Click to listen highlighted text! Powered By GSpeech
Get Adobe Flash player
مستمرين معاكم بإذن الله 2008-2024 **** #لان_لجيشنا_تاريخ_يستحق_أن_يروي **** ***** إنشروا تاريخنا وشاركونا في معركة الوعي **** تابعونا علي قناة اليوتيوب 1100+ فيديو حتي الان **** تابعونا علي صفحات التواصل الاجتماعي** أشتركوا معنا في رحلاتنا لمناطق حرب أكتوبر **** يرجي استخدام خانة البحث **** *** تابعونا علي تليجرام - انستجرام - تويتر

روايه عابد المصري - الحلقه الثانيه

حصريا لاول مره علي الانترنت

بتصريح خاص من الكاتب للمجموعه 73 مؤرخين

لا يجوز اعاده النشر بدون الاشاره للكاتب والموقع كمصدر

 

عـــابد المصـرى .. رواية

كتبها/أسـامة على الصـادق

.....

الطبعة الأولى .. يوليو 2010

الناشر: الكاتب

.....

تصميم الغلاف:

ريهام سهيل

....

حقوق الطبع محفوظة للكاتب

موبايل: 0127970032

 

 

وسادسهم عابد

     

     حين يخلو السطح من الفتيات كنت أسير الهوينا حتى أنشط ساقى وبدنى حتى أستعيد قواى على مواجهة الأيام المقبلة والتى هى في علم الغيب ، لم يكن لسطح الدار سور بل السطح مفتوح وقد اعتاد أصحابه على هذا ، فهم لا يخشون السقوط من أعلاه كما أن المنطقة المحيطة به تحيطها الرمال والسقوط لن يؤذى من سقط سهوا.

     كنت أقف أشاهد المنطقة المحيطة بالدار ، كانت المنطقة على طبيعتها التى خلقها الله وبدا هذا واضحا خاصة لعدم وجود جيران أو مساكن قريبة من الدار ، فعلى مرمى البصر لا أشاهد حياة أو بدوا أو حيوانات أو مراع ِ ومن الجانب الآخر يقع البحر ، كانت أشجار النخيل تحيط بالدار بغابة كثيفة تزيد المكان جمالا وبهجة كما أن الأم قامت بزراعة بعض أشجار الفاكهة أشاهدها من أعلى الدار ولكنى لا أستطيع تحديد نوعيتها كما توجد مساحات صغيرة غطتها نباتات مختلفة وأعتقد بأنها خضراوات تسد احتياجات الأسرة ، كنت  في شوق لمعرفة من أين يحصلون على المياه اللازمة للاستخدام سواء للطعام أو الاغتسال أو لري تلك المزروعات ، كما أن التضاريس الأبعد عن الدار ذات تباب مرتفعة ومنخفضة ولا تمكن السيارات من السير عليها ولهذا فوسيلة المواصلات الوحيدة المستخدمة لشراء متطلباتهم  كانت الدواب خاصة الجمل حيث شاهدت أنثى الجمل وهى ترضع صغيرها ، ثم من أين يشترون الاحتياجات وما اسم المنطقة التي نعيش بها؟ أسئلة كثيرة بدأت تطرأ علي فكرى فلم أكن أعلم أصل الحكاية ومن أين أبدا.

    قررت بأن أترك كل شئ للأحداث والمواقف ، لقد أصبح كل شئ يحيط بى تحركه الأقدار وليس لى دخل بها ، فلقد أصبحت تابعا ولست متبوعا ولهذا فيجب علىّ كتابع أن أتبع أولى الأمر من حولى ، لقد أصبحت أسيرا ً دون أغلال أو سجن حقيقى لكن الأربطة التي تحيط بجسدى هي البديل عن القيود الحديدية التى توضع حول معصم السجين ، لقد أصبحت أشعر بأن تلك الأربطة عبء كبير على تحركى وحياتى. 

     من حين لآخر كنت أنتبه على صوت " ُرقيـة " الجميل وهى ترنو ببصرها جهة البحر وتتغنى بأغان رقيقة رائعة ، الحقيقة كان صوتها مؤثرا ً لأقصى درجة ، شعرت بأن تحركها وغناءها ينقلنى من حالتى تلك وعزلتى عن أهلى ومدينتى العريقة إلى الحياة الشابة الفتية المتحركة ، لقد كان شدوها المعطر بموسيقى الرحبانية وصوت فيروز الحالم يعيد إلىّ حياتى وبهجتى ويدفع بدماء الأمل والحياة إلى شرايين جسدى القابع الساكن أسفل تلك الأربطة ومن فوقها كتل القطران التى أتحرك وأنام بها ، كانت خيالات رقيقة حالمة كثيرًا ما أسعدتنى وروتنى بمياه عذبة بعد أن تجرعت ملوحة ماء البحر.

    " فى أحد الأيام شعرت بصعود " ُرقيـة " السلم الخشبى فظللت على حالى بداخل العشة وتركتها مثل الأيام السابقة تتحرك وتشدو حيث كنت أتابعها من بين فواصل أعواد الجريد التى تقوم مقام الحائط بحجرتى أعلى الدار ، شعرت بسلوك مخالف عن الأيام السابقة وأنها مترددة وتحاول القيام بشئ ما ولكن الخجل يمنعها من ذلك ، فى لحظة تحركت بسرعة وأقبلت جهة الحجرة ونادت علىّ :

ـ عابد .. عابد .. أنت صاحى وإلا نايم؟ أجبتها

ـ أنا صاحى ، ابتسمت وقالت

ـ أنا عايزه أكلم معاك ، تعالى نجعد بره ونتكلم والهوا جاى من ناحية البحر يرد الروح "

نهضت متثاقلا ًوتحركت حيث كانت تجلس .. قلت لها :

ـ  ايوه يا " ُرقيـة" .. أنا سامعك .. نظرت إلي مليا ثم قالت:

ـ عرفني بنفسك ، ابتسمت وأخبرتها بكل ما أعرفه عن نفسى باستثناء طبيعة عملى كرجل عسكرى رغم أنهم خلعوا عني ملابسى العسكرية بما فيها الرتب.

         بحديث طيب هادىء أخبرتنى بأنها سوف تخبرنى بكل شئ يخص عائلتها حيث قالت بأنها وأمها وشقيقاتها الثلاث الأخريات يقمن بهذا المكان النائى المتطرف كما أن شقيقها الأكبر منها مباشرة يدرس بالجامعة بمصر ولم يستطع العودة حتي الآن ، أما عن والدى أبي السعادات فهو يعمل بائع متجول يقوم خلالها بالمرور علي القبائل بالصحراء يعرض بضاعته من الأقمشة وبعض الطرح والشيلان التي تخص النساء وقبل بداية الحرب بأسبوع خرج ولم يعد حتى الآن ونحن جميعا في خوف ووجل على حياته ، ورغم أننا قد تعودنا على غيابه في كل مرة لمدة لا تقل عن أسبوعين إلا أن تلك المرة تثير الخوف والتساؤل ، لأنه في تلك المرة طالت غيبته إلى أكثر من خمسة وعشرين يوما وكل هذا انعكس على أمى وشقيقاتى خشية تعرضه لأى مكروه ، أمس تحاورت مع أمى وهى راغبة بأنه لو أمكنك أن تظل تقيم معنا بديلا عن شقيقى عيد لحين عودة أحد من رجال المنزل سواء أبي أو عيد أو الاثنان معَا، إننى فى انتظار رأيك.

    كنت أستمع لحديثها الصريح الصادر من قلبها مباشرة ، فالأسرة تخشى غياب رجال الدار لفترة طويلة ، تحدثت معها بتلقائية:

        رقية : لا تخشى أنت وأسرتك أى شئ فأنا مثل عيد وسوف أظل برفقتكن حتى عودة الأب أو الشقيق ، ظللت وجهها السعادة والفرحة الغامرة وأسرعت بالهبوط لصحن الدار لتخبر والدتها بما قلت وصرحت به ، بعد قليل صعدت الأم إلى السطح وكان باديا عليها السرور وأسمعتنى عبارات الشكر والامتنان راجية منى أن أعتبرها مثل أمى حتى يأذن الله بعودتى إلى أسرتى ، أخبرتها بأن هذا هو شعورى منذ وعيت وتنبهت وعادت إلىّ الحياة وأن جميع بناتك هن أخواتى خاصة الصغرى زينب ، شدت على يدى وأخبرتنى بأنه منذ هذا اليوم سوف يصبح اسمى "عيد" وهو اسم ابنها الأكبر حتى إذا حدثت أمور غير سعيدة وأقبل اليهود فيعلمون بأنك ابنى الأكبر وسوف أدرب بناتى على هذا الاسم ثم أشارت إلى ابنتها رقية بأن تبدأ تنفيذ هذا منذ اليوم.

    منذ ذاك اليوم أصبح اسمى عيد وأصبحت ابنا لتلك الأسرة وأبى " أبو السعادات" وقد وقع على كاهلى الإقامة مع تلك الأسرة ، سارت بنا الأمور كما أرادت الأم وأصبحت جميع الفتيات ينادين علىّ باسم " ُخويا عيد" أى أخى عيد ، بعد أسبوع على تلك القرابة قامت الأم بنزع الأقمشة والأربطة عن جسدى بكل حيطة وحذر ولم يكن معها أحد من بناتها حتى لا يشاهدن جسدى العارى ، انتهت المهمة بنجاح ونظرت إلىّ الأم ورفعت وجهها ويدها للسماء شاكرة فضل الله علىّ لأنها كانت تخشى أن يحدث لى نزيف أو تشاهد آثار صديد ولكن الحمد لله شفيت والتئمت جميع الجراح ، سلمتنى الملابس التي أتت بها والخاصة بابنها والذى بدا أنه أقل منى طولا من قصر طول الجلباب.

      بعد أن غادرت السيدة الحجرة بدأت أتفحص جسدى فلم أعثر على أى جرح لكن مازالت كتل القطران تغلف جميع أجزاء جسدى كأننى وقعت فى بركة من الطين ، كان القطران متماسكا ًحينما حاولت التخلص من بعض القطع ، شعرت بأن هذا عبء آخر ولكنى تركت كل شيء للأيام.

        بدأت أتحرك وأعمل وأساعد الفتيات كل يوم حسب قدرتى وكنت أشعر بسعادة وبهجة لعاملين مهمين : الأول هو شفائي والثاني هو محاولة سداد معروف ودين لتلك الأسرة أصبح فى رقبتى بعد أن تم علاجى وإطعامى ورعايتى لفترة قاربت على الشهر ، كل تلك العوامل دفعتنى إلى الأمل والشعور بأن الحياة مازالت أمامى بعد ما شاهدته وتألمت منه أثناء الأيام الأولى للحرب خاصة ما حدث بداخل القارب ومصير الجنود الذين قتلوا ثم ما تلا هذا من تعرضهم للافتراس من الطيور البحرية والأسماك.

      بعد عدة أيام أقبلت علىّ " ُرقيـة " حيث كانت تحمل علبة صفيح ورائحة الجاز تنبعث منها ، تحدثت معى قائلة : بأنه يجب علىّ أن أبلل تلك القماشة والتى كانت تحملها أيضا وكل يوم أحاول إزالة بقع القطران بدعك بسيط لجسدى حتى لا تتأثر الجروح التى التأمت ، قدمت لها الشكر أثناء مغادرتها سطح الدار ، بدأت في تنفيذ التعليمات ورغم رائحة الجاز المنفرة إلا إننى شعرت بسعادة بعد عدة دقائق حينما تمكنت من إزالة بعض بقع القطران ، استمر هذا الحال لأكثر من أسبوعين حتي زالت جميع بقع القطران وظهر لون البشرة والجلد الذي كان باهتا بالإضافة إلى آثار الجروح التى شفيت والتى تركت بعض الندوب ما بين المرتفع والمنبعج والمنخفض ولم يعد جسدى كما كان لكن الشفاء هو الذى عاد إلىّ ، حمدت الله على ذلك خاصة أننى شعرت بمقدرتى على العمل وأن نشاطى وحيويتى عادت لسابق عهدها فاندفعت أعمل فى كل مجال باستثناء طهى الطعام وغسل الملابس حيث قمت برعاية الزراعات وجلب المياه من بئر مياه ليست ببعيدة عن الدار كما كنت أقدم الطعام للجمال والماعز التى تقوم الأسرة علي رعايتها ثم تعدى هذا إلى صيد الأسماك واصطياد الكابوريا ليلا وأصبح الجميع يشعر بالطمأنينة والبهجة وأصبح اسـم عيـــد يتردد صداه داخل الدار.

    كانت الأم تفكر كل يوم في مصير زوجها والتى لم تصلها أى أخبار عنه حتى الآن ولا تعلم عنه أية معلومة وسلمت قدرها لله وركزت كل جهدها فى رعاية بناتها الأربع ، كنت فى كثير من الليالي أصحو علي صوت الأم وهى تجلس في فناء الدار المفتوح دون سقف بعد أن تؤدي صلاة الفجر والصبح وهى تناجى الله بنداء حزين بائس دفعنى للبكاء كثيرا حين وصل إلى سمعى بل وصل إلى قلبى نداء الأم الحزينة بأن يعود الزوج والولد ، كثيرا ما كان بكاؤها ونحيبها يوقظنى ويترك لى آلامًا نفسية شديدة تطير النعاس من عيونى حتى الصباح ورغم هذا كانت تتصرف أمام البنات بكل كياسة وقوة وتماسك للأعصاب.

       تحسنت حالتى الصحية أكثر فأكثر خاصة بعد مزاولة رياضة السباحة والتى أعشقها بحكم نشأتى بالإسكندرية ، إستقرت الأمور علي ذاك الوضع ومضى على وجودى مع الأسرة أكثر من ثلاثة أشهر وازداد تمسكها بى وأنا بدورى تمسكت بهم فلا أعرف كيف أعود إلى مصر بعد أن اتضحت كل الأمور من الراديو الصغير الذى يعمل بعض الأوقات ويصمت أحيانا لسوء البطارية التي تمده بالطاقة.

   في أحد الأيام سألت الأم بأى مكان يقع الدار؟ أخبرتنى بأنه يقع بمنطقة محصورة بين الشيخ "زويد" والعريش ، صدمتني تلك المعلومة حيث ُكنت أعتقد بأننى قريب نسبيا من بحيرة البردويل أو بورسعيد وقناة السويس لما ُبذل من جهد في بداية الانسحاب ولكن ثبت أننى كنت واهما ، هذا يعنى بأننى ابتعدت عن قطاع غزة عدة كيلومترات فقط .

     بمضي الوقت واقتراب فصل الشتاء ازدادت الحاجة لبعض الأنواع من الأطعمة خاصة الشاى والسكر وبطارية للراديو حتى يعمل ولهذا طلبت منى الأم بأن أقوم باكر بالتوجه إلى ديار قبيلة "......" وشراء ما يلزمنا من تاجر رقيق الحال  والمسافة لا تزيد عن سبعة كيلومترات وسوف ترافقنى " ُرقيـة " في تلك الرحلة حيث إنها تعلم الطريق وسوف يساعدنا الجمل في إنهاء تلك السفرة بسرعة ويسر.

    لم أكن أخشي لقاء الأعداء فليس معى ما يدل على هويتى كما أنني أجيد التحدث باللهجة البدوية نظرا لعملى سنوات طوال بالقطاع حيث اللهجة واحدة بين القطاع وسيناء كما أن " ُرقيـة " كانت متماسكة ولم تشعر بأى خوف أو تردد ، حين أطلت علينا الومضات الأولى لشمس هذا اليوم تحركت بصحبة كلٌ من " ُرقيـة " والجمل إلى المكان المرتقب ولم يركب أى أحد منا الجمل خاصة إننا حملناه بعدة أوعية من الماء لتقديمها إلى تلك القبيلة كهدية عالية القيمة ، فى أقل من ساعة وصلنا إلى القبيلة ولم يكن البائع متواجدا ولكن زوجته أمدتنا بكل ما نحتاج إليه وقدمنا إليها الماء الذى أسعدها أيما سعادة مما دفعها إلى خصم مبلغ من ثمن الشراء ، بعدها  ُعدنا إلى الدار بسلامة الله ُقبيل الظهيرة مما أدخل الراحة على جميع أفراد الأسرة.

     َروت " ُرقيـة " على أمها حديثا ًهاما ً دار بينها وبين زوجة الرجل الإعرابى البائع علمت منه بأن بعض أبناء القبيلة اعتقلتهم القوات الإسرائيلية وألقت بهم في سجونها ولهذا فهى تعتقد بأن الشيخ أبا السعادات قد لاقى نفس مصير رجال القبيلة ، توجهت الأم بدعائها إلى الله بأن يكون نصيب زوجها الاعتقال أفضل من أن يلقى حتفه بين الجنود المصريين والإسرائيليين.

     بدأت البرودة تزحف على الدار فالوقت ينبىء بأننا في نهاية شهر أكتوبر من عام 1967 وكنت أسمع من حين لآخر عما حدث بين الجيشين المصرى والإسرائيلى من معارك على خط القناة وكان هذا واضحا من الهلع الذي أصاب الجنود الإسرائيليين حين يقبل بعض البدو إلى بئر المياه للتزود ببعض المياه أثناء تحركهم حيث يقصون علينا بعضا من تلك القصص خاصة بعد تدمير المدمرة الإسرائيلية "إيلات" والتي أسعدتنا جميعا وتوجهنا بالدعاء لله أن تستمر تلك المعارك للانتقام من هؤلاء المجرمين.

    بحكم السن والقدرة على العمل كان يقع علىّ وعلى رقية عبء حمل الماء ورعاية الزراعات وجمعها حين تنضج مما زاد من التقارب بيني وبينها ، كنت خلالها أشعر بومضات لامعة تخرج من عيونها الجميلة فتدفعها إلى الابتسام فتظهر أسنانها البيضاء ويتورد خداها بحمرة جميلة تنعكس على بشرتها الناعمة البيضاء ، على مدى أيام عدة كنا نلهو معا بعد الانتهاء من رعاية الأغنام ، وكان من المعتاد إجراء مسابقة للعدو من موقع الدار حتي مكان البئر لنرى من منا كان الأسرع ، وحين الجلوس أمام الماء لصيد الأسمالك كنت أساعدها في بناء بيوت من الرمال ونلهو معا ًثم تقبل الأمواج أو حالة المد فتزيل كل ما كنا قد شيدناه ، أثناء رعى الغنم ومراقبتها تقوم رقية بجمع بعض من الحصي وتعد منه قبوا أو دارا ً صغيرة وبعد أن نعود لهذا المكان بعد عدة أيام نشاهد آثار ما قد بنته منذ أيام بعد أن أزالته الرياح وأصبح ما كان مشيدا سرابا أو أثرا بعد أن أزرته الرياح.

     في أحد الأيام طلبت منى الأم مرافقة رقية في رعاية الأغنام والسير بها مسافة أطول حتي تساعد الأغنام علي الولادة الطبيعية فقد اقترب موعد وضعها ، كنت أترك الغنم في حراسة الكلب وألهو مع رقية عدوا وضحكا وابتسامة ، بل في إحدى المرات ونحن جلوس اقتربت منها وسلطت نظري عليها مما أربكها وجعلها مضطربة وحينها أخبرتها بأنها أصبحت امرأة ناضجة ، شعرت بسعادة وأخبرتنى بأنها على هذا الوضع منذ عدة أشهر أى قبل تعرفها علىّ ؛ علقت على حديثها بأنها نمت طولا وحجما بل زاد طولها عدة سنتيمرات أي طول إصبع السبابة.

    حين كنت أندفع في الانجذاب ناحية " ُرقية" كنت أتذكر شيئا مهما ً وهو إننى أصبحت الابن "عيــد" ولست الضابط "عابد" فأنا الآن الشقيق ولست الغريب ، لقد وضعتني الأم في تلك المرتبة سواء كان هذا نابعا من ذكاء فطرى أو لطيبة قلبها لكن تساوى الأمران في الهدف والنتيجة وهو أننى أصبحت حارسا وليس ذئبا ، وهذا ما كان يجعلنى لا أبادلها الضحكات التي تقوم بها والمزاح في الحديث واللا مبالاة في بعض الأحيان مما كان يدفعها إلى الضجر والضيق من تصرفاتى تلك ، لقد كانت الفتاة في مرحلة المراهقة حيث كان عمرها سبعة عشر عاما وفي هذا المكان وتلك المنطقة ومن في مثل عمرها قد تصبح الفتاة زوجة وأم منذ عامين مضي ؛ فالجسد النامى والقدرة على الإنجاب تدفع بالبحث عن الطرف المفقود في المعادلة حتى تكتمل وتكون النتيجة إيجابية خاصة في حالة تلك الأسرة التي تعيش في ُعزلة عن باقى البدو ، ولا أعلم سببا لهذا فيمكن للأب أن يتاجر من أى مكان آخر خاصة بجوار القبيلة التي ينتمي إليها إلا إذا كان منفيا بعيداً عنهم أو يعشق هذا المكان الساحر الخلاب.

     أصبحت المشكلة التى أعانى منها هى تقارب وميل " ُرقيـة " إلىّ بشكل متزايد يوما بعد يوم ، كنت فى خوف من أمرى بأن أفقد السيطرة على مشاعرى وأنزلق معها وتصبح مشكلتى كبيرة وقد خنت الأمانة ولا أجد من أحتمى به وأصبح عدوا للعائلة ولكن الله سلم رغم حالة السعادة والمتعة التى كانت تنتابنى أثناء جلوسها معى ، كان صمام الأمان القوى الآخر الذي أحتمى به بالإضافة إلى الثقة والإخوة ما أحمله من ذكرى الأيام الأخيرة لرحلتى مع كل ٍمن "فاروق الفيومي وَسـلمان" ونحن نستقل المركب للهرب والنجاة بأنفسنا خاصة بعد أن أصبحت وحيدا ُمصابا وأنا أشاهد أسراب طيور النورس تفترس أجسادهم فكانت تنتابنى حالة من الحزن فأعود إلى رشدى مستغفرا الله وأنهض لأصلى ركعتين شكرًا وحمدًا لله وهذا مخالف لعادتي حيث كنت شابا مستهترا معتقدا بأن الصلاة للشحاذين والعجزة والفقراء والمرضي!!!!

 

بداية العـــام

 

     أقبل الشتاء منذ شهرين حيث كنت أمضى ليلتى يقظاً متنبهًا سواء لخوف من هجوم مفاجئ للجنود الإسرائيليين أو لأى شئ غير متوقع حدوثه ، بدأت تحيط بى أنا ورقية حالة من الملل وعدم الرغبة في الحديث أثناء عملنا ، كنت تواقا لأن أسمع حديثها وبعضًا من نغماتها التي تطربنى بها إلا أنها أبت علىّ تلك المتعة وهذه الرغبة ، استبد بى الضيق وشعرت بأن المكان أصبح كريها طاردًا لي ، فكرت ، وما الحل لو تركت هذا المكان ولأى مكان آخر أتجه إليه رغم أن حالتى الصحية تحسنت بشكل ملحوظ وقد قاربت لياقتى البدنية  بأن تعود إلى حالتها التى كنت عليها قبل نشوب الحرب.

         زاد من مللى وضيقى بأن اسَتبدلت " ُرقيـة " شقيقتها "عائشة" للعمل معى بديلا عنها وكأنها تخبرنى بأنها اصبحت لا تطيق وجودى بقربها ، ازداد ضيقى ؛ فقد يفضى هذا التصرف لأمها بأن مشكلة ما قابلت ابنتها أو لاحظت سوء تصرفى معها وهذا الشعور وتلك المخاوف أفقدتنى لبعض الوقت القدرة على التفكير وأصبحت متبلد الشعور وصامتـًا طوال اليوم سواء أثناء العمل أو أثناء تناولى الطعام مع الأسرة وشعرت بأن جميع أفراد الأسرة ينظرون إلىّ نظرات لم أعهدها ولم أكن أنتظرها ، كنت راغبا فى ثقب رءوسهم والدخول إليها ومطالعة ما يفكرون فيه ولكن الأمنيات شئ والواقع شئ آخر.

    كانت عائشة صورة مصغرة من أمها ، فهى تملك حكمتها وهدوء أعصابها وقليلة الكلام كثيرة العمل كما أن بنيتها قوية وأكثر حجماً من " ُرقيـة " ورغم هذا كانت الفتاة تعمل بقوة ومثابرة ولم يخرج منها أى شئ يعمل علي ضيقى مما دفعنى للحديث معها أكثر من ذى قبل ، لم تمانع حين أخذت بيدها وجلسنا أسفل إحدى أشجار النخيل واحتمينا بعض الوقت بأفرع جريد جافة من سياط الهواء البارد القادم من جهة البحر.

    أمعنت النظر إليها مما جعلها فى حالة من الخجل والارتباك ثم سألتها بعض الأسئلة:

ـ أعتقد بأن " ُرقيـة " لا تفضل العمل في الزراعة وحمل المياه؟

ـ ليس هذا بالضبط ، لكن أمى طلبت منها أن تظل بجانبها فى بعض أعمال البيت خاصة أنه فى تلك الأيام يفضل صناعة الجبن ؛ لأن أنثى الجمل لم تعد ترضع صغيرها ولديها اللبن الوفير وموسم الشتاء يفضل خلاله  صناعة الجبن وتلك الجبن تفتح أبواب الرزق أمام العائلة ؛ لأن أمى تقوم علي بيع جزء منه لبعض القبائل المجاورة ، هذا كل ما فى الأمر.

    شعرت براحة نفسية وإننى لست طرفا فيما حدث من تبديل في أعمال العمل بين كلٌ من " ُرقيـة " وشقيقتها عائشة ولهذا تشجعت بسؤال آخر:

ـ كنت أعتقد بأن  ُرقـية " غاضبة منى أو شئ من هذا القبيل؟

ـ تغضب منك !! هذا غير منطقى ، جميع إخوتى ووالدتى يحبونك مثل عـيد أخى.

صمتت عائشة ونظرت لأسفل ثم أكملت حديثها الطيب الرقيق:

ـ خصوصا " ُرقية " تشعر بتقدير وإعزاز تجاهك ، صمتت ووضعت يدها على فمها وضربت حمرة الخجل وجهها الأبيض الناعم  ، علقت على حديثها:

ـ هذا هو نفس شعورى نحو الأسرة والله يعلم مقدار حبى لكم وتقديرى لكل ما فعلتوه من أجلى

ـ لو سألتك سؤالا ممكن تجاوبيننى عليه؟

ـ تفضل ، إسأل

ـ لماذا تقيم عائلتك بهذا المكان البعيد؟ لقد أصبحت أحد أفراد العائلة وليس من المنطقى ألا أعلم بكل شئ عن أسرتى

ـ سوف أخبرك بكل شئ على وعد ألا تخبر أحدا بأننى أفشيت هذا السر .. هذا وعد يا عيد؟

ـ وعد يا عائشة

ـ الحكاية أن والدى أحد أبناء قبيلة "......." وكان هناك اتفاق ُمسبق بأنه سوف يتزوج من ابنة عمه وهذا  ُُعرف بين البدو في سيناء ومعمول به لكن جد جديد في الأمر ، ما هو؟ والدى كان دائم السفر والترحال إلى الإسماعيلية بغرض شراء بضاعته من القماش والطرح وكل ما يلزم ويهم النساء ، بالاسماعيلية وقعت عيناه على ابنة بائع بالمحل وحازت إعجابه ولهذا تقدم لخطبتها ثم بعد فترة تزوج بها ، اقبلت برفقته إلى القبيلة ولكن شيخها غضب من تصرفه هذا وقرروا توقيع عقوبة عليه ، إما أن يطلقها أو يغادر القبيلة ويبعد عنها لمسافة لا تقل عن مائة كيلو وحددوا له هذا المكان الذي نعيش به الآن وكما ترى نحن نعيش هنا منذ ما يقرب من عشرين عاما ووالدى مازال يأتى ببضاعته من محل جدى "غريب" وحينما يأتى جدى غريب لزيارتنا ويشاهد أمى يتأثر علي حالنا خاصة حينما تبكى أمامه من شظف العيش وقسوة الحياة البعيدة عن حياة الإسماعيلية الجميلة التي لا تنساها أبدا ومازالت تقوم على وصف الحياة بها مستعيدة أيام الطفولة والشباب واللهو في مياه بحيرة التمساح والتمتع بحدائقها الجميلة ، هذا دفع بجدى إلى أن يطيب من خاطرها وفى آخر زيارة أخبرها بأن الحكم الذي حددته القبيلة بعشرين عاما على وشك الانتهاء ويمكن لنا بعد ذلك العودة والعيش بالإسماعيلية.  

ـ هذه حكاية غريبة ، أين والدك؟

ـ الحقيقة لا نعرف أى شئ عنه غير أن أحد أعمامى جاء منذ عدة أيام وقت أن صعدت " رقيـة " تخبرك بألا تنزل إلى صحن المنزل وأن تظل بأعلى إلى أن يغادر الضيف الدار بسلام .. لقد كان عمى سعيد الذى أقبل ليخبرأمى أنه قد بلغهم أن اليهود قد ألقوا القبض على والدى وأن شيخ القبيلة طلب لقاء الحاكم العسكرى الإسرائيلى من أجل أن يفرجوا عنه ولكن الحاكم طلب من الشيخ أنه يبلغهم أولا عن الفدائيين المصريين الذين مازالوا يطلقون الرصاص علي العساكر اليهود ، أخبره الشيخ بأنه لا يعلم أي شئ عنهم ومن أجل هذا رفضوا الإفراج عنه ، تلك إحدى المشاكل المتعددة التى مازلنا نواجهها وتكدر حياتنا ولا نستطيع التغلب عليها لأنها فوق طاقتنا بالإضافة إلى أن أُخى عيد محجوز في مصر ولا يستطيع العودة ، لأن الصليب الإحمر مشغول في موضوع تبادل الأسرى من الجنود المصريين الذين وقعوا في قبضة الإسرائيليين.

ـ ادعو الله بأن يعود والدك وشقيقك

ـ يسمع الله منك واحتمال أن الله أرسلك إلينا لتعوضنا الحرمان من رجل يقوم على حمايتنا ويدافع عنا

ـ هل علمتم أخبارًا عن عيد؟

ـ نحن مطمنين على شقيقى عيد حيث يدرس بالمعهد العالى التجارى بالشرقية ، كما إننا مواظبون علي سماع إذاعة صوت العرب والتى تقوم بإذاعة برنامج     ( ألف سلام ) الذى يستقبل رسائل المستمعين وفيه يقوم الناس بإرسال تحية وسلام لبعضهم البعض خصوصا العائلات التى فرقت الحرب بينهم ومنذ عدة أيام وفى موعد إذاعة البرنامج سمعنا من خلاله صوت أخي عيد وهو يرسل لنا بالسلام والتحية وفى آخر الرسالة أرسل لنا بأغنية زى المعتاد ؛ هل تعلم اسم الأغنية التي جعلتنا جميعا نبكى؟  

ـ ما اسم الأغنية؟

ـ أغنيه جميلة بصوت مطربة صوتها جميل ومعبر واسمها أحلام بتقول:

يا عطـــارين دلونـــي      الصبر فين أراضيه

  والله لو طلبتوا عيوني       خدوهــــا بس ألاجيه

ـ إن الله لا ينسى أحدًا من عباده .. كفاية بكاء واضحكى ، مش باحب النكد

    اندفعت "عائشة" في ضحكاتها البريئة على غير عادتها وتأكد لى أن سبب قتامة سلوك من بالمنزل يعود إلى ما أخبرتنى به منذ قليل .. اقتربت منى حينما بدأنا نعمل ثانية وبصوت خفيض سألتنى سؤالا كان مفاجئا لى:

ـ أنت بتعز " ُرجيـة " زى ما بتعزك؟ ارتبكت قليلا ثم أجبتها

ـ طبعا بأعزها وبأعزكم كلكم وكمان ماما زهرة .. ابتسمت وشاهدت الحيرة فى عيونها الجميلة وأعادت سؤالها مرة ثانية فأجبتها:

ـ يعنى أنتِ عايزه أقولك إيه .. ايوه بأعزها

ـ من جلبك؟

ـ إيه الحكاية .. ايوه من قلبى .. أنت ملاحظه حاجه؟

ـ كلتنا !!

     انهمكنا في قطع رءوس نبات "الكرنب" حيث سيحضر أحد التجار صباح الغد لدفع ثمنه وحمله للمرور على القبائل البدوية وبيعه .. اندفعنا فى العمل لنعوض الوقت المهدر من الحديث الذى دار بيننا ونحصل على الدفء من البرودة التى كادت أن تجمد أجسادنا خاصة منطقة الوجه .. حمدنا الله إننا انتهينا من جمع المحصول والذى كانت كميته كبيرة وجيدة وقد أسعد هذا "عائشة" حيث سيدر عليهم هذا مبلغا كبيرًا من المال .. جلسنا نلتقط أنفاسنا قبل أن نعود إلى الدار والتى تبعد حوالى مائتى متر .. اقتربت منى عائشة كى أحميها من لسعات البرد القارس ، جلسنا نتحدث في موضوعات شتى وأخبرتنى أن أمها أعدت اليوم طعاماً شهيًا حيث ذبحت عنزة وستقوم بعمل الفتة والأرز حتى تدخل الدفء إلى أجسادنا مما دفع " ُرقيـة " لسؤالها:

ـ أنتِ عاملة عـزومه لحد النهارده؟ نفت أمى هذا قائلة إنها كانت تتمنى أن يقبل أبى ويتناول طعامه معنا!!

ـ ياه يا عيشه .. دا باين على أمك أنها بتحب أبوكِ قوى؟

ـ حب بيفرجع زى بارود الحرب .. حاجه جباره .. والله لما تشوف ُبوى كيف يحب أمى تستغرب أن الراجل "أبو السعادات" بيحب أمى بجوه وبجنون .. تعرف بأجول لو الواحدة منا تتطلع لراجل حلو زى ُبوى ويحبها كيف ُبوى يحب أمى كانت "طاجة ليلة الجدر إتفتحت لها" .. إطلع هناك يا عيد .. شايفه فيه جمل مجرب نواحيتنا .. بأعتجد أنه الراجل اللى ح يشترى زرعنا .. لكن ليه جاى بدرى؟

ـ يا للا نقوم نقابله

ـ يا للا يا عيد .. لكن الراجل باين عليه تعب من المشوار ونام فوج الجمل .. البرد شديد عليه والحالة ساجعه كيف التلاجه

    أوقفت عائشة الجمل وناديت أنا علي الرجل فلم يستجب لندائى .. قامت عائشة بعملية "تنخيخ" الجمل أى تجعله يهبط أرضا حتى نساعد الرجل على الهبوط .. قمت برفع الرجل من فوق الجمل وحين شاهدته عائشة صرخت ولطمت على وجهها قائلة:

ـ  ُبوى .. ُبوى كيف حالك؟

     لقد كان القادم "أبو السعادات" والد عائشة ورب الأسرة .. حملته على ذراعى بينما أبقت عائشة الجمل أسفل العشه تجنبا للبرودة وأحضرت له بعضا من بقايا زراعات الكرنب وألقتها أمامه .. سبقتنى عائشة وفتحت باب الدار وصاحت .. ُبوى رجع .. ُبوى رجع .. شاهدت أفراد الأسرة يقبلون من كل جهة وأنا مازلت رافعا الرجل الذى كان يتألم وينادى أبناءه .. ُرجيه .. عيشه .. زينب .. نفيسه .. أمال فين أمكم الحلوه زهرة حياتى .. تبدل الحال من البكاء إلى الضحك والتعليق على الأب الولهان رغم ما به .. أقبلت زوجته تقبله وشعرت بأن ذراعى سوف تكسر لطول الوقفة وثقل الحمل .. توجهت برفقتهن إلى حجرة الأم والتي شاهدتها لأول مرة ووضعت الرجل على الفرشة أو السرير البدائى .. أمسك بيدى شاكرا .. تركتهم جميعا وصعدت إلى حجرتى أسترجع الساعات السابقة لعودة الأب لأسرته.

     لم تمض ساعة زمن إلا وحضرت إلىّ "عائشة" تطلب منى النزول لأتناول الطعام مع العائلة ، أخبرتها بأننى سوف ألحق بها ، كنت فى أشد الحاجة إلى الطعام حيث كانت البرودة شديدة وظللت أعمل مع عائشة لمدة طويلة حتى أصبحت أطرافى شبه متجمدة كأنها ألواح من الصاج فلم تكن هناك حرارة بداخل جسدى تساعدنى على التمسك بالحياة كل هذا حدث أثناء عملى مع عائشة والذى تجاوز الثمانى ساعات والبرودة تلفحنا مما أفقدنا الكثير من الجهد والطاقة بالإضافة إلى ملابسى الرثة المهلهلة والخفيفة والتى كانت تظهر بعضا من جسدى الذى كان عاريا جزئيا فى بعض الحالات.

     هبطت إلى صحن الدار وشاهدت الأسرة مجتمعة حول صينية كبيرة رصت فوقها الأطباق التي تحوى أصناف الطعام والأبخرة تتصاعد منها ، أصبحت رائحة الدار تحمل عبق الطعام الشهى ، كانت الأنظار تتجه إلى الأب          "أبو السعادات" والأسرة لا تصدق ما حدث ومازالت عيونهم مسلطة علي الرجل الذى لم يستطع أن يرفع نظره عن الخمس نساء المجتمعات من حوله لتناول الطعام ، كانت البسمة والسعادة تلف الجميع ، توقف فجأة عن التهام الطعم ونظر إلىّ مليا وخاطبنى قائلا ً:

ـ ألف شكر لك يا ابنى على اللى جمت بيه مع عيلتى ، والله زهرة في الكام دجيجة اللى عدت خبرتنى بكل شيّ جمت بيه ، ربنا يجف بريحك زى ما أنت وجفت مع النسوان اللى من غير راجل يشد من عزمهم ، لنا كلام كتير مع بعض بس دى حاجه سريعه بأرحب بيك بنا وكابن لنا وأخو البنات الصغار دوول.

     كانت الكلمات تخرج من فم الرجل عفوية دون إعداد بل كانت كلماته مبعثها قلبه الأبيض الناصع وهى نابعة من حبه لامرأته وبناته الأربع ، لم يشك الرجل لحظة بشك يطير بعقله يجعله يفكر في أشياء شيطانية ، شاب مضى علي وجوده أكثر من سبعة أشهر بين نسائه الخمس ، ماذا حدث بينه وبينهن؟

    كنت ألاحظ السعادة والبهجة على وجوه الجميع من حديث الأب لى ولحظتها كنت قد توقفت عن تناول الطعام لأستمع لعبارته الجميلة الطيبة ، لقد اتفق       أبو السعادات مع زوجته زهرة بأننى ابن لهم وأخ للفتيات الأربع ، غمرت الفتيات السعادة ؛ لأن أباهم وافق على أن أقيم بينهن حيث تبادر للذهن بأنه قد يرفض وجودى معهن سواء للخوف على بناته أو لخشيته لغارة من الجيش الإسرائيلى والذى ما فتئ عن تفتيش أماكن كثيرة بحثا عن ضباط مصريين مختفين خاصة بعد أن أبلغهم الصليب الأحمر بالعدد الذى حددته مصر وبسؤال الجانب الإسرائيلي عن تلك الأعداد المفقودة خرج بنتيجة بأن هناك أعدادا ليست بالقليلة من الضباط مفقودة وغير ُمسجلة بكشوف الأسرى أو ممن عثر عليهم قتلى فى المعارك أو أثناء الانسحاب والتيه في الصحراء الشاسعة أو الموت عطشا أونتيجة الإصابات مما دفع بالإسرائيليين للبحث عن ضباط وجنود مختفين بالجبال أو تحميهم بعض القبائل البدوية.

      انتهت الأسرة من تناول الطعام الدسم المتعدد الأنواع وتلاه تناول الشاى فاكتملت نعمة السعادة بنعم الله التى وهبها لبني البشر ، رفعت المائدة وجلسنا قليلا بعد انتهاء شرب الشاى ثم غادر الجميع المكان كل منا يلتمس الدفء بالحجرات المختلفة بينما صعدت إلى سطح المنزل كعادتى بعد أن أنعم الله علىّ بالشفاء ، لقد مضى علىّ أكثر من سبعة أشهر منذ عثرت علىّ تلك الأسرة قضيت منها ستة أشهر وأنا أنام فوق ظهر الدار ما بين صيف حار وخريف معتدل وبرد قارس يلازمنا الآن.

    جلست متراخيا وظللت يقظا بعض الوقت حتى شعرت بأن الطعام الدسم قد هضمته المعدة ، ُكنت أفكر في حال تلك الأسرة وما هم عليه وكيف كانت زهرة تدير حركة المنزل بثقة وعيناها برأسها وهى تراقب كل صغيرة وكبيرة وكيف كانت الفتيات يطعن تعليماتها ، كنت أعمل مقارنة بين تلك الأسرة والوحدة العسكرية التي خدمت بها ، لقد كانت إدارة حازمة بعيدة عن الصوت المرتفع ونهر الجنود والتهديد والوعيد.

     كنت ألاحظ الفتيات وهن يسرن برقة كأنهن فراشات جميلات متعددة الأحجام والألوان وكأنهن طيور مغردة بديعة الصوت مختلفة النغمات ، كنت أشعر بأن الموسيقى ترافقهن فى الحديث ، لم أشاهد أى تصرف غير مقبول أو منطقى سوى أنوثة متحركة وحديث باسم أما عدا ذلك فلم أشاهد أى شئ يؤخذ عليهن ، بل كنت في أوقات كثيرة أشاهد البعض منهن يلهون بالماء وقد تحللن من كثير من الملابس وأصبح ما يستترن بها يثير الفتنة والرغبة ورغم هذا لم أندفع وراء أية واحدة منهن باستثناء " ُرقيـة " التى تلاعبت بمشاعرى وأثارت هواجسى ومخاوفى لكننى كنت في كثير من الأحيان راغبا ً بها فنحن معشر الشباب نهفوا إلى الجنس الآخر خاصة حينما تصبح الخلوة مؤكدة وحين تأتى الإشارة من جانب النساء فلا نستطيع لها ردا أو رفضا.

    تردد صوت عم أبى السعادات في أذنى " أنت يا ابنى واحد مننا ، يشرفنى أنك تكون ابنا ً لنا وتحمل اسم ابنى عيد حتى عودته وعلمت بأنها سوف تصبح قريبة بإذن الله" .. تراءت أمام عينى في جوف الظلام المحيط بى حورية تتحرك بدلال على سطح الدار مقبلة علىّ ، سعدت بتلك الرؤى والخيالات فى تلك الليلة الجميلة بعودة الأب الحانى المحب لأسرته من أسر الأعداء له ومصادرة كل ما كان يمتلكه من مال وأقمشه وملحقاتها ، مازال طيف الحورية يقترب منى حتى أصبح أمامى وبالتالى أصبح الحلم حقيقة والحورية  ليست سوى " ُرقيـة ".

     اعتقدت فى بادىء الأمر أن شيئاً ما حدث وترغب بأن تخبرنى به أو أن والدها راغب بالحديث معى لكن كل تلك الأفكار لا تناسب طريقة الحركة والاقتراب ، جلست مواجهة لى وأنا أنظر إليها نظرات من خلال الظلام الحالك وتسلل الشيطان لأفكارى بخيالات معيبة لا يجب على شخص مثلى أن يفكر بها خاصة جهة تلك الأسرة الطيبة الرقيقة ، تحدثت معى بحديث طيب أعادت فيه ثناءها علىّ وتخبرنى بأنها سوف تظل طوال حياتها تتذكر كل ما قمت به من أجل عائلتها ، لقد كنت نعم الأخ والصديق والحامى لنا أيها الشاب المهذب ، سقطت علىّ تلك الكلمات كسياط شديدة على ظهرى العارى من أى خلق أو مبادىء ، كنت أعيد النظر فى تلك الفتاة وما هى عليه من خلق وما أنا أفكر فيه من أفكار شيطانية معاكسة لكل المعايير والأعراف الإنسانية الفاضلة.

   تنبهت رقية بأنه قد طال بها الجلوس وهى تعلم بأننى ُمجهد وراغب في النوم ، بالفعل كنت مجهدا في مقاومة النفس والبعد بها عن الرزائل والأفكار السيئة ، نهضت كسولة وسارت من أمامى مغادرة المكان بعد أن نمى إلى مشاعرى بأنها أغمدت نصلا شديدًا من الخلق والكبرياء التى يتمتع بها أبناء شعب مصر خاصة بالمناطق الصحراوية ومنهم بالطبع أبناء مصر بسيناء وهم أول من استقبل رجال الفتح الإسلامى بقيادة عمرو بن العاص ، لقد نهل أبناء سيناء من الخصال العربية التي نبتت من بينها رسالة النبي محمد صلى الله عليه وسلم. 

       فردت جسدى المنهك طوال النهار من العمل والحديث مع العائلة وانتهى بهذا اللقاء الذى شعرت بأنه ممتع ورائع ولكن شيئـًا غاص فى قلبى وشعرت بأن سكينا تعتصر أمعائى فقد ظهر الذئب واختفى الحمل ، لقد اكتشفت عورة أخلاقى وسوء تربيتى وقلة الأصل وعدم المحافظة على العهد ، فكرت كيف لى أن أحافظ على أمن الوطن وكدت أن أنتهك شرف أبناء البشر به؟ لكن أين هو أمن الوطن الذى اسُتبيح العام الماضى من شهر يونيو وكأن شرف الوطن كان رفيقاً بالشرف الإنسانى فكما استباح الأعداء شرف مصر بأن احتلوا جزءًا عزيزًا من أرضها ها أنا كدت أسير على منوالهم وكدت أن أصبح مثل هؤلاء الأعداء الذين يغتصبون حقوق أبناء فلسطين منذ عدة أعوام وقبلها الاستعمار الإنجليزى والفرنسى ... ياه .. ضربت يدى بقمة رأسى محاولا أن أستفيق ولكنى عدت إلى حالة من تأنيب الضمير للمرة الثانية.

    حاولت الدخول في النوم ولكن لم أستطع ، شعرت بغليان يجرى بجسدى حتي كدت أن أخفف من ملابسى في هذا الطقس شديد البرودة ، هبطت من أعلى السطح وتوجهت إلى شاطئ البحر وسرت بعض خطوات بداخل المياه ، لم أشاهد سوى بعض خطوط فضية من جراء الأمواج الهادئة ، جلست بالمياه وشعرت بأن درجة الحرارة بدأت تزول عني رويدًا رويدًا.

    نهضت تاركا المياه راغبا بالعودة إلى حجرتى بأعلى الدار فقد شعرت بأننى كفرت عن بعض ذنوبى التي اختمرت بعقلى وتذكرت الآية الكريمة التي يأمر فيها الله المرأة المسلمة بأن تضرب بالخمار علي الصدر حتي لا يطمع فيها الذى بقلبه مرض ، هذا هو المرض الذي يقصده دين الإسلام فليس المرض عضويا فقط بل يكاد يصبح مرضا نفسيا يقطن القلب والعقل ولكن كان هناك عقاب آخر  ينتظرنى ، فلقد أقبل الذئب الحقيقي لينال منى حيث كدت أن أتحول إلي ذئب آدمى ، سمعت صوته القريب منى وشاهدت فمه المفتوح عن آخره وشاهدت أنيابه التى تهددنى بكل سوء وتخبرنى بأننى سوف أقوم على تمزيق جسدك الذى كاد أن يتمتع في الحرام منذ قليل ، لم أستطع التصرف وكل ما فعلته أننى ُعدت للخلف بداخل المياه لأبتعد عنه ، كنت في خوف بأن يقفز الذئب إلى داخل المياه لكننى كنت أعلم أنه جوعان ولا مجال للمناورة فهو راغب بطعام.

    ظللت على هذا الحال عدة دقائق فالذئب واقفًا على الشاطئ وأنا بداخل الماء والبرودة أصبحت لا تطاق وشعرت بعد قليل بمن يهاجم ساقى فلقد أقبلت الأسماك الصغيرة على الحرارة المنبعثة من ساقى وبدأت تنشب أسنانها فيه فصرخت مغادرًا الماء كى ألقى بنفسى بأحضان الذئب ، لحسن الحظ أن الذئب قفز هاربا حينما سمع صرختى وشاهدنى أغادر الماء فى اتجاهه معتقدًا بأننى سوف أهاجمه وفر من أمامى وأنا أتبعه ، شاهدت ذئبين آخرين من زملائه يحاولان فتح حظيرة الماعز التى كانت تستغيث برفع صوت "المأ مأة" مما دفع بالأسرة إلى إضاءة الأنوار بالداخل وخرجت الكلاب التى قامت بمطاردة الذئاب وشاهدتنى الأسرة وأنا على هذا الحال مبتل الجسد والملابس والدماء تسيل من ساقى فهرعوا إلىّ وعلموا بشجاعتى غير المتعمدة بأننى حاولت مهاجمة الذئاب بمفردى مما دفعهم إلى زيادة الاهتمام بى واستبدال الملابس وتعقيم الجروح وتقديم الشكر لى على ما قمت به والتنبيه علىّ بعدم تكرار هذا بمفردك دون مساعدة حتى لا تفتك بك الذئاب.

     هكذا انقلب الحال وتبدلت من شخص جبان إلى بطل في نظر الأسرة مما زاد من ُقرب " ُرقيـة " لي وشعورها بأن هذا هو الشاب التى ترغبه ، أعفتنى الخالة زهرة من العمل ذاك اليوم فقد تأثرت بما أصابنى من البرد أكثر مما أصابنى من مهاجمة الأسماك لى حيث إننى فررت بسرعة قبل أن تصيبنى بإصابات شديدة مثل ما حدث العام الماضى.

    عصر هذا اليوم أقبلت علىّ " ُرقيـة " حاملة لى الطعام وجلست تؤنس وحدتى وتنظر إلىّ نظرات طيبة ذات مغزى يحمل في طياته الشكر والامتنان ، اقتربت منها متسائلا: لو تقدمت لطلب يدك من والدك هل توافقين؟ تبدل الحال وساد الصمت وبدأت أنوار السعادة تضئ وجهها بضوء يقارب ضوء الشمس الساطع ، نهضت وفرت هاربة من أمامى وهبطت درجات السلم بسرعة كالفهد ، نظرت إلىّ قبل أن تختفى من أمام نظرى وأشارت إلىّ بعلامة مع السلامة أو بعلامة التأييد وكلها علامات تدل على القبول دون حديث.

     جلست أفكر فيما عرضته على " ُرقيـة " وهل هو شئ منطقى أو نوع من اندفاع الشباب ، تركت الطعام جانبا وأخذت أعيد كل علاقتى بتلك الأسرة منذ أول يوم أنقذت فيه حياتى حتى الآن وليس هذا هو السبب الوحيد ، لكن السبب الرئيسى هو وقوعى في فخ الحب والرغبة وكان هناك أمر آخر حيث لمست مدى ُحسن تربية الفتيات سواء سلوكا أو بالصلاة والتى كنت أشاهد البعض منهن وهن يقمن بالوضوء من مياه البحر المالحة.

    تساءلت: هل هناك قيم ومواصفات يطلبها الشاب في الفتاة التى يرغبها أكثر من هذا؟ حتي التعليم واللائى ُحرمن منه كن يقرأن في كل الكتب التى يأتى بها الشقيق عيد في كل زيارة سواء في مواد العلوم أو التاريخ أو الأدب ، كان هذا واضحا لى منذ أول لقاء وهو حب المعرفة والقراءة بل والكتابة أيضا بل شاهدت الفتاة نفيسة وهى تخطط بعود فحم على قحف أشجار النخيل ، لقد كانت خطوطها رائعة أما عائشة فقد كانت تجيد الرسم و" ُرقيـة " تجيد الغناء بصوت مقارب لصوت السيدة فيروز ، تبين لى أن جميع أفراد العائلة يتمتعن بالموهبة والثقافة.

Share
Click to listen highlighted text! Powered By GSpeech