Click to listen highlighted text! Powered By GSpeech
Get Adobe Flash player
مستمرين معاكم بإذن الله 2008-2024 **** #لان_لجيشنا_تاريخ_يستحق_أن_يروي **** ***** إنشروا تاريخنا وشاركونا في معركة الوعي **** تابعونا علي قناة اليوتيوب 1100+ فيديو حتي الان **** تابعونا علي صفحات التواصل الاجتماعي** أشتركوا معنا في رحلاتنا لمناطق حرب أكتوبر **** يرجي استخدام خانة البحث **** *** تابعونا علي تليجرام - انستجرام - تويتر

روايه عابد المصري - الحلقه الثامنه

حصريا لاول مره علي الانترنت

بتصريح خاص من الكاتب للمجموعه 73 مؤرخين

لا يجوز اعاده النشر بدون الاشاره للكاتب والموقع كمصدر

عـــابد المصـرى .. رواية

كتبها/أسـامة على الصـادق

.....

الطبعة الأولى .. يوليو 2010

الناشر: الكاتب

.....

تصميم الغلاف:

ريهام سهيل

....

حقوق الطبع محفوظة للكاتب

موبايل:

0127970032

الجـــزء الثاني

رفيق كفاح غير متوقع

 

 

 

 

ُظـلم الانسان

       ُعدت إلي شقتي الصغيرة المتواضعة بحي كوبري القبة فلم أجد أسامة بل وجدت رسالة خطية صغيرة كتبها علي عجل يخبرني فيها بأن الوحدة في طريقها إلي جبهة القتال كما أخبرني بأن قائدًا جديدا تولي القيادة بدلا من القائد السابق والذي أذاق جميع الضباط الظلم والتعسف في كل تصرفاته وقراراته مما أدخل البهجة علي جميع الأفراد كما سعدت لهذا أيضا لأنك يا عابد أكثر من تضرر من ُظلم هذا القائد وسوء إدارته.

      ألقيت بالخطاب جانبا ونظرت للحائط المواجه لي متعجبا من القدر الذي يحركنا ونحن مازلنا نعتقد بأننا نسيطر علي كل شيء ، فالقائد الباغي شديد القسوة أصبح في طي النسيان واكتفت القيادة بأن أوكلت إليه عملا إداريا لن يرضي طموحه ، تذكرت الحكمة التي تقول "إذا دعتك قدرتك علي ُظلم الناس فتذكر قدرة الله عليك".

    خلدت لنوم هادىء مريح وشعرت بأن الأيام المقبلة طيبة ولن يطولني الظلم والبطش الذي تعرضت له دون سبب واضح رغم أنني لن أبرئ نفسي مما قمت به من سوء تصرف مع القادة ولكن النتائج دائما متصلة بالأسباب والبدايات ولهذا فلا يجب أن نضع الإنسان في موقف العجز والظلم ثم نتساءل كيف قام وتصرف بهذا الشكل.

      اليوم التالي نهضت منشرح الصدر وارتديت ملابسي وأصبح عليّ القيمة كما يقول البعض ، ُعدت إلي عملي بأمر مباشر من رئيس الجمهورية ورفع عني الظلم والغبن الصارخ كما حصلت علي كل مستحقاتي وها أنا عائد إلي قيادتي للقيام بالواجب الوطني المنوط بي وقد شاهدت خلال عملي بمزلقان السكة الحديد مقدار التدريب العنيف الذي تقوم به جميع الوحدات بل كان رئيس الجمهورية متابعا لكل صغيرة وكبيرة ، هذه هي القيادة وقد ُدهشت لهذا متسائلا ًطالما الرئيس بتلك القوة والسيطرة فلماذا ترك القوات المسلحة في الفترة السابقة لحرب عام 1967 دون إشراف مباشر؟ لم أعثر علي الإجابة الشافية.

      غادرت المنزل ووقفت علي ناصية الشارع في انتظار السيارة التي سوف تأتي لتقلني إلي الإدارة كما أخبرني الضابط المسئول هناك ، كنت أعتقد أنها سيارة لوري عسكرية كما هو المتبع ولكن بعد قليل أقبلت سيارة جيب حديثة وهبط منها جنديان قاما بتأدية التحية العسكرية لي ليخبراني بأنهما أقبلا ليقلاني إلي القائد ، قفزت إلي داخل السيارة وأنا سعيد ومنشرح الصدر ، بعد أن سارت السيارة في طريقها فوجئت بأنها تسير في اتجاه مخالف لمبني إدارة السلاح ، تساءلت:

ـ أنتم رايحين فين؟ الطريق ده مش بيوصل لإدارة السلاح

أجابني الجندي المرافق بأنه يعلم ذلك ولكن سيادة القائد منتظر حضرتك في مدينة نصر ، أسعدني هذا لأن القائد ينتظر شخصي في مكان عملي الجديد ، توقفت السيارة أمام باب ضخم وأطلق السائق نفيرها فأصابني التوتر حيث إن هذا الباب هو باب السجن الحربي مضرب الأمثال في التعذيب والذل لكل من قاده حظه العاثر إليه ، إستجمعت شجاعتي فقد دخلت السيارة من الباب وأغلقت البوابات ثم توقفت السيارة وهبط منها الجنديان وأسرعا لأحد المكاتب وبعد قليل شاهدت اثنين من ضباط الصف ضخام البنية وأقبلا في اتجاه السيارة وفتح أحدهما بابها بينما الآخر جذبني خارجها بقوة كدت أسقط معها أرضا من شدة قوته ، نظرت إليهما بكل ضيق صارخا بهما:

ـ أنتم عارفين أنا مين وبتعملوا إيه؟

      لم يجب أحد منهما بل اصطحباني كل واحد علي جانب وفي حالة من التكتيف لمنع حركتي وأنا مازلت صارخا بهما ، سرنا بممر علي جانبيه أبنية ولها شبابيك من أعلى يغطيها الحديد ومن داخل تلك العنابر كنت أسمع سبابا موجها للمرافقين لي مع التحذير منهما وأنهما سوف يعتديان عليّ شخص بالضرب المبرح ، كنت في دهشة من كل ما يحدث وما نمي إلي سمعي ، توقف الرجلان وبسرعة تبادلا لكمي وضربي بعنف ، لم أستسلم كعادتي فرددت ضرباتهم بمثلها وأصبح الممر ساحة للقتال بالأيدي يرافقه السباب من كل نوع مع هتافات معادية من داخل عنابر السجن لمن يتولون قيادة هذا المبني اللعين ، كانت صرخاتهم عالية  الصوت لهؤلاء المساجين المتواجدين بالعنابر والذين شاهدوا تلك المعركة وهم مصفقون لي ، أثناء هذا أقبل شخص ثالث وهوي علي جسدي بمطرقة لم أشاهدها وشعرت بأن الظلام حل مكان ضوء الشمس الساطع وسقطت أرضا مرتطما بأرضية الممر الأسمنية وسمعت لغطا وحديثا وأحدهم دفعني بحذائه ركلا في بعض أجزاء من جسدي مع سباب منحط يمثل بيئتهم.

     تبادل الرجال التهنئة علي إنجاز المهمة ، وقفوا في انتظار شخص ما ، كنت أستمع لحديثهم وكل خطوات تحركوها لكن باقي حواسي ضاعت فلا أستطيع الحركة أو التحدث ، بعد قليل سمعت شخصا صوته أشبه بالأصوات التي يسمعها النائم حين يهاجمه كابوس متسائلا ً:

ـ عملتوا إيه في الواد ابن ...... ؟

ـ خلاص يا فندم .. كله تمام .. بينما أجاب آخر باين عليه مات

ـ في ستين داهية .. بس أنا قلت لكم يا ولاد ..... نقطع لسانه بس عشان يبطل كلام .. الأوامر جايه بكده .. إبن ... قاعد في القطر نازل كلام وسباب فينا وفي سعادة الباشا ولي نعمتنا .. خليه يوريني ح يعمل إيه .. طيب يوريني كده ح يروح للريس إزاي ويشتكي له .. اتفو عليك ظابط وسخ

ـ بس كده مات يعني طلعت روحه

ـ في ستين داهيه ..

ـ طيب يا فندم نجيب شوية ميه نرميها عليه يمكن لسه فيه الروح

ـ خساره فيه الميه .. واد يا خربوش طرطر عليه!!"تبول عليه"

   أسمع صوت سقوط قطرات مياه علي الأرض ولم أشعر بها ولكنني شممت رائحة البول ، علق رئيسهم

ـ الله يرحمه .. بسرعة يا رجاله جهزوا الطرد "الطرد يعني لرجال السجن الحربي في هذا الزمان وضع الشخص الذي مات من التعذيب بداخل جوال ودفنه بالصحراء"  ؛ قبل الليل إدفنوا الجتة الرمة بصحراء بلبيس قريب من كلية الطيران وبلاش قريب من المعسكر ؛ لأن الأرض مليانه جتت وسخين زيه واحترسوا من الشرطة العسكرية لتكتشف الجتة ، كل واحد فيكم إجازة 48 ساعة .. قدم الرجال شكرهم إلي المسئول الذي غادر المكان وهو يردد .. ح أشوف مكافأتى ح تكون إيه من الكبار اللي بنخلصهم من وجع القلب ، مازالت الأصوات تتعالي من داخل عنابر السجن سبابا ولعنا لهم ولمن أصدر إليهم تلك الأوامر بينما تحدث الرجال الثلاثة من حولي بحديث يدل بأنهم وضعوا جثتي بداخل الجوال المخصص لمثل تلك الطرود ثم حملوني وألقوا بالشوال علي ظهر اللوري ، مازلت لا أشعر بأي شيء وقد ترك لي الله هذا المسجل البشري حتي أسمع وأعلم بكل شيء يحدث لي.

   ُكنت أغفوا وأستيقظ وأنا مازلت علي حالي هذا وعلمت منهم بأنهم جردوني من ملابسي العسكرية واكتفوا بتركي بملابس الداخلية التي غطتها الدماء ، توقف اللوري وألقوا بي أرضا من فوق اللوري شعرت بأن عظامي تكسرت وآخر استعد لحفر حفرة كي أدفن بها ، توقف الرجل يلتقط أنفاسه متسائلا ً:

ـ مش ده الضابط اللي مركب سنان دهب .. أجابه زميله

ـ أيوه يا سيدي

ـ طيب ما نخلع سنانه الدهب ونستفيد بيها .. الزميل

ـ أيوه .. فكره حلوه ، طيب ح أروح أجيب البنسه من شنطة العده

ـ شعرت بأن أحدهم يفتح فمي عن آخره ثم  ُيخبر زميله بعدم وجود أسنان دهب .. يوضح له زميله

ـ ضابط وح يحط سنان دهب أحمرأو أصفر ، ده حاطط دهب أبيض من الغالي وعشان يبقي لون السنان الطبيعي  

ـ مش عارف أجيب الأبيض ده منين

ـ أبعد أنت وأنا عارف .. أبويا كان حنوتي وقبل دخولي الجيش كنت باشوفه وهو بيقلب الميت بعد ما أهله  يروحوا

شعرت بأن أحدهم يقوم علي فتح فمي عن آخره للمرة الثانية ثم حدث زميله

ـ ايوه أهه .. شفت الضرس الأبيض اللي بيلمع .. ناولني البنسة .. تساءل زميله:

ـ إزاي قادر تفتح حنك الميت دا بيكون صعب لأنه بيكون متخشب

ـ ده لسه ميت طازه ، يعني سخن ولسه مش اتخشب

ـ طيب .. خد يا خربوش وطلعها كلها مش تسيب فتفوته

كنت أشعر بأن الرجل يحرك ضرسى يمينا ويسارا بقوة وبدأت أشعر بآلام وفجأة شعرت بأن قضيبا ساخنا دخل رأسي وسمعت صرختي ونهضت وأنا لا أري إلا قليلا بسبب الكدمات التي كانت تحيط بعيوني ، شاهدت خيال الرجلين يهربان من شدة المفاجأة صارخين عفريت الميت ، سمعت صوت نباح كلاب وبعض الناس تنادي حراميه يا جدعان وأصبحت الأصوات كثيرة وأنا أبكي من شدة الألم صارخا وأشعر بأن حنفية دماء تنفجر من فمي ، بعد قليل شعرت بأياد كثيرة تمتد إليّ ثم تحملني وشعرت بأني أرقد وأسمع أحاديث وكلمات تدل علي أن الله أنقذني والبعض يعمل علي منع النزيف المنبعث من فمي.

     شعرت بكمدات مياه وصوت نسائي يحدثني:

ـ أنت مين يا دلعدي .. رد يا خويا دا ، أنت كنت ح تروح في شربة ميه لكن ربنا وجف ريحك ، بعد قليل سمعت السيدة تسأل أحد الرجال.

ـ جبت الحاجه يا عليش

ـ أهه يا ست جواهر .. والله رحت بلبيس جبتها من الأجزاخانجي وعرفته بأن فيه واد حدانا وجع من فوج وابور الحرت واتعور وحداه ضرس انكسر وبينزف .. مازالت السيدة تقوم بعملها ثم ناولها عليش شيئا ما وقال الابرة دية بعد ما يخدها ح ينام ، شعرت بالأبرة تدفع بداخل ذراعي وشعرت بمن يقوم بتغطية جسدي وبدأت الأصوات تخفت رويدا رويدا حتي تلاشت ورحت في سبات عميق.

     إستيقظت صباح اليوم التالي علي صوت السيدة "جواهر" التي أخبرتني باسمها ، كنت أشاهدها من خلال خيوط الضوء الساقطة علي عيني وبين فواصل الانتفاخات التي غطت جزءًا كبيرًا من وجهي ومن بينها جفوني وشملت العينين ، حاولت أن تدفعني للحديث ولكنني كنت غير قادر علي التحدث أو أن يستمر احد بالحديث معي ، ساعدتني علي الجلوس وقدمت لي طبق طعام وأعتقد أنه فتة لبن بالعيش الفينو مكملة تعليقها كي أستطيع البلع نظرا لما حدث لضرسي الذي ُخلع بعنف فأحدث تقطعا باللثة.

    ُكنت في حالة شديدة من الجوع ورغم هذا تناولت بعضا من الطعام بصعوبة ثم أعدت لها الطبق ، حاولت إقناعي بتناول الطعام فأشرت لها بأنني غير قادر ، حاولت التعرف عليّ ومعرفة اسمي وبلدتي وعملي فلم أستطع أن أجيبها حيث مازلت أشعر بآلام شديدة حين التنفس فقد طالت الضربات الضلوع والحجاب الحاجز.

     كانت "جواهر" تقارب الأربعين عاما من عمرها سيدة بيضاء جميلة ترتدي الكثير من الأساور الذهبية "العيرة" حتي لا يطمع بها أحد محاولا قتلها والحصول علي الذهب كل هذا علمته فيما بعد من المحيطين بها ، ابنة جواهر تدعي "سعدية" وقد حصلت علي البهاء والجمال والأنوثة من أمها ، لم يصل عمرها العشرين عاما كما أقامت جواهر قهوة بلدي بمساعدة زوجها والد ابنتها الأسطي عبدالصمد الذي كان بارعا في الدق علي الطبلة وإخراج نغمات راقصة جميلة كانت تدفع بسعدية لأداء رقصات تشد إليها انتباه الزبائن وغالبيتهم من سائقي اللوارى فكانوا يقبلون علي هذا المكان لتناول الطعام وتناول الشاي وتدخين المعسل المغمس بالحشيش.

    مساء نفس هذا اليوم أقبلت "جواهر" بصحبة شاب مماثل لي في العمر ومعها بعض الملابس الداخلية والخارجية وفهمت بعد هذا بأنها كلفت أحد السائقين بشرائها علي نفقتها ، طلبت من هذا الشاب أن يعمل علي نظافة جسدي من القاذورات خاصة رائحة البول الكامنة في ملابسي منذ أن تبول "خربوش" عليّ لكي يختبر هل أنا مت أو مازالت علي قيد الحياة بعد ما حدث بداخل السجن الحربي.

     كان الشاب هادئا طيبا حزينا علي حالي وقام بعمله بهدوء وبإتقان كأنه يقوم بنظافته الشخصية ثم ألبسني الملابس الداخلية والتي تنبعث منها رائحتها الدالة علي عدم استخدامها قبل ذلك وأعقبها بأن ألبسني  جلبابا طويلا دون ياقة ذا لون رمادي ، أراح بدني ثم أقبل بعد قليل حاملا لي كوبا من الشاي أسعدني رؤيته ورائحته التي غزت أنفي وحمل ملابسي المتسخة وأعتقد أنه ذهب بها إلي "جواهر".

     مازال الشاب جالسا بجواري يحدثني ويطيب من خاطري وعلمت من حديثه أنه يعمل "تباع" علي لوري نقل وهو دائم التردد علي تلك القهوة حيث إنه يعمل مع السائق علي هذا الطريق ، بعد قليل أقبلت سعدية وقامت بإلقاء التحية علي شخصي ولم تسمع مني إجابة فأخبرها التباع بأنه لا يستطيع الحديث مما أصابه لكنه يسمع كل شئ من الانفعالات التي يشاهدها علي وجهي حين التحدث.

     جلست الفتاة أمامي واقتربت مني وأخرجت علبة صغيرة بها مّرهم أو شئ من هذا القبيل وقامت بوضع بعض منه علي الأمكنة المصابة والتي كانت كثيرة ومتفرقة بالجسم ثم ناولت العلبة للتباع قائلة : "خد يا محمود ُحط له مرهم علي باقي جسمه أصل أنا مكسوفة" تركتنا مغادرة المكان فقام محمود بعمله بهدوء كما سبق وهو يدعو الله أن يتم شفائي حين قدومه المرة القادمة بعد عشرة أيام.

    توالت عليّ الرعاية كما توالت زيارات الأسطي عبد الصمد وجواهر وسعدية وبعض زبائن المقهي الذين علموا بما حدث وسمعت البعض منهم يتحدث برغبته بإبلاغ المباحث والبعض رفض هذا ؛ لأن المباحث إذا وضعت عينها علي هذا المكان سوف تعتاد الحضور إليه وعمل كبسات تمنعهم من الحصول علي التعميرة الطيبة التي تسعدهم ، أثناء النهار لم تكن سعدية تكلف بأى عمل خلاف الرقص سوى إعداد الطعام بينما تقوم أمها بإدارة المقهي يعاونها شقيقها "سطوحي" خال سعدية.

      بحكم صغر عمر سعدية كانت راغبة في معرفة الأسباب وراء كل ما حدث لي وبطبيعتها اعتقدت بأن وراء هذا قصة حب قامت بيني وبين زوجة صغيرة فقام أهلها بالانتقام مني ، كانت الفتاة تتحدث بطيبة محاولة دفعي للحديث وأنا أنفي هذا بإشارة من إصبعي وهزة من رأسي.

    بعد عدة أيام بدأت أتحرك قريبا من المقهي أو "الغرزة"  كما قلت مساحة الأورام التي علت وجهي خاصة منطقة العينين فإستطعت الرؤية والابتسام وتناول الطعام ، كل الكلمات التي سمعتها بعد التعدي عليّ بالضرب داخل السجن من المسئول مازالت تطن بأذني "مطلوب قطع لسانه" تبين لي بعد هذا بأنه تم قطع لساني حيث شعرت بأنني لا أستطيع الكلام ، حاولت هذا عدة مرات وأنا بمفردي دون جدوي ، كنت أشير وتخرج من فمي أصوات  "أأ ,, إيأ ,, إباه .. إإدا .. وهكذا وهي تعبيرات ليس لها معني لمن يسمعها وحين تنامي إلي أذني تلك الأصوات هاجمني الحزن والبكاء ، ظللت تلك الليلة أبحث في ذاكرتي عما قمت به من أخطاء ، لم أجد أو أعثر بل أن القادة الكبار من العسكريين والذين ارتكبوا أخطاء ً كبيرة أدت إلي هزيمة الوطن واحتلال جزء مهم من أراضيه لم يحدث لهم ما حدث لي وبفرض أنني تعاملت مع العدو فكان هناك أقصي عقاب وهو الإعدام ، كنت غير قادر علي فهم تلك الأمور وشعرت بأن الله كتب لي خطا من الشقاء وعدم الهناء وليس ما يحدث لي بسبب أخطاء ارتكبتها.

     أصبحت أحد صبيان الغرزة أو القهوة وأصبحت معروفا بين الناس بإشارات أو بكلمة " أأه " فيشير لي أحد الزبائن قائلا وله يا "أأه " ويعقبه الباقي بالضحك ، لم أكن أعترض والبعض منهم قبل مغادرة المكان كان ينفحني بقشيشا بسبب حالتي التي تأثر منها كثير من الزبائن.

     كانت كل حواسي سليمة إلا حاسة النطق وقد علمت أن من قام بضربي فنان في عمله فهو راغب في قطع لساني أي منعي من الحديث والثرثرة مثل ما حدث مع زميلي فتحي بالقطار وسمعني أحد العملاء المتتبعين لما يقوله الشعب المصري فوصل حديثي إلي المسئول الأكبر وأصدر تعليماته إلي زبانية جهنم بالسجن الحربي بالانتقام مني.

 

ظـهور الحقيقـــة

 

    أرسل رئيس فرع شئون الضباط بإدارة السلاح للبحث عني سواء بسكني والذي كان مغلقاً أو بالسؤال لدي أسرتي بالإسكندرية وقد توترت أسرتي لهذا ولكن المندوب كان فصيحا إذا عاد إليهم مرة أخري وأخبرهم بأنه اتصل بقيادته بالقاهرة ليخبرهم بأنني غير موجود بالإسكندرية فعلم بأنني قد وصلت للقيادة وقدم شكره واعتذاره للأسرة ، شعر الضابط رئيس فرع شئون الضباط إنني مازلت غير منضبط وحصلت علي إجازة طويلة وبعد فترة زمنية أبلغ مدير السلاح الذي طلب من الجهات المسئولة بالشرطة العسكرية "التحريات" بالبحث عني في كل مكان بمعاونة رجال المباحث.

***

خـــربوش

    عندما توجه خربوش إلي قائده ليذكره بأنه للآن لم يحصل علي المكافأة التي ُوعده بها حينما قام بمعاونة زميليه بقطع لسان الضابط عابد ، تنبه القائد ومنحه الإجازة  ُمعلقا:

ـ صحيح اتأخرت شهر عن زمايلك لكن ح تخدها .. أنا حقاني ومش بأضيع حق حد .. أنا بيني وبين ربنا عمار بس كل مشكلتي أني بانسي الصلاة" !!!

أسعده حصوله علي المنحة بالإضافة إلي الإجازة وأسرع بالسفر إلي عائلته بالصعيد وهناك بقريته كان سعيداً بتلك الإجازة التي جاوزت الأسبوع في أيامها.

    كان يسير بطرقات القرية سعيدا ًبما قام به حيث كان يرتدي جلباباً أبيض اللون وقد هذب من شاربه وحلق ذقنه وتعطر بعطر من نوع "خمس خمسات" شبراويشي للعطور ، كان يشعر بالسعادة أمام أبناء قريته بل وصل إلي سمعه حديث بعض النساء وهن يتحدثن معلقات " بأن خربوش ولد عبدالمجصود أصبح عليه الجيمه وربنا فتحها عليه بشغله في الديش " ، فجأة شعر بشيء يلقي علي رأسه وله رائحة نفاذة نتنة ، تلونت سحنته وجلبابه الأبيض بألوان من تلك القاذورات والتي سقطت عليه من أعلي ، فقد ألقت إحدي نساء عبده الضبع عتيد الإجرام "بقصرية" ممتلئة بفضلات مريض لديهم من الشباك دون أن تشاهده أو تنبته للمارة ، غطت الفضلات الآدمية جسده ووجهه مما دفعه لأن يكيل السباب والشتائم لأصحاب المنزل ، بعد قليل تنبهه بأن هذا المنزل هو ملك لأحد أرباب السوابق وأنه ُمجرم خطير والذي يعيش ويحيا بالجبل وهو خارج علي القانون وبمساعدة أعوانه يقاوم رجال الأمن ، صمت لفترة صاغرا ًبل أسرع بأن قدم اعتذاره لمن وصل إلي سمعه السباب وأخبره أحدهم لولا اعتذارك لكان لسانك قد ُقطع تلك الليلة!!

   عاد إلي منزله واغتسل بمعاونة زوجته ومازال منظره وهو مغلف بفضلات إنسان مريض تدفعه إلي القرف والرغبة بالقيئ ثم تذكر كلمة قطع اللسان تلك وعاد فكره إلي شهر مضي فقد تجرأ وتبول علي إنسان فأرسل الله إليه بمن أذاقه وبال ما فعله وتجرأه وإعتداؤه علي إنسان ضربا وكاد أن ُيقطع لسانه ، توتر ونام تلك الليلة بائسا ولكنه إستيقظت منتصف الليل علي دقات شديدة علي باب داره وعلم أن القادم هو "عبده الضبع" الذي سب أهله ظهر اليوم ، خشي ما سوف يحدث له وفر هاربا من الشباك الجانبي فتبعه عدد من المجرمين شاهرين السيوف والخناجر ، ظل يعدو بأقصي سرعة بين حواري القرية الضيقة المظلمة المتربة وأثناء ذلك لم ينتبه فاصطدم بعربة كارو تقف في الظلام فسقط جريحا فترك المطاردون الخارجون علي القانون مطاردته وتجمع الناس من حوله وحملوه والدماء مازالت تنزف من جسده وفمه وعلم بعدها بأنه فقد أسنانه الأمامية "القواطع" وأصبح بالتعبير البلدي "أطرم".

     قطع إجازته حيث كان جسده ينتفض حين تذكره للضابط الذي عاون في قتله وكسر ضرس له وشاهده ليلا صارخا والدماء الغزيرة تنزف من فمه ، وصل إلي القاهرة واتجه علي الفور إلي إدارة الشرطة العسكرية وأدلي باعترافات تفصيلية ومازالت الدماء تنزف منه ، ألقي القبض عليه كما أرسلت الإدارة بعض مجموعات من رجال التحريات بالمنطقة لمحاولة حل اللغز ومعرفة مصير الضابط المفقود والذي أبلغهم عن مكان دفنه.

***

عـــابد

     ُكنت أتجول بين السائقين والتباعين أقدم لهم الشاي أو الجوزة بينما "سعدية" ترقص أمامهم بمنتهي البراعة وكان رقصها يثير غرائز الرجال ، ُكنت دائم التوقع بأن تهاجم هذا المكان مباحث المخدرات ومن المتعارف عليه أن صحراء بلبيس تعتبر من أحد أهم منافذ تهريب المخدرات إلي داخل مصر منذ قديم الزمن وحتي الآن.

    شعرت "سعدية" بأني شاب أرقي حالا ًممن حولها سواء في سلوكي أو أثناء تناول الطعام رغم أنني لم أحادثها بكلمة واحدة ولكن من تصرفاتي أمامها وابتسامتي لها من حين لآخر فدفعها هذا لمحاولة التقرب مني ، مازلت أفكر هل من الواجب عليّ أن أتوجه وأبلغ السلطات بما حدث لي ولكنني مازلت أخشي عاقبة من ينتظرني فلم أكن أعلم بأن هناك مجرمين آخرين يختفون خلف مكاتبهم ومناصبهم الرفيعة ولا يخجلون من أن يقفوا أمام رتبة صغيرة ويتجرءون علي فعل ما حدث من تعد علي شخصي كاد أن يؤدي بي إلي الموت.

***

      بمعاونة خربوش الذي صاحب رجال التحريات العسكرية استطاعوا تحديد موقع الحدث الذي أودي بحياة عابد ، إنتشر الرجال الملثمون بالمنطقة وهم يرتدون ملابس مشابهة كسائقين وعمال وبدو وتوالت المعلومات علي قيادتهم والتي تفيد بأنه منذ أكثر من شهر َسمع البعض صرخات مؤلمة لشاب يتعذب أثناء الليل ، البعض أنهي معلوماته عند هذا الحد والبعض أزاد وأضاف والبعض أفاد بأنه علم بأن جواهر الغازية احتفظت بهذا الشاب.

 أصبح الهدف المحدد أمامهم هي ُغرزة جواهر الغازية ، توجه الرجال إلي هناك وهم يقودون سيارة نقل تحمل بعض الأجولة ، اقتربت منهم جواهر ترحب بهم وهي تتفحص وجوههم ، شعرت جواهر بأن هؤلاء الرجال من المباحث فلم تشاهدهم قبل هذا وهم يتلفتون ينظرون بكل مكان كأنهم يبحثون عن شخص ما ، بشجاعتها فضحت موقفهم طالبة منهم مغادرة المكان وإلا سوف تصرخ طالبة عون زبائنها الذين سوف يقتلونكم في الحال ، تحدث أحد رجال التحريات محذرا جواهر من أي تصرف أهوج سوف تدفع حياتها وحياة أسرتها نظير هذا وأخبرها بأن كل ما نريده هو الشاب عابد.

    نظرت إليهم بدهشة وهي تنفي وجود شاب لديها بهذا الاسم ، أعاد الرجل تحذيره موضحا بأن جميع من بالمنطقة يعلمون بأنكِ احتفظت بالشاب عابد بعد الحادثة التي وقعت له منذ أكثر من شهر ، تنبهت جواهر محاولة تفهم الشخصية التي يبحثون عنها حيث قالت:

ـ جصدكم الواد "أأه" ، تبادل الرجال النظرات وأشار أحدهم بأنه هو ، صاحت جواهر تنادي شقيقها سطوحي طالبة منه إرسال الواد "أأه" للزباين دوول.

     بعد قليل أقبل "أأه" في اتجاه رجال التحريات العسكرية وتأكد لهم بأنه النقيب عابد والذين حصلوا علي صورته من ملف إدارة شئون الضباط .

***

رحب بي أحدهم وسألني بصوت خفيض

ـ أنت عابد؟

أصابني التوتر ورحت أصرخ بصراخ الــُبكم وأعود للخلف وأشير بيدي بأن ابتعدوا عني مما دفع بجواهر للصراخ وهذا أشعل الموقف أكثر حيث كان الزبائن يشاهدونني وأنا أسرع بالهرب خشية هؤلاء الرجال ، حاول الزبائن التعدي علي رجال التحريات ولكنهم أشهروا الأسلحة في الوجوه فخشي الزبائن وعلموا بأن هؤلاء رجال إحدي العصابات المنتشرة بالصحراء.

    تسلل رجال التحريات وفتشوا المكان حتي عثروا عليّ حيث  ُكنت أستغيث باكيا لأن صوتي لا أسمعه ولا أستطيع أن أعبر عن خوفي من هؤلاء الرجال أتباع السجن الحربي أو البيه صاحب الرتبة الكبيرة الذي أمر بقطع لساني وقد أرسلهم للمرة الثانية لقطع رقبتي ، تجمع رجال التحريات حولي والبعض مازال ُيشهر سلاحه في وجوه الزبائن وهنا أظهر قائد المجموعة تحقيق الشخصية العسكرية الخاص به فهدأ هذا من روعي حيث أخبرني بأنهم أتوا لإنقاذي بعد أن تم إلقاء القبض علي خربوش وباقي العصابة.

     أخيرا تهلل وجهي وهنا قام رجال التحريات التابعون للشرطة العسكرية بتأدية التحية العسكرية لي أي للنقيب عابد حيث أن جميعهم أقل مني رتبة ودرجة ، صافحت من عاونني بينما كانت الدهشة تعلو الوجوه ما بين الدهشة والفرحة حيث انطلقت الزغاريد وأقبلت "سعدية" ترحب بي بطريقتها محاولة معانقتي بين صفير وصيحات السائقين وحدثتني بأذني قائلة:

ـ"كنت حاسه أنك حاجه كبيرة لكنك رحت مني".

اتصل رجال التحريات لاسلكيا ًفأقبلت عدة سيارات جيب عسكرية وركبت إحداها وقبل أن أغادر المكان أقبلت جواهر تحدثنى بصوت عال:

ـ "خلاص يا خويا ، كل حاجه اتعرفت ما تتكلم بقي عايزه أسمع صوتك!!"

    ابتسمت لها وأشرت إلي فمي بأنني لا أستطيع الكلام ، شاهدت جواهر وهي تضرب بيدها اليمني علي صدرها مكررة:

ـ "اخرس ، يالهوي ُكنتِ يا سعدية ح تتجوزي أخرس"

انطلقت السيارات من أمام القهوة بين التصفيق والدهشة من جواهر والبكاء من سعدية التي بدأت قصة حب فى سن المراهقة وكانت في منتصف الطريق ولكن أحلامها ذهبت هباء.

     وصلت إلي إحدي المستشفيات العسكرية بالقاهرة برفقة رجال التحريات العسكرية وهناك التف العديد من الأطباء حولي واستبدلت ملابس الجلباب البلدي إلي البيجامة مع استبدال جميع ملابسي الداخلية ونظافة بدني علي عجل ، أجلسوني علي كرسي متحرك ودفعوا بي من قسم إلي آخر خاصة أقسام الأشعة المختلفة والتحاليل المتنوعة ، بعد ُمضي يومين علي وجودى بالمستشفي التف حولي العديد من ضباط الأجهزة المختلفة بالإضافة إلي مندوب من إدارة السلاح كما تواجد رجال النيابة العسكرية الذين وجدوا صعوبة في الحصول علي أقوالي حتي خبير الصم والبكم لم يستطع تفهم إشارتي ؛ حيث أخبرهم بأنني لم أولد بهذا الوضع لذا فإشارتي مثل إشارات إنسان طبيعي يسمع ويتكلم ولهذا طلب مني ممثل النيابة العسكرية الإجابة كتابة علي كل سؤال مما سهل عليهم وعليّ إجابة الأسئلة التي كانت مطابقة لما رواه لهم الشاويش خربوش مع بعض إضافة منه لم أكن أعلمها عن من وشي بي أو طلب قطع لساني كما أنني استكملت باقي الإجابات عما حدث لي بعد نزع ضرسي وهروب خربوش وزميله ثم التفاف هؤلاء الناس الطيبين من حولي والعمل علي علاجي علي قدر طاقتهم المادية وثقافتهم الصحية.

     كان السؤال المهم هو لماذا لم أبادر بإبلاغ المسئولين عما حدث لي بعد أن تنبهت ووعيت ما حولي فكانت إجابتي لهم صادمة حين أبلغتهم خوفي بأن البعض يتعقبني بعد أن وصلت شكواي إلي رئيس الجمهورية مما دفعهم إلي الاعتقاد بأن هناك أصابع خفية راغبة بأن يظل الوضع السابق علي حاله وأن كل فرد يتجرأ ويرفع شكوي أو مظلمة سوف تصبح نهايته القتل أو عاهة مستديمة حتي يصبح عبرة للآخرين.

    بقسم الأذن والحنجرة أفاد رئيس القسم بأن كل الأجهزة الخاصة بالتخاطب سليمة ، ولهذا أمر بعرضي علي قسم المخ والأعصاب ، بداخل هذا القسم أجمع الأطباء بأن فقدي للنطق ناتج من صدمة عصبية أثرت علي هذا الجزء حيث كان هو الجزء الفاعل في الصياح وطلب النجدة وأن الله كان لطيفا بي فكان من الممكن أن يصاب عضو آخر أشد أهمية ونتيجته فقدي للحياة أو شلل ، كانت التوصية لأطباء هذا القسم بأن حالتي ليس لها علاج عضوي وأنه من المحتمل إذا تعرضت لصدمة عصبية مماثلة أن أتعافي.

       سخرت في نفسي من رأي الطبيب وتساءلت هل أنا قادر علي مواجهة صدمة عصبية أخري؟ هل يجب عليّ أن أظل أترنح تحت ضربات القدر والبشر حتي أشفي؟ الأفضل أن تنتهي حياتي بدلا من تلك الدوامة التي مضي عليها عشرون شهرا منذ بداية حرب عام 1967.

***

     في قيادة السلاح طلب نائب القائد العميد ... لقاء المقدم فوزي قائدي السابق وأخبره بآخر معلومات وصلت إليهم عن نشاط العدو في جنوب سيناء والتي تفيد بأن الإسرائيليين يعدون العدة لبناء قاعدة ضخمة يمكنهم منها إطلاق صواريخ أرض أرض متوسطة المدي تغلق خليج السويس قريبا من الميناء حتي تمنع مصر من استغلال هذا الميناء كما أنه من الممكن ضرب منشأة السد العالي الذي أوشك علي الانتهاء لتحرم مصر من الاستفادة بهذا الإنشاء الهندسي الرائع الذي سوف ُيفيد الاقتصاد المصري والذي تكلف مئات الملايين من الدولارات والذي كان السبب الرئيسي لتأميم مصر لقناة السويس.

     أفاد المقدم فوزي بأن هذا العمل خطير للغاية ولابد من الحصول علي كل المعلومات المطلوبة عنه ولهذا سأله الضابط المسئول عن تلك العملية ومن ترشحهم من الضباط الأكفاء للقيام بهذا العمل حيث لك الكثير من الخبرات بالعمل بسيناء قبل أن يوكل لك العمل الحالي والبعيد عن تلك المنطقة ، كانت إجابة المقدم فوزي بأن أفضل ضابط لهذا العمل هو النقيب عابد المصري لما يتميز به من خبرات وذكاء وُحسن تصرف وقدرة علي تصوير المواقع ذهنيا بل لجودته ودقته في عمل رسم توضيحي لمثل تلك الإنشاءات كما أنه قليل الكلام يسمع أكثر مما يتحدث ولن يتحدث إلا إذا كان يرغب بالتوضيح أو لم يقتنع ولهذا فسوف تلاحظ سيادتك بأنه ينظر إليك حين تتحدث ويحرك رأسه كأنه متفهم لكل شئ ويتركك دون حديث وقد اختبرته أثناء عمله معي بالقطاع وكان بارزا في هذا النشاط ثم أكمل حديثه بأنه علم بأنه يعالج حاليا بالمستشفي بعد عودته من سيناء بعد معاناة وصعاب لا مثيل لها وأنه من الممكن أن أتدارس معه هذا الأمر.

     شكره القائد وأخبره بأنه سوف يتولي هذا الأمر وعليه العودة إلي عمله المكلف به وأن طائرته سوف تقلع بعد أربع ساعات شاكرا سرعة الاستجابة حين استدعاه من المهمة الخطيرة التي كان يقوم بها لصالح الوطن بإحدي الدول الإفريقية ، غادر المقدم فوزي مكتب القائد متجها إلي منزله وجلس مع أسرته بعض الوقت وأثناء ذلك حاول الاتصال بالمستشفي وأخبره المرافق بأن النقيب عابد مازال تحت العلاج والملاحظة ولا يستطيع الحديث.

    مضت الأمور علي ما يرام وتحسنت حالتي الصحية وغادرت المستشفي وقد منحني الطبيب إجازة ثلاثة أيام ُكنت غير راض عنها فكيف أتجه لأسرتي بالإسكندرية وأنا فاقدا للنطق ، توجهت إلي شقتي بحدائق القبة وقضيت تلك الأيام بها وخلالها كتبت خطابا لأسرتي ذاكرا بعض الأحداث التي حدثت بالوطن خلال الأيام السابقة حتي تعلم أنني مازلت حيا أرزق ثم أتبعته بخطاب لإذاعة صوت العرب وبرنامج ألف سلام أرسل فيه بالتحية والتقدير لخطيبتي الآنسة "رقية" وأهديتها أغنية أعطني الناي وغني للمطربة فيروز.

    حين مغادرتي الشقة والتوجه لشراء طعام أو شراب كان بعض الجيران الذين يلتقون بي يصافحونني مهنئين لي علي أجازتي وأنا أبتسم لهم مصافحا دون حديث ، اليوم التالي توجهت لأداء صلاة الجمعة وبعد الصلاة التقي بي بعض الجيران يتحدثون معي وألقوا عليّ بعض الأسئلة وأنا مازلت علي حالي بتحريك رأسي والابتسام مما دفع بأحدهم وهو رجل كبير العمر يماثل عمر أبي وله من التقدير والاحترام لدي الجميع بأن استنكر ردة فعلي طالبا مني احترام الآخرين والإجابة علي تساؤلاتهم دون الحركة فقط ، أشرت له بإصبعي بداخل فمي بأنني لا أستطيع الحديث لحالة إصابة بجبهة القتال ، اعتذر الرجل واحتضنني هو ومن معه والبعض منهم سقطت منه بعض دموع التأثر.

     ُعدت إلي شقتي وأنا مازلت في حالة من الوجوم والحزن فها أنا أجابه الناس لأول مرة وقد أصبحت ابكم ولا أستطيع التعبير عما يدور بفكري وأخشي الإشارة فالكل يعلم بأنني إنسان سليم وكنت أثير المشاكل والأحاديث والضحكات فكيف أصبحت هكذا؟

    كان الحزن ينتابني من حين لآخر كلما تذكرت حالتي ، الآن أصبحت مثل الحيوان الأعجم أتفوه بتعبيرات قصيرة غير مفهومة وأنا في حالة من الضيق لمحاولة توضيح من يحدثني بإجابتي وبكلماتي فيزداد حزني لردة الفعل خاصة حين يعتقد البعض بأنني أتعالي علي الناس ، شعرت بأن تلك نهايتي مثل ما اعتراني هذا الشعور مرات عدة سواء في بداية الانسحاب وقد لقي كلُ من الصديقين "فاروق وَسلمان" حتفهما وأصبحت بالقارب مصابا أنزف الدماء وطيور النورس البحرية راغبة في افتراسي ، ثم هاجمني نفس الشعور وأنا جالس أرضا أمام مزلقان قرية "نكــلا" وأعمل خفيرا وأشاهد الزملاء يتحركون أمامي بملابسهم العسكرية بصحبة جنودهم ، ثم أثناء عملي قهوجي بغرزة  جواهر ، لقد كتب عليّ أن أظل  حقل تجارب أو كبش فداء لمن لا أعلم عنهم شيئا ، طفرت الدموع الغزيرة من عيني وأنا جالس بالظلام لا أستطيع مناجاة الله إلا بداخلي حيث ُحرمت من سماع صوتي منذ أكثر من شهر مضي ، كانت دموعي مؤلمة مع تشنجات تصدر مني يصاحبها أصوات مخالفة لأصوات البشر المعافين فهي أشبه بصيحات مثل الكلاب أو الذئاب.

    صباح اليوم التالي سمعت جرس الباب فنهضت وفتحته وكان القادم ُمحصل الكهرباء الذي حادثني طالبا مني دفع الفواتير المتأخرة علي الشقة ، ناولته المتأخرات التي طلبها ثم وجه إليّ بعض الأسئلة وحينما عجزت عن الرد وأشرت له بيدي اندفع الرجل صائحا ً:

ـ "يخرب بيت أهلك .. هو أنت أخرس .. ما فيش حد هنا أكلمه ، أنا مش عارف الحكومة سايبه الناس ولاد الكلب الخرس والــُعمي في البلد ليه .. المفروض تلمهم وتموتهم" كان الرجل يتحدث بحرية حيث يعلم أن الأخرس لا يسمع ولكن الأخرس الذي كان يقف أمامه يسمع ويعي كل شئ ، عصفت كلماته البذيئة بكياني الجريح ، أشار إليّ مغادرا وهو يشير بيده قائلا ً": روح يخرب بيت أهلك".

     ُعدت إلي داخل الشقة وعلمت ما هو في انتظاري في تعاملي مع الناس ، جلست أفكر في الحل الأمثل لحالي وبعد جهد شعرت بأن حياتي توقفت مع بني البشر وعليّ الابتعاد والتعامل مع الــُبكم من أمثالي وهم الحيوانات ، يجب عليّ أن أعيش وأحيا مع الحمير والخرفان والكلاب ، شعرت براحة لهذا الحل فتلك المخلوقات لن تسيئ إلي شخصي بكلمة ، فإذا تحدثت مع الماعز أو الخراف فسوف أسمع مأمأة وإذا حدثتهم فسوف تخرج مني كلمات دون معني مثل "أأأ .. أه أو أبا أباه" ولن يحتقرني أحد منهم.

    حوالي العاشرة صباحا وبعد مغادرة سليط اللسان محصل الكهرباء أقبل أحد الجنود وطرق الباب ففتحت له فأدي لي التحية العسكرية وأخبرني بأنه أقبل ليقلني حيث ينتطرني المقدم ... بالادارة ، رافقته دون خوف أو وجل حيث كانت الأخبار قد وصلت إلي سمعي بأن النيابة العسكرية ألقت القبض علي كل المسئولين بالسجن الحربي وأطلقت سراح السجناء بناء علي تعليمات عليا من الرئيس واستضافت هؤلاء المجرمين بدلا منهم وبدأت حياة جديدة أمام هذا المبني الذي شاهد وعاصر عذاب الألاف وشاهد مقتل الكثير أثناء حالات التعذيب وبدأت أسرار أفعالهم المخجلة تتكشف وبدأ بالبحث عن جثث الكثير من الضحايا من أمثالي بل مدنيين ألقي القبض عليهم وعذبوا وشردت عائلاتهم.

   وصلت إلي مبني الإدارة الذي دخلته لأول مرة وأنا شاب يافع وكلي نشاط وقلب نابض يعشق الوطن ولا يضمر الكره لأحد بينما في هذه المرة بعد ُُمضي سبعة أعوام وقد أصبحت أحمل كرها ضد كل القيادات وأصبحت أبكم بفضل هؤلاء الذين كنت مع الآلاف غيري ندافع عن مكاتبهم المريحة بالقاهرة ، لقد َعذب أصحاب الأيادي الناعمة أبناء الخشونة والحياة الصعبة بجبال وصحراء سيناء ، لقد حصدوا كل ميزة وخير ومكافآت بينما من تبقي منا علي قيد الحياة حصد الألم ونزف الدماء وانتهكت آدميته ، أين العادل؟ أليس أنت الله العادل الحق؟ لماذا لا تنتقم من عبيدك المفسدين؟ .. سمعت صوت الجندي:

ـ وصلنا يا فندم ، اتفضل علي مكتب سيادة المقدم ... أشرت للجندي بعلامة التحية والشكر بيدي .. سرت بطرقات المبني الفخم الأثري وكل من يلقاني الأقل مني رتبة يؤدي لي التحية العسكرية وكنت أبادلهم بمثلها فهي بعيدة عن منطق البكم.

    بالمكتب نهض المقدم .... ُمرحبا بي ..... حمد لله بالسلامة ، إتفضل ، هيييه تشرب شاي والا قهوة؟ لم اجبه مما دفعه بأن ينادي الجندي المراسلة:

ـ اتنين قهوة يا خليل مظبوط ليا ولسيادة النقيب ، هيه ... قول لي علي اللي حصل من ولاد الملاعين بتوع السجن الحربي ، آه لو شفتهم دلوقتي ، حالتهم تصعب علي الكافر ، مش بترد ليه يا عابد؟ أنت لسه زعلان من اللي عملته معاك بعد ما رجعت من قبرص؟ أنت عارف أن الجيش أوامر ، المهم المقدم فوزي باعت لك سلام كبير " بدت السعادة علي وجهي وابتسمت وأسرعت بالإجابة:

ـ "  أأأ .. أه .. إده .. أفه" لم أنتبه لحالي ولكن الرجل صمت وتوقف عن الحديث وتبدلت سحنته وخاطبني بضيق:

ـ إيه اللي بتعمله ده؟ مش عايز تكبر وتتحمل مسئولية؟ أنت حر .. قوم اتفضل معايا علي سيادة العميد.... أنا غلطان أني بأتكلم مع ظابط مشاغب زيك ، أنا عارفك .. ملكشي كبير .. ورايا.

     نهض المقدم ... وأنا أتبعه وكان الغضب مازال هو سيد الموقف .. أمام باب مكتب العميد ..... طرق الباب مستأذنا بالدخول فسمع الأمر من الداخل .. تعالي يا ...

ـ النقيب عابد معايا يا فندم .. "سمعت عبارات الترحيب المشجعة التي تحدث بها سيادة العميد ......" أصبحت بداخل المكتب .. نهض العميد وترك المكتب وتقدم إلي منتصف الحجرة مصافحا لي طالبا من المقدم .... أن ينصرف لمكتبه لأنه راغب بالحديث معي منفردا .. ترك االمكتب وهو مازال ينظر لي بكل ضيق وأعقب هذا قائلا ً:

ـ حاضر يا فندم .. تحرك مؤديا التحية العسكرية.

 

 

Share
Click to listen highlighted text! Powered By GSpeech