Click to listen highlighted text! Powered By GSpeech
Get Adobe Flash player
مستمرين معاكم بإذن الله 2008-2024 **** #لان_لجيشنا_تاريخ_يستحق_أن_يروي **** ***** إنشروا تاريخنا وشاركونا في معركة الوعي **** تابعونا علي قناة اليوتيوب 1100+ فيديو حتي الان **** تابعونا علي صفحات التواصل الاجتماعي** أشتركوا معنا في رحلاتنا لمناطق حرب أكتوبر **** يرجي استخدام خانة البحث **** *** تابعونا علي تليجرام - انستجرام - تويتر

روايه عابد المصري - الحلقه الخامسة

حصريا لاول مره علي الانترنت

بتصريح خاص من الكاتب للمجموعه 73 مؤرخين

لا يجوز اعاده النشر بدون الاشاره للكاتب والموقع كمصدر

عـــابد المصـرى .. رواية

كتبها/أسـامة على الصـادق

.....

الطبعة الأولى .. يوليو 2010

الناشر: الكاتب

.....

تصميم الغلاف:

ريهام سهيل

....

حقوق الطبع محفوظة للكاتب

موبايل: 0127970032

 

 

مفاجآت غير متوقعة

 

 

 

     مضت علىّ الأيام ثقيلة بطيئة مع شعورى بتحسن واضح من أثر الإصابة ، اليوم التالى قام الطبيب بفك الغرز الجراحية وشد من أزرى بأن الجرح نظيف وبعد خمسة أيام يمكننى مغادرة المستشفى كما أشار إلىّ بأنه يمكننى السير بردهة المستشفى والتنزه بالحديقة إذا كانت الأحوال الجوية ملائمة ، ودعنى طالبا من الممرضة بأن تقوم بمساعدتى فى الحركة والتوجه للحديقة.

 

   فى المساء تحركت بخطوات بطيئة متجها ًإلى حجرة "زينة" ، كان الباب ُمغلقا ، طرقت الباب طرقات خفيفة فسمعت صوتها الذى لا أستطيع أن أفقده من خلال أصوات كثيرة فهو صوت مميز بنعومته مع اللهجة اللبنانية المحببة للمصريين ، فتحت الباب بهدوء وتقدمت منها فأضاءت أباجورة بجوارها فشاهدتنى فعلت البسمة وجهها الجميل والذى مازال عليه بعض الأربطة الطبية ، أشارت إلىّ بالتقدم منها وفردت ذراعيها لى كأنها ترحب بى.

 

ـ حمدا ً لله على سلامتك يا زينة

 

ـ الله يعطيك العافيه ، أنت زلمه طيب وابن ناس

 

ـ أخبار الجرح إيه

 

ـ الحمد لله ، تم علاج التلوث وكانوا خايفين تعمل غرغرينا ودى بتموت علي طول لكنهم لحجونى على آخر لحظه

 

ـ ربنا معاكِ

 

ـ إيه .. أنت واجف ليه ، ريح بالك واجعد ، نفسى أكلمك كتير

 

ـ آدى قاعده

 

ـ بأتطلع لك والله يا زلمه بتفكرنى بأفلام مصر الحبيبة ، أنا شايفه عمر الشريف وسامعه عبدالحليم حافظ .. بتضحك .. شو بتضحك عليه يا صاحب العوينات المليحه

 

ـ أنا شاعر إنك بقيتى فل وورد أحمر كمان

 

ـ الله يعطيك العافيه ، بلش وخبرنى عن أخبارك ، السفارة اتصلوا فيك؟

 

ـ أيوه ، وزارنى بعضهم والدكتور قال لى أنه من الممكن أخرج بعد خمس تيام

 

ـ خبر مليح وزين .. بخاطرك تفكر تروح من غير ما تعود علىّ

 

ـ مش ممكن أعمل كده وأنسى الحلاوة والعطر الجميل

 

ـ كله راح .. راح .. راح .. خد أملي وراح .. ليه بتضحك؟

 

ـ بتعملى زي عبد الحليم .. دي أغنيته

 

ظل الحديث دائرا بينى وبين "زينة" فترة طويلة حتى شعرت بأنها مخدرة وراغبة فى النوم فوضعت قبلة خفيفة على ما تبقى ظاهرا من وجهها وأغلقت الأباجورة وتسللت بهدوء مغادرا الحجرة.

 

      اليوم التالى أخبرتنى الممرضة بأن "زينة" رفعت عنها الأربطة وسوف تلقاك بالحديقة ، كان هذا الخبر سعيدا ًعلىّ لأقصى درجة ، بعد قليل أقبلت علىّ زينة تتهادى وقد استبدل الأطباء الأربطة ببعض الشرائط الطبية الخفيفة ، كان واضحا حدوث تشوه ولكنه كان قليل المساحة وفى الوقت نفسه لم يكن مؤثرا بشدة على جمالها بل أثر على حالتها النفسية ، نهضت مصافحا ومساعدا لها فى الجلوس ، ظللنا نتحدث لفترة طويلة وقد زادت فترات الابتسام والضحك مما دفعنا للتفاؤل والنظر إلى المستقبل بعين راضية خاصة إنها أخبرتنى بأن طبيب التجميل أخبرها بأنه سوف يقوم بإجراء عملية تجميل لها بعد حوالى أسبوع وأكد لها أن كل أثر من الحريق سوف يزول وتعود لحالتها بعد أشهر قليلة.

 

     توالت لقاءاتنا اليومية بالحديقة وفى بعض الحالات حين هطول الأمطار كنا نسرع إلى غرفتها حيث اللقاء الدافئ بيننا ، في إحدى المرات سألتنى عن سبب وجودى على شاطئ البحر بسيناء حين تقابلت مع مزراح الضابط بجيش الدفاع الإسرائيلى ، أخبرتها بأننى توجهت لهذا المكان مصادفة واختبأت أسفل جناح الطائرة إتقاء الطقس البارد الممطر ، ضحكت لهذا وأخبرتنى بأنها قامت بتلك الرحلة أربع مرات وكانت تلك هى المرة الأخيرة وأثناءها حاول مزراح الغدر بى رغم أنه لبنانى كيف حالى وكان الاتفاق بيننا دائما أن يزودنى بالوقود مثل كل مرة وعندما شعرت بنوايا غدره غدرت به قبل أن ينال منى.

 

   اليوم التالى ونحن جلوس بالحديقة نبهتنى "زينة" بأن عامل الحديقة العجوز "دوبلس" كثيرا ما يعمل قريبا منا محاولا التصنت على حديثنا ، نظرت إلى الرجل ونفيت هذا مؤكدا لها أن الرجل يعمل وسمعه  قليل ، وهذا باديا عليه حين يسأله أو يتحدث معه أحد بحديث ما لكنها مازالت متشككة فى أمره وقد أصابها التوتر من أن يكون تابعا للموساد الإسرائيلى الذى له الكثير من العملاء بهذا الميناء بل بكل أنحاء قبرص.

 

     تحسنت حالتى الصحية إلى درجة كبيرة وقرر الطبيب المعالج بأن أغادر المستشفى صباح الغد ، حينئذ أخبرتنى "زينة" بأنها اتفقت مع صديقتها "رينيه" وهى من بنات الجزيرة بأن تستضيفك حتى يتم علاجى وأعمل على مساعدتك للسفر إلى مصر إذا لم تقم السفارة المصرية بهذا ، شكرتها على اهتمامها بى وأمضينا ليلة جميلة خلالها اقترب الحديث أكثر عن المعلومات الشخصية كما طلبت منى لأول مرة عنوانى بالإسكندرية فكتبته لها وقرأته عدة مرات أمامى لزيادة التأكيد بل أنها طلبت منى أن أصف لها الحى الذى أعيش وأحيا به محددة من أى مكان يبعد عن مسجد أبى العباس المرسى الذى تسمع عنه وتشاهد بعض المناظر القريبة منه من خلال بعض الأفلام المصرية.

 

     صباح اليوم التالى أقبل مفتش الشرطة وبصحبته مترجم للغة العربية وحصل منى على بعض الأجوبة لأسئلة مطلوبة لإنهاء محضر التحقيق ، كانت الأسئلة سهلة وكان اعتماد المفتش على كل الأقوال التى أدلت بها زينة لهم منذ ثلاثة أسابيع عقب حادث إطلاق النار علىّ وإصابة زينة بحروق.

 

     غادر مفتش الشرطة المستشفى دون أن يوجه لى أى اتهام طالبا منى التمتع بأوقات طيبة بين اليونانيين القبارصة الذين يقدرون شعب ومصر وزعيمها جمال عبدالناصر ، توجهت إلى غرفة زينة" حيث شاهدت فتاة رقيقة على مستوى عال من الجمال تجلس معها وهما تتجاذبان أطراف الحديث الضاحك الباسم ، مجرد أن شاهدتنى زينة رحبت بى وعرفتنى بصديقتها:

 

ـ يا هلا .. مرحبا بك يا عابد المصري

 

ـ صباح الخير يا زينة والنهارده شايفك ورده منوره ومعاك زهرة جميلة

 

ـ إبتسمت السيدتان ثم تحدثت زينة مع صديقتها ببضع كلمات أجنبية على أثرها زادت الفتاة من ابتسامتها

 

ـ تروح مع "رينيه" واوعى عويناتك تروح كده والا كده وأنا معرفاها إنك "نمس" زي ما المصريين بيحكوا

 

    تبادلت أنا وزينة قبلات سريعة وغادرت حجرتها برفقة "رينيه" إلى خارج المبني مرورا بالحديقة حيث شاهدت "دوبلس" الرجل اليونانى الذى يعمل بالحديقة وأثار حفيظة "زينة" فقمت بتحيته بإشارة منى فأسرع إلىّّ  ُمرحبا بى وحدثنى بلهجة عربية سليمة وأخبرنى بأن بعض المصريين أقبلوا لمساعدتك من السفارة وهم في انتظارك بسيارة على جانب باب المستشفى ، أسعدني حديث الرجل الذى تركنى وعاد إلى عمله ، مازلت سائرا بجوار "رينيه" الجميلة الرقيقة التى تشبه جدتها "فينوس" إلهة الحب والجمال لدى الإغريق موطنها.

 

    شعرت بسعادة لحديث عم "دوبلس" بأن رجال السفارة اهتموا بحالى وهم في انتظارى بسيارة ، فكرت كثيرا وأنا أقترب من باب المستشفى الخارجى وأشاهد السيارة وأحد الرجال بجوارها وملامح وجهه المصرية تنبئ بهذا ، فكرت بأن أطلب منحى أسبوعا آخر حتى أتأكد من تمام شفاء "زينة" ، كنت أسير بكل ثقة مرفوع الرأس بعد أن ُشفيت تماما كما أسعدتنى جرعة الحديث الذي ظل مع "زينة" طوال ثلاثة أسابيع بالمستشفى كما كنت من حين لآخر أوجه نظرى إلى مرافقتى الرقيقة فازداد بهجة وسعادة.

 

     بعد خروجى من باب المستشفى اقترب مني الشاب الواقف بجوار السيارة يحدثنى متسائلا ً: أنت عابد المصرى؟ أجبته بالإيجاب وهنا أشار إلىّّ بأنه يجب عليّ محادثة رئيسه بداخل السيارة وهو رجل متقدم بالسن ولا يستطيع النزول والحديث معك ، أبديت استعدادى لهذا شاكرا له ولرئيسه تجشمهم لكل هذا المجهود للقائى ، فتح الشاب باب السيارة فشاهدت رجلين بالداخل يرتديان نظارات الشمس الغامقة وشعرت بمن يدفعنى لداخل السيارة وأن الشخصين بالداخل سرعان ما وضعا شريطا ً لاصقا ً على فمى وشعرت بأن يديّ مقيدتان وجلسا بجوارى كل واحد علي أحد الأجناب وأثناء ذلك سمعت صرخات واستغاثة "رينيه" باليونانية وشعرت بأنها مازالت تصرخ رغم ابتعاد السيارة عن باب المستشفى ، كنت فى دهشة بأن السفارة لم تف بوعدها بترحيلى وتركتنى لقمة سائغة لهؤلاء الخاطفين.

 

    لم يتحدث أحد معي لكننى شعرت بأنى وقعت بيد رجال الموساد الإسرائيلى فقد تتبعونى نظرا لصداقتى بـ "زينة" وما قامت به من قتل مجموعة من رجالها على سواحل سيناء وأنها كانت المتسبب الأول فى قتل رجل الموساد "تيمور" . أيقنت إننى هالك ومن سوف ينقذنى من براثن إجرامهم.

 

      لم يتطاول عليّ أحد من الرجال بداخل السيارة سواء بالضرب أو السباب وقد ارتدى كل واحد منهم شيئا على وجهه ليخفى معالمه ، ظلت السيارة تسير بسرعة كبيرة كنت خلالها أشعر بسرعة دورانها فى المنحنيات وفي بعض الحالات تقف فجأة وأسمع صوت الفرامل واحتكاك العجل بالأرض ، تأكد لى بأننى اختطفت وسوف أنقل لمكان ما ويطلق عليّ النار.

 

    توقفت بنا السيارة وشاهدت سرعة تحرك الرجال وقد انضم إليهم آخرون وشعرت أننى أحُمل ثم شعرت بأننى أنزل لمكان منخفض من درجة ميل جسدى ، لم أسمع كلمة واحدة ولكننى سمعت صوت موتور وأعتقد أنه لنش لأننى كنت أشتم رائحة مياه البحر وأسمع أصوات الطيور البحرية ، وضعت على أرضية القارب الذي كان يتأرجح يمينا ويسارا ، سمعت صوتا للمرة الأولى يتساءل:

 

ـ هو ده؟

 

ـ أيوه .. ده القرش الكبير

 

أيقنت بأن هناك خطأ ما ثم عاودتنى الأفكار بأن القرش الكبير تعنى بأنه تاجر المخدرات ؛ حيث كنت أسمع من بعض أصحاب الكيف أن سعر القرش اليومين دوول إرتفع ثمنه وأصبح كذا ...... جنيه ، والقرش في عالم الكيف هو قيمة وزن المخدر أمام القرش صاغ ولهذا أطلقوا عليه هذا الإسم ، أشعر بأن القارب يسير بسرعة كبيرة وهذا ناتج من سقوط بعض الرجال عليّ وأنا مستلق بأرضيته ، هدأ صوت الموتور وقلل من سرعته وشعرت بأننى أحمل ثانية ولفحتنى برودة هواء البحر ، شعرت وشاهدت البعض وهم يتسلموننى من فوق مركب كبير وأعيد طرح اللقب ، القرش وصل ، بسرعة تحركوا حتى لا تأتي قوات السواحل بقبرص وتحدث مشكلة سياسية ، سمعت صوت شخص آخر ، إحنا خارج المياه الإقليمية يعني بالمياه الدولية ، كل تلك الأحاديث كانت تدور باللغة العربية وباللهجة المصرية.

 

    ساعدنى بعض الرجال فوق المركب بالوقوف وأزيلت عني الأربطة والشريط اللاصق من على فمى ، حصلت على جرعة من الهواء النقى وابتلعت ريقى ، حذرنى أحدهم: مش عايز أسمع لك نفس ، فاهم يا قرش؟ شاهدت أحد الرجال يفتح غطاء بسطح المركب وطلب منى الهبوط لأسفل ، الحقيقة مجرد أن فتح الرجل هذا الغطاء اشتممت رائحة نفاذة ، هبطت درجات السلم الحديدى بتأن نظرا لحالتى الصحية وسمعت بعض أصوات لرجال تطلب من إدارة المركب بالرحمة حيث البرودة قاسية عليهم وهم منذ أسبوع أو يزيد بهذا المكان والبعض يطالب بنظافة المكان أو استخدام دورة مياه بدلا من الأسلوب المستخدم حاليا.

 

    لم أسمع أى رد على تلك الأسئلة أو الاحتجاجات ولكنى سمعت صوت إغلاق الباب الحديدى وبالتالى انخفض الضوء بداخل الحجرة ، شاهدت أشباه رجال ، ملابس ممزقة والفضلات الآدمية تغطى أرضية الحجرة أو العنبر المكون من الحديد ، رحب بى الجميع وأحدهم تحدث قائلا ً:

 

ـ أهلا بالمعلم قرش!!

 

     لم أجب ولكن البعض أفسح لى مكانا بأن دفعوا بزميل لهم فوق فضلاتهم فحاول الاعتراض فأوسعوه ضربا وركلا مما دفعنى دون قصد إلى نهرهم فصمت الجميع وقال أحدهم حقك علينا يا كبير ، مازلت لا أعلم أين أنا ومن هؤلاء الناس ، شاهدت شابا من بين حوالى سبعين شابا من المحشورين بهذا المكان راغبا في الحديث معى ، أشرت إليه فحضر مسرعا مقبلا يدى.

 

ـ ربنا معانا ومش عارفين إيه اللى حيعملوه؟ طبعا أنت لك سمعتك ونفوذك يا ريت تساعدنا

 

ـ أنتم مين؟

 

ـ إحنا يا بيه بقالنا شهور عايشين هنا فى قبرص بنشتغل أى حاجه ومش عارفين الجماعة دوول قبضوا علينا ليه

 

ـ إزاي جيتم قبرص؟

 

ـ دي حكاية طويلة .. سمعت أحدهم يتحدث:

 

ـ بصراحة إحنا عساكر فى الجيش المصري وانسحبنا من سينا بقوارب ولنشات وإتبهدلنا آخر بهدلة وشفنا الموت ألف مرة سواء من موج البحر أو من لنشات اليهود ، اللى فضل عايش منا عدد بسيط ، يعني نسبتهم الربع لكن اللي راحوا في البحر ميات ، الله يرحمهم ومش عارفين نرجع بلدنا والبوليس القبرصى بيطاردنا ، بعض العرب هنا ومنهم مصريون أخدونا نشتغل عندهم بلقمتنا وزى ما حضرتك شايف حالنا عامل إزاى ، من كام يوم لقينا مصريين مش عارفنهم بيلموا فينا وأخدونا على المركب ، علق شخص آخر:

 

ـ دوول ناويين يموتونا في البحر .. بينما علق آخر:

 

ـ دوول قبضوا علينا وحيسلمونا فى مصر ، أنا سمعت اتنين منهم كانوا بيتكلموا بالليل لما طلبوا منا كام نفر عشان ننضف دورات الميه بالمركب ونغسل ضهرها ، قالوا إنهم قبضوا علينا وح يشحنونا على مصر عدل وهناك مصيرنا ُمظلم.

 

    لم ينقطع الحديث أو الكلام وأنا لا أعلم ما هى وجهتنا وما هى حكاية القرش ، بعد حوالى الساعة  ُفتح باب الحجرة من أعلى كما هو معتاد وهبط رجلان وقاما بتوزيع الطعام علينا ، الطعام مكون من العدس والخبز والبصل الجاف وعبوة زيت موتور فارغة كبيرة ممتلئة بالماء ، وعدد من القصعات المستخدمة في تعبئة الأسمنت للمباني ، فرغوا عبوات الطعام بالقصعة والتي أصبحت مثل طبق كبير الحجم وكل واحد من المحبوسين يقوم بوضع الخبز في القصعة ويبتلعها والبعض انهمك في دش البصل الجاف ، لم تمض دقائق إلا وأتى الجميع على الطعام بينما رفضت تناوله سواء لقذارته أو لشعورى بالشبع ، عمت رائحة البصل المختلطة بروائح فضلات الشباب بتلك الحجرة أو الخزنة ، المكان عبارة عن مستودع كبير علمت فيما بعد أنه مخصص لتخزين البترول الخاص بالسفن الصغيرة بالميناء قبل إقلاعها حيث تقوم تلك السفينة بتزويد السفن بالوقود التى تحتاج إليه وقد قللت رائحة المازوت "المازوت وقود أسمر اللون ثقيل الوزن" من رائحة فضلات الشباب بالمخزن والتي كانت مزرية لأقصى درجة.

 

    مضى على وجودى بهذا المكان أكثر من أربع وعشرين ساعة ، اليوم التالى لا يختلف عن اليوم السابق ومازال الرجال معتقدين بأننى تاجر مخدرات كبير طالبين عونى ، تداخلت الأحداث فيما بيننا ولم أعد أعلم هل أنا القرش تاجر المخدرات أو الضابط عابد ، شعرت بأن الدنيا لم تنته مشاكلها معى رغم ما قاسيته من أنواء خلال الشهور العشرة الماضية فنحن في بداية شهر مارس من عام 1968.

 

   إستيقظت من نومى فزعا على ضوء مبهر وصوت مرتفع يأمرنا نحن ولاد ..... بالخروج فردا فردا .. غادرنا التنك الحديدى ونحن جميعا مغروسون في أوحال بشرية مضى على بعضها أسبوع ، مجرد أن وصلت إلى سطح المركب حتى شعرت بمن هوى على قفايا ضربا وعدد من اللكمات سقطت على أثرها أرضا ، حاولت الوقوف كما شاهدت من سبقونى والدماء تسيل من رءوسهم وانوفهم وأفواههم لأن أى واحد منهم يغادر التنك يحصل على التحية الواجبة كما عرفت فيما بعد.

 

    نهضت وقد بلغ منى الضيق مداه فشاهدت أحد الرجال والذى يشبه المصارع قادما فى اتجاهى لأحصل منه على باقي التحية ، استقبلته بضربة بسيف يدى بصدره سقط على أثرها أرضا صارخا مما دفع بباقى زملائه للهجوم عليّ وأوسعونى ضربا وركلا ولكننى لم أخمد أو أستسلم بل ظللت أبادلهم الضربات واللكمات مما أثار باقى الرجال الذين كانوا معى فتشجعوا وهجموا عليهم وأصبح سطح المركب ساحة قتال دامية ، لم أستكن رغم ما بي من جرح مازال حديثا ولكن ما شاهدته ولاقاه الآخرون أشعرنى بأنه من الواجب علينا الدفاع عن أنفسنا أمام هؤلاء الرجال الذين فارقتهم الرحمة والإنسانية.

 

     ترامى إلى سمعنا صوت صفارات السفن بالميناء  ُتعلن تحيتها للسفينة القادمة ورغم هذا لم نتوقف عن القتال مما دفع بهيئة الميناء التى شاهدت ما يجرى فوق سطح المركب إلى تحذير القبطان بمنعه من الدخول كما طلبت من القوات البحرية بإرسال لنش سريع لمعاينة ما يحدث.

 

      أثناء العراك المستمر شاهدت أحد لنشات القوات البحرية الذى وقف بجوار المركب وصعد قائده وبعض رجال البحرية وقد فوجئت بأنهم مصريون ، توقف القتال واقتيد المركب إلى آخر رصيف بالميناء وأقبلت الشرطة العسكرية بالقوات البحرية التى قامت باصطحابنا خارج السفينة ولم يسلم واحد ممن كانوا محبوسين بالسفينة من إصابة أو أذى.

 

   شاهد قائد قوة الشرطة العسكرية ما حدث لجميع الرجال وتساءل عن سبب هذا وبحديث ساخر أجاب أحد الرجال الذين أذاقونا الضرب والإهانة والذي تبين أنهم من رجال بوليس الميناء بأنه من الواجب علينا تقديم التحية لهم ، نظر إليه الضابط بذهول متسائلا: من هم هؤلاء الرجال؟ وقد أجابه هذا الرجل صاحب الصوت الغليظ والقلب الجاف بأنهم مجرمون مصريون وكانت الأوامر الصادرة إلينا بأننا سوف نستقل هذا المركب ونعود بهؤلاء المجرمين ، اقترب منه الضابط وصاح بالجميع قائلا ً : يا ولاد الكلب. دوول عساكر من الجيش المصري تقوم تعملوا معاهم كده ووكز "زغده" كبيرهم في في صدره متسائلا ً: كيف تقوم بإهانة رجال من الجيش المصرى يا حقير؟ وفى لمح البصر شاهدت وسمعت صوت صفعة قوية على وجه الرجل الذي أصابه الذهول مما دفع بزملائه لمحاولة التدخل فهجم عليهم رجال الشرطة البحرية بالضرب المبرح حتى طلب منهم قائدهم التوقف وأشار إليهم بوضع القيود الحديدية بأيدى هؤلاء المجرمين ثم نظر إلينا مقدما اعتذاره وأن ما حدث لن يمر مرور الكرام ولابد من معاقبة رجال البوليس المكلفين بحراستكم بعد عودتكم من جزيرة قبرص.

 

   حضرت عدة سيارات إسعاف تابعة لمستشفي القوات البحرية ونقلتنا جميعا إلى داخل قسم الرعاية وهناك انكب الأطباء على الجنود وشاهدوا ولمسوا الحالة المزرية التى أصبحوا عليها سواء من النظافة الشخصية أو الإصابات من تعدى رجال البوليس عليهم كما كانت للحالة النفسية الأثر الواضح على الجميع.

 

      طلب نائب مدير المستشفى من معاونيه العمل على نظافة العائدين واستبدال ملابسهم المهلهلة والقذرة ، توجه بنا العاملون من رجال المستشفى إلى الحمامات حيث اغتسلنا وحصلنا على حمام منعش أزال عنا كل القاذورات والروائح السيئة وحصلنا على ملابس جديدة ثم أعقبها وجبة ساخنة أدخلت الدفء إلى نفوسنا الحزينة لما شعرنا به من إهمال وتجاوز بل ُغربة وصلت إلى عشرة أشهر عن الأهل والوطن.

 

     وقع الكشف الطبى علي جميع الرجال وسجل الأطباء كل الملاحظات التى بدت علينا وكانت تلك مطالب رجال الشرطة العسكرية ثم لحق بهم رجال التحريات العسكرية والأمن الحربي ثم النيابة العسكرية ، شعرنا أن جميع أجهزة القوات المسلحة المنوط بها مراقبة تنفيذ القانون متواجدة بالإضافة إلى أطباء القوات البحرية المخلصين الذين قدموا لنا كل عون دون تذمر أو ضيق.

 

    بعد ُمضى يومين على وجودنا بالمستشفي شعر من يراقبون حالتنا بأننا أقرب إلى الإنسانية وأن حالنا قد أصبح أفضل بعدها بدأت الأسئلة تنهال على رءوسنا وكلها تصب عن الذى حدث في سيناء واسم الوحدة التي كان ينتمى إليها كل شخص وموعد تنفيذ الانسحاب وطريق الانسحاب وما الذى دفع بنا إلى سلوك طريق البحر ولم نسلك طريق البر مثل باقى القوات.

 

     كانت الإجابات متقاربة بأننا حوصرنا بين القوات الإسرائيلية وساحل البحر فلم يكن أمامنا بد من أن نسلك طريق البحر كما أن البعض ذكر أن كمائن الإسرائيليين دفعت بهم لاستبدال طريق الانسحاب من البر إلى البحر لما شاهدوه وسمعوه من مجازر حدثت لإخوانهم الذين وقعوا فريسة سهلة لكمائن القوات الإسرائيلية ولهذا فكان البديل الوحيد أمامهم هو طريق البحر والبعض منهم ذكر مهاجمة اللنشات الإسرائيلية لهم فى عرض البحر وبمساندة طائرات الهليكوبتر مما نتج عنه الكثير من الضحايا بأعداد كبيرة والبعض منهم ألقى بنفسه بعرض البحر وبعضهم لم يكن يجيد السباحة فهلك على الفور ومنهم من يجيد ولكنه لم يستطع استكمال طريق الانسحاب بحرا سباحة لطول المسافة.

 

    حينما جاء الدور عليّ كانت الأسئلة محددة ومركزة حينما علموا بأنني ضابط حيث ُكنت الضابط الوحيد وأتبع لجهاز المخابرات الحربي ، شرحت لهم كل ما عانيت منه سواء في سيناء وسلوك طريق البحر على ظهر قارب ، استمرت الأسئلة تنهال عليّ وأنا أقوم بالإجابة علي معظم الأسئلة وما شاهدته سواء خلال البحر وهجمات العدو على القوات المنسحبة أو خلال وجودى بمنزل أبى السعادات ثم بعد أن تركته ولقائى مع كل من حسين وعمر وما دفعنا لمحاولة تدمير الأسلحة المصرية الملقاة والمتروكة بالعراء حتى لا يستفيد منها العدو ثم لقاء المصادفة مع الجميلة "زينة" حتى تم خطفى من أمام المستشفي وأنا بصحبة "رينيه".

 

      طلب منى الضابط المنوط بالتحقيق معي أن أقوم على كتابة كل تلك الأقوال بخط يدى حتى يستفيدوا بها فى ملاحقة العناصر الإجرامية أو الخائنة التى تتعامل مع العدو ، وجهت إليه سؤالا عن المجموعة التى قامت على اختطافى بمدينة ليماسول القبرصية ، تردد الضابط قليلا ثم أجابنى بالمفاجأة التى لم أكن أتوقعها حيث قال: منذ صدور أمر الانسحاب وما حدث من تفكك الوحدات المقاتلة تحت ضربات العدو الجوية والبرية أو من إنعدام الضبط والربط بالوحدات والتى أدت إلى أن هامت وتاهت قوات كثيرة بصحراء سيناء بل والبعض اتجه للبحر المتوسط وآخرون اتجهوا إلى خليج السويس على البحر الأحمر مما دفع بالقيادة السياسية والعسكرية إلى محاولة جمع وإنقاذ أكبر عدد من تلك القوات فدفعت بأعداد من القوات الخاصة إلى عمق سيناء والبعض من القوات البحرية إلى عرض البحر الأبيض وخليج السويس لكن المخابرات العامة أفادت بأن فلول بعض المنسحبين وصلت إلى سواحل أوروبا وقبرص وكريت ومالطة ، وهنا صدرت الأوامر لجهاز المخابرات العامة بالعمل على جمع تلك الفلول وأرسلت بسفن صغيرة تحميها قوات من الشرطة المصرية حتي لا يحدث نزاع مع أية دولة من تلك الدول حين علمها بأن هناك جنودا مصريين يقيمون قريبا من سواحلهم رغم أن تلك السفن كانت تنتظر خارج المياه الإقليمية ، استطاعت أجهزة المخابرات الحربية والعامة أن تعيد المئات من الجنود والضباط الذين ضلوا طريق العودة فى كل البقاع تحت ضغط الجيش الإسرائيلي الذي كان يوجه المعركة ويعمل على توجيه المنسحبين إلى طرق الهلاك ؛ حيث هلك البعض منهم ومنهم قادة عسكريون كبار" وأسر البعض وعذب البعض وترك البعض يعودون للضفة الغربية للقناة حتى يشاهدهم من يلقاهم ويعلم بحجم الكارثة وقد حكى هؤلاء كيف شاهدوا التعذيب والقتل أمامهم حتي يصاب الجميع بصدمة قوية تمنع مصر من قتال إسرائيل مرة ثانية.

 

        كان الكثير من المصريين الذين وصلوا إلى سواحل أوروبا قد سقط بعضهم مع عصابات لتجارة المخدرات أو مع القتلة المأجورين أو عملاء الموساد الإسرائيلى ؛ ولهذا حددت أجهزة المخابرات من هو المصرى الذى ينتمى إلى الجيش المصرى سواء بطريقة تحدثه أو بتصرفاته التى تدل علي خلفيته ومن هنا كانت تضع الخطط للقبض عليهم وإنقاذهم وعودتهم إلى الوطن مثل ما حدث معك بالتمام حيث عملاء جهاز المخابرات بالميناء شاهدوا وعاصروا حادث إطلاق النار عليك من المدعو "تيمور" وهو من أحد العناصر الإجرامية في الميناء والذى يقوم بالاتجار فى كل شئ مناف للقانون من مخدرات وأسرار دول وبغايا من نساء أوروبا الحسان ، تتبعك أحد العملاء وظللت تحت المراقبة وقد أطلق عليك لقب القرش الكبير نظرا لخطورة العملية التي سوف تتم بغرض إعادتك لمصر وما قد ينتج من ورائها من مشاكل سياسية مع الحكومة القبرصية التي كانت تتعاون معنا في العثور علي الناجين المصريين.

 

      اليوم التالي حضر إلىّ مندوب من النيابة العسكرية والأمن الحربى لاستلام التقرير الذى طلب مني إعداده ، تسلمه احدهم وبعد أن اطلع عليه سريعًا قال: "هايل" يا فندم ، غادروا حجرتى بالمستشفى بينما ظللت منتظرًاحدوث شئ جديد لليوم التالى دون نتيجة ، توجهت لمجالسة رفقاء رحلة العودة على السفينة التى أعادتنا وفوجئت بأنهم جميعا غادروا المستشفى وحصلوا على إجازة لمدة عشرة أيام يعودون بعدها لإحدى وحدات تجميع القوات الشاردة العائدة من سيناء ، أصابني الضيق واليأس والقنوط ، توجهت للقاء مدير المستشفى للسؤال عما حدث لى فوجدت عددا من رجال الأمن الحربي يقومون على حراسة القسم الذى أقيم به ومنعونى من المغادرة ، طلبت لقاء قائدهم وأخبرونى بأنهم سوف يتصلون به ، مساء اليوم التالى أقبل الرائد ........ بالأمن الحربي التابع للقوات البحرية للقائى وعرضت عليه مشكلتى ، نظر إليّ ساهما ثم قال أخبرك بأنك ممنوع من مغادرة المستشفى لحين عرضك على مجلس تحقيق ثم المحكمة العسكرية ، اندفعت أستفهم منه عن سبب هذا وكانت الإجابة غامضة وأننى وقعت فريسة سهلة لأحدى عميلات الموساد الإسرائيلى "زينة" ، حاولت شرح موقفى فطلب مني بهدوء أن أعرض ما أقول علي مجلس التحقيق ثم المحكمة العسكرية موضحا بأن هذا ليس قراره بل قرار من بيدهم الأمر.

 

     غادر حجرتى وأنا ألعن كل من يعمل بالقوات المسلحة المصرية ، هؤلاء الأغبياء يفشلون فى معركة كان من السهل كسبها أوعلى أقل تقدير كان من السهل والميسور منع الأعداء من اقتحام سيناء ومنعهم من إحداث تلك الخسائر برجالنا وشبابنا بل كان من الممكن أصابتهم بخسائر بشرية ضخمة بينما كل هذه القيادات تحيا وتعيش في مصر وبين أسرهم ولم يحدث لأحد منهم أن أهينت آدميته ولم ينزفوا قطرة دماء واحدة وبعد أن عاد من كتب الله لهم الحياة يفاجؤا بأنهم فى انتظار التحقيق والمحاكمة العسكرية ، إذا ً الحكاية إما أن تموت فطيس أو تموت بالسجن الحربى وتشوه سمعتك.

 

   "ياه ، التخابر مع عميلة إسرائيلية ، يعنى كل ما أقابل واحدة أشوف هيا إسرائيلية أو مصرية وبالروح والدم بنحب مصر ونفتدى رئيسها ، الله يخرب بيت اللي كان السبب في كل اللي حصل للجيش والبلد ، يعني أنا كده أستني لما البهوات بتوع النيابة العسكرية يحضروا وهات يا أسئلة وعلى حظى العاثر أنه من يومين صدرت الأحكام العسكرية علي المهملين في الحرب وقامت مظاهرات شديدة في الجامعة وسمعت أنها لسه شغاله وطالبين بتشديد العقوبة علي الجميع ، مطلوب كبش فدا وحيلاقوا أحسن منى فين ، إحنا في مصر تلات حاجات تودى في داهية : خائن وبتتعامل مع العدو الإسرائيلي أو تعمل علي قلب نظام الحكم أو كافر وضد رجال الدين ".

 

     طلبت منهم الحصول على راحة يوم لزيارة عائلتى فرفض ولاد الأبالسة فكرت بالاتصال تليفونيا بعمى سمعان جار أسرتى وربنا يصلح ودنه برضه اترفض وبعدين؟ أعمل إيه مع ولاد الكلب دوول ، الله يخرب بيوتهم قرفتونا في عيشتنا ؛ مش كفاية الغلب اللى عايش فيه من عشر شهور.

 

     تنبهت من ضيقى مستعيدًا علي ذاكرتى بعضا من عبارات التوتر والقلق : العالم دى بتحلم ولازم أتصرف معاهم كأنهم أعداء ، هو أنا كنت بأنتظر أوامر عشان أحارب اليهود ، الملاعين دوول لازم أحطهم قدام الأمر الواقع إما أعامل معامل محترمة أو أريح الدنيا مني وأستريح من وشهم الفقر ، لازم أسيب المكان ده وأروح أشوف أهلى وبعدين يعملوا اللى عايزين يعملوه.

 

     غلبنى النوم حيث كنت قد عقدت العزم على الهرب من هذا المعسكر الواقع بمنطقة رأس التين والملحق على القوات البحرية ، صباح اليوم التالى أقبل الرائد .... وقدم لى تحية الصباح:

 

ـ صباح الخير نقيب عابد

 

ـ نقيب دا أنا لسه ملازم أول ويمكن أوصل لغفير!!

 

ـ متقولش كده .. أنت اترقيت من أول يوليو السنة اللي فاتت .. دلوقتي حتلبس اللبس الموجود بالشنطة " .. بصوت قاطع صارم تحدث :

 

ـ قدم الشنطة يا عسكرى رياض لسيادة النقيب"

 

ـ حاضر يا فندم .. اتفضل سيادتك

 

ـ عشر دقايق وح تيجى عربية جيب وتروح معاهم مكتب النيابة العسكرية نهاية  المعسكر وشوية أسئلة وربنا يعدى حكايتك على خير

 

   غادر الرائد .... المكتب وقمت بفتح الحقيبة البلاستيك فشاهدت أفرول نظيفاً مكويا ً ويحمل علامة الرتب "نقيب" ، ارتديت ملابسي العسكرية بعد عشرة أشهر وانتظرت قدوم السائق الذى سوف يقلنى إلى مكتب النيابة العسكرية .. بعد قليل حضر السائق وسار خلفى حتى وصلنا بجوار السيارة الجيب ، شاهدت بوابة المعسكر أمامى مباشرة وسألت السائق سوف نغادر من تلك البوابة فأجاب بأن المكتب الذى سوف نتوجه له يقع بداخل المعسكر ولكن تلك البوابة تفضى إلى خارج المعسكر وإلى طريق الماكس القادم من الغرب ومتجها إلى داخل المدينة ، تمهلت قليلا متذكرًا كل تلك المناطق التي كنت أجوبها شرقا وغربا وأنا في مقتبل مرحلة الشباب ، قفزت على عجلة القيادة فطلب منى السائق ألا أفعل هذا وإلا سوف أعرضه للعقاب ولكنى لم أنتظر أن يكمل حديثه حيث قدت السيارة بسرعة متجها إلي البوابة المغلقة ، تعالى صوت السائق صارخا طالبا النجدة مما دفع الجنود على البوابة إلى الوقوف معترضين طريقى.

 

      لم أتوقف وظللت متجها لهدفى بثبات واخترقت حاجز بوابة المعسكر بعد أن اصطدمت بالبوابة التى تهشمت وتهشم معها جزء من مقدمة السيارة الجيب وسمعت صفيرًا ونداء حرس سلاح ، شاهدت بعدها بثوان قليلة اثنين من رجال شرطة القوات البحرية يحاولان اللحاق بي علي صهوة الموتوسيكلات السريعة ، مازالت المطاردة مستمرة بشوارع الإسكندرية والناس تشاهد ما يحدث بدهشة حتى وصلت إلى الحى الذي تقيم به أسرتى ، تنبه الناس للسيارة وفراملها الشديدة وإلى الموتوسيكلات التى تتبعني ، صاح البعض ، الله أكبر .. الكابتن عابد رجع بالسلامة ، تعالت الهتافات فطلبت منهم القبض على عملاء إسرائيليين يطاردوننى محاولين قتلي وأشرت إلى رجال الشرطة العسكرية ؛ أسرع أهل الحى بكل ما يملكون لمهاجمة الجنديين اللذين أسرعا بالفرار ، أثناء ترحيب أهل الحارة أطلت أسرتى فشاهدت وجه أمي كالبدر المنير يشع ُحبا وحنانا ، تلاقت دموعي مع دموعها التى هبطت من بلكونة الدور الثاني حيث تقيم ، أسرعت بالهرب من احتفال أهل الحى لألحق بحضن أمى الحبيبة الذى حرمت منه قرابة العام وأعتقد بأننى سوف أحرم منه عدة أعوام أو إلى نهاية عمرى جراء ما حدث وما سوف يوجه لي من تهم سواء ما تم بالخارج مع "زينة" أو مما حدث صباح هذا اليوم.

 

     كان اللقاء رائعا حيث ُكنت أسمع أصواتا متداخلة من الدموع والبكاء دون معرفة تفاصيل تلك الكلمات ، لكن الكلمات كانت لها أحاسيس كثيرة دون معانً لها حيث إن الأحاسيس تصل إلى القلب مباشرة وليس إلي الأذن ولهذا فكان مردودها سريعا هائلا عليّ وعلى أمي وشقيقتى ، أقبل أبي مرحباً حيث كان خارج المنزل يشتري بعض الأغراض وعلم بالخبر السعيد من الشارع الخلفى ؛ حيث شاهد أبناء الحى والشوارع الجانبية يقيمون المتاريس والحراسات لحماية ابن الحتة والبطل الحى العائد من الحرب بعد مطاردة شاهدوها من عملاء إسرائيليين يرتدون زى جنود الشرطة العسكرية للقوات البحرية.

 

    اليوم التالى أقبلت سيارة للقوات البحرية لكى تعود بالسيارة الجيب إلي المعسكر ، حاول بعض الشباب الإعتراض ولكنى أشرت لهم من شرفة المنزل بالسماح لهم بأن يعودوا بالسيارة ، إستمرت حالة الطوارئ بالشوارع الجانبية والأحياء القريبة كما انتشر خبر ما حدث بالمدينة وأصبح التعرض لرجال الشرطة البحرية من الأمور العادية لاعتقاد البعض بأنهم عملاء يرغبون بالإيقاع بابن الحى عابد مما سبب مشاكل كثيرة بينهم وبين الشعب كما وصل الأمر إلى قيادة المنطقة العسكرية بالإسكندرية وعلمت القيادة العامة بالقاهرة بما حدث خاصة هروب الضابط المتهم من المعسكر بتلك الجرأة متحديا كل القوانين العسكرية مما دفع برئيس الأركان الفريق عبدالمنعم رياض إلى طلب محاكمة عاجلة لهذا الضابط ، حينما علم بالمشاكل التى قد تنجم من المحاكمه مثل ما حدث من محاكمات تمت منذ أسبوعين قرر استخدام سلطته بالعرض علي لجنة الضباط ، هي لجنة مكونة من كبار ضباط القوات المسلحة لعرض الضباط المخالفين عليها ولها سلطة الفصل والطرد والإحالة للاستيداع ويرأس تلك اللجنة رئيس هيئة أركان حرب القوات المسلحة المصرية الفريق عبدالمنعم رياض.                

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

ماذا حدث أثناء غيابى بسيناء

 

 

 

     حكي لي أبي ما حدث خلال فترة غيابي الطويلة قائلا ً: مجرد أن اندلعت حرب عام 1967 عم الحزن الشعب المصرى بعد ُمضي يوم واحد علي بدئها حيث انتشر خبر تدمير الطيران المعادى لقواتنا الجوية وهي رابضة بقواعدها بمصر ، لقد استنتج الشعب الطيب الذكي ما وراء تدمير سلاح مهم وقد أصبحت السماء فوق رءوس رجال القوات البرية مفتوحة أمام الأعداء وبالتالي رجحت كفة العدو ، بعدها بيوم زاد الطين بله حينما علم الشعب بأنه قد صدرت الأوامر بانسحاب الجيش من سيناء ، تواترت الأنباء والأخبار عما حدث للجيش المصرى واتجهت الآذان لسماع الأخبار من الإذاعات الأجنبية خاصة إسرائيل وصوت الإذاعة البريطانية حيث كانت الإذاعة المصرية على حالها عبر جميع الأحداث تذيع أخبار بأن الأمور على أحسن مايرام وكله ُفل ومهلبية.

 

    مضت الأيام علي أسرتي وهي تحاول أن تستنشق الأخبار والمعلومات عن حالي ، البعض من شباب الحى الذين يخدمون بالجيش وقد عاد بعضهم من سيناء وبدا لمن شاهدهم آثار المعركة وتداعياتها وما لاحظوه من تورم الأقدام لهؤلاء الشباب والبعض منهم أصابته التسلخات والحروق من شمس سيناء الملتهبة من شهر يونيو كما أن البعض منهم أصيب بنيران العدو وعادوا وهم ملتحفون بالضمادات والأربطة.

 

    انزعج أبى لما حدث وبدأ فى البحث عنى وإلى أين يتجه ، التقى ببعض الأصدقاء والزملاء الذين إستطاع العثور على بعضهم بصعوبة والذين لم يساعدوه لأنهم لا يعلمون أى شئ عنى فقد ضاعت كل المعلومات كما ضاعت الثقة بقيادات الدولة سواء سياسية أو عسكرية ، استقل أبى القطار متوجها للقاهرة بعدها توجه لشئون الضباط والتي من المفترض أنها تعلم كل صغيرة وكبيرة عن ضباطها ولكنه لم يحصل على أى شئ ذي بال حيث كانت الإجابة بأن ابنك عابد ُفل وآخر حلاوة بس إحنا محافظين عليهم فى مكان سري استعدادا ليوم الثأر والذى سيأتى بعد أيام قليلة حيث ستدفع الدولة بالقوات المقاتلة الجبارة إلى سيناء بل إلى إسرائيل لتقضى على تلك العصابة الآثمة.

 

    ظل والدى بالقاهرة يجوب المستشفيات العسكرية ويسأل كل من يرتدى الملابس العسكرية من جميع الدرجات ومختلف التخصصات ولم يحصل علي أية إجابة مما دفعه إلى الشك بأننى أحد ضباط القوات المسلحة المصرية وأصابه الإحباط والضيق بأننى لم أكن ضابطـاً بل كنت أعمل عملا آخر وأكذب عليهم وها هو الدليل بأن أحداً لا يعلم أى شئ عنى وأن هناك ضابطاً يدعى عابد نظمى المصــرى ، شعر والدى بأن هناك تخبطا فى المعلومات التى حصل عليها بشأن عملى وحياتى العسكرية ، منهم من ُيقر بأن عابد يعمل ضابط وحاليا مختفى عن أنظار العدو خشية على حياته والبعض يقر بأنه لا يوجد اسم عابد المصري بين ضباط القوات المسلحة ، أصدق من؟ كانت تلك النتيجة الطبيعية لحالة الارتباك التى سادت الوطن والتى تحملها الناس بمصر.

 

    عاد والدى إلى الإسكندرية  ُبخفى حنين وشاهد نظرات أمى المستفسرة منه عن ابنها الوحيد وهو غير قادر على الإجابة وأخيرا تشجع بأن أخبرها بأن ابنها لم يكن ضابطاً وكل الأماكن المسئولة عن الضباط نفت أن يكون لديها ضابط بهذا الإسم "يردد" أمامها :

 

ـ ابنك ضحك علينا يا فتحية .. عليه العوض ومنه العوض ، صرخت به متسائلة:

 

ـ ظابط والا غفير المهم فين الواد .. تروح وترجع كده من غير فايده .. مين يرجع ليا ابنى .. حرام يا ناس تاخدوا ولادنا وتقتلوهم عشان تتكلموا وتحكوا عن بطولات لكم .. الله ينتقم منكم .. الله المنتقم .. اندفعت أمى في بكاء مؤلم كما أخبرنى بهذا أخوتى البنات وبعض الأقارب.

 

    طغى الحزن عليّ من بالمنزل وفى أحد الأيام أقبلت شقيقتى رجاء الطالبة بالجامعة وهى تحمل خطابا مضى عليه وقت طويل وكان هذا واضحا من تاريخ الإرسال والذى شاهدته بأحد  ُكتب الروايات التى كنت أهوى قراءتها وأخبرت أبى بأن هذا الخطاب من قائدي بالوحدة التى كنت أعمل بها ويدعي الرائد "فوزي .... " أمسك أبى بالخطاب وشعر بأنه عثر على المفتاح الذى سوف يبدأ منه البحث .. استقل أبى القطار للمرة الثانية متجها إلى القاهرة وظل يسأل عن مبني إدارة المخابرات الحربية وكل واحد يسأله لا يعلم منه شيئا ً والذى يعلم يخشى أن يخبره حتى العسكريين إلى أن تشجع أحد الجنود وأشار إلى أبى بموقع تلك الإدارة.

 

      على باب الإدارة حاول أبى الدخول ومقابلة أحد من المسئولين إلا أنهم منعوا دخوله ومقابلة أى شخص ، ظل جالسا على قارعة الطريق عدة أيام حيث كان يجلس فوق غلاف صندوق من الكرتون ويتوجه للمسجد القريب للصلاة ويقضى حاجته ويتناول الأطعمة الشعبية وقد اتسخت ملابسه وطالت لحيته دون مجيب ، فى أحد الأيام شاهد جندى الحراسة ينادى عليه ، أسرع أبى إليه والذى تعدى عمره الخامسة والخمسين للقاء الجندى الذي أخبره بأن المقدم/ فوزي .... الذى تسأل عنه دخل مكتب القيادة منذ قليل وأنه أخبره بأن أحد الأقرباء فى انتظاره منذ عدة أيام فطلب منى إبلاغك بأنه سوف يراك بعد أن ُينهى لقاءه بسيادة اللواء مدير الإدارة.

 

       رفع أبى يديه شكرا لله على أن شخصا ما سوف يتعرف على ابنه وسيلقاه بعد قليل حتى يزيل ضباب المعلومات الذى أصاب العائلة .. جلس أبى قرابة الساعة فى قلق ثم شاهد سيارة المقدم فوزي تغادر المبنى وتقف بالجانب الأيمن من الطريق ، هبط منها الضابط فأشار له الجندى جهة والدى فاقترب منه متسائلا عن شخصيته ، أفاده أبى باسمه ومن يكون ، رحب الضابط بأبى وعرض عليه اصطحابه إلى منزله للتحدث ، حاول أبى الحصول على أية معلومات عنى "عابد" أثناء لقائهما ولكن الرجل أبى إلا أن ُيضيف والدى ويقص عليه كل شيء.

 

   بمنزل الضابط شرح له كل ما يعلمه عن أحوالى مخبرا إياه بأنه علم من بعض رجاله الذين نجوا بأن عابد سلك طريق البحر ليهرب من اليهود وأنه للآن لم يصل بعد إلى إدارة المخابرات وأنه في حال حدوث أى جديد سوف يخبره ، اقترب الرجل من أبى ليخبره بأن المخابرات العامة والحربية وقوات الصاعقة تقوم على جمع فلول المنسحبين من كل مكان سواء من سيناء أو موانئ بعض الدول الأوروبية ، مؤكدا بأن الحدث كان خطيرا للغاية.

 

       عاد أبى إلى الإسكندرية وروى لأمى كل شئ ورغم هذا لم تشعر بالراحة أو الطمأنينة لكن ما باليد حيلة كما يقول المثل ، ظلت علاقة أبى بالمقدم فوزى متصلة حيث كان الرجل يتصل بأبى تليفونيا لدى جارنا سمعان أفندي الذى كان يمتلك ورشة لصناعة أطقم الأسنان الصناعية ، كان سمعان أفندى ُيقبل مسرعا طالبا أبى لمكالمة تليفونيه من حتة اسمها الماهرة وبمرور الزمن تعود والدى على هذا الاسم حيث أن سمعان أفندي كان اسما على غير مسمى حيث كان سمعه تقيل وحين يسمع كلمة القاهرة يحولها إلي الماهرة.

 

    في إدارة المخابرات الحربية والاستطلاع أثبتت كل التقارير بأن جميع أفراد مكتب قطاع غزة قد لاقوا مصرعهم أثناء محاولة الانسحاب عن طريق البحر ، وهذا الخبر نقله أحد رجال المخابرات الفلسطينية حيث علم بمقتل "َسـلمان وبرفقته الضابط "عابد" وبعض جنود المكتب وقد مضت عدة أشهر ولم تبلغ القيادة بالقاهرة عن أى أسماء لرجال القطاع والتى تم نقلها للصليب الأحمر عن الأسرى المصريين بإسرائيل.

 

    تأكد للمقدم فوزى بأن عابد وباقى الرجال من ضباط صف وجنود المكتب بالقطاع قد لقوا مصرعهم فلم ترد أسماؤهم فى كشوف الأسرى بإسرائيل ، كان المقدم فوزى فى حالة من الحرج لكنه كرجل يتصف بالشهامة قرر السفر إلى الإسكندرية ولقاء والدى وإخباره بالخبر الحزين ، اتصل المقدم فوزى بسمعان أفندى وأخبره بأنه بالإسكندرية ويرغب فى محادثة المهندس نظمى المصرى ، أسرع سمعان أفندى وأخبر أبى أن المقدم رمزى "فوزى" بالإسماعيلية "الإسكندرية" ويرغب الحديث مع المهندس نظلى "نظمى"  أسرع أبى وتحدث تليفونيا مع المقدم فوزى والذى أخبره بأنه بالإسكندرية وليس بالإسماعيلية.

 

     تم الاتفاق على اللقاء بميدان المنشية علي قهوة حميدو حيث إلتقى أبى بالمقدم فوزى الذى أخبره بالخبر الصاعق بأنه قد ثبت أن عابد إبنك لقى ربه بسيناء مع باقى جنوده وشد حيلك يا أبو البطل ويا أبو .....  لم يسمع أبى بعدها ما قاله المقدم فوزى ونهض مترنحا باكيا وساعده البعض فى العودة إلى المنزل ، هناك بالمنزل علمت الأسرة بالخبر الحزين دون أن ينطق والدى بكلمة واحدة ؛ حيث كان أكبر تعبير هو ما ألم به من ذهول وعدم القدرة على التركيز ومازالت الدموع تنزف من عينيه.

 

    مضت الأيام على أسرتى حزنا وبكاء وألما واتشح كل شئ فى المنزل بالسواد والذى طال القلوب والعقول وأصبح النهار ليلا بل أطبق الظلام الطويل الذى لم ينجلِ ِعلى أسر ضحايا الحروب وقد شاخ الأب والأم قبل الموعد مما دفع بأعمارهم عشر سنوات للأمام كما انعدمت البسمة والفرحة وأصبحت حالة الانعزال والانطواء هى الحالة السائدة بين جدران المنزل وبين من يعيشون بداخله.

 

 

 

 

 

 

 

 

Share
Click to listen highlighted text! Powered By GSpeech