه بالفعل مريض فما كان من صديقه إلا أنّ أخبر قائده بالأمر، وتوالت التحقيقات، وشملت الصور التي التقطتهتا كاميرات المراقبة، ليجن جنون الاسرائليين، وكاد الجميع أن يفقد عقله بسبب هذا الزائر الشبح، لكن أحد الجنود بالمبني أخبرهم أنّه يعرف هذا الشاب، حيث كان يعمل كحارس في القاعدة التي كان مُحمّد معتقلاً بها منذ شهور، وقصّ أمر الصفقة التي بمُوجبها أُفرج عنه، وهنا صدر أمر باعتقال مُحمّد، ومعه حُكم علي عينيه بالإعدام.

 لم يحزن مُحمّد لحظة علي عينيه، فلقد أكسبه النصر بصيرة يرى بها، وحمد الله أنّه عاش ليحكي لمن يأتون بعده قصة النصر، وما بذله الأبطال في سبيل ال

Share
Click to listen highlighted text! Powered By GSpeech