Click to listen highlighted text! Powered By GSpeech
Get Adobe Flash player
مستمرين معاكم بإذن الله 2008-2024 **** #لان_لجيشنا_تاريخ_يستحق_أن_يروي **** ***** إنشروا تاريخنا وشاركونا في معركة الوعي **** تابعونا علي قناة اليوتيوب 1100+ فيديو حتي الان **** تابعونا علي صفحات التواصل الاجتماعي** أشتركوا معنا في رحلاتنا لمناطق حرب أكتوبر **** يرجي استخدام خانة البحث **** *** تابعونا علي تليجرام - انستجرام - تويتر

روايه عابد المصري - الحلقه الثالثه عشر

حصريا لاول مره علي الانترنت

بتصريح خاص من الكاتب للمجموعه 73 مؤرخين

لا يجوز اعاده النشر بدون الاشاره للكاتب والموقع كمصدر

عـــابد المصـرى .. رواية

كتبها/أسـامة على الصـادق

.....

الطبعة الأولى .. يوليو 2010

الناشر: الكاتب

.....

تصميم الغلاف:

ريهام سهيل

....

حقوق الطبع محفوظة للكاتب

موبايل: 0127970032

 دمـوع وأحـــزان 

 

 

 

    استأنفت الاتصال بالقيادة حيث ُكنت أمدهم يوميا ببعض المعلومات التى كانت تستغرق خمسًا وأربعين ثانية ثم أغلق الجهاز ، كانت المعلومات التي وردتني من الرجلين غاية في الخطورة سواء من نوعية الأسلحة الجديدة الحديثة والتي كانت تتدفق علي ميناء العريش حتي تصبح قريبة من ساحة المعارك كذا الإنشاءات الهندسية ، إستمر هذا الحال عشرة أيام حتي انتهت الرسائل فسمعت برنامج ألف سلام أغنية كفاية ياعين للفنان فريد الطرش.

 

     توجهت إلى كهف الشهداء بصحبة روز وجلست أمامهم أقرأ فاتحة الكتاب ترحما عليهم داعيا الله بأن ألحق بهم وأن أصبح علي نفس خطاهم ، مازالت أناجي الشهيد فتحى ولكن تبين لي بعد هذا أنني أناجي الله سبحانه وتعال متسائلا

 

ـ أنتم حاسـين بإيه؟ أكيد مبسوطين ، ياه عليكي يا مصر الحبيبة لو مش فيه ناس حلوه وجدعان زى الرجالة دية كانت الناس ماتت ، مصر الحلوة ولدتك وولدت بتوع السجن الحربي ، شيء غريب لكن دى إرادة الله ... ثم وقفت مخاطبا الجميع : حبايبي الشهداء ناوى من بكره ألم صخور وحجاره وأقفل عليكم كهفكم احتراما لكم زى اللى حصل مع أهل الكهف ، السلام عليكم أهل الدار الآخرة أنتم السابقون ونحن اللاحقون "بعدها تلوت فاتحة الكتاب".

 

     تركت الكهف وأنا أنظر كل فترة خلفى كأننى ودعت أحبابا ًعظاما ً أعرفهم ويعرفونني ، كنت أنظر من حولي للتعرف علي كيفية الحصول على أحجار من تلك الصخور النارية القاسية؟ ابتعدت بعض الشئ عن الكهف ثم سمعت أصوات أحجار تتساقط ، نظرت خلفي فشاهدت الغبار خارجا من فتحة الكهف أسرعت أعدو حتي وصلت إليه ثم توقفت أمامه لاهث الأنفاس وقد توقف سقوط الأحجار ، نظرت بالداخل حيث كان الظلام حالكا كنت أتساءل:

 

ـ ياتري الحجارة وقعت علي الشهدا؟

 

       ترددت بالدخول خوفا من يستمر سقوط الأحجار ولكنني تشجعت بأنني كنت أتمني أن ألحق بهم ، تسللت من فتحة صغيرة ودخلت إلي الكهف بصعوبة فقد أغلق أكثر من 90% منه ، دهشت لأن الأحجار سقط بمقدمة الكهف ولم تسقط علي الشهداء ، حمدت الله وغادرت الكهف ووقفت أمامه أنتظر سقوط حجر أو أكثر حتي يتم غلق الكهف ، لم يحدث هذا وقد أقبل الظلام سريعا ، نظرت من حولي فشاهدت بعض أحجار أستطيع حملها ، توجهت وحملت إحداها لم تكن ثقيلة كما توقعت ، وضعت الحجر ثم أتيت بآخر حتي أتممت إغلاق الكهف علي الشهداء ولم أشاهد خلايا النحل بأعلي الكهف ومن الجائز أنها رحلت إلي مكان آخر بعد أن وصل إليها الأمر بالانتهاء من مهمة حماية الشهداء ، تلك كانت آية من آيات الله المتكررة طول الزمان لكي يعلم الناس بأن الله قادر علي كل شئ.

 

     غادرت المكان والدهشة هي حالي وكل فترة زمنية أحرك رأسي ذات اليمين وذات الشمال ، وصلت إلى بيتي وقلعتي ونظرت إلى الكهف فشاهدت سراجا مضيئا فأدهشني هذا وتوقعت بأن سلمي أنجبت وأقبل أحد أقربائها وأحضرها ، كنت أهرول إلي الكهف مما دفعني للسقوط وإصابة كاحلي بالتواء ، تحملت الألم حتي وصلت المنطقة أمام الكهف والخيمة وأنا أحلم بكل ما هو جميل متسائلا ً :

 

ـ يا تري ولد والا بنت؟ كله خير ، ياه على وحشتك يا سلمى دا أنتى حبك كبير في قلبي ، صحيح بتعاكسيني شوية لكنك حلوه وما فيش بعد كده شقاوة وحلاوة ، توقفت لأحصل علي بعض الهواء فقد أرهقني الإعياء من كثرة السير وحمل الأحجار ، أرهفت السمع لعلي أسمع بكاء أو "وأوأة الطفل" لكني لم أسمع شيئا ، ناديت:

 

ـ أيوه يا سلمي ، عابد جاي بسرعة ودخلت الخيمة مندفعا فشاهدت "سَـليم" يجلس وقد غطت الدموع عينيه.

 

    إحتضنته متسائلا ً:

 

ـ إيه المفاجأة الحلوة دية؟ إمال فين سلمي؟ روح ومترجعشي إلا ومعاك سلمي.

 

إزداد بكاء الرجل مما دفع بالخوف إلي قلبي فقاومت الخوف وأبدلته ببعض كلمات مشجعة قائلا :ً

 

ـ أنا عرفت كل حاجة ، نظر إليّ قائلا ً:

 

ـ ليه محدش شاف سحنتك لما عرفت كل حاجه؟ أدهشني تعبيره الخارج عن الذوق واللياقة فأجبته:

 

ـ يعنى توقعت الحكاية دية

 

ـ يا رجل ، أنت مش عندك عجل ولا جلب

 

ـ إيه "سَـليم" ، كلامك النهارده مش كويس ، خلاص يا سيدي العيل مات ربنا يعوضنا عنه ، انفجر صائحا

 

ـ سلمي هيا اللي ماتت.

 

   جلست صامتا وعادت إليّ ذكري فقدي للنطق بعد حادثة الاعتداء عليّ من رجال السجن الحربي وعيون سَـليم مازالت تنزف دموعا بينما أنا تجمدت الدموع بعيني وأصبحت أسمع طنينا وأشاهد طشاشا من حولي وأشعر بأن أيادي كثيرة تهزني وتحركني حتي كدت أن أختنق بعد أن شعرت بأن تنفسي توقف ، شاهدت "سَـليما" يسرع إليّ قائلا ً:       
ـ "وحد الله يا رجل" مش تعمل في نفسك هادي العمايل ، استمر حديثه بكلام لا أعي ما يقول أو يحدث لي.

 

    تنبهت علي صوت مشابه لصوت حبيبتي ، لقد كانت كاملة والتي جاءت تعمل علي إفاقتي من غيبوبتي ومحنتي تلك وقد ترك أهل المتوفاة الحزن واهتموا بي وقد سمعت من يقول:

 

ـ هادي الزلمه ح يحصل مرته ، الله يكون في عونه ، مين يا تري ح يربي الطفلة الرضيعة لما يحصل أمها؟ ربنا  ُيلطف.

 

أفقت من محنتي وسعيت لأن أظل حيا من أجل الزهرة الحبيبة التي تركتها لي ، نهضت وجففت الدمع الذي كان يسيل مني كما يسيل السيل المندفع من أعلي الجبل ، نهضت وشاهدت رجال القبيلة ونساءها وعلمت بأن سليم نقلني علي ظهر الجمل وعاد بي إلي القبيلة خشية علي حالي مما ألم بي أمامه ، أشرت إلي كاملة وطلبت رؤية سلمي فأمسكت بيدي ودخلت إلي الخيمة وشاهدتها تنام دون حراك وضياء وجهها الصافي يحيط بمكان رقود جسدها ، انحنيت أرضا وقبلت يدها ثم جبينها متحدثا معها:

 

ـ سلمي ، مش ح أتاخر عليكي ، ح أربي بنتنا وأحصلك ، أنا عارف إنك في الجنة لأن اللي بتموت وهيا بتولد يكون مكانها الجنة ، أي والله كنت أسمع الناس العواجيز حوالين مسجد سيدي المرسي أبى العباس بـ يقولوا كده.

 

     أثناء الليل ظل بعض الرجال يتلوون آيات من القرآن الكريم وأنا بعيد الذهن عنهم حيث كنت أحلق مع سلمي في الماضى منذ أول لقاء تم بيننا حين أقبلت بصحبة شقيقتها كاملة بعد أن أرسلهم سَليم للاطمئنان علي حالي ، كنت أيامها عاجزا عن كل شئ فما زلت أبكم ولا أحمل معي طعاما أو شرابا وأنام أرضا فوق الحصي وطال شعر رأسي ولا أشاهد إنسانا أحادثه وظل شريط الذكريات معها حتي آخر لقاء وهي تضاحكني رغم آلام الحمل بأن أقوم علي "إخصاء" سحاب متسائلة:

 

ـ ح تربي ولادك وإلا ولاد سحاب؟

 

   لقد كان هذا هو سؤال المستقبل يا ابنة الشيخ رمضان ، أقبل صباح يوم جديد وفيه تنعي الدنيا فراق تلك العروس الرقيقة ، توجهت مع الرجال ورفعنا الفقيدة إلي مثواها الأخير ، كنت علي وشك القفز بالحفرة التي ستهال عليها الرمال ولكنني شاهدت صورة الرضيعة تشير إليّ باكية "حرام مش عايزه أبقي يتيمة الأب والأم" ، ُعدت مسرعا من أفكاري وشعرت بأن الشيطان كاد أن يسيطر عليّ.

 

    إنتهت إجراءات الدفن وتلقي العزاء وكدت أغادر المكان قبل أن أشاهد ابنتي الحبيبة والتي كان ثمن حضورها للدنيا باهظا حيث لاقت أمها ربها ، أقبلت عليّ كاملة تحمل الطفلة ، شعرت بأن الدنيا بدأت من جديد فقد كان شكلها وحجمها الصغير وهي تخرج صرخاتها بصعوبة يلمس أوتار قلبي فيعزف لحن الخلود ، قبلتها وشعرت برائحة سلمي ، سلمتني كاملة منديل يد سلمي والتي طلبت منها أن تسلمه لي وعلمت بأن هذا المنديل الذي كانت كاملة تجفف به عرق سلمي من أثر " ُحمي النفاس" والذي لم يستطع شيخ القبيلة أن يعثر لها علي مكان بمستشفي العريش العسكرى حيث كانت مكتظة بالعسكريين الإسرائيليين الذين قتلوا أو أصيبوا خلال الأسابيع الماضية قبيل إيقاف إطلاق النار.

 

     تركت العائلة رغم المحاولات العديدة لإثنائي عن البعد عنهم حتي أستأنس بهم وأبتعد عن شبح الحزن ولكن شبح الحزن غادر موقعه وحل محله شهاب النصر وشهاب ابنتي وقد نسيت أن أعرف ما اسمها فأسرعت بالعودة متسائلا ً ما اسمها وعلمت بأنها لم تسم بعد وطلبوا مني تخير اسم لها ، لم أفكر وقلت     " ُرقيــة" أسعدهم هذا الاسم ولا أعلم سببا لذلك.

 

    ُعدت إلي أحبائي أبناء قبيلة أبى طربوش وقد أقبلت عليّ روز لتعرب لي عن خالص حزنها بأن لعقت وجهي ويدي مرات عدة وجلست أمامي أرضا ووضعت أنفها بأرضية الكهف وكل فترة تطلق نباح الحزن الذي كان يتردد صداه بين أجناب الكهف ، أقبلت بناتها وأحفادها الصغار والتف الجميع من حولي ثم أقبلت الماعز والأغنام وكأن لسان حالهم يتساءل أين حبيبتنا سلمي التي كانت تجمع العشب وتضعه أمامنا؟ أين تلك الحبيبة التي بأصابعها الرقيقة الناعمة كانت تجعل الضرع يتساقط منه اللبن دون جهد أو عناء ، نعلم أنها رحلت بجسدها ولكنها لن ترحل من ذاكرتنا ، اقترب مني البعض ُمحركا قرونه يهزني كأنه يشد من أزري.

 

    اليوم التالي جلست هادئا أمام الكهف حتى المساء لدرجة أنني لم أتناول طعاما أو شرابا فشاهدت روز تدفع بإحدي الماعز قريبا مني وكان باديا عليها أن ضرعها منتفخ وممتلئ باللبن ، تنبهت وحلبت بعضا منها وارتويت وُعدت إلي شرودي وتأملاتي ومن حين لآخر أخرج منديل سلمي الذي يحمل عبق رائحتها قبيل الرحيل فأقبله وأحصل علي شهيق عميق كي أسعد روحي وأنفي برائحتها الطيبة.

 

    اليوم الثالث وهو يوم إذاعة برنامج ألف سلام ومن خلاله سمعت مواساة وعزاء الأصدقاء لفقدى لزوجتي مع إهداء أغنية شادية ليالي العمر معدودة ، بعد سماعي لتلك الأغنية هاجت مشاعري حتي كدت أن أصاب بالعمي من كثرة البكاء وقد اجتمعت الحيوانات جميعها من حولي ولا أشعر بما كانت تتصرف به أو تقول حتي أن الكلاب الصغيرة افترشت حجري وأصبحت مثل البائع الذي يقوم ببيع الكلاب بالسوق ، من حين لآخر كنت أشاهد أقدام روز الأمامية وهي تمسح عن عيونها شيئـًا ما حيث كنت أفكر هل تبكي مثلي؟ وقد تبين هذا فإن تلك الحيوانات تتأثر أكثر من الإنسان حيث من ينطق يعبر عن مشاعره أما الأبكم فلا يستطيع فيعبر عنه بالصراخ والدموع وهذا ما لمسته أثناء حالة البكم التي عشتها أشهرا ًطويلة.

 

     وصلت إليّ التعليمات علي نفس البرنامج في صورة حوار بين رجلين التقيا بالمذيعة وهي تتساءل إلي أين كنتما تتجهان وكانت الإجابة بالعودة إلي الشمال فهذا أيسر وأحسن وسوف يفيد أبنائي أما هنا فقد ضاق بي الحال وجف المداد وحين طلبت منهما سماع أغنية ما طلبا أغنية محمد عبدالوهاب يا مسافر وحدك وفايتني.

 

   أهاجت تلك الأغنية جبل الذكريات مع حبيبتي سلمي وعادت بي إلي حالة الشجن والألم مرة أخري ، أشرت إلي أحبائي بأننا سوف نغادر المكان وأشرت إلي روز ليلا جهة النجم القطبي بأنه من باكر سوف نتجه إلي هذا المكان ، هزت ذيلها المقطوع وكأنها تتساءل وما مصير سحاب فأشرت إليها بأنه سوف يعود قريبا ويلحق بنا.

 

    صباحا هب الجميع إلي الطعام وشربوا الماء وملأت بعض الأوعية وتحركنا لنغادر هذا المكان الذي بدا ُمقفرا بعد أن أصبح غنيا مبهجا ثم عاد إلي أول عهده ُمقفرا بعد تلاشي ضوء شهاب سلمي ، كان تحركنا بطيئا حيث لم تتجاوز أعمار بعض الكلاب الشهرين والتي كانت تتوقف ويشتد نباحها طالبة الطعام فتسرع الأمهات لعملية الرضاعة ، كنت أنظر حولي وهذا العدد الغفير من الكلاب والماعز والخراف غير مألوف حيث كثرة الكلاب واضحة ، اقترب مخزون المياه من النفاذ فالأمهات يرضعن أطفالهن ومعي الكثير منهن.

 

     الحمد لله بفضل روز وشجاعتها وإخلاصها وصلنا إلي المحور الأوسط بعد أن قطعنا حوالي 250 كيلومترًا في خمسة أيام تحت أشعة الشمس الحارقة وقد أصاب الإرهاق من معي والذين كانوا علي مستوي عال من التحمل ، هناك وبواسطة أسراب طيور الغربان عثرنا علي بئر ماء ضخمة تشبه بركة الماء ويطلق عليها " سـد الروافع " ويجمع المياه من آثار سيول الأمطار والتي تصب في هذا المكان ، عشنا بهذا المكان فالماء متوفر بالإضافة إلي الأعشاب وشاهدت روز والأمهات الصغار وهم يقومون بحالات القنص والصيد للعديد من الحيوانات البرية بالمنطقة كما تمتعت الماعز والخراف بالنباتات المنتشرة حول البركة وأصبح الطعام متوافرا ، بعد أن شعرت أن الصغار حصلوا علي اللبن من الأمهات توجهت إلى إحدي الماعز وعاينت ضرعها الممتلئ باللبن فعببت منه وارتويت وحمدت الله ، لقد قطعنا شوطا طويلا للوصول إلي الشمال كما وصلتني التعليمات ، كنت في شغف لسماع أى تعليمات أخري ، غدا موعد البرنامج ، سعدت بمقدمة البرنامج وموسيقاه الجميلة ، سمعت إهداء من عم شحاتة وجميع العاملين بالمزلقانات بخفير نكلا الجدع والذي يهتم بعمله وهم يواسونه علي فقد زوجته ويقدمون له أغنية "بيت العز يا بيتنا" للمطربة فايزة أحمد.

 

    أدهشني هذا ولم أتعرف علي حل لهذا اللغز ، بعد خمسة أيام أكملت سيري مع كتيبة أبى طربوش متجهين شمالا ، مضي علينا يومان دون العثور علي ماء وقد وصل بنا الظمأ أشده وسقط من جراء هذا بعض الرضع من الجوع والعطش وقد خيم شبح الموت علينا خاصة أنني كنت أحمل أثقالا متمثلة بالعبوات المتفجرة والقنابل اليدوية والمفجرات وجهاز الراديو ، قبيل ظلام اليوم الثالث ونحن في حالة من الإعياء شاهدت رجلا بدويا يركب الجمل مقتربا منا ، حاولت الكلاب النباح ولكن صوتها لم يخرج من فمها ، نهضت أشير إليه ولكني سقطت من الإعياء.

 

     تنبهت وقد غطي الظلام المكان وشاهدت الرجل البدوي ُيقرب الماء من فمي ولا حظت أن الكلاب والحيوانات الأخري تشرب الماء وقد عمت الحركة والنشاط بينهم ، تناولت الماء وبعد عدة دقائق تناولت جرعة أخري وشعرت بأنني أحيا مثل الآخرين ، كدت أصرخ حينما شاهدت ملامح الرجل حيث التبس عليّ شكله لكن صوته لم يلتبس عليّ حيث حادثته قائلا ً:

 

ـ عم أبو السعادات!!! تنبه الرجل متسائلا ً:

 

ـ كيفك؟ الزلمه يعرفني؟

 

ـ أيوه .. أنا عابد!!

 

ـ عابد ، هون عابد هذا؟

 

ـ عابد خطيب بنتك رقية!!!!                      

 

***

 

بيت العــــز

 

      كانت النظرات الأولي المتبادلة بيني وبين عم أبى السعادات حافلة بالأسئلة والترحاب وكل المشاعر الطيبة ومن حديثي معه علمت كل ما حدث لأسرته خلال السنوات الثلاث الماضية والرسائل والأغاني التي كنت أرسل بها إلي أسرته وابنته "ُرقية" ، كان الرجل ُمشجعا لحالة الحب التي تولدت بيني وبين ابنته رغم بعض التقاليد التي تسيطر علي أبناء سيناء لكن هذا الرجل اختبر الحب في بداية شبابه وتزوج عن قناعة بمن أحبها ورغم أن القبيلة قاومت حبه ونفته مع أسرته ورغم كل هذا ظل متمسكا بالحبيبة وتزوجها وأنجب منها البنين والبنات ومن أجل هذا كان الرجل يشعر بأن ابنته تعيد التجربة للمرة الثانية وأنها تسير علي درب الأب والأم معا.

 

     كان يحدثني عن عروض الزواج التي ُعرضت علي ابنته وهي رافضة كل تلك العروض حتي أن شقيقتها الصغري "عائشة" ُعرض عليها الزواج أيضا ولم تقتنع إلا بعد زواج رقية بمن تحب وقد هاجمهم الهاجس بعدم عودتي إليهم مرة ثانية لانشغالي بما يحدث بمصر أثناء العمل بل أنه من المحتمل أن يعترض أهلي علي زواجي من بنات سيناء مثلما اعترض أهله علي زواجه من بنات الإسماعيلية.

 

    علمت منه بأنه كان يقوم بعرض بضاعته علي بعض قبائل المحور الأوسط وهو الآن عائد إلي بيته وأسرته مجبور الخاطر حيث بيعت كل بضاعته وتسلم أمواله فورا حيث كان الإسرائيليون راغبين في إسعاد البدو بسيناء فأمدوهم بالمال حتي تحدث مقارنة بما كان يتم معهم أثناء الحكم السابق من أبناء وطنهم وحالهم الآن.

 

     اليوم الثالث لهذا اللقاء غير المتوقع وقد تبدل الحال وعاد النشاط لأبناء قبيلة أبى طربوش بعد أن فقدنا خمسة ُرضع من الكلاب ومعزة واحدة من جراء العطش والجوع وجفاف ضرع الأمهات ، واصلنا تقدمنا بصحبة عم أبى السعادات متجهين إلي بيته "بيت العز" حيث تفهمت الشفرة الآن.

 

    كان كل ما يقلقني خلال الأيام السابقة هي التعليمات الصادرة لي بأن كل ما أقوم به هو الحصول علي المعلومات فقط ولا أزج بنفسي في أي مناوشات فكل شخص محدد له عمل ، هذه هي التعليمات الصادرة لي من القيادة ويجب عليّ تنفيذها فالقيادة تعلم كل شئ وهذا ما أثبتته الأيام والشهور الماضية فقد علموا  بنية الزواج من الراحلة سلمي ثم أرسلوا لي تلك الهدايا ؛ إذا لا بد أن هناك أشخاصا آخرين يقتفون أثري ويعلمون كل شئ عني ولهذا لم أعد أخالف التعليمات رغم عثوري علي أهداف معادية أستطيع بكتيبة كلاب أبى طربوش  أن أحدث بهم خسائر ولكنني كنت أتراجع رغم خبرة الكلاب وتوافر المعلومات وعبوات النسف بناء علي تلك التعليمات التي تصدر للتنفيذ وليس للمراجعة      والمساومة فهذا هو وضع الجيوش النظامية العريقة.

 

     واصلت مشواري إلي الشمال بصحبة أبى السعادات حيث كانت وجهته داره بمنطقة الشيخ زويد ، كل ما  أخبرني به من معلومات سواءً الحديثة أو القديمة كان له أثر كبير في تصور الوضع العام بشمال سيناء فالرجل يتنقل من مكان إلي آخر مصحوبا ً بتصريح يحدد له المناطق المسموح له بالتجول بها ولهذا لم تحدث له مشاكل تذكر إلا في بعض الأحيان حين يفاجأ بالتفتيش لما يحمله ويكتشف أفراد الجيش الإسرائيلي بأن الرجل يحمل ملابس وأقمشة تخص النساء وفي غالب الأمر كان الإسرائيليون يعلمون كل شئ عنه.

 

     واصلنا السير لمدة أربعة أيام متواصلة قطعنا خلالها ثمانين كيلو مترا ًوكان لوجود أبى السعادات معنا فائدة كبيرة حيث كنا نسلك الطرق الآمنة ومصادر المياه التي يعلم أماكنها كما أنه وضع الكلاب والماعز الصغيرة فوق الجمل مما ساعدنا علي التحرك بسرعة في وقت أقل عن السابق ولم يكن يتوقف إلا حين سماعه نباح الكلاب الصغيرة برغبتها بالطعام فنحصل علي راحة حيث أشاهد الكلاب والماعز والخراف الصغيرة تسرع كل منها إلي أمها والتي تعرفها وتشم رائحتها فتستقبل الأم رضيعها بكل حنان من لعق جسده ثم يضع حلمة الثدي أو الضرع في فمه محدثا أصواتـًا صغيرة مناسبة لحجمه كأنه يخيف الآخرين بأن ابتعدوا عني وبعد امتلاء البطون تبدأ الألعاب البهلوانية فوق ظهر الأم ومشاغبة إخوته.

 

    ما أشاهده كان يبعث في نفسي الشجن والحب ويدفع بي إلي تذكر ابنتي الرضيعة " ُرقية " متسائلا ً هل تحصل علي رضعتها من خالتها كاملة التي أنجبت صغيرها الذكر وقد وعدتني قائلة لا تشغل بالك برقية وسوف أكون الأم البديلة لها وطيبت من خاطري في آخر لقاء شاهدتها فيه وكان هو اللقاء الأول والأخير ، طفرت من عيني بعض الدموع لما حدث لي ولسلمي ورضيعتنا الصغيرة ، نهضت مستغفرا الله وأديت صلاة العصر وشكرت الله علي ما يمنحنا إياه من نعم فهو الموجه والسند لبني البشر بل لتلك الحيوانات العجماء.

 

    اليوم الخامس وأثناء السير شعرت بنسمات البحر تهب علينا وهذا يدل علي أننا اقتربنا من الوصول إلي بيت العز التي طلبت مني القيادة أن أقترب منه كي أرسل لها بكل المعلومات الخاصة بالعدو من هذا المحور الذي يعتبر من أهم محاور سيناء في التحركات العسكرية ، نظر إليّ أبو السعادات كأنه يخبرني بأنه راغب بأن أنتظر حتي يعلم أهل بيته بقدوم ضيف عليهم بالغد وما استنجته أوضحه لي بعد قليل حيث قال:

 

ـ كيفك عابد ، والله بدي تحك ظهرك هذا اليوم بتلك المنطجة وَتعود علي الدار باكر كيف يعلم الحريم بالدار أن الزلمة عابد جادم علي زيارتنا كييف يستجبلوك أحسن استجبال يليج بجيمتك ومحبتنا لك ، الدار جريبة بعد مسيرة ساعتين فجط ح تلمح الدار جريبة من البحر كيف تركتها ، والله الصبايا بناتي عشجوك يا زلمه كيف ابني عيد.

 

    وافقته الرأي رغم شوقي إلي رؤية رقية فحبي لها لم يفتر رغم زواجي لكن بعد وفاة سلمي ازداد حبي لها أكثر فكنت راغبا بمن يعوضني ما فقدته بل فكرت بالمستقبل بأن أحمل رقية الصغيرة لتحيا بيننا ونعيش أسفل سقف واحد حتي لا أشتت بين شمال وجنوب سيناء ، أشرت إليه بصحة الرأي فترك لنا المياه التي معه وكانت كميتها معقولة تناسب الأمهات الرضع ولم تكن هناك أية مشكلة  ُتذكر فالعشب متوافر وبعض الحيوانات الصغيرة أشاهدها تجوب المنطقة وما لروز من براعة في الاصطياد بسهولة.

 

    غادرنا أبو السعادات وظللت أتذكر لقاء الغد وهل مازالت رقية علي حالها وهل مازلت فتي أحلامها التي اقتنعت به أم أن السنين والشهور الماضية مسحت هذا الحب تحت وطأة الزمن ومشاكل الحياة اليومية واليأس من عودتي مرة أخري ، عاد إليّ حديث والدها بأن أسرته والصبايا بالدار يعشقونني ولا يقول هذا الرجل الرصين مثل هذا الكلام إلا إذا كان متأكدا من تلك المشاعر أو أن زوجته زهرة أخبرته عنها مرات عدة ، وهذا ما منع الأسرة من عدم الموافقة علي من تقدم من الشباب إلي ُرقية يخطب ودها راغبا بالزواج بها.

 

    أمضيت ليلتي تلك ساهما وطارت بي الذكريات إلي نهاية عام 1967 وقد بلغ الحب أشده بيني وبين ُرقية هذا الحب الذي كدت أن أهدمه بعدم الأمانة علي نساء الدار رغم أن الأم أخبرتني أمامهن بأنني الشقيق لهن والبديل عن ابنها عيد بل أطلقت عليّ هذا الاسم وهذا دليل قوي علي ثقتها بي وحبهم لي أيضا ، الحمد لله قلتها وأنا سابح في ذكرياتي وقد غلفتها المشاعر الإنسانية الرقيقة الطيبة لتلك الأسرة وشعرت أن المصريين شعب رقيق المشاعر ُمحب للخير حتي لو بدرت منه بعض بوادر العنف أو أي شئ غير عقلاني في التعامل.

 

     مازالت ذكري ما حدث لي علي يد رجال السجن الحربي تعاودني من حين لآخر وكدت أحقد عليهم لاعنا هؤلاء الناس ثم تذكرت الشاويش خربوش الذي توجه من تلقاء نفسه للشرطة العسكرية واعترف بما قام به من التعدي علي شخصي مما فتح باب التحقيقات الواسعة للمسئولين هناك وأدي في النهاية إلي محاكمتهم جميعا أمام محكمة عسكرية أدت في النهاية إلي طردهم من الخدمة وأودعتهم نفس عنابر السجن أعواما طويلة ولولا شجاعة خربوش واستيقاظ ضميره ما علم أحد بما حدث لي أو لآخرين ، أسعدني تمتع شعب مصر بتلك الصفات الطيبة رغم أنه في بعض الأحيان أشاهد بعض الناس ُيسارعون بالغضب لكن بعد دقائق يزول هذا ويتدخل المصلحون لتقريب وجهات النظر مما أدي في النهاية إلي اختراع كلمة "معلشي.. وده غلبان سيبه ياكل عيش .. وبلاش خراب بيوت ؛ حتروح من الله فين ....... " وقائمة كبيرة من تلك التعبيرات الطيبة.

 

***

 

ما أحلي الرجوع إليه

 

     استيقظت صباح اليوم التالي واغتسلت وهندمت من ملابسي وتناولت طعام إفطاري مع الأمهات وذكري الماعز والخراف "التيس" حيث كانت الأمهات قد انتهت من إرضاع الصغار ، تحركنا في اتجاه البحر قاصدين دار أبى السعادات كان الطريق قصير المسافة طويلا ًعلي النفس المشتاقة المحبة ، مازلنا نسير حتي شاهدت الدار عن ُبعد ، كدت أهرول مسرعا ولكني تماسكت حتي لا أصل مرهق البدن كما خشيت علي الصغار التي لن تستطيع اللحاق بالأمهات مما يدفع بها للمكوث بجوارهم وبهذا أبعثر كتيبة أبى طربوش.

 

     استقبلتنا أصوات نباح الكلاب لديهم وقد أجابتهم كلابنا بنفس اللغة والتي وضح منها أنها ليست عدائية ، خرج علي أثر سماع أصوات هذا النباح الصغيرة زينب وقد نمي عودها وصارت أطول وأصلب بنيانا ، أسرعت شقيقتها عائشة خلفها وهي تنظر إلينا بدهشة وتساءلت من تكون؟ تأكد لي بأن أبا السعادات لم يخبر أسرته بأنني قادما لزيارتهم ، اقتربت أكثر وقد تنبهت زينب حيث هتفت:

 

ـ خوي عابد

 

اندفعت إليّ فرفعتها بصعوبة لأعلي وقبلتها من وجنتيها مثلما كنت أفعل بالسابق ، اسرعت إليّ عائشة هي الأخري وأصبحت عروسًا ناضجة فصافحتني بشدة باسمة وسمعت صوتها عاليا وهي تنادي شقيقتها:

 

ـ رجيه ، تعالي وشوفي مين بدارنا؟

 

شاهدت رقية تغادر باب الدار وقد نمي جسدها أيضا وأصبحت آنسة رقيقة الملامح وقد ظهر بهاؤها وأصبحت عروسًا جميلة وتقدمت ناحيتنا وهي مضطربة كأنها تتساءل هل هذا عابد أم شخص آخر ، اقتربت مني فاتجهت إلي لقائها وتوقفنا أمام بعضنا البعض تنظر إليّ وأنا باسم الثغر أنظر إليها ، كانت مشاعري سريعة ومضطربة وشيء يدفع بي بالاقتراب منها واحتضانها لأنها خطيبتي وشيء آخر يمنعني طالبا مني الصبر وبأن التقاليد لها اليد العليا ، أمسكت بيدها مصافحا ووضعت جبهتي علي جبهتها وملست علي ما ظهر من شعر رأسها الطويل أسفل الإيشارب التي تضعه علي رأسها مثل أمها وباقي شقيقاتها وهمست بأذنها:

 

ـ باحبك .. تورد خداها بحمرة الخجل المناسبة لسنها وحيائها ولم تستطع الإجابة ، قطع علينا سحابة الغرام  تلك ظهور والديها علي عتبة الدار حيث سمعت الخالة زهرة تزغرد ُمرحبة بالحبيب العائد بعد سنين طوال ، تقدمت منها ممسكا بيد رقية خشية أن تضيع مني مرة ثانية بينما تكفلت عائشة بزملائي بكتيبة أبى طربوش وأوتهم إلي الحظائر مع أقرانهم من نفس الفصيلة.

 

    تلاقت الأيادي بالتحية مع الخالة زهرة التي تورد وجهها الرقيق الجميل ثم ظهرت من خلفها ابنتها نفيسة مرحبة بي هي الأخري ، أخيرا جلست بالمجعد "الأنتريه أو الصالون" والتفت الأسرة من حولي والبعض تحدث بأنني أصبحت أشد قوة وصلابة عن ذي قبل وأخري توضح بأن ازداد لون وجهى سمرة وهذا دليل علي تعرضي لأشعة الشمس فترة طويلة ، نهضت كي أؤدي صلاة الظهر فقد اقترب موعد صلاة العصر ، ُعدت من صلاتي وقد أعدت المائدة العامرة باطيب الطعام ثم سألت عائشة والدها هل عابد هو الشخص الذي أخبرتنا بأنه قادم بالغد لزيارتنا وعلينا استقباله أحسن استقبال ونعد له طعاما جيدا؟ ابتسم وحرك رأسه مما دفع الفتيات للضحك ، تناولنا طعامنا وتحدث الجميع باستثناء رقية التي كانت راغبة في سماع حديثي لها وحدها فأنا هنا من أجلها وهي الأخري حبست نفسها عن الزواج من أجلي فلا أقل من أن نجلس بمعزل عن الآخرين كل منا يبث الآخر لواعج فراق السنوات الماضية.

 

     أسرع النهار بالمغيب وحل الظلام مكان ضوء الشمس الدافئ للدنيا ، مرت الساعات سريعا ًمع الأسرة الطيبة والتي لي ضلع لديهم وهي رقية ، أشار إليّ أبو السعادات بأن حجرتي مازالت تنتظرني ، ودعتهم وصعدت إلي حجرتي برشاقة أحسد عليها فقد دفعت دماء الحب بجسدي للنشاط والحيوية محاولة طي صفحة الشهر الماضي برحيل سلمي ، ظللت جالسًا بأعلي السطح حيث كنت أسمع هدير الأمواج كما حدث منذ ثلاثة أعوام مضت كما عطرت أنفي رائحة اليود المتصاعد من أمواج البحر وحركت شغاف قلبي ما شاهدته علي رقية من نمو لجسدها انعكس بالتالي علي مفاتنها.

 

     مضي من المساء عدة ساعات وسمعت صوت صعودها للسلم وشممت رائحتها التي لا أستطيع نسيانها حيث لا يستطيع أحد التحكم في حاسة الشم فالأنف تشم والأذن تسمع دون أي سيطرة مني علي تلك الحواس ، شاهدتها تقف أمامي وقد إنعكس ضياء القمر الساقط علي صفحة الماء فأضاء سطح الدار بضياء أبيض شفاف وأقبل من خلف رقية فحدد حدود وملامح جسدها وهي تقف أمامي وقد أمسكت يدها باليد الأخري ، أشرت إليها بأن تجلس بجواري هزت رأسها غير موافقة بل أشارت إليّ بأن أنهض وأقف أمامها ، نهضت ووقفت أمامها فانعكس ضياء القمر علي وجهي فاقتربت مني قائلة:

 

ـ كان لي حج إني ما أجوزشي غيرك

 

     قبلت كفي يدها فكادت تسقط أرضا وهي تسحب كفي يدها من يدي وضحكت قائلة:

 

ـ كهارب .. كهارب

 

     أخيرا جلسنا أرضا نتحدث وأنا ألاعب بعض خصلات شعرها التي طارت بفعل هواء البحر بجانب خديها ، طالت النظرات ثم أخبرتني بأنها سوف تهبط الآن عائدة إلي حجرتها ولنا لقاء بالغد فجرعة اليوم كبيرة ويكفي هذا ولنؤجل الحديث والنظرات لباكر ، نهضت فنهضت معها وقبلت يدها فطلبت مني ألا أفعل ذلك فهي تخشي علي نفسها من السقوط من فوق السلم لما تحدثه تلك القبلة بمشاعرها وأعصابها ، هبطت علي مراحل وكل مرحلة أو كل عرضة سلم تهبط تقف عليها ومازالت تنظر إليّ حتي هبطت لصحن الدار ورفعت يدها اليمني بعلامة القبلة بالهواء واختفت عن عيوني.

 

    هكذا ُعدت إلي بيت العز وشعرت بالهناء بعد العذاب وارتويت حبا وعطفا ًبعد آلام وعذاب فراق زوجتي الأولي سلمي ، نمت بهدوء وسعادة كما لم أنم من قبل ونهضت بالصباح أحسن حالا وأسعدتني ليلة الأمس المبهجة خاصة أنني شعرت بأن رقية نمي جسدها حيث قام "خراط" البنات بفعله معها مما أصبحت عليه أحسن بهاء ورونقا وقد صقلتها السنوات الثلاث الماضية وقد أعدتها أمها لتكون زوجة وأما ، قضيت عدة أيام ثم غادرت الدار لمدة أسبوع حيث كنت مكلفا بعمل مهم وهذا ما أخبرت به العائلة ولم يحاول أحد منهم معرفة العمل المنوط بي فهم يعلمون بأن عملي يغلفه السرية والكتمان ، اصطحبت أحد الكلاب الشابة معي وتركت روز ترعي باقي أسرتها ، تحركت لاتجاه ما حيث كنت راغبا بأن أقترب من ميناء العريش لرصد كل ما يحدث به من تحركات ، لقد توقف إطلاق النار بين مصر وإسرائيل وأعقب هذا وفاة الرئيس جمال عبدالناصر وشعرت بالحزن والضيق بأن نفقد القائد في منتصف طريق التحرير لكن مصر ولادة وسوف يأتي من يستطيع أن يكمل مسيرة الكفاح.

 

    التزمت أحد الأماكن أسفل بعض أشجار النخيل التي أمامي مباشرة وبجوارها بيارة والتي كنت أشاهد بعضها قبيل حرب عام 1967 إن البيارات بشمال سيناء آية من آيات الله هناك ، فبعد أن تقطع مسافة بين الرمال الناعمة والتي تؤثر علي السير تفاجأ وأنت بأعلي هضاب الكثبان بوادٍ صغير ضيق بين تلك الكثبان الرملية لكن بهذا الوادي بقعة خضراء يحيط بها محيط من الرمال الصفراء ، هبطت وهناك شاهدت عين مياه ساحرة نقية رائعة الطعم لا يزيد قطرها عن المترين وعمقها لا يزيد عن الربع متر وتخرج منها المياه من باطن الأرض باستمرار حيث يحصل البعض منها علي الماء ، يحيط بتلك العين أشجار الرمان والتين والعنب والزيتون والنخيل وبعض الأعشاب التي تتغذي عليها الجمال والأغنام والهواء العليل يحيط بتلك المنطقة بالإضافة إلي ظلال الخضرة اليانعة.

 

    في الموعد المحدد قمت بفتح جهاز الإرسال وأرسلت بأول رسالة قدمت خلالها بعض البيانات التي أخبرني بها أبو السعادات ، ظللت علي هذا الحال خمسة أيام انتهيت خلالها من إرسال كل ما علمته من أخبار منقولة وليست مشاهدة عينية حيث كنت أنهي الرسالة بأنها منقولة دون ذكر المصدر ، قررت العودة  إلي دار أبى السعادات وأثناء عودتي شاهدت أرتالا من الناقلات الضخمة للجيش الإسرائيلي وهي تحمل معدات عسكرية ، ظللت بمكمني هذا عدة أيام دون إرسال أية رسائل حتي أعلم ما تنقله تلك الناقلات التي كانت متشابهة فيما تحمله وأيضا في حجم وشكل المنقول فوقها كما أنها كانت مغطاة بمشمع سميك ، في إحدي المرات توقفت إحدي تلك الشاحنات ونزل منها بعض الجنود يعيدون ربط المشع فوقها مما ساعدني بأن أشاهد ما تنقله ، كان من الواضح أنها تشوينات هندسية من الحديد والأسمنت وما شابه ذلك ، ظللت علي هذا الحال خمسة أيام أخري ثم ابتعدت عن المكان وأرسلت برسالتي تلك إلي القيادة.

 

     في موعد إذاعة البرنامج تلقيت رسالة من القيادة سمعت خلالها حوار غنائي بين الأسطي فوزي والصبي "بلية" يأمره فيها بأن يعود لمراجعة الماكينة حتي يتأكد من جودة إصلاحها ، تلك الجملة أكدت لي بأنه يجب عليّ أن أكرر مراقبة تلك القوافل والشاحنات العملاقة فالقيادة راغبة بالمزيد لتخرج بالاستنتاجات الخاصة بالغرض من إرسال تلك المعدات ، توجهت ثانية لمراقبة الطريق المغادر لميناء العريش متخذا مكانا آخر حتي لا يرتاب أحد بي حيث كنت أدفن الجهاز بمكان يبعد عني أكثر من كيلومتر وشاهدت نفس المعدات مع شحن لوادر وبلدوزرات ، وهذا يؤكد ما سبق مراقبته بأن هناك تجهيزات هندسية سوف يقوم بها العدو ، قمت بإبلاغ الرسالة وبعد هذا ُعدت إلي دار رقية حيث استقبلتني الأسرة بترحاب وحب كعادتهم.

 

    تحدثت مع والد رقية بخصوص زواجنا وهل من المناسب الزواج الآن أو أن هناك رأيًا آخر بداخل الأسرة وقد كانت إجابة الرجل منطقية حيث أخبرني بأن رقية إنتظرتك لمدة ثلاثة أعوام وهذا يعني بأنها راغبة بك ولهذا فنحن ننتظر مشورتك ورغبتك ، أسعدني حديثه الشيق وأكدت له أنه خلال شهر سوف أنهي الكثير مما أقوم به بعدها نستعد للزواج وبالتالي انتشر الخبر بداخل الأسرة فعم الفرح والسرور.

 

   طلبت مني القيادة دخول مدينة العريش وعليّ الحذر لكي أنقل إليهم بعض معلومات عن الجيش الإسرائيلي ومشاعر أبناء العريش تجاه المحتلين ، المطلب كان صعبًا للغاية ولهذا طلبت من روز أن ترافقني فأسعدها هذا حيث كانت تشعر في الآونة الأخيرة أنني أهملتها بعد حضور سحاب ، توجهنا إلي مدينة العريش ومن ُحسن حظي أنني لم أكن أحمل معي جهاز الإرسال فإذ بدورية تستوقفني راغبة بمشاهدة تصريح السير الذي أحمله ، أخبرتهم بأنه فقد مني خلال السيول التي حدثت بداية هذا العام وأنني متجه للعريش بخصوص هذا الشأن.

 

    تشكك قائد الدورية في حديثي معه خاصة حين شاهد روز وأخبر زملاءه بأن هذا كلب من سلالة نادرة وأنه من الكلاب التي تقتنيها وحدات الكوماندز الإسرائيلية ، توجه أحدهم لربط روز بحزام من الجلد فهاجمته فالتف بعضهم حولها راغبين بالإمساك بها حتي إذا تكالبوا عليها أصدرت نباحها الحزين فحاولت التدخل لمساعدتها علي الهرب فسقطت بين أيديهم بعد أن أصابتني بعض الجروح أثناء الشجار معهم ، نقلتني الدورية إلي أحد المعسكرات القريبة من مدينة العريش وهو معسكر لإيواء المجرمين المشكوك في تصرفاتهم وسلوكهم ، بداخل المعسكر شاهدت أحد الرجال الذي التقيته مع سليم ودفعت بسحاب لمساعدته وزميله ، فوجئ الرجل بي وسألته عن سحاب فأخبرني بأنه هرب من الأسر حين كان معه ومازال مقيما مع زملائه وقد ساعدهم كثيرا في بعض العمليات الناجحة ، طلب مني مساعدتهم بإمدادهم ببعض المتفجرات المزودة بمفجر ميقاتي "زمني" ، أخبرته بمكانها طالبا منه الاحتراز حتي لا يعلم العدو عنها مع ترك البعض منها لي فمن الجائز أن أستطيع الهرب وأستكمل باقي نشاطي ضد العدو ، بعد ُمضي عدة أيام تم الإفراج عن هذا الرجل والذي يدعي ِمـسعد.

 

     بعد مضي أسبوع عليّ بهذا السجن الصغير حيث ُكنت أقيم بحجرة من الطوب والأسمنت وعلي بابها يقف حارس مزود بالسلاح ويقدم لي الطعام مرة واحدة وهو عبارة عن كرنب مسلوق وطعمه سيئ للغاية ، ليلا والهدوء يغمر المعسكر شعرت وسمعت بحركة من الطاقة الحديدية التي يدخل من خلالها ضوء الشمس وتيار الهواء لداخل الغرفة ، نظرت فإذ بي أشاهد سحاب وِمسعد معا فكدت أصرخ فرحا حيث بحث عني سحاب حتي عثر عليّ وأقبل الاثنان علي زيارتي مثل أي مسجون يقوم أفراد أسرته بزيارته سمعت بعض الأصوات وقد أخبرني ِمـسعد وهو بطل من أبطال المقاومة بسيناء بأن عليّ الانتظار بعض الوقت وسوف يتم الإفراج عنك وعن بعض الأسري الآخرين من زملائي وما عليك سوي السكون والاحتراز.

 

     أسعدني بأن زميلي من منظمة تحرير سيناء قد أقبل بعد الإفراج عنه محاولا تخليصي من هذا السجن ، بعد قليل نظرت من أسفل باب الحجرة فشاهدت ما لم أكن أتوقعه ، مجموعة من فدائيى منظمة تحرير سيناء تهاجم المعسكر بالرشاشات والعبوات الناسفة ، بعد قليل شعرت وسمعت انفجارات بالمعسكر هزت المكان بل انفجر أحد حوائط الحجرة مما أصابني برأسي من سقوط حجر عليه لكني أصبحت حرا وقد سمعت صافرات الإنذار تدوي بداخل المعسكر ودوي إطلاق النار في جميع الجهات وأعقبها نباح بعض الكلاب وصرخات بعض الجنود حيث هاجمت كلاب أبى طربوش الجنود الذين يبحثون عن المهاجمين ، أسرعت بالهرب في اتجاه البيارة حيث الليل قد خيم علي المكان باستثناء المعسكر الذي مازالت النار مشتعلة به.

 

    بعد هذا علمت الحقيقة ، فقد توجه  ِمـسعد مع زملائه قريبا من منزل أبى السعدات حيث سبق وأخبرته  بالمكان الذي كنت أخبئ به العبوات الناسفة ، هناك قاموا بإعداد البعض منها وأقبلوا مع سحاب حتي يتعرف عليّ كما صحبهم بعض أبناء سحاب لمقاومة العدو ، فجروا المعسكر وحرروني من الأسر أيضا كما حرروا باقي زملائهم وحين هاجمتهم كلاب المعسكر تصدت لهم مجموعة الكلاب من أبناء كتيبة أبى طربوش.

 

***

 

   وصلت إلي البيارة بعد أن أرهقني العدو تلك المسافة ، بعد قليل سمعت حركة قريبة قادمة ، خشيت أن يكون ذئبا وأنا بمفردي دون سلاح ، بعد قليل شاهدت صغار بعض الكلاب ممن اشترك في هذا الهجوم ، قمت بملاعبة بعضهم كما قام البعض منهم بلعق متبادل دليل علي السعادة والحب بين تلك الفصيلة ، ارتوي بعضهم بالماء وأنا أنظر لتلك الحيوانات الذكية المخلصة التي قدمت يد المساعدة لأفراد منظمة تحرير سيناء لكي تفك أسري وأسر زملائهم؟

 

    أمضينا يومين حول البئر بعدها تحرك الموكب في اتجاه منزل أبى السعادات وهناك حصلت علي راحة عدة أيام وفي إحدي الليالي لشهر أكتوبر من هذا العام 1971 جلست بأعلي السطح مع رقية أبثها بعضا من حبي وأخبرتها بخبر زواجي من سلمي ، كنت أتوقع تصرفا سيئا أو ما شابه ذلك ولكنها وضعت رأسها علي صدري باكية سوء حظ رقية الصغيرة طالبة مني بحق الإسلام والعشرة بأنه إذا حدث زواج بيننا فيجب عليّ أن آتي برقية لتعيش بيننا ، وعدتها ذلك بعد أن يبلغ عمرها أربعة أعوام حتي يشتد عودها.

 

    كنت أعتقد أنه سوف يحدث رد فعل سيئ من أبيها أو أمها ولكنهما استقبلا الخبر كأنه شئ عادي لأن هذا حق أصيل أباحه الله للرجل المسلم ولكن الحزن كان سيد الموقف علي حال رقية وقد أسعدهم وأخرجهم من هذا الحزن وتلك الكآبة أن خالتها كاملة تقوم علي رعايتها وإرضاعها.

 

    حين انفردت بنفسي شعرت بالسعادة لما قامت به كلاب عائلة أبى طربوش من أجل إنقاذي حيث تبين لي أن التدريب كان مهمًا فقد قام سحاب بتوجيه رجال منظمة تحرير سيناء إلي دار أبى السعدات مستعينا بحاسة الشم واتجهوا إلي المخزن الذي أقمته بعيدا عن دار رقية ثم اتجهوا إلي الصندوق الصفيح الذي كنت أحفظ بداخله بالمتفجرات وحصلوا علي البعض من تلك المتفجرات ، كما نبح سحاب يطلب معاونة بعض الكلاب الرشيدة المدربة وتوجهوا جميعا إلي مكمن حبسي علي حدود مدينة العريش حيث روز وسحاب يعلمان بكل ما يخص المفجرات ولكن روز لم تكن في كامل لياقتها ، وظلت مع الصغار وتركت سحاب وباقي الكلاب البالغة للقيام بتلك المهمة التي أسعدتني بسعادة لا أستطيع وصفها.

 

     هكذا ظللت علي هذا الحال وخلال أشهر قليلة تزوجت أنا و رقية وعشت مع الأسرة أقوم ببعض الأعمال من رعي وزراعة لعدة أيام ثم اختفي أياما أخري أقوم خلالها بواجبي الوطني وقد بارك الله في القطيع المهدي إليّ من عائلة سلمي وزادت أعداده وأصبح الخير يملأ المكان.

 

 

 

 

Share
Click to listen highlighted text! Powered By GSpeech