Click to listen highlighted text! Powered By GSpeech
Get Adobe Flash player
مستمرين معاكم بإذن الله 2008-2024 **** #لان_لجيشنا_تاريخ_يستحق_أن_يروي **** ***** إنشروا تاريخنا وشاركونا في معركة الوعي **** تابعونا علي قناة اليوتيوب 1100+ فيديو حتي الان **** تابعونا علي صفحات التواصل الاجتماعي** أشتركوا معنا في رحلاتنا لمناطق حرب أكتوبر **** يرجي استخدام خانة البحث **** *** تابعونا علي تليجرام - انستجرام - تويتر

روايه عابد المصري - الحلقه الرابعه

حصريا لاول مره علي الانترنت

بتصريح خاص من الكاتب للمجموعه 73 مؤرخين

لا يجوز اعاده النشر بدون الاشاره للكاتب والموقع كمصدر

عـــابد المصـرى .. رواية

كتبها/أسـامة على الصـادق

.....

الطبعة الأولى .. يوليو 2010

الناشر: الكاتب

.....

تصميم الغلاف:

ريهام سهيل

....

حقوق الطبع محفوظة للكاتب

موبايل: 0127970032

اجتيـاز وادي العريـــش

 

        حصلنا علي راحة في هذا الكهف الرائع الذى توفرت به كل شئوننا الإدارية باستثناء دورة المياه ولم نعد في احتياج إليها ؛ حيث الصحراء الشاسعة المترامية الأطراف من حولنا ، أصبحت دورة المياه المفتوحة أمامنا ، كان الطعام متوافرا رغم كونه معلبات محفوظة كما توفر عنصر الإضاءة وبعض المياه الصالحة للشرب ، يومان كاملان ونحن ننام ونصحو ونأكل ونتضاحك ونتسلي بالحكايات التى سمعناها من الأكبر منا عمرا والتى تصب كلها فى قالب الشجاعة والعزيمة والجهاد الذى كنا نحيا ونعيش فيها.

     أبدى عمـر استعداده لمرافقتى لحين العودة إلى مصر ، وأن يظل بها وينضم لقوات مقاومة شعبية أو أى شئ مشابهه من هذا القبيل ، شجعته على فكرته تلك متسائلا وما حال أسرتك؟ أخبرنى أن زوجته وطفليه يعيشون مع والده ووالدته وأشقائه الصغار وهو مطمئن عليهم ولا يخشي أى شئ عليهم طالما أن الله معهم ، ابتسم ثم ضحك قائلا: وأنا متأكد أن الله معهم طالما أنا هنا في ميدان الجهاد.

    أثناء حديثى معه سألته هل شاهد نظارة ميدان من التى تستخدم فى الجيوش ، نظر إلىّ مستوضحًا ... ح تكون مهمة لشغلنا؟ أجبته بالإيجاب ، صمت قليلا ًثم قال ح اتأخر عليك خمس ساعات وأروح أجيب لك واحده شفتها مع شهيد وإحنا بنقوم بدفنه ، طلبت أن أرافقه ولكنه طلب منى الانتظار حتى لا نقع نحن الإثنين فى يد الأعداء ثم ضحك مودعا وأخبرنى بأنه سوف يغلق فتحة الكهف من الخارج ، حدثنى من خارج الكهف وأخبرنى بأنه أغلقه من الخارج حتى يمنعنى من المغادرة إلا بمعاونته حيث إن الصخرة المتحركة ثبتها في فتحتين بجسم الجبل الموجود به الكهف.

     قفز مبتعدًا متجاهلا ندائى بألا يغلقها ولكنه استمر ضاحكاً قائلا سوف أحبسك هنا لحين عودتى حتى لا تندفع وتقاوم الأعداء بمفردك ، هكذا غادر "عمـر" الكهف وتركنى جالسا به لأحصل علي الطعام والراحة ، بعد ساعتين أو أكثر سمعت حركة أعقبها حديث بخارج الكهف ، كان الحديث باللغة العبرية ، هذا يعنى بأن جنود الأعداء علموا بموقع الكهف ، جلست هادئ البال فلم يعد أمامى ُبد من الاستسلام ولن أقاوم فليس معى سلاح أقاوم به سوى المتفجرات.

       سمعت أحدهم يخبر الآخرين بأن الكهف خال وأوضح لهم بأنه "مغلق" من الخارج ، تبادلوا أحاديث كثيرة لم أع ِ معناها رغم أنها تدور باللغة العبرية ، حيث إنني حصلت على دورة في اللغة العبرى من المستوى الثالث وكنت مرشحا ً للحصول علي دورة أرقى من المستوى الثاني بعد ترقيتى إلى رتبة النقيب فى بداية شهر يوليو من العام الماضى 1967 ولكن الحرب نسفت كل خططى للمستقبل.

    بعد ُمضى نصف ساعة تقريبا إنقطعت الأصوات وأصبحت المنطقة خارج الكهف هادئة ، شعرت بأنه قد مضى على غياب "عمـر" فترة طويلة ؛ حيث تعدى الزمن عشر ساعات وليس خمس ساعات واعتقدت بأنه شاهد جنود الأعداء قريبا من الكهف فآثر السلامة ، وظل ساكنا حتى يبتعدوا عن المكان وسوف يعود إلى الكهف بعد أن يغادروا المكان ، شعرت بالذنب لأننى قمت بتكليفه بالبحث عن نظارة ميدان ويكفيه المشقة التى تحملها لتعاونه معى واستعداده لعمل أى شئ ، ظللت على هذا الحال أتقلب ما بين النوم واليقظة ؛ حيث كنت مختبئا بجانب باب الكهف الذى كان يقارب فى المساحة مساحة حجرة متوسطة بأى منزل ، شعرت بنوم مفاجئ وأنا جالس حيث عم الظلام المكان ولم أعثر على الولاعة وأعتقد بأن "عمـر" نسى أن يتركها قبل مغادرة الكهف.

     فجأة سمعت صوت انفجار شديدًاً وتنبهت على ضوء غمر الكهف وشظايا من الأحجار تتناثر فى كل مكان وصوت إنسان يتألم ودماء وأشلاء ، فزعت لهذا ونظرت من حولى وسمعت من يحدثنى "عابـد" أنا عمـر ، ولاد الخونة عملوا لى شركا ً خداعيا ً ، أنت رحت فين يا "عـابد" .. والله يا عمر بأدور على الولاعة ، سمعت ضحكته الواهنة قائلا ً: الولاعة موجودة فى إسطوانة علبة الفتيل ، تحركت على الفور اتحسس علبة الفتيل الصاج حتى عثرت عليها وفتحتها وامسكت بالولاعة وأضأت الفانوس وتوجهت لمكان عمر وحين شاهدته صرخت وكاد الفانوس يسقط من يدى ويحترق الكهف.

ـ مالك يا "عابـد" كده تخاف إمال أنا مش خايف ليه

        لقد كان "عمـر" متهتك الجسد من الانفجار ونصف جسده الأعلى بداخل الكهف والنصف الباقى بالخارج عبارة عن قطع متناثرة أما نصفه الأعلى الذى بالكهف فلم يكن مكتملا بل ذراعه اليسرى مبتورة من عند الكوع وذراعه اليمنى مبتورة من عند الكتف ، رقبته تسيل منها الدماء بغزارة مثل باقى وجهه ، أنظر إلى وسط جسده الذى أصبح قطعة من اللحم بها البطن والصدر ولكن من أسفل موضع حزام البنطلون تقطع وتمزق خارج الكهف ، ومن شدة الانفجار دمرت الصخرة التي كان يغلق بها الكهف.

     أشاهده يشير إلى رقبته بأن أتسلم منه نظارة الميدان ، خشيت الاقتراب منه ولكنه أصر على هذا متسائلا ً: يا أخى دا أنا دفعت فيها حياتى ، أخذتها منه بصعوبة وقد اصطبغت يدى باللون الأحمر مما علق بها من دماء ، ُكنت أحاول منع بكائى ودموعى ولكنى لم أستطع فقد كان منظره مؤلما لأقصى درجة ؛ حيث وضع الإسرائيليون فخا وشركا خداعيا بخارج الكهف وحين اقتراب أى شخص من باب الكهف تنفجر فيه العبوات وتقتله في الحال ، لقد وضعوا المتفجرات ووضعوا سلك "إعثار" وهو سلك خفيف غير منظور وحين محاولة فتح باب الكهف يصطدم الإنسان بهذا السلك فيعمل على تفجير العبوة وهذا ما حدث.

      مازال "عمـر" يتحدث والبسمة على وجهه لم تفارقه رغم ما به من آلام وأنا مازلت صامتا إلا من بكاء مكبوت ، تحدث قائلا:

ـ شوف يا عابد ..  والله أنا أخرتى كويسه ، أنت عارف أنا شايف إيه؟ مش ح تصدج ، عارف "ربيع وخليل وإبراهيم" اللى كانوا معانا في العصابة ، أنا شايفهم في الجنة!! لم أستطع السكوت وتساءلت:

ـ جنة إيه وهما شوية حراميه ، يشير إلى بالسكوت.

ـ إمبارح كانوا ماشيين ، أنا شايفهم وهم ماشيين بعدين سمعوا صوت ست عايشه مع عيالها وبتصرخ لأن ولاد الصهاينة عايزين يغتصبوها ، جريوا ناحية العسكرى اللى بتقاومه الست ، ربيع قتله بالسونكى اللى كان مخبيه فى هدومه ، باجى زمايل العسكرى طخوهم بالنار ، خليل لسه فيه النفس وفايج وأخد سلاح العسكرى اللى اتجتل بالسونكي وطخ نار عليهم وجتل اتنين جبل ما يستشهد التلاته ، ياه .. الله يرحمكم ، أهم ماشيين في الجنة ولابسين لبس أبيض كمان لحج بيهم "حسين" اللى استشهد فى تدمير أسلحة الجيش عند السبخة ، أنا ح أحصلهم ألله أنا شايف إيه أجولك .......... ، أشاهده يتحدث ولا أسمع منه شيئا ، أشير إليه بأننى لا أسمعه وهو مازال يتحدث باسما ً، إعتقدت بأن الخلل بأذنى لكننى كنت أسمع أصوات العواصف بخارج الكهف ، أخيرا سمعت صوته متسائلا ً: إيه رأيك شفت أخرتى حلوه إزاى ، إنا لله وإنا إليه راجعون.

      خمد الصوت وتقطعت الأنفاس وتوقف تدفق الدماء وشعرت بأن نهاية العالم الآن ، ظللت أنظر إلى جثته ولا أستطيع التصرف أو العمل ، بكيت كما لم أبكِ من قبل رغم أن "َسـلمان وفاروق الفيومى" نالا الشهادة أمامى بالمركب فى بداية الانسحاب ، أشاهد ضوء الفانوس يخبو كأنه يخبرنى عن حزنه على صديقى الحبيب الذى تعرفت عليه منذ خمسة أيام فقط ، لقد تبدل حال الخمسة المجرمين واللصوص من محتالين مجرمين إلى شهداء وتذكرت حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم "من مات دون أرضه فهو شهيد .. (حسين وعمر) .. ومن مات دون عرضه فهو شهيد .. (الثلاثة .. ربيع وخليل وإبراهيم) .. ومن مات دون ماله فهو شهيد" صدق رسول الله صلي الله عليه وسلم.

      ُعدت برأسى مستندًا على جدار الكهف .. البرد شديد القسوة بالخارج وبعض الرياح المحملة بالرمال تندفع إلى داخل الكهف ورغم هذا فضياء القمر يسبغ نوره على الصحراء بالخارج فانعكس الضوء إلى داخل الكهف ، تنبهت على صوت وحركة بالخارج ، اعتقدت أن بعض الإسرائيليين قادمون بعد سماع الانفجار ، تبينت ملامح صاحب الصوت ولم أستطع التوضيح هل هما كلبان كبيران أو ذئبان؟ فيما بعد علمت أنها ضبعان من ضباع سيناء القاتلة ، الضباع تحمل اللون الذهبى وخطوطاً عرضية باللون الرصاصي ، اقتربت من بقايا جثة "عمـر" وأوغلت حاسة الشم ورغم هذا ظللت ساكنا وأصبحت بلا مشاعر فلا خوف ولا سعادة ، أشاهد أحد الضباع ينفر شيئاًً ما من أنفه كأنما اشتم رائحة سيئة أو شعر بشئ كاو به ، غادر الضبعان المكان بسرعة كأنما شاهدا شيئا وخشيا منه رغم أن رائحة الدماء بخارج وداخل الكهف واضحة ، كنت أنظر للضبعين وأنا مستسلم لقدرى حيث  ُكنت راغبا فى ترك تلك الحياة القاسية فلقد أثر علىّ مقتل "عمـر" بتلك الطريقة وأمام عينى والذى ظل يحدثنى لأكثر من عشرين دقيقة قبل أن يلقى الله.

     في الصباح غادرت الكهف بعد أن لملمت بقايا جثمان الشهيد "عمـر" ، تيممت من الرمال بالخارج ؛ حيث كانت كمية المياه شحيحة وقد ضاع الأمل بعد وفاة عمر بالحصول على مصدر آخر للمياه ، بعد أن تيممت أديت صلاة الجنازة على الشهيد "عمـر" من الوضع جالسا نظرا لقصر ارتفاع الكهف ، غادرت الكهف وجمعت كمية من الأحجار أغلقت بها باب الكهف حفاظاً على جثمان الشهيد ، جلست قريبا من الكهف أتفحص نظارة الميدان ولكنها لم تكن ذا فائدة حيث إن شظايا الانفجار أتلفتها ولم تعد تصلح فألقيتها بجوار باب الكهف ، حملت عبوة الماء وسرت على غير ُهدى فقد ضاع كل شئ من الصحبة ومعرفة الطريق ومعرفة مصدر الطعام والمياه ومن رفقة الأليف وُحسن الحديث والبطولات التى قام بها هؤلاء الشباب العابث لتنقلب حياتهم في خلال أيام إلى العكس تماما كأنما الله راض عنهم ، تذكرت حديث رسولنا الصادق الأمين: يظل الرجل يعمل عملا من أعمال أهل الجنة وقبل أن يلقى ربه يعمل عملا من أعمال أهل النار فيدخل النار .. يظل الرجل يعمل عملا من أعمال أهل النار وقبل أن يلقى ربه يعمل عملا من أعمال أهل الجنة فيدخل الجنة ، صدق رسول الله صلي الله عليه وسلم .. مبارك عليكم نهايتكم الطيبة.

      ظللت سائرا فى اتجاه الجنوب ؛ فقد تذكرت حديث الشهيد "عمـر" حين أخبرنى بأننا سوف نتحرك بعد عدة أيام ونسير جنوبا لنبتعد عن مدينة العريش ومن هناك نتجه إلى وادى العريش ونسير به لفترة يومين ثم نعود ونتجه شمالا فنصل إلى ساحل البحر بحيث نعود ثانية إلى موقعنا على الساحل وحينما سألته لماذا نتأخر عدة أيام وليس الآن أخبرنى بأن هذا موسم الأمطار ويصبح وادى العريش ممتلأ بالمياه الجارية المندفعة مثل فيضان نهر النيل قبل بناء السد العالى وتلك الفيضانات تكتسح أية وحدات عسكرية إذا كانت تتمركز أو تحتل موقعا بها لهذا فالجميع يعلم بأن وادى العريش خطر خلال فترة الشتاء خاصة فى بداية العام الميلادى الجديد أو نهاية شهر "طوبة".

      سرت على نهج خطة "عمـر" ، كنت أسير بكل جد ونشاط حيث ُكنت راغبا بترك هذا المكان الذى تجمعت فيه البطولة والشهادة وشعرت أننى أصبحت نذير شؤم على كل من يرافقنى بأن ينال الشهادة سواء فاروق الفيومى أو َسـلمان أو حسين وعمر بل الثلاثة الذى شاهدتهم يتحدثون مع حسين وعمر ونالوا الشهادة أيضا وهم يدافعون عن شرف السيدة التى كاد اليهود أن يغتصبوها ، صمت لفترة مستعيذا من الشيطان طالبا من الله أن يبعده عنى فكيف تصبح الشهادة نذير شؤم؟ ولكنها وسوسة الشيطان.

   منذ مساء الليلة السابقة وبعد أن غادرت كهف الشهيد عمر وأنا ما زلت أواصل السير وقد وصلت إلى وادى العريش ، كان الطقس سيئا إلي أقصى درجة سواء من العواصف الرملية أو من البرودة الشديدة ، ظللت أقاوم تلك العوامل الجوية ولكن العواصف كانت أقوى من مقاومتى لها وبعد أن تلاشت العاصفة وهدأت الرياح شعرت بدماء تتساقط من رقبتى إلى ظهرى فقد قامت الرمال السريعة المندفعة بعمل ثقوب كثيرة ازدادت بمضى الوقت حتى أصبحت جرحا غائرا ً.

     حمدت الله على توقف العواصف رغم البرودة التي ليس لها حل سوى مأوى أو دار أو كهف ، شاهدت عن بعد شيئا أسمر اللون كبير الحجم وتأكد لي بعد اقترابى منه أنها دبابة مصرية من طراز T 34  روسية الصنع ، توجهت قريبا منها وبعد هذا بلحظات هطلت الأمطار بغزارة ليس لها مثيل ، قفزت أعلى الدبابة ومن حسن الحظ أن البرج كان مفتوحا فهبطت بداخلها وأغلقته بصعوبة نظرا لحالة الصدأ التى وصلت إلى حديد الدبابة وذلك تجنبا لمياه الأمطار ، كانت البرودة بداخل الدبابة أقل نسبيا كما استطعت تجنب تأثير مياه الأمطار وقللت من شدة البرودة ، كنت أشعر بأن الدبابة تهتز من حين لآخر من شدة الأمطار والحقيقة إنها لم تكن تهتز بل كانت تتحرك ميلا لأحد الأجناب وأنا لا أشعر ولا أعرف كيف التصرف.

     مازلت أشعر بأن الدبابة تتحرك وتميل لأحد الأجناب ولم أتخذ قرارا بعد ولكن الطبيعة اتخذت قرارها بأن انقلبت الدبابة على أحد الأجناب وبعض الأشياء الموجود بداخلها سقط على أم رأسى من عبوات قنابل فارغة وبعض أدوات من مفاتيح وعدد الصيانة ، تدافعت المياه حتى غمرت الدبابة من الداخل وشعرت أننى سوف ألقى حتفى غرقا فلم يعد هناك متنفس للهواء ، حاولت الخروج ولكنى لم أستطع وفى لحظات شعرت أن مستوى المياه بدأ يقل بداخل الدبابة مما ساعنى لأن أحصل على بعض الهواء لأظل على قيد الحياة ، ظللت على حالى هذا حتى شعرت بأن الأمطار خفت حدتها حتى توقفت تماما ، رغبت بمغادرة الدبابة ولكن غطاء البرج كان مدفونا فى الرمال ، أصبحت مثل الحيوان أو الفأر الذى وقع بالمصيدة ، ماذا أفعل وكيف لى التصرف؟ جلست لا أعى ما أقوم به وأخيرا تنبهت بأن هذا النوع من الدبابات له فتحة هروب من بطن الدبابة ، أبحث عن بطن الدبابة بالأسفل وعثرت على باب فتحة الهروب حاولت فتحها فاستعصت على يدى حيث كان الصدأ قد أتى مفعوله بها.

     جلست أفكر كيف التصرف؟ ودون العثور على أى شئ ينقذنى مما أنا فيه سوف أفقد حياتى التى سوف تنتهى بهذا القبر المصنوع من الحديد ، بعد قليل سمعت أصوات انفجارات شديدة خشيت على نفسى واعتقدت أن الإسرائيليين قادمون ولكن تبدل ظنى حيث سمعت هطول الأمطار وقد كان هذا صوت الرعد وليس صوت الانفجارات ، ظلت الأمطار تتساقط بشدة وشعرت أيضا بأن الدبابة تتحرك ، ظللت بها وشعرت أن الدبابة إستقرت على وضع حرر باب فتحة البرج ، فتحت البرج وغادرت الدبابة  ُمسرعا ولكن الأمواج العاتية التى استطاعت أن تحرك ثقل جسم حديدى يزن أكثر من خمسين طنا ؛ ماذا تفعل في ثقل لا يزيد عن ستين كيلو جراما.

     هكذا شاهدت نفسى والمياه تحملنى وأنا لا أستطيع المقاومة وفى بعض الحالات تغطى المياه أنفى مما يمنعنى من التنفس ، كانت المياه ثقيلة ؛ حيث تحمل العديد من أطنان الرمال الناعمة والتى تشبه "الدقيق أو البودرة" حيث كان لون المياه مثل لون مادة الطحينة ، أيقنت فى تلك المرة بأن الغرق هو نهايتى ، حاولت السباحة ولكن شدة اندفاع المياه كانت أشد قوة من مقاومتى لها ، شاهدت شيئا أسمر اللون يظهر من أسفل المياه فى اتجاه اندفاعى ، اقتربت من هذا الشيء بقوة دفع المياه فإذا هي مجموعة من مدافع الميدان الضخمة التى تشابكت مع بعضها بفضل إندفاع المياه وأصبحت ثابتة ، لم أحاول الوصول إليها حيث كنت مندفعا في اتجاهها ، أخيرًا إرتطمت بتلك المدافع وتشبثت بها وارتفعت تسلقا أعلى المياه المندفعة وأصبحت بعيدا عنها ولم تجرفني وتجنبت شر فيضانها العارم.

     في المساء حيث مازالت الغيوم تلوح بالسماء ولم تظهر أية نقطة نور من ضياء شمس هذا النهار ، توقف هطول الأمطار وبدأ يقل ارتفاع المياه تدريجيا من حولى حتى انحسرت وأصبحت بركا صغيرة ، هبطت من أعلى المدافع حيث كان الهواء البارد مع بلل ملابسى قد أثر على حالتى الصحية والنفسية بأثر عكسى جعلنى شبه محموم ، سرت أتخبط فى ظلام الليل الدامس وخيل إلىّ بأننى أشاهد ظلا لشئ كبير الحجم أعقبه حالة من الإغماء ؛ أفقت منها علي وجودى بخيمة لرجل بدوى يعيش مع أسرته ، كان الرجل البدوى قادما من مكان ما إلى موقع إعاشة أسرته والذى كان قريبا من مكان عثوره علىّ وحينما شاهد حالة الإغماء حملنى إلى أسرته التى غادرت مكانها ، وهربت بكل ما تحمله بما فيها الخيمة واختبأت بين الصخور الكبيرة القريبة بالمنطقة حين توقعت سقوط المطر ثم عادت ونشرت خيامها ، قامت الأسرة على رعايتى وتطبيبى حيث ُكنت أعانى من نزلة برد حادة ، لا أعلم الوقت الذى ظللت فيه فى ضيافتهم ولكنه لا يقل عن خمسة أيام.

     انتهت الضيافة وقدمت شكرى لهم وتساءل الرجل عن وجهتى فأخبرته بأننى أرغب بالتوجه إلى الساحل فأجابنى بأنه سوف يساعدنى لأنه متوجه إلى مدينة العريش ، فهمت من حديثى المتبادل معه بأننى عبرت محيط مدينة العريش كما نصحنى أبو السعادات والد "ُرقيـة " خطيبتى ، أظهرت له مخاوفى من الاقتراب من المدينة والتى تعج بجنود الاحتلال فأيدنى في خوفى هذا مؤكدا لى بأنه سوف يسلك طريقا آمنا يقع غرب مدينة العريش بخمسة عشر كيلومترا ً ويتركنى هناك ثم يتجه شرقا إلى المدينة.

     مساء هذه الليلة سوف أرافق "أبو عيشة" وهذا اسم الرجل البدوى الذى قدم يد المساعدة لى مع أسرته ، سوف أرافقه إلى غرب مدينة العريش ، ظللنا طوال الليل نسير ونتبادل ركوب الجمل أثناء السير ، كانت تلك أول مرة أركب فيها جملا ، لقد شعرت بأننى مرتفع عن الأرض ارتفاعاً كبيرا كما كنت أخشى السقوط من فوقه بالإضافة إلى الحركة الرتيبة لسير الجمل فتشعر طوال الوقت بأنك تندفع بجسدك للإمام ثم تعود لوضعك طوال الطريق ، تقوم بتلك الحركة لا إراديا وتبدأ الحركة من منتصف الجسم أى أسفل الظهر اندفاعا للأمام ثم عودة للخلف ، كما كنت أخشى الجمل حين الركوب عليه أو فى حالة هبوطه أرضا وهى عملية "التنخيخ" حيث يطلب منه أبوعيشة ذلك قائلا ً "نخخخخخ" ويمسك بالحبل من أمام فمه ويهبط به أرضا حتى يهبط الجمل ، كان الجمل يحتج علي هذا بإحداث أصوات عالية وخروج رغاوى من فمه وأسنانه الكبيرة تتحرك ويحرك رأسه ذات اليمين وذات اليسار ، كنت في وجل من هذا الحيوان الأسطورى الذي يعتبره كثير من الأوروبيين بأنه آخر سلالة لحيوان الديناصور المرتفع فهو أكبر حيوان فى العالم حتى الآن.

     الحمد لله وصلت إلى ساحل البحر الأبيض وأسمع أصوات الأمواج وأشتم رائحة المياه المالحة المشبعة باليود .. تبادلت مع أبى عيشة التحية وأمدنى ببعض أرغفة خبز كانت زوجته قد أعدتها عصر هذا اليوم وشاهدتها مع ابنتها عائشة ذات الأربعة عشر ربيعا التى كانت تقدم يد المساعدة لأمها ، كما ملأت لى عبوة مياه بديلا عن عبوتى التى فقدتها أثناء السباحة فى مياه الأمطار العنيفة بوادى العريش.

     غادرنى أبو عيشة وقد امتطى ظهر الجمل مثل الفهد بسرعة وظل طيفه يختفى عني رويدًا رويدًا وبقيت بمفردى مع الواحد القهار ، أنظر إلى السماء محدثا ربى:

ـ بقيت لوحدى وأنا محتاجك يا رب ، مش تتخلى عنى وأنت عالم بحالى ، تقف معايا ولو مت حتفضل لوحدك ، مش تزعل منى لكن الحكاية بقت صعب خالص دا أبو عيشه عرفنى إننا بقينا نص شهر فبراير ، مش معقول!! تسع شهور ولسه بلف فى سينا  "جلست صامتا بعض الوقت أستعيذ من هذا الهراء الذى ناجيت به الله ولكنه غفور لعبيده ويعلم خبايا الأنفس" جلست بجوار بعض النباتات القريبة من الساحل أحتمى من رياح الصباح الباردة وأخرجت بعض قطع الخبز أسد بها رمقى ، جلست أتذكر حالى الآن وما عليه حال أسرتى وما عليه حال قيادتى وزملائى الآن الذين تم ترقيتهم فى العام الماضى في بداية شهر يوليو من عام 1967 وهل تم ترقيتهم أم لا ؟ أسئلة كثيرة بدأت تطرح نفسها علىّ.

     شاهدت على أحد الأجناب بالمكان الذى أجلس به شيئا معدنيا كبير الحجم ، تحركت إليه بحذر وتفحصته ، لقد كان جناح طائرة نقل عسكرية إسرائيلية حيث شاهدت عليها علامة نجمة داوود ، كانت أبعاد الجناح طولا عشرين مترا وعرضا أربعة أمتار ثم تقل لتصل إلى المتر فى الطرف ، كما شاهدت الجناح الآخر بعيدا بمئات الأمتار لكنه ملتصق مع باقى أجزاء حطام الطائرة.

    شعرت بأن هذا الحطام يمكن أن يصبح مأوى لى لحين سقوط الظلام ثم أواصل تحركى ، نفذت إلى الأسفل وأزحت بعض الرمال حتى استطعت أن أجلس مستريحا بحفرة صغيرة أسفل الجناح مما ساعد على منع أو تقليل الرياح الباردة وشعورى بالدفء النسبى ، مضى جزء من نهار اليوم والهدوء الصامت هو صفة المكان فلم أعد أسمع أى شئ بل إن أصوات أمواج البحر كانت تقل درجة قوتها فى بعض الأوقات حسب اتجاه الريح.

    خلدت لنوم هادئ وكأن الطبيعة أرادت لى الحصول على قسط من النوم المريح ، كنت أصحو وأعود لنومى وأنا مازلت متأكدًا ًبأنني أحيا وأعيش مع عائلة "أبو السعادات" ، تنبهت من نومى فإذا بالظلام محيط بى من كل مكان ، لقد ضاع منى هذا اليوم فى الراحة والنوم ، خرجت من المخبئ بحذر وجلست أعلى جناح الطائرة وأخرجت بعضاً من قطع الخبز أمضغها وأتناول بعض جرعات من الماء خلفها كأنها طعام ، بعد قليل شاهدت ضوءًا قادماً من اتجاه البحر ، دققت النظر فإذا بالضوء قادم وليس مبتعدًا أو متحركا بالعرض ، وهذا يدل على أنه ليس بمركب صيد ، مازال الضوء يزداد وضوحاً فخشيت أن تكون دورية بحرية إسرائيلية فقررت العودة إلى المخبأ وفى نفس تلك اللحظة شاهدت إشارات ضوئية صادرة من هذا المركب أو ذاك القارب أعقبها ضوء صادر من الخلف بالاتجاه المعاكس قادم من اتجاه طريق العريش القنطرة ، هربت أسفل الجناح وقد تزايدت دقات قلبى خوفا لما سوف يحدث لى.

    لم تمض سوى دقائق قليلة وسمعت صوت محرك سيارة يقترب منى حتى توقف بجوار جناح الطائرة وهبط منها بعض الرجال ، تحدثوا فيما بينهم ، كان حديثهم يدور بالعربية بلهجة أهل الشام ، خرجت تعبيرات مثل ( إمليح / بلش / خوى / مصارى / مره "امرأة" ) ، اقترب القارب حتى رسا على الشاطئ فتوجه إليه شخص من تلك المجموعة التى غادرت السيارة ، تأكد لى أن هؤلاء الرجال من الجيش الإسرائيلى للحديث الدائر بينهم وتوجيه لقب كابتن لأحدهم وقد شاهدت ظل أجسادهم والذى كنت أشاهده من أسفل الجناح والبعض منهم يعلق المدافع الرشاشة على كتفه كما أن السيارة من نوع "جيب حربى أمريكى".

    عاد الكابتن قادما من جهة القارب وأتذكر أن اسمه مزراح ويحمل حقيبة بيده لكن اللافت للنظر أن برفقته فتاة غاية فى الجمال ، كل هذا كنت أشاهده من أسفل جناح الطائرة وعلى الضوء الخافت الساقط من ضياء القمر الذى أثرت على قوته السُحب الملبدة بالسماء ، صافحت الفتاة الرجال وتحدثوا معها ببعض كلمات المجاملة والإطراء ، ناولها الكابتن مزراح حقيبة بها مصارى "فلوس" سألته بلغة عربية بنفس لهجة أهل الشام عن قيمة المبلغ بالحقيبة فأخبرها بأن المبلغ 600 ألف جنيه إسترلينى ابتسمت لهذا وقامت بتقبيله أمام باقى الجنود الذين عبروا عن إعجابهم وتحيتهم بالتصفيق والصفير المتقطع ، تساءل الكابتن مزراح عن كمية المخدرات فأخبرته بعدد العبوات وقد أثنى الرجل على دقتها ، همس قريبا من أذنها وسمعت ضحكات بعض الجنود وشاهدته يتأبط خصرها ثم إتجها إلى داخل القارب.

    من حديث الجنود ومن رائحة ما يدخنون علمت بعضا من المعلومات بأن تلك السيدة تتبع إحدى عصابات ترويج المخدرات وتتعامل مع الجنود الإسرائيليين الذين يقومون بتوزيع تلك الأصناف بسيناء وبداخل القطاع وبين صفوف الجنود  وأن هؤلاء الرجال من الإسرائيليين من أبناء الدروز الذين وقعوا تحت الاحتلال عام 1948 ؛ أفاض الجنود فيما يقوم به رئيسهم الآن الكابتن مزراح وكان وصفهم لما يدور بين الإثنين بطريقة بذيئة تتخللها تعبيرات وكلمات جنسية من النوع الرخيص كما كان يرافق تلك التعبيرات خروج أصوات مماثلة للحالة التي عليها الاثنان بداخل المركب ، لقد تحدث الجنود بكل شئ فاضح عن النقيب مزراح وشعرت لحظتها بأن هذا الجيش الذى تمكن من أن يهزم الجيوش العربية من حين لآخر هو جيش واهٍ لا قيمة له بل أننى شبهته بالفتوات أيام زمان فيقوم نفر قليل بالسيطرة على حى أو شارع ، فلقد تجمع حثالة البشر ضد باقى سكان الحى أما باقى الناس بالحى فكل رجل يحيط بأسرته ويقوم بدفع الإتاوة ويقبل الذل والخنوع ، كان هذا هو حال إسرائيل ، مجموعة من البلطجية حرفتهم الأساسية القتل والاستعانة بالقتلة من الخارج واستعمال المفاجأة والغدر وفى الجانب المقابل نحن العرب أصبحنا مثل الـُخشب المُسندة من رجال السياسة والقيادات العسكرية التى لا تكترث بآراء العلماء والمفكرين ، مازلت كامنا أسفل جناح الطائرة أفكر في بلدى وما يحدث له من أفعال تلك الحثالة ، فأنا المصرى سليل الحضارة أختبئ مثل الجرز المرعوب من بعض حثالة يتعاطون المخدرات وقائدهم غارق في ملذاته مع تلك المرأة ، كدت أصيح أن هذا هو حالنا الخوف من لا شئ وخير دليل على ذلك هو وضعى الحالى ، أنا حشرة مثل باقى أبناء وطنى!!

     عادت إلى بعض من كرامة وتذكرت ما قام به فاروق الفيومى يوم أن فك وثاقى أنا والشهيد َسـلمان ثم الأسرة الطيبة الشجاعة الجريئة المكونة من خمس نساء بمفردهن وقامت برعايتى وحمايتى ثم لقاء الرجال الخمسة وتوجههم كل يتبع نية تحرك من أجلها وفى النهاية يلقى الجميع الشهادة بعد معركة تدمير مخلفات الأسلحة المصرية ثم دفاع هؤلاء عن شرف سيدة مصرية والتي تعيش بمعزل مع أطفالها ، كدت أصيح صارخا : ده معقول؟ مش ممكن نكون ضعفاء أو جبناء .. مازلت منشغلا بأفكارى وأخرجنى منها قدوم الكابتن مزراح سعيدًا بغزوته وممسكاً بيد بزجاجة خمر وباليد الأخرى حقيبة صغيرة ُمحدثا جنوده الذين كانوا فى حالة من التخدير الشديد.

     تحدث واثقا من نفسه : هادى "المره" ح نخلص عليها .. توجه بسؤال لأحد جنوده هل وضعت العبوة المتفجرة بالقارب؟ أجابه الجندى بأنه قام بإعداد كل شئ أثناء حالة الغرام التى طغت عليهما فلم يعد يشعران بما يحدث بجوارهم ، بعد قليل شاهدت مزراح ُيشعل الفتيل المتصل بعبوة التفجير بداخل القارب ثم أسرع مع جنوده بمغادرة المكان ،  ُكنت فى أشد الحاجة إلى هذا القارب حتى ينقلنى من سيناء إلى شاطئ أية مدينة وياليت مدينتي الحبيبة الإسكندرية ، قفزت من مخبئى ونهضت مسرعاً متتبعا الفتيل المشتعل ، كانت سرعة اشتعال الفتيل كبيرة ولكننى أسرعت ومعى المطواة الصغيرة التى أعطانى إياها "الشهيد حسين" قبل بدء عملية تدمير الأسلحة المصرية ، قطعت الفتيل قبل مكان رسو القارب بأمتار قليلة وأثناء ذلك سمعت صوت انفجار مدوّ وضوء مبهر ولم يكن هذا الانفجار بالقارب بل كان الانفجار آتيا من الخلف من مسافة بعيدة نسبيا ، نظرت إلى الخلف لأشاهد الانفجار الكبير ولم أكن أعلم أين وقع هذا الانفجار.

     وقفت واعتدل جسدى وأعدت النظر للآمام فإذا بى أشاهد تلك السيدة الجميلة بملابس نوم رائعة وممسكة بعبوة المتفجرات التى وضعها الجنود الإسرائيليون بالقارب ، حدثتني بكلمات قليلة رقيقة بأن قدمت لى شكرها على ما قمت به ، تحركت وأعطتنى ظهرها ثم اعتدلت قائلة:

ـ تحب تركب معايا أو أوصلك لحته كويسه بعيده عن ولاد الكلب دوول؟

        لم يكن لهذا السؤال أية إجابة سوى إجابة واحدة دون حديث حيث قفزت إلى داخل القارب الذى كان أكبر من القارب حجما ، تبعتها فطلبت منى نزع الهلب حتى يتحرك اللنش ُعدت ثانية إلى مكان رسو اللنش على الشاطئ ورفعت المرسى الحديدى وعدت إليها فشاهدتها وقد ارتدت ملابس أكثر وقارا ، ابتسمت لى قائلة بأنها تتمنى لى رحلة طيبة وأن أكون خير رفيق وألا أكون جبانا وغادرا مثل الآخرين ، أشرت إليها بالموافقة ، تحركت وأمسكت بيدى وصعدنا لأعلى وأدارت موتور اللنش ، أشارت إلى دفة القيادة طالبة منى أن يكون سهم التحرك على هذا الاتجاه وأشارت له ، هبطت لأسفل وأنا مازلت أدقق النظر في إتجاه السير ،  ُكنت في دهشة من أمرى خاصة أثناء الساعة الماضية من أحداث متتالية متشابكة لا أعلم عنها شيئا وكيف حدثت.

     أقبلت السيدة والتى لا أعلم اسمها أو جنسيتها حتى الآن وكانت تحمل أطباقا من الطعام لي ولها ، ناولتنى أحد الأطباق وجلست أمامى تتناول طعامها ، طلبت منى الضغط على زر كتب عليه بالإنجليزية " أتوماتيك" فعلت .. أشارت لى بالجلوس قريبا منها مؤكدة بأن القارب سوف يسير حسب الخريطة التى سبق وأن ضبطته عليها .. مازلت متخوفا من تلك السيدة والتى لا يدل جمالها وأنوثتها على أنها تتاجر بالمخدرات مع الأعداء ، كانت تتمتع بمواصفات جمالية ُمبهرة رغم ما أشاهده من تصرفات تدل على أنها من أرباب الإجرام والقتل الذى دائما ما يصاحب تجارة المخدرات وما شاهدته بعين رأسى من انفجار لسيارة الجيش الإسرائيلى بما تحمله من خمسة رجال مدججين بالسلاح ، الفتاة أو السيدة بيضاء البشرة ذات شعر كستنائي طويل وتتمتع بقامة طويلة نسبيا وقد يتعدى طولها المائة وستين سنتيمترا ً ذات عيون واسعة بلونها العسلى تتمتع بشفتين رقيقتين متناسقة الإتزان والتضاريس ، شعرت الحسناء بأننى راغب فى الحصول على بعض المعلومات أن هى رغبت بذلك مما سوف يزيد من رابطة الصداقة أثناء تلك الرحلة البحرية ليلا ًوالمجهولة الاتجاه حيث قالت لى:

ـ َخبرني باسمك                                   

ـ عــابد                                                    

ـ شو بتكون عابد .. كيف يعني؟ بتصلي؟

ـ اسمي عــابد وكمان بأصـــلي

ـ إمليح!!

ـ طيب .. أنتِ اسمك إيه؟

ـ عليم .. بتحذر يا زلمه

ـ غلب حماري

ـ كيف ؟ هون دا الحمار؟

ـ يعني مش عارف

ـ إمليح .. زينه .. اسمي يا خي زينه .. إمليح؟

ـ إمليح بسكر كمان

ـ الله يعطيك العافيه يا زلمه .. إيش بتبلش في هادي الديار؟

ـ والله ما أنا عارف سؤالك لكنى كنت رايح أزور واحد صاحبى

ـ بتدك تعرفنى أنك بتزور زلمه تعرفه فى الصحرا واليهود بكل مكان؟ هذا ما يدخل العجل!

ـ الحقيقه أنا تايه؟

ـ أنت زين .. يعني أنا زينه وأنت زين

ـ الله .. هو أنتِ تايهه أنتِ كمان؟

ـ لا .. لكن زين كلامك .. أنت مصرى؟

ـ طبعا مش سينا أرض مصريه؟

ـ جصدى من جوه مصر .. يعني من إسكندريه أو الجاهره حاجه زى كده .. لهجتك بتجول كده

ـ فعلا أنا من الإسكندرية

ـ والله زين ناس بتوع إسكندرية لكن كنت بتسوى إيه في سينا؟

ـ كنت باشتغل في العريش وحصلت الحرب وعايز أرجع بلدى

ـ كلامك زين

ـ وأنتِ مين ومنين؟

ـ أنا زينه لبنانيه وعايشه مع الزلمه جوزي فى ليماسول

ـ ليماسول!!

ـ ايوه .. ما بتعرف ليماسول؟

ـ لا مش عارفها

ـ جبرص .. تعرف جبرص

ـ آه .. جزيرة قبرص .. طبعا عارفها بس مش عارف غير "نيوقوسيا"

ـ هادى العاصمه لكن ليماسول مينا طيب كتير على البحر الأبيض .. تفضل معايا ونشوف لك صرفه فى ليماسول.

ـ لكن أنا شفت حاجات غريبه مع الإسرائيليين والكابتن مزراح وهو معبط فيك ودخل معاكى المركب .. إيه الحكاية؟

ـ بص يا زلمه .. ح أجولك على كل حاجه وبعد كده تجفل ضبتك بالمفتاح كيف ما بيحكوا في مصر .. دوول ولاد أبالسه وأنا باتاجر معاهم .. يعني مخدرات وبا خد العموله .. جه مزراح وانبسط شويه معايا فى المركب لزوم الشغل!! بتضحك؟

ـ إيه الانبساط ده؟ عامل إزاي؟

ـ بدك تشوف وإلا تجرب؟

ـ الاتنين؟

ـ إختار لك واحده بس

ـ أجرب

ـ يمكن لما تشوف أحسن

ـ مش عارف .. يمكن لما أشوف أكون عايز أجرب

ـ براحتك يا خى

      لم أكن أعلم معنى لكل حديثها حيث ُكنت معتقدا بأنها تسلية وقت وكلام وفض مجالس لكن الحكاية كانت كبيرة وخطيرة .. بإحدى غرف المركب دخلنا إليه وهناك شاهدت سريرا جميلا وترابيزه صغيرة وأضواء المركب بالداخل ، صبت الفتاة كأسين من الخمر وأنا لست معتادا على تناوله لكن الإنسان فى بعض الحالات بيكون ِطفس ونتن ، تناولت الخمر وشعرت بأنه شئ سيئ للغاية بينما نهضت "زينة" واستبدلت ملابسها إلى بدون ملابس تقريبا وشغلت جهاز "مسجل" وقطعة موسيقية للفنان فريد الأطرش تحمل اسمها أى "زينة" .. كان رقصها رائعا إلى أقصى درجة يصاحب رقصها إيماءات مثيرة للنفس ؛ لم أشعر سوى إنني أشاركها الرقص والغناء وتبادلنا الأحضان والقبلات وأصبحت أشد ضراوة في التعامل معها فقد حرمت نعمة مصاحبة النساء والفتيات شهورا طويلة حيث كنت من الشباب الفاسد الذى يقبل على فعل أي شئ وامتنعت عن هذا فترة عملى بقطاع غزة وباجازاتى كنت أعود لممارسة تلك الهواية السيئة والتى كانت ممتعة لى.

    تنبهت على ضوء قادم من زجاج الشباك الموجود بالحجرة .. لقد ظهر ضياء يوم جديد ، شاهدتها بجوارى عارية تماما وأنا مثلها وتأكد لى أن ما حدث بيننا كان شيئا رائعاً ممتعاً رغم حالة السكر التى أطاحت باتزانى ، أيقظتها حيث كانت راغبة فى أن تظل نائمة ولكنها نهضت مسرعة متسائلة:

ـ أنت بطلت الماتور؟

ـ لأ .. مش بطلت حاجه

     ارتدت ملابس ثقيلة نسبيا حيث كان الطقس سيئا وصعدت لأعلى اللنش أو قل "يخت صغير" وتبعتها حيث كانت متوترة وأخبرتنى بأن الوقود نفد ونحن بوسط البحر ، هبطت لأسفل وظللت منتظرا قدومها ، وأنا على هذا الحال واقفا فوق سطح اللنش شاهدت العلم الإسرائيلي يرفرف فوق القارب ، كدت أصرخ وشعرت بأننى أسرت بواسطة أحد عملاء الموساد الإسرائيلى ، أقبلت صاعدة والابتسامة على وجهها وأخبرتنى بأنها طلبت مساعدة وسوف تحضر خلال ساعة من الآن ، نظرت إلىَ باسمة وهى تخبرنى بأنه قد أسعدها تعرفها علىّ ، شاهدت الحيرة والقلق على وجهى ، توجهت بنظرها جهة نظرتى الثابتة ، ابتسمت هاتفة:

ـ وين راحت عويناتك الجميلة ، ما تسيب هذا الجمال الربانى وتنظر جهة علم الشياطين والأبالسة .. تحيرت من حديثها متسائلا ً:

ـ أمال حطاه ليه على المركب؟

ـ أحمى نفسى منهم كمان هما عارفينى إنى باساعدهم وأجيب المخدرات اللى بيوزعوها ، آدى كل الحكاية

     لم أشعر بالراحة لهذا التحليل التى تحدثت به وشعرت أنه أبعد عن الواقع الذى أشعر به ، جلست معها أسفل القارب حيث تعد طعاما نتناوله ، تناولنا طعامنا وشربنا الشاى الساخن ، نظرت من الشباك فشاهدت طائرة هليكوبتر إسرائيلية قادمة ، أسرعت وفتحت دولابا وأحضرت منه كلابشات حديد وبسرعة البرق وجدت نفسى مربوطا بإحدى الحلقات الحديدية بالقارب ، نظرت إلىّ محذرة:

ـ ما تفتح فمك بكلمة .. أنت حبيسى لو نزل واحد من الصهاينه وشافك ح أعرفه أنك حبيسى فاهم يا صاحب العوينات السود!!

    غادرت المكان واتجهت لأعلى القارب .. كانت الرياح شديدة وكان القارب يتأرجح يمينا ويسارا واعتقدت بأننى سوف أنقل إلى الطائرة أو فى أحسن الأحوال سوف ينقلب بنا القارب غير القادر على الثبات فوق سطح الماء ، شعرت بنهايتى وأننى سوف أقابل الله سيئ المظهر غاضبا من تصرفى ، لقد أضعت كل عمل صالح قمت به خلال الشهور السابقة سواء مع أسرة أبى السعادات أو من مقاومة الإسرائيليين ، بئس المعرفة وبئس تلك المرأة وتذكرت الحديث الشريف الذى يحذرنا من "خضراء الدمن" وهى المرأة الجميلة من المنبت السيئ ، شاهدتها مقبلة سعيدة وتحمل عبوة بها وقود ، اقتربت منى وطبعت قبلة قوية على شفتى وأنا كاره لما قامت به ، إنها تمنحنى قبلة الموت ، اتجهت بسرعة وأحضرت مفتاحا ً وفتحت القيود الحديدية مقدمة إعتذارها لى وبأن اليهود أنزلوا لها عبوات وقود بالحبال من الطائرة وغادروا المكان.

    انهمكت معها فى تزويد ماكينة اللنش بالوقود ثم أدارت مفتاح التشغيل وعاد الموتور يعمل ثانية وعادت الطاقة للمكان والإضاءة لكن الطقس مازال سيئا ، أسرعت تخبرنى بأن باخرة تسير بالقرب منا وعلينا الاحتماء بها ، فى لمح البصر حركت عجلة القيادة ووجهتها نحو الباخرة بسرعة كبيرة وتأكد لى أننا سوف نصطدم بها ولكن "زينة" كانت بارعة حيث اقتربت من سلم الطوارئ وربطت الحبل بالباخرة وأبطلت موتور اللنش بحيث كنا نسير بنفس سرعة الباخرة الأشد سرعة كما أن بعض الأمواج الصناعية من سير الباخرة كانت تؤثر بنا ، ولكن كل هذا كان أرحم من وجودنا بداخل البحر دون حماية حيث حمتنا الباخرة من شدة الرياح والأمواج العاتية ولم يلحظ أحد من العاملين بالباخرة إننا التصقنا بمركبهم.

    أوينا إلى داخل اللنش وتناولنا الطعام والشراب وعدنا إلى اللهو ونسيت الأحاديث النبوية والنهى عن المنكر وما شاهدته من مناظر الشهداء أو من أى ألم وعذاب ، ُكنت عازما على التمتع بتلك الحياة ثم ألقى ربى ولن أندم على أى شئ سيئ قمت بفعله معها ، جلسنا نحن الاثنين أسفل الأغطية وطلبت منها أن توضح لى علاقتها بالإسرائيليين وكيف تتصرف هذا رغم أنها زوجة.

     كانت إجابتها غير واضحة وغير ُمقنعة لكنها أخبرتنى بأنها تعمل مع شبكة لتجارة المخدرات والرقيق الأبيض ونظرت إلىّ متسائلة إن  ُكنت أرغب بشراء فتاة أوروبية جميلة أعيش وأحيا معها بمصر ، ثم أخبرتنى بأن زوجها يعمل بنفس الشركة وما تقوم به هو من صميم عملها أما ما ُقمت به معك فهو ليس من صميم عملى فهذا اختيارى للتمتع بعض الوقت ، كان أهم ما أخبرتنى به أنها شاهدت مزراح وهو يضع العبوة الناسفة أثناء انشغالها بارتداء ملابسها ومن أجل هذا أعطته شنطة بها هدية خاصة به على أن يقوم بفتحها بعيدًا عن جنوده وعليه أن يتصل بها إذا أعجبته لكى تحضر له واحدة أخرى فى المرة القادمة .. أسعده هذا حيث ُكنت قد وضعت له عبوة متفجرة بميقات زمنى تنفجر بعد تركه للمكان بعشر دقائق حتى يلقى مصرعه ومن معه ، هؤلاء الناس لا أمان لهم ، أرجو أن تغلق فمك بكل ما شاهدته أو سمعته حيث إن حديثك في هذا المجال قد يقضى عليك ، هناك العديد من العصابات التى تتبعهم وأنا أحمل لك كل حب منذ شاهدتك وأنت تعمل على إنقاذى ومنع الفتيل من أن يقترب من العبوة المتفجرة رغم أننى كنت قد نزعته ولكنك لم تلحظ هذا حيث  ُكنت أشاهد اهتمامك.

 

لقــاء غير متوقع

 

    صباح اليوم التالى أيقظتنى "زينة" من نومى وأخبرتنى أنها تشاهد جزيرة قبرص على مسافة عدة كيلومترات وأنه من المحتم علينا ترك رباط الباخرة ؛ لأنها لن تتجه إلى الميناء قائلة لى مجرد أن تسمع دوران موتور اللنش عليك فك حبل الربط مع الباخرة حتى نبتعد ولا نجد أنفسنا بجوار رفاص الباخرة الذى سوف يسحبنا أثناء دورانه أسفلها ونلقى حتفنا ، أسرعت الخطى ووقفت بجوار الباخرة وأمسكت بحبل الربط وأنا أدعو الله أن ينقذنا مما أخبرتنى به زينة ، دقائق مضت سمعت بعدها صوت دوران الموتور ، أشارت لى بأن أبدأ بحل الرباط ، فى لمح البصر فككت حبل الربط وشاهدت زينة تقفز باللنش بأقصى سرعة كدت معها أن أسقط أرضا من قوة الدفع ، كان اتجاه سير اللنش عموديا وإلى الأمام حتى نبتعد عن رفاص الباخرة ، كانت الأمواج ترتفع وتنخفض وكاد اللنش يغرق لولا براعة زينة ، بعد قليل أصبحنا فى مأمن وشاهدتها تقفز مرحا وطربا وتصفق وأسرعت إلىّ واحتضنتنى وقبلتنى قبلة طويلة ساخنة.

    أشاهد الجزيرة تقترب منا أو نحن بالأحرى نقترب منها ، طلبت منى ملاحظة دفة القيادة وهبطت لأسفل تتحدث بالإنجليزية ، كان صوت حديثها الذى وصل إلىّ يفيد بأنها أنهت مهمتها بنجاح ، صعدت إلى سطح اللنش تتحدث معى وتخبرنى بأنها ترغب قبل الوداع بأن تصحبنى إلى مطعم نتناول فيه عشاء الأحبة ، وافقتها ثم عدت واعتذرت بأننى لا أملك مالا ، ضربت كتفى برقة واخبرتنى بأن الجنيهات الإسترلينية مازالت معها ولا يجب علىّ أن أحمل أى هم لأى نفقات ، وسوف تقضى معى أمسية ممتعة وفى الصباح تودعنى متجهة إلى اليونان وقبلها سوف تحصل منى على عنوانى بالإسكندرية.

     نتجه صوب الميناء وأشاهدها وهى تشير إلى نفر يقف على الرصيف ، مالت علىّ قائلة إنه صديقها بالجزيرة ثم ضحكت ضحكة ناعمة تعطى المعنى دون إفصاح ، توقف اللنش وقذفت بالحبل إلى صديقها ويدعي "تيمور" مد يده مصافحا لها واحتضنها بقوة أفصحت الكثير مما قالته عن علاقتها به ، مازلت واقفاً بداخل اللنش فأشار إلىّ وهو يحدثها ، كيف حال الزلمه؟ قبلته قبلة ثانية ولم تجبه فسمعته يتحدث قائلا طيب أخلص عليه وارجع لك ، شاهدته يشهر مسدساً في وجهي ، صرخت زينة وقفزت بداخل اللنش لتدافع عنى كنت لحظتها قد قفزت إلى داخل مياه الميناء الباردة العميقة ، أطلق صوبى عدة رصاصات من مسدسه وفى اتجاهى أصابت إحداها الجانب الأيمن من بطنى وشاهدت الدماء من حولى ، صرخت ألما بينما تدخل حرس الميناء وأطلق النار على "تيمور" مما جعله يقفز بجوار "زينة" بداخل اللنش للهرب ولكن الرصاص مازال ينهمر على اللنش مما أدى إلي أن اخترقت إحدى الرصاصات عبوة البنزين الإضافية التى حصلت عليها زينة من الإسرائيليين بعرض البحر ، انفجرت عبوة البنزين وانتشر الحريق باللنش وشاهدت زينة والحريق قد وصل إلى ملابسها مما دفعها إلى القفز داخل المياه بينما ظلت النار ممسكة بصديقها "تيمور" ، أسرعت أسبح بيد واحدة رغم إصابتى وأمسكت بيد زينة قبل أن تغوص في عمق مياه الميناء ، نظرت إلىّ وتعلقت يداها برقبتى صارخة "حروج .. حروج كتيره يا عـابد" أقبل لنش تابع للميناء وساعدونا وانتشلونا من داخل المياه ، تبادلنا النظرات وأنا أشاهد بعض الحروق التى لحقت بذلك الوجه الجميل من جهة رقبتها التى تماثل العاج فى النعومة واللون وقد أثرت بها بعض الحروق ، نقلنا إلى المستشفي للعلاج ، بمجرد دخولى المستشفي هاجمتنى غيبوبة لم أستفق منها ، بعد فترة زمنية تنبهت وشاهدت نفسى مستلقى على أحد أسرة المستشفى وزينة تجلس بجوارى وقد وضعت ضمادات حول ذراعها الأيمن وجزء من الوجه ، رفعت يدى راغبا بتحسس بشرتها الناعمة ، بكت وهى تقبل يدى وتخبرنى أنها منذ الأمس وهى تجلس بجوارى حتى بعد الانتهاء من إجراء العملية الجراحية ، تحدثنى قائلة:

ـ ربنا كتب لك عمر جديد ، رصاصة المجرم "تيمور" اللى مات وغرج بهدلت الطحال وعلشان كده استأصلوه ، لم أعرف ما هو الطحال كنت أسمع عنه ولكن لا أعرف شكله أو وظيفته ، مازالت تواصل حديثها:

ـ شفت اللى حصل ليا يا عابد لكن ربنا أخد بتارنا من "تيمور".

     بعد قليل حضر الطبيب المعالج وتحدث إلىّ بلغة لا أعرفها ولكن "زينة" تحدثت معه وعلمت منها كل ما دار بينها وبين الطبيب ، وأن البوليس سوف يحضر بالغد للحصول على أقوالى كما أخبرها بأنهم إتصلوا بالسفارة المصرية بالعاصمة "نيوقوسيا" وسوف ترسل مندوبا ً للمستشفى ، شكرت الله بأن جهة رسمية بالدولة سوف تتعرف علىّ ، طلب الطبيب من زينة التوجه لحجرتها حتى يقوم طبيب التجميل بفحص درجة الحروق التى أصابتها ، قامت بوداعى على وعد بأن تحضر لزيارتى من حين لآخر.

     مازلت مستلقى على السرير مفتوح العينين أستعيد الأيام الماضية وأنا شبه مذهول لكل ما حدث منذ أن غادرت منزل "أسرة أبى السعادات" أستعيد لقاءات كل من تعرفت عليهم ، وكان هذا آخر لقاء وما حدث به من مغامرات  ُكنت أسمع عنها أو أشاهدها بأفلام "جيمس بوند" كانت مغامرة حقيقية  ُمرعبة فى كل خطوة وفى كل ثانية ، كان من الممكن أن أفقد خلالها حياتى أو أصاب إصابة مؤلمة.

     أقبلت علىّ الممرضة وتحدثت معها متسائلا عن حالة "زينة" الصحية ، كانت لا تعرف سوى القليل من الإنجليزية فكل حديثها باللغة اليونانية التى لا أعرف منها سوي القليل بحكم وجود جالية يونانية كبيرة بالإسكندرية حتى وقت قريب وكان لى صداقات كثيرة ببعض الشباب بحكم تربيتنا وبحكم الجيرة ، كانت الكلمة الصادمة لى بالإنجليزية هى "dingares Burn" وهذا يعنى أن أصابتها حروق خطيرة ، أصابنى الانزعاج والألم  ُفكنت  ُمحبا لتلك الغانية حيث كانت سيدة صاخبة مغردة وتجمع بين الصفتين.

    لم تحضر "زينة" إلى زيارتى مرة أخرى حسب وعدها السابق لى ، اليوم التالى استفسرت من الممرضة متسائلا ً "nurse how is mis zena now"  (كيف حال السيدة زينة الآن؟) أجابت بأن الحروق التى أصابت زينة أصابها التلوث وهذا شئ خطير "infection "  حاولت الحصول على معلومات أكثر ولكنها لم تفدنى ، نهضت متحاملا على نفسى راغبا بزيارتها ولكن "الممرضة" أقبلت صائحة تشير إلىّ بأن أعود إلى سريرى.

   بعد ساعة أى قبل الظهر أقبل اثنان من موظفى السفارة المصرية أحدهم الملحق الطبى والآخر مسئول الأمن بها ، راجع الملحق الطبى التقرير المعلق على السرير الخاص بى وأشاد  ُبحسن الرعاية بينما وجه لى مسئول الأمن بعض الأسئلة كأننى أحد المتهمين بمصر وبطريقة أبعد عن الذوق واللياقة والكياسة ، رفضت الإجابة على أسئلته المستفزة فهددنى متوعدا مما دفعنى لأن أسمعه بعضا من الأصوات الصادرة من الفم بالطريقة السكندرية مما اعتبرها إهانة لا تغتفر ، اليوم التالى أخبرنى الطبيب المعالج بأن السفارة المصرية طلبت من المستشفى تقريرا عن حالتى الصحية وموعد مغادرة المستشفى لكى تعمل على ترحيلى إلى مصر.

     صباح هذا اليوم أقبلت "الممرضة" تدفع بكرسى متحرك عارضة علىّ زيارة زينة ، أسعدنى هذا رغم أنها كانت في حالة من الضيق كأنها تناولت كوبا من النشا أو الخميرة ؛ حيث كانت تقاسيم وجهها صعبة للغاية ، دفعت بالكرسى حتى حجرة زينة ، شاهدت الأطباء والممرضين يلتفون حول سريرها وهى تتحدث معهم بكل صعوبة ، مجرد أن شاهدتنى مدت يدها إلىّ باسمة مرحبة وأنا بالأحرى حاولت النهوض ولكن الممرضة منعتنى خوفا علىّ من آثار الجرح الغائر بجسدى ، مدت يدها تصافحنى ولكن ما شاهدته على ذراعها أصابنى بالذهول من حجم الإصابة وما حدث للحروق من تلوث.

     أخبرتنى بأنها  ُمقبلة على عملية جراحية خطيرة وأنها رغبت فى الحديث معى ومشاهدتى وأنها أخبرت سلطات التحقيق القبرصية بأنها شاهدتنى أسبح بعرض البحر بعد أن دمرت الأمواج القارب الذى كان يقلك وأنك ليس لك دخل بما حدث من إطلاق نيران بالميناء فأنت شاب مصرى ترغب بالعودة إلى مصر بعد أن ضللت طريق الإبحار ، ودمر قارب الصيد الخاص بك ، أشارت إلىّ بأن أكرر هذا الحديث حين سؤالى حتى أبتعد عن مشاكل شبكات التهريب والإجرام.

    طلبت منى أن أدعو الله لها بالشفاء وإذا مّن الله عليها بالشفاء فسوف تسلك طريقا آخر وسوف تبتعد عن تلك العصابات سواء برغبتها أو بعد أن زال جمالها ، ظهرت دموعها والتى لم أشاهدها منذ تعارفى بها منذ أربعة أيام ؛ حيث كانت البسمة والضحكة والأنوثة هى كل حياتها ، أقبل بعض العاملين بالمستشفى ووضعوها فوق "تروللى" العمليات الجراحية وتحركوا بها وهى تطلب عونى وتمد ذراعيها فى اتجاهى كأنها تستغيث بى ، ُكنت لا أملك سوى البكاء والدعاء لها ، أقبلت علىّ الممرضة التى تشرف على حالتى وأعادت دفعى بالكرسى إلى حجرتى وعاونتنى بالاستلقاء على سريرى.

    طوال اليوم  ُكنت رافضا تناول الطعام مما دفع بالممرضة بأن تستعين بالطبيب الذى أقبل طالبا منى تناول طعامى حتى أحصل على العلاج اللازم وحينما أبديت له حزنى وضيقى على صديقتى "زينة" طيب من خاطرى وطمأننى بأنها غادرت غرفة العمليات بعد تعقيم الجروح وإجراء بعض العمليات الجراحية بالوجه لإزالة الحروق التى كانت شديدة ؛ حيث أنها من الدرجة الثالثة وبعد ُمضى عدة أشهر وبمساعدة الأدوية والكريمات سوف تعود إلى حالتها وأنه يمكنك زيارتها بعد يومين من الآن وأعدك بهذا ، كان الطبيب اليونانى يتحدث الإنجليزية البسيطة التى استوعبتها.

    أقبلت على الطعام والشراب فقد ْمن الله على رفيقة رحلة الهروب من سيناء بالشفاء وسوف أشاهدها بعد يومين ، بدأت أشعر بتحسن فى حالتى الصحية وأننى أستطيع السير بضع خطوات بداخل الحجرة ، اليوم التالى مساء أقبل الطبيب باسما فانعكس هذا على وجهى لما شاهدته وخاطبنى قائلا أنا عند وعدى ، طلب من الممرضة بأن تدفع بالكرسي إلى حجرة "زينة" لأطمئن عليها ، وهذا سوف يساعدها على الخروج من حالة الاكتئاب التى لازمتها منذ مغادرة حجرة العمليات.

    تقدمت إلى حجرة "زينة" مدفوعا على الكرسى المتحرك وأنا أخشى أن أراها على وضع سيئ فحديث الطبيب بأنها فى حالة اكتئاب وحزن شديد أثار مخاوفى ، اقتربت من سريرها حيث كانت تغطى وجهها ، ناديت عليها فسمعت صوت بكائها أسفل الغطاء ، ربت على كتفها طالبا منها أن تحدثنى حتى أطمئن عليها ، كشفت الغطاء من على وجهها والذى كان مغطى جزء كبير منه بالشاش والأربطة ، طيبت من خاطرها ولكنها بكت مستغيثة بى مرددة:

ـ شو بجى عليه حالى ، كله من عمايل ها الزلمه المجرم لكن ما يجوز عليه السباب ، وين جمالى وين شبابي راح كله بالنار ، حرام ربنا ينتجم .. ربنا ينتجم .. روح ها الوجت وبعد تلات تيام حيرفعوا الرباط من على الوجه المحروج .. واندفعت باكية وأعادت وضع الغطاء على وجهها وهي تشير روح .. روح يا زلمه.

    دفعت الممرضة الكرسى عائدة بى إلى حجرتى وأنا في ضيق مما سمعته من بكاء "زينة" الذى لم أسمعه منها من قبل ، لقد راح الشباب وضاع الجمال وانطفأت الفتنة وذابت الأنوثة ، رددت .. دوام الحال من المحال .. سبحانك يارب .. نلجأ إليك في العثرة ولا نتذكرك إلا فى الشدائد ونلوذ بك فى الأنواء لكن حينما نكون سعداء وبصحة والمال والصحبة من حولنا ننساك وننسى أوامرك ، لقد أصبحت أنا وزينة من عبادك الضالين ، اللهم ارفع مقتك وغضبك عنا.

 

 

 

 

Share
Click to listen highlighted text! Powered By GSpeech