Click to listen highlighted text! Powered By GSpeech
Get Adobe Flash player
مستمرين معاكم بإذن الله 2008-2024 **** #لان_لجيشنا_تاريخ_يستحق_أن_يروي **** ***** إنشروا تاريخنا وشاركونا في معركة الوعي **** تابعونا علي قناة اليوتيوب 1100+ فيديو حتي الان **** تابعونا علي صفحات التواصل الاجتماعي** أشتركوا معنا في رحلاتنا لمناطق حرب أكتوبر **** يرجي استخدام خانة البحث **** *** تابعونا علي تليجرام - انستجرام - تويتر

روايه عابد المصري - الحلقه الثانيه عشر

حصريا لاول مره علي الانترنت

بتصريح خاص من الكاتب للمجموعه 73 مؤرخين

لا يجوز اعاده النشر بدون الاشاره للكاتب والموقع كمصدر

عـــابد المصـرى .. رواية

كتبها/أسـامة على الصـادق

.....

الطبعة الأولى .. يوليو 2010

الناشر: الكاتب

.....

تصميم الغلاف:

ريهام سهيل

....

حقوق الطبع محفوظة للكاتب

موبايل: 0127970032

مفاجأة عابد المصــري

 

 

 

      جلست هامدا ً استعيد الساعات الماضية وقد شعرت بمتعة الأسرة وصحبة الناس التي فقدتها منذ حرب عام 1967 أي منذ عامين ونصف قضيتها في مشاكل الإنسحاب والجروح العميقة التي ألمت بي وعلاج بدائي وُحب ملائكي وبطولات قمت بها مع شباب مصري وطني ثم عودة للوطن بطريقة مغامرات شبية بما يقوم بها "جيمس بوند" ثم توتر بالعمل وعرض علي لجنة الضباط والإستغناء عن الخدمات وأصبحت عاطلا وُسحبت مني جميع الأوراق العسكرية ثم عملي كخفير مزلقان حيث ُكنت أطيب من خاطري بأن خرتشوف رئيس الدولة الكبري بالإتحاد السوفيتي ُفصل من عمله وعمل ناظر محطة سكة حديد يعني أصبحنا زمايل يا عم خرتشوف ، ثم ما حدث من قرار الرئيس بعودتي وعودة المئات من الضباط الذين ُزج بهم بالمحاكمات وقرارات الفصل التي صدرت من لجنة الضباط للتخلص من بعضهم بدعوي أنهم أحباب المشير.

 

ـ يا ولاد الإيه ... فيه ضابط مفعوص زي حالاتي برتبة نقيب من يومين ح يكون مصاحب المشير دا لو صاحبت رائد يبقي أنا من المحظوظين.

 

       ثم تلي هذا السجن الحربي وأصبحت أبكما وُعدت ثانية للخدمة ومحاكمة زبانية السجن الحربي ثم إرسالي إلي تلك المهمة المقدسة والتي ظللت بها وقد قرأت ما كتبه الشهيد مصطفي عما  ُقمت به لتنفيذ تلك المهمة ، لقد عاد إليّ صوتي وعادت إليّ آدميتي التي ُنهبت وإنتهكت مرارا تحت زعم أي شيء ، ما حدث منذ ساعات أثلج صدري وطيب من ضيق قلبي فأصبح لي وليف سوف يؤنس وحدتي.

 

      لقد أيقنت بأن من لم يذق طعم وحب النساء ولم يشعر بحنانهن كمن عاش حياة جافة دون معني ومن أهمل وفرط في تلك الحياة بعد أن ذاق حلاوتها وأنسُها وبهجتها كمن حكم علي نفسه بالموت البطيء إنهن متعة الحياة الدنيا وهن السند للرجل في جميع المحن وقد شعرت بهذا مع رقية وشعرت به مع سلمي وهذا ليس تناقضا بين الإثنتين ولكنه تأكيد ً لما حباهن الله  فقد منحنهن تلك النعمة.

 

      هرولت إلي خارج الكهف أتلمس المكان الذي دفنت به جهاز الإتصال ، بعد ُجهد عثرت عليه وُعدت به وجلست أمام الكهف وظللت أقوم علي نظافته بقدر الإمكان مسترشدا بضوء القمر الساقط من أعلي السماء ، أحضرت بطارية التشغيل الجافة ووضعتها بداخل الجهاز فأضاءت لمبة التشغيل الحمراء بما يفيد بأن الجهاز ُمعد للعمل ، حركت المحطات وسمعت بعض الخرفشة ثم بعض إذاعات أجنبية ولم أستمع لإذاعة عربية ، جلست قليلا أستعيد حياة بني البشر فتأكد لي بأن الراديو كان مضبوطا علي الموجة القصيرة وموجة إذاعة الراديو العادية تعمل علي الموجة الطويلة ، بسرعة حولت الموجة إلي الطويلة وكانت المفاجأة السعيدة لي بأن أستمع لموسيقار الأجيال محمد عبدالوهاب وأنا بأعلي جبل كاترين وقريبا من السحاب والنجوم لأسمع قصيدته الرائعة جبل التوباد التي هزت مشاعري سواء من الألحان أو الكلمات والغناء كما أنني لأول مرة منذ شهور طويلة أستمع للموسيقي والغناء والذي كان يناجي النفس والمشاعر الإنسانية بعد ما ألم بي من مشاعر إنسانية متناقضة متضاربة بين الحزن لما شاهدته علي رجال الصاعقة والفرح والسرور الذي تمتعت به منذ ساعات قلائل ، كانت الأحاسيس والمشاعر تنتابني من حين لآخر وتدفع بعواطفي وانفعالاتي لهذا الحبيب الذي يناجي حبيبته ، قيس بن الملوح يناجي ليلي العامرية وبعض مقاطع من قصيدته الرائعة والتي أصبحت مضرب الأمثال لهذا الحب العفيف والعشق الذي أدي في النهاية لذهاب عقله ولم يجتمع شملهما لتعنت الأسرة حيث كنت أستمع لأبيات من الشعر العربي الممتع.

 

جبل التوباد حيّاك الحيـــــــا ..... وســقى اللهُ صبانا ورعـى
فيكَ ناغينا الهوى في مـهدهِ ..... ورضعناه فكنت المُرضِـعا
وحدونا الشمس في مغربها ..... وبكرنا فســــــبقنا المـطلعا
وعلى سفحك عشــــنا زمنا ..... ورعيـــنا غنم الأهــل مـعا
هـذه الربوة كانت ملــــــعبا .... لشــبابيـنا وكـانت مرتـــــعا
كــم بنينا من حصاها أربُعا .... وانثـنيـنا فمــحونا الأربُـــعا
وخططنا في نقا الرمل فلـم ....تحفظ الريحُ ولا الرملُ وعى

 

لم تزلْ ليلى بعيني طـفلـًة ..... لم تزد عن أمـسِ إلا إصـبعا
ما لأحجارك صـُمًا كلــما .....هاج بي الشوقُ أبت أن تسمعا
كلما جئتـُكِ راجعتُ الصبا .....فأبتْ أيـــامُهُ أن ترجـِــــــــعا
قد يهونُ العمرُ إلا ســاعة ً.....وتـــهونُ الأرضُ إلا موضِـعا
*************

 

    أنهي المطرب شدوه وغناءه وُكنت لحظتها مثل السكير الذي فقد عقله ويبحث عنه بين الصخور الصغيرة وبين حبيبات الرمل التي تسير فوقها الحبيبة رقية ، ياه ، يا لها من حياة ويا لتأثيرك وفتنتك علي شخصي ، أدمعت عيوني بالشجن مثل ما أدمع قلبي بالألم ، أنها اللحظات الفارقة في عمر الإنسان المحب الولهان وما بين الشقاء والسعادة لحظات هنية قليلة تفصل بين الاثنين مثل اللحظات التي تفرق بين الليل والنهار.

 

      أويت إلي فراشي أرضا وكانت الدموع هي رفيقي في النوم حيث كانت مشاعري فياضة لأقصي مدي ، خشيت علي نفسي من هبوط حاد بقلبي الضعيف الذي تألم كثيرا لأفعالي وتصرفاتي أو تصرفات الآخرين الأشد مني سلطة وقوة ، جلست أستعيد الأحداث ما بين حزن وسرور ، حزنت علي نفسي بأنني لم ألق الله علي تلك الدرجة من الإيمان مثل أبطال الصاعقة وأرواحهم الذكية التي وهبوها لله عز وجل دفاعا عن الوطن ومصر وشعبها.

 

  ُعدت إلي نومي بعد أن استقرت حالتي ونهضت قبل أن تبلغ الشمس مطلعها وتوجهت إلي عبوة الماء شديدة البرودة من طقس الليل القاسي وقد تعودت علي هذا حين تنخفض درجة الحرارة ليلا فيقشعر بدني فتدفع بدرجات الحرارة لتقاوم هذا البرد الزاحف عليّ ، توضأت وصليت الفجر والصبح وجلست أستعيذ بالله وقمت بتلاوة ما أتذكره من آيات الذكر الحكيم فسمعت صوت تلاوتي والذي شعرت بأنه عذب إلي درجة كبيرة فتنبهت أسرتي البكماء وأصدر أحدهم نباحا بعد أن انتهيت من التلاوة كأن أحدهم يقول الله عليك يا شيخ عابد ، الله يفتح عليك فتلك الحيوانات تعبد الله مثلنا دون ضوضاء.

 

    خرجت من الكهف أتفقد المنطقة وقد أسبغ الله الهدوء علي المكان ُعدت أجلس حيث ُكنت في انتظار عودة الماعز التي وهبتني الطعام الهنيئ لفترة طويلة دون احتجاج أو اعتراض ، ُعدت ثانية إلي الكهف هادئا أنتظر الخير القادم من أي مكان فقد أصبحت مثل الطيور أبحث عن طعامي اليومي ، بعد قليل سمعت أصوات الدواب ثم ظهر علي باب الكهف الوجوه الطيبة البيضاء والتي تشبه صفحة لبن أبيض رائق ، لقد أقبلت الشقيقتان برفقة الماعز الثلاث بعد أن قام "التيس" بواجبه الذي خلقه الله للتكاثر والنمو حتي ينعم به أبناء آدم من طعام وشراب لبهيمة الأنعام ، سمعت تحية الصباح الخارجة من الأفواه الجميلة كأنها نغم حالم قادم من السماء:

 

ـ صباح الخير عابد

 

ـ اهلا صباح الخير كاملة وسلمي ، نورتم المكان .. سمعت ضحكات الأنثي الرقيقة.

 

ـ طبعا مش حداك وكل "طعام" وهاذي العنزة إمعانا .. يا للا إتجوت ، مدت لي يدها بالطعام فأرسلت به إلي قومي من ذوات الأربع ، أمسكت بيد سلمي أداعبها فحاولت التمنع مما زاد من رغبتي في ملاطفتها ، تركتنا كاملة وجلست مجاورة لباب الكهف الخارجي ، جلست بجوار سلمي متلاصقا لها ناظرا بعيونها لعلها تنبيْ بما ترغب وتريد ، جلست أداعب كفي يدها بيدي فجذبت يدها من يدي قائلة:

 

ـ كهارب يا عابد ، َبعد يداك عني يازلمه, أنت عمايلك ح توديني في داهية ، سمعت صوت كاملة من الخارج:

 

ـ الأيام جاية ، بلاش عجلة

 

   استمر الحديث ثم شاهدت كاملة  ُمقبلة عليّ وقد حلبت إحدي إناث الماعز وجاءت إلي بعبوة اللبن تقدمه لي قائلة:

 

ـ اتفضل عابد بالهنا والشفا.

 

    شربت البعض منه وعاد الحديث الشيق يدور بيني وبين سلمي وتطرق إلي الزواج وما سوف يحدث وهذا دفع بالفتاة إلي الخجل وغادرت المكان وهي تصيح:

 

ـ مش ح تشوف وجهي إلا ليلة الزواج ، دا انت مصيبة وعليك جوه تهد إجبال فتذكرت أغنية شادية وهي تغني لبطل فيلمها صلاح ذو الفقار في فيلم مراتي مدير عام وأضحكني تعبيرها.

 

     غادرت الفتاتان الجميلتان المكان وظللت بجوار أصدقائي الذين انتهوا من طعامهم وتركوا لي طعامي والذي لم يتناولوه وقد اصطحب "سحاب" إحدي بنات "روز" للتنزه معها خارج الكهف فقد أنهي علاقته بالأولي وقد جاء الدور علي الثانية وقبلها روز ، شعرت بأنه بعد شهرين من الآن سوف يمتلئ الكهف بصغار الكلاب ويتبعها الماعز لقد أصبح الكهف كهف الحيوانات المستأنسة.

 

    أحضرت ساعة الأستوب ووتش وساعتي التي حفظتها معها حيث لم أكن في احتياج لاستخدامها حيث اعتمدت في التوقيت علي ظهور وغروب الشمس وأصبحت أجيد التوقيت بهذا الشكل.

 

    قاربت الساعة علي الخامسة إلا ربع بعد الظهر ، ربطت رقم الموجة والمحطة وظللت متابعا الساعة ثم بالتوقيت حركت الأستوب ووتش وأرسلت بأول رسالة ناطقة:

 

 "عابد المصري يتكلم ، أنا بخير ويا ريت ترسلوا لي برسالة علي برنامج ألف سلام بصوت العرب بشيء لا يعلمه أحد إلا سوانا حتي أتأكد من أنكم تسلمتم الرسالة لأمر مهم ، الوداع الآن".

 

أغلقت الجهاز وجلست في حالة من الهدوء والترقب في انتظار موعد إذاعة برنامج ألف سلام ، من حين لآخر أنظر إلي رأس الصاروخ مرددا ً:

 

 يارب أستطيع أن أرسل بهذا الجهاز الخطير والذي لا أعرف أي شيء عنه.

 

   لم يتبق علي الغروب سوي ساعتين فأسرعت بالخروج لعين الماء بصحبة "سحاب" الذي عاد منذ قليل ، حملت الماء وعرجت علي منطقة الحشائش فقطعت الكثير منه وعدت إلي العنزات الثلاث وألقيت بالطعام أمامهم فاندفعوا إليه وملأت العبوة الزنك بالماء فقد زاد عدد من يحتاجون إليه.

 

     ظللت اليوم التالي والذي يليه في حالة من الترقب فليس أمامي أي شيء أفكر فيه سوي موعد إذاعة برنامج ألف سلام حيث كنت علي يقين بأن الرسالة لم تصل أو أن من التقطها لن يحترمها ، قبل الموعد فتحت الإذاعة حيث نشرة الأخبار والتي انتهت ثم التعليق علي الأنباء ثم بدء البرنامج بالمقدمة الموسيقية المحببة للناس وقتها ثم سمعت حوارا بين اثنين من الرجال وأحدهم يسأل الآخر عن مزلقان "نكلا: والآخر يجيبه ويوصفه له معددا بأن أحد الخفراء كان يعمل مع عم شحاتة وترك هذا العمل بينما عم شحاتة ظل يعمل كما نصحه بأن يذهب إلي عم شحاتة وسوف يخبرك بالشخص الذي تبحث عنه وعليك أن تخبره بأننا جميعا في انتظار أخباره أو أن يقوم بزيارتنا إذا كان قد ضايقه البعد وبلغه تهنئه جميع الخفر بما جد عليه وعرفه بأن بعض الأحباء استمعوا لصوته العذب وأنه من الممكن أن ينافس عبدالحليم حافظ.

 

        صرخت مما أفزع أهل الدار وصدر من بعضهم النباح للإستفسار فتوجهت إليهم جميعا  ُمقبلا ًوكل حيوان يتصرف معي مثل الآخر وتبين لي أنهم تأكدوا من أن بني الإنسان هذا مجنون منذ ترك الـُبكم وتحدث ، شعرت بأنهم يرددون : ربنا يشفيه!

 

    لقد وصلت رسالتي وأرسلوا لي بالدليل القاطع بأنهم يعرفونني فمن يعلم بحكاية عملي خفيرا ًبمزلقان نكلا سواهم حتي عم شحاتة لا يعلم بأنني كنت ضابطا بالقوات المسلحة.

 

   في اليوم والتوقيت أرسلت برسالتي التالية والمهمة حيث كنت أحاول أن أرتبها وأعدها الإعداد الجيد ولهذا قمت بعمل بروفات عليها مستخدما الساعة الميقاتية حتي لا أتجاوز الوقت المحدد لي "خمسون ثانية" وفي الوقت نفسه ُتعطي الرسالة المعني المطلوب مع رجاء الرد علي نفس البرنامج.

 

   كانت رسالتي كالتالي: أنا محافظ لكم علي الطربوش واللي الله يرحمه مصطفي جعفر سابه أمانة حتي أسلمه للورثة وعايز أشوف مين عايز يخده لأنها أمانة وأنا منتظر جوابكم.

 

    لم تستغرق الرسالة ثلاثين ثانية حيث كانت قصيرة وواضحة ، إقترب موعد البرنامج وهو برنامج أسبوعي وجاءت الرسالة بالبرنامج بإهداء أغنية شط إسكندرية للمطرب محمد قنديل وأعقبها صوت المذيعة ترسل بأغنية البرنامج لكل الأحبة وعائلة أبى طربوش وتخبرهم بأن الحاج فوزي طربوش سوف يقوم بزيارتهم علي العنوان المعروف لديهم وشكرا علي تلبية الدعوة.

 

     لقد قرر القادة إرسال مندوب بهذا الشأن ولم أعلم بالموعد وبموعد البرنامج التالي لذا طلبت منهم في اليوم التالي بعض الأغراض الخاصة لزوم فصل الشتاء وأنني منتظر الزيارة وأنا مازلت أقيم بنفس الشقة ونفس العنوان منذ تركت الأسرة.

 

    واصلت حياتي وجاء اليوم الموعود برسالة من أغنية لم أكن أنتظر سماعها كما أن المذيعة عادت لتذكر جميع المستمعين بأن موعد البرنامج القادم في نفس التوقيت ، وأن الخريطة الإذاعية ثابتة لهذا البرنامج الذي يتابعه الكثير من أبناء الشعب العربي وترسل بكل تحياتها وتحيات أهل نكلا إلي عائلة أبى طربوش مع إهداء أغنية عبدالحليم حافظ "يا سيدي أمرك أمرك يا سيدي ولأجل خاطرك خاطرك يا سيدي " .. بعد انتهاء الأغنية شكرت الله وأن موعد التسليم الأسبوع القادم ، كنت مضطربا من تلك الرسالة بأن يكون الإسرائيليون متابعين الإرسال وفهموا المعاني المرسلة والمستقبلة ولكن هذا صعبٌ للغاية لأن الشفرة لها نظام محدد وفك رمز منها يتبعه فك كل الرموز وحيث إن الحديث غير متجانس وكلام علي علاته فلن يحدث أي شيء ُيذكر.

 

      مضي الوقت بطيئا وأنا مازلت حذرا متوترا ومما زاد من صعوبة الموقف أن دورية إسرائيلية صعدت لأعلي الجبل قريبة مني تطارد حيوانا لا أعلم ما هو وسمعت إطلاق بعض الأعيرة النارية ثم سمعت ضحكاتهم وشاهدتهم هابطين الجبل وقد أمسكوا بالفريسة وأعتقد أنه نوع من الغزال الصغير المنقط مما دفع بـ "سحاب" للنباح فأشرت إليه بالسكون فصمت علي الفور.

 

في اليوم المحدد ومن أعلي قمة الجبل وأمام الكهف أشاهد بعض الجمال وبعض البدو خلفها يسيرون بزيهم المعروف وأسمع أحدهم يتحدث قائلا ً:

 

ـ والله يا أخي بأرغب بالصلاة في هذا المكان الجميل ، العبادة فيه شيء رائع ، سوف أقف هنا وأصعد لعين الماء للوضوء ، تحدث آخر معقبا:

 

ـ سوف يطلقون عليك فوزي العابد!! شعرت بأنني المقصود ، ظللت في مكمني حتي اقترب الرجل من قمة الجبل وشاهدته وعرفته لقد كان المقدم فوزي قائدي في بداية عهدي بالخدمة وأحد الرجال الذين لهم من الصولات والجولات الاستخباراتية الكثير ، تراجعت إلي داخل الكهف حتي أصبح الرجل واقفا أمامي من الخارج وقد نبحت "روز" فطلبت منها أن تصمت ولكنها لم تذعن لأمري فطلبت من "سحاب" أن يأمر زوجته بالصمت فشاهدته وقد فتح فكيه وأخرج صوته غاضبا فصمتت روز علي الفور ، اقترب مني المقدم فوزي واحتضنني والدموع تملأ العيون ثم سلمني لفافة الملابس وتساءل أين الطربوش فتوجهت به لآخر الكهف حيث هتف قائلا ً:

 

ـ برافو عليك يا عابد ، راجل بصحيح ، ضربة معلم ، شرحت له علي عجل كل شئ وموقف شهداء الصاعقة والمذكرات التي تركوها خلفهم حيث كانت الفرحة تغطي وجهه فشاهد الدهشة علي وجهي فأمسك بيدي قائلا ً:

 

ـ فيه حد ح يفضل عايش للنهاية؟ شوف بقي الموتة بتاعتهم عامله إزاي؟ والله وحياة عيالي أتمناها وأنا جاي هنا أهه ، عمرك شفت واحد في رتبتي بيعمل كده بس المهم أوصل للهدف ومش أموت فطيس 

 

ـ كلامك صحيح ، نهض ممسكا بالطربوش والذي شعر بأنه ثقيل الوزن عظيم الفائدة متسائلا ً:

 

ـ تحب ترجع والا تخليك وتوصل لنا كل حاجه ، احنا كلنا افتكرنا إنك ودعت الدنيا.

 

ـ لأ أنا ح أفضل بس ممكن توصل جواب لأهلي؟

 

ـ بكل ترحاب ، جلس الرجل ساكنا حتي انتهيت من كتابة خطابي علي صفحات البلوك نوت والتي تشمل بعض الكلمات من السلام والتحية لاسرتي ، قدمت شكري للمقدم فوزي والذي طمأنني علي أن راتبي يصل لأسرتي في موعده ، أضفت هذا بالخطاب طالبا منهم أن تعيش حياتها حيث إنني مشغول بعملي وربنا يعمل اللي فيه الخير وتنتصر مصر الحبيبة وذكرت أسماء إخوتي وأحبائي وبعض معلومات حديثة أخبرني بها المقدم فوزي.

 

    غادر المقدم فوزي المكان حيث كان يهبط صخور الجبل مثل النمر الأرقط حتي شاهدت ظله أسفل الجبل بالوادي بعدها واصلت القافلة سيرها ولم أشاهد اتجاه سيرهم بعد هذا ، حمدت الله علي إرسال الطربوش راغبا بأن يصل إليهم بسلامة الله وقد أفادني بأنهم سوف يستخدمون برنامج ألف سلام ليرسلوا علي موجته بكل التعليمات أو ردود الرسائل اللاسلكية القصيرة التي سوف أرسل بها إليهم مستقبلا ً.

 

    الحمد لله ، قلتها وأنا جالس خارج الكهف أستمع لبعض الأغاني والتي كانت تهزني طربا وشعرت بأنني اقتربت من الحياة الإنسانية وأن الأيام المقبلة سوف تكون خيرًا علينا جميعا وقد صقلت التجربة معدني وأصبحت  ُملما ًبالكثير من خبايا الصحراء والعمل خلف خطوط الأعداء.                 

 

***

 

خطــوة للأمـــام

 

      شعرت بنشوة النصر ، فما تم تحقيقه حتي الآن أثلج قلبي من فائدة وقيمة الجهاز مما دفع بالقيادة لأن ترسل لي بالمقدم فوزي الخبير بشئون سيناء وهذا يدل علي أهميته ، قررت أن أبدأ بالحصول علي المعلومات فهذا عملي وقد أصبحت مكتمل القدرة بعد أن منّ الله عليّ بالشفاء وأستطيع أن أتحدث وأستمع لصوتي كما أن جهاز الإرسال يعمل الآن بكفاءة وحدث اتصال أكثر من مرة مع القيادة كما أن كلاب الحرب المدربة ترافقني بالإضافة إلي بعض من المعدات التي تركها الشهداء الأبرار والتي علي درجة عالية من الأهمية.

 

     تذكرت وجود بعض القنابل اليدوية حينما كنت أقرأ مذكرات الأبطال وبأن حقيبة من المشمع بها العديد من أجهزة التفجير الميقاتية والتي لها عداد مثل الساعة وتضبط مدة الأمان ثم بعدها تنفجر العبوة ، قررت إحضار كل تلك الأغراض وإخفاءها بعيدا ًعن أعين الخطرين من المهربين أو الجنود الإسرائيليين الذين قد يصلون إلي هذا المكان مرة أخري رغم أن النحل بأمر إلاهي هاجم الدورية مما دفع بكل أفرادها للهرب ولم يستطيعوا دخول الكهف.

 

    نهضت متجهًا إلي الكهف وتبعني "سحاب" الذي كان يعشق السير بصحبتي خاصة حين التوجه لمكان الشهداء ، مازال الوضع كما هو ولكن الجديد أن أسراب النحل أعدت أعشاشا أخري جديدة حيث امتلأت أقراص الشمع بالعسل وقررت الحصول علي جزء منه ، بداخل الكهف أضأت الشمعة وعثرت علي ما أريد سواء من عبوة الديناميت التي كادت أن تنسف المكان في بداية الصدمة أو القنابل اليدوية والتي كانت من النوع الدفاعي وهي قنابل شديدة الانفجار وخطيرة وتصيب العديد من الأفراد حين تقذف عليهم.

 

     ُعدت إلي الكهف بصحبة الرفيق سحاب وجلست أتفحص القنابل ونزعت عنها المفجر حتي لا تنفجر بي أو بأسرتي الصغيرة من الكلاب والماعز ، تنبهت بأن سحاب يرسل بإشارات للكلاب الصغيرة والتي هي في مرحلة الشباب فأقبلت عليه ولاحظت أنه يقوم علي تدريبها علي كيفية شم رائحة البارود ، أسعدني هذا وقررت أن يقوم الأستاذ سحاب بتدريب هؤلاء الكسالي علي تلك المهمة ويقود وحدة الكلاب المدربة أما روز فقد ركزت مهامها للإنجاب وأنا عليّ للتخطيط والاتصالات والماعز للإنجاب وتزويدي باللبن ، لقد توزعت المهام ، اتجهت لمكان يبعد عن الكهف مسافة بعيدة نسبيا ً وخزنت ما كنت أحمله معي من متفجرات ونزعت المفجر من أصابع الديناميت وُعدت بإصبع واحدة من تلك الأصابع شديدة الإنفجار ، أشرت إلي سحاب وعرضت عليه المفجر فنظر إليّ راغبا بالمزيد فوضحت له بعلامة الانفجار وبأصوات مرتفعة ، هز رأسه قليلا ًثم أسرع وغادر المكان وأقبل بعد نصف ساعة حاملا ًفي فمه العبوة المفقودة والتي كانت عبارة عن شنطة من شنط الجيش المصنوعة من المشمع القوي ، فتحتها باحتراس بعيدا ً عن أسرتي حيث كان بها مجموعة من العلب الصغيرة المصنوعة من الكرتون وقد  ُطبع عليها اسم مصنع رقم كذا .... الحربي وكتب عليها بالإنجليزية "Mad in Egypt" أي صناعة مصرية  أسعدني هذا بأن ترتقي صناعة الأسلحة والذخيرة بمصر حتي لا نصبح تحت رحمة الدول الكبري.

 

    فضضت إحدي العبوات وشاهدت المفجر والذي كان مشابها للمفجر الحراري الذي أظهرته إلي سحاب منذ ساعة ولكن يزيد عليه دوائر رقمية تتحرك باليد ومنها تقوم بضبط الزمن المراد أن تنفجر معه العبوة بعد أن تضغط علي زر بأعلي المفجر ليبدأ التوقيت في السريان ، إنه ُمفجر رائع لو أحُسن استخدامه رغم أنني لم أستخدمه من قبل ولكن من السهل التعامل معه ، توجهت ثانية لمخزن الذخيرة الخاص بي وحفظته مع باقي الذخائر والقنابل وُعدت ثانية وسلمت سحاب إصبعا من الديناميت والذي لا يسبب أية خطورة بسبب عدم وجود المفجر به.

 

     أسرع سحاب يضع العبوة بعيدا ً وطلب من الكلاب الصغيرة البحث عنه ، كانت العملية في بدايتها بطيئة وصعبة ومع ُمضي الوقت أصبحت عادة وقد تنبهت حاسة الشم لديهم علي اكتشاف الديناميت ، أصبح هناك طابور يومي يقوم به سحاب وفي بعض الأحيان تساعده روز حينما تفرغ من أعمال المنزل بعد أن تعود وقد أعدت طعامها وطعام بني جنسها من فئران وأرانب جبلي وأي طيور أخري تعثر عليها كما كنت أداوم علي أن يرافق الماعز أحد الكلاب أثناء التهام الحشائش لحراستها خشية النسور الجبلية من أن تفترسها.

 

     أوفت "سلمي" بعهدها ولم تعد ثانية لزيارتي ولكن كاملة كانت تأتي حاملة معها الطعام معطرا بالسلام والتحية من سلمي ، لم أشعر بضيق لهذا فهي عروس ويجب أن تتدلل علي زوج المستقبل ببعض تصرفات بنات حواء ، بعد أن غادرت كاملة المكان حصلت علي وجبة شهية من لحم الماعز الشهي والتي قالت لي بأنه من إعداد سلمي فتناولته وأكلت أصبعي خلفه فأكل الحبيب مثل طعم الزبيب.

 

   فضضت اللفافة التي أحضرها لي المقدم فوزي حيث شاهدت بعض الملابس الجميلة البدوية و " ُُخف" أو ما يسمي بشبشب بدوي بديلا ًعن الشبشب البالي الذي كنت أرتديه وتقطع وتهرأت أجزاء منه مما دفعني لارتداء حذاء أحد الشهداء من داخل الكهف ، كما شاهدت جلبابًا  ُمزينـًا مخالفاً لما يرتديه أبناء البدو ، في اليوم  التالي عرضته علي كاملة التي هتفت سعيدة بأنني أحضرت جلباب الـُعرس المشابه لجلباب "سَـليم" ونظرت إليّ نظرة ذات مغزي ثم فتشت جيوب الجلباب وعثرت علي علبة قطيفة مزينة وفتحتها فشاهدت بداخلها إسورة ذهبية وخاتمًا من الذهب مناسبًا لمقاس سلمي لأنها اختبرته ومعه خاتم أو دبلة فضية لي.

 

    عادت تنظر إليّ بتساؤل ولم يكن لدي أية إجابة ، بعد أن غادرت المكان علمت أنه من المؤكد بأن القيادة علمت بالاتفاق بيني وبين "سَـليم" وأرسلت بهديتها تلك وهذا يؤكد أن القيادة تبارك هذا الزواج ، نظرت لأعلي شاكرا ًالله علي نعمته وفضله وسوف يسعد هذا سلمي حين تعلم عن تلك الهدايا رغم رضاها ورضاء والدها بأقل القليل ، أعدت شكري لله بما تم.

 

     كان من ضمن الأشياء المرسلة من القيادة علبة من "الكولونيا" الغالية وبعض ملابس داخلية وخارجية ومشط ومقص وقصافة أظافر وبعض من تلك الأشياء الجميلة التي تبعث علي الحياة ، شعرت أنني أحيا مع ملايين المصريين وأن القيادة كلفت نفسها ودفعت تلك النفقات من أجلي ثم تبادر إلي ذهني بأنه من الجائز أنهم استقطعوا هذا من راتبي!! ولكن المهم الآن هو الاحتياج إلي تلك الأغراض في هذا التوقيت وهذا المكان النائي عن الدنيا.

 

    اليوم التالي توجهت إلي أسرة "سلمي" والتقيت بالرجال كي أعد العدة للزواج الذي كان موعده بعد أسبوع من الآن وأطمئن أيضا ًعلي صحة "سَـليم" ، هناك تساءلت عن المكان الذي سوف نتزوج به ، عرضت عليّ الأسرة أن أقيم بينهم بخيمة سوف  ُتعد لهذا الغرض وحين عرضت عليهم الإقامة بالكهف انزعجت سلمي ولكن والدها الشيخ رمضان تدخل بأنه من الممكن بعد يومين من الزواج أن أرحل بصحبة سلمي ومعي الخيمة ونقيم قريبا منها حتي أرعي الكلاب والماعز وسوف أزودك بعدد آخر منها لزوم العيش والحياة.

 

      هكذا أصبحت راعي غنم مثل بداية انسحابي من سيناء لدي أسرة رقية ، كنت أتساءل لو كنت أعلم المستقبل لاتجهت بالدراسة بكلية الطب البيطري حيث كنت سأقدم خدمة ممتازة لتلك المخلوقات النافعة المفيدة.

 

       بحفل ُعرس جميل علي طريقة أبناء سيناء وبمصاحبة الأغاني الشعبية والرقصات الجميلة والتي يغلب عليها الرقص بين الشباب باستخدام السيوف وإضاءة المشاعل بالمنطقة والعديد من الخراف والماعز التي تم ذبحها وقامت النساء علي شيها علي النيران وتناول الشاي وشرب البن باستمرار جلست أرضا بجوار "سَـليم" وقد ارتدي كل عريس منا حلته الجميلة وهي عبارة عن جلباب أبيض مطرز بعد أن قام حلاق القبيلة بواجبه من حلق الشعر والذقن لي وإزالة بعض شعيرات زائدة بالحاجب والأنف أعقب هذا حصولي علي حمام من الماء الساخن الأقرب إلي الغليان والتطيب بالروائح الذكية ، كنت أشعر بأن جسدي وجبهتي ملتهبة من كثرة ما قام به المزين من تجريف وجهي حتي كاد أن ينسلخ الجلد عن اللحم.

 

       أقبل بعض الشباب علينا وهم يحملون صواني الشاي والحلوي كما أقبل رجال القبائل المجاورة لتقديم التهنئة لهذا العرس المزدوج فالشيخ رمضان علي موعد مع الفرح والسعادة بزواج ابنتيه في وقت واحد ومثل هذا الحدث في المجتمع البدوي يطغي بالسعادة وفرحة الأهل بزواج البنات مبكرا ً فهذا أقرب للراحة والشعور بالرضا ، اقبل شيخ القبيلة وهو رجل نحيف البدن وتقدم به العمر أعواما طويلة يرتدي ُحلة أفخم من التي أرتديها أنا وَسـليم كما أقبلت زوجته ورغم تقدمها فى السن إلا أنها كانت علي مستوي رفيع من الأناقة وُحسن الهندام وعلمت فيما بعد أن إسرائيل ُترسل بطائرة هليكوبتر كل أسبوعين للشيخ وزوجته بغرض التنزه والعلاج والحصول علي بعض الرعاية من النظافة والأناقة بالإضافة إلي الخيمة الكبيرة التي أحضرتها له ولأسرته والمزودة بكل أسباب الراحة بدءا من الأسّرة المريحة والمراوح والكهرباء وجهاز التليفزيون وتليفون لاسلكي يتصل بالقيادة الجنوبية حين الحاجة أو حين علمه بأي شيء قد يعكر صفو الأمن بالمنطقة.

 

    لقد كان النظام الإسرائيلي يسعي لاستقطاب زعماء تلك القبائل رغم رفضهم لهذا فهم غاضبون علي المحتل ولكن لم يكن أمامهم أي خيار إلا الاختيار بين تلك الخدمات أو الاعتقال والسجن وقد رأي هؤلاء الرجال أنه من الأفضل لهم ولأبناء القبيلة عدم الاصطدام بالعدو فليس هذا في صالحهم وهم يعلمون بأنهم  إناس ليس لهم أمان والغدر والتآمر من طباعهم بل وجدوا أن تلك العلاقة قد تساعدهم في الحصول علي إعفاء بعض رجال القبيلة من الاعتقال والحبس الذي كان يطول الجميع فلقد ابتعدوا بسلوكهم هذا عن مواجهة العاصفة لحين زوال السبب ولهذا لم يعتبرهم رجال القبيلة بأنهم خونة بل كان الجميع يقدر لهم حكمتهم وتحملهم التعامل مع العدو لإبعاد الضرر الذي من الممكن أن يصيب أفرادها.

 

      قام الشيخ رضوان شيخ القبيلة بعقد القران حيث المجتمع القبلي لا يعتد بالمأذون بين أهل سيناء فكل شئ بأمر الشيخ وكلماته أمر نافذ علي الجميع حيث يتبعون الشريعة الإسلامية في جميع معاملاتهم ، وهذا هو القانون المعلن والمنفذ وبهذا تم زواج كل من "سَـليم الهادي علي ربة الصون والعفاف كاملة رمضان كما قام بعقد قراني أنا عابد المصري علي ربة العفاف سلمي رمضان" بعدها أطلقت النساء الزغاريد السيناوية والتي لها طعم مخالف لما يصاحب الأفراح بمصر لكنها تصب في قالب واحد وهو السعادة والبهجة ، وزعت الحلوي والمشروبات كما قامت زوجة الشيخ بإهداء العروسين قلادة ذهبية جميلة وقبلت كل عروس ، بعد قليل توجهت أنا  و"سَـليم" إلي داخل الخيمة حيث ارتدت العروس ملابس جميلة زاهية الألوان وقدمت إلي سلمي الإسورة الذهبية التي أسعدتها أيما سعادة.   

 

      اصطحب كل منا زوجته إلي الخيمة التي أعدتها له القبيلة علي مسافة مناسبة من موقع الاحتفال ، ظل هذا السامر وذاك الاحتفال حتي منتصف الليل ثم تلاشي بناء علي أوامر السلطات العسكرية الإسرائيلية.

 

      كانت ليلة سعيدة بكل المقاييس ولا يشعر بهذا إلا من اكتوى بالوحدة وسوء العيش والبعد عن الناس حيث كنت أعيش وأحيا مثل الإنسان الأول البدائي ، لقد أصبحت أحيا وأعيش مع عروس جميلة ورغم أنها تشاكسنى من حين لآخر بدلع بنات حواء إلا إننى كنت أحسد نفسى على تلك النعمة التي وهبها الله لنا حيث قال في كتابه الكريم .. بسم الله الرحمن الرحيم:

 

" وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (21)  .. صدق الله العظيم

 

     كانت ليلة العرس جميلة رائعة ، فى تلك الليلة نمت على كليم مصنوع من وبر الجمال فشعرت بأنني أنام فوق مرتبة من الحرير الطبيعى الناعم وودعت الحصى والزلط الذي جعل بجسدى ندوبا وانخفاضات.

 

    كرست العائلة كل جهدها لرعاية العروسين والأزواج سواء من توفير الطعام والشراب والحلوى أو الأحاديث الطيبة المرحة كما أصبحت كل من سلمى وكاملة يعتريهن الفخار والسعادة بالزواج خاصة زواجهما معـاً  فى ليلة واحدة فهذا فأل طيب وحسن ، اليوم الثالث توجه معى بعض أبناء القبيلة بثلاثة جمال تحمل الخيمة وبعض الأثاث البدوى لإقامة  ُعش الزوجية بأعلى جبل كاترين وبرفقتنا قطيع من الأغنام والماعز وعلمت بعد هذا بأنها فكرة واقتراح من َسـليم حتى لا يرتاب العدو فى شخصى .

 

     تخير الشيخ رمضان مكان إقامة الخيمة قريبا من عين الماء حيث شاهد بجوارهذا المكان بعضا من الكهوف النظيفة ونظر إليّ فرحًا معللا بأن هذا سوف يقلل مجهودك فى رفع المياه إلى الخيمة كما أشار إلى من معى من الأصدقاء "الماعز وأبنائها والكلاب" حيث قال بأنهم سوف يحتاجون للماء بكثرة وقد شاهدت آثار "الـُعشار" أى الحمل عليهم جميعا وسوف يزدادون عددا.

 

     الآن سوف ُيصبح لى قطيع من الأغنام والماعز وأنا أعلم أن سلمى تجيد عملها فى هذا المضمار ، سوف أكون كتيبة مقاتلة من الماعز والأغنام والكلاب!! أضحكنى هذا التعبير وتلك النظرة للمستقبل.

 

    هكذا مضت بنا الحياة تشاركنى فيها أسراب النسور الجبلية المفترسة والتي اعتادت بأن أضع لها الماء في عبوات قريبة من العين وإذا تجرأ أحدا من تلك الطيور على الاقتراب من البركة يهاجمه سحاب نابحا ً فيبتعد وكان هذا هو حال جميع من يعيش حول البركة.

 

    كنت أشاهد سلمى تتحرك ذهابا وإيابا لتعد الطعام وتنظف الأوانى وتغسل الملابس وقد أعدت السيارة الجيب المتهالكة كمنشر لملابسنا ، فى كثير من الأحوال أنظر حولى وأنا أحيا وأعيش فى تلك البقعة العزيزة على مصر والبعيدة عن موطنى الإسكندرية وأنا بالأحرى بعيد عن أهلى وزملاء العمل من الضباط والجنود وملابسى العسكرية التى اعتدت على ارتدائها فتصيبنى الدهشة والسعادة فى آن واحد بين النقيض وضده ، لقد شعرت أن نسمة طيبة أرسل بها الله إليّ بتلك الزوجة الجميلة الوفية الضاحكة والتى كانت فى أوقات فراغها تحادث الماعز والأغنام وقد شعرت بأن تلك الحيوانات تعرف ما تقول بل حين كانت تشير لإحدى إناث الماعز ثم تربت على ساقيها بأن اقبلى كنت أشاهد الماعز ُمسرعة إليها تهز ذيلها.

 

     كانت سلمى تقوم على حلب الأغنام والماعز وتعد لى أفضل وأشهى طعام وكنت أحضر لها كل يوم قرص عسل نحل فكانت تضيف العسل إلى اللبن مع بعض الشمع ُفتعد لى طعاماً شهياً لأقصى درجة لم يتدخل بنو الإنسان فى إضافة أى شئ صناعى إليه ، كنت أتذكر أن هذا هو اللبن الذى كان يقتات منه رسولنا الكريم أثناء عمله لدى السيدة خديجة ، إذا فأنا أحذو حذو رسولنا الكريم راغبا بأن أحذو حذوه فى جميع المجالات وهى أمنية عزيزة علي كل مسلم ومسلمة وليتنى أستطيع؟

 

    مازال سحاب يقوم بواجبه فى تدريب الكلاب الشابة على كيفية التعرف على المتفجرات ثم تطور إلى كيفية بث المتفجرات فى الأماكن التى كنت أشير إليه بها فيتجه إلى هذا أو ذاك المكان يحفر برجليه الأماميتين ثم يعود وينبح بنباح معين فأشاهد أحد الكلاب قادما إليه نابحا بصوته الرفيع كأنه يقول له نعم يا أفندم مما يدفع بسحاب إلى تحريك فمه ونباح بأصوات متفرقة أو متداخلة فيتجه الكلب إلى العبوة الرمزية التى كنت أعددتها دون مفجر ثم يلتقطها بفمه ويتجه مسرعا إلى المكان واضعا تلك العبوة مما يدفع بسحاب بنداء خاص به فيعود قادما إليه ثم يتجه سحاب ممسكا بنفس العبوة بفمه الواسع ويتحرك بحذر ناظرا يمينا ويسارا حتى يتأكد بأنه بعيد عن عيون الأعداء ثم يضع العبوة ويقوم بدفنها وإخفائها بالرمال القليلة بالمكان المختار وبالتالى يطلب من تلاميذه بإعادة المحاولة مرة أخرى مع الأخذ فى الاعتبار الحذر من الأعداء.

 

   ظل سحاب على هذا الوضع حتى تأكد من تفهم الكلاب الأربعة لمهمة حمل المتفجرات وكيفية إخفائها والحذر من مراقبة العدو ، كنت أراقب هذا المشهد وشعرت بأن جميع الكلاب تفهمت مهمتها ثم تطور التدريب إلى نقطة أخرى بأن وضعت بالعبوة بشئ مشابه للـُمفجر ويخرج منه خيط صغير وبعد أن يتم إخفاء العبوة بمكانها المطلوب يقوم الكلب نفسه بمسك طرف الخيط بفمه ويجذبه للخلف ثم يعدو مسرعا فيتم تشغيل التوقيت الموجود بالمفجر ، ظل هذا الحال أياما أخري.

 

    بعد مضى أيام وأسابيع تذكرت أنني لم أطلق على الكلاب الصغيرة أسماء بعد ولهذا رغبت في تسمية كل كلب باسم معين حتي تعلم جميعا أن هذا الاسم خاص بهذا الكلب فأطلقت أسماء (  الزهرة  والمشتري وعطارد والقطبي) علي الكلاب الأربعة وظللت أنادى كل كلب باسمه والكلب يتجاهل هذا الاسم مما يدفع بسحاب الى التوجه إليه ويقوم بعضه عضة صغيرة تدفع الصغير لإخراج أصوات الأنين مما يدفع بأمهم روز إلى إطلاق نباح الغضب ولكن سحاب لم يكن يأبه بهذا.

 

     الأسبوع الرابع منذ الزواج أصبح كل كلب يعلم اسمه فإذا قلت:

 

ـ ُقطبى .. تعالى بسرعة .. أشاهدها تقبل مسرعة في اتجاهى مما يدفعني إلى أن أملس على ظهرها وأقترب من فمها أعطيها بعض الحب مما يدفعها للنباح السعيد محركة ذيلها يمنى ويسرى ، تأكد لى بأن جميع الكلاب قد وعت عملها وتفهمت أسماءها والآن جاء الدور لعمل دورية يومية للحصول على بيانات عن العدو ، يوميا كنت أخرج مع سحاب ونصطحب معنا أحد الكلاب ، فهذا يوم الزهرة وأثناء السير ينبح سحاب خافضا صوته مشيرا بفمه جهة ما مما يدفعنى للاختباء وبعد عدة دقائق تظهر قريبا منا دورية أو طائرة معادية ، تكرر هذا عدة مرات دون أن يقوم الصغير بنفس التصرف حينما يقترب منا شئ ُمعاد مما دفع سحاب إلى الضيق فدفعه هذا إلى عض الزهرة مثلا فتصدر نباحها المماثل لنباح سحاب فتختبئ وبعد قليل تظهر لنا عربة مدرعة معادية مما يدفعنى بعد أن تمر من أمامى إلي تقبيل الزهرة وملامسة شعرها فيسعدها هذا وتقفز تلعب من حولى وحول سحاب.

 

    تعدى التدريب والعمل شهرين أصبحت خلالها الكلاب الأربعة تجيد عملها وتعلم أسماءها بينما ظلت روز تقيم بالكهف بجوار زوجتى سلمى لحمايتها من النسور الجبلية التى كانت راغبة في اقتناص ماعز أو خروف صغير كما أن سلمى وروز كانتا تتحدثان عن أحوالهما وكل أنثى تفتح قلبها للأخرى عن أحوال المعيشة ومن المحتمل ضيق كل واحدة من زوجها رغم أننى وسحاب نعمل يوميا ونسير بضعة كيلومترات تقريبا للحصول على المعلومات التي دأبت في الفترة الأخيرة على إرسال رسالة شبه يومية للقيادة حتى لو تكررت المعلومة وهم بالقيادة يقومون بدراسة كل كلمة وحرف وتوقيت الدورية ويخرجون بالنتائج فهذا ليس من صميم عملى.

 

     كنت أواظب على سماع برنامج ألف سلام فقد أصبح هو الوسيلة المهمة والوحيدة للحصول علي الأوامر حيث جاءت لى رسالة بإهداء أغنية من المعلم فوزي والعائلة مع إرسال أغنية فايدة كاملة "يا واد ياسماره كفايه شطاره" وعلمت منها أن أكتفى بتلك المعلومات حتى تأتى إليّ رسالة أخرى.

 

     ظهرت بوادر الحمل على سلمى وأسعدنى هذا سعادة كبيرة ونظرت إلى سحاب وروز والماعز والأغنام من حوالى صارخا "بقينا زى بعض وبلاش فتاكه" وقد بدى علي أحبائنا من الحيوانات السعادة بإطلاق النباح والمأمأة وقد قبلت تلك التهنئة من أصدقاء عائلة أبى طربوش.          

 

     رغبت فى زيارة الشهداء ، فمازال منظرهم يدفعنى إلى التأمل فيما قاموا به ومن تصرفهم بالقبول بالموت جوعا وعطشا دون تسليم أنفسهم للعدو كأسرى ، كنت أتساءل عن جسارة هؤلاء الرجال وعظمتهم ، لقد مضى على استشهادهم العام وقد بدأ عام 1970 منذ أسابيع قليلة وكنت أسمع من الراديو عما يحدث للإسرائيليين علي جبهة القناة ، بل زودنى الشيخ رمضان والد زوجتى سلمي بمعلومة استقاها من شيخ القبيلة القريب من اليهود بأن الجنود الإسرائيليين أصبحوا يهربون من الخدمة بالمنطقة الجنوبية المواجهة لمصر وقد تم الحكم على الكثير منهم بالسجن كما أخبره بأن الإصابات أصبحت كثيرة بخلاف الموتى ومن أجل هذا أعدوا مستشفى العريش بأحدث المعدات الطبية وأشهر الأطباء المتخصصين فى إصابات الحروب لعلاج المصابين حتى لا يرسلوا بهم إلى داخل إسرائيل ويعلم الشعب بالمأساة التى يعيش بها جيشه الذى لا يهزم.

 

    أنجبت إناث روز الأحفاد وشعرت بأن سحاب ينظر إلى الصغار من أبنائه بسعادة ، نظرت فشاهدت من حولى ثمانية عشر جروًا صغيرًا.

 

   أصابتنى الدهشة متسائلا ًعن كيفية إطعام كل تلك الأعداد بل عن كيفية العثور لهم علي أسماء وكيف يقوم سحاب بتدريب هذا العدد الهائل ، لقد وصلت أعداد الكلاب مجتمعة إلي أربعة وعشرين ، وقد حزت إناث الماعز والأغنام حذوهم وكل أنثي أنجبت صغيرين وبالتالى أصبح عدد الصغار من أبناء تلك الفصيلة اثنتى عشرة معزة وخروفا صغيرا مما دفع النسور الجبل بعد مضى شهرين إلى مغادرة المنطقة خشية على أرواحهم من هذا العدد الكبير.

 

   نظرت إليّ سلمى وبعيونها الجميلة اقتراحا بأنه من الواجب إبعاد سحاب عن هذا القطيع ؛ لأن كل أنثى سوف تحمل مرتين بالسنة ولو في كل مرة أنجبت في المتوسط أربعة أى ثمانية من الجراء الصغيرة لأصبح لديك ما يزيد عن ستين جروا كل عام وهذا سوف يبعدك ويشغلك عن عملك ، كان الاقتراح جميلا ولكن كيف هذا وأنا لا أستغنى عن سحاب كما أنه كلب عائلى يعشق الأسرة والإنجاب وقد تأثر بالحياة مع المصريين ، أصبحت مشكلة كبيرة أمامى ؛ أبدلت الاقتراح بالعمل بأن يأتى أحد رجال القبيلة المتخصصين فى هذا العمل ويقوم على إخصاء سحاب وجميع الذكور وبالتالى يتوقف الإنجاب.

 

    وجدت الاقتراح جيدا ولكني ُعدت ثانية أفكر: ماذا ستفعل إناث الكلاب حين تشتد بهم الرغبة للإنجاب وقد تذكرت حديث قائد وحدات كلاب الحرب بأنه في مثل تلك الأحوال تصبح الكلاب عنيفة وعدوانية ، إن هذا يخالف الطبيعة التي خلقها الله عليها ، نظرت إليّ سلمى فوجدتها ساكنة فقد بدأت تظهر عليها آلام المخاض وهذا دليل على اقتراب موعد الوضع ولهذا تحركت بها إلى موطن القبيلة والتى كانت دائما ما ترسل لنا بالأهل والأقارب للزيارة وأنا كنت بدورى أقوم على زيارتهم بصحبة سلمى ولقائى مع "سَـليم" وشقيقتها كاملة والتى كان باديا عليها هى الأخرى حالة الحمل.

 

    أثناء السمر والحديث مع صديقى "سَـليم" أقبل رجلان وجلسنا معـًا وتلفت َسـليم يمنة ويسرى ثم قال هذان الرجلان من خيرة رجال سيناء ، إنهما من منظمة تحرير سيناء ، عقدت المفاجأة لسانى حيث كنت أسمع عما يقوم به هؤلاء الرجال من أعمال لم تذكر بالإذاعة المصرية حفاظا على سرية المعلومات ، أشار لهما سليم وأخبرهما بعملى مما أسعد الرجلين مؤكدين بأن عملا مشتركا سوف يفيد ما يقومان به ، أكدت لهما ذلك ، عاد بصحبتى إلى الكهف بعد أن تركت حبيبتى سلمى التي كانت مثل نسمة طيبة رطبة أقبلت عليّ بعد قيظ يوم شديد الحرارة من شهر يونيو بالصحراء.

 

    استضفت الرجلين بالكهف فهو محل معيشتى وعملى وجلست مع الضيفين اللذين أمدانى بالكثير من المعلومات عن العدو ولا يتمكنان من إرسالها إلى مصر مما دفعنى لأن أخبرهما بأن تلك هى مهمتى الآن ، أخبرتهما بالعبوات المتفجرة التى معى وقد أسعدهما هذا كما طلبا منى أن أزودهما بأحد الكلاب للمعاونة فطلبت من سحاب مرافقتهما وكان شبه رافض ٍ أمرى مما دفعنى لأن أنهره ، نبح نباح الحزن ورافق الرجلين بعد أن حصل علي العديد من القبلات من زوجاته الخمس وأبنائه الثمانية عشر ثم قفز عليّ أثناء وقوفى لوداع الرجلين ولعق وجهى فتأكد لى أنه يصالحني فاحتضنته وهو واقف مما أسعد الرجلين وأخبرتهما باسمه وأنه خبير بالمفرقعات ، تحرك الرجلان برفقة سحاب وشعرت بسعادة لتخلصى من هذا المزواج الذى كان سيملأ سيناء بأجود سلالات الكلاب الألمانية المخصصة للحرب واقتفاء الأثر والكشف عن المفرقعات والعثور على المخدرات.

 

 

Share
Click to listen highlighted text! Powered By GSpeech