Click to listen highlighted text! Powered By GSpeech
Get Adobe Flash player
مستمرين معاكم بإذن الله 2008-2024 **** #لان_لجيشنا_تاريخ_يستحق_أن_يروي **** ***** إنشروا تاريخنا وشاركونا في معركة الوعي **** تابعونا علي قناة اليوتيوب 1100+ فيديو حتي الان **** تابعونا علي صفحات التواصل الاجتماعي** أشتركوا معنا في رحلاتنا لمناطق حرب أكتوبر **** يرجي استخدام خانة البحث **** *** تابعونا علي تليجرام - انستجرام - تويتر

روايه عابد المصري - الحلقه الحاديه عشر

حصريا لاول مره علي الانترنت

بتصريح خاص من الكاتب للمجموعه 73 مؤرخين

لا يجوز اعاده النشر بدون الاشاره للكاتب والموقع كمصدر

عـــابد المصـرى .. رواية

كتبها/أسـامة على الصـادق

.....

الطبعة الأولى .. يوليو 2010

الناشر: الكاتب

.....

تصميم الغلاف:

ريهام سهيل

....

حقوق الطبع محفوظة للكاتب

موبايل: 0127970032

أهـــل الكهـــــف

 

     منذ حوالي أسبوعين و "قدورة" مستمر في مغادرة الكهف دون إذن مني ثم يعود بعد عدة ساعات ، أشرت إلي روز بأن قدورة بيلعب بديله خصوصا إنكِ من غير ديل! أجابتني بنباح يعني أنك يا عابد مش بتفهم حاجه! حتي الكلاب تعتبرني أغبي منهم رغم أنني أجزم بأن تلك الحيوانات تتمتع بذكاء يفوق بني الإنسان لكن هذا لا يعني بأنني غبي خاصة أنني أصبحت منهم وأبكم مثلهم.

      مازالت "كاملة وسلمي" تحضران يوميا تحملان لنا الطعام والشراب والمؤانسة التي ُكنت أفتقدها لفترة طويلة تجاوزت الستة أشهر ، كنت ألاحظ ودًا كامنا بقلب "سلمي" مما دفع بشقيقتها "كاملة" لأن تبتسم وهي تنظر إليّ بطرف عينها كأنها تدفعني للتجاوب مع شقيقتها ، كنت سعيدا ً بتلك المشاعر ولكن حالة الـُبكم لم تجعلني قادرا ًعلي التواصل والاندماج حيث ُكنت أبتسم وأحرك يدىّ ورأسي فليس لي أدوات للتعبير غير هذا مع الجملة الشهيرة التي كنت أتحدث بها والتي لم أفهم معناها حتي الآن.

     هذا يوم عادي في حياتي الرتيبة الهادئة ولم يحدث عليها أي تغير يُذكر فلقد تحطمت آمال الإسرائيليين بعد تدمير قاعدتهم الصاروخية وعلمت من حديث كاملة بأنهم رفضوا إعادة بناء القاعدة مرة أخري مسترشدين بما أنزل علي نبيهم موسي بكتابهم المقدس بأنه في تلك المنطقة عاش موسي مع أهله ولهذا غضب الله عليهم بأن أرسل بعض المصريين ودمروا تلك القاعدة مثل ما حاولوا تدمير موسي ولهذا فلن يقوموا بإعادة البناء مرة ثانية ولديهم الطائرات القادرة علي الوصول لكل حي ومنزل وعشة بمصر.

     نهض "قدورة" وأقبل عليّ لاعقا وجهي بحب زائد علي غير العادة رغم أنه بالأمس عاد حزينا مهموماً وبث حزنه إلي "روز" التي اقتربت منه نابحة بصوت خفيض ، لقد كان الحزن والألم واضحين علي ملامح "قدورة" وقد أدهشني هذا خاصة حالة عينيه والتي لم تكن مفتوحة بحجمها الطبيعي فقد أغلق منتصفها ونام أرضا بوضع أبي الهول فاردا أرجله للأمام وإلأرجل الخلفية أسفل جسده ووضع مقدمة فمه بالرمال وهذا دليل علي حزن ألم به ولم أستطع أن أفهم ما يعانيه بل أنه رفض تناول الطعام واعتقدت أنه سطا علي بعض القوم وأكل دجاجة وعاد ثانية بهذا المنظر ومن المحتمل أنهم شاهدوه ولقنوه درسا شديدا وانضرب علقة محترمة.

     مازال قدورة يهمهم بعبارات وإشارات غير مفهومة ؛ وقف أمام باب الكهف يحرك ذيله في كل اتجاه وينظر إليّ مما دفع بـ "روز" للاقتراب مني ونبحت عدة نبحات تحذيرية أي بما يعني افهم أيها الغبي ورافق "قدورة" فلديه بعض المعلومات التي تفيدك ، تبعت "قدورة" الذي كان يسير بخطي ثابتة محركا ذيله من حين لآخر ناظرا إليّ كل فترة قصيرة ليتأكد أنني مازلت أتبعه ، مضت أكثر من ساعة كنا نتسلق خلالها مرتفعات ونهبط منخفضات حتي كاد الإعياء يصيبني وحرارة شهر سبتمبر الشديدة ألهبت جسدي ، شاهدت قدورة يتوقف أمام مدخل كهف مظلم وبأعلاه من الخارج شاهدت خلايا نحل العسل الجبلي بكميات كثيرة بل كنت ألاحظ الخلايا الشمعية ذات الحجم الكبير.

     نظر إليّ "قدورة" بما يعني اتبعني فتبعته إلي الداخل وبعد عدة خطوات لمحت طيورا صغيرة تطير قادمة من الداخل إلي الخارج وقد تبينتها وعلمت أنه " طائر الخفاش" وقد اضطربت في بادئ الأمر ، كان الظلام يعم المكان وسمعت نباحًا حزينـًا لقدورة ، تنبهت إلي أنني احمل علبة كبريت وعلبة سجائر بجيب الجلباب التي أحضرته الفتيات ولم أدخن رغم حبي للتدخين ، أخرجت علبة الكبريت وسيجارة وأشعلت عودا من الثقاب ثم أشعلت السيجارة وأنا أنظر هكذا للأمام لأتابع إشعال السيجارة ، فوجئت بمنظر لن ولم  أشاهده في حياتي من قبل مما دفعني للصراخ بصوت عال تردد صداه بداخل الكهف وهويت علي الأرض وشعرت بأن رأسي ُكسرت من شدة الصدمة ، أقبل عليّ "قدورة" محاولا إسعافي دون جدوي وبعد قليل شممت رائحة وسمعت صوتا لا تنساه أذناي ، أبصرت هكذا فشاهدت فتيلا للتفجير مشتعلا من سقوط السيجارة فوقه مما دفع بقدورة لالتقاطه وجري بأقصي سرعة حاملا إياه إلي خارج الكهف ، تنبهت لهذا محاولا الوقوف ولكني لم أستطع حيث باقي حبل التفجير التف حول إحدي ساقي وكان في نهايته العبوة المتفجرة والتي لا يقل وزنها عن خمسة كيلوجرامات من مادة "" TNT وهي مادة شديدة الانفجار ، أعانني الله بأن جذبت نهاية الفتيل من المفجر وسمعت بعدها بثوان صوت احتراق نهايتة بصوت ينفس حرارته الشديدة ، هذا الصوت الذي يشبه صوت خروج هواء من خرطوم دفع الهواء حين يقوم العامل بدفعه بداخل كاوتش السيارة ، صرخت من شدة الموقف وقد ابتل جسدي من شدة الاضطراب لما ينتظرني وبكيت كما لم أبك من قبل ولم أتحكم في أعصابي فحاولت النهوض مستعينا بالحائط ولم أستطع الوقوف فتحركت مستعينا بيدي وركبتي إلي خارج الكهف مثل الماعز والكلاب ، كنت خلالها لا أشاهد ضوء النهار دون وضوح حيث كانت دموعي شديدة وأعصابي منهارة وشاهدت "قدورة" يقف أمام مدخل الكهف فأقبل عليّ يبثني ألمه مثل ما كانت تفعل "روز" وكأنه إنسان يبكي ، لم أستطع أن أطيب من خاطره فقد كان هو الآخر يشكو ألما ، جلست أرضا ومسحت عيوني بطرف جلبابي فوضحت لي الرؤيا وشاهدت الكلب يقترب مني ويعرض عليّ فمه المحترق من محاولته الناجحه لإنقاذي أو قل إنقاذ من بداخل الكهف.

     قبلت قدورة وطيبت من خاطره ولم يستطع أن يلعق وجهي من الآلام التي كان يعاني منها ، نهضت وسرت بجانبه ولكنه رفع قدميه الأماميتين ورتب بطرف أقدامه التي بها المخالب علي وجهي مما ساعدني علي الهدوء وشاهدته يسرع ويختبئ أسفل صخرة علي مسافة مائة متر تقريبا أسرعت خلفه وبعد أن جلست التقط أنفاسي شاهدت عددا من الجنود الإسرائيليين يرافقهم أحد البدو والذي يعمل لديهم دليلا ً وتحدث ُمعلقا:

ـ هادي آخر كهف بهاذي المنطجة.

    طلبوا منه الابتعاد لأنهم سوف يقتحمون الكهف ، أشاهد الجنود يتوجهون لفتحة الكهف التي تسع دخول سيارة صغيرة ولكن المفاجأة غير المتوقعة انتشار كاسح لأسراب النحل حتي ُخيل إليّ بأنني لم أعد أشاهد مدخل الكهف ، إضطرب الإسرائيليون وأسرعوا يهرولون في الاتجاه المعاكس وبرفقتهم البدوي حتي ابتعدوا عن الكهف وتجنبوا لسعات النحل ، بعد قليل عاد النحل إلي الخلايا ليكمل عمله وقد أدهشني هذا فقد دخلت هذا الكهف منذ دقائق في وجود النحل ولم يحدث لي أي شيء إذاً ما الذي أهاج النحل.

    تذكرت الآية القرآنية .. قال الله تعالي " وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنْ اتَّخِذِي مِنْ الْجِبَالِ بُيُوتاً وَمِنْ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ (68) ... صدق الله العظيم

     أعود لأتذكر ما الذي حدث لي منذ ساعة بداخل الكهف ، مجرد أن أشعلت السيجارة بداخله شاهدت هياكل عظمية بشرية لعشرة من جنود الصاعقة ينامون بجوار بعضهم البعض في صورة منتظمة ، كما كانت العبوة الناسفة والتي قام قدورة ببطولة فائقة بنزع فتيل التفجير منها معدة للتفجير بالإشعال إذا هاجمهم الأعداء لكن الموت كان أقرب إليهم من وصول الأعداء ، كادت تلك العبوة أن تؤدي إلي هلاك الجميع بسبب سقوط السيجارة المشتعلة التي رغبت بتدخينها ولكن الله لطف بنا نحن البـُكم.

     أشرت إلي قدورة بان نعود إلي روز وقبل أن نصل إلي الكهف الذي نعيش به اتجهت إلي عين الماء لأقوم بنظافتي الشخصية بعد ما ألم بي ، لقد تأكد لي أن هذا الكلب الوفي كان يقوم كل يوم بالبحث عن من رافقهم في عملية تدمير القاعدة حتي عثر عليهم ، احترمت ذكاء ووفاء تلك الحيوانات ومازلت أشاهد صمت الكلب متأثرا بما لحق به من حريق أصاب فمه وحرق بعض الشعيرات التي تحيط به.

     وصلت إلي عين الماء وتحللت من ملابسي واستخدمت الخوذة وقمت علي ملئها وصببت الماء علي بدني كي أتخلص من الأوساخ التي علقت بي بعد سقوطي بداخل الكهف والعرق الغزير الذي نتج من خوفي لما شاهدته ، أسعدني ما أقوم به وطرأ علي بالي أغنية المطربة ليلي مراد " باحب اتنين سوا يا هنايا في حبهم الميه والهوا طول عمري جنبهم" كنت أسمع الألحان بأذني ولكن المدهش أنني سمعت صوتي مما آثار فضولي معتقدا ً بأن أحدا ً قريبا مني يغني معي مما دفعني للصمت فلم أعد أسمع أصواتـًا ، بدأت الغناء مرة ثانية فسمعت صوتي صمت لم يعد هناك صوت ، تنبهت إلي أن شخصا قريبا مني محاولا قراءة حركات فمي ويغني بدلا مني ، جاء بخاطري أن أتفوه بشيء لا يعلمه أحد غيري ، تحدثت قائلا ً:  

ـ حبيبتي ُرقية ، بعدها صرخت فلقد سمعت صوتي ، أعيدها ثانية فأسمع صوتي وأنا أنادي علي روز ، صرخت بأعلي صوت قائلا ً " أنا باكلم ... هيه ... باكلم والله باكلم معنتش أخرس ، الله معنتش أخرس ، الله أكبر" جثوت علي ركبتي راغبا بالصلاة فتنبهت إلي أنني عار دون ملابس ولا يجب عليّ أن أقف أمام  الخالق علي هذا الوضع.

    أسرعت وأنهيت حمامي وغسلت ملابسي وارتديتها مبتلة ووقفت في اتجاه القبلة بالتقريب والذي كنت أعلم اتجاهها من أمام الكهف منذ وصولي إلي جنوب سيناء ، قمت بتأدية صلاة خاشعة كثرت خلالها الأدعية وهي صلاة جهر وليست صامتة رغم أن التوقيت كان بعد الظهر بقليل ولكني رغبت بأن يسمعني الله وكي أتأكد أنني أتكلم ، أنهيت الصلاة وهي صلاة شكر ثم تبعتها بصلاة الظهر وأثناء ذلك كان الكلب يقف أمامي ينظر إليّ بدهشة وهذا كان باديا عليه من نظراته الحائرة وكان ُيحرك رأسه بميل لأحد الأجناب ثم يحركه للجانب الآخر وكأنه يقول لي ماذا تفعل يا بني الإنسان.

     ُعدت إلي الكهف أحسن حالا ومجرد أن دخلت إليه رفعت صوتي لأبشر أسرتي قائلا عابد بيتكلم " هيه .. الأرض بتتكلم عربي وعابد بيتكلم .. هيه " تركت روز أطفالها وأقبلت عليّ وقفزت فوقي وهي تلعق وجهي وتبعها صغارها والجميع يقبلني فلقد شعروا بتغير حدث علي شخصي كما نهضت الماعز ُتسمعني صوت المأمأة الجميل :انها تخبرني بأنها تتحدث هي الأخري ، جلست أرضا تحيط بي أسرتي أحدثهم لأول مرة بحديث صريح واضح عما شاهدته برفقة "قدورة" الذي كان يحتج في بعض الأحوال خاصة حينما أشرت إلي إصابته فنهضت "روز" وكافأته بلعق جسده مما دفع بأبنائها ليقفزوا ويهزوا ذيولهم.

     شاهدت مائدة الطعام التي أحضرتها الفتيات أثناء رحلتي مع "قدورة" ولم يقربها أحد ، فتحتها وقد اجتمعت الأسرة من حولي ، أخذت أول قطعة لحم ووضعتها في فم "قدورة" وشعرت بأنه غير قادر علي تناولها ولهذا تركت باقي الأسرة تتناول طعامها وتوجهت إلي المعزة وقمت بعمل كل الإجراءات حتي تسمح لي بالحصول علي حليبها الميمون ، حصلت عليه بداخل الطاسة ووضعته أمام "قدورة" فاقترب منه ثم تناوله بسعادة فأقبل عليّ سعيدا محاولا علق وجهي ولكنه تذكر أنه مصاب فرفع قدميه الأماميتين للأمام وقربهما من بعضهما البعض كأنه يقدم لي تحيته فأسرعت أهدهد عليه.

     نامت الأسرة قريرة العين في تلك الليلة ولكنني تنبهت منتصف الليل بأنني شاهدت رؤيا جميلة بأنني أتكلم ، جلست سعيدًا لتلك البشري محدثا نفسي قائلا ً والله ياعابد لوحصلت الحكاية .... صمت وسكت فقد سمعت صوتي ، كدت أصرخ وتنبهت أنه من المحتمل أن يقبل عليّ الأعداء حينما يصل صوتي إليهم وتضيع مني الفرحة ، لم أستطع النوم وأنا أتذكر الشهور السبعة الماضية التي قضيتها أبكم بسبب تعدي بعض المجرمين علي شخصي رغم أنهم حصلوا علي عقوبات رادعة ولكن ما ذنب الضحايا ، لقد راودني شعور بأنني خرجت من قبري الذي ظللت به تلك الفترة ، إن الأخرس والأبكم إنسان بائس فلقد جربت تلك الحالة.

      ظللت أستعيد ما شاهدته بالأمس وقررت أن أتماسك وأن أعود لزيارة من شاهدتهم على أن يرافقني كلُ من "قدورة .. و .. روز" لقد شعرت أن هذا المكان به آية مثلما كنا نسمع عن بعض أصحاب الكرامات ، أتساءل كيف أشاهد عددا من الهياكل العظمية؟ لا أستطيع استيعاب ما شاهدت فهو شيء صعب للغاية علي العقل البشري.

    اليوم التالي نهضت من نومي منشرح الصدر وجلست أتحدث مع أسرتي بحديث لا فائدة منه ولكن لغرض التأكد من سماع صوتي وأنني أصبحت سليما معافى ، أسرعت إلي المكان الذي خبأت به جهاز الإرسال بغرض إرسال رسالة بأنني بخير ولكن الطاقة بالبطارية فرغت وانتهت ، ُكنت راغبا بمشاهدة أي إنسان حتي يؤكد لي بأنه يسمعني وأنني أتكلم فلا يؤكد هذا سواي وكيف هذا ، لا أجد أحدا يسير بالقرب مني ، جلست مع أسرتي أتناول الطعام وشعرت بأن "قدورة" أحسن حالا عن الأمس ومازالت "روز" تتحرك بدلال أمامه بينما كان مشغول البال بما شاهده والذي حدث له ولزملائه أبطال الصاعقة ، أقبل وفد الحسان وقمن علي تحيتي فرددت عليهن التحية ، إحداهن صرخت فرحـًا والأخري ظلت صامتة غير ُمصدقة ما تسمعه وتشاهده ، تنبهت الفتاة وقدمت لي تحيتها بحرارة شديدة كادت معها أن تحتضنني ، أسعدني أن إثنتين أكدتا لي بأنني أصبحت سليما معافى.

     طال الحديث فأصبح هناك تجاوب وحوار ، حاولت الفتاتان أن أخبرهما بالسر الذي أدي لأن أعود للكلام ثانية ، أخبرتهما بأن هذا من عند الله ، تأكد لي بأن سلمي تنظر إليّ نظرات باسمة حالمة ، لقد كانت الفتاة تتمتع بجمال طبيعي مشابه لما تتمتع به "رقية أبو السعادات" ولكن سلمي كانت أكبر منها عمرا بحوالي العامين ثم تنبهت بأن عمر "رقية" الآن مساو لعمر سلمي ، كانت "كاملة" تجلس وتستمع لحديثنا باسمة سعيدة فرحة بأن شقيقتها الصغري أصابها سهم الحب من فوق جبل كاترين ، كررت "كاملة" رغبة "سَـليم" وأسرتها بأن أقوم علي زيارتهم ؛ حين شاهدت كاملة العنزة تذكرتها علي الفور وأكدت أنها من القطيع وضاعت منها واعتقدت بأن ذئبا أو ضبعا افترسها فأخبرتها بما قامت به من تزويدي بالحليب المنعش لذيذ الطعم فايدت كل منهن ما قلته ، وعدتهما بأن أقوم علي زياة القبيلة بعد غد ولا داعي للحضور غدا ًلإحضار طعام حيث مازال الطعام متوفرا ، أشارت كاملة بأنه من الممكن أن يقوم أحد الكلاب بمرافقتهن إلي القبيلة ويعود ليرافقني بعد غد وتأكدت من ُحسن الفكرة كما نبهتني كاملة بأن أعود بالماعز الثلاث لأنهن في حالة من الاستعداد للحمل ، وافقتها الرأي وبأنني سوف أصطحب الماعز مع الكلب وأشرت إلي "قدورة" بمرافقة الفتيات فاصغى لحديثي وسار برفقتهن والقطيع علي أن يعود بعد أن يعلم طريق الوصول إلي القبيلة والذي تبين لي فيما بعد بأنه لا يبعد عن هذا المكان بأكثر من خمسة كيلومترات يتم قطعها في ساعة واحدة.

     عاد "قدورة" بعد أن هبط الليل بظلامه وجلس مجاورا لي كأنه يخبرني بأننا رجال ويجب أن نكون بجوار بعض دائما ، ُكنت سعيدا ً بهذا الكلب الذي تأكد لي أنه لا يقل ذكاءً عن "روز" وأنه قد قام بعمل مهم مع شهداء الصاعقة والذي شاهدت بقايا أجسادهم الشريفة ، أوينا إلي مضاجعنا أرضا فوق الصخور وأصبحت مثل أسرتي من النوم أرضا دون غطاء لا تحجب عني خشونة حصي الأرض أو تحميني من برودة الليل.

***

كـــشف الحقيـــقة

    صباح اليوم التالي وبعد أن تناولنا طعام الإفطار تحركت بصحبة "قدورة" إلي الكهف وحين اقتربنا شاهدت العديد من سيارت الجيش الإسرائيلي تعاين المكان وتقوم بالتحقيق حول أسباب مهاجمة أسراب النحل للدورية ، ظللت مختبئا لفترة ليست بالطويلة ثم أسرعت السيارات تغادر المكان وأعتقد بأنهم وضعوا لافتة تمنع رجالها من التحرك بتلك المنطقة تجنبـًا لأضرار النحل.

    أسرعت بالدخول إلي داخل الكهف دون اعتراض من أسراب النحل وتأكد لي أن هذا من عند الله فلقد أصبح النحل حارسًا علي شهداء الصاعقة يمنع أي كائن ضار بهم ، أشعلت عود ثقاب بيد مرتجفة وتقدمت إلي نهاية الكهف وظللت واقفـًا ولم أشعر بنهاية العود الذي احترق فأصاب أطراف أصابعي فتنبهت وُعدت بإشعال عود آخر وبحثت عن شيء أقوم بإشعاله حتي عثرت علي شمعة كبيرة الحجم ، قربت منها عود الثقاب فأضأت الكهف ، لم تكن إضاءة شمعة ولكنها إضاءة روحانية إلهية حيث كان الضوء يعم المكان سواء قريبا من الشمعة أو حتي نهاية الكهف والمدخل ، لقد كان الضوء مشابها لضوء الشمس في الصباح الباكر فتشاهد ضؤاً دون مشاهدة مصدره.

    جلست علي ركبتي خاشعًا أشاهد هذا المنظر الملائكي الرهيب الذي يجمع بين الخوف والرهبة وبين التقديس والإحترام ، إختلط عليّ الأمران ، قرأت ما تيسر من بعض آيات الذكر الحكيم وبعض من سور "جزء عّم" وأنا مازلت ُمسلطـًا نظري علي هؤلاء الشباب وأعتقد بأن أعمارهم صغيرة ولا يزيد عمر أحدهم عن عمري فلم يتعد أكبرهم عمرًاعن الثلاثين عاما ، أنهيت تلاوتي الخاشعة المترددة ، اقتربت أتفحص الهياكل ،   

      كان الرجال العشرة ينامون صفـًا واحدًا وكل فرد مجاور للآخر ولا يفصل بين كل واحد والمجاور له سوي شبر مسافة "20سم" وتبين لي بأنهم جميعا رتبوا هذا الوضع بحيث تكون الأجساد مواجهة للقبلة وهم فى وضع النوم علي الجانب الأيمن وقد وصلوا لتلك الحقيقة بإستخدام البوصلة والذي شاهدت اثنتين منها ، كان الرجال علي هيئة واحدة ، هياكل عظمية وكل واحد ينام على جانبه الأيمن محتضنا سلاحه وممسكا به بكلتا يديه.

     الأفرولات المموهة والسلاح الشخصي مرتب بحيث كل شخص أعد العدة بأن يستقبل شخصية عظيمة فقد علموا النهاية والتي يتمناها كل إنسان حين يتوجهه للحرب إسوة بالصحابة الأجلاء ، ظللت أنظر إلي تلك الهياكل وأفكر: هل أصبحتم الآن في جنة الخلد ولم يتبق منكم سوي تلك الذكري حتي إذا شاهدها نفر من الناس أكد للجميع بأن الله قال قول الحق في آياته حيث قال الله سبحانه وتعالي:

وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (169) فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمْ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (170) يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنْ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ (171)  .. صدق الله العظيم .. سورة آل عمــران.

     أديت صلاة بعدد من الركعات علي أرواح الشهداء مساو لعددهم وتوجهت بالدعاء لهم وما دعائي يساوي شيئا بما وعدهم الله به ، ُعدت أدقق النظر فلا أعلم من هذا أو ذاك فجميعهم شكل واحد وهيئة واحدة ورغم أنهم هياكل عظمية فقد تلاشي مني الخوف الذي داهمني بالأمس وفك لساني وعقدتي وجعلني أنطق بقدرة الله وكما قال رئيس قسم الأمراض العصبية إنني أحتاج لصدمة عصبية شديدة تصحح ما نتج من الصدمة الأولي ، لقد حققها الله لي بتلك الصورة الجميلة التي أشاهدها.

     أتحدث إليهم : لقد نلتم كل تقدير بالدنيا والآخرة لكن الآخرة أبقي وأعظم وقد ينساكم من بالدنيا خاصة من المسئولين ولكن الله لا ينسي عباده ولا ينسي وعده "فقد صدق وعده " وما هو عليه الحال الآن؟ هل سوف أصل إلي رتبتكم بالآخرة؟ لن يحدث هذا وسوف أموت ويهال عليّ التراب مثل الملايين السابقين واللاحقين ولكنكم معشر الأبطال تدفنون بملابسكم ولاتغسلوا كي تلاقوا الله يوم القيامة بدمائكم وإصابتكم ، هنيئا لكم.  

       مازلت أحاور الشهداء متسائلا بأسئلة كثيرة يغلب عليها الكفر والإلحاد ، احتج قدوره علي تصرفي هذا فحاول منعي بأن وضع إحدي أرجله الأمامية علي يدي لم أهتم به وحين رغبت برفع رأس أحد الشهداء التفت أسنان قدورة علي معصمي وأصدر أصواتا تدل علي أنه سوف يفترسني ، تنبهت وتساءلت ما الذي أفعله؟ منذ دقائق كنت أسبح بحمد الله ونعمته وقدرته والآن أتصرف بتصرفات تدل علي عكس ذلك ، جلست أسفل أقدام الشهداء باكيا متحدثا:

ـ قوموا من نومكم وخليكم معايا ، أنا لوحدي هنا من تمن تشهر ، ح أجنن ، حد يقوم معايا عشان نونس بعض ونحاول نرجع مصر ونكمل شغلنا مع الجيش ، ليه مش بتردوا عليا؟ ليه .. ليه .. واندفعت بالبكاء وغادرت الكهف جالسا أمامه فشاهدت بعضًا من أسراب النحل تحوم حولي ، حدثتها .. أستغفر الله .. أستغفر الله.

     عادت أسراب النحل ثانية إلي الخلية ، شاهدت قدورة قادما وفي فمه كتيب صغير ثم توقف أمامي وأسقط الكتيب علي ركبتي ولعق وجهي وجلس بجواري ، كانت عبارة عن نوته صغيرة في حجم كف الإنسان وكان باديا عليها تلونها بالدماء أو من آثار الديدان التي قامت بتحليل جثث الشهداء.

    ترددت في قراءة النوتة ، قرأت اسم الله وحاولت القراءة ، كانت الصفحة المواجهة لي تحمل رقم "7" قلبت الصفحات حتي عثرت علي الصفحة الأولي أقرا ما كتبه الشهداء:

    بسم الله الرحمن الرحيم " وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمْ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ "

صدق الله العظيم.

   اليوم الموافق التاسع عشر من شهر إبريل من هذا العام 1969 صدر إلينا الأمر بالتوجه إلي جبل كاترين وعلي بعد 500 متر شرق نقطة الارتفاع رقم 132 لتدمير قاعدة الصواريخ والتي تحمل اسم "موردخاي جور" والعمل علي إحضار أي رأس متفجرة لأحد الصواريخ بها ، لقد انتهي تدريبنا العنيف علي مدي أسبوعين وها نحن ننطلق للتنفيذ والله الموفق.

      مساء نفس اليوم ركبت المجموعة المكونة من تسعة رجال عظماء وأنا برفقتهم قاربًا متجهًا إلي ساحل سيناء الشرقي ، لقد وصلنا قبل الفجر بمعاونة أحد الأدلاء الذي ساعدنا في الاختباء حتي جنوح الظلام وتحركت القوة وكان برفقتنا أحد كلاب الحرب والذي تدرب معنا لتنفيذ تلك المهمة ، بعد أن سرنا لمدة ثلاث ساعات وفي ليلة شديدة الظلام وصلنا إلي الهدف وقد تركنا المرافق حسب الخطة ، الكلب المرافق يتبع مجموعة التفجير حيث كان يتأكد بعدم وجود ألغام حتي وصلنا إلي القاعدة وقمنا ببث العبوات الناسفة والتي كان ُمسيطرا عليها عن ُبعد وهذا نوع جديد من المفجرات لم يتوفر لدي القوات المصرية من قبل ، كنا مستعدين لنسف القاعدة والتي كانت ُمكتظة بالجنود والمعدات ويحيط بها سياج من السلك الشائك وكشافات قوية مضيئة ورغم هذا تمت عملية بث الألغام بسهولة وُيسر نظرًا للتدريب العنيف والدقيق ، الآن يستعد الملازم أول مهندس خبير المفرقعات بالتوجه لفك رأس التوجيه لأحد الصواريخ حتي نعود به للقيادة ، وهو المطلب الثاني لكن المطلب الأول كان نسف القاعدة ، سار الضابط خلف الكلب بمسافة ولم يكن يتحرك حتي يشاهد الكلب قد سار مسافة آمنة أمامه فكان يتبع طريق سيره بعد أن يتأكد بأن المكان أصبح آمنا ولا تعوقه الألغام.

     نجح خبير المفرقعات المهندس ميشيل في مهمته وأقبل مسرعًا يحمل الرأس المتفجرة والتي زاد وزنها عن سبعة كيلوجرامات وقبل أن يصل إلينا هاجمته كلاب الحراسة الإسرائيلية ودفع هذا بطلنا "سحاب" والذي تميزه العلامة البيضاء بين عينيه " ، تركت القراءة ونظرت جهة الكلب فشاهدت العلامة التي تحدث عنها قائد المجموعة للتأكيد وشاهدتها وابتسمت قائلا ً:

ـ يخرب عقلك يا سحاب ، اندفع يلعق وجهي ونبح بنباح السعادة والسرور ، الآن علمت اسم الكلب الغريب والذي كنت أطلق عليه بداخلي اسم قدورة وقد أسعده أن يسمع اسمه بعد عدة أشهر مضت" أعود لأكمل قراءة مذكرات النقيب مصطفي قائد المجموعة.

     قاوم سحاب الكلاب الإسرائيلية واستطاع تسهيل عودة الضابط وهذه البطولة لكل من الكلب والضابط دفعتنا لسرعة نسف القاعدة بعد أن ظهر العديد من الجنود المدججين بالسلاح يطلقون علينا النار دون تحديد ، كان الانفجار رهيبا حيث وضعنا عبوات شديدة الانفجار بكميات مضاعفة ، ارتجت الجبال واشتعلت السماء بضياء الانفجارات ومما زاد من قوتها تواجد كميات كبيرة من الصواريخ التي كانت بالقاعدة ، أشرت للرجال بسرعة الانسحاب إلي ثنايا الجبل للحماية والاختفاء وطلبت من الرقيب فتحي أن يظل في وضع الدفاع لستر انسحاب الرجال ومن هو فتحي إنه أحد أبطال رجال الصاعقة في الرماية ، ظل فتحي يقاوم جنود الأعداء ويطلق نيران رشاشه عليهم بغزارة مما سهل علينا الانسحاب الآمن ، بعد أن عدلنا من وضعنا وحين بدأنا في فتح النيران علي جنود الأعداء أسرع الرقيب فتحي منسحبا ً حتي اقترب منا ، تخير مربضا لنيران رشاشه وقام بفتح نيرانه علي الأعداء فأسرعنا نكمل انسحابنا وظل يقوم علي حمايتنا بنيران مدفعه الرشاش وبكفاءته المعهودة حتي وصلنا إلي ثنايا الجبل الأمامية وفتحنا نيران أسلحتنا حتي نستر انسحاب فتحي حتي اقترب منا ولكن الإسرائيليين كثفوا من قواتهم بحضور قوات محمولة جوا بالهليكوبتر من القاعدة القريبة وقامت الطائرات بإطلاق مدافعها الرشاشة علي المنطقة وظل فتحي ثابتا في موقعه الأخير وشعرت بأنه أصيب حيث ُكنت اشاهد الانفجارات من حوله ثم سقط أرضا وكان مازال يطلق نيرانه علي الأعداء.

     بعد عشر دقائق عم الظلام المنطقة وركز العدو مجهوده في عملية الإنقاذ والإسعاف بعد أن شعر بأنه لا توجد مقاومة ، تحرك فتحي في الظلام وقام "سحاب" بمساعدته حتي وصل إلينا وحين شاهدته قادما باتجاه الكهف ابتسم لنا قائلا ًمبروك يا سيادة النقيب ، أسرعت إلي لقائه وأخذته بين ذراعي وساعدته حتي دخلنا إلي داخل الكهف بينما ظل رجلان من رجالي مع سحاب بالخارج للمراقبة ، طلب مني أن يشاهد الرأس المتفجرة فأحضرها له أحد الرجال وعلق قائلا ً: والله إحنا رجاله بصحيح ، معانا جدعان من الشرجية والمنوفية والمنصورة وكمان أخويا نخلة جرجس الواد العترة وعلي رأسنا سيادة النقيب والباش مهندز ميشيل اللي فك الجلجلة الرهيبة دي .. يا بوي.

     طلب منا أن نضعه في وضع النوم جهة القبلة لأنه شاعر أن موعده مع الله قد أزف ، كانت الدماء تنزف من صدره وكتفه اليمنى بغزارة وتبين لي فيما بعد أن خمس رصاصات من النوع الثقيل اخترقت جسد هذا البطل ثم سمعت صوته وهو باسم الوجه حيث أضأت كشافا صغيرا فعلق قائلا ً:

ـ باجولكم إيه .. إنا لله وإنا إليه راجعون والشاطر فيكم يحصلني ، علت البسمة الوجوه بما فيها فتحي وخمد صوته وارتد نفسه مرة واحدة وأسلم الروح بيننا ، لم نبكه فنحن نعلم أننا ملاقون الله خاصة في تلك المهام التي بعمق قوات العدو ، تبادل الجميع القدوم إلي الجثمان وتقبيل جبينه والدعاء له.

     جلست أستعيد الأسابيع القليلة الماضية يوم أن وقع علي وحدتي الاختيار للقيام بتلك المهمة ، ورغم التدريب العنيف ووجود القادة الذين وفروا لنا كل شيء لضمان تحقيق المهمة ونجاحها إلا إنني كنت أخشي عدم دقة المعلومات عن تلك القاعدة وهذا من الممكن حدوثه في بعض الحالات ، حين اقتربت من القاعدة وجدت أن الصور والرسومات التي كنا نشاهدها وأعدت لها ُمجسمات بموقع التدريب كانت مشابهة طبق الأصل لما أشاهده منذ هبطناعلي ساحل خليج السويس الشرقي ونحن نتقدم أيضا متجهين إلي القاعدة حتي الجهات الأصلية ومسافة السير ونقطة الارتفاع بالخريطة والتي تؤكد لنا أننا قد وصلنا إلي جبل كاترين ، بل أن نقطة الارتفاع رقم 132 تقع خلفنا مباشرة بنصف كيلومتر ، بعد الانتهاء من تنفيذ المهمة كنت تواقا لهذا الضابط الهمام الذي يعمل مع قوات الاستطلاع خلف الخطوط المعادية وقررت بعد عودتي أن أبحث عنه وألقاه وأقبله وأقدم له التحية والتقدير مني ومن زملائي ضباط الصف والجنود فقد كان له النصيب الأوفر لنجاح مهمتنا والحمد لله.

     صباح اليوم التالي 21/4/1969 قامت الطائرات القاذفة بدك الجبل بالقنابل وكنا نسمع أصوات الانفجارات تهز الجبال الضخمة ثم قذائف صاروخية بكل مكان وبعدها بيومين ملأ سفح الجبل القوات الخاصة تبحث عن منفذي تلك العملية ، لقد جن جنون الإسرائيليين حيث كانوا راغبين بالعثور علي من نفذ تلك العملية وكما يقول المثل "بيدي لا بيد دايان" !! سألت الرجال: سوف نبقي هنا ونقاتل لوحضرت أية قوة حتي ننهي الذخيرة ثم يعقبها قذف قنابل يدوية وبالنهاية نقوم بنسف أنفسنا بالكهف بباقي العبوات ولهذا طلبت من خبير المتفجرات أن يجهز جميع العبوات من حولنا وأفادني بأن المتفجرات عن ُبعد ليست موجودة فأخبرني الجندي شوقي بأنه تركها بداخل العلبة عند أول الجبل بجوار شجرة الشوك لأنه لم يستطع التحرك ومعه كل تلك الأحمال ، طلبت منه أن نستخدم الفتيل سريع الاشتعال والذي أتينا به لاستخدامه في حالة  ُعطل المتفجرات الأوتوماتيك.

     هذا هو اليوم الثالث الذي مضي علينا وهو مثل الأيام السابقة حيث كنا في حيرة فنحن راغبون في دفن فتحي والصخور بداخل الكهف من الصعب الحفر بداخلها ولذا فنحن نحتاج إلي إخراجه من داخل الكهف ونهبط به إلي الوادي لدفنه بالرمال اللينة ، كان الملاحظ لنا بعد ُمضي الأيام الخمسة أن جثمان فتحي مازال نديا طريا لكن رائحة التحلل والعفن بدأت تظهر علي جسده.  

        في اليوم الرابع مات الجندي سعيد فقد مضي علينا أربعة أيام دون ماء ، اليوم الخامس شاهدت سحاب يحمل الزمزمية في فمه وأسرع بها خارج الكهف وعاد بعد ساعتين ونصفها ممتلئ بالمياه ، قبلته قبل أن أحصل علي جرعة ماء وشرب الرجال وحمدنا الله ، اليوم السادس كرر سحاب بطولته وأصبح هذا هو تصرف سحاب اليومي كما أن رائحة التحلل عمت الكهف ؛ في البداية الرائحة لا تطاق ولكن الأنوف أزكمتها الرائحة وأصبحت كأنها شئ عادي لكن غير العادي هو منظر تحلل الجثث والذي كان يثير الخوف بداخل من بقي علي قيد الحياة ، قوات الكوماندز الإسرائيلية مازلت تحتل قمم الجبال وطائرات الهليكوبتر مازالت تحلق بالمنطقة فلقد تأكد لهم بأننا لم نغادر الجبل لأنهم احتلوا شاطئ الخليج ولم يعثروا علينا وبالتالي نحن محاصرون وكان تقديرهم صائبا ، بعد قليل شاهدت شعيب يعاني سكرات الموت حاولت أن أروي ظمأه ببعض قطرات من الماء متبقية ولكنه أسلم الروح فقرأت عليه الفاتحة وأغلقت جفنيه مثل باقي الزملاء ، كنت أشاهد زملائي وهم يسقطون يوميا نظرا للحالة الصحية السيئة التي أصبحنا عليها رغم ما يفعله لنا سحاب ، اليوم الأخير أشعر باقتراب نهايتي وأنظر لمن مات سواء سعيد أو شعيب وبدأت تظهر عليهم علامات التحلل وعمت الرائحة الكريهة المكان.

     اليوم الثاني عـشر ، قمت أنا ضياء باستكمال ما كتبه قائدي النقيب مصطفي بعد أن لاقي ربه ، لم يتبق سواي وصبحي والضابط المهندس ميشيل عزيز الذي أشاهده وهو يحتضر ولم يعد يسمع بل امتنع عن شرب الماء ونخله الذي أشاهده يعاني سكرات الموت ، نهاية اليوم مات صبحي وفي الصباح لحقه حضرة الضابط الشجاع ميشيل ، أشاهد الرأس الموجهة للصاروخ بجواري بشكلها المخروطي ولونها الفضي ولا أعرف كيف نقوم بإيصالها لقيادتنا حيث أخبرونا بأنها في غاية الأهمية ، سوف يرسل الله بمن يقوم علي نقلها إلي القاهرة.

     اليوم الثالث عشر مات جميع رفقائى وأشاهد الديدان المنبعثة من أجسادهم الطاهرة ورغم هذا لن أقوم بتسليم نفسي وسوف أظل علي حالي لألحق بهم ، اليوم الخامس عشر أشعر بنهايتي قد قاربت حيث أغفو كثيرًا وأنتبه قليلا وقد ضاعت مني كل فكرة وتاهت ذاكرتي ولكني أداوم علي الكتابة حتي تعلم مصر أن أبناءها نفذوا مهمتهم ولم يبخلوا عليها بأرواحهم ورفضوا التسليم ، سوف أتلو الشهادة كما تعودت كل يوم و..........

***

        بكيت هؤلاء الرجال الذين ضحوا بكل شيء حتي يؤمنوا وطنهم وشعبهم وياليت شعبنا العظيم يقدر ما قاموا به ، كنت أتحرك مثل الديك الرومي منتفخ الأوداج معتقدًا بأنني قمت بما لم يقم به أحد ، أؤنب نفسي:

ـ يا شيخ روح اتهبب عليك وعلي اللي عملته أمال الرجالة دوول نقول عليهم إيه؟ .... لا يجوز عليهم غير الرحمة والمغفرة وأن مثواهم جنة الخلد بجوار رب العرش.

     جلست ساهما ثم تنبهت لوجود الرأس المتفجرة فأسرعت ودخلت باحثا عنها وحملتها وكانت ثقيلة للغاية تحركت بها وبجواري البطل سحاب الذي لو تمكن من الكلام لقال كل شيء ولكن الحمد لله لما قام به الشهداء وما كتب ولولا هذا ما علمت بقصتهم وموضوع الرأس المتفجرة ، لقد تركت ما كتب بجوارهم حتي يظل سرهم معهم إلي يوم القيامة ، بعد مجهود من عناء السير وصلت إلي الكهف وأنا أحمل الرأس المتفجرة وقد أعياني المجهود النفسي والبدني ودرجة الحرارة الشديدة لشهر سبتمبر ، وضعت الرأس المتفجرة جانبا وشاهدت طاسة الماء فشربت منها ووضعت رأسي علي الحائط ورحت في سبات لم اصحُ منه إلا قبيل الغروب لهذا النهار الطويل.

***

    هذا هو اليوم التالي لما حدث مع أبطال الصاعقة ، توجهت حسب وعدي مع كلٌ من "سلمي وكاملة" إلي مكان إقامة قبيلتهما بصحبة سحاب البطل الأسطوري والذي قدرته واحترمته وكنت أنظر إليه كأنه قائد عسكري كبير يرتدي القبعة ذات الإطار الأحمر ، وصلنا إلي مخيمات القبيلة وأقبل عليّ بعض الأطفال يتساءلون عن سبب قدومي للقبيلة ، وضحت لهم رغبتي فأسرعوا بي في اتجاه عائلة " سًـليم" والسعادة تغمرهم بهذا الوافد الجديد ، كانت سلمي هي أول المستقبلين لي ، هذه الفتاة الرقيقة الحالمة والتي تشع نورا وبهاءً وسحرا

ـ كيفك عابد؟

ـ الحمد لله .. سلمي!! قربي مني شوية .. أنتِ حلوه خالص

ـ دا سكوتك عابد كان نعمه .. أول ما اكلمت خرمت

ـ يعني كلامي وحش؟

ـ زين والله لكني أمزح معاك وإلا؟

ـ لا والنبي بلاش وإلا .. فين "سَـليم"؟

ـ متشوج لسـليم كنت فكرانه أنك متشوج لحاجه تانيه؟

ـ هيا دية الحاجه التانيه اللي جيت عشانها

ـ دا أنت حكايتك حكايه ، ح أعود ومعي َسـليم ... غادرت المكان في لمح البصر وظللت أتابع ظلها حتي اختفي.

     شاهدت سليم ُمقبلا ً نهضت فرحبت به وتبادلنا القبلات والأحضان حيث لم أشاهده سوي ثلاثة أيام فقط حيث كان فتيا سريع الحركة يقظا ومتنبهًا دائما ، لاحظت أنه يسير متوكئا ًعلي ذراع "كاملة" التي رحبت بي متسائلة بلهجة باسمة:

ـ يا تري "سلمي" رحبت بيك؟ ابتسمت وظللت صامتا مما دفع بسَـليم للحديث

ـ سـلمي دوشتني بحديثها عنك والله يا أخي ، هذا الحديث ما كان له نهاية ولا جرة معرفة لكن في الحجيجه هيا مبسوطة منك كتير وزي ما بتجولوا في َمصـر أنها رايداك وبتحبك ، احتجت كاملة علي التصريح الواضح مما دفع بسَـليم إلي التوضيح بأن الزلمه ما هو خابر حالها أصبح كيف وهيا عامله كيف العنزة المترملة واللي تيسها "الذكر" مات وبجت وحيدة

    أطلت مني ابتسامة علي تأثير البيئة وطبيعة العمل علي أحاديث الناس فلا يمكن أن يقول مثل هذا الحديث الطيب إلا لمن يحيون بتلك الأماكن وتصبح البيئة عنصرا فاعلا ً في التشبيه والاستعارة فجميع المحسنات البلاغية تأثرت بمن حولهم.

      غادرت كاملة المكان وتوجهت لإحضار الطعام والشراب لكلينا ، اقترب مني سليم يخبرني:

ـ والله أنت راجل زين وتسوي حمل بعير دهب ، شوف الرسم اللي سويته ونفذه الدفعه وبهدل اليهودا وخلاهم بيلفوا حولين نفسهم ، تعرف كنت عايز أصرخ وأجول إن الوَلد الزين ده صاحبي وأنا كنت بأساعده لكن َجفلت علي سري وسرك وسر بلدنا مصر ، تـعرف الدفعة موتوا كام من اليهودا النجسين؟ والله يا شيخ ما ح تصدج روايتي ، موتوا خمسة وأربعين ومعورين مائة ، بأجول مائة وكانت المستشفي حولي وأنا محجوز فيها كلها جرحي ومنصابين من عملية كاترين ، تعرف اليهودا بيتكلموا أن فيه جهاز خطير المصريين سرجوه وده اللي بيجول للصاروخ روح ناحية عابد أو روح ناحية َسـليم ومش لا جينه وعملوا مكافأة مليون دولار ، تصور مليون دولار وولاد الحرام المجرمين وجطاعين الطرج والمهربين موزعين رجالتهم يدورا علي الجطعة المهمة.

ـ وتفتكر لاقوا الحتة دية يا سليم؟

ـ لا ما عثر عليها حد

ـ يمكن الدفعه خدوها معاهم وهما راجعين؟

ـ يمكن ، لكن اليهودا بيجولوا للمشايخ أن الدفعه المصريين لسه ما روحوا للديار وهما موجودين بسينا واحتمال كبير أنهم ماتوا من الحصار لأنهم بيأكدوا أنهم لو لسه عايشين كانوا عملوا تدمير وجتل فيهم ربنا يغورهم يا أخي!! تشجعت وأخبرته بأنني لي طلب رخيص الثمن عال القيمة

ـ وضح يا زلمه

ـ كنت عايز "حجرين" بطارية أشغل الراديو أسمع أغنية والا نشرة أخبار ، بدل ما أنا قاعد سهمان من يوم ما جيت معاك أول مرة

ـ أي والله يا زلمة أنت محتاج تروح عن نفسك اليومين دوول ، نهض متحركا ببطء مما دفع كاملة لأن تحضر فطلب منها ما سبق وطلبته منه فأسرعت وعادت بعد قليل وأحضرت عددا من تلك البطاريات الجافة ليعمل الراديو وكان العدد مضاعفا لما طلبت 

      أثناء حديث  َسـليم كنت أفكر بأنني والحمد لله كفيت علي الخبر ماجور مثل ما يقول العامة ولن أخبر أحدا منهم بشئ فلقد أصبحت المكافأة مغرية لأي شخص أن يفعل أي شئ أمام المال وما قرأته بمذكرات الشهيد مصطفي يحدد مهمة الرجال وتلك المهمة الثانية فقد نفذوا الأولي ومطلوب إنجاز الثانية ولابد لي من أن يكون لي فيها نصيب ، كنت أشعر بضآلتي أمام ما قام به هؤلاء الأبطال مقارنة بوضعي الساكن ولم أفعل شيئًا يذكر يجعلني فخورا بنفسي وعملي.

    أقبلت سلمي تحمل طعاما شهيا وتبعتها كاملة ثم أتي بعض رجال القبيلة الذين رحبوا بي ثم أشار "سَـليم" لأحد الرجال قائلا ًهذا هو عمي رمضان ووالد "كاملة" خطيبتي وإن شاء الله ح نجوز بعد أربع جمع "  أربعة أسابيع " ، ثم ابتسم لي وعلمت معني تلك الابتسامة ثم شاهدت إشارة من كاملة أثناء قدومها تحمل بعضا من الطعام وهي تغمز بعينها جهة والدها ثم نظرت إلي الجانب الآخر جهة سلمي التي كانت تشعر بحرج بالغ أثر علي تصرفاتها المعتادة.

    لقد وصلت الإشارة ولم أعد أعي هل أتقدم لسلمي؟ أو أظل علي عهدي مع رقية؟ ومن يضمن لي بأن رقية مازالت تحتفظ بعهدها معي لقد مضي ما يقارب العام والنصف منذ مغادرة دارهم ولا حس ولا خبر سوي بعض الرسائل التي أرسلت بها من إذاعة صوت العرب واحتمال أنها لم تسمعها ، شعرت بأن رأسي بها شواكيش ودوشة وأنا راغب بالاستقرار ، أفكر بأن سحاب أصبح أمامه خمس عرائس والعنزة أحضرتها معي بناء علي توصية من "كاملة" حتي تلتقي وبناتها بالتيس "الذكر" وسوف أظل علي هذا الوضع "وحداني ح أعيش كده وحداني" كما غني المطرب فريد الأطرش ، تنبهت علي صوت سَـليم والذي طلب مني أن أستمر في تناول طعامي وألا أشرد منه علي حد قوله لي مما أضحكني وقلت له ُمعلقا :

ـ ده تعبير خاص بالمعيز والغنم يا سليم

     انتهينا من تناول طعامنا وأعقبه تناول الشاي وانصرف الرجال وبقيت أنا وسليم وعمه الشيخ رمضان والد البنتين الذي تركنا لفترة قصيرة علي وعد بالعودة ثانية ، اقترب مني سليم وأخبرني بأن كاملة أكدت له بأن عيوني متجهة نحو سلمي وتساءل هل ترغب بها فتكلم والدها أو إذا كنت لا تفكر بها فاتركها تتعرف علي "تيس" آخر ، ماهذا يا َسليم تيس وغنمه وشرود ، أجبته بأنني أعشق تلك الغنمة وأرغب بأن أفاتح كبير الغنم في هذا فضحك من حديثي ودفعني في ركبتي علي مزاحي العبيط.

    رفع "سـليم" من صوته متسائلا ً وين عمي رمضان فأشارت له كاملة والتي كانت تجلس مستندة بظهرها علي جذع شجرة نخيل بينما سلمي مختبئة بالجانب الآخر من جذع الشجرة وأخبرته بأنه قادم وبالفعل شاهدت الرجل ُمقبلا بعد أن أشعل سيجارة وجلس بعد أن رحب بي ، بعد قليل قدم سليم مذكرة شفهية له عن حالي وأخبره بأن الشاب عابد زين الشباب وراجل وطني وله مستجبل كبير بمصر وأنه راغب في مصاهرتنا في ابنتك سلمي فما جولك يا شيخ؟

    أمسك الشيخ رمضان بعصا صغيرة وانشغل في تسليك أسنانه ثم بصق بصقة جافة بأحد الأجناب قائلا ً والله ما أجدر أرد طلب فاتحني فيه إبن أخي َسـليم وبعد كام جمعة ح يجوز كاملة بنتي وأنا موافج ومش عايز منك مهر لأن الحالة حرب وأنت سايب ديارك وعايش بانتنا "بيننا" وربنا يبارك لك فيها ، قدمت له شكري وتقديري وبأنني سوف أعمل جاهدا ً علي إسعادها ولن أضر بها وسوف نكون أسرة ثم طار خيالي محدثا جاري قائلا ً: أنا يا سحاب سوف أكون أسرة مثلك ولنظل أوفياء نتبادل الزيارات ونلتقي أنا وأنت وتجلس روز مع سلمي وتتنزه العائلتان معًا.

      أفقت من أحلامي علي صوت الشيخ رمضان يعرض علي ّرأيه  " خبرني برأيك  " بأفكر نجمع الشمل في ُعرس واحد مع َسـليم وكاملة وبكده تبجي الكلفه بسيطة ، نورني برأيك الزين خصوصا أنت ما لكشي معارف بالديار هادي ، تنبهت بأن عائلة " روز" سوف تحضر معي هذا الفرح وسوف يشهد سحاب إذا تواضع علي عقد القران مما دفع بي للابتسام وقد تضايق الشيخ رمضان من تصرفي هذا ولكن سرعة إستجابتي لاقتراحه أزالت كل أثر للضيق حيث قلت:  نعم الرأي والمشورة عمي رمضان الذي نهض طالبا حضور العروس والتي حضرت وهي خجلي وُدهشت لهذا وقد تركنا والدها ليبشر أسرته بهذا النسب واقتربت منها متسائلا ً:

ـ جري إيه يابت؟ ما أنت كنتي زي القرد من نص ساعة ، خلاص بقيتي وش كسوف؟

ـ كده يا عابد ، طيب بعد ما نجوز ح خليك تنام فوج النخلة!!!!!

    لم يسعنا أنا وسليم سوي الضحك لتلك الفتاة الشقية الجميلة التي كانت تعطر أي مكان بضحكاتها وحديثها الجميل مع ترديدها لبعض أغاني شادية ونجاة ، كانت سلمي ُحلما يتحرك وظلا ملونا ليس بأبيض أو أسود وكانت سرابا ملموسا وشرابا نقيا طاهرا ورائحة ندية متجددة وشراعا هاديا لسفينة الهداية والنجاة ، النظرة إليها تشبعك والبسمة منها تفرحك وصوتها الشجي يطربك إلي عالم الأحلام وفوق هذا فهي تحب اللهو والضحك والقفشات وهي آخر عنقود الأسرة المكون من خمسة رجال وثلاث فتيات ، ودعت الأسرة بين السعادة والابتسام وتحركت سلمي تصحبني بضعة أمتار واقتربت منها متسائلاً

ـ مش ح اشوفك يا بت؟ أجابتني:

ـ لما تشوف العنزة في بطن أمها!!!

     ُعدت إلي بيتي وجلست بين أفراد أسرتي وقد غاب عنا ثلاثة هم "العنزة وبناتها" فقد توجهن للسيد تيس لزوم الإنجاب والخلفة وبسلامته قاعد في مكانه واللي عايزه يروح له ، رجالة آخر زمن.

    كنت عائدا وبرفقتي سحاب والليل أرخي خيوطة فعم الظلام وسرعان ما تبدد قليلا علي ظهور ضياء القمر لتلك الليلة السعيدة في حياتي ولم يكن هناك ما يثير ضيقي سوي ذكري "ُرقية" تلك الإنسانة الرقيقة الجميلة والخالة زهرة وما قامت به معي هي وبناتها ، كنت أحاول أن أجد السبب والمبرر لما تعهدت به منذ أكثر من ساعة مع الشيخ رمضان وهل من الحكمة أن أظل غير قادر علي العودة إلي القاهرة ومُحاصرًا دون رعاية ودون أسرة أعيش بجوارها وأحيا بينها ، هل َكتب عليّ الزمان أن أعيش أبكم سبعة أشهر ثم أظل أعيش مع حيوانات دون بني الإنسان إلي أن يشاء الله خاصة أنني أصبحت أتكلم لذا فأنا في أشد الحاجة لمن تؤنس وحدتي وتقف بجانبي.

     لم ولن أصبح ناكرًاً لجميل أسرة أبى السعادات ولن أكون خائنا لميثاق الحب بيني وبين " ُرقية " وماذا أفعل لو ُعدت إلي أسرتها وعلمت أنها تزوجت؟ لن يكون هناك حساب من دونه وهل تلك الأسرة تعلم بأنه ميثاق غليظ؟ وكيف يكون هكذا ونحن في حالة حرب وأنا بعيد عنهم وبيننا مسافات ، أعتقد بأنني اتخذت القرار المناسب ، ُكنت راغبا بالتوجه إلي منطقة الشيخ  ُزويد ولكن القدر وضعني هنا ولم أنته من مهمتي بعد فقد تجددت المهمة بالعثور علي الرأس المتفجرة وسوف أبذل قصاري جهدي لإرسالها إلي القيادة بمصر.

     سمعت صوت نباح "سحاب" منبها السيدة روز بأن برفقتي رجلا واحتشمي شوية وسيبك من الدلع بتوع اليومين اللي فاتو ، نهضت روز واستقبلتني بترحاب وبعض اللعقات وكأنها تعلم بما نويت فنهضت تقدم تهنئتها لي بينما ؛ توجه سحاب يغازل إحدي بناتها وتركته دون أن يظهر الضيق عليها .

Share
Click to listen highlighted text! Powered By GSpeech