Click to listen highlighted text! Powered By GSpeech
Get Adobe Flash player
مستمرين معاكم بإذن الله 2008-2024 **** #لان_لجيشنا_تاريخ_يستحق_أن_يروي **** ***** إنشروا تاريخنا وشاركونا في معركة الوعي **** تابعونا علي قناة اليوتيوب 1100+ فيديو حتي الان **** تابعونا علي صفحات التواصل الاجتماعي** أشتركوا معنا في رحلاتنا لمناطق حرب أكتوبر **** يرجي استخدام خانة البحث **** *** تابعونا علي تليجرام - انستجرام - تويتر

روايه عابد المصري - الحلقه الخامسه عشر- الاخيره

 

حصريا لاول مره علي الانترنت

بتصريح خاص من الكاتب للمجموعه 73 مؤرخين

لا يجوز اعاده النشر بدون الاشاره للكاتب والموقع كمصدر

عـــابد المصـرى .. رواية

كتبها/أسـامة على الصـادق

.....

الطبعة الأولى .. يوليو 2010

الناشر: الكاتب

.....

تصميم الغلاف:

ريهام سهيل

....

حقوق الطبع محفوظة للكاتب

موبايل: 0127970032

 

لقاء الأحبــة

 

     أطلق سراحي أنا وباقي الأسري بعد أربعة أشهر علي وقف إطلاق النار واتفقت مع بديع علي اللقاء وزيارته بالإسماعيلية سواء في عمله بهيئة قناة السويس بشركة التمساح أو بقرية أبو عطوة التي يقيم بها، سارت بنا اللواري العسكرية الإسرائيلية عدة ساعات حتي منتصف سيناء غرب الممرات حيث تواجد عدد من جنود هيئة الصليب الأحمر الدولي تقوم بمراجعة أسماء الأسري العائدين ، كان يقف في الاتجاه المقابل عدد من ضباط وجنود الجيش المصري الذين استقبلونا بالعناق والترحاب ، حدث الوضع المعاكس أيضا حيث كنت أشاهد الضباط والجنود الإسرائيليين ومسئولي الصليب الأحمر يراجعون أسماءهم، كل يوم كان يتم تبادل عدد من الأسري بين الجانبين وكان التعامل بين الجيشين يسير بنظام واحترام حيث شعر الإسرائيليون بحجم قوتنا حين علموا بأن العديد من رجالهم سقطوا أسري خاصة كبار الضباط.

    تحركت بنا اللواري حتي عبرنا القناة إلي الغرب، كدت أصرخ أنا وباقي الأسري وكنا نهلل لما كنا نشاهده من تدمير للدبابات الإسرائيلية التي كانت منتشرة بكل مكان وقد دمر أغلبها تماما والبعض منها مازال سليما ومن الممكن استخدامه، لقد دارت الدائرة عليهم، حين عبرنا القناة فوق كباري المهندسين شاهدنا إحدي نقاط خط بارليف المدمرة فتزايد إحساسي بالسعادة وشعرت بأن ما تم من نصر كبير يماثل بناء ضخمًا  وضع كل فرد به حجرا حتي اكتمل علي أحسن صورة، شكرت الله وشكرت رجال القوات المسلحة وقائد مصر الراحل الرئيس عبدالناصر والحالي الرئيس أنور السادات.

     تم تجميع الضباط بإحدي الكليات العسكرية وأثناء هذا توجهنا لأداء الكشف الطبي وفحص العائدين والذى يحتاج إلي علاج يقدم إليه فورا بإحدي المستشفيات العسكرية؛ كما طلبوا من كل فرد منا أن يكتب تقريرا بما شاهده وما حدث له وكيفية وقوعه في الأسر، كانت القيادة تعلم بأنني أسرت حين ظل الجهاز يعمل ولهذا قامت بإغلاق جهاز الاستقبال وألغت تلك الموجة حتي لا يتسلل إليها العدو، ُمنحت إجازة عشرة أيام بعد أن حصلت علي ملابس عسكرية مناسبة وتم حلاقة شعري وكل ما يحتاجه المرء بعد مغادرة المعسكر كما تسلمت مبلغاً من المال إلي حين توجهي للبنك لاستلام مستحقاتي عن الفترة السابقة حيث تواجد أحد رجال الفرع المالي والذى كان يخبر كل فرد منا بمستحقاته التي أرسلت إلي البنك، كان النظام رائعا ومرتبا ولم يكن هناك أي شئ يضايقني سوي رغبتي بالعودة إلي أسرتي ولقائهم جميعا.

    غادرنا المعسكر في المساء ولم أبادر بالسفر إلي الإسكندرية بل رغبت بالانتظار حتي الصباح لأشاهد الدنيا من حولي بعد غياب لأكثر من أربعة أعوام  توجهت إلي شقتي وتسلمت نسخة من المفتاح من مالك العقار الذى رحب بى كثيرا، وجدت الشقة علي حالها وبحثت عن أي شيء ينبئ عن حضور صديقي أسامة فلم أعثر علي أي شئ وبسؤال الجيران من حولي أخبروني بأنهم لم يشاهدوه منذ سفري، كنت راغبا بالاطمئنان عليه فهو ضابط يعمل بسلاح مقاتل وهو سلاح المشاه الذي قام بالعبور منذ أكثر من ستة أشهر مضت.

     جلست في القطار السريع المكيف المتجه للإسكندرية، كنت أشاهد الخضرة علي جانبي القطار وأقبل عليّ بعض الأفراد يقدمون التحية للقوات المسلحة متمثلة في شخصي فمازال الحدث يشيع السعادة بين المصريين كما أن رجال الجيش لا يزالون علي أهبة الاستعداد لذا فالإجازات كانت قليلة وبالتالي لم يكن بالشارع منهم إلا العدد القليل.

     تحركت قدماي لأول الشارع الذي يقع به منزل أسرتي وشاهدني عجوره القهوجي الذي أطاح بصنية طلبات الزبائن جانبا صارخا "الكابتن عابد وصل  الله أكبر، البطل وصل يا جدعان، ابن إسكندرية المجدع وصل، ........." وفاصل من المديح والترحاب أدي إلي أن حوصرت بالشارع ولم أعد أستطيع ألتحرك ولا أستطيع تكملة جملة واحدة من المحيطين بي ومازالت القبلات تنهال عليّ من كل شخص يسير بالشارع كما أطلت النساء من الشرفات يقدمن التحية الواجبة من التهليل والزغاريد ثم؛ شاهدتها .. أمي حبيبتي التي افتقدتها سبعة أعوام لم تشاهدني خلالها إلا أياما قليلة، خشيت أن تلقي بنفسها من الشرفة فأشرت إليها بأنني قادم إليك وتسللت من خلال الجموع وصعدت درجات السلالم برشاقة أحسد عليها فلحظات الفرح تدفع بكل شيء غريب.

   احتضنتها ورفعتها لأعلي وشاهدت والدي يقف خلفها والفرحة تكاد تقفز من عينيه تكسر زجاج نظارة القراءة وشقيقتي الصغري إيمان والكبري رجاء من حولنا وقد أطبقت الفرحة عليهن فمنعت الانفعالات من أن تظهر مباشرة  بصعوبة تنازلت أمي عن باقي حقها فيّ لأبي وباقي إخوتي، جلست بينهم وكل واحد منهم ينظر إلي ويلاحظ ما قد طرأ عليّ من تغيير وتبديل، هتف أبي: ألف مبروك النصر، هذا حقك علينا كما قدمت هاجر تهنئتها لي لحصولي علي الترقية لرتبة الرائد العام الماضي حيث اتصل بهم العقيد فوزي ..... أما أمي فقدمت تهنئتها بعودتي وشكرت الله علي عودتي سالما.

     قضيت أياما سعيدة بين أحضان عائلتي الصغيرة بالمنزل ومشاعر الحب من خلال عائلتي الكبيرة بالحي وسمعت أيضا بعض الروايات من أبناء البلد بالحارة عما حدث أثناء الحرب وبعضهم أقسم إنه شاهدني وأنا أرفع العلم فوق إحدي النقاط القوية!!  وهكذا فأنت تشعر بحب المصريين رغم بعض الأحاديث التي لا تستند إلي الحقيقة والبعض ذكر بأن الكابتن عابد يستحق نجمة سينا والبعض الآخر أقر بأنه يستحق نجمتين أو أكثر!!!

    مضت الأيام مسرعة وانتهت الإجازة توجهت بعدها إلي القيادة حيث التقيت ببعض القادة والزملاء الذين قدموا لي التهنئة علي شجاعتي بالعمل خلف خطوط الأعداء لأكثر من أربعة أعوام دون أن يشعر بي مما دفع بأحدهم معلقا ضاحكا قائلا ً:

ـ أنتم نسيتم أن عابد كان عامل أخرس مما دفع البعض لتذكر هذا الموقف والبعض شرح الحالة التي كان عليها العميد .... سواء خجلا أمام القيادات أو حزنا علي حالي خاصة حينما وصله خبر إلقاء القبض علي الدليل وأصبحت سجينا هناك ثم علمه  أن الكلب الذي رافقني كانت أنثي " ُعشار" وليست كلبا ذكرا وهنا قال الرجل لقد قضينا علي عابد بالثلث.

     دارت الحياة دورتها، كنت في شغف إلي لقاء شخصيتين مهمتين بالنسبة لي وأشعر بحنين إليهما، أسامة زميلي وعم شحاتة زميلي بمزلقان نكــلا حيث كان الاثنان يتمتعان بطيبة قلب وإخلاص وحب لي كنت أشعر به دون حديث.

     توجهت لإدارة سلاح المشاة واستفسرت من أحد زملائي عن أسامة وذكرت له رقم الوحدة العسكرية بعد قليل  أفادني بأنه بإجازة مرضية من جراء الإصابة التي لحقت به أثناء المعركة، حصلت علي عنوانه بالشرقية لزيارته أما عم شحاتة فأعلم أين يكون، ركبت قطار المناشي السيئ حتي الآن وتوجهت إلي قرية نــكلا وهبطت إلي المحطة والتقيت بناظر المحطة ضعيف النظر فنهض مصافحا لي قائلا ً أهلا بالبيه وحين سألته عن عم شحاتة إضطرب الرجل طالبا مني العفو إذا كان قد ارتكب خطأ ما في حقي أو مد يده وسرقني فهو راجل طيب وابن حلال.

     أدهشني كل هذا الذل الذي ظهر به الرجل بمجرد أن شاهد أن من يقف أمامه يرتدي ملابس أنيقة، كنت أثناء تلك الزيارة أرتدي الزي العادي أي المدني  أخبرته بأنني قريب له، مما دفعه للتشكك في حديثي مؤكدا لي بأنني مباحث  تركته وهرولت في اتجاه المزلقان فشاهدته جلسا فارادا ساقيه للأمام يرتدي حذاء بلاستيكيًا دون شراب وممسكا بعود قصب يقوم علي مصه، اقتربت منه ملقيا عليه التحية:

ـ السلام عليكم يا عم شحاتة، نظر إليّ بضع ثوان ثم قال :

ـ مين؟ الواد عابد، يخرب عجلك يا وله، إيه اللي ملمعك بالشكل ده؟ أكيد سرجت سريجه أو نهبت؛ أعوز بالله لازم بتاجر في الممنوع "المخدرات"

   ضحكت لحديثه الطيب ورغم أن الرجل قد بدت عليه علامات الشيخوخة إلا أنه مازال متذكرا الأشهر القليلة التي عملت خلالها معه، أمسك بيدي وأجلسني بجواره واستخلص عقله قصب ناولها لي وطلب مني مصها فاعتذرت فضحك قائلا ً:

ـ ما هو أنت بجيت أفندي وملكش في مص الجصب، طبعا راجل عليوي زيك ح يشرب عصير جصب مش زي الغلابا حالاتي، كدت أصاب بإغماء من الضحك فالرجل يعتبر من يشرب عصير القصب من الميسورين، تذكرت بأن بمصر يوجد العديد من الناس الغلابا البسطاء وكل ما ألتقي بالبعض منهم ألاحظ هذا فقد جاءوا للحياة كي يعملوا أي عمل ويأكلوا أدني طعام ويخشوا السلطة والحكومة حتي وصلت ثقافتهم بأن الموت أصبح راحة ولهم حق في تلك الثقافة.

      صمم عم شحاتة علي استضافتي بمنزله مثل سابق عهدنا حينما كان يقدم لي بعض بقايا الطعام نظرا لسوء حالتي وخشية أن يفسد الطعم فقد مضي عليه يومان وح يحمض، اقترب مني وأخبرني بأن أم العيال عاملة فتة بالكوارع وشوربه، حتبجي هيصه والله يا واد يا عابد، ياه .. لك وحشه، متسيب ياوله الشغلانه المهببة بتاعتك وتعالي وارجع الشغل حدانا؛ دا ربنا فتحها علينا من البجشيش اللي بأخده كل يوم من عربيات نجل الرمل والزلط، والله يا عابد فيه أيام بأحصل كام؟ مش ح تصدج، ساعت ستين جرش وأيام سبعين،  ربنا مش بينسي حد.

    جلست مع أسرته والتي لم تكن أقل منه دهشة ثم أخرجت مبلغا من المال وأعطيته لابنه الصغير فرفض الرجل هذا لأنها فلوس حرام حيث إنني أتعامل في الممنوع، ضحكت من حديثه وأخبرته بأنني ضابط كبير وكنت أعمل هنا في مهمة وإنتهت، ضرب الرجل علي رأسه وتذكر قائلا: أن عاشور أبو الجمصان ألقي القبض عليه بعد أن غادرت المكان، شعرت بأنه من الواجب عليّ مغادرة المكان فالرجل مازال يحيا في عالم آخر، شكرتني أسرته علي المنحة الطيبة والتي أدهشتهم جميعا وغادرت المكان عائدا ًإلي شقتي بحدائق القبة.

   أصبح الآن أمامي واجب زيارة الزميل والصديق أسامة فهو أحد أبطال تلك المعركة وحمل وسامها بتلك الإصابة التي تدل علي أنه التحم بالعدو مما أدي إلي إصابته تلك، اليوم التالي توجهت إلي لقائه، ركبت القطار المتجه إلي الإسماعيلية وغادرته بمحطة الزقازيق وركبت تاكسي وأبلغته بالعنوان، توقف السائق مشيرا لي بأن هذا هو العنوان، أمام باب الشقة ضغطت علي زر الجرس ففتحت لي الباب طفلة في الثانية عشرة من عمرها سألتها: هل أسامة الصادق يقيم هنا فابتسمت لي لتخبرني بأنه شقيقها الأكبر وأنه موجود فطلبت منها أن تبلغه بأن عابد المصري يرغب بلقائه.

    أقبل الفتي مسرعًا وشاهدني غير مصدق بأنني عابد، تعانقنا بكل الود وتذكرنا كل أوقاتنا العصيبة، دخلت لأجلس معه بحجرة الجلوس كما يقول أبناء الشرقية، ُقدمت إلينا الحلوي والمشروبات ولاحظت أنه مازال يضع الشاش المعقم علي رأسه من أثر الإصابة وأن يديه بها بقع من آثار الحريق الذي أصابه أيضا، بعد أن جلست حوالي الساعة غادرت منزله بعد أن تبادلنا عناوين العمل أما السكن فاصبح كل واحد منا يعلم أين يقيم صاحبه.

    طلبني مدير الإدارة للقائه بمكتبه وهناك أخبرني بالخبر السعيد بأن الرئيس أنور السادات رئيس الجمهورية والقائد الأعلي للقوات المسلحة منحني "النجمة العسكرية" تقديرا لما قمت به، أهم ما أسعدني هو أن قيادتي تذكرتني ولم تنسني وبأنني أعمل رغم ُبعدي عنهم لكنهم كانوا دائما متذكرين خطورة العمل وخباياه والفائدة المرجوة منه.

   اليوم التالي اتصل بي رئيس شعبة التدريب بالإدارة يبلغني بأنني مرشح لدخول كلية القادة والأركان وتلك الدورة أمر من وزير الحربية وقد خصصها للضباط المصابين خلال المعارك والأبطال دون اختبار قبول.

    هذا ما يتمناه أي ضابط بالقوات المسلحة أن ُيسلح بالعلم علي هذا المستوي الرفيع ودورة كتلك تساعد وتدفع بالضابط إلي الأمام للعمل بعد الحصول عليها في القيادات الوسطي والعليا التي سوف يتقلدها كما أن الإعفاء من اختبار القبول يعتبر شيئا مهمًا لأن اختبار القبول أصعب من الدورة نفسها والتي تستمر عاما كاملا ً.

  لم يتبق علي موعد بداية الدورة سوي أسبوع واحد، خلال هذا الأسبوع تلقيت اتصالا من العميد فوزي يطلب مني أن أستعد صباح الغد لمرافقته إلي سيناء بالمنطقة التي حررتها قواتنا كي نشاهد المواقع علي الطبيعة، في الموعد المحدد تحركنا أنا والعميد فوزي إلي الإسماعيلية ثم انحرفنا يسارا إلي طريق القنطرة حتي وصلنا جنوب مدينة القنطرة غرب وهناك عبرت بنا السيارات كوبري المهندسين وواصلنا تحركنا إلي منطقة محددة ثم جلست مجاورا للعميد فوزي الذي سأل من حوله عن تلك المنطقة وقد أكدوا له أنها تتبع الإدارة ثم تساءل عن موعد وصول البعثة وأفاده احد الضباط بأنها وصلت منذ ساعة وسوف ننتظر حتي حلول الظلام، بعد أن حل الظلام نظر إليّ العميد فوزي وطلب مني أن أصدر إشارة إلي كلاب الحرب كالتي كنت أصدرها أثناء فترة البكم التي لحقت بي، نظرت إليه باسما ونفذت أمره " إبه إبه .. أأ .. آه .. أأأ .. أه ..  أبا أباه" لم تمض لحظات إلا وشاهدت كلبا كبيرا الحجم قادما من جهة الشرق في اتجاه موقعي وما أن اقترب مني حتي هتفت قائلا ً روز حبيبتي ولكنها لم تنبح فقد  ُوضعت كمامة علي فمها، قفزت عليّ تداعبني بأرجلها نزعت عنها الكمامة فلعقت وجهي كعادتها ثم نظرت إلي خارج الموقع ونبحت نباحًا معينـًا فشاهدت الكلاب قادمة ُمسرعة في اتجاهنا؛ تنبه الإسرائيليون بأن شيئا يحدث فسلطوا الإضاءة في كل مكان مما دفعهم للاعتقاد بأن تلك الكلاب ضالة فلم يتدخلوا ضدها بإطلاق النار، توالي وصول الكلاب حتي وصل عددهم إلي ستة وثلاثين كلبا انتهت بحضور الأب سحاب، جلست الكلاب تحيط بي من كل جهة أسمع نباحهم وأنا بدوري أصدر ُنباحا مثلما ُكنت أفعل أثناء فترة العمل معًا، حملتهم السيارات المجهزة عائدة بهم إلي كتيبة كلاب الحرب بقوات الصاعقة حيث قال العميد فوزي: لقد ساعدت في إمداد الجيش بهذا العدد الهائل من الكلاب المدربة.

    كنت في دهشة من عودة تلك الكلاب من منطقة الشيخ زويد لكن العميد فوزي أخبرني بأن رجاله هناك خاصة زلطة قاموا بكل جهدهم لإعادة تلك الكلاب إلينا وتم تدريبهم علي الهدوء وعدم إحداث حركات عنيفة وهذا هو السبب بوضع كمامات علي أفواه الكلاب كي لا تنبح طوال الطريق وتلفت نظر الأعداء.    

     انخرطت في الدراسة والتقيت بالعديد من زملائي في العمل وبعض أصدقاء الدراسة بالكلية الحربية والرائد فتحي الذي قام بتسليم تظلمي إلي الرئيس جمال عبدالناصر، أثناء الدراسة بتلك الدورة تم ترقيتي مع زملائي إلي رتبة المقدم وبعد انتهاء الفرقة ُعينت قائدا لإحدي كتائب المشاة الميكانيكي والتي لم أخدم بها من قبل سوي شهر واحد لكي يقوم قائد تلك الكتيبة بكتابة تقرير عني قبل العرض علي اللجنة العليا للضباط والتي انتهت بفصلي من العمل، الآن أصبحت المقدم أركان حرب عابد المصـــري.

   بداخل الكتيبة كان انعكاس الانتصار العسكري الذي حدث بالعام قبل الماضي واضحا علي الضباط والجنود، أثناء تفقدي ومشاهدة تدريب القوات والقيام بالتعارف بيني وبين الضباط والجنود لفت انتباهي ضابط برتبة ملازم أول أنيق يقوم بعمله خير قيام وحين أخبرني باسمه شعرت بأنني أعرف والده فسألته هل أنت ابن العميد ... ابتسم مؤيدا استنتاجي شكرته علي ُحسن آدائه لعمله وغادرت موقع التدريب، لقد كان هذا الضابط إبنا لقائد الكتيبة الذي أساء إليّ بشدة لسوء معاملته وكتب عني تقريرا أدي إلي إصدار قرار بالاستغناء عن خدماتي والتي كاد أن يضيع خلالها مستقبلي.

     علمت بعد هذا بأن المقدم سابقا أو العميد حاليا ..... أحيل إلي التقاعد منذ عامين وأصبح يجلس بمنزله يجتر أيام عمله وشدة بطشه علي من هم أقل منه رتبة، كنت راغبا بأن أسأله ما شعورك الآن لو تصرفت مع ابنك بمثل ما تصرفت به معي؟ البعض ُتعمي أبصارهم وُتصم آذانهم عن الرحمة بالآخرين بسبب السلطة والجاه ولا ينتبهون إلا بعد أن يتركوا أعمالهم ويفقدوا تلك المناصب لكن بعد أن يصيبوا العديد من صغار الموظفين بالضرر البليغ بمستقبلهم وبذروا بنفوسهم حب الانتقام وضرر الآخرين رغم أن ديننا السمح يأمرنا بألا تزر وازرة وزر أخري.

    أمضيت عامًا تدريبيًا أخدم بالوحدات المقاتلة والتي يجب علي كل ضابط يصل إلي مرحلة الترقي إلي الرتبة الأعلي بأن يقوم بها وسلاحي الأساسي هو سلاح المشاة الأشد فاعلية في أمور شتي وكل ما حصلت عليه خلال هذا العام هو تدريب وتعليم الضباط والجنود بآخر المستحدثات في العلوم العسكرية وخلال الخدمة بهذه الوحدات يتعلم الضباط والقادة الكثير من أمور القيادة والسيطرة وحل المشاكل الناجمة أثناء العمل، لقد كان التعليم والتدريب في كلية القادة والأركان ثم ما تبعه من قيادة كتيبة مشاة ميكانيكي من أعظم الأمور التي حدثت لي بعد نهاية حرب أكتوبر.

 

 

 

 

لقاءات غير متوقعة

 

     اتصل بي العميد فوزي بعد نهاية دورة أركان الحرب وكان هذا في نهاية عام 1976وأخبرني بأنه يطلبني لمرافقته إلي جبهة القتال مثل العام الماضي ، اليوم التالي توجهت معه حيث كنا نرتدي الملابس العسكرية الخاصة بالعمل بالمكتب وليس لباس الأفرول الخاص بالتدريب والقتال ، بمدينة القنطرة شرق كانت تتواجد هناك قوات الطورائ الدولية للفصل بين الجيشين المصري والإسرائيلي وتلك المنطقة يتم العبور إلي مصر أو مغادرتها إلي سيناء وقطاع غزة ، أي من يرغب بالدراسة أو الزيارة ويرغب بدخول مصر فتلك هي البوابة التي يأتي منها بعد أن يحصل علي موافقة الجهات الرسمية علي الجانبين المصري والإسرائيلي.

     جلست بجوار العميد فوزي بداخل خيمة متواضعة بينما كان بالجانب الإسرائيلي خيمة كبيرة ومزودة بالمراوح لتقليل درجة الحرارة الشديدة ، بدأ رجال المخابرات المصرية وبمعاونة رجال الصليب الأحمر الدولي في مراجعة كشوف القادمين إلي مصر قبل عبور البوابة كى يتأكدوا من عملية مراجعة بيانات كل شخص ، مجرد أن بدأ القادمون لمصر في مغادرة الخيمة والوقوف صفا حتي اعتراني التوتر حيث شاهدت سيدة صغيرة تشبه زوجتي رقية ، نظر إليّ العميد فوزي وطلب مني كبت مشاعري إلي حين.

     بالفعل كانت رقية ومعها طفل تجاوز الأربعة أعوام وتمسك باليد الآخري فتاة صغيرة يقارب عمرها الستة أعوام ، عبرت السيدة بالأطفال مع جموع القادمين من مختلف الأعمار فتقدم منهم العميد فوزي بعد أن أشار إليّ بألا أتحرك وصافحهم ورحب بهم ووقف معهم حتي ركبوا الأتوبيس المنتظر لنقل القادمين إلي مصر ، طلب من السائق أن تهبط تلك الأسرة أمام نادي الضباط بالإسماعيلية ، أدي السائق العسكري التحية لقائده الأعلي حيث إن كل من يعمل من حولنا يتبعون الإدارة.

    ركبت بجوار العميد فوزي وتحدث معي في أمور شتي دون التطرق إلي الزوار القادمين التابعين لي ، توقفت بنا السيارة أمام باب نادي الضباط بالإسماعيلية والمطل علي بحيرة التمساح ، غادرتها مرافقا له وتوجهنا إلي مكتب مدير النادي الذي رحب بنا وطلب منه العميد فوزي ترك المكتب بعض الوقت ، غادر الرجل المكتب وظللت بمفردي مع العميد فوزي الذي قال لي:

ـ عابد .. أنت تعرف معزتك عندي وتقديري لك إزاي ، أنا عملت كل اللي أقدر عليه علشان أخد موافقة إنني أجيب لك عيلتك هنا ومش معقول ح تفضل كل السنين اللي فاتت والسنين الجاية اللي مش عارفين ح تستمر قد إيه وأنت بعيد عنهم وهما بعيد عنك وكفاية غربتك اللى عدت سبع سنين قبل الحرب ، علشان كده بعت لرجالتي في سيناء وراحوا للشيخ رمضان وأخدوا رقية ثم راحوا بيها لمنطقة الشيخ زويد وقابلوا أبو السعادات وجابوا عيلتك كلها بكل إحترام وده أقل حاجه تقدمها مصر لأحد رجالها اللي خدموها بكل ما يملك ، أخي وزميلي عابد ، حجزت لك جناحًا بالنادي شامل الطعام وكل شيء وبعد خمس تيام ح أبعت لك عربية ملاكي من الإدارة عليها أرقام مدنية وحتقوم بتوصيلك مع عيلتك لحد شقتك بكوبري القبة ، أي حاجه اتصل بيا سواء بالشغل أو بالبيت.

     غادرني العميد فوزي حيث كنت ومازلت غير مستوعب تلك المفاجأة المذهلة وغير المتوقعة ، توجهت ُمسرعاً بصحبة أحد الجنود الذي كلفه مدير النادي باصطحابي إلي الجناح الخاص بي ، تركني الجندي أمام باب الجناح وطرقت الباب ، بعد قليل شاهدت باب الجناح ُيفتح فشاهدت زوجتي الحبيبة  ُرقية ومجرد أن شاهدتني القت بنفسها علي صدري بينما وقف الطفلان بجوارها راغبين بالتعلق برقبتي ومشاهدتي وتقبيلي حيث أبلغتهم  ُرقية بأنهم متجهون لزيارة الأب عابد ، انتهي لقائي بالأحباب وتلاشت الدموع وحل محلها الثغر الباسم والفرحة طلت علي وجه كل أفراد أسرتي ، أمضيت معهم اليوم الأول بسعادة لن تتكرر في حياتي خاصة أنني أجلست الطفلين علي جانبي ساقي وكل بضع دقائق أحصل علي العديد من القبل من نعمة الله من هؤلاء الأطفال الذي منحها إيانا نحن الآباء والأمهات.

   اليوم التالي طلبت مني  ُرقية زيارة جدتها والخالات ، توجهت بأسرتي الصغيرة مسترشدا بالعنوان إلي زيارة عائلة الخالة زهرة وأثناء التعارف بيننا طغت العواطف المؤثرة علي هذا اللقاء كما تلي هذا بعض الاتصالات التليفونية لتخبر باقي أفراد العائلة بزيارة  ُرقية ابنة شقيقتهم الكبري زهرة التي لم يشاهدها أي فرد من عائلتها منذ خمسة عشر عامًا ، أمضيت معهم وقتا جميلا وأثناء ذلك عرض عليّ أحد أخوال  ُرقية إقتراحا بأن أشتري شقة بحي الشيخ زايد حديث الإنشاء حيث أخبرني بأن الأسعار في متناول الجميع معيدا ًقوله "بأنها ح تفيدك أنت وأولادك وكمان لما تيجي زهرة تزور الإسماعيلية تبقي تنزل فيها " أمدني الرجل بكل البيانات اللازمة مثل أماكن تلك الشقق وأسعارها وكيفية الحجز.

   اليوم الثالث توجهت إلي قرية أبو عطوة حيث التقيت هناك بزميل الأسر والسجن بإسرائيل بديع بعد أن تجولت بحواري القرية بعض الوقت ، كان الرجل يجلس أمام بيته علي كرسي وأمامه منضدة صغيرة من الحديد وقد وضع فوقها شباك حديد يقوم بصناعته ، مجرد أن شاهدني هب واقفا ولكنني طلبت منه أن يظل جالسا ورحب بي بعد أن التف حولنا العديد من الجيران وهو مازال يرحب بي قائلا ًأهلا أبو روز!!

  جلسنا نتحدث معـًا وأخبرني بأنه بعد عودته من الأسر توجه إلي عمله حيث كان الجميع يعتقدون بأنه لاقي ربه نظرا لفقده خلال الفترة السابقة منذ بداية حرب عام 1967.

      كما طلبت إدارة شئون العاملين عرضي علي مستشفي الهيئة والتي قررت بأن إصابتي أستحق عنها عجزًا وصلت نسبته إلي 40% وتم صرف التعويض المناسب لي بناء علي تعليمات الدولة بخصوص هذا الشأن وقد ُخيرت بين مواصلة عملي بعمل إداري أو أحال إلي المعاش بقوة القانون فتخيرت أن أترك العمل لأنني لا أستطيع السكون والجلوس فوق المكتب أنام نصف نهاره فوقه ، "ضرب بيده علي صدره قائلا":

ـ أنا باحب الشغل والحركة.

     سعدت بلقاء بديع وأخبرته بأنني سوف أقوم علي زيارته ومن المحتمل أن أشتري شقة بالمدينة وأقيم بها حين بلوغ سن المعاش ونلتقي سويا فأسعده هذا ، تركته مع أصدقاؤه وغادرت العزبة وأنا أستعيد كل ما شاهدته منذ قليل وقد إلتف حوله أهله وأصدقاءه يقدمون حبهم وعطفهم له بعد أن فقدها لمدة سبعة أعوام منذ عام 67 وحتي نهاية عام 1974 وخلالها ظل يحيا بين الصخور والجبال بقدم واحدة حيث كانت حياته بدائية لكن جسارة الرجال كانت هي وسيلته لكي يظل علي قيد الحياة يعطي خلالها لوطنه كل يوم المزيد من الدعم والعون خلف خطوط الأعداء رغم قسوتهم وشدة بأسهم وعدم رحمتهم لمن تطولهم أياديهم.

   منتصف عام 1980 شعرت ببعض الآلام قريبا من المعدة وقد تكرر هذا الألم خلال الأيام الماضية ، توجهت للمستشفي العسكري وبعد إجراء الفحوصات الطبية أخبرني الأطباء بأنني غير قادر علي مزاولة العمل بالوحدات القتالية وعليّ أن أحصل علي عمل بوحدة إدارية ، تذكرت حديث بديع ورفضت هذا وتوجهت إلي العميد فوزي وأبلغته بما أخبرني به الأطباء حيث إن عملية استئصال الطحال أثناء وجودي بقبرص أثرت علي حالتي الصحية بالإضافة إلي ما قاسيته طوال السنوات الفائتة من العمل خلف خطوط الأعداء وعدم العناية الصحية والنوم أرضا لمدة أربعة أعوام وتحمل لسعات البرد القارس ليلا ً.

    نصحني العميد فوزي بأن أنتظر حتي أحصل علي الترقية للرتبة التالية والتي لم يتبق علي نهايتها سوي عدة أشهر ، إنتظرت حتي هذا الموعد وعملت بمكاتب الإدارة حيث أصبحت مثل العصفور الذي ُوضع بقفص وأصبح سجينا بعد أن كان حرا ًطليقا ، خلال ذلك ُكنت أقيم مع أسرتي بشقتي الصغيرة بحدائق القبة وتفننت  ُرقية في اسعادنا وتقدمت بأوراق ابنتي رقية إلي المدرسة بعد أن استخرجت شهادة ميلاد لها كما سلكت نفس المسلك مع ابني فتحي واستخرجت شهادة زواج لي ولزوجتي ُرقية حيث لم نكن نملك شهادة زواج ، كل تلك الإجراءات تمت بسرعة دون عوائق نظرا لأنني كنت أسلمهم خطابا من الجيش تفيد عدم وجودي مع أسرتي بداخل البلاد خلال تلك الفترة ويجب عليهم استخراج كل الشهادات والوثائق المطلوبة.

    سارت بنا الحياة سيرا ًحسنا وخلال تلك الفترة كررت الزيارة لعائلة ُرقية بالإسماعيلية وفي إحداها توجهت بطلب لشراء شقة بنظام القسط حيث كانت الشقة كبيرة المساحة وتقع في منطقة حديثة الإنشاء ولم يكن الناس بالإسماعيلية في حالة من الاندفاع للشراء مما جعل أجهزة الدولة تعمل علي تقديم تسهيلات في الثمن وطريقة الدفع ، تسلمت شقتي بعدها بعدة أشهر وشاهدتها مع أسرتي حيث ُكنت أتوقع انتهاء خدمتي بعد شهرين كما وعدني العميد فوزي الذي صدق وعده وقوله لي حيث أضاف إلي التقرير الطبي تقريرًا آخر مقدما منه كرئيس مباشر لي موضحا فيه أعمالي وبطولاتي راغبا بأن يترك هذا الضابط العمل تجنبا لآثار جانبية حدثت له بجمهورية قبرص.

   صدرت النشرة العسكرية رقيت فيها لرتبة العقيد والإحالة إلي التقاعد ابتداء من عام 1981 وأصبحت خارج العمل العسكري وأثناء حفلة الوداع بالإدارة تباري الجميع للثناء علي ما قمت به من أعمال كما عرض عليّ رئيس الإدارة أن ألتحق بعمل مدني بإحدي الوظائف الإدارية في مجال الحكم المحلي ولكني شكرته معتذرا عن قبول تلك الوظيفة مبررا بأن هذا لن يجدي معي وسوف أصاب بضيق لاختلاف نمط العمل المدني عن العسكري كما أن العاملين معي سوف يشعرون بأنني دخيل عليهم بهذا العمل ولهذا فأنا أميل إلي السكون والراحة بعد تلك الحياة الحافلة بالأعمال الطيبة لبلدي وما قاسيته وعانيته خلال الفترة الماضية.

   غادرت مبني الإدارة ووقفت أمامها وانهمرت الدموع من عيني علي ذكريات الماضي وتذكرت أنه منذ أكثر من عشرين عاما حين قدمت إليها وأنا شاب صغير راغبا بالعمل خارج المكاتب وقد أجابني الله إلي طلبي فظللت لأكثر من سبعة عشر عاما أعمل خارج المكاتب بل بالصحراء والجبال وأحيا بين الكلاب والماعز والأغنام وتجاورني كلا من الذئاب والضباع بالإضافة إلي الثعبان القاتل والنسور الجبلية المفترسة.

   اليوم التالي رغبت بأن أقوم علي زيارة مهمة قبل أن أتخلي عن الزي العسكري ، صحبني سائق العميد فوزي بعربته الجيب إلي قيادة قوات الصاعقة ، توجهت مباشرة إلي كتيبة كلاب الحرب وهناك لم أجد الكلاب وبالسؤال أخبرني أحد الجنود بأن الكتيبة تقوم بعمل بيان بأرض الطابور الرئيسي يحضره كبار الضباط بالصاعقة وبحضور قائد القوات هناك ، أسرعت إلي هناك وشاهدت العديد من تلك الكلاب فوقفت مجاورا ًلمنصة الحاضرين ، بعد ُمضي لحظات قليلة ترك أحد الكلاب تعليمات مشرفه ونظر إليّ من علي مسافة مائة متر تقريبا أتبعها بنباح معين لا يعلمه أحد إلا أنا كأنه يخبر زملاءه بأن عابد حضر ، أسرع الكلب يعدو في اتجاهي وتبعته جميع الكلاب الذي تجاوز عددها أكثر من خمسين كلبا أكثر من ثلثهم ولد علي يدي بسيناء.

   أثار هذا دهشة الحاضرين ، حاولت الفرار من المكان لكن الكلاب السريعة لحقت بي وأنا أعدو أمام منصة الحاضرين مخترقا أرض العرض ، لحقت بي الكلاب وقفزت عليّ حتي اختفيت أسفلهم حيث كانت جميع الكلاب تلعق وجهي وتجذب ملابسي والتي ُكنت أسمع تمزق البدلة العسكرية التي كنت أرتديها ، جلست محاولا إعادتهم لأرض الطابور ولكني فشلت والتفت جميع الكلاب من حولي علي هيئة دائرة وأنا أشاهد الأم روز المميزة بفقد جزء من ذيلها وسحاب وعطارد وقطبي والمشتري والزهرة وحنجل وأبو سريع والعفش وغيرها من الكلاب ، تنبهت إلي أنني ُكنت أضحك أو أتحدث وينتهي مقطع حديثي بأحرف "هاو" وفي بعض الحالات أردد في حديثي كلمات " ها .. ها .. هو .. ها " وكل ما يصدر عن الكلاب ، تذكرت بأنني ُكنت ألاحظ أن بعض الضباط بكتيبة المشاه ينظرون إليّ حين أتحدث إليهم بدهشة من تلك التعبيرات ولكني لم أكن أشعر بأن هذا شئ غريب عليّ لأنني عشت أعواما طويلة معهم بل كنت في بعض الأحيان حين أرغب في حك جزء من وجهي أفعل مثل ما تفعل الكلاب بهرشة سريعة بظهر الكف وفي بعض الحالات حين العطس أنهي عطسي بأن أفتح فمي وألعق ما خرج منه وحينما أشعر بهرش بظهري أتجه إلي أحد الحوائط وأقوم بحك ظهري به ، كل تلك الملاحظات لم أنتبه إليها واحتمال أن البعض لم يكن راغبا بأن يوجه إليّ نظري حتي لا يثير ضيقي ولكن أثناء جلوسي مع كتيبة أبى طربوش لا حظت بعض الصفات القريبة بيننا.

    وقفت ناهضا والكلاب مازالت تحيط بي فرغبت بأن تتجه لمدربيها الذين وقفوا مضطربين بينما القادة تعلو وجوههم الدهشة والسعادة لما يلاحظونه وقد أفادهم قائد كتيبة الكلاب السابق بأن العقيد عابد ظل مع تلك الكلاب أكثر من خمسة أعوام وأصبحت هناك رابطة قوية بينه وبينهم بل قام بتدريبهم علي ما يقومون به من أعمال وكان المتسبب الرئيسي في زيادة تلك الأعداد حيث حدث تناسل سريع لوجود الكلاب خارج الحبس برفقة شخص يشعرون بالحب ناحيته والقرب منه كما أنه كان غير قادر علي النطق بعد إصابته في حادث أثر علي النطق لفترة.

       وقفت نابحا " إبه إبه .. أأ .. آه .. أأأ .. أه ..  أبا أباه" فتنبهت الكلاب وعادت إلي موقعها السابق وهي ترسل لي ببعض الاحتجاجات ، تركتهم بعد أن قمت بوداعهم مرة أخري وبعد مغادرة المعسكر جففت دموعي التي سقطت علي وجهي وقد تقطعت بعض أجزاء البدلة العسكرية وساء مظهري العام من ُحب تلك المخلوقات التي أفادت مصر إفادة قوية ولم تلق الشكر والتكريم فهي حيوانات عجماء لا تستطيع أن تطلب لنفسها نوطا أو وساما لما قامت به لأبناء الوطن وهم جلوس في منازلهم وبين أسرهم وأصدقائهم ، أنهم الأبطال الحقيقيون بجوار الشهداء والمصابين ، كما لاحظت تقدم السن بكل من سحاب وروز فقد تعدت أعمارهم الست سنوات.

    جمعت بعض أغراض أسرتي وتوجهت إلي مدينة الإسماعيلية بصحبة رقية ورقية الصغري وفتحي وقمت علي تأثيث الشقة بذوق مشترك بيني وبين ُرقية فلو تركتها بمفردها فلن تستطيع تأثيثها لأنها لن تعثر علي أغطية من وبر الجمال فكل شئ هنا مخالف للحياة البرية الجميلة التي كانت تعيش بها ، كانت مكافأة نهاية الخدمة مناسبة لوقت خروجي إلي التقاعد فقد حصلت علي اثني عشر ألف جنيه ، دفعت منها ثمنا للأثاث حوالي ألفي جنيه واشتريت سيارة فيات قديمة من طراز 1300 موديل عام 1965 وأبقيت ما معي بالبنك لزوم الزمن أما المعاش فلم يكن يتعدي مائة وعشرين جنيها وهو أقل من راتبي بحوالي ثمانين جنيها ، أيقنت بأن ُرقية وأنا من خلفها سوف ُنسير حياة المنزل بتلك النقود المتواضعة.

     تحركت بسيارتي في إتجاه قرية أبو عطوة حيث التقيت بزميلي الأسير بديع الذي وقف ُمحييا وجلست مجاورا له وتحدثنا بأمور شتي وأخبرته بما طرأ علي حياتي وتركي للخدمة لظروف صحية ، ربت علي يدي قائلا ً إن الله لا ينسي عباده وحين علم بأنني بلغت الأربعين عاما من عمري منذ عدة أسابيع قال: مازال أمامك باقي العمر ولنبدأ حياة الكفاح ثم عرض عليّ فكرة اعتقدت أنها كانت طيبة حيث قال ما المانع أن ندخل شركاء في إقامة ورشة لصناعة حديد الكريتال نقوم خلالها بصناعة البوابات الحديد والشبابيك وقد زاد العمران بالمحافظة ، حين علمت منه التكلفة وجدتها متواضعة فلا تزيد عن 1500 جنيه لشراء مقص لقطع الحديد ومتقاب كبير وماكينة لحام وطن من الحديد الخاص بهذا النوع من النشاط من مختلف الأحجام ، توجهت برفقته إلي ميدان الجمهورية وشارع السبتية بالقاهرة وتم شراء كل تلك الأغراض وأفادني بأن أحد جيرانه بالقرية يمتلك مبني كبيرا يرغب بإيجاره بسعر زهيد حيث إن العمران مازال بعيدا ًعنه رغم وصول المرافق من كهرباء ومياه وصرف صحي ، تم كل شئ بيسر وسهولة.

    قسمنا العمل بيننا بحيث يتولي هو الصناعة والعمل الفني الذي يجيده وفي المستقبل يستعين ببعض الشباب للعمل وأنا مسئول عن الحسابات والمشتروات والاتفاق مع العملاء وأخذ مقاسات البوابات والشبابيك المراد صناعتها ، كنت سعيدا بهذا العمل الحر ، مضي علي شراكتنا ستة أشهر لم نقم خلالها بعمل سوي بوابة واحدة وأربعة شبابيك صغيرة ، كنا نقضي وقت فراغنا الطويل في الحديث الباسم عن ذكريات الحرب فلا زبائن والحالة نايمة ، فى أحد الأيام ونحن نتناول الشاي أقبل علينا رجل بدين يركب سيارة فارهة وتعرف علينا وأخبرنا بأنه مقاول ويقوم ببناء مدرسة للحكومة ويرغب بأن نقوم بعمل كل ما يخص البوابات والشبابيك الحديدية ، كانت المقاولة كبيرة وصلت وقتها إلي ستة آلاف جنيه دفع النصف مقدما والنصف الآخر حين الانتهاء ، حررت عقدا معه بالمطلوب والمقدم والمؤخر وموعد الاستلام ، غادر الرجل الورشة وبدأت حركة النشاط تدب فيها ، استمر العمل لمدة شهرين متواصلين حتي انتهينا مما طلبه وقبل موعد التسليم بأسبوع  شاهدناه ُمقبلا وتوتر كل منا بأن الرجل خالف الموعد لكنه أقبل لكي يقوم بتعاقد جديد أكثر قيمة من الأول وحينما علم أن ما طلبه قد انتهينا منه اشاد بنا خاصة بعد أن شاهد إنتاجنا ، قم الرجل بدفع المبلغ المتبقي وجزءًا من العقد الجديد ، في الموعد المحدد توجهت برفقة بديع ومعي أحد الشباب لنقوم بتركيب ما انتهينا منه ، كنا نضع تلك المنشآت فوق السيارة الفيات وننقلها علي دفعات توفيرا لنفقات استجار سيارة نقل ، تم تركيب منشآت العقد الأول وبدأنا في إنجاز العقد الثاني.

    زادت شهرتنا وأثناء ذلك كانت ُرقية تقوم بكل شيء داخل المنزل موفرة لي ولأبنائي حياة هادئة هانئة وأصبحت مضرب الأمثال للأمومة الطيبة الصادقة حيث سارت علي نهج الخالة زهرة ، خلال تلك الأيام لقي الرئيس السادات مصرعه وقد انتابتني حالة من الحزن الشديد ؛ لأن هذا الرجل كان ذكيا لأقصي درجة وشجاعا ولا يخشي العدو خاصة ما قام به خلال حرب أكتوبر وجيشنا أقل تسليحا من الجيش الإسرائيلي سواء في العدد أو النوعية ورغم هذا لم يخش ويتردد وقام بأول هجوم تقوم به دولة عربية علي هذا الجار سيئ السلوك ، كانت آماله كبيرة لتحسين حال مصر ولكن كل شئ بقدر.

    الأبناء في تحسن مستمر سواء في الدراسة أو مع أصدقائهم وكونوا صداقات عدة وأخبرتني ُرقية أنها حامل وقد أسعدني هذا فقد أقبل رزق المولود القادم وتنبهت إلي أنني سوف أصبح سحاب آخر و رقية أصبحت روز أخري ولكنني لم أكن قد أنجبت سوي طفلين فقط بعكس هذا السحاب المزواج الذي كانت زوجاته قد أنجبت أكثر من خمسة عشر جروا في كل لقاء.

     عام 1982تم جلاء الجيش الإسرائيلي عن سيناء وأقبلت الخالة زهرة بأسرتها لزيارة عائلتها وقد لاقت أمها ربها بعد أول زيارة قامت بها ، في بداية كل شهر كنت أقوم علي زيارة أسرتي بالإسكندرية وأصبح والدي غير قادر علي الحركة وكان يأتي بصحبة أمي يقضيان بعض الأيام بمدينة الإسماعيلية الجميلة الهادئة وقد تزوجت شقيقاتي وشقيقات رقية منذ فترة.

     أحد الأيام أقبلت سيارة يجلس بداخلها شاب يسأل عن الأسطي المختص للتوجه معه لفيلا مشيدة علي شاطئ البحيرات المرة قريبا من مدينة فايد ، طلبت منه العنوان وسوف ألحق به ولكنه طلب مني مرافقته وسوف يعيدني بعد أن أقوم بالحصول علي جميع المقاسات المطلوبة ، بالفعل توجهت مع هذا الشاب وحصلت علي المقاسات المطلوبة والتي كانت كمية العمل بها كثيرة ، أعادني الشاب إلي الورشة واستفسر مني عن التكلفة فأخبرته بكلفة كل قطعة والمجموع النهائي لها وسلمته كشفا بهذا يحمل اسم ورشة بديع وعــابد المصري ورقم التليفون.

     اليوم التالي اتصل بي الشاب وأخبرني بأن صاحبة الفيلا وافقت علي التكلفة وسوف تأتي إليّ عصر الغد للقائي بالورشة ورجاني أن أنتظرها ، أثناء العمل اليومي أخبرني المعلم بديع بأن الأشية بقت معدن والحمد لله خلال العام الماضي والذي كان البداية لنشاطنا حيث حققنا ربحا صافيًا حوالي أربعة آلاف جنيه ، كانت الأرباح طيبة ولم نكن نغالي في أسعارنا مقارنة بالآخرين بالإضافة إلي احترام مواعيد التسليم لذا زاد الإقبال علي الورشة بالإضافة إلي حالة الرواج التي كانت سائدة في نهاية عصر الرئيس السادات.

    عصر هذا اليوم أقبلت السيارة الفارهة وهبطت منها سيدة أنيقة علي جانب كبير من الجمال والفتنة ، اقتربت مني وهي تقدم تحيتها:

ـ أهلا بيك عـابد ... كيفك؟ تنبهت إلي نبرة الصوت واللهجة الشامية

ـ الحمد لله .. قدمت لها أحد الكراسي لتجلس عليه والذي كانت القاذورات والأتربة تغطيه ولكن أحد العاملين أسرع بإحضار كرسي أكثر راحة من منزل الأسطي بديع ، جلسنا معـًا كنت خلالها أقلب في صفحات دفتر الحسابات كي أعرض عليها ُكلفة ما سبق وأن طلبته ، نزعت عنها نظارة الشمس والبرنيطة التي كانت ترتديها وحين شاهدتها نهضت واقفا وكدت أصرخ وأصابني الذعر الصامت وتساءلت:

ـ أنتي تاني .. بت يا زينه يخرب عقلك ح تروحي في داهية .. ضحكت لحديثي بصوتها الفاتن وضحكتها المثيرة وأمسكت بيدي كأنها تطلب مني الجلوس ، جلست وأنا أتلفت يمنة ويسرا معتقدا بأن المخابرات أو المباحث سوف ُتقبل وتلقي القبض عليّ وتبقي مشكلة كبيرة مثل ما حدث بالمرة الأولي بعد عودتي من قبرص ، همست بأذني:

ـ عـابد ، أنا اسمي الحجيجي كارولين وزينه ده اسم مستعار ، مش تخاف مني ، أنا خلاص خلصت مهمتي ودلوجتي يا زلمه باشتغل في هيئة جناة السويس وعندي شجه مليحه في الحي الأفرنجي ولما شفت اسمك جلت أكلفك بالعمل ، تعرف مين عايش معايا؟ بنتي جوزفين

ـ ايوه يا زينه ، قصدي يا كارولين ، أنا عارف أنك جاسوسه وعميله للإسرائيليين وممكن يتقبض عليكِ

ـ اسمع مني يا زلمه ، أنا كنت بأجدم خدمه للمخابرات المصرية ، والزلمه الله يرحمه صلاح نصر كان زلمه جوي وجدع ، كان ملخبط الموساد الإسرائيلي والمخابرات الأمريكية ، كان له عميل في كل مكان وكان شجاع

ـ بس الناس بتتكلم عنه بكلام وحش

ـ دي ضريبه المخلص ، شفت الهجوم إللي إتعرض له الرئيس عبدالناصر ، والرئيس السادات اللي مكملشي سنه بعد وفاته بيجولوا عليه إيه؟ ده عيب الشعب المصري يحب العايش ويبهدل اللي مات ليه لأنه عايز يفضل علشان يطبل للي موجود ، أنا بأشتغل في الجناة مكافأة من الحكومة المصرية وبأجوم بالترجمة للغة اليونانية ، شفت كيف يا زلمه؟

ـ شيء عجيب وغريب

ـ لكن أنا ملاحظه أنك يا زلمه لسه مصحصح وعندك جوه ، تفكر إننا نجوز

ـ إبعدي عني ، أنا مجوز وعندي ست عظيمة وتلات عيال

ـ والله أنت زلمه حلو ومش بأنسي الكام يوم اللي كنا فيه بالمركب أو بالمستشفي ، علي فكرة أنا اللي عرفت المخابرات أنك بالمستشفي وعملوا كل طريجه لتهريبك إلي مصر وأنا جمت بالحكاية دية أكتر من مرة بعد حرب 67  كانت دي مهمتي مع مزراح المجرم يجيب ليا كل أسبوع كام ضابط من الرتب الأسيرة وأهربها وأناوله جرشين لكن حظك أنك كنت موجود يوم المخدرات بدل ما ناوله مصاري كان عايز المخدرات وأنت فاكر كل الحكاية اللي حصلت.

     انتهي اللقاء بتعارف تم بيننا ومضي عليه أكثر من ثلاثة عشر عاما وقامت كارولين بدفع تكلفة ما طلبته بالكامل.

     هكذا أستمرت حياتي انا وهذا الصديق الأسير بديع وكانت الحياة رغدة حيث زاد حجم التعامل معنا وبالتالي زادت أرباحنا وكنا ننتقل من نجاح إلي نجاح حتي تطور العمل وأضفنا قسما لأعمال الألموتيال لمسايرة ركب التطور ورغبات العملاء.

    ازدادت حالتنا المالية رواجا وأرسل الله لنا بالخير من كل اتجاه وأصبح بديع أسطي كبيرًا يجلس بداخل المكتب بالورشة وبجواره التليفون ويعمل معه خمسة عشر شابا يحصلون علي رزقهم وقد تزوج بعضهم  وكون أسرة ، خلال هذا اشتريت قطعة أرض مخصصة للبناء وكل عام أشيد دورا حتي وصل عدد الأدوار إلي خمسة طوابق بكل دور شقتان ، انتقلت إلي إحدي الشقق بهذه العمارة كما أن أبنائي الثلاثة يواظبون علي دراستهم تعاونهم أمهم بكل ما تستطيع ، رقية ابنتي الكبري تدرس بكلية التربية جامعة قناة السويس وأصبحت بالسنة النهائية وفتحي يدرس بكلية الزراعة بالسنة الأولي أما الصغري إيمان فتدرس بالمرحلة االثانوية.

    وقفت في أحد الأيام علي الشاطئ الغربي لقناة السويس أنظر إلي الشاطئ الآخر وأعود بالذاكرة بأنه خلال الفترة من حرب عام  67 إلي حرب عام  73 لم يكن أحد يستطيع أن يقف يمتع نظره بمياه القناة بل كانت الإسماعيلة وباقي مدن القناة مدن أشباح وأبناء تلك المدن ُهجروها إلي داخل الجمهورية وتحمل الذين هاجروا والذين استضافوهم بعضا من المشاكل التي تنتج أثناء ذلك ، أعود أيضا بالذاكرة للزعيمين جمال عبدالناصر وأنور السادات اللذين بذلا كل ما في وسعهما من أجل الحرب والنصر وطرد العدو وبعد أن شعر العدو بالعين الحمراء لجيش وشعب مصر تنازل عن أطماعه وصاغها في صورة اتفاق.

    كان اللواء فوزي يقوم علي زيارتي من حين لآخر خاصة بعد أن أحيل إلي التقاعد وقد التقي بالصديقة زينه وتبين أنهما معرفة عمل من قبل ، كما كانت أسرتي تلتقي مع زينة أو كارولين بل حضرنا جميعا حفل زفاف ابنتها جوزفين التي انتقلت للعمل والحياة مع زوجها بالعاصمة اليونانية أثينا.

    مازلت قادرا علي العمل وقد قارب عمري من الثامنة والستين وقد تخرج الأبناء والبنات وتزوجوا جميعا ومازلت أنعم بالحياة مع تلك القيثارة الجميلة رقية حيث تبثني من حين لآخر بالسعادة والنعيم والحب الهادئ وأستمع لصوتها الشجي أثناء انشغالها في المطبخ وأنا جالس بالصالة أقرأ الجريدة.

      في إحدي المرات التقيت بصديقي القديم أسامة الذي حاول أن يدفع بي لكتابة تلك الأحداث فاكتفيت بأن أقص عليه كل ما قمت به وساعدته بلقاء بعض الأشخاص الذين ُذكرت أسماءهم ومازالوا علي قيد الحياة وها أنا في انتظار ما سوف يكتبه وأرجو إذا خرج هذا الكتاب إلي النور أن يفيد من يقرؤه ليعلم كل شاب وفتاة بمصر بأن بها رجال صدقوا وعد الله وعاهدوه علي النصر وتقديم حياتهم فداء للوطن ومازال مشهد رجال الصاعقة ماثلا أمامي ولنقرأ عليهم وعلي جميع الشهداء الفاتحة.        

*****

تمت


 

 

تعليق من الكاتب

    

      مساء أحد الأيام اتصل بي عابد وسمعت صوته علي غير عادته حيث كان الإرهاق باديا عليه ، استوضحت منه عما يعانيه فقال بنفس طريقته المرحة      " يظهر عليّ ح أودع الدنيا ، خلاص معادي قرب ، باقي شهرين وكمل سبعين سنة لكن يظهر مش ح أستني الشهرين دوول " مازحته ولكنه كان جادا حيث أخبرني بأنه تردد علي طبيب مشهور وعرض عليه ما يعانيه من آلام فأوضح له بأن تلك الآلام ناتجة من تعرضه للطقس السيئ والبرودة الشديدة فترة عمله بجبل كاترين كما أن بئر المياه التى كان يشرب منها بها نسبة مرتفعة من الأملاح وكل هذا أثر علي وظائف الجسم وعاني منها ولهذا السبب أصبح غير قادر علي النشاط والحركة من أثر البرودة التي ألهبت الكلي وتأثير الأملاح أيضا.

    برجاء رقيق طلب مني زيارته ووافقت علي هذا وأخبرته بأنني سوف أقوم علي زيارته بعد عدة أيام لأعرض عليه أصل الكتاب بعد أن انتهيت منه تماما ولكنه قالها واضحة " أسامة أنا مش ح أكمل أربعه وعشرين ساعة ، ياريت تيجي بكره الصبح ولو كنت تقدر كنت خليتك تيجي دلوقتي والإسماعيلية مش بعيدة ، يعني ساعة وربع تكون عندي لكن أنا عارف أنك بتتعب في السواقة بالليل ، خليها للصبح واعمل حسابك تفضل كام يوم معايا ، واد يا أسامة ، أنت شرقاوي جدع وأنا إسكندراني أجدع" تبادلنا الضحكات بوعد علي أن أقوم علي زيارته باكر لأعرض عليه النص النهائي للكتاب.

    لم أستطع النوم براحتي تلك الليلة ، كنت أشعر بشيء ما نتيجة حديثه ، عاد إليّ شعوري الذي شعرت به منذ اثنين وأربعين عاما حينما كان متجها في الصباح للعرض علي لجنة الضباط والتي انتهت إلي قرار فصله من الخدمة العسكرية ، كان صوته به نفس رنة الحزن والألم وتبين لي أن هذا الرجل كانت لديه حاسة سادسة لبعض الأحداث التي حدثت له.

     في الصباح تحركت بسيارتي إلي الإسماعيلية مودعا زوجتي وأخبرتها بأنني سأمضي باقي الأسبوع مع عابد مثلما كان يحدث في بعض الأحيان ولهذا زودتني بملابس وبعض الأغراض لهذا الحدث كما زودتني بعدد من القمصان المكواة وبدلة إضافية حيث الوقت نهاية شهر مارس من هذا العام 2010 تحركت وأنا مازلت أفكر كيف سيستقبل عابد كل ما كتبته ، كنت راغبا بأن يشعر بسعادة تجعله يعود لابتسامته الطيبة عوضا عن حديثه الحزين بالأمس ، ظلت الأحداث التي رواها لي والذي كتبتها بالكتاب تتحرك أمام عيني مرادفة لتحرك الأشجار والسيارات علي الطريق حتي وصلت إلي الشارع وقد جاوزت الساعة العاشرة من صباح هذا اليوم ، كنت أثناء القيادة قد أغلقت التليفون المحمول حتي لا تأتي إليّ مكالمة تشغلني أثناء الطريق.

      فتحت التليفون المحمول فشاهدت رقم تليفون عابد المنزلي وقد اتصل بي أكثر من مرة كما شاهدت رقم تليفون منزلي الذي تعدد رقم اتصاله بي مرات عدة ، ضحكت بداخلي علي هذا الصديق المتعجل اللقاء مما دفعه للاتصال بالمنزل وهذا دفع بزوجتي للإتصال بي ، هبطت من السيارة ولم أحمل معي سوي الدوسيه الذي به أصل رواية عابد المصري ، تحركت جهة العمارة الخاصة به ، بداخل العمارة شاهدت ابنه فتحي فأقبل عليّ مسرعا قائلا ً حمد لله بالسلامة يا عمي أسامة ، من الصبح بنتصل بيك ، قطع حديثه معي رجل يرتدي الملابس البلدية والذي وجه إلي الشاب السؤال التالي:

ـ الصوان ننصبه قدام العماره وإلا بالشارع الجانبي؟

     لم أع ما أجاب به الفتي ولكنني دققت النظر في عيون الشاب والتي كان بها أثر للون احمرار ناتج من الحزن والبكاء ، تساءلت مسرعا ً:

ـ فيه إيه يا فتحي؟

ـ بابا .. تعيش أنت .. لا أعلم ماذا حدث لي ولكن المؤكد أنني كدت أن أفقد النطق من هول الصدمة مثلما حدث لعابد منذ أربعين عاما بعد حادث السجن الحربي ، شعرت بإختناق في التنفس وأسرع أحدهم بإحضار كرسي من كراسي الفراشة وآخر فتح زجاجة مياه معدنية وقدمها لي للشرب ، لا أعلم هل شربت أم لا لكنني أشرت إليه بأن يصطحبني كي أشاهد المرحوم ، دمعت عيناي من لقب المرحوم التي أصبحت بديلا عن لقب الصديق ، سرت مع فتحي ودخلت الشقة وكانت الأبواب مفتوحة علي مصراعيها ، توجه بي إلي حجرة جانبية كنا دائما ما نجلس بها بعض الأوقات والتي كانت مزودة ببعض الأثاث البسيط ، قبل الدخول أخبرني بأن الرجل المسئول عن غسل الموتي بالداخل يستعد للقيام بعمله ، أسرعت بالدخول إلي الحجرة وألقيت بالدوسيه جانبا ونظرت إلي عابد.

     لم يكن الرجل قد بدأ يشرع في عمله بل كان يعد أدواته من صابون وليفه وباقي الأشياء وبجواره الكفن المعد للمرحوم ، أقبلت علي عابد وهو ُمسجي ، ُكنت أريد التأكد بأن ما أشاهده هو عابد الذي كان ينام معي بنفس الحجرة ونحن ضباط صغار ، شاهدت عابد الرقيق والذي شاهدته لأول مره صارخا بي بأن أترك السرير لرغبته في النوم ، نظر إلي مسئول الـُغسل متسائلا ً:

ـ نبدأ يا بيه؟

أشرت إليه بأن يبدأ في عمله ، أزاح عن صديقي ملابسه وطلبت من فتحي مغادرة الحجرة إذا كان يرغب في ذلك ، رفض وظل معي رابط الجأش مثل والده ، شاهدت وعاينت آثار إصابة عام 1967 سواء من الرصاصات التي أصابته من زورق البحرية الإسرائيلي أو محاولة الأسماك التهام جسده أثناء السباحة أو الشق الطولي من اصطدامه ببرميل صاج قبل بلوغه الشط قبل منزل أبو السعدات ، بل شاهدت مناطق الكي بالنار التي تعرض لها أثناء فترة أسره بسجون الجيش الإسرائيلي خلال حرب عام 1973 كان بجسده من الثقوب وآثار الجروح الكثير والتي تدل علي ما عاناه ولاقاه.

     ظللت بجواره طوال فترة الغسل إلي أن انتهي الرجل من عمله وأنا أستعيد كل ما جال بذهني عنه وعن لمحاته الإنسانية التي لا يعلم عنها أحد سوي العدد القليل لأنه لم يكن اجتماعيا بل كان رجلا يقوم بعمله ويتجنب الناس خشية تكرار ما سبق من التعدي عليه أو فصله ، لقد أصيب بما يسمي الصدمة من الناس حيث كان يشعر بأن الكثيرين راغبون في إلحاق الأذي به كما أن فترة عمله لسنوات طوال فوق قمة جبل كاترين أو شمال سيناء بصحبة الكلاب وباقي الحيوانات بالصحراء الشاسعة والتي يتندر بها الناس قد دفعته بأن ُيصبح سعيدا حينما يتحرر من قيود العلاقات الإنسانية.

     كنت أشعر بأن عابد لا يشعر بوجود بشر حوله سوي اللواء فوزي ورقية وبديع شريك الورشة وأنا بالطبع ، هذا هو عالم عابد.

       قمت بتقديم يد المساعدة وبمشاركة فتحي في وضع "الكفن" حول عابد ، لقد ُقمنا بتقديم يد المساعدة علي أن يرتدي زي مغادرة الدنيا إلي الآخرة ، قمنا بإعداده بتلك الملابس التي سوف تخبر أهل البرزخ بأن عبدا ًمن عباد الله الصالحين بعد أن أنهي حياته يعود إلي خالقه حاملا تلك الأوسمة وعليها التوقيع دون قلم أو ختم بل ختم الكفاح والرجولة والبطولة.

     سارت الإجراءات المتبعة سريعا وشاهدت رقية والبنتين بأزواجهن وأبنائهن ، كنت أتلقي العزاء في الراحل ، أقبلت رقية الصغري ابنته تشد علي يدي قائلة:

ـ البقية في حياتك أونكل أسامة وأعقبتها إيمان .. بعد قليل شاهدت َسـليم وبصحبته كاملة وحذا حذو الآخرين ، لم أعرف السبب في أن الجميع يقدم لي التعازي في الفقيد وبعدها علمت بأن هذا الرجل كان يخبر أفراد أسرته بأن يستوصوا بي خيرا بعد رحيله وأنني الأب البديل لهم ويجب أن يتقبل عزائي لو لاقي الله قبله ، لقد أوصي بهذا وقام الأبناء والأقارب بل والزوجة بتنفيذ الوصية.

     قمنا بالصلاة علي الفقيد بالمسجد القريب من موقع سكنه وبعد الانتهاء من صلاة الظهر توجه الجميع إلي المقابر ، هناك بدأت إجراءات الدفن وقبل أن ُينهي الحانوتى آخر خطوة سلمته الدوسيه ليضعه بجانب جثة المرحوم ، نظر إليّ الرجل بدهشة فأعدت عليه رغبتي ، أمسك بالدوسيه فشاهدت زوجته تخترق جموع المشيعين صارخة بالحانوتي وبي ، هذا من أملاكنا وأملاك أبنائي وأحفادي وليس لك الحق فيما تقوم به ، خطفت الدوسيه من الرجل وعادت لتقف بجوار النساء وقد تسلمت إحدي قريباتها الدوسيه منها.

    أغلقت المقبرة وبدأت وفود المعزين تغادر المكان وظللت ساكنا وبجواري فتحي الذي طلب مني أن أرافقه في سيارته حيث أخبرني بأنه كان يشفق عليّ أثناء الجنازة وأنا أحاول من حين لآخر بأن أساعد في حمل نعش والده ، هدهدت علي كتفه طالبا منه مغادرة المكان وعليه أن يتركني بعض الوقت بجوار المقبرة ، بعد جهد تحرك الشاب حتي يعود إلي المنزل حاملا نساء العائلة استعدادا لتقبل العزاء ولضيافة المعزين القادمين من جنوب وشمال سيناء والإسكندرية.

     َخيم السكون والهدوء علي المكان وكدت أسمع أصوات الملائكة التي هبطت لتقوم بحساب هذا العبد الذي عاد إلي ربه ، لقد كانت وصية عابد لي دائما بأن أظل بجوار قبره بعد انصراف المشيعين فترة الساعة التي يأتي خلالها الملائكة لحساب الإنسان المتوفي حتي يطمئن حينما يشاهد أحدا من أحبابه أو أهله يجلس قريبا من المقبرة ، تلك الوصية طلبها مني حينما تحدثت معه في أحد اللقاءات وأخبرته بأن تلك كانت وصية والدي قبل وفاته لي وقد نفذتها ولهذا طلب مني أن أنفذ تلك الوصية مداعبا بأنني لست في مقام والدك لكنك حبيبي وأخويا يا أسامة.

     كنت أتلو القرآن طالبا له الرحمة والمغفرة مشجعا له بأن يخبر من يسأله بأنه مسلم وأن دينه الإسلام وكتابه القرآن ونبيه محمد صلي الله عليه وسلم ، هرب مني التوقيت وقد تعدي العصر وقارب من المغرب وشعرت بمن يهمس قريبا مني محدثا:

ـ قوم معايا يا عمو أسامة ، شغلتنا عليك .. لقد عاد فتحي ابن الراحل للقائي والعودة بي ثانية إلي المنزل.

ُعدت وقمت بأداء صلاة العصر وتناولت الطعام بصحبة َسـليم وفتحي وبديع شريك المرحوم في ورشة الحديد وابن قرية أبو عطوة ، تبادلنا الحديث والذي دار بالطبع حول أخلاق وسمات وصفات المرحوم ونوادره ، لقد عشنا ثلاثتنا معه وكل يعلم بعض خفاياه ولم نفقد أحدًا ممن عاصره سوي اللواء فوزي الذي استقبل عابد في أول أيام عهده بالخدمة وكان له بمثابة المرشد والمعلم والأب الروحي له ، لقد توفاه الله منذ شهرين وأخبرني وقتها عابد حيث توجهنا لحضور القداس عليه بإحدى الكنائس بمصر الجديدة أما الشخص الثاني والذي لم يحضر ولم نعره انتباها هو عم شحاتة وقد التقيته بقرية نكلا منذ عام وقد أصبح غير قادر علي الحركة ، لقد عرفني عابد بكل من التقي بهم والذين هم علي قيد الحياة.

     أقبلت رقية أرملة عابد وجلست بجواري تقدم لي اعتذارها عن تصرفها أمام المقبرة طالبة مني أن أغفر لها ما حدث ، كانت توضح للجميع مدي ما كان ينتظره عابد من وراء هذا الكتاب طالبة مني بحق الصداقة والحب أن أكمل ما قمت به وأنها مستعدة لتحمل نفقات الطبع والنشر ، شكرتها علي مشاعرها وأخبرتها بإتفاق الأمس مع المرحوم تليفونيا حين أخبرني بأنه لو قابل ربه قبل أن يشاهد أصل الكتاب فسوف تقوم أنت يا أسامة بتحمل نفقات نشره ، لهذا فانني ملزم بتنفيذ ما إتفقنا عليه معا ، حاولت إقناعي بأن هذا كان نوعا من المزاح ولكنني أصريت علي هذا وأن الوعد والعهد هما أساس الصداقة مع هذا الرجل صاحب البطولات والذكري الطيبة.

     قضيت الأيام الثلاثة أقوم علي زيارة قبر عابد كل يوم حيث كنت أحادثه وأقرأ عليه عددا ً من فصول الكتاب وفي أحد تلك الأيام أقبل أحد الرجال الذين يقومون بتلاوة القرآن بالمقابر يحدثني ويخبرني بأن ما أقوله ليس بقرآن وجلس يتلو بعض آيات من الذكر الحكيم ، ظللت تلك الأيام أقوم علي زيارة قبر عابد وأقرأ عليه ما كتبت حتي انتهيت من الكتاب ، ودعت أسرته وعدت إلي شقتي وقامت زوجتي تطيب من خاطري حيث سبق لها أن قدمت عزاءها تليفونيا لزوجة المرحوم ولم تستطع أن تتوجه إلي الإسماعيلية نظرا لقيامها برعاية والدتي المسنة.

   بعد أن استعدت جزءا من اتزاني قررت بأن أتوجه لنشر الكتاب ، في نفس تلك الليلة شاهدت عابد في المنام ينظر إليّ باسمًا وسمعت صوته للمرة الثالثة ولكن تلك المرة كان من العالم الآخر قائلا ً:

ـ مش بأقولك أنت شرقاوي جدع .. لكن سيبك أنا إسكندراني أجدع!!!

 نهضت من نومي سعيدًا ومازالت أصداء ضحكته من العالم الآخر ترن في أذني.

ــــــــــــــــــــــــ

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

رقم الإيداع بدار الكتب

والوثائق الرسمية

8732/2010

 

Share
Click to listen highlighted text! Powered By GSpeech