Click to listen highlighted text! Powered By GSpeech
Get Adobe Flash player
مستمرين معاكم بإذن الله 2008-2024 **** #لان_لجيشنا_تاريخ_يستحق_أن_يروي **** ***** إنشروا تاريخنا وشاركونا في معركة الوعي **** تابعونا علي قناة اليوتيوب 1100+ فيديو حتي الان **** تابعونا علي صفحات التواصل الاجتماعي** أشتركوا معنا في رحلاتنا لمناطق حرب أكتوبر **** يرجي استخدام خانة البحث **** *** تابعونا علي تليجرام - انستجرام - تويتر

روايه عابد المصري - الحلقه التاسعه

حصريا لاول مره علي الانترنت

بتصريح خاص من الكاتب للمجموعه 73 مؤرخين

لا يجوز اعاده النشر بدون الاشاره للكاتب والموقع كمصدر

عـــابد المصـرى .. رواية

كتبها/أسـامة على الصـادق

.....

الطبعة الأولى .. يوليو 2010

الناشر: الكاتب

.....

تصميم الغلاف:

ريهام سهيل

....

حقوق الطبع محفوظة للكاتب

موبايل: 0127970032

التكليف بالمهمة

 

   ألف حمدلله بالسلامة يا عابد .. الحقيقة  ُسمعتك حلوة خالص وطبعا الملف بتاعك منور بقرار سيادة الرئيس بعودتك للخدمة .. دي شهادة يعتز بيها كل واحد .. المهم أنا طلبتك عشان أطمئن علي حالتك الصحية كمان أعرفك بأن فيه مهمة مستعجلة مطلوب لها واحد عنده خبرة وجدع والحقيقة المقدم فوزي هو اللي رشحك للمهمة دية .. أنا مش ح أطول عليك لكن من بكره ح تنضم لقوات الصاعقة وهناك ح يدربوك إزاي تتعامل مع كلاب الحرب "ظهرت البسمة علي وجهي فسوف أعمل مع أحبابي من الــُبـكم " ، اتفضل أنت دلوقتي وكل حاجه ح يقوم بيها سيادة المقدم .... نهضت وأديت التحية العسكرية وسمعت سيادة العميد متحدثا .. لو فيه اتنين زيك يا عابد!!

    كنت أسير بالممر الواصل بين مكتب سيادة العميد والمقدم .... وأنا في دهشة من تكليفي بعمل مهم رغم أن الأطباء أكدوا علي حتمية تسلمي عملا إداريا بعيدا عن التعامل المباشر مع الناس وأن يتم التفاهم معي كتابة حتي أتعافي مما ألم بي ، لقد عثرت علي الفرصة السانحة فسيادة العميد عثر علي العمل المناسب لي لكي أعمل مع غير البشر ، إنهم الحيوانات وسوف أعمل مع كلاب الحرب ، ح تحلو وأسمع الهوهوه وهما ح يسمعوا مني أأ أه .. أده .. إباه

     طرقت باب مكتب سيادة المقدم الذي نهض مصافحا لي وأشار لي وهو ممسك بتقرير المستشفي الذي وصله منذ دقائق واحتضنني معتذرا عما بدر منه من سوء الظن وقد غطت الدموع عيناه ، جلس أمامي يحدثني بهدوء كأنه يحادث

 

طفلا ًصغيرا يتعلم القراءة والكتابة حيث كان يضغط علي الحروف ويتحدث بمط الأحرف ، رن جرس التليفون وكان المتحدث العميد ... حاول المقدم أن يوضح للعميد بعض فقرات التقرير ولكن الرجل أخبره بأنه يعلم كل شيء يخص الحالة الصحية للنقيب عابد ، أعاد المقدم حديثه:

ـ يا فندم ده مش بيكلم

ـ أنا عارف ودي من أهم صفات رجال المخابرات .. التكتم ده شيء مهم

ـ يا فندم

ـ مش معقول يا سيادة المقدم ...... نفذ الأمر بسرعة واعمل علي راحته

نظر اليّ وهو مازال ممسكا بالتقرير النهائي للمستشفي والذي يقع في نصف صفحة صارخا

ـ العالم دي مش بتفهم .. أعمل إيه؟

توتر لهذا وأثناء حنقه وضيقه طبق التقرير بيده علي هيئة كوره صغيره ووضعها بجانبه ثم أكمل اتصاله مع قيادة قوات الصاعقة وطلب من وحدة النقل التابعة للإدارة تجهيز سيارة لوري لتظل مع النقيب عابد وبعض الأشياء الإدارية .. ثم نظر إليّ قائلا ً:

ـ الجيش بيقول نفذ وابقي اتظلم!!!

أقبل أحد ضباط الصف العاملين بمكتب شئون الضباط وسلم المقدم نص الخطاب الموجه لقوات الصاعقة فوقعه وختمه بالختم وسلمه لي مصافحا داعيا لي بالتوفيق.

     ركبت اللوري والسائق يعلم إلي أين نتجه ، ظللت أستعيد الدقائق الماضية وأنا في دهشة من أمري والسعادة تغمرني بأن سيادة العميد عثر لي علي عمل يناسب حالتي ، عاودني الجزع فهذا معناه أنني سوف أظل أبكم باقي حياتي ، لكن بعض الهدوء فرد شراع الأمان علي نفسي الحزينة حيث تذكرت بأن الكثير من الشباب فقدوا عضوا أو أكثر من أجسادهم أما فقد النطق فلا يقارن بما فقده هؤلاء الرجال مستعيدا الحكمة التي تقول "إن السكوت من ذهب" ، بعدها أصابتني رجفة فقد تذكرت ما حدث لي من جراء الذهب وفقدي لأحد ضروسي حيث اعتقد خربوش أنها من الذهب الأبيض.

    وصلت إلي قيادة وحدات الصاعقة ولاحظت سرعة تنفيذ الأوامر والعمل هناك يسير بسهولة ويسر ولا يعقدون في العمل مثل وحدات المشاة ، تسلم مني أحد المعاونين الخطاب ثم رافقني لمكان الاستراحة ووجدت أنه قد أعد جدولا بالمواعيد الخاصة بي سواء للتدريب أو للراحة أو توقيتات تناول الطعام ومكان كل نشاط وإسم قائد كتيبة كلاب الحرب كما ذكر اسم الصف ضابط المرافق لي أثناء هذا التدريب حتي نهاية الأسبوع حتي الانتهاء من التدريبات بعدها سوف أغادر المكان عائدا لوحدتي مشفوعا بتقرير ، اعتقدت بأن الرجل يعلم بحالتي الصحية ولهذا لم يتبادل معي أي حديث مما أسعدني حتي لا يعاودني الإحراج مرة أخري.

     عصر هذا اليوم كان اللقاء الأول بالرائد ... قائد وحدة كلاب الحرب الذي تدرب لمدة عامين بألمانيا علي هذا النوع من النشاط العسكري الخطير وقد عاد من ألمانيا برفقة فصيلة من تلك الكلاب التي تناسلت وأنتجت جيلين حتي الآن ، كان الرجل محترفا في عمله يعاونه اثنان من الأطباء البيطريين العسكريين وبعض ضباط الصف والجنود.

     توجهت برفقته إلي المبني المخصص لتلك الكلاب وشاهدت تلك الحيوانات المخيفة في حجمها وشراستها وقد فتحت أفواهها راغبة في افتراس أي غريب .. شاهدته كيف يتعامل مع تلك الحيوانات التي أصابتها الألفة مجرد أن شاهدته وشمت رائحته ، كنت أشاهدها وأستمع لنباحها وأطبقه علي نفسي ، كان الرائد من حين لآخر يطلب مني الرأي أو يسألني عما يعن لي من استفسارات وأنا أبتسم له .. طلب مني أن أنادي علي أحد الكلاب وذكر اسمه "جدعون" لم أستطع نطق الاسم حاول معي ولم أستطع وتشجعت ناطقا "إبه إبه .. أأ ..آه" ضحك الرجل قائلا ًوالله اسم حلو ثم نادي علي الصف ضابط المشرف طالبا منه استبدال اسم "جدعون" بالاسم الذي نطق به سيادة النقيب ، نظر إليّ قائلا ًأرجو ان تعيده علي مسامع الشاويش خضر .. تجرأت قائلا ً "إبه إبه .. أأ .. آه" أسرع الشاويش وأحضر ورقة وقلما وطلب مني إعادة الاسم وكتبه وعرضه عليّ متسائلا هل هو هكذا فأجبته "باه " مما دفع بالرائد والشاويش للضحك وشاركتهم الضحكات.

     توالت الأيام وأصبح "جدعون" اسمه الجديد "إبه إبه .. أأ ..آه" وقد أخبرني الشاويش أن هذا الاسم صعب للغاية حيث اسم جدعون أطلق علي هذا الكلب "انثي الكلب" منذ عام حيث أوضح قائلا ً:

ـ أفندم .. دي كلبه فتيه .. ايوه والله .. زي ما تجول اكده إنها صبيه ما جبتشي غير بطن واحده وهيا من أهم الكلاب حدانا ومش بنكلفها بأيتها حاجه غير أنها تولد وتدرب عيالها علي العمليات لكشف الألغام والمفرجعات والهجوم علي مواجع العدو وتدميرها .. هيه إحنا هنا بنعمل شغل يامه بس محدش بيبص لينا وطلعوا علينا اسم " بتوع الكلاب!!

    قام الرائد ... قائد وحدة كلاب الحرب ومعاونوه بجهد واضح مع تلك المخلوقات الذكية كما حاولوا أن يجذبوني للحديث معهم ولكن كل هذا لم يجد لدي أية استجابة مما انعكس عليهم سلبا ً واعتقد القائد كما قال الشاويش خضر بأنهم بتوع كلاب وأنا جاي من المخابرات وراسم نفسي عليهم مما دفعه للابتعاد عني ، قبل نهاية التدريب بيوم أقبل عليّ القائد باشا معتذرا لي عن سوء الظن بي حيث أخبرني بأنه إتصل بالمقدم ... رئيس فرع شئون الضباط بالسلاح وعلم منه بحالتي ولهذا فهو يكرر اعتذاره وقضي تلك الليلة الأخيرة معي وظل يذودني بالكثير من المعلومات عن الكلاب وكيفية التعامل معها وما يثيرها وما يضايقها وقد ذكر عدة أسباب أمامي تؤثر علي تلك الكلاب وتجعلها في حالة من الهياج التام وقد يضر هذا بمن يتعامل معها وانحسرت تلك النقاط في : "عدم النظافة / الجوع والعطش / درجة الحرارة المرتفعة / أثناء فترة الحمل والرضاع / مواعيد التزواج / سوء المعاملة"

   انتهت الدورة التدريبية القصيرة للغاية وغادرت الوحدة صباح الخميس عائدا إلي منزلي وتوجه السائق بالسيارة إلي الوحدة علي وعد بإرسال ميكروباس الضباط إليّ صباح السبت ، بعد أن حصلت علي حمام استبدلت ملابسي وتوجهت لنادي الضباط بمصر الجديدة وكانت معي ورقة وقلم وحين سألني جرسون المطعم عما أطلبه بعد أن عرض عليّ قائمة بالأطعمة كتبت له ما أرغب حيث ضحك من هذا قائلا ً أنا يا فندم بأفهمها وهيا طايره ، خلاص كل طلبات سيادتك جايه بعد شوية بسيطة.

    جلست ساهما وبعد فترة طويلة! أقبل الجرسون وأحضر طعاما آخر مخالفا لما طلبته بل أنه أحضر طعاما لشخصين وأشرت له بأنني بمفردي فإبتسم قائلا

ـ ُدوبل يا فندم

صمت وسكنت ورضخت فحالتي لا تسمح بالمجادلة ودفعت ثمن الطعام الذي لم أرغب به ، غادرت النادي وأنا في حالة من الدهشة لما يقوم به الشعب المصري من فهلوه وعلاج الخطأ بأخطاء أكبر وأشد جسامة ، رددت بداخلي عبارة "عَمار يا مصر" صباح اليوم التالي طالعت الصحيفة وعلمت بأنه سوف تقام مباراة بين النادي الأهلي والنادي الإسماعيلي بإستاد "ناصر" بمدينة نصر .. أسعدني هذا لأن مباريات النادي الإسماعيلي مع الأندية الكبيرة لها مذاق خاص.

     استبدلت ملابسي وغادرت الشقة متوجها لأحد المطاعم حيث تناولت الطعام المصري المرافق للنكت والقفشات وهو الفول والطعمية ثم أعقبها التوجه للمقهي وشرب الشاي ومشاهدة المارة حتي حان موعد صلاة الجمعة حيث توجهت للمسجد وجلست بين المصلين وأنهيت الصلاة مغادرا إلي الإستاد لمشاهدة مباراة ودية حيث كان الدوري العام لكرة القدم متوقفا لظروف الحرب ، تزاحمت مع الجماهير وقطعت تذكرة ودخلت مع المشاهدين ، بعد قليل تأكد لي بأنني بمدرج مشجعي النادي الإسماعيلي وأسعدني هذا فأنا أعشق هؤلاء المشجعين لكني أعتب عليهم سوء تصرفهم وتوترهم حين ُيهزم الفريق رغم أنني لم يسبق لي مشاهدة مباراة كرة قدم من الملعب.

   كانت المباراة سجالا بين الفريقين ثم هدف مباغت للنادي الأهلي مما دفع بجمهور الإسماعيلي للزئير والإحتجاج والسباب ، المشجع الذي كان يجلس مجاورا لي زغدني في صدري متسائلا َ:

ـ إيه يا له .. مش بتزعق معنا ليه ضد ولاد دين .....

ـ رفعت صوتي وأنا أصيح بكلماتي البسيطة " إبه إبه ... أأ .. آه"

لم أشعر إلا وهذا المجنون ينطح رأسه برأسي مع لعنات وسباب صائحا : الواد ابن دين ... تبع ولاد ... بتوع الأهلي .. تجمع المشجعون للنيل مني ولكن الله ستر حيث سجل الإسماعيلي هدفا جعل النفوس تستريح مما دفع بهذا الهمجي إلي تقبيلي معتذرا بقوله:

ـ لا مؤاخذه .. مش تغضب مني يا صحبي .. أنت وشك حلو عليا .. اسمك إيه .. صمت أعاد السؤال فأجبت "إبه إبه .. أأ ..آه" ، ويا للدهشة حيث وقف صارخا مصفقا "إبه إبه ..أأ ..آه" وجموع المشاهدين تردد خلفه وتصفيق حاد مما ألهب حماس لاعبي الإسماعيلي كما ألهب هذا المعتوه رأسي برأسه المصنوعة من الحديد فأحرز لاعبو الإسماعيلي الهدف الثاني فزاد التصفيق مما دفع بالمشجعين لحملي طالبين مني الهتاف "إبه إبه ..أأ ..آه" وآلاف المشجعين من حولي هتافا حيث انتهت المباراة بفوز فريق الإسماعيلي بالقاهرة بهدفين لهدف واحد استطعت خلال الاحتفالات الهرب من هؤلاء المجانين حيث ُكنت سأفقد حياتي بسبب التعصب.

    صباح اليوم التالي أقبلت السيارة التي حملتني إلي الإدارة وهناك استقبلني المقدم ....  باستقبال طيب مندهشا مما ألم برأسي من "بطحة" وآثار الدماء واضحة بها مع الانتفاخ .. ضحكت من ملاحظته وكتبت له ما حدث لي داخل ملعب كرة القدم أمس مما دفع بالرجل إلي الضحك مصفقا ًيدا بيد.

***

     بعد قليل استقبلني العميد ... متسائلا ًهل استفدت من الكام يوم اللي قضتهم مع قوات الصاعقة ، أشرت له بمدي الاستفادة ، اقترب مني ُمحدثا:

ـ عابد .. أنت مكلف بمهمة غاية في الخطورة والاهتمام ، وصلت إلينا معلومات تفيد أن العدو بيقوم بتجهيز قاعدة صواريخ عملاقة من الأسمنت المسلح بمنطقة جنوب سيناء قريبا من منطقة جبل كاترين ، القاعدة دي مهمتها ضرب خليج السويس والسد العالي بعد ما ينتهي إنشاء السد هذا العام وقد انتهي العدو من 80% منها حتي الآن ، المطلوب منك وبمساعدة دليل من المنطقة اللي ح يوصلك لمكان تقدر تراقب منه القاعدة بسهولة ، معاك جهاز لاسلكي موجة قصيرة ح تقدم تقرير كل يوم الساعة خمسة مساء لمدة خمسين ثانية بس وإلا اليهود ح يكتشفوا مكانك ، ح نزودك بساعة ستوب ووتش وح تحسب فترة الإرسال بالثانية ، المدة خمس تيام بس وح ترجع زي ما رحت والدليل معاك وح يقدم لك كل تسهيلات والأكل والشرب والرجل ده بتاعنا وكل نفقاتك مدفوعة من الإدارة كمان حتلاقي لبس بدوي منتظرك في مكتبنا بالسويس.

      شاهدت سيادة العميد يرفع سماعة التليفون ويحادث شخصا ثم أعاد الكلمة ناظرا لي "روز" هيا اللي طالعه معاه ،  طيب .. روز كويسه وعليها القيمه بس عيبها غاويه عياءة وكنت عارف أنها حامل .. ياه خلفت والله كويس طيب فيه حد ح ياخد باله من العيال؟ علي خيرة الله .. أنهي العميد المكالمة التليفونية ثم نظر إليّ:

ـ عابد حظك من السما ، ح تطلع معاك روز وهيا شاطره خالص ولها تجارب سابقة بس عيبها أنها مدلعه شويه لكن ح نحاول يكون معاك حاجات تبسطها الكام يوم دوول وترجعوا سوا وخلي بالك ، روز دي من أهم عملائنا وهيا ألمانية وعفريته وبتفهم الهوا آه ومش تستهتر بيها ، ربنا يوفقك والمقدم ... بره  وح يخلص كل حاجه.

     هكذا غادرت مكتب العميد .... لتنفيذ مهمة علي درجة عالية من الخطورة والأهمية بصحبة السيدة روز الألمانية والتي تعشق الأناقة وما تتصف به من دلع بنات حواء ، أتساءل:

ـ يعني الحكاية ناقصة نسوان ودلع؟ يعني ما فيش واحدة تانيه تكون جدعه ، يعني بت صعيديه جدعه وبعدين ليه واحدة ست رايحه معايا؟ الجيش ده بيعمل حاجات الواحد لحد دلوقتي مش عارف لها سبب .. يا للا ... روز .... روز.

    ُعدت إلي مكتب المقدم ... الذي كان منفعلا ومشغولا وقلب أثاث المكتب رأسا علي عقب ، حين شاهدني صاح قائلا ً:

ـ مش عارف تقرير المستشفي راح فين؟ من الصبح بادور عليه مش لاقيه ، لازم ألاقيه عشان أعرضه علي  سيادة العميد اللي كل ما أقول له أنك تعبان ومش تنفع في المهمة دية يمنعني من الكلام ، لازم أوريله حاجه مكتوبة وهو حر يعمل اللي عايز يعمله ، إحنا علينا التنفيذ ونعظم ونؤدي التحية ونتبعها بكلمة حاضر يا فندم.

    أقبل عدد من الجنود فصرخ فيهم متسائلا ً:

ـ كان فيه ورقة ملفوفة ومكورة علي المكتب الأسبوع اللي فات ، عايز الورقة دية ، أجابه أحد الجنود بأنه فهم بأن تلك الورقة ليست مهمة وألقاها بسلة القمامة ، طالبهم الرجل بالبحث عنها فلم يعثروا عليها وتبين أن قمامة يوم الخميس ألقيت بالصحراء مع مخلفات باقي الوحدات العسكرية والتي يتم التحفظ عليها لحين التخلص منها بحرقها حتي لا تقع أي ورقة بيد أحد عملاء العدو.

     جلس المقدم ... وهو في حالة من الضيق ثم سمعته يتحدث مع المستشفي طالبا صورة أخري من تقرير النقيب عابد ، بعد قليل جاءه الرد بأن هذا لن يحدث قبل ُمضي أسبوع لأن رئيس قسم المخ والإعصاب بأجازة وهو المسئول عن التوقيع علي التقارير.

     جلس الرجل متوترا وقد سقط بيده ، رفع سماعة التليفون متحدثا مع العميد الذي سمعت صوته صادرا  من السماعة ينذره بالمثول أمامه بالمكتب غدا لتوقيع الجزاء عليه لعدم تنفيذه للأوامر العسكرية ، نظر إليّ الرجل وهو في ضيق متحدثا ً لي:

ـ ما هو مش ممكن الحكاية دية ، مش معقول ، مش ممكن يكون الراجل عارف أنك مش بتتكلم ويقول كده ويكلفك بالمهمة دية ، إزاي ح تتكلم في الجهاز اللاسلكي؟ أنا ح أفضل وراه لحد ما أوقف الحكاية دية.

   أثناء انشغاله بتجهيز كل ما يتعلق بالمهمة رن جرس التليفون وبعد بضع كلمات امتقع وجهه وتبدل لونه ثم تركني علي عجل وعاد سريعا واستبدل الأفرول بالبدلة العسكرية وخاطبني قائلا ً:

ـ معلشي يا عابد ، بنتي صفاء تعبت وراحت المستشفي العسكري وح تعمل الزايدة الدودية ، لازم أكون جنبها والمساعد فتح الله ح ينهي كل حاجه ، دعواتك ليا.

      غادر الرجل المكتب علي عجل وتبخرت كل وعوده بالبحث عن الدليل الذي سوف يعفيني من تلك المهمة والتي لم أكن أخشاها بل ُكنت راغبا بها للابتعاد عن الناس وإلا كان من الممكن أن أكتب لسيادة العميد ورقة أوضح فيها حالتي الصحية ، كان الهروب من الناس كل ما أبغيه سواء خوفا من تعرضي للقتل كما سبق أو للإبتعاد عنهم حتي لا أجابههم وما حدث في الأيام الأخيرة من سوء قول ورد فعل ضايقني كثيرا خاصة محصل الكهرباء سليط اللسان ، لم تمض ساعتان إلا وقد أعد المساعد فتح الله كل شيء وأقبل بعض المعاونين له ورافقتهم للتوجه لمكتب مخابرات السويس ، وصلت مساء نفس اليوم وكانت الرحلة شاقة ومؤلمة لأنني منذ الصباح مازلت أرتدي ملابسي كما أن هذا اليوم كان به الكثير من التعامل والاختلاط بالناس حتي أنني سمعت المساعد فتح الله دون أن يشاهدني وهو يتحدث مع زميله بأن النقيب عابد لابس الدور من الأول وعمال يتكلم معانا بالشفرة قال إيه " إبه إبه .. أأ .. آه .. أأأ .. أه ..  أبا أباه" تضاحك الاثنان وعلق زميله:

ـ شاب صغير وفرحان بشبابه ، لما يبجي في عمرنا اللي عدي الخمسين وشايل كوم عيال علي ضهره ح ينام من المغرب .. شباب يا فتح الله يا خويا!!

      صباح اليوم التالي أقبل فتح الله ومعه الشاويش عنتر الذي أخبرني بأنه حضر برفقة روز ويطالبني بلقائها ، تمتمت بداخلي :

ـ أخيرا ً الست روز المستخبية طلباني أروح لها ، قلت طيب ماهي ست أكبر مني ، يعني واحدة مجوزة وعندها عيال وطبعا سمعت أنها ألمانية ودوول بيجوزوا متأخر تلاقي سنها عدي التلاتين ، أروح لها طبعا والعميد عرفني أنها مدلعه وواخده بالها من نفسها ، كلهم خمس ست تيام وكل واحد يروح لحاله ، وكويس أني مش باتكلم علشان الستات مش بيبطلوا كلام وهيا تتكلم في الجهاز اللاسلكي وتبعت الإشارة بدلا مني ، الحقيقة سيادة العميد مش بتعديه أي حاجه وربنا يخليه.

     سرت بصحبة المرافقين متوجها إلي لقاء السيدة روز وهندمت من ملابسي وتأكدت أن شعر رأسي مصفف ووضعت بعض الكولونيا الخفيفة فهذا أول لقاء والأجانب يعشقون الرائحة الطيبة والنظافة ، بعد سير مسافة نصف كيلومتر توقف الشاويش عنتر أمام حجرة صغيرة بدائية الإنشاء متحدثاً ويشير بإصبعه

ـ خلاص وصلنا يا فندم ، وروز جاعده جوه مستريحه!

رغبت في الحديث ولكنني تذكرت أنني لا أستطيع الكلام وكنت في دهشة من تلك المعاملة للأجانب ثم تداركت الموقف بأنها تعمل في ظروف صعبة وأنها اعتادت علي هذا ، تحدث عنتر وأخبرني بأن عليّ الجلوس أسفل تلك المظلة وسوف يجهزها ويحضرها لي ، توجهت أسفل المظلة وغاب عني المساعد فتحي بينما توجه الشاويش عنتر لإحضار السيدة روز واستعدت حديثه " سوف أجهزها وأحضرها لك" ، بئس ما قلت أيها الشاويش لكن علي قدر فهمه.

     مضي الوقت طويلا فغفلت أسفل المظلة وكان النوم هانئا وبعمق ، شعرت أثناء نومي بأن شيئا يتحرك بالخلف ويحدث أصواتا خفيفة بل شعرت بأن شخصا قريبا من رقبتي ثم سمعت صوت الشاويش ينبهني:

ـ لا مؤاخذه يا فندم .. روز جت ، معلشي صحناك من النوم ، أسعدني هذا وأن روز أقبلت تداعبني بتلك اللمسات الطيبة من شعرها الطويل الناعم ، أسرعت بتبديل وضعي حتي أشاهدها وأقدم لها التحية الواجبة ، استدرت ُمسرعا ً وفوجئت بشيء لم يخطر ببالي ، فقد كانت السيدة روز هي الكلبة روز والتي سوف ترافقني في مهمتي المقبلة ، نظرا ً لحالة الـُبكم التي أنا عليها لم أستطع أن أصرخ بصوت مسموع ولكن انفعالاتي أصابت روز بالضيق فارتفع نباحها ، تذكرت حديث قائد وحدة الكلاب بقوات الصاعقة بأن سلوكي هذا ضايق روز فأخذت في ملاطفتها ومداعبة شعرها حتي هدأت واستكانت مما أسعد الشاويش معلقا:

ـ الأفندي بتاع كلاب صحيح! (القصد بالأفندي هنا الضابط)

      سارت بي الأمور سيرا ًطيبا ًكنت خلال ذلك أحاول التقرب من روز بعد أن هدأت نفسي من المفاجأة التي فوجئت بها من أن المعاون لي سيدة ألمانية ليصبح المعاون لي الكلبة روز وهي من فصيلتي البكماء ، شعرت أن روز أقل شراسة عما سبق وتفهمته من الضابط المسئول عن كتيبة الكلاب بقوات الصاعقة المصرية ، بل بعد عدة ساعات اقتربت مني محاولة التفاهم معي وفتح صفحة من العلاقة بين الـُبكم ؛ لأنها لم تسمع صوتي مخالفا بذلك بني البشر ولهذا فقد اعتقدت بأنني فصيل آخر من بني البشر ومعروف عن تلك الحيوانات ما تتمتع به من ذكاء وقدرة علي فهم أغوار الإنسان.

    ُقبيل المساء أقبل رجال مكتب مخابرات السويس وسلموني الملابس البدوية وهي عبارة عن جلباب أبيض وشيء يوضع علي الرأس مشابه لطرحة السيدات ذات اللون الأبيض وحذاء عبارة عن شبشب مشابه للذي يرتديه  أبناء مصر بسيناء ، أقبل رئيس المكتب وتحدث معي بحديث قصير وأظهر لي جهاز الإرسال ، الجهاز عبارة عن راديو صغير وقام بضبطه علي الموجة القصيرة ومزود بإيريال يسحب ويرتفع حوالي خمسين سنتيمترا ً وأشار إلي رقم الموجة والمحطة التي قام بربطها علي الجهاز وسلمني الساعة الميقاتية "ستوب ووتش"

    لم أتوجه إليه بأي سؤال حيث شعرت بأنني ُمقبل علي عمل جرئ يحتاج مني الهدوء وعدم التوتر أو الخوف المسبق مستعينا بالله وبخبرتي السابقة وبما واجهته من صعاب خلال العشرين شهرا ً الماضية منذ حرب عام 1967 أشرت إلي روز فأقبلت نحوي تحرك ذيلها ولعقت يدي مما أسعد الشاويش عنتر الذي مازال بصحبتها حيث أشار لي بعلامة التأييد بانني استطعت أن أقيم علاقة ألفة بيننا ثم تركني عنتر مع السيدة روز.

   تحركت بنا السيارة العسكرية في اتجاه الجنوب وقد غشي الظلام المنطقة كما أن السائق كان يسير مستخدما النور الميداني قليل الرؤيا حتي لا تشاهدنا قوة من الأعداء فترسل بإحدي طائراتها لمهاجمتنا ، بعد عدة كيلومترات توقفت بنا السيارة وهبطت منها برفقة زميلتي روز وتبعنا السائق والمرافق لي من مكتب مخابرات السويس وسرنا حتي شاطئ الخليج ، هناك استقبلنا الريس عرفة الذي عرفني بنفسه ، نزلنا إلي بطن القارب الحديدي وقام بوداعنا المرافقين لنا والتابعين لمكتب السويس بدعاء لنا بالتوفيق والعودة بعد أسبوع.

    تحرك القارب في الظلام الحالك وقد تبين لي أن هذا القارب قديم وأن ماكيناته ذات صوت مرتفع في جوف الليل وبالتالي ُيصبح التعرف علينا أسهل ما يمكن ، بعد أربع ساعات رسي القارب علي الجزيرة الخضراء وهناك التقيت ببعض الضباط والجنود الأبطال الذين يقومون علي حراسة تلك الجزيرة المنعزلة تحت لهيب قصف الطائرات واللنشات الإسرائيلية الشبه مستمر.

    الحمد لله استبدل هذا القارب العتيق المزعج بقارب من نوع "زودياك" وهو سريع الحركة عديم الصوت ، خلال تلك الرحلة كانت روز تلتمس الأمان بي ملتصقة راغبة بشعورها بالأمان وقد أعطيتها هذا الشعور سواء بهدوئي أو بعدم الصياح أو الاحتجاج وهي لا تعلم أنني مثلها لا أتحدث ، ُقبيل الفجر وقبل شروق الشمس إستقر القارب علي الشاطئ الشرقي لخليج السويس وأصبحنا بجنوب سيناء ومن المحتمل أن تهاجمنا قوات العدو في أية لحظة ، أصدر مندوب المخابرات الذي يقود القارب صفيرا معينا ثم توقف وأعقبه بصفير من نوع آخر ثم توقف ، بعد قليل ظهر رجل قادم في اتجاهنا يرتدي الجلباب السيناوي الأبيض حيث قام بتحيتنا.

     أمسك بيدي محاولا مساعدتي علي مغادرة القارب فقفزت علي الشاطئ وتبعتني روز بكل خفة ورشاقة محاولة الوصول إلي وجهي فجلست علي ركبتي فلعقت وجهي كأنها تريد إخباري بشئ ما وأنا بدوري ملست برقة علي شعر رأسها فعادت إلي وضعها هادئة مستكينة ، عاد القارب بمندوب مكتب مخابرات السويس إلي الجزيرة الخضراء بينما سرت برفقة روز خلف الدليل الذي صافحني في بداية اللقاء وعرفني بنفسه "سًـليم" حركت رأسي مبتسما فانعكس هذا علي وجهه الطيب ،  ظل الرجل يتحدث معي من حين لآخر وقد كست أشعة الشمس المنطقة.

    جلسنا نستريح ، فقد سرنا خمس ساعات مرهقة دون طعام أو شراب ، كان "سَـليم" يحمل كيسا من القماش وبعد جلوسنا وضعه أرضا وقام بفتحه وأخرج منه لفافة وناولها لي وهو يشير جهة روز بأن هذا طعامها وعليك أن تضعه أمامها وتداعب شعرها وذيلها ، نفذت ما قال وأشار ثم أخرج عبوتين من البلح "عجوة" ناولني إحداها وجلسنا نتناول الطعام بهدوء وروز هادئة تتناول ما وضعته أمامها ، أخرج الرجل عبوة من البلاستيك بها ماء وكوبا من الألومنيوم أقرب في الشكل كأنه كوب واسع ووضع الماء به وناوله لي فشربت ثم تلاني وحصل علي عدة جرعات ثم أعاد ملئه وناوله لي كي أضعه أمام روز ، أنهت روز طعامها وقامت بإخراج لسانها تلعق به فمها من الخارج ثم توجهت إلي الطاسة وعبت من الماء ثم حركت رأسها بسرعة فتطاير بعض الرزاز العالق علي الشعر المحيط بالفم وهدأت ونامت علي أحد أجنابها.

    أشار َسـليم" جهة روز قائلا ً:

ـ هادي كلبه مش كلب .. وُحبلي!! .. كيف يا أخي يبعتوا إمعاك كلبه وُحبلي؟

لم أجبه فأنا أعلم منذ البداية بأن السيدة روز هي المرافقة لي ولكن الجديد بأنها  " ُُحبلي" وهذا سوف يزيد الأمر تعقيدا ً مما دفع بـ " ًسـليم" بأن يعلق:

ـ كلتها خمس أو ست تيام وجبل ما تتهور ويركبها العصبي تكون َعدت بالسلامة لمِصـر.

      أثارت كلماته مخاوفي ولكن ما باليد حيلة كما يقال ، قبيل الغروب وصلنا إلي الهدف وهو عبارة عن مرتفع جبلي قريبا من جبل "كاترين" ثم توجه بي إلي كهف صغير قائلا ً:

ـ هاذي مكانك وجدامك علي اليسار الهدف بحوالي 1000 متر .. خذ هذا ، ناولني ما تبقي من طعام وشراب بالكيس و نهض َسليم مودعا لي وأخبرني بأنه بالصباح "ح يعود" عليّ ومعه الطعام والشراب لي ولـ روز.

ـ أستودعك الله .. أوصيك ما تولع سيجاره وسيبك من حكاية الدخان والكييف هذه الأيام.

    غادر سليم الكهف فتبعته ولكنه اختفي بالظلام كأن يدا ً ألتقطته  ُمسرعة به.

     حاولت جاهدا تقدير حجم الكهف ومساحته ولكن لم أستطع في ظلام الليل ، شعرت بأن روز إلتصقت بي وحصلت علي غفوه لأنني لم أشعر بحركة صادرة منها أو محاولة علق وجهي كما كانت تفعل.

    جلست مستندا ً بظهري علي جدار الكهف المتعرج والذي آلمني كثيرا حيث ُكنت أبدل مكان جلوسي لكي أعثر علي مسند لظهري يعفيني من آلام الظهر ولكني لم أفلح ورغم هذا خلدت في نوم هادئ لم يعكره سوي انتباه روز وإقترابها مني محاولة لعق وجهي فأصابني هذا بالتوتر متسائلا ً: عن من فعل هذا فقد نسيت أن معي كلبا ً ونسيت تلك التصرفات مما دفع بي للتوتر صائحا  ً " إبه إبه .. أأ .. آه .. أأأ .. أه ..  أبا أباه" سمعت صوت روز الغاضب فحنوت عليها مقبلا ًفمها الواسع وتذكرت الطعام فاخرجته من الكيس ووضعته أمامها ، كانت روز أذكي مني فتخيرت طعامها الـُمعد لها سلفا ًوتركت الطعام الآخر والذي تبين لي أنه عدد من الفطائر المحشوة بالعجوة بينما كان طعام روز شيئا أشبه بفطائر المحشوة بالتونة أو مشابه ذلك وهذا دفعها لتناول التونة وتركت لي العجوة.

***

الـــيوم الأول

      بعد ساعات قليلة أشرقت شمس سيناء الساطعة في بدايات شهر مارس من عام 1969 يحدوني الأمل بأن أقوم علي تنفيذ تلك المهمة بنجاح ولكنني توقفت فجأة مندهشًا من حالتي الصحية والتي لا تسمح لي بالحديث ، كيف سأرسل برسالتي إلي الجهات المسئولة ، فبعد كل تلك الإجراءات يضيع كل ما تم هباءً وبالتالي لا يستطيع القادة اتخاذ القرار المناسب ، سوف يضطرون إلي إرسال شخص آخر وقد يؤدي هذا إلي تأخير في القرار المناسب وهذا قد ُيمكن الأعداء من تنفيذ خطتهم ضد مصر وشعبها.

     أسرعت بوضع الجهاز في لفافة وغادرت الكهف بحذر ورغم هذا تبعتني روز والتي كنت أعتقد أنها قد خلدت في نوم عميق ، تخيرت مكانا مخالفا لطبيعة المنطقة وحفرت فيه بصعوبة ووضعت الجهاز خشية أن يفاجئني الأعداء وإذا شاهدوا الجهاز فسوف أعتبر جاسوسا والنهاية الحكم عليّ بالإعدام وهم يرغبون في زيادة عدد القتلي المصريين.

    شاهدت الموقع المطلوب مراقبته ولكن ضوء الشمس كان معاكسا لي وبالتالي لم أستطع الرؤية بوضوح خاصة أن التركيز أثر علي عينىّ َ من كثرة التحديق في مواجهة أشعة الشمس ، انتظرت بعض الوقت حتي تحركت الشمس ومن ثم أستطيع المراقبة ، مر منتصف النهار فبدأت الرؤية تتضح ، ظللت أدقق النظر وأنا مستتر ببعض الصخور ولا آتي بأية حركة ملفتة للنظر خاصة أنني سمعت صوت طائرة هليكوبتر فآثرت الاختباء حتي لا يشاهدني أحد ويكتشف مكاني ويضيع كل شئ رغم ُحزني وضيقي من عدم مقدرتي علي أن أقوم بتوصيل الرسالة.

    بعد قليل أقبل " َسـليم" وتسلق المرتفع بلياقة بدنية عالية فقد ساعده الشباب وصغر السن والتمرس علي هذا العمل فهذا موطنه ، ألقي عليّ بالتحية ونظر إلي روز متسائلا ً إن كانت أحدثت بعضًا من المشاكل ، حركت رأسي بالنفي ، وضع أمامي الطعام والشراب وقبل أن يغادر تساءل لماذا لا أتحدث معه ، أشرت له بيدي بأنني لا أستطيع الحديث ، نظر إليّ بدهشة معتقدا ً بأنني أمازحه وأعاد سؤاله فتحدثت معه ببعض كلمات فشاهدت الدهشة والوجوم علي وجه الشاب ثم ابتسم قائلا ً:

ـ والله المصريين دوول عليهم أفكار عظيمة والله يا شيخ .. جابوا واحد أخرس عشان لو اليهود مسكوه ميجبش بكلمة واحدة .. والله عظيم ، يبجي أنت ح تشتغل ِشفره يعني معاك كتاب ِشفره ، مد سَـليم يده بداخل الجلباب الذي أرتديه وأخرج البلوك نوت الذي أحضرته معي حتي أخط بعض الخطابات وأقوم بإرسالها إلي " ُرقية" بعد عودتي مباشرة عن طريق إذاعة صوت العرب كما حدث قبل هذا عدة مرات ، لم يشاهد أي شئ فأعتقد أن الشفرة  ُكتبت بالحبر السري ، صافحني مغادرا المكان وأنا في دهشة من عدم العمق في أية ملاحظة حتي لو كانت حالة الـُبكم".

      كنت أتذكر المقدم ... الذي حاول توضيح الأمر للعميد والذي كان رافضا ً  لأي اقتراح بخصوص هذا الشأن لدرجة أنني اعتقدت بأن العميد يعلم بحالتي فليس من المعقول أن يعلم رئيس فرع برتبة مقدم بخبر مهم مثل هذا ومن غير المنطقي ألا  يعلمه العميد .... ولكن هذا ما حدث ويحدث وفي بعض الأحيان لبعض المسئولين بداخل النظام العام بمصر وهو استقواء صاحب السلطة بقراراته رغم عدم دقتها أو خطئها في بعض الأحوال ، كان يعتريني الضحك أحيانا علي حالي هذا وتذكرت أنه لو وقع عليّ الاختيار بأن أعمل مذيعا بالإذاعة ورفض المسئول حجج كل المحيطين به وطلعت علي الهواء أذيع برنامجا وتفوهت بما لا أستطيع سواه من كلمات قليلة ليست ذا مدلول " إبه إبه .. أأ .. آه .. أأأ .. أه ..  أبا أباه" ، فسوف أصاب بالحيرة والرجفة.

     تنبهت علي صوت محركات ضخمة مقبلة جهة العمل الإنشائي وهي تحمل معدات ثقيلة من حجم الناقلات العملاقة المشابهة لجرارات الدبابات والتي تحمل أثقالا ً تزيد عن السبعين طنا ، تبينت بأنها "لونشر" إطلاق الصواريخ حيث كان العمل الإنشائي قد قارب علي الانتهاء وبالتالي أحضروا تلك المعدات لتركيبها ثم يعقبها تركيب الصواريخ ؛ والتي لن يتعدي هذا الشهر من الآن ، لقد كان سباقا شديدا مع الزمن بين القيادة بمصر والإسرائيليين الذين لو استطاعوا الانتهاء من إنشاء تلك القاعدة لهددوا جنوب مصر وخليج السويس بعد أن فقدنا خليج العقبة ولأصبحت مصر محاصرة من البحر الأبيض بالأسطول السادس الأمريكي والآن خليج السويس مهدد بقذفه صاروخيا.

   عصرًا كانت الشمس مائلة جهة الغرب وقد أطلقت أشعتها الغائبة بظهري فشاهدت الموقع مشاهدة واضحة مؤكدة بل شاهدت الجنود وهم يتحركون وفي بعض الأوقات كنت أسمع أصوات أحاديثهم حين تهب رياح الجنوب إلي مكمني.

         ُكنت من حين لآخر أشاهد الساعة بمعصم يدي والتي اشتريتها حديثـًا بعد أن غادرت المستشفي وُعدت للمرة الثانية إلي عملي بعد حادث السجن الحربي السيئ ، ُقبيل الموعد المحدد للاتصال تسللت إلي خارج الكهف وأخرجت الجهاز من مكمنه ورفعت الهوائي ومازلت علي حالة الترقب المتعددة الجوانب وكلها ليست في صالحي ، فهي المرة الأولي التي أعمل فيها خلف خطوط العدو كما أنني قريب منهم والأهم أنني لا أستطيع التحدث.

     مجرد إن أصبحت الساعة أقل من خمس عشرة ثانية علي الموعد المحدد قمت بضبط الساعة الميقاتية "ستوب ووتش" ومازالت عيوني تتابع عقرب الثواني حتي أطبق عقرب الدقائق علي الرقم 12 لحظتها فتحت الجهاز وأنا أراقب الساعة الميقاتية وتحدثت برسالتي الأولي:

 إبه إبه .. أأ .. آه .. أأأ .. أه ..  أبا أباه" .. إبه إبه .. أأ .. آه .. أأأ .. أه ..  أبا أباه" لا أعلم كيف جري الزمن حيث تعدي الثمانى والأربعين ثانية فأسرعت بإغلاق الجهاز وأسرعت بإعادته للخارج وُعدت ثانية لاهث الأنفاس ، جلست فترة زمنية حتي حل الظلام ثم فتحت لفافة الطعام والشراب الذي أتي بها "سَـليم" ووضعت كل شئ أمامي وأمام روز وكعادتها قامت هي باختيار الطعام والذي كان واضحا بأن " سَـليم"  ُمدركا ً نوعية طعام كلاب الحرب ، ما تبقي من وجبة روز تناولته وتبين أنه مكون من فاصوليا مضاف عليها الأرز وبالتالي لم تقترب منها روز بينما تناولت البلوبيف المخلوط بأشياء أخري ، أما اللفافة الأخري فلم أقترب منها كما أوصاني " سَـليم" فهي طعام الصباح بما فيها المياه ، قضيت ليلتي تلك مثل السابقة.

***

 

مكتب العميد ....

انتظر الرجال المنوط بهم متابعة رسالتي الأولي بينما جلس العميد ... بمكتبه إنتظارا لنتيجة الرسالة الأولي ، بعد قليل أقبل عليه أحد الضباط الذين يعملون علي الأجهزة المعدة لالتقاط الرسائل ووجهه مكفهر فتوجس العميد خيفة خشية أن أكون وقعت بيد الإسرائيليين متسائلا ً:

ـ ما تمش اتصال؟

ـ تم يا أفندم بس مش فاهمين الكلام

ـ إزاي كده سمعني الرسالة .. أصاب الرجل الذهول متسائلا ًهل أوصيتم عابد بأن يرسل المعلومة شفريا ، نفي هذا فأسرع بطلب رئيس شئون الضباط  وأسمعه نص الرسالة فاندفع الرجل وأخبره بأن الضابط عابد لا يتكلم  أشاح الرجل بيده قائلا قلت ليا الكلام ده قبل كده ، أنا عارفه أنه كتوم!!

ـ يا فندم عابد أخرس ، ران سكون وصمت ُمطبق علي المكان وقد ارتبك العميد ولم يعد ُيدري كيف التصرف بينما ظل المقدم يوضح له هذا الأمر والرجل أصابه الاضطراب متسائلا ً:

ـ إزاي ح أقابل القادة اللي طلبوا مني معلومات عن القاعدة؟ أقول بعت لهم ضابط أخرس ومعاه جهاز لاسلكي عشان يبعت رسالة ، دي ح تكون أكبر نكته في التاريخ ، أخرس وأبكم يعمل مذيعا ً ، طيب والعمل؟

ـ ننتظر لحين عودته ونبعت واحد تاني

ـ ده يأخرنا أسبوع يكون اليهود عملوا كل حاجه

ـ مش قدامنا غير كده حتي يقوم العميل "زلطة" بإبلاغ " ًسليم" بأن فيه واحد جاي ، مش قدامنا غير كده وبلاش نستلم رسايل عشان اليهود ما يوصلوش لموجة الراديو.

ـ طيب علي خيرة الله والمصيبة اللي حصلت اكفوا عليها ماجور بلاش فضايح

ـ حاضر يا فندم.

 

***

 الـــيوم الثاني

  شعرت وأدركت بأنه لابد لي من التصرف والتغلب علي موضوع الإرسال اللاسلكي والعثور علي بديل ، جلست ساهمًا بعض الوقت وأثناء ذلك شاهدت بعض الطيور الملونة والجارحة من نسور وصقور تحيط بالمنطقة من حين لآخر بل كانت تهبط خلف قمة المرتفع الذي أقيم به ، أنار الله بصيرتي بفكرة استخدام الحمام الزاجل ، صمت برهة أفكر ، أين هذا الحمام الذي يعلم أين يقع مكتب سيادة العميد ... بالقاهرة.

     إذا ًلابد من البحث عن بديل ، تبدل وضع الشمس فأصبحت الصورة واضحة للمرة الثانية وبالتالي تأكد لي ما شاهدته بالأمس ، قررت رسم كروكي أو خريطة أو أي رسم توضيحي للقاعدة والعمل علي إرسالها للقيادة بأقصي سرعة وإن لم أستطع فسوف أحملها معي حين العودة وبالتالي أكون قد أنجزت جزءا مهمًا من مهمتي تلك ، أخرجت البلوك نوت والقلم وبدأت أنظر للقاعدة وأخطط كل تفصيلة بوضوح مستعينا بنقطة بزوغ شمس الصباح لتكون هي المرشد لي للجهات الأصلية للموقع.

    استمر هذا الحال حوالي ساعتين حتي أنجزت المهمة بنجاح ولم يتبق سوي بعض البيانات التي يجب عليّ أن أضيفها حتي يمكن تحديد الموقع من جهة الخليج ومن جهة جبل كاترين وبالتالي يمكن للقيادة التصرف معه أو بإرسال قوات خاصة تقوم بالإجهاز عليه ، بعد قليل أقبل "سـَليم" وبعد أن القي عليّ التحية وضع أمامي الطعام والشراب وأخبرني بأنه سوف يظل جالسا معي بعض الوقت ، لأن الدوريات الإسرائيلية منتشرة بكل مكان وإحتمال أن شخصية عسكرية مهمة قد تصل في تلك الأوقات وبدلا من إحتكاكهم بي فسوف أظل جالسا  بجوارك ، شاهدت معه عبوة من الزنك من التي يستخدمها الجيش لحفظ ذخائر الأسلحة ، أشرت إليه مستفسرًا ما الذي بها؟ أجابني:

ـ فيه يا خوي حية "أنثي الثعبان" رهيبة جوي وهيا مغلبه الناس واي معزه أو غنمه بتبلعها علي الفور ، ُدهشت من حديثه ثم أكمل: علشان كده جبت شوية "جير حي" وناوي أحطه في فرخه وإلا أرنب وأرميها جدامها علشان لم تبلعها تجوم الميه اللي في جسم الحية تتفاعل مع الجير تجوم تحرجه "تحرقه" هو وأهله ، ربنا يخلصنا منها هيا وكام ضبع مخوفين كل البدو النواحيدي ، آني ح سيب الجير هنا وخليه متغطي بالزلط علشان يفضل مفعوله جوي ولما تخلص مهمتك أجيب كام زلمه من الجبيله ونخلص عليها علشان الناس خايفه منها خالص.

     طرأت علي بالي فكرة ، لماذا لا أكلف " سَـليم" بتلك المهمة فهو قادر علي الحركة ويمكنه التصرف بدلا مني ، أخرجت البلوك نوت وكتبت له رسالة وعرضتها عليه ، قرأ رسالتي بإمعان مرددا ً:

ـ والله يا شيخ فكرتك هايله ، ربنا يعطيك العافية

أسعدني قبوله لتلك الفكرة مما دفعني لإعادة الكتابة متسائلا ًعن أبعاد هذا الموقع عن الخليج وعن جبل كاترين  ظل صامتا لفترة ثم غادر الكهف مستترا وظل ينظر يمينا ويسارًا ثم أقبل وأفادني بكل المسافات التي تفيد بتحديد الموقع ، كما سألته إن كان يوجد أسماء هيئات ونقط ارتفاع ومثلثات قريبة منا ، غادر المكان وغاب حوالي الساعة ثم أقبل مبتسما وأخبرني بأنه توجد علامة أسمنتية مكتوب عليها رقم 132 ، أعدت الاستفسار كتابة ، ما شكل تلك العلامة هل هي كتلة من الخرسانة مصمتة أو علي هيئة مثلث ، أجابني علي الفور بأنها ليست علي شكل مثلث مما يفيد بأنها نقطة إرتفاع وتلك النقاط وضعت منذ زمن الإحتلال الإنجليزي وتم رفعها علي الخرائط المساحية سواء الخاصة بهيئة المساحة المصرية أو القوات المسلحة وبالتالي تحدد المكان بدقة مع البيانات المرسلة بالمسافات والاتجاهات الأصلية "الشرق والغرب والشمال والجنوب" يمكن هذا القيادة بأن تخرج بحسابات دقيقة للموقع.

     أضفت بعض البيانات بعدد اللونشرات التي سوف تندفع من فوقها الصواريخ وحجم المبني ومساحته التقريبية ومدخل ومخرج القاعدة حتي عدد الجنود والضباط العاملين بها ، شعرت لحظتها بأنني أنجزت ما كانت تبغيه القيادة بل أكثر وذلك بالاستعانة بتلك الرسومات التوضيحية والتي كتبت علي كل جزء منها ما أعتقده بأنه يفيد عن بيانات القاعدة من مخزن الصواريخ والمولدات الكهربائية والاستراحة الخاصة برجال القاعدة والطرق الرملية الواصلة إليها وأيسرها ومن بينها الطرق شبه المعبدة والتي كانت تتحرك عليها حاملات قواذف الصواريخ بالإضافة إلي رسم حقول ألغام أفراد حول القاعدة مما يتطلب الدقة في مهاجمتها حتي لا تقع القوة المهاجمة في حقل الألغام.

     سلمت " سَـليم" الرسم التوضيحي والذي أعجب بدقته مؤكدا لي بأنه سوف يلتقي بزميله "زلطة" الليلة لأمر مهم ، كتبت له بأنني أطلب منه أن يتم إيصال تلك الرسالة بأقرب وقت ممكن لمكتب مخابرات السويس ، ضحك من حديثي مؤكدا لي بأن "زلطة" له من الخبرات الكثير ويعلم أكثر مني ومنك بهذا وهو معروف لديهم بمصر ، نهض بعد أن كان يجلس بوضع القرفصاء طوال تلك الساعات ، ولم ترهقه تلك الجلسة المؤلمة لنا ، استودعني علي وعد بالعودة لي صباح الغد.

    شعرت بعد أن غادر " سَـليم" الكهف بأنني علي أحسن الأحوال ، نظرت جهة روز فأقبلت عليّ تحرك أذنيها دليلا ًعلي سرورها مع بعض قبلات من فمها الطويل علي وجهي ثم تحدثت لي ببعض مفردات تجمعنا " هه هيييه هاو" رددت عليها " إبه إبه .. أأ .. آه .. أأأ .. أه ..  أبا أباه" نامت علي جانبها ثم انقلبت علي ظهرها وبدأت ألاحظ بروز حلمات ضرعها ، حمدت الله أن المهمة قاربت علي الانتهاء قبل أن يقترب موعد الوضع لصغارها وتحدث لي المشاكل التي أخبرني عنها قائد وحدة كلاب الحرب.

    اقتربت الشمس من موعد غروبها ولم أرغب في توجيه رسالة عديمة الجدوي قد تكشف موقعي كما أنها قد تبخر طاقة الكهرباء الموجودة بالجهاز فقد احتاج إليها فيما بعد رغم أنني لن أحتاج إليها ، لأنني لن أستطيع إرسال أية رسالة إلي قيادتي ، فتحت اللفافة كي أتناول الطعام علي بقايا ضوء غائب راغب في الوداع لهذا اليوم الذي فتح الله عليّ بتلك الفكرة والتي ُكنت أدعوه جهرا بأن يوفق " سَـليم" فيما هو ُمقبل عليه وألا تقوم دورية معادية باعتراضه وينكشف كل شيء وتضيع منا تلك المعلومات الخطيرة ويلقي عليّ القبض وأودع السجن لحين البت في أمري.

   فوجئت بأن " سَـليم" قد أحضر "نصـلا" أي خنجر طويل ووضعه بلفافة الطعام ، توقفت لبرهة وأنا أدقق النظر إليه ثم أمسكته ، كان النصل حادًا ولامعًا و تذكرت مقولة " سَـليم" والتي أخبرني بها في اليوم الأول حين تساءل هل أحمل سلاحا للدفاع عن النفس؟ نفيت هذا بإشارة من رأسي فابتسم مخبرًا إياي بأنه سوف يحضر لي سكينا كبيرة يساعدني في الدفاع عن نفسي ضد الذئاب أو الضباع المحتمل أن تزورك أنت وروز والتي لن تستطيع الدفاع عنك بسب حالتها تلك وعليك يا زلمه أن تصل هذه السكين بعصا طويلة ليصبح ُرمحا حتي إذا هاجمك أي حيوان مفترس تهاجمه به فقد يفر منك أو تقتله ، لقد تذكر " سَـليم" وعده والحمد لله بأن المنطقة هادئة وليس بها حيوانات مفترسة وقد مضي علي وجودنا ليلتان دون أي شيء يذكر.

    تركت الكهف فشاهدت العصا الطويلة والتي يبلغ طولها ثلاثة أمتار ، وهي مستقيمة وبدا لي أنها مصنوعة من خشب الزان القوي وبجوارها حبل رفيع من حبال النايلون التي كنت أشاهدها في المظلات التي كنا نتدرب عليها بمدرسة المظلات وهي حبال قوية تستطيع أن تحمل أطنانا من الأثقال ، أدهشني هذا فلم أشاهد الحبل أو العمود الخشبي قبل هذا وتأكد لي بأن " سَليم" أحضرها وتركها خارج الكهف حتي يدربني علي التفكير والاعتماد علي النفس فمن الذي يأتي إليّ كل يوم سواه ، ضحكت من أفكار هذا الشاب الذي يقاربني بالعمر ولكنه أنشط مني بدنيا ؛ لأنه نحيف جدًا وبالتالي فإن وزنه خفيف حيث لا يحمل دهونا ، قررت ترك هذا الرمح للصباح وبعد قليل  أصابني نوع من التوتر ؛ حيث أمضيت الليالي السابقة دون تعدي من أي حيوان عليّ فمن المحتمل أن ُيقبل عليّ حيوان تلك الليلة ، سري الخوف بداخلي وأسرعت للسكين وجلست أمام الكهف أعد الرمح قبل أن يكسو الظلام المكان ، بعد جهد أتقنت ربط السكين بالعصا الخشبية وشعرت بأنني مثل الإنسان الأول بهيئتي تلك سواء من الجلباب ومما حولي من المرتفعات غير المنتظمة ومن الصخور المختلفة الألوان وبصحبتي كلب كبير الحجم بل زاد حجمه أكثر من المعتاد بسب الحمل.

    كانت روز تنظر إليّ وهي مستريحة حيث أقبلت عليّ تكافئني ببعض القبلات التي كنت أخشي منها حينما أنظر إلي أنيابها وأسنانها الأمامية الطويلة الحادة ، احتفظت باللفافة الأخري بجانبي ووضعت لفافة الطعام أمامها ، حين اقتربت من الطعام ارتدت مسرعة وأصدرت أصواتا تدل علي خوفها وجزعها ، أدركت بأن الطعام سام ودهشت كيف يتصرف معنا " سَـليم" بمثل هذا التصرف ونحن روحان أبكمان.

    مازالت روز غاضبة ، قمت بجمع الطعام ووضعته جانبا ولكنها دفعت بي من ظهري ثم سبقتني ووقفت أمام باب الكهف فتبعتها فسمعت نباحها والذي لم أسمعه منذ المرة الأولي ونحن بالسويس ، كان نباحها  ُُمرعبا ً وبعد قليل تنامي إلي سمعي أصوات حشرجة ، وشاهدت عيونـًا لامعة بالظلام أدركت علي الفور بأن بعض الأعداء من الحيوانات راغبة باستقبالنا بعد أن تجاهلتنا ثلاثة أيام ، أسرعت وأحضرت الرمح لكن الحيوانات المقبلة واصلت تقدمها وبدا حجمها يظهر أمامي بوضوح ، ظهر المستور بالظلام لقد كانت الظلال لضبعين من ضباع سيناء المفترسة القاتلة والتي تشبه في شدة افتراسها النمور الأسيوية.

     لم ترتجف روز وأخذت وضع القتال وفتحت فمها وظهرت أنيابها وأطلقت العديد من الأصوات التي تدل علي أنها سوف تقتل من يتقدم منها ، في لمح البصر شاهدت الضبعين علي ُبعد أمتار قليلة فهجمت روز علي أحدهم ولكن الآخر هاجم روز وأصبح الضبعان حول روز محاولين افتراسها ورغم صراخها إلا أنها مازالت تتعارك معهما وقد التحف المكان بالغبار وسمعت أصوات الحيوانات الثلاثة ، حدث هذا في فترة لا تزيد عن عشرين ثانية  ُكنت لحظتها ممسكا ًبالحربة واقتربت من ظهر أحد الضباع وغرست الحربة بظهره فاستدار إلي ومازالت الحربة عالقة به فعدت للخلف ولكن قدمي ُزلت فسقطت عدة أمتار شعرت بأن الدنيا ظلام من حولي.

    لم أعد أسمع أصوات الحيوانات المتقاتلة رغم أنني مازلت يقظـًا منتبهًا لمن حولي ، بعد قليل سمعت بكاء روز باحثة عني وأنا راغب بأن أخبرها بأنني وقعت بين الصخور فصرخت مناديا عليها " إبه إبه .. أأ .. آه .. أأأ .. أه ..  أبا أباه" مازالت روز باحثة عني وفى تلك اللحظة شعرت بالعجز الشديد  ودعوت الله علي من تسبب بهذا وخرجت مني الدموع غزيرة مؤلمة وشعرت لحظتها بأنني مثل شخص مات وُدفن وبعد أن إنصرف الناس أفاق من غيبوبة ألمت به ورغب بالعودة إلي الحياة راغبًا بالتخلص من هذا القبر الذي أغلق عليه بالطوب والأسمنت فظل يصرخ ولم يسمع صراخه أحد سواه ، ُكنت مثله فلم يعد أحد يسمع صراخي حتي أنا لا أسمع صوتي سوي بتلك الكلمات العجيبة والتي لا أعرف معني لها حتي الآن.

     شعرت بأن روز وصلت إليّ وقامت تلعق جراحي وتبثني بعض أنات الألم وأنا بدوري لا أملك سوي أن أملس علي كل جزء بجسدها أقترب منه وأنا  ُملقي بين الصخور لا أشاهد سوي النجوم بكبد السماء ، نامت بجواري وأنا متخوف بأن تكون الضباع مازلت بأعلي ويمكن أن تقفز علينا وتنهي حياتنا في تلك البقعة الضيقة ، شعرت ببلل بجسد روز ، قربت ما لامسته بيدي من أنفي فتبين لي أنها دماء تنزف من تلك الحبيبة المخلصة التي أقبلت معي من أجل الدفاع عن مصر وشعبها ، عادت الدموع تذرف من عيوني ثانية وشعرت بأنني أصبحت مغلوبا علي أمري ولم أعد إنسانا صالحا لأي شيء حتي للدفاع عن نفسه وعن زميلته روز أمام أعداء بني الإنسان ، أيقنت صدق وذكاء الطبيب الذي أوصي في تقريره بأن أظل أعمل بمكتب بعيدًا عن الناس ولا أكلف بأعمال بها حديث ونقاش وأن تتم العناية بصحتي وحالتي النفسية وأن حالتي تلك لا علاج لها ؛ لأنها ليست مرضا عضويا بل أنها صدمة عصبية ولا علاج لها إلا بصدمة مماثلة ، تنبهت لهذا وها قد حدثت الصدمة ، ناديت روز بصوتي فلم أسمع سوي العبارات السابقة ، نظرت إليها في الظلام الحالك مرددا ًبحديث لا يصل إلي أذني لقد أصبحنا معًا في عالم الـُبكم.

    دفعت البرودة الشديدة بليل الصحراء من شهر مارس إلي التصاق روز بي وأنا التصقت بها ، ظللنا علي هذا الوضع حتي ظهر ضياء يوم جديد ونحن أحياء ومن المؤكد بأن الضباع تركت المكان فلم أسمع لها صوتـًا كما أنها لن تظل خارج الكهف أو هذا الـُجحر نهارا ًفهي حيوانات ليليلة مثل الذئاب والتعالب     

      بدأت الرؤيا تتضح أكثر فأكثر ، شاهدت روز وهالني الجروح والقطوع بجسدها ، نهضت مستندا علي الصخور المحيطة بي من كل مكان وملست علي شعرها بهدوء ثم بدأت بقطع شرائح من جلبابي مستخدما أسناني وربطت بعضها علي جسد روز مما دفعها للعق وجهي ورأسي كعادتها وبالتالي حذوت حذوها فهذه هي إشارة الشكر والإمتنان لمن لا يستطيع الكلام.

    انتظرت قدوم " سَـليم" ولم أسمع له صوتـًا ، إعتقدت بأنه أتي وغادر المكان حين حضر ولم يعثر علينا نحن الإثنين ، تحركت روز وصعدت لأعلي الحفرة ونظرت إلي تنادي عليّ ببعض النباح خفيض الصوت ، حاولت اللحاق بها لكني شعرت بأن شيئا يؤلمني بقدمي اليسري ، نهضت وتسلقت الحائط المتعرج بصعوبة معتمدًا علي قدمي اليمني ويدىّ حتي وصلت لأعلي الحفرة واستنشقت هواء هذا اليوم الغريب علينا ، تحركت بصعوبة في إتجاه الكهف والذي لم يكن يبعد سوي أمتار قليلة وفوجئت بشيء أسعدني حيث شاهدت الضبع ملقي أمام باب الكهف مضرجا بدمائه ومازال الرمح مغروسا بجسده ، بعد قليل نبحت روز بعد أن اتجهت بنظرها ونظرت بأسفل وأقبلت عليّ محاولة أن ألحق بها ، سرت بصعوبة وبحفرة بين الصخور مماثلة للحفرة التي وقعت بها شاهدت الضبع الثاني وقد دقت عنقه ، نظرت لأعلي حامدا الله بكلمات عاجزة من الفم صادقة من القلب " إبه إبه .. أأ .. آه .. أأأ .. أه ..  أبا أباه".

     ُعدنا إلي الكهف وشاهدنا الطعام كما هو ، أقبلت روز علي الطعام بنهم وتحيرت فقد كنت أعتقد بأن الطعام سيئ ولكن تبين بأن الطعام صالح وتكثر به كمية اللحوم وهذا ما دفع بالضباع لأن تقبل في اتجاهنا ، حمدت الله وشكرت    " سَـليم" علي كل ما قدمه ويقدمه لنا ولولا هذا الرمح لكانت الضباع أهلكتنا بمخالبها وأسنانها الطويلة التي تمزق جسد الفريسة وهي مازلت علي قيد الحياة.

   نظرت إليّ روز وهي مازالت ُتحدث أصواتا هادئة كأنها تقول لي اتفضل معايا الأكل ولكني ابتسمت لها مما دفعها لأن تزيح لفافة الطعام من أمامي وجلست مواجهة لي ووضعت يديها الأماميتين علي كتفي وعاد إليها صوتها الهادئ ، أمسكت بقطعة من اللحم ووضعتها قريبا من فمي متسائلا ً بإشارة مني "آكل" حركت رأسها وأقبلت تلعق وجهي ، قضمت قطعة من اللحم التي كانت شهية للغاية وأعتقد أنه لحم ماعز وُمعد اعدادا جيدا وللمفاجأة لم يكن هناك طعام بتلك اللفافة سوي اللحم ، نظرت إلي روز وقلت ما بداخلي دون صوت أو همهمة " أنتِ تساوي تمنك دهب ياروز" يا بخت من ح تكوني من نصيبه!! هزت رأسها بشده وتنبهت أنني أحادث كلبا وليس إنسانا فأمسكت فمها الواسع مقبلا ً متحدثا ، يخرب بيت عقلك ، أنت فاهمه كلامي؟

    حركت رأسها لأعلي وأسفل علي غير عادة الكلاب وكأنها تتصرف مثلي حين أكدت علي ما قلته أو فهمته ، مازلنا نتبادل الطعام وحينما شعرت بأنها تناولت قسطا كبيرا دفعت بقدمها اليمني قطعة لحم في اتجاهي فأمسكت بها مما دفعها إلي مواصلة الطعام ، توقفت روز عن الطعام وأشارت لي بفمها الواسع نحو عبوة البلاستيك فأسرعت وأحضرت الطاسة والعبوة وفتحتها وصببت لها الماء فشربت منه الكثير حيث تبين أنها كانت عطشي بشدة وقد نسيت أن تلك الأنثي حامل وتغذي أطفالها وتزودهم بالماء مثل بني الإنسان.

     أنهينا طعامنا فاقبلت عليّ وهي تشير بفمها نحوجسدها بما يعني أن أعيد فحص إصابتها ثانية ، نزعت الأربطة بهدوء وتفحصت الجراح التي كانت كثيرة لكن نزف الدماء توقف ، أعدت ربط الجراح ثانية لامسا شعر جسدها مهدهدا عليها حتي استكانت ونامت واضعة رأسها علي ساقي ، راحت في نومها ولكنني مازلت يقظأ في انتظار " سَـليم" الذى تأخر عن موعده ساعة علي الأقل ، شاهدت جلبابي وقد تمزق وتلون بدماء روز الحبيبة ، أيقنت بأنه من الواجب عليّ أن أنتبه منذ الآن لاحتمال اقتراب أعداء من الكائنات الأخري بخلاف بني البشر.

     اقترب الغروب و" سَـليم" لم يأتِ بعد وأدهشني هذا واعتقدت بأنه قرر القيام بمهمة تسليم الخريطة بنفسه إلي المسئولين المصريين بالسويس ، وضعت الرمح بجانبي وفتحت اللفافة الأخري ثم أعدت إغلاقها وأشرت إلي روز بهذا فأيدت تصرفي بإشارة وصوت هادئ بما يعني كلامك مظبوط حيث لم يأتِ "سَـليم" هذا اليوم وبالتالي سوف أحتفظ بطعام ومياه المساء لباكر ولا أعلم الظروف المحيطة بنا الآن.

 

 

 

Share
Click to listen highlighted text! Powered By GSpeech