Click to listen highlighted text! Powered By GSpeech
Get Adobe Flash player
مستمرين معاكم بإذن الله 2008-2024 **** #لان_لجيشنا_تاريخ_يستحق_أن_يروي **** ***** إنشروا تاريخنا وشاركونا في معركة الوعي **** تابعونا علي قناة اليوتيوب 1100+ فيديو حتي الان **** تابعونا علي صفحات التواصل الاجتماعي** أشتركوا معنا في رحلاتنا لمناطق حرب أكتوبر **** يرجي استخدام خانة البحث **** *** تابعونا علي تليجرام - انستجرام - تويتر

روايه عابد المصري - الحلقه السادسه

حصريا لاول مره علي الانترنت

بتصريح خاص من الكاتب للمجموعه 73 مؤرخين

لا يجوز اعاده النشر بدون الاشاره للكاتب والموقع كمصدر

عـــابد المصـرى .. رواية

كتبها/أسـامة على الصـادق

.....

الطبعة الأولى .. يوليو 2010

الناشر: الكاتب

.....

تصميم الغلاف:

ريهام سهيل

....

حقوق الطبع محفوظة للكاتب

موبايل: 0127970032

 

 

نهاية المطـــاف

 

 

 

     بعد أن قضيت يومين بين أسرتى استعدت خلالهما بعضا من هدوئى وحيويتى قررت التوجه إلى إدارة  المخابرات الحربية لأسلم نفسى ولأضع الحقائق أمام أعين الجهات المسئولة ، ارتديت ملابسى العسكرية واتجهت إلى محطة القطارات وأنا أعلم بأننى مراقب من عدة أجهزة ترغب فى إلحاق الأذى بى خاصة أن الإتجاه داخل القوات المسلحة أصبح متشددًا مع الجميع سواء من وزير الحربية الفريق أول محمد فوزى أو من رئيس الأركان والذين كانا ينفذان سياسة رئيس الجمهورية باستعادة بناء القوات المسلحة وأول شئ لكى يتم هذا العمل البدء بما يسمى بالضبط والربط وهو الإطار الحقيقى لأية قوة عسكرية ترغب فى التقدم.

 

    ركبت القطار دون أية مشاكل ، وصلت إلى القاهرة توجهت مباشرة إلى إدارة السلاح وهناك أتجهت إلى مكتب مدير شئون ضباط السلاح الذى استقبلني بعاصفة من اللوم والتقريع واخبرنى بأننى ارتكبت العديد من الأخطاء التي يجب أن أحاسب عليها ، طلب منى الانتظار بالاستراحة لحين طلبى ، بعد ُمضى ساعة زمن جاء أحد الجنود يخبرنى بأن الرائد ... يطلبنى بالمكتب ، توجهت إليه وبكلمات قليلة سلمنى خطاباً موجها إلى إدارة سلاح المشاه.

 

    أصابتنى الصدمة ، فقد غضب عليّ المسئولون ، تسلمت منه الخطاب دون أن أنبس بكلمة وغادرت المكتب ُمسرعا مما دفع الضابط المسئول إلى الغضب منادياً عليّ بصوت مرتفع بالعودة ثانية وتأدية التحية العسكرية الواجبة نحو ضابط أقدم منه ولكننى أشرت له بالخطاب بطريقة باردة مغادرًا الغرفة.

 

     توجهت لإدارة سلاح المشاة وهناك تعاملوا معى بأسوأ معاملة بل أسوأ من التى لقيتها بإدارة المخابرات الحربية حيث وصلتهم توصية بالشد وبالحزم مع هذا الضابط الخارج عن إطار القانون العسكرى ، لم أكترث بكل الرتب هناك ومعروف عن سلاح المشاة شدة الضبط والربط به نظرا لضخامة عدد القوات به ، شعر المسئولون بالسلاح بأننى على استعداد للقيام بأى عمل طائش مع أى شخص خاصة حينما تولد لدى شعوربأن الخناق بدأ يضيق عليّ ولهذا فقد اتبعت المثل القائل "عليّ وعلى أعدائى".

 

      اليوم التالى توجهت إلى الوحدة التى حددها الخطاب المسلم لي ، استقبلني قائد الوحدة بنظرات حادة وحرك رأسه بما يعني بأنك حضرت إليّ أيها المشاغب وسوف تنال مني كل ما هو سىء ، أمرني بالانصراف وحدد لي إحدي الوحدات التابعة له لأنضم إليها لحين البت في شأني ، توقفت قليلا ً لأستوعب ما يقول ويفعل مما دفعه لكي ُيعيد أوامره صارخا بي ، غادرت المكتب دون أن أؤدي له التحية العسكرية الواجبة وتصرفت معه كما تصرفت مع مسئول شئون ضباط المخابرات الحربية ، سمعت صوته عاليا بالنداء عليّ بالعودة وتأدية التحية العسكرية الواجبة ، ُعدت وتحدثت معه بطريقة غير لائقة كقائد وقد أصابته  الدهشة من تصرفي هذا.

 

    شعرت أنني أتخبط في تصرفاتي تلك كما انتابني شعور بأنني أسير وأتحرك وأنا شبه مترنح بين مباني الوحدة والتي شاهدت رجالها الذين قدموا من جوف الصحراء القريبة بعد تدريبات عنيفة في نهاية شهر مارس والحرارة بدأت تلسع الوجوه وما يصاحبها من رياح حارة شديدة نهارا.

 

  سألت أحد الجنود عن حجرة نظيفة أقيم بها وليس بها أحد من الضباط ، أشار إليّ الجندي بأن جميع الحجرات مكتظة بالضباط باستنثناء الحجرة الأخيرة فليس بها سوي ضابط واحد وهو مهتم بنظافتها ، أتجهت إليها ودفعت بابها بحذائي وأنا في أشد حالات الغضب ومازالت المعاملة التي قوبلت بها منذ إلقاء القبض عليّ بميناء "ليماسول" حتي الآن لا تبشر بالخير ، علمت أن نهايتي  ُمفجعة وقد قاربت عليها وأن كل ما قمت به من بطولات بسيناء قد ضاع أمام تصرف بعض الضباط الذين يعملون بالمكاتب ولا يفهمون طبيعة العمل بالوحدات المقاتلة فهم من أصحاب الأيادي الناعمة ، لهذا قررت أن أسلك طريق العناد والمقاومة حتي أنتهي من تلك المهزلة وأنا مرفوع الرأس ولست باكيا علي أي شئ.

 

***

 

    بعد أن دفعت باب الحجرة بقدمي بقوة غمر الضوء بخارجها أرجاءها فشاهدت الضابط الوحيد بها نائما فنهض فزعا وشاهدت نظراته الغريبة المستفسرة إليّ ، إقتربت منه وطلبت منه بجفاء أن يترك سريره لي ، ظل علي نظراته البلهاء مما دفعني للصراخ في وجهه فقفز من السرير بالدور العلوي وأرتدي أفرول التدريب وخرج ُمسرعا خارج الحجرة.

 

     كان السرير الذي حصلت عليه من هذا الضابط هو الوحيد بالغرفة والصالح لكي يستخدمه أي ضابط ، تحللت من ملابسي وارتديت ملابس النوم ورحت في إغفاءة لم أعلم الوقت الذي استغرقته أثناء نومي لكني فزعت حينما تذكرت تصرفي مع الضابط الذي كان ينام في تلك الغرفة وبتصرفي الأهوج طردته بكل فظاظة ، قررت البحث عنه ، شاهدت أحد الجنود فسألته عن اسم الضابط الذي يقيم بتلك الحجرة فأخبرني بأنه الملازم أسامة الصادق ، ظللت أبحث عنه في كل غرف الضباط المجاورة حتي عثرت عليه يجالس أحد الضابط من نفس رتبته.

 

  حينما هممت بالدخول رغب في مغادرة الحجرة ، إستوقفته طالبا منه الانتظار ، كان باديا عليه الضيق والحزن مما حدث له من سوء تصرفي الأهوج ، حاولت أن أطيب من خاطره ولكني شاهدت علامات الضيق مازالت تغلف وجهه البرئ.

 

    تساءلت: لماذا أنت مصمم علي عدم قبول اعتذاري لك؟ أجابني زميله الذي يجلس معه بأنه منذ الصباح الباكر وهو يقوم علي تدريب جنوده تحت الحرارة الشديدة والشمس الساطعة وأن وقت راحته لمدة ساعتين يقوم بعدها باستكمال تدريب جنوده حتي العاشرة مساء وبتصرفك هذا ضيعت عليه وقت راحته وكما تراه لم يحصل علي جرعة من النوم والراحة تساعده علي مجابهة تدريب المساء.

 

    أعدت تقديم اعتذاري وأخبرتهما بأنني ألاقى مصاعب جمة منذ عودتي من سيناء كما وعدتهما بأنني سوف أقص عليهما حكايتي المفجعة فيما بعد وما الذي حدث لي أثناء الغياب الطويل وفي الوقت نفسه البطولة العالية التى قمت بهاْ.

 

أعدت اعتذاري له قائلا ً: "مش تزعل مني وغصب عني .. أنا قرفان من الشغل ومن القادة .. عايز أترفد وأروح في ستين داهية بعد اللي شفته .. خليك جدع وكلمني ، أنا تأسفت لك وأنا عرفت أنك واد شرقاوي جدع وأنا اسكندراني أجدع!! ) أعقبت هذا بضحكة بصوت مرتفع مما دفع به وبزميله إلي الضحك والحديث وتناول الشاي.

 

    بعد هذا اللقاء والتصالح اقتربت من أسامة وشعرت أنه مثل حالي حيث قاسي أثناء انسحابه من سيناء كما زادت علاقتنا وصداقتنا بطريقة مخالفة لما بدأت عليه في بادئ الأمر وأصبحنا نتحرك ونغادر المعسكر معا حيث يتجه هو إلي ميس المشاة بثكنات العباسية بينما أتجه أنا إلي شقة صغيرة مفروشة مستأجرة بشارع مصر والسودان بمنطقة حدائق القبة.

 

    أحد الأيام عرضت عليه أن ينتقل للحياة معي بشقة مصر والسودان وسأحصل منه مقابل ذلك علي نفس ما يقوم بدفعه في ميس المشاة .. تردد في بادئ الأمر ، حيث علمت أنه قد تعرف علي أسرة زميل التقي به في مستشفي المعادي بطريق الصدفة البحتة بعد أن فقدت أسرته الأمل بعودته خاصة والدته بعد أن علمت من إدارة سلاح المدفعية باستشهاده ، كانت الأسرة متمسكة به وتشعر بأنه وش السعد عليهم والذي أدخل البهجة والفرحة علي قلوبهم الحزينة ، بعد تردد وافق علي اقتراحي حتي يستطيع التواصل مع تلك الأسرة عن ُبعد.

 

    أذكر أنه في أحد الأيام حيث كنا نجري تدريبا شاقا بصحراء شرق القاهرة " القاهرة الجديدة حاليا" القريبة من طريق السويس وبعد الانتهاء من التدريب أقبل قائد الكتيبة وشاهدني أجلس بجوار أسامة وأقود اللوري الذي يحمل جنوده وكان هذا الأمر مخالفا للأوامر بألا يقود الضباط سيارات الجيش الخاصة بالتدريب أو العمليات .. أشار لي القائد بالتوقف .. توقفت وتبادلنا النظرات المريبة وحينها وجه لي القائد انتقادات لاذعة لمخالفتي الأوامر .. لم أتركه يستطرد في الحديث بل سببته وشتمته بسباب سيئ لأقصي درجة ، شعرت بمدي الكارثة التي سوف تحدق بي ولكن القائد بدلا من أن يوقع عليّ الجزاء أشار إليّ أسامة بأنه المخطئ ووقع عليه الجزاء وحينها علمت الفارق بين الحمار والبردعة التي نتحدث عنها في الأمثال الشعبية. 

 

       أخبرت أسامة بأنني الحقت علي الكتيبة لمدة شهر حتي يقوم القائد بكتابة تقرير عني ُيبين مدي صلاحيتي للخدمة العسكرية وسوف ُيعرض هذا التقرير علي لجنة الضباط التي يرأسها رئيس الأركان ومنذ ذلك التاريخ والقائد يبذل كل جهده للبحث عن أخطاء لي سواء وقعت مني أو كي ينسبها لي خاصة حين علم بأن رئيس الأركان سوف يقرأ التقرير ؛ لهذا فهو يرغب بأن يتقرب للقيادات العليا بهذا التقرير الذي سوف يضر بي ضررًا بالغاً.

 

       أبلغتني قيادة الكتيبة بأنه يجب عليّ التوجه للمقر العام لوزارة الحربية يوم ..... الساعة .... ، كنت أعلم بأن هذا هو آخر يوم لي بالقوات المسلحة فكانت كل الدلائل تنبئ عما سيحدث لأي ضابط يقترف أي خطأ حتي لو كان غير متعمد ، في الموعد المحدد توجهت إلي المكتب وبعد أن جلست بالاستراحة حوالي الساعة حيث كان بها العديد من الضباط من مختلف الرتب منتظرين العرض علي اللجنة مثل حالي ، خلال ذلك أقبل أحد الضباط ينادي علي الأسماء التي سوف تعرض علي اللجنة ، شعرت بحركة بين ضباط القسم الذي أجلس به ، علمت من تلك التصرفات بأن رئيس الأركان أقبل ، حين جاء الدور عليّ نهضت ودخلت المكتب فشاهدت مجموعة من القادة الكبار يتوسطهم الفريق       عبد المنعم رياض ، قرأ التقارير سواء الصادر من الأمن الحربي التابع للقوات البحرية بعد عودتي من ليماسول أو تقارير قائد الوحدة الذي ألحقت عليها والذي كان واضحا منها أن الرجل جمع كل الجرائم والتهم باستثناء القتل ووضعها بالتقرير.

 

    تساءل رئيس الأركان عن حقيقة ما قرأه ، أجبته بأنني لو قلت أي شيء لن يصدقني أحد لأن من كتب تلك التقارير هم أكبر مني رتبة ومن جهتين مختلفتين وإذا تحدثت عما قمت به بسيناء فلن يصدقني أحد لأنه لا يوجد شاهد معي والأرض مازالت تحت الاحتلال ولهذا فأنا أنتظر قرار اللجنة ولن أعترض أو أحتج.

 

    تشاور مع الضباط الذين يجلسون حوله وقرأ القرار " الاستغناء عن خدماتي بالقوات المسلحة منذ ذلك اليوم" أديت التحية العسكرية فسألني رئيس الأركان هل لي مصدر أتعيش منه ، أجبته بأن الله لا ينسي أي مخلوق وقد كتب لجميع الكائنات رزقها ولهذا فسوف أتبع الطيور والحيوانات وأحصل علي طعامي لكن كل ما أثر فيّ هو ذلك القرار الذي سوف يبعدني عن مجال عمل ظللت به لعدة أعوام خاصة في المرحلة المقبلة ، شكرني الرجل وكنت أشاهد التأثر في عينيه ، خرجت مغادرا القاعة ، استوقفني أحد ضباط القيادة طالبا مني تسليم الكارنيه العسكري فأخبرته بأنني بدون كرنيه منذ عدة أشهر وقد تركته في سيناء ليتسلمه اليهود ويحضروه لكم ، أسرعت بمغادرة المبني مستقلا تاكسي أجرة حتي باب شقتي الصغيرة بحي القبة ، لم يكن زميلي أسامة قد حضر من العمل حيث إنه يأتي بعد الثامنة مساء.

 

      ألقيت بجسدي المنهار علي السرير وشعرت بأن حياتي أصبحت ظلاما فقد ضاع مستقبلي ولن أعثر علي أي عمل خاصة حينما يعلم أصحاب العمل بأنني ُعوقبت من القوات المسلحة بالاستغناء عن خدماتي ؛ إنه عقاب شديد ولا يستتبعه معاش أو علاج بالمستشفيات العسكرية فقد تم قطع كل شيء عني ولم أعد مسموحا لي بالإستفادة من الخدمات التي تقدم للعاملين بالقوات المسلحة ، لقد أصبحت دون المستوي بل أقل درجات من الذين أهملوا عملهم أثناء لقاء العدو.

 

    لففت ملابسي العسكرية ووضعتها بكيس صغير أسفل السرير ومحوت كل شيء ينبئ بأنني كنت ضابطا بالجيش مثل بعض الصور أو المكاتبات أو الكتب العسكرية ، لم يكن بجيبي نقود سوي عدة قروش فلم أتسلم راتبي المتأخر منذ عشرة أشهر حتي الآن ، بحثت في ملابس صديقي أسامة فعثرت علي عدة جنيهات ، لم أنتظر حضوره وجمعت كل ما وقعت عليه عيناي وقد قارب المبلغ العشرين جنيها ، وهو مبلغ كبير في ذلك الوقت "نصف راتبه الشهرى" ومن سوء تصرفي لم أترك له أي نقود تساعده علي تصريف أموره وكتبت له كلمة سريعة بأنني في أشد الاحتياج للنقود واستوليت منه علي كل ما كان يحتفظ به ، أبدلت ملابسي وخرجت للشارع متجها إلي محطة قطارات مصر متوجها إلي الإسكندرية لأقضي بعض الأيام مع عائلتي ولأفكر فيما أنا  ُمقبل عليه ، كانت تراود خيالي المواقف التي قابلتها خلال الشهور العشرة الماضية ، شعرت بأن الدنيا لم تصبح سوداء كما تبادر إلي ذهني ، فما قمت به من عناية بالجمال والماعز وجمع محصول الكرنب وحمل المياه والنوم بسطح الدار لمدة طويلة صيفا وشتاء عمل صالح نافع وقد سبقنا إليه الأولون ، لا أعلم كيف تنبهت ذاكرتي علي ذكري رسولنا الكريم محمد صلي الله عليه وسلم وهو يرعي الغنم ، المسألة ليست ُرتبا ً وألقابا ً المسألة كرامة وشجاعة وُحسن تصرف.

 

     وصلت إلي محطة السكة الحديد وعلمت أن القطار أمامه ساعتان فقطعت الوقت سيرًا بين المكاتب والأرصفة ، شاهدت رجلين من البسطاء يقفان أمام لوحة إعلانات محاولين القراءة وكان باديا عليهما صعوبة ذلك فشاهدني أحدهما فطلب مني قراءة الإعلان لمعرفة التفاصيل المطلوبة وشروط تلك الوظيفة.

 

      كانت لوحة الإعلانات توضح للراغبين عن توفر بعض وظائف بهيئة السكة الحديد للعمل كخفير مزلقان ، شاهدت السعادة علي وجهيهما وأحدهما قدم شكره لي ، سار الاثنان مبتعدين فاستوقفتهما متسائلا ً إلي أين فأجابا بأنهما سيتوجهان لملء إستمارة بغرض الحصول علي تلك الوظيفة وقال أحدهما:

 

ـ دي يا بيه مهيتها توصل لـ خمسه جنيه .. بأجول خمسة جنيه .. يارب أجبل يارب .. وقفت صامتا وهما ينظران إليّ ثم سألتهما:

 

ـ الوظيفة دية كويسه غير أن ماهيتها خمسة جنيه؟ أجابني أحدهم.

 

ـ يا بيه الناس الغلابا اللي زي حالتنا ومن الصعيد حيروحوا فين وخصوصا اللي ملهمش متوي .. أهو الواحد منا يروح علي مزلجان وينام ريحه ويعدي الشهر وينزل لعياله ومرته والحكايه أهي ماشيه ، يارب يكون لنا نصيب فيها.

 

قاما علي وداعي واتجها إلي المكتب المسئول ، تبعتهما وشاهدتهما وهما عائدان وكل واحد منهما ممسك باستمارة فشاهداني فطلبا مني مساعدتهما في كتابة الاستمارة ، بكل ترحاب كتبت لهما الاستمارات وعادا وسلماها للمكتب ثم توجها إلي عملهما والذي تبين أنهما يقومان علي نظافة الأرصفة بالمحطة.

 

     لا أعلم كيف ساقتني قدماي إلي المكتب ودخلت علي الموظف الذي وقف مستقبلا عارضًا عليّ أي خدمة ، لم أتردد أو أتلجلج وطلبت منه استمارة للعمل كخفير ، أعطاها لي الرجل متسائلا ًهل هناك فقير يحتاج لتلك الوظيفة تعرفه؟ أجبته:

 

ـ الحقيقة أخدتها علشاني .. ابتسم الموظف معيدًا سؤاله وأنه يعلم بأنني أمزح معه ، أكدت له ما سبق وقلته ، نظر إليّ الرجل مشيرًا لي بالجلوس محاولا معرفة الدافع لهذا وهو يشير إليّ بما يعني بانك باين عليك ابن ناس ومحترم ، أخبرته بقليل من التفاصيل بما حدث لي صباح هذا اليوم ، كنت أشاهد علامات التعجب والأسي علي وجهه ثم اقترب مني عارضا عليّ بأنه يمكن أن يعثر لي علي وظيفة إدارية بإحدى إدارات المحطة وبداخل مكتب ، شكرته وأخبرته بأن تلك الوظيفة تناسبني لأنها سوف تبعدني عن الناس وأتمني إذا ُقبلت بها أن أعين بعيدا عن الناس وفي مكان مهجور ، نهض الرجل واقترب مني واحتضنني قائلا

 

ـ رغم إني مش موافقك علي كده لكن ح اعمل كل جهدي لتنفيذ كل اللي طلبته وأنا حاسس بيك ، انهمرت الدموع من عينيه فانتقلت عدواها إليّ أيضا ًحاولت معها إعادة الهدوء إلي نفسي .. سلمته الاستمارة بعد أن قمت بملء البيانات الواردة بها أثناء هذا طلب لي فنجانا من القهوة وحصل مني علي رقم تليفون الخواجة سمعان حيث أخبرني بأنه خلال ثلاثة أيام سوف أكون معينا بتلك الوظيفة ، شاهدت عقارب الساعة تقترب من موعد تحرك القطار فنهضت مصافحا وهو بالتالي رافقني إلي خارج المكتب ، دلفت بين المسافرين ثم شاهدته وهو يصفق بيديه علامة الحيرة والتعجب من أمري سواء ما حدث لي أو ما سوف يحدث لي ورغبتي في هذا العمل المتواضع.

 

     ركبت القطار وأنا أشعر بأنني تحررت من كثير من الأوجاع والهموم النفسية التي قابلتني منذ مغادرة دار أبى السعادات رغم ما قمت به مع بعض شباب سيناء اليافع من شجاعة وإقدام وحب للوطن دون طنطنة ودعاية وهتافات أو دون انتظار ٍ لمكافأة من أحد المسئولين ، كنت أهون علي نفسي طوال الطريق ما حدث لي واضعا بعض المواقف التي كان يمكن أن تحدث لي من أسر أو إصابة أو فقد عضو أو شهادة ، شعرت بأن الحياة قدرية والتي يسيرها الله وليس البشر كما يعتقد البعض ولن تكون القمة لأصحاب المراكز الرفيعة ولن يكون القاع من نصيب البسطاء من العاملين أو المغضوب عليهم بسبب العمل من أمثالي.

 

    اليوم التالي أيقظني أبي ليخبرني بأن عمي سمعان يطلبني لمكالمة من مصر بخصوص العمل كخفير!!  ُدهش أبي وأنا مثله فالرجل لا يسمع الكلمات الصحيحة ويحورها وكيف سمع تلك الجملة ولم تتوه عن عقله وأذنه ، نظرت إلي أبي قائلا ًيسمع منك يا عمي سمعان وبالتالي نظر إلي أبي متسائلا إيه حكاية الخفير دية فأجبته هوه يقصد سفير .. ابتسم أبي داعيا لي .. توجهت إلي شقة سمعان وهناك كان المتحدث الأستاذ عوض الذي التقيته بالأمس وأخبرني بأنه لم يستطع السكون والراحة أمس بعد مغادرتي المحطة حتي تم تعييني خفيرا لمزلقان محطة "نكـــلا" التابعة لمحافظة الجيزة ، طلبت منه أن يكون المزلقان متطرفا وبعيدا فأعاد حديثه بأن هذا المزلقان به كل طلباتي وهو يقدر اختياري هذا ويؤيدني وأخبرني بأنه عليّ أن أعوده بعد أيام ثلاثة لتسلم مهام عملي معيدا ومكررا بأن الراتب خمسة جنيهات ، أثنيت علي مجهوده وقدمت له شكري وتقديري وعدت إلي أسرتي وأنا أحسن حالا وكنت أتساءل في المسافة بين شقتنا وشقة عمي سمعان : الله معنا في كل وقت وكل مكان ، لقد علم الله بحاجتي للإبتعاد عن الناس فأوقف لي أولاد الحلال قبل ُمضي أربع وعشرين ساعة علي نهاية عملي بالقوات المسلحة بطريقة مهينة وها أنا أعثر بفضل الله علي عمل يقوم به البشر ولأترك الألقاب والرتب التي أثارت ضيق المصريين جانبا ورغم أنني كنت أحصل علي راتب حوالي 35 جنيها أثناء عملي كضابط إلا أن هذا المبلغ الزهيد سوف أتحايل علي الزمن وأعيش به مثل من شاهدتهم ولديهم أسرة وأبناء.

 

  

 

مزلقـــان نكـــــلا

 

 

 

     توجهت إلي عوض أفندي الذي ساندني في الحصول علي الوظيفة المرموقة! .. استقبلني الرجل باش الوجه واصطحبني إلي المدير العام الذي نهض مصافحا معتذرا عن عدم توفر وظيفة ملائمة لي ورغم هذا أخبرني بأن بابه مفتوح لي دائما وشد علي يدي قائلا ًإحنا إخوات لك يا كابتن وربنا إن شاء الله ح يفك ضيقتك.

 

   بعدها توجهت بصحبة عوض أفندي إلي قسم الحركة وطلبت منه ألا يفشي سري لأحد حتي لا أصبح مثار حديث الآخرين ولنكفي علي الخبر ماجور ، اعتذر الرجل موافقا علي ما قلت وتعهد بهذا أمامي ولكنه أردف بأنه كان يبغي ألا أتعرض لبعض المضايقات من المشرفين والملاحظين ورغم هذا سوف أفي بوعدي وصافحني بعد أن أشار إلي مكتب قسم الحركة فشاهدت بعض العمال أمامه ومن بينهم العاملان اللذين ساهما معي في التعرف علي تلك الوظيفة ونظر إليّ أحدهم متسائلا ً:

 

ـ مش برضة أنت البيه اللي ملأ لنا طلب الوظيفة؟  نفيت هذا فأشار إليه رفيقه بأن دماغه واخده هوي وبيفكر في حاجات خايبه ُمعلقا :

 

ـ إش جاب الغلبان ده للبيه اللي ساعدنا ، إبجي فتح عينك وفرج بين الناس!

 

    ابتسمت وحزنت لهذا القول لأنني نفس الشخص وبنفس ملابسي هي ولكن مستوي الوظيفة أعمي الرجل ووضعني في سلة المساكين ، تنبهت علي صوت غليظ يشير إليّ معنفا:

 

ـ تعالي هنا يا مقمع ومتلمع ثم أمسكني من ملابسي معلقا : ده لبس يناسب الشغل ، جايب يا روح أمك كل اللي علي الحبل ، دفعني من كتفي قائلا ًروح هناك مع ولاد الكلب اللي زيك وإستلم لبس التشريفة ، تلقفني آخر بأن قذف في وجهي بربطة من ملابس السكة الحديد ذات اللون الأخضر وطلب مني أن أبصم أمام اسمي ، رغبت في التوقيع ولكنه اعترض قائلا بلاش فلسفة وفزلكة ابصم يا بجم ، بصمت وشعرت لحظتها بأن عوض أفندي كان ُمحقا فيما قال ولكنني ظللت علي وضعي متكتما طبيعة عملي السابق.

 

     سرنا خلف أحد الملاحظين بداخل فناء بمحطة سكك حديد مصر وبجوار عربات القطار المتهالكة وبداخل مبني ُمعد من الصاج القديم جلسنا أرضا فوق الأرض المتربة التي تغلفها زيوت وشحومات القطارات ، بدأ المشرف بإلقاء الدرس الأول عن طبيعة العمل ، كل جملة يقولها المشرف أو الملاحظ يتبعها بسباب لنا جميعا أو يشير لأحدنا وحين التقدم منه يندفع ُسبابا ولعنا ثم يعقبها بشلوت أو قلم علي قفاه ،  ُكنت في دهشة من هذا التصرف وتأكد لي بما لايدع مجالا للشك بأن كل فقير أو صاحب مهنة بسيطة هذا هو الأسلوب الأمثل للتعامل معه فلم أشاهد أي خطأ اقترفه أحد من هؤلاء البسطاء.

 

    مضت الأيام وأنا أشعر في كل يوم بأنني سوف أقترف جناية مع أحد من هؤلاء المرشدين ليس بسبب تعديه علي شخصي ولكن بسبب إهانة هؤلاء المساكين الباحثين عن لقمة عمل شريفة ، اليوم الأخير انتهت الدورة التدريبية ووقفنا علي هيئة طابور لتسلم الخطابات حيث سيتوجه كل واحد منا إلي مزلقان ُمعين ، مازال السباب واللعن بالأهل هو سيد الموقف ، حين جاء الدور عليّ أشار إلي الموظف الجالس علي ترابيزة قديمة بأن أوقع أمام اسمي بقوله .. ابصم هنا يا روح أمك.

 

     جذبته من ملابسه وبسرعة لكمته لكمتين بوجهه فصرخ واندفعت الدماء من وجهه ، أقبل أعوانه وأتباعه محاولين مساندة زميلهم ، أمسكت بماسورة حديد متوعدا أي أحد منهم من الاقتراب وإلا سوف يكون عقابه عسيرا ، أسرع البعض للإدارة لإخبار المسئول عما حدث فأقبل عوض أفندي مسرعًاً فشاهدني علي هذا الحال ، اقترب مني وطيب خاطري بين صيحات الملاحظين واصطحبني ومعي الخطاب واتجهنا إلي المكتب ، هناك اعتذر لي الرجل وأخبرني بأن كل ما يحدث من تجاوزات بتلك الأماكن نعلم بها ولكن تصرفات العمال المساكين تمنع الإدارة من توقيع الجزاءات حيث ينكر الجميع بأنه تم  إهانتهم أو أخطأوا في حقهم خشية عدم تسلمهم أعمالهم مرددًا " إحنا السبب يا كابتن في كل اللي بيحصل ، تعرف لو في كل مرة واحد زي حضرتك اعترض وقام ضربهم بالجزمة مش ح يتكرر اللي بيحصل لكنها مصيبة الفقراء المصريين من أيام حفر قناة السويس " طلب لي فنجانا من القهوة وبعدها رافقني إلي قطار المناشي طالبا من السائق أن يوصلني إلي قرية نكــلا حيث سأتقلد عملي هناك كخفير مزلقان.

 

    ابتسملي السائق طالبا مني الجلوس في داخل الجرار ، ودعت عوض أفندي فشاهدت بعض زملائي الغفر في الدورة التدريبية حيث صاح أحدهم "الواد عابد" أهه واد جدع والله ، نظر العامل إلي أحد الأجناب فشاهد أحد الملاحظين الذين كالوا لنا الشتائم فتبدل حاله داعيا الله عليّ بأن تيجي ليا مصيبة وهنا أقبل هذا الملاحظ باسما ساخرا ً .. رحت في داهية يا ...... حاولت النزول إليه ولكنه أسرع وهرب من أمامي كالفأر.

 

     بعد مسيرة بالقطار حوالي نصف ساعة أخبرني السائق بأن تلك المحطة هي قرية نكلا ، ودعته هو ومساعده وتوجهت لناظر المحطة الذي كان يجلس يرتدي زي السكك الحديدية المشابه للزي المسلم لي والذي ُكنت أرتديه منذ اليوم التالي للدورة التدريبية ، كان الرجل يرتدي نظارة قراءة ولا يستطيع التمكن من قراءة أحرف الخطابات حيث إن النظارة التي يرتديها خاصة بأحد أبناء القرية والذي مات منذ عامين وكان يحتاج لنظارة فأشار له حلاق القرية بأن نظارة المرحوم .... حلوة ومفيدة ، ومنذ هذا اليوم ظل يرتديها ، تلك المعلومة عرفتها فيما بعد من عم شحاتة زميلي في حراسة المزلقان.

 

    أشار إليّ ناظر المحطة بالجلوس خارج المكتب علي الرصيف وأرسل في طلب عم شحاتة ، شاهدت الرجل مقبلا وعلمت بعدهذا بأنه زميلي في الإشراف علي المزلقان وهذا كان باديا للعيان من زيه المميز المماثل للزي الذي أرتديه ، بعد قليل خرج من مكتب ناظر المحطة وأشار إليّ:

 

ـ هو أنت الواد عابد الملاحظ الجديد؟

 

ـ أنا الواد عابد الملاحظ الجديد!!

 

نهرني الرجل وشعر بأنني مازلت عديم الخبرة بأحوال العمل بالسكة الحديد وسار أمامي وأصبح المرشد والموجه لي ، لم أتوتر أو يصيبني أي ضيق فقد انتهي مستقبلي وعليّ التسليم بما أنا فيه خصوصا أنه اختياري الشخصي ولست مجبرا علي العمل به.

 

    تسلمت عملي والذي ينحصر في غلق المزلقان حين ورود إشارة من محطة التوجيه حتي لا يصطدم القطار بأية عربات نقل أو جرارات زراعية أو مواشي وبغلق المزلقان يعلم الجميع بأن قطارا قادما وبالتالي أقوم برفع سلسلة طويلة تغلق الممر الذي يعبر شريط السكة الحديد.

 

     سارت الأمور بيني وبين عم شحاتة علي أكمل وجه حيث ُكنت أقوم بالعمل نيابة عنه ساعات إضافية فهو متزوج وله خمس بنات وولد وحينما علم بأنني لا أبغي إجازات أسعده هذا وتساءل أين سأنام فأخبرته بجوار المزلقان ولكنه رفض هذا وعرض عليّ النوم بإحدي عربات البضاعة المهملة المخزنة علي الطريق الفرعي ، هكذا أصبح لي عمل وسكن عبارة عن عربة من الحديد حيث كنت أنام أرضا علي كرتونة وبمضي الأيام اشتريت بطانية من مخلفات الجيش التي تباع خلف محطة السكة الحديد بالقاهرة ، كما تشجعت واشتريت وابور جاز وراديو وكنكة لعمل القهوة ، كنت باش الوجه مع الجميع وعلم أهل القرية بأن عابد الملاحظ الجديد للمزلقان من الصعيد وعليه تار ومش بيسافر بلده خوفا من أن يقتله أحد والذى قام بنشر هذا الخبر عم شحاتة حينما ألح عليّ بالأسئلة فأخبرته بهذا مما دفعه للتساؤل بأنني لا أتحدث بلهجة أبناء الصعيد فأخبرته بأن السبب في ذلك يرجع لأنني ولدت بمدينة الإسماعيلية.

 

     كان عم شحاتة يأتي إليّ ببعض الأطعمة من داره وهو طعام بسيط علي قدر حاله وبمضي الأيام توالت علي الأطعمة من بعض سكان القرية من جبنة مملحة ولبن رايب"زبادي" وشوربة نابت أو طبق أرز وعليه بطاطس بالدمعة ، كان الخجل يعتريني من تلك التصرفات وقد أصبحت شحاذا وليس موظفا مهما بهيئة السكك الحديد مما دفعني للاختباء فترات الغذاء حتي لا أحصل علي الطعام ، وأبدلت هذا بعمل وجبات سريعة من البيض بالجبنة أو شراء بعض المأكولات من بقال علي قدر الحال.

 

    كنت أجلس بمنزلي الجميل "عربة قطار البضاعة المتهالكة" أستعيد شريط حياتي السابق مندهشاً لما حدث لي ولم أكتشف أنني أخطأت في أي شئ سوي الهرب من معسكر القوات البحرية ثم ما تلا هذا من الاحتكاك مع قائد الكتيبة الذي كان راغبا في تدمير مستقبلي والقضاء عليه ونجح في هذا ولكنني لن أعطيه الفرصة للنجاح فسوف أظل أعمل وأحيا بعيدًا عن المناصب بدولتنا الفرعونية.

 

      في بعض الأحيان كانت تنتابني بعض المشاعر الفياضة حين يعلم الأهل والأصدقاء عما وصل إليه حالى ولن يظل هذا العمل خافيا حتي النهاية كما أنني لا أبغي الكذب فهذا دليل علي الضعف لكن ما عساه أن يصيب والداي حين يعلمان بهذا الجلل خاصة في أعقاب حرب فاشلة وسوف يرجعه أصحاب الفكر المتخلف والشك بكل شيء إلي أنني هربت أمام الأعداء أو أنني نهبت وسرقت الجيش وتصبح أسرتي في وضع مخز ٍ أمام الجميع خاصة شقيقتي الطالبة الجامعية ولن يتقدم إليها أحد يطلب يدها وإذا تقدم فسوف يحاول أن ينفذ من ثغرة ما حدث لي كي يدمي كرامتها وكبرياءها حين حدوث أية مشكلة بينهما ، لقد أصبحت عائقا ً وليس عائلا ً.

 

     كنت أجلس في مساء أحد الأيام أستمع للراديو وكانت إذاعة صوت العرب تذيع برنامج " ألف سلام" للمذيعة تراجي عباس وفيه يبعث الأشخاص الذين فرقت بينهم الظروف وحرب 67 بسلامات إلي ذويهم ، ذكرني هذا البرنامج بعائلة أبى السعادات حيث كانت الأسرة تركز كل اهتمامها لسماع أي أخبار عن والدهم أو شقيقهم عيد عن طريق الاستماع لهذا البرنامج المهم ، خطر ببالي خاطر بأن أرسل بتحية إلي "رقية" علي هذا البرنامج مثل ما يفعل البعض ، نهضت علي الفور وأضأت اللمبة الجاز وكتبت خطابا قصيرا لإذاعة صوت العرب بتوجيه تحية من عابد إلي خطيبته "رقية" بمدينة الشيخ زويد وسلام عاطر للأسرة.

 

     اليوم التالي ناولت الخطاب للأسطي درويش سائق القطار الملتحي والذي كان دائم التحية والإشارة لي حين المرور من علي المزلقان فابتسم وحمله معه ورفض مجرد الحصول علي ثمن طابع البريد ، ظللت كل مساء أنتظر موعد إذاعة البرنامج دون جدوي ، فقدت الأمل وأثناء جلوسي أمام المزلقان في إحدي النوبات الليلية سمعت التحية التي أرسلت بها إلي رقية ، شعرت بسعادة بالغة ثم إعتراني الضيق بأن الأسرة لم تعد تهتم الآن بسماع هذا البرنامج خاصة أنني طلبت إهداء رقية أغنية فيروز "شايف البحر".

 

***

 

ُرقـــية

 

      جلست عائلة أبى السعادات تتحدث في أمور شتي حتي إذا جاء موعد إذاعة برنامج " ألف سـلام " صمت الجميع إنتظارا لسماع أي أخبار عن أحد من الأحبة سواء من القبيلة أو من خارجها والذين يعيشون بمصر أو بعض البلاد العربية كي يطمئن الأهل عليهم ، قرأت المذيعة سلام عابد إلي خطيبته "رقية" بمدينة الشيخ زويد وإلي أسرتها ويطمئنهم علي حاله وأنه بخير ويعيش بمصر علي أحسن ما يكون طالبا من الله أن يجتمع شملهم للفرحة والزواج وإهداءها أغنية شايف البحر للمطربة فيروز والتي كانت "رقية" تشدو بها كثيرا ، هتفت البنات وصفقن لهذا الخبر وقمن بتقبيل شقيقتهن كما هنأتها أمها وأبوها بهذا أما عن شقيقهم عيد فقد عاد للزقازيق لاستكمال تعليمه الجامعي منذ عدة أشهر.

 

      تركت رقية مجلس الأسرة وصعدت إلي سطح الدار وجلست بالحجرة التي كان عابد يعيش بها وطارت أحلامها مع الحبيب البعيد عن النظر القريب من الفؤاد ، داهمتها الذكريات السعيدة من مشاعر الحب الوردي غير المنظور وشعرت بأنفاس عابد تهفو قريبا من وجهها ، تخدر جسدها وسرحت في خيال لا نهائي مع الحبيب تفكر كيف يعيش وهل مازال يشعر بها أو أن ضوضاء مصر وحركتها المستمرة جعلته ينسي الأيام الجميلة ، كانت تتمني أن ُترسل له بتحيتها ولكن كيف ترسل بخطاب والاحتلال يحيط بكل فرد بسيناء ، خلدت إلي نومها وبعد قليل أقبلت عليها عائشة لتوقظها من أحلام السكرة التي غلفتها بأوراق النرجس الجميلة ورائحته الفتية المنعشة.

 

***

 

قرية نكـــلا

 

    مضت الأيام تلي الأيام عليّ وقد انتظمت حياتي حيث كل خمسة عشر يوما أستقل القطار حتي إمبابة ومن هناك أتحدث مع سمعان أفندي الذي يحضر والدي ووالدتي فيسمعان أخباري وأعيد عليهما ما سبق قوله بأنني أعمل الآن في مهمة مقدسة تحتاج مني كل تركيز حتي لا تحدث كوارث ، كان كلٌ من أبي وأمي يدعوان الله لي بأن أوفق في تلك المهمة المقدسة.

 

     سارت بي الحياة علي أكمل وجه بتلك الإمكانات البسيطة ولم يعد هناك شيء ينغص علي حياتي وشعرت بأن مستقبل حياتي خططه لي القدر بهذا العمل البسيط وتلك الحياة التي علي الهامش ، وإذا قدر الله وانتصرت مصر علي إسرائيل وتم تحرير سيناء فسوف أسرع بالزواج من الحبيبة "رقية" لم يكن يكدر صفو حياتي سوي شعوري بأن أسرة رقية لن تستطيع الانتظار لسنوات طوال حتي أعودهم ، ولهذا كررت الخطابات المرسلة لإذاعة صوت العرب حتي إذا نجح خطاب منها فسوف يصل إلي قلب الحبيبة.

 

     في أحد الأيام وأنا جالس بجانب المزلقان حيث كنت ممدا ساقي وأرتدي حذاء قديما ً دون شراب وقد اتسخت ملابسي نظرا لعدم مقدرتي علي غسلها علي شاطىء الرياح البحيري حيث النساء تملأ المكان ويقمن بغسل الأواني والملابس ثم بعدها تقوم كل واحدة بتلميع ساقيها وكعبيها بحجر حتي يزداد بياضا ولمعانا وبالتالي فإن وجودي في هذا المكان سوف يثير القيل والقال وتحدث لي بعض المشاكل ، أثناء جلوسي هكذا أقبل أحد الضباط مع جنوده وعبروا المزلقان ، كان الضابط برتبة ملازم ونظر إلي باحتقار وازدراء صارخا بي:

 

ـ لم رجلك يا حيوان لما أسيادك يعدوا ، أهلك مش علموك الذوق عشان تقوم تقف وتحترمنا ، عالم حمير

 

     سمعت كلماته والتي وصلت إلي أذني وشعرت بأن حائطا سقط علىّ من أعلي السماء وبسرعة حدثت المقارنة بيني وبين هذا الضابط الصغير ، فالفارق بيني وبينه لا يقل عن ثمانية أعوام عمرا وخدمة بالقوات المسلحة كما أنه يرتدي الملابس النظيفة والمعتني بها وله دخل ووظيفة وقد ارتضي علي نفسه أن يهين ويكيل السباب لمن هم أقل منه ، شعرت بأن الدنيا تلف بي وكدت أسقط مغشيا علي الأرض لولا نفر من أهل القرية شاهدوني فأسرعوا وحملوني وأجلسوني مستندا علي رصيف المحطة وأحدهم جاء بكرتونة يهف بها علي وجهي محاولا إفاقتي بتحريكها كي تحرك الهواء وآخر أحضر "فحل بصل" ودشه وقربه من أنفي حتي أنتبه ، تنبهت متسائلا ً:

 

ـ ليه بيتعمل فينا كده ليه؟ حرام ، هيا الحكاية ناقصة ، أعيني يارب وسقطت مني دموعا غزيرة وقد تساءل البعض عما أصاب الواد عابد غفير المزلجان الجديد وأفاد البعض بأنه أثناء عمله ليلا خرج له عفريت وركبه من ساعتها ، وآخر أفاد قائلا ً: أصل الواد عابد شايف نفسه حبتين وجت له جنية عايزه تتجوزه ولجيته خرع ومش فيه مروه فغضبت عليه.

 

     أقبل عم شحاتة  ُمسرعا ًوإستفسر من الضابط عما اقترفه خفير المزلقان الذي ُعين حديثا وقد أفاده الضابط بأن الخفير كان يجلس مّادا ساقيه للأمام دون احترام للمارة وقد يتسبب هذا في عرقلة البعض بالإضافة أنه شاهدني وأنا ضابط ولم يقم بالواجب عليه من احترام شخصية مثلي ، طيب عم شحاتة من خاطره وتجمع حوله نفر من أهل القرية يكيلون لي كل مساوىء الدنيا وأصبحت أنا المخطىء وهو صاحب الحق الذي يستحق الإعتذار.

 

     رغم سذاجة الاستنتاجات التي تبعث علي الضحك اكتشفت أن البعض منا يشعر بتلذذ في تعذيب وإهانة الآخرين خاصة الضعفاء والفقراء فتشاهد معالم الوجه تتجعد وتظهر به الأخاديد والخطوط وتنطلق من عيونه نظرات الاحتقار والازدراء أما إذا شاهد أحد من علية القوم أو الأغنياء أو أصحاب السلطة فينفرج وجهه عن إبتسامة عريضة تخشي علي فتحته فمه من الاتساع وإصابتها بتمزق والسعادة ُتطل من عينيه وتشاهد لمعة الوجه واحمرار الخدود وتسمع منه عبارات لا تسمعها من عبد إلي سيده في العهود السحيقة وإذا طلب منه أن يقوم بعمل عجين الفلاحة سوف يقوم به ثم يخبزه أيضا وأشاهد البعض منهم مهرولا خلف سيارته والدعاء له بأن لولاه لمات هو وأسرته وأنه الوحيد بالدنيا اللي خيره مغطيه هو وأسرته وأن أكتافه من خيره وإحسانه وكثير من تلك التعبيرات حتي يصل إلي الدعاء المصري الشهير بالروح والدم دون معرفة وظيفة الاثنين وهما الروح والدم.

 

     عبرت تلك المحنة القاسية لأني سوف أقابل مثلها كثيرا ً وتنبهت علي صوت نداء ناظر المحطة الذي طلبني لكنس ونظافة حجرة مكتبه ثم رشها بالماء ، نفذت ما طلبه ثم طلب مني حمل بعض الأغراض إلي منزله ومن بينها شيكارة أرز والتي كانت ثقيلة واستطعت أن أصل بها إلي المنزل منهك القوي مما دفعني للجلوس بجوار باب منزله فأرسلت إليّ زوجته ببعض الطعام المتبقي من الأمس علي حد قولها:

 

ـ خد يا عابد قوت نفسك بطبق الدمعة وشوية الرز دوول ، والله أنت ابن حلال كنت ناويه أرميه للفراخ أصل الطبيخ ده اتعمل من كام يوم !!  

 

Share
Click to listen highlighted text! Powered By GSpeech