Click to listen highlighted text! Powered By GSpeech
Get Adobe Flash player
مستمرين معاكم بإذن الله 2008-2024 **** #لان_لجيشنا_تاريخ_يستحق_أن_يروي **** ***** إنشروا تاريخنا وشاركونا في معركة الوعي **** تابعونا علي قناة اليوتيوب 1100+ فيديو حتي الان **** تابعونا علي صفحات التواصل الاجتماعي** أشتركوا معنا في رحلاتنا لمناطق حرب أكتوبر **** يرجي استخدام خانة البحث **** *** تابعونا علي تليجرام - انستجرام - تويتر

روايه عابد المصري - الحلقه الاولي

حصريا لاول مره علي الانترنت

بتصريح خاص من الكاتب للمجموعه 73 مؤرخين

لا يجوز اعاده النشر بدون الاشاره للكاتب والموقع كمصدر

 

عـــابد المصـرى .. رواية

كتبها/أسـامة على الصـادق

.....

الطبعة الأولى .. يوليو 2010

الناشر: الكاتب

.....

تصميم الغلاف:

ريهام سهيل

....

حقوق الطبع محفوظة للكاتب

موبايل: 0127970032

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

 

عــابد المصـــري

 (روايــة)

 

كتبها/ أسـامة علي الصــادق

إهــــــــــداء

 

    إلى هذا البطل الذي لم ينل حظه من التكريم كما يجب .. فقد أهمله الإعلام وتجاهلته الأقلام .. لم ترحمه الأحداث والخطوب ، ووقف ضده حظه العاثر .. ورغم ذلك كان ناكرًا لذاته من أجل وطنه .. مخلصا في أداء عمله الصعب من أجل تراب بلده .. حريصا على تنفيذ مهمته رغم المشاكل التي تعرض لها وتنوء منها الجبال .. وتنصهر من لهيبها القلوب .. لقد فاق ما واجهه كل احتمال .

ولأن صوته لم يكن عاليا أو مسموعا فقد طوته صفحات النسيان .. فالأصوات درجات :

1- الجرحي الذين يتكلمون يمكن أن  يحصلوا علي بعض المجد والفخار

2-   الشهداء .. وحيث إنه لا صوت لهم فيكتب عنهم عنوان "شهداء حرب أكتوبر" ونصب تذكاري للجندي المجهول لا ينظر إليه أحد إلا حين يقوم بزيارته شخصية مهمة.

3- النوع الأخير والذي لا صوت له .. لماذا؟ لأنه لا يستطيع الشكوى فهو لا يطالب بحقه ولا يتكلم وفى الصفحات التالية سوف نتحدث عنهم.

إن كل ما سوف تطالعه بالصفحات التالية هي حقائق واقعية حدثت زمانا و ُقربا من المكان مع استبدال لبعض الأسماء لمن قام بها حرصاً مني علي سرية المعلومة ولهم من شعب مصر كل تقدير وتكريم وإحترام  ، لقد أصبحوا من المرابطين والذي تحدث عنهم دين الإسلام الحنيف.

       بعد أن انتهيت من كتابة كتابي الأول "الناس والحرب" عن تجربة ذاتية عن حروب مصر المعاصرة وهي بالترتيب "حرب عام 1967 وحرب الاستنزاف الدامية وحرب أكتوبر المجيدة عام 1973" وكان هذا في منتصف عام 2007 .. بعد هذا شعرت بأن ضميرى قد هدأ وارتاح لشهادة شاهدتها وأثرت في نفسي من أحداث لوطننا الحبيب مصر ولأبنائها من الشباب من جنود القوات المسلحة لفترة تزيد عن ست سنوات. 

    كان تأثير هذا الكتاب شديدا ًوفعالا علي شباب مصر من الجنسين ونظرًا لعدم عثوري علي دار تقوم بنشر الكتاب رغم تحملي نفقات النشر حيث إن تلك الدور تخشي العاقبة من المسئولين بالدولة وبالتالي فقد  تحملت الطباعة والنشر والتوزيع ، وكانت تلك هي التجربة الأولي لي وتحملت من أجلها المزيد من التوتر النفسي والعصبى والمادى لاستعادة أحداث تلك السنوات العجاف التي مرت علي تاريخ مصر الحديث.

    طيب من خاطرى وخفف من الآم المعاناة للطبع والنشر والتوزيع الاتصالات التي قام بها الشباب إعجابا ً وتقديرا للموضوعات التي كتبت عنها بل رفعونى إلى عنان السماء وجعلوا مني بطلا ربما لا أستحقه حيث كانت البطولات التي تمت لا يستحق فخرها ومجدها سوى جنودى الأبطال سواء في سيناء أو خلال حرب الاستنزاف ونهاية بحرب أكتوبر.

     بعد هذا هدأ بالى واعتقدت بأننى قد انتهيت من الكتابة عن أعمال الشباب الخالد في ميدان القتال والبطولة .. فما قمت به قد تم ولا جديد لدى ولكن هواية الكتابة والنشر ُتصبح في بعض الأحوال مثل المكيفات ولا يستطيع البعض تركها لهذا اتجهت إلي كتابة الرواية الاجتماعية الطويلة عن موضوعات تحدث بالمجتمع وتؤثر فيه ، لكن جد جديد جعلنى أعود للحديث عن بعض الأعمال الفذة خلال الحروب مع إسرائيل والتي حدثت لصديق وزميل لي تعرفت عليه فجأة في ظرف غير طبيعى.

     لن أطيل عليكم وسأبدأ في سرد الأحداث التي حدثت لصديقي والذي تخيرت اسمه الأول "عـــابد" متجاهلا لقب العائلة ولنبدأ الحكاية مع البطل عابد في سرد الأحداث التي وقعت له سواء حدثت له بالصدفة البحتة أو حدثت  نتيجة لقيامه بتنفيذ أوامر وتعليمات القادة له ، لقد وجدت في أحداثه تجربة ثرية ومثيرة بل موضوعات شيقة تدفع بهمم شباب الجيل الحالى أو أجيال المستقبل للثقة بالنفس وليعلموا بأن مصر مازالت بخير وبها العديد من النماذج المشرفة ، ولهذا سوف أترككم مع صاحب التجربة ليتحدث عنها ؛ حيث قمت بتسجيل كل ما قاله لي حتى لا أغفل أي شئ ولو صغير أو قليل القيمة فما أعتبره بسيطا ًيعتبره البعض من شباب الجيل المعاصر بأنه شيئ يستحق الذكر ، هذا الجيل الذي ُظلم مرتين ، المرة الأولي حين تم إخفاء عنه كل ما قام به الآباء والأجداد من أمجاد في ميدان المعركة مكتفين بأمجاد عظماء التاريخ الفرعوني والإسلامي وكأنها رسالة تخبرنا نحن جميعا بأننا أصبحنا لا نستطيع القتال ومجابهة العدو ، ويكفى الجرعة التي نحصل عليها من أبطال الماضى أما أبطال الحاضر في العصر الحديث فقد ُطمست شخصيتهم وُمحت عنتريتهم وبسالتهم ، أما المرة الثانية التي ُظلم فيها هذا الجيل هو أنه لن تتاح له الفرصة ؛ لأن يقاتل العدو رغم أن العدو مازال واقفا أمامنا يستفز مشاعرنا ويكفى أن يتحدث بعض مسئولي العدو بأنه من الواجب تدمير السد العالي ، قس على هذا الكثير ، لقد ربطتنا إتفاقية السلام بحبل لا فكاك منه إلا بحاكم يأتى ويلقى بها في سلة المهملات حتي نعد العدة التي أمرنا بها الله في كتابه الكريم حيث قال سبحانه وتعالى:

وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمْ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ (60) صدق الله العظــيم

    والآن نتحرك لتقليب صفحات هذا البطل المصرى الصامت والذي انزوي بين جدران منزله يرعى أسرته ويعمل عملا شريفا خاصا رغم أن عمره قد قارب علي السبعين لكن تحت الحاجة وضآلة المعاش الذي حصل عليه كان لابد أن يظل قويا علي مستوى قدرته وعمره .. أرجو أن تستفيدوا من تجربته تلك فقراءة التاريخ عبرة ودرس وهي تعتبر من أهم دروس الحياة ؛ لأنها تجارب إنسانية حقيقية خاصة ما حدث منها أثناء الحروب والأزمات.

       واللــــه المــــوفق.

الـــــــكاتب

 

 

الجــزء الأول

 

من هنا كانت البداية

عــابــــــد

 

    مساء الخير شباب مصر .. لكم مني تحية طيبة صادقة وقبل أي حديث أعرفكم بنفسى ، اسمي محمد عابد واسم الشهرة "عـابد" ، أنا من مواليد مدينة الإسكندرية العريقة ، تخرجت فى الكلية الحربية في صيف عـــام 1962  حيث كانت الآمال تراودنى بالعمل باليمن بعد التخرج وقد أصبحت ضابطا ومازال القتال يدور علي أشده هناك رغم أن بعض الزملاء كانت رغبتهم للعمل باليمن طمعا في الدخل المرتفع المتمثل في بدل السفر وخلافه ولكنى كنت لا أفكر في هذا الأمر مما دفع ببعض الزملاء بأن أطلقوا علىّّ وش فقر.

     بعد أن انتهيت من تدريبى الراقى المتخصص بمدرسة الصاعقة أقبل أحد القادة العسكريين المشهود لهم بالكفاءة وُبعد النظر والذي توقف أمامى ونظر إلىّّ مليا ًثم خاطب القادة ممن يجلسون بجواره علي المنضدة الرئيسية قائلا ً:

ـ الواد ده باين عليه ح يعمل حاجه .. ُبنيان جسده قوى ومفتول العضلات ويقف أمامى معتزا ًبنفسه ، ده ينضم للمخابرات الحربية مع توصية بأن يعمل في الأماكن الخطرة أو علي الحدود مع الأعداء.

    سمعت حديثه الواضح للجميع كما سمعه زملائي المتواجدون معي في انتظار التوزيع علي الوحدات سواء البحرية أو المشاة أو قوات الصاعقة أو المخابرات الحربية ، نظر إلىّّ القائد مبتسمًا متسائلا ً:

ـ هيه؟ وإلا لك رأى تانى؟

ـ تمام يا أفندم .. أوامر سيادتك تصدر للتنفيذ

أعجب الرجل برد فعلى التلقائى الإيجابى فنهض مصافحا مودعا لى بالتوفيق فيما أنا  ُمقبل عليه ، هكذا غادرت قاعة الاجتماعات وتسلمت خطاب التعيين متوجها إلى إدارة المخابرات الحربية ، ُكنت سائرا بالطريق إلي مبنى الإدارة وأنا في قلق ، فأنا أرغب في القتال وهذا متوفر في وحدات المشاة أو الصاعقة ، ُكنت أخشى العمل بالمكاتب وأدعو الله بألا أعمل بين جدران أربعة.

    بإدارة المخابرات الحربية استقبلنى رئيس فرع شئون الضباط وبعد ترحيب فاتر نظر إلىّّ مستفسرا ً

ـ طبعا عايز تشتغل في أحد مكاتبنا المنتشرة بالبلد؟

ـ الحقيقة غير كده ، أنا عايز أعمل بوحدات مقاتلة .. نظر إلىّّ الرجل بضيق متسائلا ً:

ـ وليه مش عاجبك العمل بالمكاتب؟

ـ الحقيقة يا فندم اللي بيعملوا في المكاتب عاملين زى الموظفين ومش بأفتكر أنهم ظباط .. ناس مدلعه ، اكفهر وجه الرجل الذي كان برتبة الرائد مما دفعه للصراخ في وجهي ملقيا علىّّ عبارات واتهامات بإنني لسه بتاع إمبارح وجاى أعمل فيها روميل وصاح في وجهى بأن أترك المكتب وأنتظر بالخارج.

    وقفت خارج المكتب صامتا مندهشا لثورة الرجل ، بعد قليل أقبل علىّ مساعد "صول" وسلمنى خطاب التوزيع إلي الجهة المحددة لى ، لم أقرأ الخطاب ولكنى سألته لماذا حضرة الرائد ...... زعلان ووشه انقلب؟ هز الرجل رأسه متحدثا:

ـ ده كلام يتقال يا فندم .. نازل نقد وتوبيخ في اللى بيعملوا في المكاتب .. طيب ما الرائد بيعمل في المكاتب.

     غادر الرجل المكان بينما انهمكت في مطالعة الخطاب فإذ بى متوجها للعمل مع مكتب الاتصال بقطاع غزة مع جيش التحرير الفلسطينى ، أصابني الضيق لأننى سوف أعمل بمكتب .. دخلت علي الرائد دون إذن وأديت له التحية العسكرية دون أن يبادلنى مثلها متجاهلا ًوجودى وعرضت عليه رغبتى ولكنه لم ينتظر حتي أنتهي من كلماتي وأشار إلّىّ بيده بأن أغادر المكتب وأنفذ الأمر والاعتراض معناه المحكمة العسكرية.

    غادرت المكتب صاغرا ًوأثناء سيرى بممرات الإدارة التقيت بأحد الضباط والذي بدأ من حديثه بأنه ابن نكته ويعشق الضحك ، سألنى ما الذى يضايقنى فعرضت عليه مشكلتى ، ابتسم قائلا ولا يهمك روح نفذ الأمر ومش هتقعد في المكتب ممكن تقعد بره وهات كرسى وخليك في الهواء وبكده تكون بتعمل خارج المكاتب وأعقبها بضحكة كبيرة دفعتنى للضحك أيضا.

     شعرت بأن ما قاله هذا الضابط هى حكمة من حكم الحياة وفن من فنون التعامل الإنسانى مع الآخرين فأنا لن أستطيع الصمود أمام القيادات وما علىّّ سوى التنفيذ ، توالت علىّّ ترتيبات الإعداد لكى أتوجه إلى قطاع غزة لتسلم مهام عملى في مكتب المخابرات الحربية ، لم أكن أعلم ما يجب علىّّ أن أعده لتقلد مهام عمل جديد ُملقى علىّ ولم يسبق لى العمل بالقوات المسلحة في منطقة تعتبر بأقصى الشرق بل تعتبر في بلد عربى وهى فلسطين المحتلة ، توكلت علي الله وجمعت كل أغراضى كأننى مسافرٌ لرحلة طويلة وقبل السفر توجهت إلى الإسكندرية والتقيت بأسرتى التى أسعدها خبر عملى الجديد والذى أجهل كل شيئ عنه لكنهم كانوا في ثقة بأنني سوف أنجح في أى عمل ُيوكل إليّ.

    غادرت القاهرة مستقلا ًقطار الشرق والذي تحرك من محطة مصر في الصباح الباكر وعبر محطات كثيرة بدءًا من طوخ وقليوب وبنها ومنيا القمح والزقازيق وصولا إلى الإسماعيلية والتى ظل رابضا بمحطتها فترة طويلة انتظارا ًلموعد العبور من فوق كوبرى الفردان الذى يربط ما بين الضفتين الشرقية والغربية لقناة السويس.

    تحرك القطار وعبر من فوق كوبرى الفردان والذي يقع شمال مدينة الإسماعيلية ، كنت سعيدًا وأنا أشاهد هذا الكوبرى الحديدى والذى يشبه كوبرى إمبابة ولكنه أقل منه حجما ، كنت أشاهد البواخر العملاقة علي بعد عدة كيلومترات وقد ربطت بالمخطاف المثبت علي الشاطىء حتي تمام عبور القطار وبعده ُيفتح الكوبرى حتي تعود الملاحة للبواخر ، كان تصميم الكوبرى علي هيئة جناحين والفاصل بينهما تمر منه البواخر ، ُكنت سعيدا بتلك التجربة وغمرتنى الفرحة والنشوة وأنا أجلس بداخل القطار بالدرجة الثانية فليس به سوى درجتين وهما الثانية والثالثة ، ُكنت أتابع المناظر المحيطة من شباك القطار ومن حين لآخر ُيقبل علىّ الجرسون بداخل القطار عارضا علي الركاب ما يحمله من مشروبات وسجائر وخلافه ، كان الجرسون يعشق عمله ويقدم خدمة راقية وسريعة ويتحدث همسا ًحتى لا يزعج بعض الركاب الذين خلدوا في نومهم وقد تعالت أصوات الشخير الصادرة من الأفواه.

      ُكنت أشاهد بعض الجبال المرتفعة ما بين الشاهقة الارتفاع  والأقل ارتفاعا وقد يصل ارتفاع أية قمة منه لمسافة لا تقل عن ثلاثمائة متر ، وهذا يعني ارتفاع عمارة لا يقل عدد أدوارها عن مائة دور وهذا لم يكن متواجدا بمصر أي في القاهرة أو الوجه البحري ، كما لفت نظرى بعض قطعان من الجمال التي ترعى قريبا من شريط السكة الحديد ، كانت الجمال بأعداد كثيرة ملفتة للنظر ، كما كانت تضاريس المنطقة مختلفة ما بين الجبال بارتفاعاتها المختلفة وما بين الهضاب سواء كانت من الرمال أو من الزلط المختلط بالرمال أو هضاب رملية صافية دون وجود أحجار أو صخور بها كما كانت ألوان تلك الهيئات والهضاب والجبال تنعكس علي نفسي بالسرور والغبطة ورغم أن المحيطين بى مازالوا مستغرقين في نومهم وبدا عليهم أنهم قد سئموا من رؤية تلك المناظر وقد تعودوا علي مشاهدتها مرات عدة فغالبيتهم ضباط أعلي منى رتبة.

    قبل هبوط الظلام علي سيناء وصل بنا القطار إلي محطة العريش للسكك الحديدية ، وهى آخر الخط ونهاية المطاف ، ترجلت من القطار وغادرته وأنا أشاهد الركاب الذين يهبطون إلي رصيف المحطة ، كان باديا علي جميع الركاب بأنهم من العسكريين أو الموظفين التابعين للدولة ، تحركت علي رصيف المحطة محاولا تفادى الزحام وغادرت الرصيف ووقفت بداخل المحطة أطالع بنظرى اليافطات المنتشرة علي الجدران حتي شاهدت بغيتى وهو مكتب الشرطة العسكرية والذي توجهت إليه وبداخل المكتب استقبلنى رقيب فقدم لي التحية العسكرية الواجبة وأخبرته بجهة عملى ، وهنا أشار إلي أحد الجنود طالبا منه أن يبلغ سائق سيارة مكتب مخابرات القطاع "قطاع غزة" بأن حضرة الضابط المنتظر وصوله متواجد بالمكتب.

     بعد قليل حضر السائق وأدى التحية العسكرية وغادرنا مكتب الشرطة العسكرية وسار خلفى موجها لى إلى موقع وقوف السيارة ، ركبت السيارة وقادها الجندى متوجها شرقا في اتجاه القطاع ، كان الظلام يلف المنطقة فقد تعدى الوقت الساعة الثامنة مساء ورغم هذا كان ضوء القمر منتشرا ًمن حولى وبالتالى  ُكنت أشاهد بعض المناظر الطبيعية للأرض المحيطة بالطريق وفي بعض الأحيان أشاهد وأسمع أصوات مياه البحر الأبيض حين يقترب الطريق من الساحل.

     وصلت بنا السيارة إلي القطاع منتصف الليل ، ترجلت منها متبعا خطوات الجندى السائق متوجها إلى مكتب القائد الذي استقبلنى استقبالا طيبا  ُمرحبا بى وجلس معى بعض الوقت ثم نهض واصطحبنى إلى مبني الاستراحة وأشار إلى الحجرة المخصصة لى ، بعد قليل أقبل أحد الجنود يحمل صينيه عليها الطعام والشراب ، ودعني القائد طالبا منى تناول وجبة الطعام بحرية وأمر الجندى المرافق بأن يقدم لى كل عون أحتاج إليه ، بعد مغادرة القائد اتجهت إلي دورة المياه الملحقة وحصلت علي حمامى ثم ُعدت وتناولت طعامى حيث ُكنت أشعر بالجوع منذ غادر القطار مدينة الإسماعيلية أى منذ عشر ساعات تقريبا ، انهيت طعامى وتفقدت الحجرة المخصصة لي والمزودة بسرير صغير ودولاب وعدد من الكراسى ، أبدلت ملابسي بملابس النوم وألقيت بجسدى المتعب من أثر طول الطريق الذي قطعته من القاهرة حتى وصلت إلي القطاع.

    لم أشعر بالوقت الذى استغرقته في النوم لكننى تنبهت علي سماع أصوات بخارج الحجرة فنهضت من نومى ونظرت من خلال النافذة فشاهدت بعض الجنود وبعض السيارات أمام مبنى الاستراحة وحركة وعمل وبدا واضحا بأننى تأخرت في النوم حيث نظرت في ساعة يدى فشاهدت عقارب الساعة تقترب من العاشرة ،  قمت بالإجراءات المعتادة لكل صباح من نظافة وزيارة دورة المياه والوضوء وانهيت الصلاة ثم ارتديت ملابس العمل متوجها بكل نشاط إلي المبنى المقابل حيث الرائد/ فوزي قائد مكتب المخابرات بالقطاع والذي استقبلني بالأمس.

    دخلت عليه المكتب حيث كان مشغولا بالتوقيع علي بعض الأوراق ، أديت له التحية العسكرية فرد بمثلها وأشار إلىّ بالجلوس حتي ينتهى مما في يده ، بعد قليل أنهى عمله وخلال ذلك كنت أتفقد جدران المكتب والأثاث بنظرات هادئة ، كان المكتب بسيطا في أثاثه ولكنه يتميز بالنظافة والعناية وكان مزودا ببعض النباتات من أنواع أشجار الظل وبعض الزهور الجميلة في ألوانها وأشكالها.

    غادر المكتب ضابط الصف الذي كان يعرض علي الرائد/ فوزي ملف البوستة عن هذا اليوم ، أشار إلىّّ الرائد فوزى بمرافقته إلي قاعة الطعام وأخبرنى أثناء سيرنا  بأنه أجل موعد تناوله للطعام حتى "نأكل معا عيش وملح علي حد قوله" ، جلست أمامه بقاعة الطعام وأقبل جنديان يقدمان لنا الطعام دون حديث وتبين لى بعد ذلك بأن الرائد/ فوزى وضع لجنوده نظاما صارما سواء من الضبط والربط أو نوعية الطعام حيث أعد لهم جدولا ًعن نوعية الطعام الذى يقدم في كل وجبة وكل يوم بحيث لا يخالفه أحد.

     كان الطعام شهيا ًوبكميات ، لاحظت أن الرائد/ فوزى يتناول طعامه ببطء وخلال ذلك كان يحدثنى عن المنطقة وعن طبيعة عمل المكتب والمهمة التي سوف أكلف بها كما زودنى بالكثير من المعلومات عن طباع أهل القطاع من أبناء فلسطين محذرا لى من بعض التصرفات والأفعال التي قد تسبب لهم ضيقا وتسبب لنا بعض المشاكل في التعامل بيننا ، كان الرجل هادئا ويتعامل معى بأسلوب الند للند وكأننى في نفس رتبته مما أدخل السعادة إلي نفسى حيث شعرت بأنه يحترم شخصى ويقدر فكرى وأننى إنسان وزميل.

      غادرنا المكتب وبعد قليل أقبلت سيارة جيب عسكرية فأشار إلىّ بالركوب من الخلف بينما جلس هو بالمقدمة بجوار السائق ، لاحظت أثناء سير السيارة أو حين لقائه ببعض الأشخاص بأن حديثه معى أمام الآخرين يقترن بالذوق والاحترام حيث كان يقدمنى لأفراد الوحدة بعبارة حضرة الضابط عابد ثم يستكمل حديثه ، أثناء الجولة شاهدت مدينة غزة الجميلة النظيفة ذات الأبنية البيضاء وبدا علي سكان القطاع الرقي والاهتمام بنظافتهم الشخصية خاصة السيدات وهن يرتدين الملابس من أحدث الموديلات والبعض من النساء يرتدين ملابس طويلة فضفاضة من المنتشرة بين سيدات البدو وكان باديا عليهن مستوي عال من الجمال وُكنت ألاحظ البسمة دائما علي الوجوه البيضاء المخضبة بحمرة الشباب والشعر الطويل الذي ُتحركه نسمات الهواء القادمة من البحر.

     توالت الأيام والشهور وقد أصبحت أعلم كل شيئ عن طبيعة العمل والتي لن أتطرق إليها بالتفصيل ولكننى ُكنت مكلفا بالعمل كضابط اتصال مع جيش التحرير الفلسطينى بالإضافة إلى تدوين أية ملاحظات بالقطاع تخص الناحية الأمنية والعسكرية ، كان يعمل معى من الجانب الآخر أى الفلسطينى النقيب/ َســلمان أحد ضباط جهاز المخابرات الحربية الفلسطينية ، تقاربت مع هذا الضابط الذى كان دمث الخلق وُمحبا لوطنه فلسطين ، كان"ً َسـلمان" يقضى وقتا طويلا يتغزل فى وطنه ويطير مع أحلامه إلى عنان السماء متخيلا لحظة التحرير وما سوف يقوم به أبناء فلسطين من عمل لنهضة بلدهم.

    توطدت العلاقة معه كثيرا وفي إحدى المرات عرض علىّ زيارته فى منزله ، وافقت دون تردد رغم أن الرائد/ فوزى حذرنى من أى تصرف مماثل لهذا دون أن أخبر النقيب/ سَـلمان ولهذا لم أتردد في قبول الدعوة لأن المرجع لى هو الذى قدم الدعوة ، بمنزله الجميل التقيت بأسرته ؛ زوجته الصغيرة الجميلة وابنته فاطمة ذات الأعوام الثلاثة ، رحبت بى زوجته وقدمت لى الكثير من الأطعمة ذات المذاق الرائع وأنهتها بالحلوى التي تجيد إعدادها.

     بعد فترة من العمل بالقطاع أصبحت لا أشعر بالـُغربه أو الاضطراب كما سخرت من نفسى حينما تذكرت طلبى من مسئول شئون ضباط المخابرات الحربية برغبتى بعدم العمل بالمكاتب ، لقد كان العمل ميدانيا بكل جدارة وعشقته ولهذا تفننت في القيام به وهذا قربنى أكثر من الرائد/ فوزى الذي صارت علاقتى به قوية جدا مما جعله يتحدث معى ببعض أمور اجتماعية تخصه ، أصبحت الصديق الوفى والزميل الملاصق له رغم وجود عدد من الضباط يعملون معنا وهم أقدم منى رتبة ، انصب هذا الشعور وتلك العلاقة علي إجادة العمل الذي نقوم به ، في كل إجازة أحصل عليها كنت أرغب بالعودة ثانية لعملى حيث كان يشبع طموحى وأحلامى.

     مضت الأعوام وقد تعدت الأعوام الأربعة ودخلت بالعام الخامس ، رقيت خلال تلك الفترة إلى رتبة الملازم أول وها أنا أنتظر بضعة شهور وأحصل علي رتبة النقيب مما دفع بالمقدم/ فوزي الذي ُرقى بالعام الماضى إلى أن يخبرنى بأن إدارة المخابرات سوف تستبدلنى بضابط آخر خلال النشرة العسكرية القادمة في الأول من شهر يوليو عام 1967 أصابنى هذا الخبر بالضيق وكيف لي التصرف ، لقد عشقت هذا المكان وأرغب بأن أظل به إلي نهاية خدمتى بالقوات المسلحة لكن الرغبة شيء والقانون العسكرى شيء آخر ، كنت أفكر وأبحث عن حل لتلك المشكلة ولكننى لم أعثر على أى شيئ يبدد هذا الضيق بل أن المقدم/ فوزى أخبرنى بأنه من غير المنطقى أن نعدل في أوامر القيادات فهذا غير مشروع فنحن نتلقى الأوامر للتنفيذ وليس للتعديل أو الاعتراض ولهذا استكنت وأنا أترقب موعد النشرة العسكرية القادمة في شهر يوليو كأننى أنتظر وصول خبر سيئ وكلما انصرمت الأيام ازداد قلقى وتوترى


حدث ما لم يكن في الحسبان

 

      منتصف مايو من هذا العام 1967 توتر الحال وزال الهدوء وحل محله الاضطراب وسرعة العمل وسرعة وصول الأوامر والتعليمات الكثيرة الجديدة في معناها والمتضاربة في بعض الحالات لكن وتيرة العمل والجهد ازدادت بطريقة غير مسبوقة وبدا هذا واضحا علي الجميع بما فيهم أفراد وقيادة جيش التحرير الفلسطينى.

     بعد عدة أيام من إعلان حالة الطوارىء بالقوات المسلحة المصرية وتنفيذ الكثير من الأوامر والإرشادات طلبنى المقدم فوزى للمثول أمامه بمكتبه فأسرعت إليه وهناك وجدته علي أهبة الاستعداد للتحرك حيث كانت سيارة القيادة التي يستقلها وبعض اللواري تقف بالفناء أمام المكتب وبداخلها جميع ضباط المكتب وبعض ضباط الصف والجنود بأسلحتهم وهم يرتدون خوذة الميدان.

     نظر الرجل إلىّ مليا وبكلمات مقتضبة أخبرنى قائلا ً:  (الحكاية ح تطلع بجد وحنحارب وكل الأخبار الجاية من مصر "القاهرة" بتقول كده .. القيادة  ُكلفتنى بفتح عدة نقط مراقبة علي الحدود من نهاية خط الاتصال بقطاع غزة مع حدود مصر إلي منطقة الحدود الدولية علي موقع العوجة بمنطقة أبوعجيلة .. أنا سايب لك المكتب ودايما خليك على اتصال بالإخوة الفلسطينيين ويمكن القاهرة تبعت لنا دعم من الضباط وضباط الصف وأنا طلبت عدد منهم علشان ندعم مكتب القطاع .. المهم الحكاية يمكن تاخد وقت وخليك في شغلك والأجهزة اللاسلكية تفضل مقفولة والبطاريات تعيد شحنها وتختبر حالة الأجهزة من وقت للتانى يمكن وقت اللزوم نلاقي أي جهاز عطلان كما هي العادة وخد مكانى في القيادة ومعاك العدد القليل من الصف والجنود ولم أفراد المكتب حولك.

    صافحني واندفع خارجا من المكتب وقفز بداخل السيارة الجيب ثم أشار إلىّ فاتجهت نحوه مسرعا وهنا أمسك بكتفى بقوة قائلا ً: (عايز عينيك تفضل مفتحه وودانك تفضل مطرقعه ورأسك مصحصحه لأن أولاد الملاعين اليهود شطار في الغدر كمان سجل كل اإللى يوصلك من عملائنا بعمق إسرائيل وسيب الرسايل بتاعتهم توصل ومش تعلق عليها وكل يوم تبعت ظرف بالمعلومات لمكتب مخابرات القنطرة شرق .. فاهم يا عابد مش ح أوصيك وربنا معاك والبس أنت والرجاله الخوذة وسلاحكم معمر ومعاكم كل خزن الذخيرة  الإحتياطي .. يا للا يا بطل ورينى همتك وإن شاء الله نتقابل علي خير).

    أديت التحية العسكرية واندفعت السيارة التي يستقلها القائد وخلفها اللواري الثلاثة و حجبت عني رؤيتها بوضوح من آثار الغبار الناتج من تحرك السيارات ، كان باديا من حديث وتعليمات المقدم فوزى خطورة الموقف وبالتالى انتقل هذا التوتر إلىّ وبالتالى وصل إلى المعاونين معى ، هكذا وجدت نفسى في يوم وليلة مسئولا ًعن مكتب القطاع بمفردى دون خبرة ولا أملك جرأة المقدم فوزى الذى كان لا يخشى أي تصرف يقوم به حيث كان دائم النشاط ويحصل علي المعلومات دون انتظار أى تعليمات ، لقد كان الرجل سباقا دائما ولا ينتظر رد الفعل علي ما يحدث معنا أو فى مواجهتنا وكان تصرفه هذا مدعاة للتقدير من قيادات جيش التحرير الفلسطينى والمنظمة.

     انتهى شهر مايو ونحن مازلنا نتلقى التعليمات الكثيرة المترددة والتي أوصلتنا إلى حالة من عدم معرفة ما سوف يحدث هل سنحارب أو ننتظر أن يقوم الإسرائيليون بالحرب أو الحكاية تهويش في تهويش وفنجرة  ُبق زي ما ولاد البلد بيقولوا.

    كان واضحا أمامى ومن مصادر المعلومات بداخل الأرض المحتلة أو إسرائيل بأن العدو َيعد الـُعدة للحرب وكنت أقوم بإيصال تلك المعلومات أولا بأول إلى قيادتنا بالقنطرة شرق والتى تضايقت من تلك المعلومات فأرسلت بمذكرة عاجلة تطلب منى ألا أبالغ فيما يقوم به العدو وعلينا أن نتبع المثل الذى يقول "بشر ولا تنفر" !!       

     صدمتنى تلك العبارة وفكرت بأن أرسل لهم بتقرير يقول إن الأمور علي ما يرام وليس في الإمكان أبدع مما كان وأن الوضع حلو زى ما بيقول محمد عبدالوهاب "فيك عشرة كوتشينه في البلكونة" ولكنى خشيت أن أتعرض للمساءلة بأنى أسخر من القيادة أو تيجى الطوبة في المعطوبة وتقوم الحرب وتحدث خسائر وأصبح أنا كبش الفدا وبأننى تركت العمل لأسخر من قيادة مكتب مخابرات القنطرة ولهذا آثرت السلامة مواظبا علي إرسال التقارير.

    كان واضحا بأن الأعداء سوف يقومون بحرب أو على الأقل بعملية عسكرية في مواجهة القطاع وقد أبدى بعض الضباط الفلسطينيين عددا من الملاحظات المؤيدة لمكتب مخابرات القنطرة وأن الحكاية تهويش والموضوع ح ينام ويصبح علي فشوش وبلاش تشغل بالك ، شعرت بأنني المخطئ بين الجميع ولكن من ستر ربنا معى أن النقيب/ َسـلمان الفلسطينى الذي كان حلقة الوصل بين الجيش المصرى والفلسطينى أيد كل ما تحدثت عنه وأخبرنى بأن اليهود لا يعدون العدة في مثل تلك الأحوال إلا ويقومون بعملية هجومية والحكاية  ح تولع بعد يومين أو تلاتة.

    كان الرجل ُمحقا في استنتاجه لأنه في صباح يوم الاثنين الخامس من شهر يونيو عام 1967 قام العدو بالهجوم علي الجيش المصرى وقد سبقه هجوم جوى كاسح علمت بأنبائه نهاية اليوم وأن هذا الهجوم أنهى علي قواتنا الجوية ودمرها تدميرا كاملا والهجمات البرية علي قدم وساق لكن القطاع لم يتعرض لهجوم بل تعرض لحصار من الغرب وأصبح محصورا بين الجيش الإسرائيلى شرقا وغربا وشمالا البحر الأبيض.

     لقد ترك العدو القطاع حتي ينتهى من معاركه مع الجيش المصرى ، فى مساء اليوم التالى أقبل عليّ النقيب/ َسـلمان ليخبرنى بأن المعلومات القادمة من القاهرة تطلب من الجيش المصرى علي الحدود التراجع إلي خط الدفاع الثاني وبناء عليه فإن قيادة الجيش الفلسطينى طلبت هى الأخرى بأن يتم سحب الوحدات الفلسطينية ولا تبدى أية مقاومة بداخل المدينة حتي لا يجدها العدو ذريعة ويصيب الكثير من المدنيين كما يجب علينا إخلاء المكاتب وخاصة مكتب المخابرات المصرى المرصود والذي سيكون أول من يقصف.

     أصابنى التوتر وبلادة التصرف ، كيف سأترك المكتب وإلي أين ولم تصدر لي أوامر أو تعليمات من أى شخص من القيادة .. حاولت الاتصال بالمقدم فوزى لا سلكيا ولكن الشبكة كانت متداخلة مع القوات المنسحبة وبدا من أصوات المتحدثين الربكة والتخبط والاضطراب ، مازال َِسـلمان يدفع بى لتنفيذ أمر الانسحاب وأنا أخشى التنفيذ ؛ لأنه لم تصلنى أوامر بخصوص هذا حتي الآن.

    صباح اليوم الثالث الموافق السابع من يونيو شاهدت المعاونين لي بالمكتب وهم يستعدون لتنفيذ أمر الانسحاب ، شعرت بأنني ُمحاصر وبأننى المخطئ ، سألت َسـلمان ما الطريق الأوفر للانسحاب وأجابنى بسرعة بأنه لا يوجد طريق أمامنا سوى الهرب عن طريق البحر مستخدمين بعض قوارب الصيد ، أسرعت مع المعاونين بحرق كل المستندات بالمكتب وتحركنا بسرعة في اتجاه البحر حيث قطعنا مسافة تزيد عن اثنين كيلومتر حتى وصلنا إلي الشاطئ فشاهدت جموع الراغبين في الانسحاب بأعداد كبيرة مثل ما يحدث في محطة القطارات بالقاهرة أثناء المواسم والأعياد فالكل راغب بالعودة إلي بلده.

     أيقنت لحظتها أن تلك المحاولة سوف تفشل وسوف ُيقتل العديد منا نظرا لأصواتهم المرتفعة والمشاحنات الغاضبة التي بدت بينهم ، رفضت أن أنخرط بينهم كما أيدني صديقي " ََسـلمان" رغم محاولات جنود المكتب اللحاق بهؤلاء ولكني خشيت من هذا الهرج وتلك الغوغائية ومنعتهم من ذلك الاندفاع.

         في صباح اليوم الرابع للمعركة الموافق الثامن من شهر يونيو عام 1967 لم أعثر علي المعاونين لى سواء ضباط الصف أو الجنود فلقد هربوا مع الجميع ليلا واستقلوا القوارب ، جلست وزميلى "سَـلمان" نتباحث في الأمر وأثناء حديثنا ونحن بمفردنا هاجمنا بعض الجنود الإسرائيليين فجأة من جميع الجهات شاهرين أسلحتهم طالبين منا التسليم أو فتح النيران علينا ، لم يكن أمامنا بد سوي التسليم ، رفعنا أيدينا وأقبل قائدهم وهو برتبة النقيب والذي كان يعلم شخصية كل منا وتحدث معنا بأقوال سيئة تافهة تدل علي مستوى أخلاقه ثم اتبعها بعدة لكمات لكل منا أسالت الدماء من وجهنا حيث كان يضع شيئا معدنيا في يده مما ساعد علي إحداث جروح أسالت دماءنا.

    كان عدد من هاجمونا يقارب العشرين فردا ، ترك القائد الإسرائيلي خمسة من جنوده معنا للحراسة وأمرهم بربط أيدينا بجذع أشجار النخيل حتي يعود من مهمة سريعة وأية محاولة للفرار يتم إطلاق النار علينا وقتلنا في الحال ، كنت أشعر بشعور الأسد أو النمر الذي وقع في الأسر ، حاولت التفكير فى عمل أى شئ ما للهرب ولكن عقلي لم يساعدنى ، مضى علي وجودنا بالأسر عدة ساعات دون ماء وقد قاربت شمس هذا اليوم علي المغيب ، شعرت بأن النوم يغالبنى وأثناء تلك الغفوة الجميلة فزعت علي سماع أصوات إطلاق عدة رصاصات شعرت بعدها بأن جسدى يميل إلي أحد الأجناب والدماء تنزف مني.

     سمعت من يحدثني بلهجة مصرية ، تنبهت فشاهدت ضابطا مصريا في نفس رتبتي يحدثنى مبتسما ثم نزع السونكى وفك به يدى المربوطة ثم اتجه إلى "سَـلمان" وفك وثاقه أيضا ، نهضت ووقفت ألمـلم نفسى المبعثرة علي تلك الأحداث السريعة المتلاحقة في دقائق قليلة ، لم أشاهد إصابة ألمت بى ولكن خوفى وجذعى آثار هذا بمخيلتى ونفس المشاعر شعر بها "سَـلمان" الذى كان يقف هادئا شاكرا لمن قام بهذا العمل ، تبادلنا التعارف .. إنه فاروق الفيومى ابن حي شبرا ، كنت أستمع إليه وأنا في حالة من الانبهار والسعادة ، فقد كان هادئ الأعصاب مبتسما ًوكأنه ليس في حرب ، أخبرنا بأنه منذ أول أمس وبعد أن تفسخت وحدته وتبعثرت في الصحراء بعدها هام علي وجه مقررا اصطياد الإسرائيليين الذين يقع نظره عليهم شريطة ألا يكون عددهم كبيرا ، لقد استطاع قتل العديد منهم وفكر في أسر بعضهم ومازال يهيم بالصحراء لهذا العمل ، نظر إلينا قائلا ً "مش راجع مصر" .. أنا جيت للحرب وح أفضل أحارب ومحدش بيختار الموته اللي ربنا كتبها له" وأعقب هذا بضحكة ساخرة لا تدل علي أننا في حرب وأمامنا خمسة أشلاء لجنود الأعداء قتلى ، طلب منا التحرك وترك المكان.

    رافقنا فاروق وتحركنا نحن الثلاثة بسرعة ، هنا أشار لنا "سَـلمان" بأنه يشاهد قاربا في ظلام الليل الذى أسدل ستارته علي سيناء ، أسرعنا في الاتجاه الذى أشار إليه رغم أن الملازم أول فاروق الفيومى كان معارضا هذا لأن الطائرات الهليوكوبتر سوف تتبعنا في الماء ولكن "سَـلمان" أقنعه بأن هذا لفترة الليل حتى نبتعد عن هذا المكان ؛ لأن الوحدة التي يتبعها الجنود القتلى سوف تعود وتكتشف الأمر ولهذا فيجب علينا الابتعاد والحذر.

     وصلنا إلى الشاطئ وشاهدنا القارب الذي لم يكن قاربا بل كان مركبا ؛ لأن حجمه يزيد عن حجم القارب عشر مرات تقريبا كما أن حمولته لا تقل عن ثلاثين فردا وأهم شئ كان يميزه أنه مزود بصارى وقلع وهذا يزيد من سرعته ويقلل من عبء المجهود البدنى الذى سوف نتحمله للسير به في الماء.

     كانت المشكلة الكبيرة التي واجهتنا ثقل وزن القارب فلم نستطع نحن الثلاثة دفعه بالماء ، نظر "سَـلمان" إلى السماء وابتسم قائلا ًبعد قليل سوف يأتى المد فيرتفع منسوب المياه ويصل إلى بطن القارب علي الشاطئ مما يسهل علينا دفعه داخل الماء.

      جلسنا نحن الثلاثة ننتظر ارتفاع منسوب المياه والذي بات واضحا أمامنا بأنه قد حدث حيث وصلت المياه إلي الرمال التي كنا نجلس عليها ولهذا كنا نبتعد عن الشاطئ عدة أمتار حتي وصلت المياه إلي المركب وبدا واضحا أن المركب يهتز وهذا يدل علي سهولة دفعه ، نهضنا وقمنا بدفعه إلى داخل المياه ، كانت سعادتنا كبيرة ولكن فجأة غمرت المنطقة أضواء ُمبهرة قام بها العدو فقد أقبل رجال الوحدة الإسرائيلية واكتشفوا ما تم مع زملائهم فسعوا خلفنا حتى عثروا علينا ، لم ينتظر فاروق ولو لحظة واحدة وتصرف بسرعة وأطلق نيران رشاشه علي الفور في اتجاه كشاف السيارة فعم الظلام وعم المكان سماع أصوات الرصاص المتبادل بيننا وبينهم.

     بات واضحا حدوث خسائر بين الطرفين ، فقد أصيب فاروق الفيومي ومازالت نيران مدفعه الرشاش تدوى رصاصتها في جوف الليل ومن الجانب الآخر تبادر إلي سمعنا أصوات أنين ونواح علي المصابين أو القتلى الإسرائيليين ، عم السكون المكان وشعرنا بأنهم ينسحبون مما دفعنا إلى النهوض بحذر واستكمال دفع المركب إلي داخل المياه وتبين لنا أن إصابة فاروق الفيومى كانت شديدة من الدماء الغزيرة التي نزفت من جسده من أكثر من مكان ، تعاونت مع "سَـلمان" وحملناه إلي داخل المركب ، كان الشاب ينظر إلينا ولسان حاله ينطق بما سوف نواجهه من مشاكل وعقبات كما كان يرتسم علي وجهه مدي الألم الذي كان يعاني منه بسبب الإصابة التي تبين لنا علي أضواء الفجر الأولى بأنها أصابت جزءا كبيرا من البطن والدماء تغطى ملابسه.

      قام "سَـلمان" بفرد الشراع وتوجيه المركب فقد تأقلم وتدرب علي تلك الأمور حيث أنه من عائلة تملك بعضًا من قوارب صيد السمك بميناء غزة ، صافحت وجهى نسمات الصباح النادى وكنت أشاهد المياه علي جانبى المركب ولونها ما بين الأزرق والبعض تبدل لونه إلي الأبيض بسبب الفقاقيع الناتجة من اختراق مقدمة المركب لصفحة المياه الهادئة ، كان سطح مياه البحر الأبيض هادئا رائقا والصمت يلف الجميع ، مازلت أنا وَسـلمان نساعد في دفع المركب بالمجاديف الطويلة ، شعرت بأننا قطعنا مسافة طويلة وابتعدنا عن موقع الاشتباك مع الأعداء ، اقترب موعد الظهيرة فقد أصبحت الشمس عمودية وكنت أتبادل مع "سَـلمان" رعاية فاروق وقد ألم بنا نحن الثلاثة العطش والإرهاق فقد أثرت كميات البخر علي أجسامنا فزادت من شعورنا بالاحتياج إلي المياه ، لم يكن من المستساغ تناول مياه البحر المالحة ؛ لأنها سوف تزيد من حاجتنا لمياه الشرب الصالحة.

     حاولت عمل كمدات مياه علي وجه وجسد فاروق ولكن "سَـلمان" نصحنى باستبعاد تلك الفكرة التي سوف تؤثر على صديقنا بالسلب من أثر ملوحة المياه ، كان واضحا شراسة وكفاءة وشجاعة فاروق سواء في اللقاء الأول حينما ساعد علي فك أسرنا أو أثناء اللقاء الأخير في بداية ليلة الأمس حين تبادل إطلاق النار علي القوات المهاجمة ، كان الشاب صلدا وهذا نابع من فطرته فهو من أبناء حي شبرا ، وهو من أهم أحياء القاهرة والذي كان يتميز شبابه بالشجاعة ومعاونة الآخر والدفاع عن الضعيف وحماية المستجير.

      تبادلت أنا و"سَـلمان" النظرات من حين لآخر ونحن نطالع أحوال فاروق وقد هدأت حالة النزف وقلت كمية الدماء المتدفقة من جسده ، اعتدل فاروق في جلسته من وضع النوم جانبيا إلى وضع النوم مستلقى على ظهره ناظرا إلينا كأنما لسان حاله يخبرنا بأنه بخير وعلى أحسن ما يرام ، بدا في إطلاق بعض النكات الضاحكة كما دندن ببعض أغان شعبية شائعة ويغلب عليها الألفاظ الخليعة والمنحطة ويعقب كل أغنية بضحكة عنترية قوية ، ُكنت متخوفا عليه حيث ما يقوم به لا يتناسب ووضعنا الصعب وحالته الصحية فنحن علي كف عفريت وقد نفاجأ بشئ غير طبيعى من العدو ، وهذا وارد ورغم هذا فما زال فاروق ضاحكا سعيداً  ًُمطربا بصوت أبعد ما يكون عن الطرب والغناء ولكننى كنت أعتقد بأن الشاب يودع الحياة ولهذا رغب في أن يكون وداعه ضاحكا باسما كأنما يري ويشاهد شيئا عزيزا أمامه خاصة أنه عكف عن الغناء والضحك وبدا ينظر إلي السماء بنظرات حالمة ويبتسم ابتسامات طيبة كأنما سمع أو شاهد شيئا عزيزا عليه.

     أشار إلىّ سـَلمان" بأن أنظر إلي الجهة الأخرى والتي أشار إليها ، وجهت نظرى إلي تلك الجهة فشاهدت عدة قوارب صغيرة تتراقص علي صفحة المياه الزرقاء ، كان منظرها يخلب العقل والعين فكانت أشبه بفراشات صغيرة ترفرف في سماء الكون الأزرق الصافي وتلك الفراشات متنوعة الألوان بناء علي ألوانها ومما زاد من روعة تلك اللوحة الطبيعية الرائعة هو مشاهداتنا لأسماك "الدلفين" وهى تقوم باستعراض راقص حول تلك القوارب وبالتالى كانت الصورة جميلة لأقصى درجة.

     لم تتركنا "الدلافين" بمفردنا حيث أقبل البعض من أسرابها وقامت بعرضها الراقص أمام المركب وهي تحدث أصواتا ًُمميزة من حولنا ، شاهدت الأسى والحزن علي وجه "سَـلمان" وحينما شاهد انعكاس ملامح وجه علىّ أخبرني قائلا ًبأن "الدلفين" متوتر وهذا يدل بأن شيئا سيئا حدث أو قد يحدث بعد قليل ، ابتسم فاروق وهز رأسه وأشار بيده مؤكدا حديث "سَـلمان" ، اقتربنا أكثر فأكثر من تلك القوارب ولكن أصابتنا الدهشة والصدمة حيث كانت القوارب عبارة عن توابيت خشبية عائمة علي سطح البحر وكل قارب به ما بين ثلاث إلي خمس جثث والبعض هاجمه التحلل وانتشرت الرائحة الكريهة في محيطها ومن خلال مشاهداتي تلك شاهدت جثث بعض جنودي الذين فروا دون إذن منذ الليلة الثالثة لبدء المعارك.

    تبادل ثلاثتنا النظرات وما الحل الذي يجب علينا القيام به؟ كانت الإجابات غير واضحة المعنى ، أحدنا صرح بأنه يجب علينا جمع جثث هؤلاء الرجال والتوجه إلى البر لدفنهم وأبديت برأى مفاده ببقاء الجثث على حالها أما فاروق فكان من رأيه بأن نلقى بتلك الجثث بعرض البحر حتى تتحلل وكأننا قمنا على دفنها ، أثناء هذا الحوار كانت الطيور البحرية تهبط علي القوارب تنهش الجثث وهذا ما دفع بالزميل فاروق إلي تقديم اقتراحه.

     اقتربنا أكثر فأكثر وبالخطاف الموجود بالمركب استطعنا تجميع بعض القوارب بجوار المركب الذى نستقله ، كانت فكرة تجميع هؤلاء والعودة بهم برا صعبة للغاية فمن يستطيع نقل كل هؤلاء ومن سيقوم بهذا العمل سواي و"سَـلمان" كما أن الكثير من الجثث بدأت في التحلل ومنظرها ورائحتها تثير الشجن والألم ، أثناء ذلك نما إلي سمعنا صوت طائرة ، طلب منا سـَلمان" أن نظل ساكنين بالمركب ولا نأتى بأية حركة حتي لا يلاحظنا من بالطائرة فيطلقون النار علينا ونهلك في الحال ، بالفعل لم يتحرك أحد منا وقامت الطائرة بعمل دورة بأعلى ثم عادت تاركة المكان بعد أن تأكد لها بأن كل من على متن تلك القوارب قد ماتوا جميعا.

     مازالت الطيور البحرية تهبط على القوارب المجاورة لنا فتحصل على طعامها من تلك الجثث الكثيرة ونحن لم نتخذ قرارا بعد ، هل نتحرك بهم إلى البر ونقوم علي دفنهم ونواريهم الثرى وهذا قد يعرضنا للخطر بان تهاجمنا أية وحدة من قوات العدو أو نتركهم هكذا لعوامل الطقس الحار والرطوبة المرتفعة والبخر الذي تسبب في شى جلودنا خاصة منطقة الوجه والرقبة أم نلقى بهم في المياه ، كانت كل البدائل المطروحة أمامنا صعبة للغاية سواء في التنفيذ أو لخطورة ذلك لما يمثله هذا من عبء نفسى ونحن نلقى بزملائنا في عرض البحر.

      لم يدم الوقت طويلا إذ سمعنا صوت لنش للبحرية الإسرائيلية سرعان ما وضحت صورته حين اقترب منا حيث كان متجها لمجموعة القوارب التي تحمل الأشلاء ، لم يتوقف اللنش ومازال يتحرك بسرعته وبمدفعه الرشاش أطلق نيرانه علي كل الأهداف بالبحر بغزارة طالت مركبنا حيث كانت الرصاصات تخترق جدار المركب محدثة أصواتا عنيفة ، لم أشعر بما أصابني حيث شعرت بدماء ساخنة تتدفق من فخذ ساقى الأيسر وآلام مبرحة وفى الوقت نفسه شاهدت زملائى جثثا هامدة بعد إطلاق عدة صرخات مكبوتة وأصبح بطن المركب مغطى بالدماء ، لم أستطع التصرف بل كنت أشاهد الدماء تنزف منى وأنا ثابت لا أستطيع التحرك وكأن تلك الساق لا تخصنى ، وأنا علي هذا الحال شعرت بأن المياه تندفع من باطن المركب ولم يكن اندفاعها شديدا بل كان من الممكن السيطرة عليه لو كانت حالتى الصحية تسمح بذلك.

     بعد فترة استطعت التحرك وتوجهت للزميلين "فاروق وسـَلمان" وحركت جسد كل واحد منهما وخاطبتهما دون جدوى ، لقد تأكد لى أنهما فارقا الحياة حيث أصابتهم العديد من القذائف التي انطلقت من مدفع اللنش الإسرائيلى ، استلقيت علي جدار المركب ومازالت الرياح والحرارة والبخر تحرق وجهى بألم لا أستطيع شرحه أو وصفه كأن الإنسان وضع وجهه فوق إناء به ماء يغلي والبخار الحارق يتصاعد منه ، هاجمني النوم أو الإغماء ؛ حيث كنت أشاهد الأشياء مكررة فكل جثمان زميل أشاهده لعدة أشخاص كأنما أصبح القارب مليئا بالموتى ، أحترقت عيونى من أشعة الشمس وأصبحت دامعة وأشعر بالألم بداخلها.

    لا أستطيع تحديد الفترة الزمنية التي رحت فيها في سبات لكنى تنبهت على أصوات "نوارس" البحر وقد حطت علي أجناب المركب وتوالت الأسراب في الهبوط حتي خيل إلي أنني أعيش في جزيرة منعزلة مع تلك الطيور البيضاء ، قفز أحد تلك الطيور وحط علي جثة زميلي "فاروق" وتبعه البعض والبعض الآخر اتجه إلي جثة "سـَلمان" ثم أتي إليّ البعض ، مجرد أن حط أول طائر فوق جسدى حتي هببت مذعورا أشير إليهم صارخا هاشا بيدى بأن أبعدوا ، ابتعد البعض وظل عدد قليل منها واقفا أمامى أما من ابتعد فقد ركز عمله على الزميلين ، كان شيئا فظيعا وأنا أشاهد تلك الطيور الجارحة وهي تتقاتل علي قطع اللحم التي استطاعت استخلاصها ، لم يكن لدي القدرة لفعل أي شيء ، فكرت بأنه يجب علىّ الابتعاد  ومغادرة هذا المركب ولكن إلي أين؟ ثم فكرت بالقفز إلى المياه ولكنه لن أستطيع الصمود طويلا وكنت أشاهد أشجار النخيل علي البر على مسافة لا تقل عن اثنين كيلومتر ولن أستطيع الصمود سباحة تلك المسافة الطويلة وما عليه حالى كما كنت أخشى أسماك الدلافين بحجمها الكبير وبأعدادها الوفيرة والتى تحيط بالقوارب ولكنها لم تهاجم أى قارب أو تتناول طعاما من أجساد  الضحايا التى به.

      عادت طيور النورس للهجوم علي جسدى للمرة الثانية وشعرت بأول نقرة برقبتى من إحداها حيث شعرت بألم شديد كأنه خنجر ونصله السيئ اقتطع جزءا من جلد الرقبة ، لم أستطع الصياح حيث كنت أشعر بآلام في اللثة وبأسنانى وكنت أشعر بأن فمى في حالة سيئة من الالتهاب والألم ، تحاملت علي نفسى وهبطت أسفل المركب واختبأت بحجرة صغيرة لأبتعد عن خطورة تلك الطيور التي كانت بأعداد كثيرة ، انشغلت الطيور عنى بالوليمة بأعلى المركب ولكن البعض أتى إلي حجرتى محاولا الهجوم علىّ ، لم تكن الحجرة مزودة بباب فهى حجرة صغيرة لا تزيد مساحتها عن متر مربع وحجمها بالكاد متر مكعب ، كنت في خوف ورعب وأنا أشاهد تلك الطيور الراغبة بالفتك بى وما شاهدته على زميلىّ أثار الرعب والهلع في نفسى ، لم أستطع التصرف ، شاهدت خلفى لوحا خشبيا أعتقد بأنه الباب وأنه يوضع بوضع الركن وليس له مفصلات أو ترباس ، بكل عزمى وقوتى أتيت به ووضعته علي الباب ووضعت ساقى خلفه أسنده حتى لا يقع ويسقط علىّ.

     كنت أسمع مناقير الطيور محاولة الوصول إلىّ وأنا بداخل الحجرة الصغيرة لا حول لى ولا قوة ، إلى أين الهرب فكل الظروف المحيطة بى سيئة إلى درجة كبيرة وتساءلت لماذا تترك تلك الطيور الجثتين بأعلى وتهاجمنى ، ظل هذا الحال لفترة أعتقد أنها تخطت ساعة زمن ، لقد كان الوقت طويلا وكأنه دهر من الزمان وحينما كنت أحاول التفكير في إنقاذ نفسى لا أعثر علي أى حل أستطيع من خلاله العمل علي بقائى علي قيد الحياة من خطورة تلك الطيور القاتلة حيث ُكنت أشعر بفراغ في عقلى ولا أجد المخرج أمامى من حالتى الصحية السيئة.

     ظللت علي هذا الحال حتى شعرت بأن الليل جن ولا ضوء يدخل علىّ في مكمنى هذا فخرجت أتسلل إلى بطن المركب ، لم أعثر علي أي طائر وحمدت الله على ذلك ، جلست قليلا وضرب ضياء القمر وجهى بضوء خافت لفترة زمنية وأعتقد بأن هذا الوقت كان في الربع الأول من الشهر العربى لأن ضياءه جفل وانفك مسرعا تاركا البحر وأنا بداخله في ظلام الليل وظلام الحياة القاسية ، علي ظلال الأضواء البسيطة شاهدت الزميلين ، لم أستطع الصراخ وكل ما حدث أن هاجمنى الإعياء فسقطت في باطن المركب ولكنى شعرت بأننى سقطت في بركة مياه فلقد تزايدت كمية المياه المتسربة إلى المركب والتى أصبحت تغطى نصفه على أقل تقدير ، وهذا يعنى بأن المركب سوف يغرق بعد ساعات قلائل ثم شاهدت قطع من اللحم المتناثرة ؛ مع زيادة التركيز تبين لى أنها بعض أجزاء من المعدة وخلافه تخص الشهيدين مما زاد من فزعى وشعرت بأنه سوف يدفع بى للجنون.

     ما أفزعنى هو مشاهدة الهياكل العظمية للزميلين بعد أن نجحت طيور النورس في التهام الجسدين ، كانت عظام يحيط بها احمرار وبقايا ملابسهم وبعض شعر بالرأس وأصابع اليدين ، لم أستطع أن أفرق شخصية كل واحد عن الآخر فقد التهمت طيور النورس الشهيدين بالكامل ، الآن علمت نهايتى المحتمة والقادمة ، ناجيت ربى بأن ينهى حياتى حتى أتخلص من هذا الألم النفسى والبدنى ، نظرت إلى المياه الهادئة الساكنة أعيد التفكير ، هل من الواجب علىّ القفز في المياه وأكمل طريقى سباحة حتى الشاطئ.

     لم أكن أعلم أين اتجاه الشاطئ وأثناء هذا شاهدت سراجا يضئ ويخفت في اتجاه ما ، أتساءل هل هو الشاطئ أو أنها مركب في المياه تقوم علي الصيد ، كان واضحا أن سبب تراقص تلك الإضاءة أنها منبعثة من ِمشعل يدوى أو لمبة أو فانوس وليست إضاءة من كهرباء مركب فلا يتم تراقص ضياء الكهرباء بتلك الطريقة ، جاءت موجة شديدة دفعت بالمركب المغطى بالمياه إلى مسافة بعيدة في اتجاه الإضاءة ، شعرت بأننى اقتربت من الشاطئ خاصة حينما سمعت أصوات بشر وصوت نباح كلب ، إذا ًاقتربت من الشاطئ ، جمعت كل شجاعتى محاولا ً القفز إلى الماء ولكنى جبنت ، ظللت على هذا الحال لأكثر من ساعة تقريبا وكل ما حولى يثير الرعب والخوف فسماء ُمظلمة ومياه سوداء ولا أعلم ما يخبئه لى القدر في هذا الظلام من شر ينتظرنى سواء بأعلى من النوارس البحرية أو من أسفل من أسماك الدلافين أو من غيرها ، أخيرا صدر قرار الطبيعة حيث  غاص المركب في المياه وشعرت بأننى أطفو فوق سطحه وشعرت ببرودة المياه والبلل.

     قاومت خوفى وألمى بالسباحة حبا ً في الحياة ودفاعا عن النفس بأننى لن أظل لقمة سائغة لطيور النورس البحرية ، كنت أسبح بكل قوتى رغم إصابتى الشديدة والالتهابات والتسلخات بمسطح جلد الوجه والرقبة ، كنت أشعر بأننى ُعدت إلى الوراء عدة أعوام حينما كنت أغامر بالسباحة لمسافات طويلة منافسا أصدقائى بالإسكندرية ، إذا ًاستعاد عابد السباح الماهر لياقته وقوته مما دفع بى للشعور بالثقة فساعد هذا على أن تعود إلىّ بعض من شجاعتى التى ولت وهربت منذ مشاهدة النوارس البحرية ، ظللت أسبح وأسبح وأشاهد الأضواء تقترب منى وهذا دليل بأننى قريب من الشاطئ.

     لم أشعر بما يخبئه لى القدر فقد شعرت بأن بالمياه كائنات دقيقة وصغيرة تنهش في جسدى ولا أعلم ما هذا؟ هل هي قناديل البحر الحارقة للجلد والتي شاهدت من آثارها الكثير علي المصطافين من حالات احتراق للجلود ، عدت ونفيت أن تكون قناديل البحر حيث إن نشاطها صيفا أثناء النهار كما كنت أشعر بسكاكين تقطع بجسدى وتأكد لى بعد ثوان أنها  أسماك خاصة من التى تبحث عن الدماء أو الجثث الغارقة ومهمتها تنظيف المياه من الكائنات النافقة ، أحاطت بى تلك الأسماك والتى تتحرك بأسراب تضم المئات ، لقد تأكد لى أنها أسماك من النوع القاتل التى تهاجم الأسماك الكبيرة الميتة وتقوم بالتهامها ، كنت أشبه بأى كائن يحتضر أو مات وتلتهمه أسراب النمل مثل ما كنت أشاهدها تهاجم دود القز الذى ُكنت أحتفظ به داخل علبة أثناء مرحلة الدراسة بالابتدائى حيث يهاجم الديدان ويقتلها ويقطعها إلى أجزاء صغيرة ينقلها إلى عشه استعدادا لفترة البيات الشتوى ، كنت أصرخ وأتألم ولكن من يسمعنى ومن يعمل على إنقاذى.

    أثناء ذلك شاهدت عيونا كبيرة وأجسادا طويلة تحيط بى ، انتابنى الهلع ، هل هي أسماك القرش أو أسماك الدلافين التي سوف تبتلعنى في دقائق ، تأكد لي أنها أسماك الدلافين ، هربت منى الحياة وهاجمنى الاغماء وأنا متجه للدخول في حالة من الغيبوبة التامة شعرت بمن يدفع بجسدى للأمام وشئ مثل العوامة يرفعنى من الماء لأعلى حيث توقفت عن السباحة وشعرت بأننى أغطس إلى داخل الماء وسوف أختنق أسفل سطح البحر لكن تأكد لى بأن أسماك "الدلافين" هى التى ساعدتنى على الطفو ودفعت بى فى إتجاه الشاطئ ، لا أعلم ماذا حدث بعد هذا ولكنى تنبهت وأفقت علي شئ مؤلم يمزق جانبى الأيسر وشعرت بالدماء حارة تندفع من جسدى فقد إصطدمت بقطع من الصاج الملقاة بالبحر علي الشاطئ وأعتقد أنه برميل صاج فارغ فمزق جسدى الذي كان شبه هلامي من احتراقه متأثرا بأشعة الشمس وبخر المياه المالحة ، لم أعد أشعر بأى شئ سوى إننى اتنفس وأعيش وأنا مستلق على الشاطئ ومازلت أعيش حيث ُكنت أسمع بعض أصوات لبشر وأشعر بهبوب الرياح على جسدى المبتل كما ابتعدت عنى الأسماك الصغيرة القاتلة وأسماك الدلافين المرعبة والتي تجاوز عددها الأربعة على الأقل.

     ظللت على هذا الحال لفترة لا أستطيع تحديد توقيتها الزمنى , تنبهت من حالة الإغماء المتقطع وتأكد لى بأننى مازلت مستلق على رمال الشاطئ وابتعدت عن الماء كيف تم هذا لا أعلم ولكنى أعتقد أن موجة الجزر هى التى قامت بهذا فانحسرت المياه عن جزء من الشاطئ ، شملتنى السعادة رغم ما ألم بى من آلام وأوجاع بكل أنحاء جسدى ، بعد قليل شاهدت السراج المضئ الذى كنت قد شاهدته وأنا بداخل المركب قبل أن تغرق بداخل البحر ، سمعت وشعرت ببشر يتحدثون بلهجة عربية واضحة وأقرب ما يكون إلي لهجة المصريين ، كانت الأصوات ناعمة والتى تدل على أنها لنساء وليس لرجال ، اقتربت منى الأصوات أكثر فأكثر ، يصاحبهم ضوء خافت ، لم أشاهدهم ومازلت مستلق علي وجهى ، اقترب أحد الأشخاص  منى وتبينت من درجة الصوت أنها لسيدة قامت تتفحصنى وأخبرت الأخريات بأنه قتيل من آثار  الحرب.

     سمعت اراء عديدة ، إحداهن تطلب تركى لحالى وأخرى ترفض هذا وإننى سوف أسبب لهن الأمراض والرائحة الكريهة ، تحدثت إحداهن بأنه من الأفضل نقله إلى مكان بعيد جنوب الدار بمائتى متر ونقوم بعمل حفرة بالأرض نوارى فيه جسده قبل التحلل ، تساءلت إحداهن وكيف ننقله من هذا المكان وكل جزء بجسده مقطع وممزق والدماء مازالت تسيل منه ، أجابت الأخرى بأننا نستطيع وضعه في لفافة مثل بطانية قديمة ونرفعه فى نقالة الأتربة ذات العجلة الواحدة وندفع به أو نجره أرضا وهو ملتحف بالبطانية ، مازالت المناقشات دائرة والاقتراحات مستمرة وكل ما تأكدت منه أننى سوف أوارى التراب بعد قليل وهن يشاهدن ما أنا عليه وأن حالتى سيئة للغاية وكلها دقائق وأسلم الروح وأنتقل إلى جوار ربى وألحق بمن سبقونى وهم جنودى وزميلىّ "َسـلمان وفاروق الفيومى" . شعرت بأننى أهوى من قمة مرتفع عال وروحى ُتسحب من بين ضلوعى ولم أعد أسمع نقاشا ًفقد أغلقت أذنيَّ.

    بعد قليل تنبهت وسمعت همهمة ثم شعرت بأن جسدى ُيدفع وتبدل وضعى وأصبحت أنام علي ظهرى أشاهد السماء وتلك الوجوه التي  ُتمعن النظر فىّ خلال ظلام دامس لا يبدده سوى ضوء الفانوس الخافت ، شهقت إحداهن تخبر الأخريات بأن الرجل مازال حيا وسمعت تنفسه وأخرى أخبرتهن بأنها شاهدت لمعة عينيه والتى تدل علي أنه ما زال حيا ، سمعت إحداهن تحمد الله وتحدثت قائلة :

ـ يا للا يا بنات نشيله على الدار نحاول نسعفه دا باين عليه شاف أهوال ومصاعب كبيرة.

شعرت بأننى أحُمل وجمع من النساء من حولى ولكن ما شد انتباهى أننى شاهدت طفلة لا يتعدى عمرها السبعة أعوام وهى ترفع ذراعى مما دفع بدموعى إلى الخروج لتغسل بعضا من الآلام الصعبة لأيام عديدة ماضية.

     بداخل حجرة متواضعة الأثاث أضيئت بعض اللمبات الإضافية فازداد الضوء بداخل الحجرة ُوشاهدت أيادى كثيرة تمتد وترفع جسدى ووضعت علي ما يشبه الكنبة البلدي ، ثم قالت إحداهن:

ـ باين عليه عطشان ، بسرعة يا " ُرقيـة" هاتى ميه ، شاهدت "كوز" من الألومنيوم ورفعت إحداهن رأسى وأعطتنى الماء الذى كنت أشرب منه بنهم فقد بلغ منى العطش مداه خلال الأيام الأربعة الماضية ، رغبت إحداهن في إبعاد الكوب عن فمى ولكنى عضضت عليه بأسنانى حتى ارتويت واستلقيت فاقدا للوعى مرة أخري ، شعرت ببعض الآلام فتنبهت فشاهدت البعض منهن ينزعن عنى ثيابى حتي وصلت إلى ملابسى الداخلية فأشارت كبراهن وأعتقدت أنها الأم وتأكد صدق حدسى بعد هذا بأن تترك الفتيات الحجرة حتى تأذن لهن بالعودة ، نفذت الفتيات أمر الأم وبعد هذا طلــبت منهن العــــــــودة بعد أن سترتنى ببعض

 

الأقمشة البالية وأصبحت ملفوفا "بـ كافولة" مثل الأطفال الصغار.

    طلبت الأم من البنات إحضار بعض الأغراض والتى كنت أستمع وأشاهد وأنا شبه مخدر ، قطع من القماش على هيئة شرائح ومرهم "زنك" وبعض من القطران المتحفظ عليه لمنع مياه الأمطار من التسلل إلى سقف الدار ، كانت الأم تعمل بهمة ونشاط وتشير إلى بناتها برفع جزء من جسدى فيقمن بالتنفيذ الفورى ، طلبت السيدة التى كانت تصدر التعليمات والتى أعتقد أنها "الأم" من إحداهن تسخين ماء ووضع الدلو الذى به القطران فوقه ، شممت بعد فترة رائحة القطران ، بعد قليل قامت السيدة بعمل طبقة من مادة القطران فوق جسدى ، فى البداية شعرت بآلام رغم أن القطران لم يكن ساخنا بالدرجة الكافية بل ُسخن بحيث ُيصبح هلاميا ً مثل العجين ، ظلت السيدة تفرد مادة القطران على كل أجزاء جسدى العارى وإثتنان من بناتها قامتا بتغطية الجزء المغطى بالقطران بالقماش ، لم أسمع صياحا أو ترددا فيما كانت تأمر به الأم ، بعد حوالى الساعة استلقيت على ظهرى وشعرت بآلام فى جميع أجزاء جسدى وكنت أشتم رائحة المرهم والقطران.

     غبت عن الوعى لفترة ثم استيقظت فشاهدت إحدى الفتيات تجلس قريبا من الكنبة التي أنام عليها ، كان باديا الجهد والإرهاق علي وجه الفتاة ، سمعت ندائى الواهن بطلب الماء ، هبت واقفة وأسرعت لتحضر الماء وبسرعة أقبلت أمها باشة الوجه تعطرنى بكلمات رقيقة " حمد الله على سلامتك .. ربنا كان معاك ، رفعت رأسى قليلا ًبينما قامت الفتاة بوضع حافة الكوب علي شفتى السفلى .. عببت من الماء الطيب البارد حلو المذاق ، تحدثت إليهن لأول مرة:

ـ ربنا يخليكم .. تعبتكم معايا

هدهدت الأم علي كتفى وأخبرتنى بأنها أعدت لى طعاما خفيفا ولنبدأ بكوب من اللبن المحلى ، تناولت كوب اللبن الذي أعاد إليّ جزءا من الحياة المهدرة بداخل البحر ، ظللت يقظا أطالع ما حوالى ، أقبلت علىّ باقي الفتيات ، كل واحدة منهن تقترب من مكان نومى ثم تقدم إلىّ تحيتها بعد أن تخبرنى باسمها حتى أقبلت الصغرى والتي بكيت أمس حين شعرت بها وهى تساعد في حمل ذراعى.

ـ اسمي زينب

أشرت إليها بأن تقترب حتى التصقت بجانب الكنبة ففردت ذراعى بصعوبة وأمسكت بيدها الصغيرة مقبلا ً فصفقت باقى شقيقاتها لهذا الشعور الطيب نحو صغيرتهن.

     كنت أستيقظ ليلا ًوأشاهد إحدى الفتيات تجلس قريبا منى تعمل على خدمتى أو تسرع بنداء أمها إذا حدث لى شئ طارئ تعجز عن التصرف به ، ُكنت أدعو الله بأن يعطى تلك الأسرة الصحة والسعادة والستر والسلامة فلقد كانت الأسرة تتميز بخلق قويم وتتمتع بقلب رحيم طيب العشرة ندية البشرة حسنة الخِلقة قريبة من الله ، كان الشئ الذى أثار انتباهى بعد أن أعاد الله إلىّ الحياة بأن سخر لى تلك الأسرة النبيلة هى حالة الثقافة البادية على جميع الفتيات ، ُكنت ألاحظ بأن أية فتاة تجلس تراقبنى ليلا أشاهدها وهى تمسك بكتاب تقرؤه على الضوء الخافت المنبعث من اللمبة الجاز نمرة "خمسة" ، كنت أعتقد أن هذا سببه الأول أن الامتحانات على الأبواب ولكننى تنبهت بأنه لا امتحانات في منتصف شهر يونيو سوى الجامعة أو الثانوية العامة ومن غير المنطقى أن تصبح الفتيات على أبواب الامتحانات حتى الصغيرة التي كانت تقوم برسم بعض لوحات بسيطة علي الورق.

     مضى علىّ فى هذا المكان حوالي أسبوع شعرت خلاله بأننى أطيب حالا وأستطيع أن أنهض من رقدتى تلك وأسير بعض الخطوات بداخل الحجرة مما أدخل السعادة والبهجة إليهن جميعا ، فى إحدى المرات شاهدت مرآة مكسورة معلقة على الحائط فتوجهت إليها ونظرت بداخلها وأصابتنى الدهشة لما شاهدت عليه حالى حيث كانت الأربطة تحيط بى من كل جانب باستثناء بعض أماكن قليلة.

     مضى على وجودى عشرة أيام ، أحد الأيام تحدثت معى الأم وأخبرتنى بأنها سوف تقوم صباح الغد بنزع بعض الأربطة عن جسدى ويجب علىّ الحذر والتحرك بحساب حتى تظل الجراح التى التأمت على حالها ، صباح اليوم التالى أقبلت علىّ الأم بصحبة بناتها الأربع وشاهدت معها مقصا ًوبدأت عملها بقطع بعض اللفافات بهدوء وسكينة وعندما نزعت أول لفافة عن الجرح ابتسمت وشكرت الله وأخبرتنى بأن ما قامت به كان اختبارا حتى يطمئن قلبها إلي شفائى وبعد عدة أيام سوف تنزع باقي الأربطة ؛ كما طالبتنى بتحمل الأيام المقبلة لأن القطران سوف يزداد تماسكا بعد التئام الجروح وحين الشفاء لن يتبق أى أثر للإصابات سوى اللون الأسمر المتبقِ ِمن أثر القطران.

إبتسمت لحديثها الطيب المشجع قائلا ً:

ـ لما سمعتك بتطلبى القطران افتكرت أنى طريق أسفلت وحتقومى برصفى ، ضحكت الفتيات بينما ابتسمت الأم قائلة إن القطران يقوم مكان المطهرات بل هو أشد فاعلية ولكن عيبه الوحيد أنه يترك بعضا من اللون الأسود لفترة لكن أطمئن لن يمض ِعليك الشهر الأول إلا وتزول عنك تلك الألوان.

       اليوم التالى أخبرتنى بأنها أعدت لى مكان إعاشة بمنطقة السطح بأعلى الدار طالبة منى الاحتراز من أى صدمات أو إصابات حتى نتأكد من تمام التئام جميع الجروح ، اليوم التالى ساعدتنى " ُرقية" أثناء تسلق السلم البدائى المكون من اخشاب ساق شجرة  وضع بطريقة عمودية مستندا على الحائط وعليه عرضات خشبية أفقية ، كنت أشعر بإرهاق وألم وأنا أبدل خطوات قدمى فوق تلك العرضات غير المهذبة حيث كانت متعرجة وتكثر بها الثنايا والنتوء التى كانت تؤلم بطن قدمى العارية إلا من لفافة من القماش للحماية ، أخيرا وصلت إلى أعلى الدار وطيبت وجهى نسائم ندية رطبة وشعرت بأننى أشاهد الحياة والسماء الصافية لأول مرة منذ خمسة عشر يوما ، أقبلت علىّ الأم تشد من أزرى وتمد لى يد المساعدة مع ابنتها بحيث أصبحت الأم وابنتها  ُرقية مثل العكازين أستند عليهما من كل جانب للوقوف والتحرك البطئ ، بعد مجهود وصلت بمعاونتهن إلى الحجرة.

     كانت الحجرة بسيطة الأثاث ومكونة من بعض أعواد الجريد الجافة ويغطيها من الخارج بعض قطع من البلاستيك ، الباب عبارة عن بطانية قديمة والفرشة التى سوف أنام عليها أيضا بسيطة ، كنت أشعر بأننى أعيش بقصر وليس بحجرة بتلك المواصفات وكان اعتقادى السابق بأنني لن ألتقى ببشر على هذا المستوى الرفيع من الخلق وُحسن التعامل والكرم ، ُكنت مازلت في دوامة من الفكر ، فأنا لست راغبا فى البقاء فى ضيافتهن حتى لا أحملهن نفقات وأعباء واحتمال أن تهاجم الدار قوات العدو كما كنت راغبا في عدم ترك تلك الأسرة فلقد أحببت جميع أفرادها بدءا من الأم الطيبة وانتهاء بالصغيرة حتى الكلب الذى يقوم على حراسة المنزل.

     ليلا  ُكنت أجلس أمام الحجرة البسيطة وأنظر إلى السماء وأشاهد النجوم البراقة تلمع في جوف السماء اللانهائى وأسمع هدير الأمواج حيث لا يبعد الشاطئ عن الدار بأكثر من خمسين مترا حيث يقع المنزل على ربوة عالية تحميه من مياه المد ،  ُكنت أشاهد لون الماء الفضى الناتج من الأمواج ومازلت أذكر بأن الله أرسل لى البعض من عباده متمثلا في تلك الأسرة الطيبة لإنقاذى من وضعى المؤلم الذى وقعت فيه.

     إحدى الأمسيات أتت الابنة الكبرى " ُرقية" إلى السطح ، كنت وقتها أجلس بداخل الحجرة أستعيد بعضا من ذكريات أسرتى بالإسكندرية وكيف حالهم الآن وهم لا يعلمون أين أنا وكيف أخبرهم وأنا عالق في هذا المكان ولا توجد وسيلة مواصلات خاصة ، لقد طلبت مني الأم الهدوء والسكينة لأن الإسرائيليين يقتلون أو يأسرون كل جندى وضابط تقع أعينهم عليه.

   سمعت صوت غناء صادرا ًمن "رقية" وهي تشدو بأغنية فيروز

أعطنى الناى وغنى ... فالغنى سر القلوب وانين الناى يطغى بعد صمت القلوب

      جال بفكرى وخاطرى لو أن كل الشعوب بأرجاء الأرض سمعت صوت غناء " رُقيـة " العذب الرقيق لامتنعت عن الحرب والقتل ، لقد كان الصوت ساحرا لأقصى درجة .. كانت تشدو بصوت شجي به رنة من أسى تشعرك بالحنين إلى الوطن ، رغبت فى أن أشجعها ببعض كلمات طيبة ولكنى آثرت الهدوء والسكينة ولأجعلها تداعب الطبيعة فى هذا الليل الساكن وهذا الطقس المعتدل والهواء النقى ، لقد كانت الحياة تعزف على قيثارة الخلود تلك النغمات الصادرة من بين شفاه " ُرقيـة " الطيبة البريئة.

      كانت " ُرقيـة " مثالا حيا ًللجمال العربى الأصيل ، متوسطة الطول فلم تكن نحيفة أو بدينة ، بيضاء الوجه بحمرة طبيعية تغطى الخدين ، شعرها الطويل يتحرك مع تحركها ومع نسمات الهواء يتطاير حول وجهها الرقيق مثل شعاع الشمس بداية الصباح حين تشرق علينا بضوء دون حرارة حتى لا تزعج أحلامنا التى مازالت عالقة بخيالنا ، أيضا هى الذراع اليمنى لأمها والموجهة لشقيقاتها وآخر من تنام وأول من يستيقظ ، كانت المراقب لى باستمرار أثناء العلاج خاصة في الفترة الحرجة التى أعقبت إنقاذى ، كنت أشاهدها أيضا وهى تقوم على حلب اللبن من بعض الماعز لديها ، أصحو ُقبيل شروق الشمس على رائحة خبز طازج ُيعد فأكتشف بأنها هى التي قامت به ، كنت أشاهدها تتحرك في كل مكان دون ضوضاء أو جلبة ، علمت بعد هذا أنها تعشق السباحة في مياه البحر بعد أذان الفجر سواء صيفا أو شتاء ً حتى لا يشاهدها أحد ، وأخيرا أطربتنى وأطربت الطبيعة بتلك الرائعة من روائع قيثارة الغناء العربى المطربة فيروز.  

Share
Click to listen highlighted text! Powered By GSpeech