Click to listen highlighted text! Powered By GSpeech
Get Adobe Flash player
مستمرين معاكم بإذن الله 2008-2024 **** #لان_لجيشنا_تاريخ_يستحق_أن_يروي **** ***** إنشروا تاريخنا وشاركونا في معركة الوعي **** تابعونا علي قناة اليوتيوب 1100+ فيديو حتي الان **** تابعونا علي صفحات التواصل الاجتماعي** أشتركوا معنا في رحلاتنا لمناطق حرب أكتوبر **** يرجي استخدام خانة البحث **** *** تابعونا علي تليجرام - انستجرام - تويتر

روايه عابد المصري - الحلقه العاشره

حصريا لاول مره علي الانترنت

بتصريح خاص من الكاتب للمجموعه 73 مؤرخين

لا يجوز اعاده النشر بدون الاشاره للكاتب والموقع كمصدر

عـــابد المصـرى .. رواية

كتبها/أسـامة على الصـادق

.....

الطبعة الأولى .. يوليو 2010

الناشر: الكاتب

.....

تصميم الغلاف:

ريهام سهيل

....

حقوق الطبع محفوظة للكاتب

موبايل: 0127970032

 

فقدت العـــون والمسـاعدة

 

    امس كانت نهاية اليوم الثالث ومازالت آثار هجوم الضباع بغرض افتراسنا بادية علينا ، كلما تذكرت تلك الحيوانات ازداد خوفي ورعبي منها فهي كبيرة الحجم وذات رأس كبير وجسد مغطي بخطوط بالعرض بلون رصاصي علي الظهر ويفصل تلك الخطوط بعضها عن بعض خطوط صفراء كما أن عرض الخط ثلاثة سنتيمترات تقريبا أما افواهها فهي ُمخيفة جدا لحجمها الكبير وصوتها المرعب وهي تميل للخلف عن الأمام بعدة سنتيمترات ودائما فاتحة الفم حتي تخيف العدو بأسنانها الفتاكة كما يسقط اللعاب من فمها دائما.

      هذا هو اليوم الرابع وقد تعدي ضياء النهار ودخل علينا الليل المرعب ، كنت في خوف علي الدليل بأن ُيلقي القبض عليه من الاعداء وهو يحمل الرسالة والمعروف عن العدو مهارته في تجنيد الكثير من الناس لتزويده بالمعلومات سواء ُكرها تحت التهديد بالقتل أو السجن أو رغبة بالمكافآت السخية ومن الجائز أن يكون "سَـليم" قد وقع فريسة لأحد هؤلاء العملاء.

***

سليم داخل القبيلة

        عاد "سَـليم" إلي قبيلته ؛ بعد الغروب التقي بزميله "زلطة" لبحث بعض المعلومات التي وصلت من القاهرة ، أظهر له "سَـليم" الرسم التخطيطي الذي زوده به "عابد" بعد أن أوضح له بأنه قد تبين له أن هذا الضابط أخرس وبالتالي لن يستطيع تزويد القيادة بما طلبته منه ولهذا لجأ لتلك الحيلة ، شــــاهد "زلطة" الرسم وأشاد بمن قام به رغم أنه لم يشاهد الموقع المراد الحصول علي معلومات عنه لكن الواضح أن "عابد" كان دقيقا فيما يقوم به وأخبره بأنه بالصباح سوف يتوجه إلي الجزيرة الخضراء لتسلم مكافآت رجاله وسوف يتحرك بعدها إلي السويس لتسليم هذا الرسم إلي المكتب هناك مع التنبيه عليهم بأن يسارع مكتب السويس بإيصال هذا الرسم إلي المكتب الرئيسي بالقاهرة.

      صباح اليوم التالي تحرك "سَـليم" كالعادة متجها إلي لقاء "عابد" حاملا ًمعه الطعام والشراب ، شاهد سيارة عسكرية إسرائيلية مغروسة في الرمال والجنود يحاولون إخراجها فأشاروا إليه بأن يأتي لمساعدتهم ، ترك الطعام جانبا وتوجه لمساعدتهم حتي نجحوا وغادرت السيارة الرمال التي ُغرست بها وتوقفت علي المدق التي تتحرك عليه السيارات دائما ، توجه "سَـليم" لأخذ الطعام فشاهد أحد الجنود قد فتح العبوة وبدأ في التهام الطعام مما أغضبه فسب هذا الجندي مما دفع بزميله إلي التعدي عليه بالضرب ، تبادل " سَـليم" والجندي العراك مما أشعر باقي الجنود بالإهانة بأن يقوم هذا المتخلف الهمجي المسلم بالتعدي علي زميلهم ففتح أحدهم  النار عليه فسقط مصابا بعدة جروح.

     أقبلت سيارة عسكرية أخري علي صوت إطلاق الرصاص وشاهدوا البدوي ُمصابا وتعرف عليه أحد رجال الأمن الإسرائيليين موضحا بأنه من قبيلة "......" وأن شيخ تلك القبيلة يقدم يد المساعدة لهم وبالتالي سنفقد هذا العون فأسرعوا به إلي المستشفي العسكري الميداني لمحاولة إنقاذه.

***

      هذا هو اليوم الخامس وقد تعدت الساعة العاشرة صباحا ولم يحضر "سَـليم" في موعده لليوم التالي ، شعرت بأن شيئا سيئا قد حدث له واعتقدت بأن خريطة الموقع التي قمت برسمها هي السبب الأول فيما حدث له حيث كانت مواعيد حضوره منضبطة قبل أن يتسلم مني تلك الخريطة ، أصابني الضيق والألم لما حدث وشعرت بأنني المتسبب الأول فيما حدث له كما انتابني اليأس والقنوط لفشل مهمتي ، كنت أفكر بالعميد .... الذي اعتمد علي شخصي وكان يشيد بما أقوم به كما أن المقدم فوزي سوف يصيبه خيبة الأمل حيال ما لم أستطع أن أقوم به لصالح الوطن.

        مازلت أشاهد النسور تحوم حول المكان الذي قتلت فيه الضباع بل بدأت في الهبوط لافتراسها وأصبحت تتقاتل أمامي لالتهامها ، آثار هذا حفيظة روز ولكني أشرت إليها بالهدوء والسكينة ويكفي ما عليه حالنا الآن فقد أصبحنا دون طعام أو ماء ، كنت أشاهد النسور بعد هبوطها وتناول وجبتها تتجه إلي المنطقة التي بخلف الكهف ثم تعود فرادي معاودة تناول الطعام ، خرجت أتابع تلك الظاهرة ورافقتني روز وتحركنا سيرا فوق الهيئات المتعرجة وغير المنبسطة والتي تعيق السير ، مازلت أشاهد الطيور من علي ُبعد وهي تهبط ثم تظهر ولهذا تأكد لي بأن هذا هو عشهم وعرينهم أو أن هناك عينـًا للمياه ولكني استبعدت هذا لأن " سَـليم" لو كان يعلم هذا فلماذا يتحمل مشقة حمل المياه لمسافة طويلة.

     تحركت في الاتجاه التي كانت تقصده الطيور ، سرت مسافة طويلة حتي شاهدت العديد منها يقف علي الأرض ، أسرعت الخطا بينما كانت روز تسير بثقل فقد أنهكها مجهود السير مع الاثار الناجمة من الجراح التي مازالت بجسدها رغم أنني أصُـبت أثناء سقوطي ولكن إصابتي تلك لم تكن بالخطورة التي شاهدتها علي روز ، شعرت بأنني سرت أكثر من ثلاثة كيلومترات وهذا باديا من الفارق في التوقيت حين بدأت حتي انتهيت وشاهدت الطيور تقف أرضًا.

    أخيرًا شاهدت عين ماء صافية أسرعت أهرول متجها إليها ولكن روز نبحت في اتجاهي وأنا مازلت سائرًا فقد ألم بي العطش خاصة بعد أن بذلت هذا المجهود المضني وقد تصبب العرق مني غزيرا ، شاهدت روز تعترض طريقي وأنا أحاول إثناءها عن فعلها هذا مما دفعها إلي الوقوف علي أقدامها الخلفية ووضعت القدمين الأماميتين علي كتفي ولعقت وجهي وأنا أشير إليها بإنني اقتربت من الماء ولم يتبق علي الوصول إليه إلا عشر دقائق ولكن لدهشتي أنني شاهدت ثعبانا ضخما لم أشاهد مثله طوال حياتي حتي في حديقة الحيوان ، كان الثعبان قريبا من بركة الماء يعمل علي اصطياد فرائسه من الحيوانات الصغيرة والطيور ولهذا ظلت النسور متخوفة من الاقتراب منها.

     كان الثعبان ذو الألوان الرمادية مشابها لطبيعة الأرض مما دفع بروز إلي السير خلفي مبتعدة وأنا بالتالي توقفت عن السير لاهث الأنفاس سواء من مجهود السير أو مما رأيته ، كان الثعبان كبير الحجم فقد تعدي طوله ثلاثة أمتار أما محيط جسمه فلا يقل عن ثلاث بوصات أي ما يقرب من أكثر من سبعة سنتيمترات ، ُعدت للخلف وأنا غير قادر علي التصرف وقد ألهبت أشعة الشمس جسدي وجروحي  ، شاهدت بالمنطقة بعض بقايا حيوانات نافقة كذلك بعض بقايا وحدة عسكرية وأعتقد بأنها وحدة لقوات المظلات حيث شاهدت عربة جيب وقد غلفها الصدأ وعليها شعار قوات المظلات المصرية ، شاهدت بعض العدد المتناثرة كما شاهدت بعض أوعية الوقود سواء بنزين أو سولار مخبئة أسفل الصخور والأحجار ، جلست بعض الوقت لأحصل علي أنفاسي وقد اختبأ الثعبان أسفل صخرة مستغلا ظلها ليبتعد عن حرارة الشمس حتي يضلل فرائسه.

    شاهدت روز تتألم ونامت أرضا ، ُعدت إليها مقررا العودة إلي الكهف ولكنها

لم تستطع السير ، حاولت إقناعها ولكنها أشارت بفمها إلي بطنها ولاحظت أن بطنها قد ازداد إنتفاخا ، حاولت حملها فتألمت وأصدرت بعض الأصوات المعبرة عن ذلك وشعرت بأنها ثقيلة عليّ يدىّ ، أصبحت في موقف سيئ للغاية فسوف أظل بجوارها ولن أترك تلك الصديقة بمفردها ، جلست أفكر كيف أمد لها يد العون ، طرأ علي فكري بأن أعمل لها نقالة فاسرعت إلي إطار كاوتش سيارة فارغ ملقي بجانب السيارة الخردة فحملته عائدًا إليها ، قررت أن أضع روز بداخل هذا التجويف ثم أحملها علي ظهري ، قطعت جزءَا من حواف الكاوتش فأصبح متسعا وحملت روز ووضعتها به وهي مازالت ناظرة لي بعيون شبه دامعة حيث مازالت تعاني آلام جروحها.

     أسرعت بالبحث بداخل بقايا السيارة فعثرت علي بعض سيور من المشمع السميك ، أحضرته وربطت به كاوتش السيارة بحيث كانت روز نائمة به وبطنها لأعلي وظهرها علي باطن الكاوتش جلست أرضا ووضعت التجهيزة المصنوعة من المشمع من أمام وجهي بحيث يقع الثقل علي كتفيّ وأصبحت روز بداخل الإطار الكاوتش وتماثل في وضعها خلف ظهري ما يحمله الطلاب الصغار من حقائب مدرسية ، نهضت بصعوبة لثقل وزنها ، تحركت سائرا تحت أشعة الشمس العمودية ولهيبها بالإضافة إلي اللهيب الناتج من احتكاك الكاوتش ذى الحمل الثقيل علي ظهري ، ُكنت أشعر بأنني أسير مثل أي إنسان سكير حيث ُكنت أترنح وازداد هذا المجهود وأصبح لا يطاق خاصة حين التســــــــلق بعض

المرتفعات ، ظللت سائرا حتي اقتربت الشمس من المغيب وقد وصلت باب الكهف ، جلست بهدوء ووضعت إطار الكاوتش علي جانبه ثم أخرجت روز التي كانت تتفصد عرقا ، وضعتها اسفل جلبابي حتي لا تصـــــاب بالبرد نتيجة

العرق والهواء اللافح الذي بدأ يهاجم المنطقة ، تسللت بهدوء لداخل الكهف بعد أن جف جسدها وهي تصدر نغمات حزينة أدركت منها أنها علي وشك الموت.

     شعرت بأن معركة الحياة أو الموت أصبحت أمرًا واجبًا لا مناص أو فرار منه ، يجب عليّ قتل هذا الثعبان الذي حرمني وحرم الطيور من المياه فقد أفسد علي الجميع حياتهم ، صباح اليوم التالي توجهت بمفردي إلي عين المياه وشاهدت الثعبان مازال حارسا تلك العين ، جلست منتظرًا أية فرصة لملء الوعاء الذي كنت أحمله فقد أفقدتنا قلة الماء النشاط والتفكير ، مازالت النسور تقف أمام المياه راغبة في انتهاز أية فرصة للحصول علي ما تحتاجه ، بعد قليل تشابك نسران في عراك دامي حتي سقط أحدهما جريحا وبسرعة البرق حاول الثعبان التقاط النسر ولكنه أسرع بالهرب مختبئا بين الصخور ، كان واضحا بأن هذا الثعبان في حاجة شديدة للطعام ولهذا فهو يحاول أن يتصيد أي طائر ، بسرعة مددت العبوة البلاستيك مستخدما الرمح إلي الماء وبعد أن كادت تملأ حاول الثعبان مهاجمتي ولكنني كنت أسرع منه وعدت للخلف عدة خطوات بعد أن نجحت في الحصول علي الكثير من المياه ، جلست قليلا ثم لاحظت أن النسر الجريح سقط وتدحرج أمامي وعلي وشك الموت ، أمسكت به وُعدت به ُمسرعًا إلي " روز " بعد أن عببت بعض الماء.

     مازلت سائرًا حتي وصلت إلي الكهف ُقبيل العصر وقد تحسنت حالة الطقس وتلاشت شدة الحرارة ، شاهدت " روز " مازالت نائمة وتحرك رأسها بصعوبة

، صببت لها الماء وقربته من أنفها ، تشجعت ونهضت وهي تلعق المياه ثم توقفت وبعض قطرات تسقط من فمها بداخل الإناء ، ظلت علي هذا الحال حتي ارتوت ، أحضرت لها النسر ووضعته أمامها ، أصابها القرف وإبتعدت عنه.

      هاجم الظلام المنطقة ورحت في نوم عميق استيقظت علي صوت قرقشة أو شيء يؤكل ، لقد كانت السيدة " روز " تتناول طعامها حيث أنهت علي النسر بالكامل ولم تترك لي سوي الريش ؛ علقت قائلاً :

ـ الحمد لله إنها جت علي نفسها حبتين والتواضع حلو وأنت فاكره نفسك مين؟

      مضت عدة أيام وأصبحنا في احتياج شديد للماء ، تركت " روز " بعد أن وضعت بقايا الماء أمامها بالطاسة ونظرت إليّ كأنها تخبرني بأنها راغبة في مياه مثلجة! عقدت العزم علي التوجه للبركة وحملت معي العبوة الزنك التي حفظ  " سَـليم" بداخلها علي قطعة الجير الحي كما أخذت معي رمحي وعبوة الماء وقررت عدم العودة إلا بعد أن أصفي حسابي مع ذاك المخلوق الخطير.

     وصلت إلي البركة ووجدت أنها مازالت علي وضعها ، النسور تحاول سرقة بعض نقاط من المياه وحين تشاهد أية حركة صغيرة من الثعبان تعود مسرعة أو تطير ، ما حدث منذ عدة أيام حدث اليوم من اقتتال النسور ، سقط أحدهم قتيـًًلا فأسرعت بسحبه بالرمح مما أثار ضيق الثعبان ، ابتعدت عن هذا المكان حتي أتجنب غدره وهناك فتحت باطن النسر وأخرجت جميع أحشائه ونظفت ما بداخله بالرمال ثم وضعت قطعة الجير الحي بداخل غلاف من البلاستيك مما كان يحمله " سَـليم" إليّ وبداخله الطعام ولففت الغلاف حول الحجر الجيري والذي كان باديا علي ملمسه الحرارة ثم قطعت بعض خيوط من الحبل المحيط بالسكين ، كانت الخيوط البلاستيك رفيعة جدا كأنها خيوط صنعت من الحرير.

    أريد أن أخيط بطن الطائر حتي لا ينتبه الثعبان لما بداخله وتغطي زفارته المكان ، نظرت حولي فشاهدت شجرة من الشوك ، نزعت شوكة وأصبحت أستخدمها كأنها إبرة فأقوم بعمل ثقب ببطن الطائر ثم أدخل به الخيط الرفيع ومن الجهة الأخري أقوم بالربط ثم أعد فتحة أخري وهكذا حتي أنهيت غلق بطن النسر ، تحركت بحذر من خلف الصخرة القابع بأسفلها الثعبان ، كانت الصخرة ممتدة للأمام مثل طاقية اللاعبين أي للصخرة رفرف ويرقد بأسفله الثعبان ، صعدت لأعلي الصخرة وألقيت بالطائر أمامه فقفز الثعبان عليه بسرعة والتقمه في الحال.

    أسرعت بالعودة إلي البركة مواجها الثعبان ، أشاهده وقد اختفي نصف الطائر بداخل فمه ، كنت متخوفا بأن يحدث مفعول الحجر الجيري في بداية البلع وينتبه الثعبان ويلفظه من فمه لكن هذا لم يحدث ، ظل الثعبان في ابتلاع النسر حتي اختفي حيث كنت أشاهد انبعاج جسم الثعبان حتي وصل إلي منتصف الجسم حيث ستتم عملية الهضم بالضغط وبالعصر مستخدما عضلاته وبالتالي يتفتت الحجر الجيري وتلتصق بمعدة الثعبان المبللة.

    ظللت جالسا لأكثر من ساعتين أحرقتني خلالها أشعة الشمس وشعرت بأن رأسي أصبحت ثقيلة وسوف يغالبني النوم فنهضت واقفا حتي لا يفاجئني النوم أمام جحر هذا الكائن السام الخطير ، بعد قليل لاحظت تحرك الثعبان ثم ازدادت حركته حتي أصبحت عصبية ثم فجأة قفز بنصفه الأعلي إلي بركة المياه راغبا في الشراب  تأكد لي بأن الثعبان سوف يلفظ أنفاسه ، عب الثعبان من الماء ثم غادر البركة وأثناء توجهه إلي أسفل الصخرة قفز لأعلي وشاهدت خروج دخان أبيض من فمه أعقبه قفزات لأعلي ثم شاهدت أنتفاخـًا وسط جسم الثعبان وأعقبه انفجار قصمه إلي عدة أجزاء وتناثر جسده أسفل وأمام الصخرة.

     الحمد لله .. قلتها وأنا راغب في الصياح ولكنني ُحرمت من تلك النعمة فأخذت أصفق وقد شاركتني النسور تلك الفرحة بالشرب من البركة ثم فردت أجنحتها بطريقة تدل علي أنها تقوم برقصة سعيدة ، تأكد لي بعد قليل أن مياه البركة سليمة وغير مسممة حيث تناولت النسور مياهها وظل بعضها جالسا بمحيطها بعض الوقت ثم طارت لأعلي ، ملأت العبوة بالمياه وشعرت بأنني مازلت أجيد التفكير والتدبير بعد أن شعرت إنني إنسان أقل مقدرة عن الآخرين لفقدي نعمة النطق والحديث.

     أثناء عودتي شاهدت أرنبا جبليا فانتظرت كامنا حتي إذا أصبح في مرمي الرمح وقذفته به فأصبته  في الحال ورغم حزني عليه إلا إنني فرحت لعودتي إلي " روز " بطعامها.

    استقبلتني " روز " بسعادة وكاد لسانها ينطق ببعض كلمات مشجعة مثل ربنا يخليك ليا يا حبيبي يا عــابد يا مستتني ومهنيني ، حين شاهدتني أدخل عليها بالأرنب والمياه نهضت لاستقبالي وأغدقت عليّ بحبها وحنانها بحصولي علي حضن ناعم أعقبه بعض لعقات من فمها ، وضعت "الغلة" أمامها كما يقول التجار ، تناولت الأرنب مباشرة وعبت من الماء الكثير ، كنت سعيدًا بأنها تتناول الطعام رغم إنني ُحرمت منه أيامًا ثلاثة وبذلت من المجهود الكثير ولكن هذا واجب الرجال!!

     قبيل الغروب شاهدت حيوان " الورل " وهذا الحيوان هو نسخة مصغرة من التمساح وقـد خـلقه الله ليأكل الثعابين فيهجم عليها قاضما رأسها أولا ثم يبدأ بتناول الباقي ، حيوان مدرع وذيله قادر علي جرح أي إنسان نظرا للزوائد العظمية الكثيرة به كما أن أسنانه رفيعة وقاتلة ، تبعته جريا حتي اقتربت منه والقيت عليه بحجر ثقيل فخمدت روحه في الحال ، أحضرت السكين وقمت بتقطيع أجزائه وتنظيف بطنه من الأحشاء بالرمال وتناولت لحمه بالظلام وأقبلت عليّ " روز " فتناولت ما تبقي منه من الفشه والأرجل!!

***

بداخل الإدارة

     تعدت الأيام المقررة لكي ينهي عابد مهمته والغد هو اليوم الخامس من شهر مارس من عام 1969 لم تصل أي أنباء عن عودة عابد بل علي العكس فقد وصلت أنباء عن إصابة " سَـليم" دليل عابد والمعاون له والذي سوف يرعاه حتي إنتهاء مهمته ثم يعمل علي إعادته ، كل تلك المعلومات وصلت إلي العميد ... فأثارت ضيقه وتوتره وأصبح يردد:

ـ "الواد أخرس والدليل بيموت بالمستشفي ومحدش من أتباع زلطه عارف مكانه ، بعدين يارب ، إيه الحكاية مالها ملخبطة ومش ناويه تعدي علي خير وأنا قدامي تلات تيام وأقدم تقرير لرئيس الأركان عن الموضوع ده ، عونك يارب.

لم تمض ساعة إلا وحدث اتصال من مدير مكتب السويس بمكتب العميد الذي أسرع بالإجابة معتقدًا بأنه قد وصلته معلومات تفيد العثور علي عابد ، استمع الرجل إلي حديث مدير مكتب السويس الذي أخبره بأن زلطة راغب فى الحديث معه ، توتر العميد فهو لم يتحدث مع زلطة من قبل بل زلطة يتحدث مع المعاونين له ولابد أنه قد حدث شئ خطير يدفع بالمسئول عن جميع العملاء بسيناء للتحدث معي ، استرها يارب ، قدم زلطه نفسه ثم تطرق إلي صلب الموضوع مباشرة حيث أخبره بأن لديه رسالة خطية من عابد والرسالة في منتهي الأهمية وقد سلمتها إلي مدير مكتب السويس لإيصالها إلي سيادتكم ، انتهت المحادثة وأمر العميد .... مدير مكتب السويس بإرسال الرسالة مع مندوب ضابط علي عجل إلي الإدارة.

    عاد الهدوء إلي العميد وشعر بأن المقدم فوزي كان ُمحقا في مدحه وثنائه علي عابد ، فهذا عابد الأبكم يرسل برسالة خطية بعد أن ُحرم نعمة الحديث وبعد أن أصيب المعاون له فتصرف الشاب ، كان العميد يرجو الله أن تكون تلك الرسالة ذات أهمية وتغطي الغرض من إرسال ضابط للعمل خلف خطوط العدو وهذا يعتبر خطرا ً علي الضابط.

     مضت ساعات ثلاث كان العميد خلالها يعد الدقائق والثواني وها قد وصل مندوب مكتب السويس فأمر العميد بإحضاره فورا إلي مكتبه علي غير عادة القادة من استقبالهم للضباط الأصاغر والذين لا يهتمون بهم ، بداخل المكتب أدي الضابط التحية العسكرية الواجبة عليه وسلم العميد الرسالة والذي أمر الضابط بالانتظار بالاستراحة وأمر معاونيه بتقديم طعام الغداء له والذي مضي عليه أكثر من ساعة لحين طلبه ، فض العميد مظروف الرسالة الذي أضافه " سَـليم" ثم تطلع إلي الورقة الداخلية مما دعاه للصياح طالبا معاونيه بأقصي سرعة ، أقبل المعاونون وأطلعهم العميد علي الرسالة وقد أيقن الرجال بأن عابد ضابط استطلاع ومخابرات علي أعلي مستوي من طريقة رسمه التوضيحي للقاعدة والبيانات المضافة خاصة نقط الارتفاع التي وضعها علي الرسم مما دفعهم جميعا للتوجه لمشاهدة الخريطة المنصوبة علي الحائط وأشاروا إلي نقطة الارتفاع وأصبح الهدف محددا لهم ويعرفونه مثل مكتب القيادة الذي يعملون ما بداخله.

     ارتفعت معنويات رجال الإدارة خاصة العميد الذي طلب لقاء عاجل مع رئيس الأركان قبيل الموعد المحدد له والذي كان يخشي اقترابه دون بيانات عن الهدف ، حدد الموعد باليوم التالي نظرا لحساسية اللقاء وفيه عرض العميد رسالة عابد بعد أن تم تكبيرها إلي عشرين ضعفـًا وعمل عدة نسخ لممثلين عن الأسلحة المختلفة بالاجتماع ، أصدر رئيس الأركان تعليمات مباشرة لقائد قوات الصاعقة بإرسال قوة لا تقل عن عشرة رجال تحت قيادة ضابط كفء إلي الموقع وتدميره علي ألا يعودا إلا بعد انتهاء المهمة وإذا لم يتم تدمير الهدف فلا يجب عليهم العودة علي أن يتم هذا خلال عشرين يوما من الآن كما أمر العميد .... بمعاونة رجال الصاعقة بتلك المعلومات وبمساعدة رجاله الذين لديهم خبرة عن طبيعة تلك المنطقة.

     بدأت تعد العدة لتنفيذ تلك المهمة والتدريب علي أرض مشابهة وإعداد الأدوات والمتفجرات المستخدمة حيث كانت تعليمات رئيس الأركان صارمة بالتدمير الكامل للقاعدة وقتل أكبر عدد من أفراد العدو.

***

    ظللت علي هذا الحال لمدة تجاوزت الأسابيع الخمسة خلالها طال شعر رأسي بغزارة وأصبح جلبابي عبارة عن هلاهيل قذرة وليس لها لون وأصبحت رائحتي أشد سوءا من الحمير والبغال وأظافر يدي كانت تقصف من شدة طولها ، نسيت سماع أصوات وأحاديث بني الإنسان ، شعرت بأن " روز " قد اقترب موعد وضعها ، كنت راغبا بالاستعداد لهذا اليوم السعيد في حياة الأسرة وتذكرت لو كانت الظروف تسمح لأحضرت عددا من الأباريق والقلل لزوم السبوع ولكن الظروف لا تسمح وقد جار الزمن علي " روز " وأصبحت تقبل بأي شيء حتي القليل منه وعادت لتعيش عيشة أهلها في بدء الخليقة وتقصف شعرها الجميل ولم تعد تهتم  بأناقتها كسابق عهدها!!

     أسرعت الخطي بعمل خزين للطعام من أجل تلك الأم وأبنائها ولو استطعت إعداد حلبة وموغات لفعلت ولو كنت أعلم بأن القدر سوف يتركنا بتلك المنطقة لأكثر من خمسة وثلاثين يوما بدلا من خمسة أيام لأحضرت كل شيء لتلك الأم وأطفالها لكن الظروف كانت صعبة علي حالنا وأصبحت أعيش مع  " روز " حياة بدائية بعيدة عن الترفيه وعون الخدم والطهاه ، نظرت إليها متحدثا " إبه إبه .. أأ .. آه .. أأأ .. أه ..  أبا أباه" حيث كنت أقصد دوام الحال من المحال سيدتي الرقيقة ، أعطتني مؤخرتها كأن كلامي لم يأت علي هواها.

   غشي الظلام المنطقة خارج الكهف فتحركت روز ببطء وتكاسل إلي داخل الكهف ، تبعتها وقد أثرت عليها ظروف الحمل فنامت علي أحد أجنابها فلحقت بها نائما قريبا منها كي ألبي لها ما تحتاجه فقد بدا عليها الإرهاق والإعياء ومن تأثير الإرهاق والتعب ُرحت في سبات عميق ، تنبهت علي نباح بطيء كسير مثل أي إنسان يتألم باكيا ، هدهدت علي ظهرها ولكن الشيء الغريب أنني لمست شيئا مبتلا أعقبه سماع أصوات رفيعة حادة ، توترت وخشيت أن يكون قد أتي حيوان أو ثعبان وقد لمسته ، ابتعدت قليلا ً فسمعت نباحها أشد قوة عن السابق ، ُعدت قريبا ًمنها فقد شعرت بأن هذا النباح هو طلبا للنجدة.

    بعد قليل إزدادت الأصوات الرفيعة ، تنبهت لأن تلك الأصوات مشابهة لأصوات الكلاب الصغيرة التي تسرسع بصوتها ، اقتربت أكثر ونمت علي بطني ولمحت حركة من كائنات صغيرة بجوار " روز " ، كدت أصرخ سعادة فلقد وضعت " روز " جراءها (الكلاب الصغيرة) وكان " سَـليم" هو الصائب الوحيد في ملاحظته تلك حين أخبرني قائـًلا بأن تلك الكلبة  ُحبلي ، جلست بجوار الأم وصغارها وكنت من حين لآخر أقبلها مهدهدا علي شعرها فتقوم بلعق يدي مصدرة أصواتا طيبة كأنها تقول لي "َمرسي" أو أشكرك ، شعرت بأنني أحمل حملا ثقيلا ً علي كاهلي فقد أنجبت السيدة " روز " ولا أعلم عدد صغارها حتي الآن ولم تشركني في ولادتها ولم تطلب مني أن أحضر لها طبيبا أو داية حيث كان الله معها.

     كنت أستعجل قدوم الصباح حتي أري وأتصرف لإطعام تلك الأم المسكينة ، مضي عليّ الوقت وشاهدت ميلاد يوم جديد كما شاهدت ميلاد كائنات جديدة ، ركزت نظري في الصغار فلم أستطع حصرهم لالتصاقهم ببعض وبباطن " روز " ، سمعت صوت مصات صغيرة فقد كان الصغار ممسكين بحلمات الأم ، خرجت الدموع من عيني لقدرة الخالق ، انحنيت أقبلها فبادلتني القبلات ، حدثتها بإشارات بأنني سوف أحضر لها طعاما وشرابا ، فتحت فمها وأخرجت لسانها كأنها تخبرني بأنها تحتاج لكلا النوعين.

    أمسكت برمحي استعدادا للصيد مثل أبونا آدم عليه السلام وقبل أن أغادر الكهف سمعت أصواتا كأنها لحيوانات وبعض من أبناء بني البشر ، ُعدت خوفا علي " روز " وصغارها ولكن لحكمة الله فقد أطل عليّ من باب الكهف فتاتان غاية في الجمال ورقة وأحداهما ابتسمت لي قائلة:

ـ كيفك عابد؟

ـ نظرت إليها وقد إندفعت الدموع من عيوني ، أقبلتا إلي داخل الكهف يطيبن من خاطري وهن يحملن الطعام والماء ، شعرت بسعادة غامرة وأخذت الماء وصببته بالطاسة أمام السيدة روز التي كانت تلعق المياه بصوت مسموع ، تحدثت إحدي الفتيات قائلة:

ـ "اللهم صلي ع النبي" كلبتك ولدت يا زلمه ، والله سـًليم َخبرنا من يومين بأن كلبة الزلمة حتجيب صغارها جبل ما تعود لمصر ، هوه اللي طلب منا َنعود عليك ونشوف أغراضك وحاجتك ، مش تعتب علينا ولا علي "سًـليم" لأنه لسه محجوز بالمستشفي ، هتفت الأخري:

ـ شوفي يا سلمي ، هادي الصغار أربعة وشكلهم حلو خالص

ـ نظرت إليّ الفتاة الأخري معلقة:

ـ هذا حجيجي كيف الأم والأب حلوين وزين!! اندفعت الفتيات بالضحك ثم فتحت إحداهن اللفافة وقدمت لي  الطعام ، كان الطعام بكميات كثيرة ويحتوي علي الأسماك ، وضعت الطعام أمام روز فنهضت تتناوله بينما الصغار احتجوا علي هذا بإصدار أصوات رفيعة مسرسعة وأحدهم تعلق بحلمة أمه ثم سقط أرضا صارخا ، مازالت " روز " تتناول طعامها وقد رغبت في تقديم الشكر لي فأقبلت نحوى محاولة لعق وجهى وكنت لحظتها أتناول بعض المياه فابتعدت عنها ، شاهدتها وهي تنظر إلى بكل ضيق وألم وقد تركت الطعام ، فأسرعت إليها محاولا الاعتذار ولم ترض عنى إلا بعد أن قبلتها عدة قبلات ُمطعمة بالسمك اللاصق على فمها ، عادت فلعقت وجهى وأصبحت الزفارة والقذارة هي حالى.

    ُعدت أنظر إلى الفتيات راغبا بمعرفة من هن ثم أمسكت الورقة وكتبت اسم  " سَـليم" فقرأته إحداهن وأخبرتنى بما حدث لسليم وأنه مازال بالمستشفي حينما ذهبت "كاملة " لزيارته ، علمت منها أنها ابنة عمه وخطيبته وهو الذى أخبرها بصوت خفيض بمكاني هذا طالبا منها الاحتراز وأن تأتي إلى بالماء والطعام وأن تصطحب شقيقتها الأصغر "سلمي" ، ظلت سلمى وكاملة تتحدثان معى وأثناء ذلك ظهر على باب الكهف بعض من  الماعز والخراف وحينما شاهدت ذلك أصابتنى الدهشه فطمأنتنى الفتيات بأن هذا القطيع الذى أقبلن به للرعى يعمل على تغطية الزيارة وقد وعدتنى كاملة بمتابعة إمدادى بالطعام والشراب من حين لآخر.

       تساءلت كتابة: هل معهن ماعز تدر لبنا؟ أسرعت سلمى وشاهدتها تحضر إحدى إناث الماعز ذات الضرع الكبير وجلست بعد أن أحضرت الطاسة وقامت بحلب الماعز أمامى حتى أنهت مهمتها وقد امتلأت الطاسة عن آخرها ، بعد تلك الزيارة السريعة الخاطفة ودعتنى الفتيات وقد أدخلتا السعادة والبهجة إلى نفسى وبعد أن غادرتا الكهف ظللت أراقب " روز " وصغارها وأنا في غاية السعادة من علاقة الصغار بأمهم ، كنت أشاهد " روز " وقد التف جسدها علي هيئة هلال وقد نام الصغار بهذا التجويف دون أن يتركوا حلمات صدرها حتى وهم نيام ومن ينتبه من نومه أشاهد فمه يتحرك دليلا على أنه يحصل على المزيد من اللبن ، توجهت إلى مكان الطاسة وعببت من لبن الماعز الجميل الممتع الشهى ، أشرت إلى " روز " ببعض منه ولكنها عادت ونامت مستندة برأسها على الأرض تاركة صغارها يرضعون ويلهون وينعمون بالأمان بداخل ذاك التجويف ثم قربت ما بين أرجلها الأمامية والخلفية حتي أصبحت تحيط بصغارها ونظرت إلىّ كأنها تقول لى تصبح على خير.

 

 

 

 

 

 

عـــودة الفـــرعون

 

       اليوم التالى لهذا الاجتماع الذى عقده الفريق عبدالمنعم رياض مع القادة وإصداره الأوامر بتدمير قاعدة الصواريخ الإسرائيلية وإذا لم يتم هذا فلا يجب أن تعود القوة المكلفة بذلك ، هذا يعني أن المهمة انتحارية ولا بد من التنفيذ ، إشتعلت جبهة القتال بين مصر وإسرائيل بالاشتباكات الدامية بالنيران خاصة سلاح المدفعية وخلاله دمرت المدفعية المصرية أرتالا ًمن لواري العدو المحملة بمعدات وتجهيزات هندسية كانت ُمرسلة لقواتهم على قناة السويس ، كانت تلك أول معركة بهذا العنف وقد ألجمت المفاجأة وقوة النيران ألسنة الإسرائيليين ، اليوم التالى استشهد رئيس الأركان الفريق عبد المنعم رياض الذى أصدر أوامره أمس الأول بتدمير القاعدة الإسرائيلية بجنوب سيناء.

     ما حدث لرئيس الأركان ألهب عزيمة الرجال وتصميمهم على تدمير القاعدة أخذا بثأر رئيس الأركان ، اندفع الرجال فى التدريبات العملية بالذخيرة الحية وباستخدام كل ما هو حديث للحصول على أكبر نتيجة مرجوة من تلك العملية ، كانت هناك رسالة يرغب رجال تلك المهمة إيصالها إلى قائدهم الشهيد الذى ضرب أروع الأمثلة بقيادة قواته على الخطوط الأمامية ونال الشهادة ، لقد كان تصرفه بحق نبراسا لمن لحقوا به وساروا على نهجه بأن يكون القائد فى نفس الخندق مع جنوده إسوة برسولنا الكريم ، كانت رسالة رجال الصاعقة أننا سوف نسير على خطاك أيها الشهيد العظيم يا من أصدرت إلينا هذا الأمر والذى كان آخر أمر عمليات أصدره عبدالمنعم رياض.

***

      شعرت بأن "روز" تحاول إيقاظى حيث كان الظلام حالكـًا بخارج الكهف ، نهضت من فوق الرمال والحصى التى أصبحت فراشى والهواء غطائى متسائلا ً بإشارات من يدى ، ماذا تريدين؟ همهمت قليلا بصوت خفيض وتحركت وسبقتنى ووقفت أمام باب الكهف فتوترت أعصابى واعتقدت أن بعض الضباع ترغب بالأخذ بثأر من قتلناهم منذ أكثر من شهر مضى ، حملت رمحى وجلست قريبًا من " روز " التى مازالت واقفة وقد رفعت أذنيها لأعلى ناظرة جهة القاعدة والتى لن يأتى من جهتها أى حيوان معادٍ ؛ لأن بتلك الجهة جرف شديد الوعورة مثل الحائط ولا يمكن لأى كائن أن يتسلقه.

     أسرعت " روز " بالعدو إلى داخل الكهف فتبعتها وشاهدتها تحتضن صغارها بقوة ولم تمض لحظات إلا وشاهدت أضواء ُمبهرة بخارج الكهف وأصوات انفجارات مدوية دفعت ببعض الأحجار الصغيرة بالداخل للسقوط وتطايرت بعض ذرات الرمال من حولنا ، لم تنقطع الانفجارات ومازالت تدوى والضوء يضرب فى كل اتجاه ، أسرعت بعد أن استعدت هدوئى إلى خارج الكهف أتابع ما يحدث حيث كانت الانفجارت تهز المنطقة بل وعلى ضوء الانفجارات شاهدت الكتل الخرسانية للقاعدة تتطاير وخلال هذا شاهدت وسمعت حين خفت أصوت الانفجارات صوت أسلحة صغيرة وبدا أن قتالا بالأسلحة الصغيرة دائرا ًالآن.

     حضر الملعون الأكبر الطيران الإسرائيلى وألقى بالمشاعل وقام بقصف بعض الأماكن واستخدم الصواريخ تارة والقنابل تارة أخرى ثم استخدم رشاش الطائرة ، عدة دقائق وشاهدت العديد من طائرات الهليكوبتر تغطى سماء المنطقة وعلى أضواء الحرائق الناتجة من الانفجارات شاهدت العديد من الجنود يغادرون الطائرات العمودية ومازالت معركة الرشاشات قائمة بين القوات المصرية والإسرائيلية ، كانت سعادتى وفرحتى لا يستطيع أحد أن يقدرها فلقد أتى ما قمت به بمفعوله سواء بدقة الرسومات أو البيانات التي أضفتها للرسم مما دفعني للضحك والتصفيق متحدثا بصوت عال " إبه إبه .. أأ .. آه .. أأأ .. أه ..  أبا أباه".

       ظللت أتابع المشهد الذى أمامى وكأننى أشاهد فيلما سينمائيا عن الحروب ، فجأة تناثرت القذائف على ظهر الجبل مما دفع بى للاختباء وسمعت نباح "روز" وبعض أصوات صغارها ، توقفت القذائف وإنبلج ضوء الصباح ُفعدت للظهور لأمتع عينىّ بهذا المنظر الجميل ، لقد شاهدت القاعدة وقد ُدمرت تماما والصبات الخرسانية تفتت وآثار الدخان مازلت على بقايا الجدران بل شاهدت الجنود الإسرائيليين يحملون قتلاهم وجرحاهم وينقلونهم إلى الطائرات الهليكوبتر التى هبطت على الأرض ومازالت الطائرات القاذفة تشق عنان السماء باحثة عن المتسبب فيما حدث بينما كنت أتجول قريبا من الكهف لمعاينة ما حدث.

     كنت ألتمس الحماية من بعض الصخور مختبئا بين فواصلها ، سمعت صوت مأمأة قريبا منى ، أرهفت السمع وأجلت ببصرى فشاهدت "عنزة" تلتمس الحماية بالصخور مثل حالى ، أسرعت إليها متجنبا الظهور خشية الإصابة ، اقتربت منها وهدهدت على جسدها بهدوء ، نظرت إليّ ثم عادت تسمعنى صوت المأمأة مرة ثانية ، حاولت مساعدتها على النهوض ولكنها لم تقو حيث كانت تسقط أرضا كلما رفعت جسدها ، انحنيت عليها وحملتها إلى داخل الكهف ُمسرعاً مما دفع بـ "روز" للاحتجاج مطلقة بعض النباح فقد شعرت بأننى أحضرت لها " ُضرة أو غريمة" أسرعت إلى روز طالبًا منها الهدوء ، جلست قريبا من "العنزة" وقربت منها الماء فإرتوت وتبين لى أنها فى احتياج شديد إلى الماء.

    عادت العنزة تطلق نداءها ، نهضت ووقفت على أرجلها المرتعشة والتى كانت تهتز فشاهدت أن بطنها كبير ومتضخم وسوف يسقط أرضا ، شعرت بأن "العنزة" حبلي كما أفادنى قبل هذا بأكثر من شهرين الصديق " سَـليم" ، بعد ُمضى وقت قليل سقط من مؤخرتها بعض نقاط من سائل ثم تلا هذا بروز شئ قاني اللون وزاد ألمها فإرتفع صوتها وهبط بالتوالى صغيرين ، كنت أشاهد بروز رأس الصغير ثم جزءًا من جسده وفجأة يسقط بسرعة أرضا لامع الجسد مبتل ، تكرر الحدث مرتين وعدلت العنزة من وضعها وقامت تلعق صغارها وروز تراقب الموقف ، لقد أصبح الكهف مستوصفا للولادة ومن سيكون عليه الدور القادم ، ظللت ساهمًا مما اشاهده وأراه من حكمة وقدرة العلى القدير ، شاهدت العنزة تجول ببصرها بداخل الكهف ، أعدت إحضار الماء لها ولكنها رفضته آيقنت أنها فى احتياج للطعام فأسرعت للفة الأخرى والتي احضرتها الفتاتان بالأمس وفتحتها فشاهدت بعضا من الطعام وقطع عجوة والعديد من أرغفة الخبز الطرى ، قربت قطعة منه إليها وبسرعة وجدته بين فكيها تقوم على مضغه ونظرت إلىّ تحدثني بطريقة المأمأة:

ـ أرجوك بعض الخبز ، أنت مش بتفهم وعارف أنى والده ومحتاجه طعام ، قدمت اعتذارى لها بطريقة الإشارة ثم بجملتى الشهيرة " إبه إبه .. أأ .. آه .. أأأ .. أه ..  أبا أباه" أسرعت فأحضرت بعضا من قطع الخبز ، بعد أن انتهت أعدت إحضار طاسة المياه فعبت منها وانزوت تحمى صغارها اللذين كانا يرغبان بالوقوف وكلما حاول أحدهما الوقوف كنت أشاهد أرجله يصيبها الرعشة ثم يسقط أرضا ، لم يستكن الصغيران مما دفع بأمهما إلى معاونتهما بلعق أرجلهما لأعلى ولعق رأسيهما ، لاحظت أن رعشة الأرجل قلت قليلا وبعد ُمضى حوالي الساعة كان الصغيران يجريان حول أمهما وفي بعض اللحظات يتوجهان إلى روز محاولين لمسها مما دفعها للنباح فأصيب الصغيران بالخوف وأسرعا إلى الأم حين سمعا النداء.

     جلست أفكر في تلك المعضلة ، فقد ازداد عدد الضيوف على الكهف بصغيرين يرغبان بالرضاعة والرضاعة تحتاج إلى الطعام وليس من المعقول أن أطعم الماعز طعام الإنسان من خبز وجبنة وأتناول أنا  طعام الماعز من حشائش قريبة منا ولهذا فيجب عليّ الخروج لإحضار بعض الحشائش ، غادرت الكهف بكل حذر وقد دفع هذا " روز " لأن تنبهنى بالمخاطر من هذا التصرف ولكننى مازلت أتحرك بحذر وقد اقتربت من بقعة الحشائش الخضراء , استخدمت السكين وإستطعت جمع حزمة كبيرة سوف أقدمها إلى الأم الماعز.

     أثناء عودتى سمعت صفارات قذائف قريبة منى وانفجارات متتالية لا تبعد عنى خمسين مترا ، اعتقدت بأن الإسرائيليين شاهدونى ولكن زال عنى هذا الخاطر بعد أن سمعت انفجارات قذائف بعيدة عنى فتأكد لى بأنهم يفتشون المنطقة ويقصفون قصفا ً عشوائيا ً ، زحفت فوق الصخور المحدبة ونالنى الكثير من الجروح والخدوش ، اقتربت من الكهف فشاهدت "روز" تراقب عودتى وحين اقتربت منها قفزت فوقى تعطرنى بلعقات كثيرة ، أخيرا أصبحت أمام الأم الماعز ومجرد أن شاهدت الحشائش حتى نهضت تعلن سعادتها بالمأمأة الكثيرة وتهز زيلها واندفعت تتناول طعامها.

      جلست سعيدا ً بأننى استطعت إحضار طعام لها ، بعد قليل سمعت أصوات طائرات هليكوبتر كثيرة فوق منطقة الكهف والأماكن القريبة ، تأكد لى بأن الأعداء يبحثون عن من نفذ تلك العملية وهم متأكدون بأنهم فروا ولهذا فهم يقومون بتلك المطاردة ، اختبأ الجميع بداخل الكهف وفجأة شاهدت كلبا ضخما يقف على باب الكهف سرعان ما أطلقت "روز" بعض النباح فأسرع الكلب فى اتجاهها واعتقدت بأن معركة سوف تنشب بينهما لهذا أسرعت بإعداد الرمح ولكن المفاجأة أنهما التقيا لقاء ود وحب من العناق بينهما واللعب معـًا.

     جلس الاثنان يتناجيان عن أخبار الأهل بالقاهرة حيث تبين أن هذا الكلب هو من نفس فصيلة السيدة روز وقد أقبل برفقة من نفذوا تلك العملية الشجاعة وتحت المطاردة هرب فى أى اتجاه حتى وصل إلينا ومن المحتمل أن السيدة روز أرسلت له ببعض إشارت الحب الذى تعود عليها قبل ذلك.

    كنت أجلس وحولى تلك المجموعة من مخلوقات الله وأنا فى دهشة من أمرى فقد وصل عددنا إلى عشرة أنفس ولا يوجد بيننا مخلوق يستطيع الحديث والكلام ولا يعرف كل واحد منا لغة الآخر إلا سليمان الحكيم نبى الله ، لقد أصبحنا مثل الشعوب والقبائل المختلفة والمختلطة وتجمعنا ظروف وأحداث واحدة ، وكأن قصة أهل الكهف تعاد من زاوية لقاء الإنسان بالكلب ولهذا فلن يخزلنا الله سبحانه وتعالى.

     كل فترة أتوجه لمراقبة الموقع المدمر الذى خلا من أية حركة لكن مازالت بعض الطائرات الهليكوبتر تفتش المنطقة بل وبعض الجنود يتجولون فى بعض الأماكن يطلقون النار عشوائيا ، كنت أدعو الله بألا يقبل أحدهم لهذا المكان فسوف يفجرونه ويقتلون الجميع ، حل المساء فخرجت أستوضح المكان وفجأة سمعت صوت جندي إسرائيلى يطلب منى الانبطاح أرضا حيث صوب مدفعه الرشاش إلى صدرى ، وقفت برهة ولكن بسرعة الضوء سمعت نباح "روز" التى قفزت على هذا الجندى فأطلق سلاحه بعيدا عنى ثم سقط أرضا وابتعد إلي أحد الأخاديد الصخرية العميقة ، ولكن الجندى الآخر أطلق النار على روز فسقطت أرضا تعوى وبنفس السرعة شاهدت صديقها الضيف يهاجم الجندى الآخر وأصابه بجروح مما دفع بالجندى إلى الهرب بالظلام فسقط من ارتفاع كبير أرضا وسمعت صرخته بعد أن سمعت صوت ارتطامه بالأرض.

    شعرت بالنصر والفرحة ولكن روز أقبلت علىّ تعرض إصابتها ، فلقد أصابتها رصاصة غادرة بذيلها فقطع الجزء الأخير منه ، قطعت قطعة أخري من جلبابى الذى لم يتبقى منه إلا جزء صغير ولم يعد يصلح جلبابا بل أصبح كأنه قميص إفرنجى ؛ حيث تعرت ساقى حتى الركبة ، كنت أداوى جرحها وهى مازالت على حالها من شدة الألم ، تهامست مع صديقها الجديد ثم شاهدته يسرع بمغادرة الكهف واعتقدت أنها طلبت منه أن يختشى علي دمه ويروح أجزاخانه يجيب لها علاج.

     عاد صديقها بعد ساعة وفى فمه أرنبان استطاع اصطيادهما وقتلهما ووضعهما أمامها فأقبلت عليهم شرهة ، شعرت بمدى الحب بين تلك الفئة ومدى التعاون فيما بينهم ، مازالت الماعز تتناول طعامها ومن حين لآخر أشاهد الصغيرين يقبلان أسفل أمهما فيدفع كل صغير برأسه الصغيرة ضرع الأم ثم يضع فمه بالحلمة يسحب منها طعامه الذى وهبه الله له وبعد أن يحصلا على الجرعة المناسبة لهما يجريان قفزا لأعلى ويلهوان.

     مازالت أسمع أصوات صغار "روز" وهم غير قادرين على الرؤيا أو النشاط مثل أبناء العنزة ، بل لا يتركان مكانهما بحثا عنها فقد وجهتهم منذ البداية بأن يظلوا بمكانهم لحين عودتها كى تتطعمهم بل أن أحد الصغار كان ُمشاغبا وتحرك متجها نحو العنزة ولكن "روز" أسرعت وأمسكت به من عنقه بأسنانها ووضعته بجوار إخوته فرغب بالمغادرة ثانية فعادت إليه وبأسنانها عضته برأسه فصرخ وظل ساكنا ، أسعدنى هذا وما للتربية من أصول.

***

نشــاط الكـــلاب

  اليوم التالى رغبت روز بمغادرة المكان للبحث عن غذاء لها ولعائلتها ، كنت غير مستريح لتلك الصداقة الشديدة التى ربطت بينها وبين الكلب الجديد ، أظهرت احتجاجى واعترضت طريقها حيث ُكنت أخشي تعرضها لأي مكروه ، أخيرا رضخت لرجائها وتركتها تتحرك بصحبة هذا الصديق الذى كان يتجاهلنى وكأننى لست ربا لتلك الأسرة وعليه الخروج والدخول كما يترائى له ، أقنعت نفسى بتجاهلهم وتركتهم فمن المحتمل أن تكون قد جمعت بينهم قرابة أو ما شابه ذلك ويرغبان بالانفراد ببعضهما بعيدًا عن هذا المتطفل عابد.

     تحركت مغادرا الكهف وظللت سائرا فى ظلمة الليل حتى وصلت إلى منطقة الحشائش وضربت برمحى بداخلها حتى أتجنب وجود أفاعى أو عقارب بداخلها ثم قطعت الكثير منها وعدت إلى العنزة التى أسعدها ذلك ، أقبلت تأكل بنهم وقد أضنانى الجوع فهى تنال طعامها والكلاب أيضا ولم يفكر بى أحد ، اقتربت منى العنزة وحركت فمها حتى أسفل بطنها وأمسكت بفمها إحدى حلماتها وحصلت منه على بعض اللبن ثم مأمأت ونظرت إليّ ، نظرت إليها محاولا ً معرفة ما ترغب ، أعادت حركتها مرة ثانية ثم اتجهت إلى الحشائش تتناول وجبتها ، تفهمت قصدها فقد رغبت بأن تخبرنى بأن طعامك عندى بهذا الضرع.

    أسرعت وأحضرت الطاسة التى كانت بها بقايا لبن وقبله السمك والماء وأصبح لا لون لها ، إقتربت منها ونطحت برأسى ضرعها مثل ما يفعل صغارها ويبدو أن نطحتى كانت شديدة فاحتجت وناولتنى نطحة من رأسها كادت قرونها أن ُتحدث بى عاهة ، أمسكت برأسى وشعرت بأن بعض الدماء تسيل منه ، أعدت المحاولة بيدى فنظرت إلىّ وبفمها العشب ثم أكملت عملية الحلب مثل ما فعلت الفتاة أول أمس ، أسعدنى نزول اللبن من ضرعها علي هيئة رخات رفيعة شديدة الاندفاع ، تماديت فى هذا فنظرت إليّ ومأمأت بما يعنى كفاية وخليك قانع لأن أولادي في احتياج له ، نفذت رغبتها وشكرتها ببعض لمسات على ظهرها ثم تواريت بأحد الأجناب أمتع نفسى بهذا الطعام الرائع حلو المذاق والذى تبقى البعض منه فوضعته جانبا وقمت بتغطية الإناء بكراسة البلوك نوت.

      مضى أكثر من نصف الليل ولم تعد "روز" وصديقها فخشيت أن تهرب معه وتترك لى الأطفال كما يحدث في بعض الأحوال عند بعض الناس ، سمعت صراخ الصغار فقد أضناهم الجوع بل تحرك بعضهم يتحسسون طريقهم فاقتربوا منى بل أن بعضهم دخل أسفل الجلباب يعبث بما أسفله وخشيت على نفسى فأخرجتهم من هذا الجحر ووضعتهم بداخل حجرى ، سكنوا لبعض الوقت ومن حين لآخر أسمع بعض صراخ خافت الصوت ، كنت أشعر بألم شديد على حالهم ورغم تفكيرى في كيفية مساعدتهم إلا إننى لم أتنبه أو أتذكر بأن الكثير من اللبن موجود بالطاسة.

     تنبهت من نومى قبيل الفجر فلم أجد الكلاب الصغيرة التي تركت حجرى ولم أشاهد "روز" وصديقها واعتقدت بأنهم خرجوا خارج الكهف وسوف يضلون الطريق أو تفترسهم النسور الجبلية الخطيرة ، لكن للدهشة أنني شاهدت الكلاب الصغيرة تنام بجوار "العنزة" وهم يمتصون اللبن منها بينما أبناء العنزة ينامان خلف ظهرها ، اقتربت أكثر فشاهدت الأفواه تتحرك بعملية المص ونظرت إلى العنزة وشاهدت الراحة على وجهها الطيب ، نظرت للجهة الأخرى وخرجت من عينى بعض الدموع الحارقة والغزيرة لقدرة الله الرحيم الذى لولا رحمته لمات الكثير من الأحياء على وجه الأرض ، ُعدت لأمتع نظرى بهذا المنظر الخلاب الذى يعجز أى إنسان عن وصفه ، هدأت الكلاب الصغيرة فنهضت الماعز واتجهت إلى العشب تحصل على طعامها لكى ينتج معملها المزيد من الطعام لبنى الحيوان والإنسان على السواء.

     غادرت الكهف وجمعت الكثير من الحشائش وقد غطاها الندى الرطب فساعد هذا على أن تحصل العنزة على الماء مع طعامها كأن الطبيعة رغبت فى مساعدتها ، عادت العنزة ووقفت أمامى وصغارها أسفل منها ترضعهم بعد أن وهبتنى الطعام ثم وهبته لصغار "روز" أيضا ، بعد الظهر نامت العنزة وأسرع صغار روز إليها طالبين الحماية والأمان فلم يضربهم الجوع بعد لكنهم كانوا في احتياج لأمهم وشعروا بأن هذا الكائن أمهم لأنهم لا يبصرون بعد وحاسة الشم لديهم مازالت ضعيفة.

    قبيل الغروب أقبلت روز وصديقهما وتبين لى أنهما قابلا صعابًا كثيرة ، كان هذا باديا من أصوات المحركات خارج الكهف وأزيز الطائرات ، كنت أشاهد ضرع روز متضخما ، توجهت لأطفالها بحضن العنزة وقامت بلعق كل واحد منهم عدة لعقات ثم تركتهم وعادت لتنام بعيدا بينما قام الكلب بالوقوف أمام باب الكهف ، أشرت إليه فأقبل عليّ يهز ذيله فداعبته راغبا بأن يقدم لى بعض الاحترام وقد فعلها ببعض لعقات بسيطة ثم توجه إلى عمله كمراقب للموقف بالخارج.

      استمر هذا حالنا لفترة طويلة واعتقد أنها تعدت الشهور الثلاثة أى أننا أصبحنا بشهر يونيو أو يوليو بالتقريب ، وهذا نابع من مشاهدة نمو الماعز والكلاب ، أصبحت الوحيد الذى يستفيد من لبن الماعز ، لقد أصبحت مثلهم ولم أسمع بداخل الكهف سبابًا أو عتابًا فالجميع أبكم.

     كنت من حين لآخر أتوجه لبركة الماء أحمل الكثير منه لأفراد العائلة وبعد أن نمت العائلة أصبحوا يرافقونني سيرا حتى البركة للشرب وتناول الطعام الذى يرغبه كلٌ منهم حيث كنا نعود وقد امتلأت البطون وشرب الجميع وأصبح الجو أمامى خاليا للتمتع بلبن العنزة التى كانت تعطيه لى بكل صدر رحب ونفس هادئة.

    شعرت ببعض الهرش والحكة بصدرى وأسفل إبطى وبين ساقي ثم وصل إلي رأسى وكان هذا واضحا بالكلاب التى كانت تحك جسدها بعنف بجدار الكهف ، تأكد لى بأن القمل انتشر بيننا وما له من عواقب على الصحة والراحة البدنية ، حين توجهت إلي البئر تفحصت عبوة الوقود الموجودة ، كان هناك برميل من السولار مغطى ببعض الصخور وبرميل آخر من البنزين ، أزلت الحجارة والطوب من أعلي برميل السولار وبصعوبة إستطعت فتح الطبة التي تغطي فتحة البرميل من أثر الصدأ ، استقبلتني رائحة السولار المميزة ، توجهت للسيارة الخردة وعبثت بمحتوياتها وأتيت بخرطوم البنزين الذي كان جافا متماسكا فأخذته وبنفس لينة استخدمته لأن أية محاولة لإصلاحه وفرده سوف ُيقطع وينقسم إلي أجزاء ووضعته بالبرميل ، بخوذة من المتواجدة حولى سحبت بعض السولار من البرميل مستخدما فمي وأعدت دفعه بالخوذة حتي امتلأ نصفها ، أغلقت البرميل وجلست قريبا من السيارة الخردة ووضعت يدي بداخل الخوذة فابتلت بالسولار ، كنت أمشط بأصابع يدي شعر رأسى ، ظللت علي هذا الحال حتي ابتل شعر رأسى كأنني قمت علي غسله ، كنت أشعر خلال هذا بأن حشرة القمل تتحرك سريعا ًمحاولة الهرب من رأسى ولكن السولار قضى عليها وشعرت ببعض الراحة ، نفذت ما قمت به أسفل إبطي وبين ساقي وبشعر صدرى ، كنت مبتلا بالسولار ، كانت " روز " من حين لآخر تقبل جهتى محتجة على تصرفي هذا رغم أنها وأطفالها وصديقها يتألمون من حشرة القمل الرهيبة والتى شاهدت حجمها فوصل إلي حجم حشرة البق أي أضعاف المعدل العادي ، بصعوبة نفذت خطتى على روز وصديقها والصغار أما العنزة وصغارها فلم يصبها ما أصابنا وكان هذا باديا علينا فقط باستثنائها وصغارها وتبين أن الكائنات من أكلة اللحوم ُتصبح عرضة أكثر لتلك الحشرة.

     شاهدت مرآة السيارة القديمة وأزلت عنها الأتربة ونظرت بها فشاهدت نفسى مثل الإنسان البدائى حيث الشعر الطويل الأشعث الأغبر ولحيتى القذرة الطويلة ولن يستطيع أى كائن من كان أن يتعرف عليّ ، قضيت يوما ممتعا مع أسرتي تلك وقبل أن أغادر المكان ُقمت بملء الخوذة عدة مرات بالمياه وصببت على الكلاب ثم على بدني حتي أقلل من رائحة السولار النفاذة ثم ُعدت بصحبة العائلة إلى الكهف لنواصل حياتنا وقد قارب شهر أغسطس على الانتهاء.

     ُكنت من حين لآخر أفكر ، لماذا أنا جالس القرفصاء مع تلك الحيوانات ولم أفعل أى شئ يفيد جيشى ووطني؟ هل يجب عليّ انتظار التعليمات؟ هل القتال والعمل يحتاج أوامر وتعليمات؟ لابد لى من التصرف ويجب عليّ أن أتحرك وأغادر هذا الكهف في أى اتجاه آخر غير عين الماء.

    صباح اليوم التالي عاد إلي سمعي أصوات الماعز والأغنام وظهور البنتين الجميلتين أبناء عمومة "سَـليم" رحبت بهما وقدمتا لي الاعتذار بسبب تواجد الجيش الإسرائيلي الذى قلب المكان بحثا عن قوات كوماندز مصرية دمرت موقعا لهم وقتلت مالا يقل عن اثنين وعشرين غير أربعين جريحا لقد ظلوا يحاصرون المكان طوال الأربعة أشهر الماضية ولم يعثروا علي أحد ومازالوا في حالة من الضيق والتوتر.

     قدمت الفتيات لي الطعام وتساءلت عن تلك الرائحة فكتبت لهما ما أصابنا فوعدتني كاملة بأنها سوف تحضر ماكينة حلاقة الشعر لتهذب بها شعر رأسي ويمكن أن تمنحني موسى حلاقة أحلق بها ذقني مما أسعدني كثيرا وكتبت لها بأنني راغب بصابونة فهزت رأسها بالموافقة ، غادرتا المكان بعد أن تركتا الطعام والشراب ، حسب وعدهما حضرتا صباح اليوم التالي وقامت كاملة بحلاقة شعر رأسي "زيرو" فشعرت بأنني أقل وزنا وأن الهواء يمر من علي رأسي بل أنها أخبرتني بأن حشرة القمل تركت برأسي حفرا طولية وعميقة كأن أحدا قام بها مستخدما آلة حادة وأصابني بها ولكنها أكدت لي أن القمل مات وهي تشاهده بين الشعر ، أشرت لها برأسى علامة الشكر ثم قامت بقص شعر لحيتي ثم نظرت إليّ معلقة:

ـ زين والله ومليح يا عابد وهذا ما هو جولي ولكنه جول سلمي !! التي أصابها الخجل والكسوف ، تركت الفتاتان بعضا من المؤن وقالتا أن "سًـليم" مازال غير قادر علي السير ُمعتمدا ً علي قدميه وانه في تحسن مستمر ويطلب منك زيارته حيث إنه غير قادر علي الحضور ، قدمت شكرى بالحركة والإشارة وغادرتا المكان بعد أن تركت الصابونة ولفافة غير لفافة الطعام.

      حملت الصابونة ورغبت بالتوجه لعين المياه لأحصل علي حمام منذ خمسة أشهر وترددت ثم فتحت اللفافة الأخري وقد أدهشني ما تحويه حيث أحضرت ملابس داخلية وخارجية رجالي وفوطة وجه بالإضافة إلي قطعة الصابون ، رفعت رأس ويدي لله أدعو لها ولشقيقتها ما تقومان به من أجلي ، أسرعت الخطي جهة البئر فلحقت بي أفراد العائلة من الكلاب والماعز وهناك عببت من الماء مستخدما الخوذة وحصلت علي حمامي وأنا أصرخ فرحا مرددا ً " إبه إبه .. أأ .. آه .. أأأ .. أه ..  أبا أباه" أنهيت حمامي وجففت جسدي وارتديت الملابس النظيفة الجديدة وقد تخلصت من شعر رأسي وطول لحيتي وقبلها بيومين تخلصت من حشرة القمل الضارة.

    بدأت الحركة تنشط بالمنطقة وقد نمت الكلاب الصغيرة وتعدي عمرها الستة أشهر ، وهذا يعني أنها سوف تصبح معدة للإنجاب ومعنا هنا المعلم "قدورة" وهذا هو الاسم الذي أعجبني لكي أطلقه علي الكلب الضيف الذكر ولكنه لم يعلم به لأنني لا أستطيع النطق به وأن قدورة سوف يباشر نشاطه في الإنجاب وأمامه أكثر من عروس صغيرة ولا يتقيد بقوانين الزواج ، بدأت حركتي في اتجاهات متعددة والتقيت ببعض البدو وتبادلنا السلام من علي ُبعد خشية اكتشافهم لي بأنني أخرس واحتمال أن يكون العدو يعلم عني تلك الحقيقة ويبحث عني في كل مكان.

 

 

Share
Click to listen highlighted text! Powered By GSpeech