Click to listen highlighted text! Powered By GSpeech
Get Adobe Flash player
مستمرين معاكم بإذن الله 2008-2024 **** #لان_لجيشنا_تاريخ_يستحق_أن_يروي **** ***** إنشروا تاريخنا وشاركونا في معركة الوعي **** تابعونا علي قناة اليوتيوب 1100+ فيديو حتي الان **** تابعونا علي صفحات التواصل الاجتماعي** أشتركوا معنا في رحلاتنا لمناطق حرب أكتوبر **** يرجي استخدام خانة البحث **** *** تابعونا علي تليجرام - انستجرام - تويتر

روايه فهد الليل- الجزء الاول

 

 

كتبها على لسان أبطالها

أســامة على الصــــادق

.....

الطبعة الأولى .. مارس 2012

الناشر: الكاتب

.....

تصميم الغلاف: ريهام سـهيل

.......

حقوق الطبع محفوظة للكاتب

موبايل: 01227970032

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.


 

مقدمــة الكتــاب

   قد تضع الأقدار المرء فى بعض المواقف التى لم يكن راغبا بها أو فكر فيها من قبل ، كان هذا حالي حين واجهت تلك المشكلة التي وضعتني فى هذا الموقف الذى كنت أحاول أن أتخطاه بنجاح والله وفقني فى هذا.

     لقد صدر لي كتابان يتناولان العمل العسكري المصري تجاه العدو الرئيسي والأبدي إسرائيل ، الكتاب الأول صدر فى شهر مايو 2007 فى ذكرى مرور أربعين عاما على هزيمة يونيو 1967 وعنوان الكتاب          " الناس والحرب " ؛ لم أكن أتخيل مقدار رد فعل الذين قرءوا الكتاب ، لقد كان رد الفعل إيجابيا وعلى مستوى رفيع من الثناء والتقدير مما أشعرني بالفخر لأنني أقدمت على إصدار هذا الكتاب.

     بعد مضى أعوام ثلاثة طالبني الأصدقاء والقراء الذين على صلة بى سواء أثناء الندوات الثقافية أو بالاتصال المباشر تليفونيا بأن أعود لخوض التجربة مرة أخرى لعمل مشابه من أعمال البطولة لرجال القوات المسلحة المصرية ، شعرت بالعجز أمام تلك الرغبة وهذه المطالبة ولكن الظروف خدمتني إذ التقيت بأحد ضباط القوات المسلحة الذى كنت على صلة به منذ منتصف عام 1968 ، لقد قرأ كتاب الناس والحرب وأخبرني بأن لديه قصة وتجربة مشابهه لهذا الكتاب الذى صدر ، حدثت بيني وبينه لقاءات عدة تعرفت خلالها على قصته الرائعة وتشجعت وكتبتها وصدرت نهاية عام 2010 تحت عنوان " عابد المصــري " وأحدث صدورها رد فعل إيجابي لدي القراء والنقاد.

     تكرر رجاء بعض القراء والأصدقاء بالاستمرار بالسير فى هذا النهج وذاك الخط ، أي الاهتمام بأدب الحرب ، ومن أجل هذا بدأت فى كتابة هذا العمل فى نهاية عام 2010 تحت عنوان " فهــد اللـــيل " وأرجو أن ينال تقدير القراء ، وفي تلك الرواية الحقيقية أتساءل:

1-    هل البطولة تبدأ مع الإنسان منذ البداية؟

2-    هل البطولة موقف يتعرض له الإنسان فتتضح بطولته وشجاعته؟

3-    هل البطولة متوقفة علي الرجال دون النساء؟

4-    هل البطولة قاصرة علي من يخدمون بالجيوش النظامية؟

أعتقد أن الإجابة على تلك الأسئلة سوف تتضح أثناء تصفح أوراق هذا العمل الذي أتمني أن يحوز رضي الجميع.

المــؤلف


 

نشــأة الفهـــد

      اسمي صابر أبو ركبة ، من أبناء مطروح ، بدأت حكايتي حين مضى من عمرى ستة عشر عاما ؛ حيث كنت أقيم مع أمي وثلاث شقيقات أصغر منى عمرا ، توفي والدي منذ عدة أعوام ولم يترك لنا ميراثا سوى السمعة الطيبة ، كنت المسئول عن العمل والإنفاق على أسرتي بالإضافة إلي المساعدة التي تقدم لي من أمي وشقيقاتي ، طوال العام كنت أقوم علي رعى الغنم وخلال فصل الصيف أعمل على شاطئ البحر لخدمة المصطافين القادمين لمطروح من أرجاء الجمهورية ؛ اكتفيت بالدراسة بالمرحلة الإبتدائية نظراً لعدم وجود مدرسة إعدادية قريبة من القرية التى نقيم بها.

       أقف الآن على رمال الشاطئ ومعي بعض الأغراض التى يحتاج إليها رواد الشاطئ من كراسي وشماسي البحر التى سلمها لي الشيخ عثمان السيوي صديق والدي والذي أقوم على تقديم يد المساعدة والمعاونة له طوال موسم الصيف من كل عام نظير مبلغ ضئيل يساعد أسرتي على التمسك بالحياة ، لقد فضلني على الكثيرين من الشباب كي يقدم لنا يد المساعدة نظراً لحالة الفقر المدقع التى تعيشها أسرتي حيث كان والدي إبراهيم أبو ركبه وتلك كنيته غير قادر على العمل ولا يستطيع السير بطريقة طبيعية ؛ حيث كان يركض بركبته اليسرى نظراً لإصابته بإحدى شظايا قنبلة من المعارك التي كانت دائرة في منطقة العلمين خلال الحرب العالمية الثانية ؛ كان والدي أثناءها يعمل لدي جنود الحلفاء بالسخرة تنفيذاً لتعليمات الحكومة المصرية وقد أثر هذا علي نشاطه فأصبح لا يتحمل مشقة الأعمال وبالتالى فقد أنعكس هذا علي عائلتي بالفقر حيث كنا نعيش علي شظف العيش والمعونة ، أقولها صريحة ؛ كنا نعيش علي إحسان البعض خاصة الدكتور عبد الحميد السيوي شقيق عم عثمان والذي تعلم في القاهرة ووالده شيخ قبيلة "أولاد علي" ميسورة الحال.

    كانت أمي سيدة قوية صابرة ؛ لم أسمعها في يوم من الأيام تشكو سوء الحال وندرة المال ؛ كانت شاكرة لربها باستمرار كما أنها أيقنت بأنه لا سبيل لمقاومة ما نسبح فيه من أمواج الفقر سوي العمل وُحسن التدبير والتدبر ؛ كلما شبت ونضجت إحدى شقيقاتي كانت تقوم علي تدريبها علي الصناعة اليدوية بالمنزل من أكلمة صوف ومفارش وأشغال الإبرة كي تشغل وقتها وتعود بعائد مادي ييسر أمور حياتنا وأصبح هذا العائد هو البلسم الواقي لشظف العيش والحياة.

***

     تنبهت من ذكرياتي على صوت خشن جاف يدعوني إليه ، أتجه إليه وأشاهده ناظراً إليّ بنظرة مريبة أدخلت الخوف إلي قلبي حيث كان يجلس مع أسرته وجميعهن من السيدات والفتيات التي تدل حالتهن علي ُحسن العيش والمستوي الإجتماعي الرفيع.

ـ حضرتك بتنده؟

ـ ايوه ، ماشي علي مهلك كده ليه يا ولد؟

ـ أبدا يا سعادة البيه بس الرمل هيا السبب

ـ أنت ح تصاحبنيّ؟ أنت مش عارف أنا مين؟

ـ لا والله

ـ طيب أعرفك أنا مين ؛ نهض الشاب الذي يكبرني عمراً ومقاماً وفتوة وشباباً وجسده الأقرب إلي البدانة وفي لمح البصر هوي علي وجهي بصفعة قوية لم أشعر إلا وصيحة مكبوتة خرجت مني وشاهدت نفسي ملقيّ علي الرمال والناس من حولنا تنظر إلىّ وقد أفزعتهم المفاجأة.

       أقبل البعض ناحيتي محاولين مساعدتي للنهوض حيث كنت ألملم جلبابي وأستتر حتي لا يفتضح أمري بما علىّ من أسمال أسفل جلبابي البالي بينما اتجه البعض إلي الشاب المعتدي محتجين معترضين على تصرفه مظهرون لومهم علي تصرفه بينما إنشغلت عنهم محاولا إصلاح حالي وتركتهم لكثرتهم وسمعت اللغط القائم بينهم وبين من صفعني دون ذنب أو جريرة ارتكبتها وخلال هذا شاهدتها ، فتاة جميلة في عمر الزهور المتفتحة فى بداية موسم الربيع ، انحنت عليّ تتفحص وجهي حيث هتفت:

ـ دم!! وشك فيه دم ؛ ثم نظرت إلي الفتي الذي صفعني صارخة في وجهه صائحة:

ـ حرام ؛ والله حرام يا علاء!!

    كادت أن تبكي وكدت أن الحق بها باكيا لشعورها المرهف الرقيق ، أتفحص معالمها محاولا تذكر هذا الوجه الأبيض الرقيق الذي يبدو كأنه قطعة من حرير مخملي صاف ، من تكون؟ أعتقد بأنني قد شاهدتها قبل ذلك؛ بمنديل أبيض رقيق ناعم أزالت به نقاط الدم المندفعة من أنفي وربتت علي كتفي وساعدتني علي النهوض ، وقفت بجوارها ؛ بعد ُمضي بعض الوقت أقبل رجل مهيب الطلعة تعلو وجهه كل طيبة المصريين وُخلقهم حيث شاهدني علي حالي ورأيت البعض راغباً في أن يتحدث معه ، شعرت بأهمية الرجل حيث كان الجميع يطلب وده ، اقترب مني ناظراً في وجهي ُمعلنا أسفه لما حدث صائحاً بصوت عال في وجه الشاب الذي أهانني دون ذنب اقترفته:

ـ أنا ربيتك علي كده؟ بئس ما فعلت ، أعاد الرجل حديثه إليّ ؛ ماتزعلشى يا ابني ، ابني علاء سريع الغضب ، سوف أقوم بتقليم أظافره ونزع أنيابه حتي لا يقترف مثل هذا الفعل الشنيع ؛ أسرع إلي مكان أسرته بينما ابنه علاء مازال واقفاً يتصبب عرقاً وخجلا مما لاقاه سواء من الناس أو من والده الذي حادثني منذ قليل ، عاد الرجل إليّ ببعض النقود ووضعها في يدي مقدما إعتذاره ولكني شكرته رافضاً نقوده ، أعاد رغبته في إعطائي النقود وأنا بدوري قدمت له شكري وتقديري.

      أعاد فتح حافظته وأخرج منها ورقة علمت فيما بعد أنها "كارت" ينبئ عن شخصيته ، لم أقرأ الكارت نظراً لما آلت إليه حالي وقد أصبحت في وضع سيئ من تجمع المصطافين وحزن الرجل المهيب البادى علي وجهه الطيبة ، أعاد قوله: سوف أقوم برد ما اقترفه ابني لك مضاعفا ، سوف أهذبه حين عودتي إلي منزلي وسوف أقدم لك أي خدمة وأي رغبة تكفيراً عما حدث من هذا الولد المنفلت ، قدمت شكري له وشعرت براحة النفس من الحالة الطيبة التي غمرت فؤادي ومشاعري؛ عاد الرجل نحو الشمسية وجلس أسفلها وتباعد الناس رويداً رويداً بينما ظلت الفتاة الجميلة بجواري ؛ بعد تردد سألتني:

ـ أنت بتشتغل هنا ولا بتصيف؟

 ابتسمت من سؤالها متحدثا عن حالي ، هل هذا منظر إنسان له من المال والوقت ليلهو علي رمال الشاطئ ويتمتع بمياه البحر ذات اللون الفيروزي الجميل؟ أجبتها:

ـ أنا شغال هنا

    أشرت إلي موضع الكراسي والشماسي ، أمسكت بيدي وسارت معي حتي موضع عملي ؛ جلست علي أحد الكراسي بينما جلست أنا أرضا ، أشارت إلىّ بالجلوس على كرسي مثلها ولكنى أخبرتها بإشارة من يدى بأن هذا أفضل ، أعادت نظراتها البريئة إلىّ متسائلة:

ـ أنا فاكره إني شفتك قبل كده؟ ابتسمت لها رغم ما بى من الآم نفسية.

ـ وأنا فاكر إني شفتك قبل كده؟ ضحكت وعادت برأسها للخلف بعد أن كانت تميل ناحيتى وهي تحادثني.

ـ طيب اسمك إيه؟

ـ صابر .

بدهشة!!

ـ أنا عارفه إنك إنسان طيب وصابر لكني أسألك عن إسمك ؛ أجيبها:

ـ صابر ، اسمي صابر

ـ صابر!! بدهشة ، تكونشي صابر أبو ركبة؟

ـ فعلا أنا صابر أبو ركبة ، وضعت يدها علي صدرها متسائلة:

ـ مش فاكرني؟ متردداً

ـ والله أنا فاكر إني شفتك فين مش عارف؟ تعيد ابتسامتها الجميلة:

ـ أنا ريهام ، ريهام بنت الدكتور عبدالحميد السيوي ؛ عقدت الدهشة لساني، هذه ريهام زميلتي أثناء المدرسة الابتدائي لسنوات قبل أن يغادرنا والدها عائداً إلي القاهرة ليتقلد منصبه كطبيب أسنان بوزارة الصحة ، تساءلت:

ـ وإنت ، أخبارك إيه يا صابر؟ لسه في المدرسة؟ أجبتها.

لقد تركت المدرسة منذ أربع سنوات بعد إنتهاء الدراسة الابتدائية ولم أكمل دراستي نظراً لعدم وجود مدرسة إعدادية بمطروح ، شاهدت الأسف على ملامحها :

ـ "خسارة" .. كنت أشطر واحد في الفصل ، ياه يا صابر ؛ خسارة إنك لم تكمل تعليمك.

تحدثني وهي لا تعلم عن حالنا شيئاً حيث كانت أسرتي تفكر ليلاً ماذا نطعم صباح الغد حتي قالت لنا أمي إننا مثل الطيور التي تأكل طعامها طقه بطقة ولا تخزن طعامها ولا تحمل هما للغد فحالنا هو حالهم وعلينا الصمود والصبر وإن الله لا ينسي عباده أبدا.

ـ علي فكرة يا صابر .. رضوان باشا والد علاء اللي عمل معاك المشكلة من شوية ، يعتبر جارنا في مطروح ، الفيـلا بتاعتهم جنب بيتنا القديم ، كمان جه زارنا ومعاه الست مراته أكتر من مره وبابا وماما قاموا بزيارتهم لأنه راجل طيب وميعجبوشي اللي حصل من ابنه علاء.

ـ الله يسامحه ، لكن أنت في سنه كام يا ست ريهام؟

بدهشة!! 

ـ إيه الكلمة دي؟ إحنا أصحاب وأهل ، قول لي ريهام ، مش عايزاك تحسسني إني غريبة؟ بتردد

ـ حاضر يا ريهام ، ابتسمت وظهرت أسنانها البيضاء وأضاء وجهها بنور الخالق وصفاء النفس البشرية الطيبة.

ـ أنا يا دوب لسه مخلصه أولي ثانوي ، كان نفسي تكمل تعليمك يا صابر.

ملحوظة : المرحلة الإعدادية فى تلك الفترة أربعة أعوام

ـ يا ريت ، لو عندك كتب أذاكر فيها يعني للعلم وليس للعلام علشان أفهم الدنيا ماشيه ازاى؟

ـ حاضر ؛ أنا كنت جايبه معايا كام كتاب من منهج السنة دي أتسلي فيهم ، ح أجبهم لك بكره.

ـ ربنا يخليك يا ست ريهام.

   نهضت راغبة في مغادرة المكان وإحتقن وجهها وتبدل لونه إلى الاحمرار وأعادت قولها.

ـ مش قلت لك قول ريهام بس ، لازم الكلمتين دول ، يا أخي دا إحنا أصحاب ويا ما كنت أمشي معاك وأنت بترعي الغنم في الصيف ، هو أنت لسه بتشتغل الشغلانة دية؟

ـ أيوه ، الناس في الصحرا حيشتغلوا إيه؟

ـ طيب أنا ح أمشى دلوقتى لأن الدنيا قربت تضلم .. مع السلامة يا صابر.

***

    أسمع صوت المؤذن الشيخ حسونة الراعي من منزلنا المتهالك يؤذن لصلاة العشاء ، توجهت لأداء الصلاة وبعد أن ُعدت إلي منزلي خرجت مع إحدي شقيقاتي لجمع بعض الأعشاب وبعد أن عدنا إتجهت شقيقتي الصغرى إلي جار لنا وعادت حاملة معها عوداً من الحطب المشتعل نارا من الفرن الذي لديهم ، إنهمكت أمي مع شقيقاتي في إعداد الطعام علي ضوء النيران المشتعلة ؛ بعد أن تم إعداده تجمعنا حول صينية العشاء التي أصابها التلف  لقدمها وإستخدامها في أغراض كثيرة وإنهمكنا في تناول طعامنا وكل منا يقدم شكره إلي الله قبل دفع لقمة فى فمه بأن يحفظ هذه النعمة علينا ويحفظها من الزوال وأن يمتعنا بالصحة فنحن أبعد قدرة عن زيارة طبيب.            

   كل مساء وقبل دخولي في النوم أستعيد ذكري شقيقتي الصغرى نوال ذات الأربعة أعوام والتى فقدناها العام الماضي ؛ حيث لم يستطع جسدها الهزيل تحمل برودة الطقس ليلاً وعدم تناول الطعام ليوم كامل ؛ حيث لم يعد بالدار أي كمية من الشـعير كي نطحنه على الرحايا كي تعد أمنا الخـبز ، كانت نوال رقيقة وجميلة جداً وتأتى إليّ كل مساء تلاعبني وتجلس بجواري كي أقص عليها بعض الحكايات والحواديت، كانت تعمل لمساعدة الأسرة وظلت قبل وفاتها تحمل الرمل والطَفله كي تعد أمي خليطاً يضاف له الماء كي يصبح عجينا تستطيع من خلاله غلق فتحة بجدار الدار سقطت وأصبحنا كأننا نحيا ونعيش بالعراء ، كنت أعدو خلفها لأرفع حمل الرمال التى تحمله في علبة من الصفيح متهالكة كانت تستخدم كوعاء للسمن الصناعي؛ كنت أشعر بأن نوال سوف تلقي ربها قريباً حيث كان جسدها نحيلاً لأقصي درجة ، لدرجة أنها لم تستطع أن تبتلع الخبز الجاف بأسنانها الصغيرة إلا بعد أن تقوم أمي بوضع قليل من الماء عليه حتى تتمكن من مضغه، رحمك الله يا نوال فلقد حصلت على الراحة والبعد عن شقاء الحياة التى نحياها كل يوم.

     إتجهت إلي مكان نومي المعتاد والذي يكمن خلف باب الدار؛ فلا يوجد في الدار سوي حجرة نوم واحدة تتستر بها شقيقاتي مع أمي بينما المرحاض البدائي قد وضعت عليه ستارة من قطعة قماش بالية نظراً لعدم وجود باب ،      كانت أمي تبتعد عن اللقاءات الإجتماعية نظراً لسوء حالتنا وتجنبا لأي مضايقات من حديث بعض النساء واللائي يخضن فيما نحن عليه من قلة المال وندرة الأملاك بكثرة الأسئلة والإستفسارات التي لا داعي لها ، خلدت إلي نوم هادئ ومازالت صورة ريهام تداعب جفوني.

ريـهام:

    غادرت الشاطئ بصحبة أسرتي وأثناء الطريق تذكرت الذي حدث لصديق الطفولة على يد جارنا علاء الذى أهانه وصفعه علي وجهه صفعة فأسالت الدماء من أنفه ،  نهضت صباح اليوم التالي أشد نشاطا ًوحيوية وجمعت كل ما حملته معى من كتب مدرسية وأتيت بها لأمضى وقتا ًمفيداً ًفي قراءتها ؛ إستبقت أسرتي إلى شاطئ البحر ، طلت عيوني صابراً أثناء قيامه بتوزيع شماسي وكراسي البلاج علي الشاطئ؛ حيث كان يعمل بهمه ونشاط ، جلست بعيداً عن ناظريه خلف تل من الرمال كي أتمكن من مشاهدته وفى نفس الوقت لا أشغله عن أداء عمله الذي يقتات منه.

   أشاهد صابراً وقد أنهي عمله؛ جلس يستريح وقد سبحت أنظاره في مياه البحر لعله يجد من أصدافها لؤلؤا لأفكاره فتنير له طريقه الذى ضل عنه بالأمس، ألقى بظهره للخلف واضعا يديه متشابكتين خلف رأسه ومازال يتابع مياه البحر محاولا محادثتها ولكنه لم يجد منها إلا نغمة واحدة ؛ صوت هدير الأمواج المتدافعة خلف بعضها البعض؛ أعتقد أنه يفكر فيما حدث من  تعدي علاء عليه بالأمس ، كنت أشعر ناحية علاء بالراحة حين قدومه لزيارتنا وتباسطه معي حاملاً معه بعض روايات حديثة لكبار الكتاب المصريين ؛ بل كنت أشعر بأنه راغب فى الحديث معي ، لكن بعد تصرفه هذا الذى نم عن تعالى مقيت يملأ صدره تفاخراً بحسبه ونسبه لهذا لن ألتقي به بعد اليوم ، لقد أهان صديق الطفولة هذا الشاب الطيب الفقير وأسرته المكافحة التي تكن لها أسرتي كل ذكريات طيبة. 

صـــابر:

   ُعدت بذاكرتي إلى الخلف قليلاً وأنا برفقة صديقتي الصغيرة ريهام أثناء ذهابنا إلي المدرسة في الصباح والعودة بعد إنتهاء الدراسة ثم مرافقتها لي أثناء العطلة الصيفية وأنا أقوم علي رعاية أغنام بعض أبناء القبيلة ، إبتسمت وأنا أتذكر تأثير الحرارة علي جسدها الرقيق وقد تفصد منه العرق مما دفعني لأن أجلسها أسفل ظلال إحدى أشجار السدر "النبق" تجنباً لأشعة الشمس الضارة على بشرتها.

    عادت صورتها إلىّ ثانية وكنت أشعر بأنها صورة لأحدى حوريات الجنان وقد غلبها النعاس فنظرت إليها وإلى رموشها الطويلة المرسومة بعناية ألاهية مع إنتشار بعض حبيبات العرق حول أنفها وعيونها ، عادت إلىّ فكره أن أبثها بعضا من كلمات أغنية جميلة ، إقتربت منها لأصف حالها في تلك اللحظة وشدوت لها بأغنية جفنه علم الغزل.

     ألمح ريهام ُمقبلة عليّ ببسمة وضاءة جعلتني أتوقف عن الغناء بل أسرع لملاقاتها مصافحاً مرحباً طارداً الخجل الذي كساني بالأمس ، لم تتحدث ولكن عيونها الباسمه وشفتيها التى تنبئ عن سعادتها بلقاء صديق الطفولة والذي أقحمت الذكرى عقولنا وفكرنا بالأمس ، بإبتسامتها التى لا أستطيع وصفها بدأت حديثها:

ـ صوتك حلو يا صابر ، لسه زي ما هو من أربع سنين ؛ يا تري لسه بتقلد الشيخ محمد رفعت في تلاوته للقرآن؟

   إبتسمت وداعبت بأصبع السبابة رمال الشاطئ أمامي ناظراً إلى تلك الرمال وقد غمرني شعور بالغبطة والخجل في آن واحد ، حركت رأسي بما يعني أنني مازلت أقوم علي هواية ترتيل القرآن  الكريم والغناء أحياناً.

     شجعتني ريهام بأن قدمت لي ُكتبها وبدأت أقرأ عنوان كل كتاب بسعادة غامرة ، وضعت الكتب علي إحدى الكراسي حتي لا تؤثر عليها رمال الشاطئ الرطبة ، نهضت واقفاً علي ركبتي متحدثاً:

ـ ريهام: نفسي أخد الإعدادية ولو عرفت أكمل تبجي معجزة من عند ربنا ، نظرت إلىّ وإخترقت بنظراتها عيوني ، شعرت بنسمة هواء منعشة وتنبهت لحديثها:

ـ أول ما أرجع مصر ح أبعت لك كل الكتب اللي إنت محتاج لها ؛ إيه رأيك؟ إستمر حديثنا حتي غادر الضياء سماء الشاطئ.

     اليوم التالي علمت بأن ريهام غادرت مع أسرتها مطروح متجهة للقاهرة لإستدعاء هام من وزارة الصحة لوالدها ، أصابني هذا بإحباط ولكني إستبدلت هذا الشعور بالعودة للماضي القريب وحديثها الرقيق وسعادتي بأن جلست بالقرب مني بعض الوقت.

      مضت عدة أيام بعد هذا وإذ برضوان باشا والد الشاب علاء الذي صفعني منذ أيام يرسل فى طلبي ويعرض علىّ وظيفة فى إسطبل الخيل الذى يمتلكه بمنطقة أنشاص بالشرقية عارضاً راتباً لم أكن أفكر فيه أو أتخيله مع منزل أقيم به مع أسرتي ، كان العرض مغريا مع ظروفنا الاقتصادية السيئة ؛ لم يمض على هذا العرض أسبوعا إلا وقد أرسل أحد العاملين مع رضوان باشا مرافقا لي ولأسرتي إلى منطقة أنشاص.

     كانت الفرحة والسعادة غامرة ، فمن صحراء جرداء إلى خضرة فى جميع الجهات وزراعات مترامية الأطراف وفرع لنهر النيل يجرى أمام العزبة يطلق عليه ترعة الإسماعيلية ، لن أطيل الحديث ؛ مضت بنا الأيام وأثبت فيها أنني إنسان كفء وأصبحت أهتم بعملي وزادت قوتي البدنية وإستطعت تدريب الخيل على فهم بعض ما أريده منها بالإشارة وتجاوبت معي وتفهمت أسرارها مثل ما سبق وتفهمت أسرار الماعز والأغنام.

    مضت علينا الأيام جميلة بعد أن فتح الله باب الرزق والرحمة على أسرتي وكأنما أراد أن نحصل على الخير الذي نستحقه بأثر رجعي فكانت السماء تمطر علينا رزقاً وُحبا وحنانا ؛ بل زادت العلاقات الإنسانية مع جميع أفراد العزبة من عمال الإسطبل الخاص بالخيول وصولا للباشا والسيدة الرحيمة زوجته ، بل تعد هذا ؛ حيث تقارب معي علاء ابن الباشا الذى صفعني دون وجه حق العام الماضي ، كنت أنهل من الكتب التى سلمتها لي ريهام العام الماضي لكن كانت هناك عقبة فى تعلم اللغة الإنجليزية التى كنت أجهلها تماما.

   أحد الأيام وأنا جالس أسفل شجرة توت ودرجة الحرارة تلهب الأجساد فاجأني علاء بك وتباسط معي فى الحديث ثم شاهد كتابا مقرراً على طلاب السنة الثانية الإعدادية ، تحاور معي فشرحت له كل شيء وما قامت به ريهام من معاونتي ، أسعده هذا وقرر مد يد المساعدة بشرح لقواعد اللغة الإنجليزية وأى من المواد التى أقوم بدراستها بل قرر بأن يقوم في العام القادم بمساعدتي بالحصول على شهادة الإعدادية منازل نظام ثلاث سنوات.

تكررت اللقاءات والمساعدة وزادت حينما أقبلت ريهام مع أسرتها تلبية لدعوة الباشا لهم لزيارة العزبة ، أصبحنا نحن الثلاثة نجتمع كثيراً بل كانت ريهام وعلاء يرتبان الزيارات بغرض تقديم المساعدة لي ، مضي العام وأوفي علاء بك بوعده وقدم لي الأوراق المطلوبة لأداء الإمتحان نظام منازل وقام بسداد تكلفة كل النفقات ، الحمد لله دخلت الإمتحان وشعرت أنني قمت بتأديته على أحسن وجه ، بالفعل جاءت النتيجة مؤيدة لهذا وحصلت على شهادة إتمام الدراسة الإعدادية ولهذا فكرت بدخول إمتحان السنة الأولى الثانوي ثم تعقبها باقي السنوات نظام منازل ، سارت بنا الحياة سيرا طبيعيا ونحن نرفل فى النعيم مقارنة بجفاف حلق الصحراء الذى ضن علينا من أن ننهل من نعيم الخالق.

     خلال السنوات الثلاث التي مضت علينا بعزبة الباشا ُكنت مكلفاً بالعمل فى إسطبل الخيل مع عم صِديق ؛ حيث كنت أقوم على رعاية الخيول وتنظيفها وتقديم الطعام لها ، كنت أشعر بسعادة لهذا ، فتلك هى المرة الأولى التى أقترب من فرس وهذا نادر بالصحراء الغربية إلا لدى الأغنياء ، كنت أدندن للخيول ببعض أغان من روائع سيد درويش ومحمد عبدالوهاب بل أغنية ليلى مراد إتمخطري يا خيل وإرقصي ويّا عرايس الليل.

      شعرت بتجاوب بيني وبين الخيل ولهذا تجرأت وركبت إحداها ذات مرة ؛ تكرر هذا عدة مرات وعلمت أن الخيل تصبح فى حالة مزاجية طيبة حينما تقدم لها قطعة من السكر بالإضافة إلى الأغاني والتى كان يميزني صوت طيب أشاد به الكثيرون من الأقارب والأصدقاء حيث كنت أشعر بأن الخيول تتجاوب معي بهز جسدها والبعض يدق بأقدامه عدة دقات غير منتظمة كأنهم يسيرون على الإيقاع الموسيقي.

     علم الباشا بأنني أقوم بركوب الخيل وكاد أن يتسبب هذا التصرف بطردنا من العزبة ولكن الظروف جاءت لتساعدنا ؛ فبعد الضيق والتبرم الذي شعر به الباشا وصله خبر يفيد بمرض الفارس الذي كان ينفق عليه لدخول مسابقة الخيول العربية ، كان الباشا لا يقبل الهزيمة بأن يتخلي عن المشاركة في السباق حتى لو لم يفز الفارس التابع له ؛ لهذا لم يجد أمامه سواي بعد أن زين له ناظر العزبة هذا الإقتراح مؤيدا بأننى لا أفهم فى السباق لكن هذا أفضل من الإعتذار عن المسابقة التى إعتاد الباشا الإشتراك بها لسنوات عدة.

      مازلت أنهل من الكتب وعلاء بك كل أسبوع حين الحضور للعزبة يظل معي يعينني على مذاكرة اللغة الإنجليزية وفى أحد الأيام أثني على إجتهادي بأنني أصبحت أفضل من طلبة المدارس فى مستوي التحصيل ، كما أثنت ريهام على المستوي الذي وصلت إليه ؛ حيث كانت تمد لي يد العون فى توضيح بعض المواد العلمية سواء الرياضيات أو الكيمياء أو الفيزياء ، أنهيت السنة الأولى بنجاح ثم السنة الثانية ثانوي أيضاً ولم يعد أمامي سوى سنة واحدة وألحق ريهام بالجامعة بعد أن تخرج علاء بك هذا العام وأصبح مساعدا لوالده المحامي بمكتب المحاماة بمصر.


 

حــدث غـير مـتوقـع

     أرسل رضوان باشا فى طلبي فأسرعت أعدو فى إتجاه المكتب حيث يمثل لي هذا الرجل الطيب كل معاني الإنسانية الجميلة الرقيقة .. إستقبلني بود كعادته ثم طلب منى إستخراج بطاقة شخصية! تساءلت عن معنى بطاقة شخصية .. فأوضح لي فائدتها والتى تدل على شخصيتي وأن كل إنسان فى مصر بلغ السادسة عشر من عمره يجب عليه إستخراج تلك البطاقة وإنني أطلبها منك كي أشترك بك كفارس فى المسابقة لأنها من شروط الإشتراك ؛ تساءل: كم عمرك يا صابر؟

    صمت لفترة ثم أجبته بأن أبى أخبرني بأنني ولدت قبل قيام حرب فلسطين بعام ؛ ضحك الباشا قائلاً: لقد تعدى عمرك الستة عشر عاما ؛ بل إقترب عمرك من العشرين عاما ؛ فنحن الآن فى عام 1966 ، يجب عليك إستخراج تلك البطاقة ولهذا طلبت من الريس صديق أن يرافقك للمكتب المسئول.

    توجهت مع عم صديق إلى مركز بلبيس أحمل معي شهادة إتمام الدراسة الإبتدائية والإعدادية وشهادة الميلاد التي كنت أحتفظ بها كأوراق تطلب منى حين أداء الاختبارات بالسنوات الدراسية السابق دخولها ، من مكتب بريد بلبيس إشتريت إستمارة بطاقة ، أمام مركز الشرطة شاهدت عدداً من مصوري الفوتوغرافيا ، جلست أمام أحدهم ؛ حيث قام بأخذ لقطة علي حد قوله ؛ بعد نصف ساعة شاهدته يخرج الصور الخاصة بى من حوض صغير به ماء ، ثم وضعه ليجف على قطعة قماش ثم سلمها لي بعد أن حصل على مقابل تلك الصور من عم صديق ، كان عم صديق رجلا محبوبا من الجميع وله علاقات متعددة ولهذا قام الموظف المسئول بتسهيل كل الإجراءات دون تعقيد وأخبرني أن أعود لإستلام البطاقة بعد أسبوع ومعي الإيصال الذي سلمه لي ؛ ثم علق قائلاً:

ـ دا أنت عديت تمنتاشر سنه .. يعنى ح تروح تكشف فى النضارة " منطقة التجنيد " .. تطوع عم صديق وأخبره بأن هذا الشاب وحيد عائلته وأن والده توفاه الله منذ عدة أعوام .. إبتسم الرجل وأشار إلىّ قائلاً:

ـ براءة يا صابر

     تحركت الأحداث وسارت بى ولم يجد علىّ جديد سوي تسلمي للبطاقة الشخصية التي أسعدتني كثيرا ؛ حيث كنت أنظر إليها من حين لآخر ؛ مازالت مشغولا فى إستذكار دروسي وقد إقترب العام من نهايته وزحفت برودة شهر ديسمبر على الناس فإختبأ الكثير منهم وركزت خلال وقت الفراغ فى إستذكار دروسي ، أيضا مازلت أقوم بالتدريب مع الخيول على أسلوب المسابقة التى إقترب موعدها.

   بداية العام بدأت المسابقة بين الخيول المشتركة ، كانت تلك أول مسابقة أشترك بها ، كان الجميع من حولي يؤكدون على تفوقي ، سارت المسابقة على ما يرام ولكن الحصان جفل فجأة أمام أحد الموانع مما تسبب فى عدم حصولي على المركز الأول وبقيت بالمركز الثاني ورغم هذا شعر رضوان باشا بالسعادة.

   بداية شهر فبراير أقبل عم صديق ليخبرني بأن مندوبا من البوليس يطلب منى التوجه إلى نقطة بوليس أنشاص ، توتر الجميع وكل واحد تساءل عن السبب فى هذا الإستدعاء وكنت غير قادر على الإجابة ؛ إصطحبني عم صديق وتوجهنا سويا إلى نقطة البوليس وهناك أخبرنا الشاويش المسئول بأن المدعو صابر إبراهيم مطلوب منه التوجه للنضارة "منطقة التجنيد" للكشف عليه حيث أن القرعة "طلب التجنيد" قد حلت على مواليد هذا العام؟

     أخبره عمى صديق بأن الشاب المذكور لأداء الخدمة العسكرية توفي والده وأصبح الوحيد لأمه وثلاث شقيقات ؛ طلب منه الشاويش أن يقوم المدعو صابر بإخبار المسئولين فى النضارة بهذا الأمر ، طلب منى التوقيع بالعِلم ثم أشار إلى أحد الجنود الذى جذبني من ياقة الجلباب ودفعني لداخل حوش خلف النقطة حيث شاهدت بعض الشباب وعلمت أنهم من المطلوبين للتجنيد.

      ظللنا عدة أيام نجلس بعض الوقت ونقف وقتا آخر ، في بعض الأحيان كنا ننام جلوسا والبعض من أقارب الشباب المتواجدين  معنا أحضروا لهم طعاما وقبل أن يصل الطعام لأيدينا لابد أن يمر على حضرة الصول والشاويشية والجنود حتى تصل الفرخة لذويهم عظما والخضار المطبوخ يصل دون لحوم وهكذا ، ظللنا على هذا الحال ثلاثة أيام قابلنا خلالها مشاكل جمة ومصاعب هائلة بالإضافة إلى سوء المعاملة وتكليفنا بخدمة خيل النقطة وتطهير الزريبة وحمل أمتعة ونقل أتربة وتلميع أحذية كل من يعمل بالنقطة.

    وحل يوم دفع بنا فيه فجراً إلى محطة القطارات ؛ ركبنا قطاراً خالياً من الكراسي والنوافذ ورائحته كريهة وفضلات البشر فى كل مكان ، وصلنا محطة التل الكبير حيث موقع النضارة يبعد أربعة كيلومتر تقريباً ؛ واصلنا سيرنا على الأقدام تحت سطوة جنود الشرطة الذين ربطوا معاصم أيدينا معا بحبل طويل ؛ حيث سرنا هكذا كقطيع يتقدمنا جندي وخلفنا جندي آخر يمطروننا ببعض السباب السيئ وفى بعض الحالات نحصل على هبات من الشلاليت والضرب على القفا.

    تسلمنا أحد جنود الجيش ، أصابنا الفرح وقلنا الحمد لله ، الجيش أهون وأحسن حالا من رجال الشرطة وسوف نتخلص من سلوكهم السيئ المشين ، تبين لنا كذب تلك النظرية ؛ فمن شب على شيء شاب عليه ؛ فلقد إستبدلت العصا والشلاليت بالقايش "حزام عريض " وكان الضرب يتم دون تمييز وأنت وحظك فمن الممكن أن تفقد عينا وتفقأ ، كنا نهرول وننفذ التعليمات دون تردد وشعرنا بأننا ضعفاء وقد تكاثر علينا الجنود وهم أكثر انضباطا من جنود البوليس ولا يتطفلون على ما معنا من نقود أو سجائر.

     تم ترتيب كشوف الأسماء ؛ أقبل الأطباء للكشف الطبي ، كان الطبيب يسير متفقداً الطابور ولا يتجه إليه الشاب المطلوب الكشف عليه ؛ ومثال ذلك : لو أقبل طبيب الأسنان فيأمر المساعد له "جندي" بالتنبيه على كل من عليه الدور بضربه بالبوكس فى ظهره ليفتح فمه مثل تاجر الماشية الذى يقوم بفتح فم عنزة ينوى شرائها ، كل تنبيه أو أمر بالضرب وما عليك سوى الإستسلام ، لم يتبق سوى كشف الرمد ، أقبل جندي يحمل زجاجه وزميله معه يطلب فتح العين ويقوم بوضع بعض نقاط من قطرة بعين الشاب ، بعد قليل ينادى علينا فرداً فرداً لتوقيع كشف النظر ، كنا نسير ونحن لا نرى بوضوح فتأثير القطرة شديد ، يسأل مساعد الطبيب على الإشارات التي لا نستطيع توضيحها ونقولها خطأ وأسمع إجابة مساعد الطبيب بصوت عال: النظر قوى 6/6 وفى بعض الحالات 6/9 ..  إنتهى الكشف الطبي ؛ أقبل أحد الصولات وهو رجل كبير الحجم غليظ الرقبة متسائلاً إن كان يوجد شيء يمنع الشاب عن التجنيد ، أشرت إليه بما يعني بوجود مشكلة تمنع تجنيدي ، أشار إلىّ أن أقترب منه ؛ لخصت كلماتي بأننى العائل الوحيد لأسرتي وأبى توفى منذ عدة سنوات ولا يوجد إخوة ذكور لي .. كتب شيئا بالأوراق التى أمامه ثم قال يجب عليك أن تبلغ أسرتك بإعداد كشف عائلة وتقوم بتقديمه لمنطقة التجنيد.

   قادونا لقسم الإنتقاء والتوزيع .. هناك نودي على الأسماء وتبين لي أننى ُوزعت على قوات حرس الحدود وبالسؤال تبين لي أنهم علموا من أوراقي وشهادة الميلاد بأننى من أبناء مطروح وبالتالي أعلم كثيرا عن الصحراء ، لم أهتم بهذا فأنا ضيف عليهم حتى تقوم أسرتي بإعداد كشف العائلة والذى يثبت من هم أفراد الأسرة وفى خانة الوالد يكتب متوفى وترفق به شهادة الوفاة ، كل تلك الأوراق تحتاج إلي وقت ونفقات وسفر لمطروح ومن سوف يقوم بالسفر إلي هناك؟  ُدفعنا فى إتجاه محطة القطارات سيرا على الأقدام حوالي أربعة كيلومترات وكل مجموعة من المجندين يرافقهم عدد من جنود الأسلحة التى تم توزيعهم عليها والذين قدموا لإستقبال الجنود الجدد ، كانت المعاملة أحسن وأفضل ، ظللت برفقتهم حتى وصل بنا القطار للمحطة والتى لا أعلم أين تكون وما اسمها ، تبعت المندوب سائرا خلفه حتى وصل إلى المعسكر "القشلاق" الذى كان متطرفا بالصحراء، خلال سيرنا كانت العواصف الرملية الباردة تلهب وجوهنا ، توقف الصف ضابط قائلاً:

ـ ده مركز تأهيل جنود الحدود

   بتلك الكلمات البسيطة القاطعة علمنا أين نحن وماذا سيتم بهذا المركز ، لقد أوجز الرجل وأفاد ، سارت بنا الأمور كما يرغبون ، لم يكن عددنا كبيرا ، لقد كنا إثنين فقط تم تجنيدنا لحرس الحدود بينما كانت الأسلحة الأخرى يتجاوز عدد المجندين لها المئات ، توقفت قليلاً وهدأت كى ألتقط أنفاسي حيث كنت أشاهد جنود المركز الأقدم منا والذين سيتم توزيعهم على وحدات الحدود قد أنهوا تدريبهم ، كان باديا للعيان بأن جميع من بالمعسكر من أبناء أسوان ويميزهم بشرة سمراء وقوام ممشوق أيضا وندرة الحديث ؛ كما يتحلون بسرعة البديهة فى تنفيذ الأوامر بعكس من كانوا معنا من أبناء الفلاحين الذين كانوا أقل إستيعاباً وأبطأ حركة ، اليوم التالي شاهدت أعدادا جديدة من المجندين من أبناء أسوان وتعرفت على بعضهم.

    عدة أيام وطلبني القائد المباشر "نقيب شرف" ؛ رجل كبير السن قليل الحركة ، سألني أنت الوحيد لعائلتك؟ أجبته بالإيجاب ؛ قرر بأن أتوجه لوحدة عسكرية تابعة لقوات حرس الحدود وسوف ألحق عليهم لحين الإنتهاء من كشف العائلة ؛ بعد قليل تحدث الجندي المرافق لي مع الأمباشى وهما وقوف بجوار اللوري الذى سلمه خطاب ضمي للوحدة الجديدة قائلاً:

ـ صابر معاكم فترة بسيطة والجواب بيجول إنه يشتغل مع الجمال وبلاش الدوريات لأنه مش ح يكمل مدة تجنيده ، ده كشف عيلة ، صافحني الجندي المرافق قائلاً:

ـ مع السلامة يا صابر ؛ ثم غادر المكان 

    توجهنا إلى لورى نقل عتيق من لوارى الجيش البالية ؛ أشار إلىّ الأمباشى بالصعود إلى ظهر اللوري الذي كان يسير ببطيء وجميع السيارات من حولنا تتخطاه كما أن عادم الموتور يخرج من الخلف كثيفا وداكن اللون ، توقف بنا عدة مرات أمام وحدات عسكرية لطلب الوقود الذى نفذ ؛ ظللت ثلاثة أيام بليلتين فوق ظهر اللوري والصقيع يلهب جسدي لكن من حسن الحظ أنه كان يحمل بعض المهمات من أفرولات وبطاطين حيث كنت أختبئ بداخلها إتقاء البرودة.

    عبر اللوري كوبري الفردان عبر قناة السويس ؛ هذه هي المرة الأولي التي أشاهد فيها القناة ، لقد كان منظر القناة رائعا واتساعها كبيرا والمياه بها تشبه مياه مطروح ، بعد عدة ساعات من عبور القناة فى إتجاه العريش توقف بنا اللوري أمام معسكر بدائي به العديد من الجنود والجمال ، كان واضحا بأنهم رجال الحدود الذى تم إختيارهم من جنوب مصر وعلمت بعدها أنهم من أبناء أسوان والنوبة.       

     بعد أن توقف اللوري العجوز هبطت منه أحمل المخلة ؛ تلقفني أحد جنود الحدود بزيه المميز والمخالف بعض الشيء عن جنود الجيش المصري ، بإبتسامة طيبة رحب بى وطلب منى أن أتبعه ، تبعته وبعد عدة خطوات أمرني بالتوقف أمام خيمة وتركني ودخل إليها ، بعد قليل خرج

برفقته أحد ضباط الصف ، الذي كان يحمل درجة رقيب أول "باش شاويش" بكلمات قليلة وبلهجة غريبة على مسامعي قال كلمات بسيطة :

ـ جندي صابرا .. تنضم على فصيلة الخليج ترعى الجمال لحد ما ورجاتك تنتهي .. خده معاك يا عثمان.

    تبعت عثمان والمشابه للباش شاويش بل كل من كان بالمعسكر متشابهون بدرجة غريبة ولا تستطيع أن تفرق بين واحد وآخر إلا من الدرجة العسكرية أو حجم الجسد.

   إستضافني عثمان بخيمته تلك الليلة ؛ بعد أن جلست قليلا أشار إلىّ بأن أتبعه وتوجهنا معاً إلى المطبخ حيث الطعام وحصلت على الطعام مثله وطلب من الطباخ أن يزيد كمية الشاي لي لأني ضيفهم تلك الليلة ؛  نمت تلك الليلة ولم أشعر بما يدور حولي من فرط الإرهاق الذى واجهته أثناء قدومى من القاهرة إلى سيناء ، لقد تركت حماية الأهل وتبدل الحال وإنقلب كل شئ فجأة وأصبحت وحيداً مطارداً ومطلوب منى حماية نفسي وإطعامها؛ فى الصباح تناولت طعام الإفطار مع عدد كبير من جنود الوحدة ، كنت أختلس النظرات إليهم من حين لآخر ، شعرت بهدوء وسكينة لا حد لهما ، الناس عفويون وطيبي القلب وحياتهم هادئة سلسة ، بعد قليل أشار إلىّ الباش جاويش بأن أتبعه ؛ سرت خلفه حتى وصلنا إلى مبنى بدائي مكون من عدة غرف ، أشار إلىّ بأن أنتظر ثم عاد بعد قليل وأصدر إلىّ الأمر:

ـ جندي مجند صابرا .. معتادا مارش ، سرت بخطوة منتظمة كلها نشاط ومن الكلمات القليلة التى تحدث بها الباش شاويش علمت أننى متجه للقاء القائد ، صدر إلىّ الأمر:

ـ قف ، توقفت وشاهدت منتصف الحجرة ضابطا برتبة رائد قريب الشبه بمن كنت أجالسهم بالخارج ، رحب بى وأخبرني بأننى سوف ألحق على فصيلة الشاويش "إدريس" لفترة لحين البت فى أمر كشف العائلة ؛ يستغرق هذا شهرين بعدها تنتهي خدمتك إذا ثبت إنك العائل الوحيد للأسرة ، ثم وجه حديثه للباش شاويش:

ـ رقيب أول عبيد ؛ العسكري ده يتحرك النهاردة مع قافلة المساء المتجهة لموقع الخليج ، أشار إلىّ الرقيب أول عبيد أو الباش شاويش عبيد بأن أنصرف حيث أصدر إلىّ الأمر:

ـ عسكري صابرا .. للخلف دور .. معتادا مارش .. قف .. أشار إلى أمباشى فأقبل مسرعا وطلب منه أن يضمني إلى قافلة المساء المتجه إلى موقع الخليج.


 

رجال الجنوب الأشــداء

    تحركت إلي الجنوب برفقة القافلة ركوبا على ظهر أحد الجمال والتى لم أجرب ركوبها من قبل فى منطقتنا بمطروح إلا قليلاً نظراً لأن أسرتي لا تملك جملا  لإرتفاع ثمنه ؛ كما أنه يستخدم فى التجارة والنقل ونحن أبعد ما يكون عن تلك الأنشطة ، كانت الرحلة متعبة وشاقة وفى نفس الوقت كنت أنظر وأكتشف ما حولي من الطبيعة الكونية أو الطبيعة البشرية ، الإثنان لم أعهدهما من قبل ورغم إنني بدأت حياتي بالبادية بصحراء مطروح والصحراء الغربية إلا أن المنطقتين مختلفتين عن بعضهما البعض حيث تكثر هنا التضاريس من جبال وهضاب وصخور ورمال مسطحة ينتشر بداخلها الزلط بينما فى مطروح الرمال الناعمة وكأنك تسير بداخل ماء أصفر اللون وليس رمالا رقيقة يحركها الهواء كل يوم وكل ساعة لتتبدل لوحة الفن الإلهي العظيمة.

     بعد مسيرة ثلاثة أيام بثلاث ليال وصلنا إلى موقع فصيلة الخليج ، إستقبلنا الرجال هناك بالتهليل والترحيب وتبين لي فيما بعد أن تلك هى سماتهم اللقاء الدافئ الطيب وهذا يساعد الجمال على الشعور بالألفة للمكان والأشخاص الذين يلقونهم.

    أقبل قائدهم ويدعى الشاويش أو الرقيب إدريس ، لم يكن مخالفا عن الذى شاهدتهم بقيادة الفوج بشمال سيناء ، الجسد الممشوق ؛ فهو طويل القامة داكن البشرة يضع بعض خطوط طولية من الوشم عبارة عن تشريط بالموس فى مرحلة الطفولة وعلمت من أحدهم بأن كل قبيلة تقوم بتشريط مخالف للقبيلة الأخرى لكن تلك القبيلة تضع ثلاثة خطوط رأسية فى المسافة الخالية من الشعر بين الحاجب وشعر الرأس ؛ حيث كان مشهورا برقم "111" كل هذا علمته فيما بعد من زملائي بالحدود ، سلمه المرافق لي خطاب القائد ، قرأه على مهل وبترو بلغة لا أعلمها ، نظر إلىّ مصافحاً وأشار إلى باقى زملائه رافعا يديه الإثنتين لأعلى صائحا:

ـ رحبوا بزميلكم صابرا ، سمعت بعض التعليقات والتى لم أفهم منها أي شئ سوى بعض كلمات دينية مثل الله وقدوم طيب ودعاء بالتوفيق.

    اليوم التالي أقبل الشاويش إدريس وتأكد بأننى حصلت على راحتي وتناولت طعامي كما طلب منى أن أخبره عن أى مشاكل تواجهني ؛ ثم أخبرني بأننى سوف أعمل مع الجمال فى إطعامهم وشرابهم ونظافة أماكن معيشتهم ، كان الرجل يتحدث أثناء السير ونحن متجهين لمنطقة تجمع الجمال ، كنت أشاهد الجمال ما بين وقوف أو برك تتناول طعامها أو تخرج بعضه من معدتها ثم تعيد مضغه كما تخرج بعض رغاوى من بين أسنانها ، كان إدريس يوضح لي كل شئ بيسر وسهوله رغم أن الكثير مما يقوله أعلمه بحكم معيشتي فى مطروح ؛ حيث المنطقة تكثر بها الجمال بل وبعض جيراننا لديهم أكثر من جمل.

     هناك بمنطقة إيواء الجمال إلتقيت بثلاثة من الجنود الذين رحبوا بى ؛ تركني الشاويش إدريس مع الجنود بعد أن تحدث معهم بكلمات قليلة بلغة لم أفهمها ، سارت بنا الحياة ؛ حيث كنت أقضى كل وقتي مع الجمال ؛ فهى لا تتحدث وأنا لا أستطيع أن أفهم حديث الرجال الذين أعمل معهم سوى وقت الصلاة أو الدعاء أو حين يتحدث معي أحدهم ، مازال إنطباعي عنهم طيبا؛ حيث أنهم يتميزون بالنظافة وسرعة تلبية أوامر قائدهم الشاويش إدريس أو الاسم الشائع "إدريسا"

***

التدريب على العمل

      هذه هي الليلة الأولي لي بتلك المنطقة خلالها خلدت فى نومي بجوار أحد الجمال ؛ لم أشعر بأي شيء أثارني أو ضايقني ، صباح اليوم التالي طلبني الشاويش إدريس ، توجهت إليه وعلمت منه أنه قرر أن ينفذ برنامج تدريب الجنود الجدد على شخصي رغم عدم إقتناعه بهذا لأنه يعلم بأنها أسابيع قليلة وأحصل على شهادة الإعفاء النهائي من الخدمة العسكرية ؛ بعد خروج الدوريات المعتادة أقبل علىّ الشاويش إدريس بجوار الجمال أثناء تناولها الطعام وجلس مواجها لي يزودني بمعلومات عن سيناء ؛ كنت غير راغب فى سماع هذا ؛ فمازال الخيال وأحلام الشباب تهاجم خلوتي وأستعيد ذكرياتي مع ريهام سواء أثناء مرحلة الطفولة أو خلال الشهور الفائتة ؛ بدأ إدريس حديثه حيث قال:

ـ إسمع جندي صابرا .. ح أعرفك بشوية حاجات عن سينا يمكن تنفعك فى المستجبل ؛ مساحة سينا 61 ألف كيلو متر مربع وده حوالي 6 % من مساحة البلاد ، سينا تجع فى الركن الشمالي الشرجي من البلاد وتتجسم تلات تجسام ، من الجنوب للشمال حسب إرتفاعها وهيا: إجليم الجبال أو المثلث الجبلي الجنوبي أو ضهر سيناء ثم الإجليم الهضبي فى الوسط والبعض بيسميها هضبة التيه وبيجسمها ناس تانيه لهضبتين واحده فى الجنوب وهيا هضبة العجمة والتانية فى الشمال  اسمها هضبة التيه ، بعد كده بنلاجي السهول فى الشمال وهيا إما ساحلية بحذا البحر المتوسط أو داخلية فى إطار وادي العريش وتوابعه ويتخللها إجليم الجبجاب "القبقاب" فى الوسط.

***

   مضت علىّ الأيام طبيعية ، فى أحد تلك الأيام خلا المكان من جميع الرجال ولم يتبق سواي ؛ حيث قمت بعملي المعتاد من رعاية الجمال وإطعامها وأصبحت الصداقة بيننا متنامية حيث كنت أنادى على كل جمل باسمه فيستجيب لي ؛  فى أحد الأيام شاهدت الجمل "عرابي" الذى وقف بعيداً ممتنعاً عن تناول الطعام وأصبح ساكنا لا يتحرك ولا يستجيب لندائي ومناوشتي له كالمعتاد ، إقتربت منه بحذر حيث أن الجمال ُتصبح فى بعض الأحيان عدوانية وشرسة ، لم يتحرك ولم أعرف ما يضايقه.

   وقفت بجواره وشعرت بأنه فى حالة سيئة للغاية ، حيث تخرج من فمه أصوات تدل على الضيق وهى أصوات عالية مرتفعة كما يصاحب هذا رغوة كثيفة ازدادت حتى سقطت على الأرض بعد أن ملأت الفم ، هدهدت على رقبته وملست عليها بهدوء مناديا على اسمه:

ـ مالك يا عرابي؟ فيه حاجه تعباك؟

كان الرد الطبيعي حركة متزايدة أتبعها برفع قدمه الأمامية اليمنى قليلا ً؛ جلست أرضا أتفحص القدم فشاهدت قطعة صغيرة من سلك شائك قد التفت حول الساق أعلا الخف وإنغرس بعض بروز منها بالساق ، ملست على رأسه التى كانت مجاورة لرأسي وبهدوء حاولت إزالة السلك بين صيحاته المتكررة عالية الصوت ؛ الحمد لله إستطعت تخليص عرابي من السلك وشاهدت الدماء تندفع من مكان غرس السلك ؛ أسرعت وأحضرت قطعة قماش لينة من التى تستخدم فى نظافة السلاح وربطت به الجرح ، بهدوء برك الجمل وأحضرت له الماء فشرب الكثير وعرضت عليه الطعام فرفض ونام على جانبه الأيسر وساقه اليمنى منثنية قليلا جهة بطنه ؛ ظللت لفترة أملس على رأسه ورقبته ؛ بعد هذا بفترة ملست على الساق المصابة فشعرت بأن تلك الحركة أراحت عرابي ؛ حيث كان يفتح عينيه من حين لآخر وفى بعض الحالات يخرج صوتا خافتا كأنه يحدثني قائلاً: شكرا يا صابر وربنا ما يحطك فى ضيقة.

     جلست بجواره ورغم هذا كنت أراقب باقى الجمال وأتابعها وفى غفوة خلدت لنوم مفاجئ إستيقظت منها على أصوات وهمهمه ؛ فوجئت بأن باقى الجمال أقبلت تلقى نظرة على عرابي ؛ البعض همهم بأصوات غير معلومة والبعض يلعق رقبة عرابي الجمل المصاب ؛ بل أن أحد الجمال برك أرضا ولعق الساق المصابة قريبا من مكان الرباط الذى قمت به.

     قبل الغروب أقبل رجال الحدود ومجرد أن وصل الشاويش إدريس شاهدت عرابي يقف ويفرد رقبته على إمتدادها مخرجا صوتاً مميزاً إسترعى إنتباهه فأقبل مسرعا ً حيث رفع عرابي قدمه المصابه لأعلى كي يشاهدها إدريس ؛ جلس إدريس على ركبتيه وهدهد على المكان المصاب ؛ ثم نظر إلىّ متسائلاً عما حدث فأخبرته وأحضرت له قطعة السلك فشكرني وقال معلقاً: ليه مطهرتش مكان الجرح؟" ثم أسرع وأحضر صندوقا من الخشب وأخذ يقلب فيه حتى أخرج جسم بيضاوي يشبه ثمرة الدوم أو البطاطس الصغيرة؛ وضع بداخل تلك الثمرة مقدمة السونكي فشاهدت سائل مثل اللبن يخرج منها؛ فك وثاق الجمل ؛ خلال هذا كنت أقدم إليه يد المساعدة ، وضع بعض قطرات من هذا السائل على مكان الإصابة ، حدثني أثناء ذلك قائلا:ً ده اسمه "بيض الجمل" اللي يعالج ويطهر الجروح لأي حد ، جمل أو إنسان ، ودلوجتى الألم راح من رجل الجمل ، بالفعل شاهدت علامات الراحة على وجه عرابي حيث سار في إتجاه الطعام وتناوله بهدوء ؛ طلب منى إدريس أن أقوم بهذا العمل مع عرابي لمدة يومين آخرين.

     تلك الحادثة جعلتني أسأل إدريس كل يوم عن نوع جديد من الأعشاب وصفاتها وقدرتها على معالجة الأمراض رغم أنني أعلم بأنها أسابيع قليلة وأغادر هذا المكان عائدا ًإلى أنشاص حيث أسرتي وأحبائي والخيول الجميلة التى عشت معها وتعلمت منها والبعض تربي على يدى ، بل كانت تشم رائحتي فتقبل مسرعة حين تشاهدني أقترب من الإسطبل.

 

 

 

أول إجازة بعد التجنيد

     بعد ُمضي أسبوعين على إنضمامي لفصيلة سلاح حرس الحدود شعرت بتآلف بيني وبين تلك الحيوانات ؛ فقد شعرت الجمال بأننى الخادم المعين لراحتهم ، مضى على وجودي بسلاح الحدود خمسة أسابيع وسوف أمنح أجازة أربعة أيام وتعتبر الأجازة الأولى لي ، طلبت من الشاويش إدريس أن يزيد مدة الأجازة لأنني سوف أسافر مرسى مطروح لإعداد كشف العائلة ، صمت قليلاً وتحدث مع زملائه بنفس اللغة الغريبة التى لا أعلم عنها أى شئ ، كان الحديث طويلا والجميع يتحدثون فى وقت واحد وكل يوجه للآخر إشارات باليد ويقرب يده من رأسه كأن هذا الكلام لا يدخل العقل أو شئ من هذا ، بعد هذا النقاش الطويل توقف الحديث وإبتسم إدريس قائلاً:

ـ وافجت على منحك يومين يا صابرا ولا تعوج أو تتأخر لأن المعاد معاد، باكر حتركب الجمل مع دوريه العريش وتركب من هناك الجطر يوصلك على مصر وتخلص ورجك وتعود بسلامة الله ، تحدث باقى الزملاء بنفس الأسلوب السابق وأنا جالس لا أعلم ما يقولون.

     صباح اليوم التالي ركبت الجمل برفقة  دوريه الحدود التى تقطع سيناء من الجنوب إلى الشمال ، أيضاً  هناك دوريه أخرى قادمة من الشمال إلى الجنوب وتلك الدوريات تسير على مدقات ومسارات خاصة محددة لا أعرفها ؛ بل وأجهلها لعدم خبرتي بتلك الأماكن لكن من الواضح أنهم يفهمون عملهم ويتفانون فيه ولديهم صبر وصلابة لا مثيل لها.

    بعد ُمضي ثلاثة أيام وصلت إلى محطة العريش حيث قطار السكة الحديد كان القطار رابضا ينتظر الأمر بالتحرك صباح الغد ، جلست بصحبة الدورية قريبا من المحطة وأخرج الرجال من أحمال أحد الجمال الطعام والشراب وجلست أتناوله معهم وأنا أسمع ولا أفهم ، طلبت من أحدهم أن يعلمني ما يقولون ، نظر إلى زملائه وأشار إلىّ بما يعنى أنه مجنون وظل هذا الحوار أكثر من نصف ساعة حتى كدت أن أقول لهم لا أرغب أن أفهم شيئا فقد حدث لي هوس من كثرة الكلام وسرعته وتداخل أصواتهم مع بعضهم البعض.

   بعد هذا النقاش الطويل شعرت برغبة قوية للنوم ، خلدت لنوم هادئ حتى أيقظني أحدهم صباحا لينبهني بأن القطار سوف يتحرك بعد عشر دقائق ، أعاد قائد الدورية حديثه لي بأنه من الواجب علىّ العودة فى اليوم المحدد وأظل بجوار المحطة وسوف أجد دوريه تنتظرني وأعود معهم إلى المعسكر، صافحتهم وبدت البشاشة على الوجوه وكل واحد منهم يدعو لي بأن أوفق فى مهمتي وأنهى أوراقي وأعود لأسرتي.

      خلال الأربعين يوما الماضية منذ إنضمامي لوحدة حرس الحدود كنت أشعر بتعاون وتعاطف الجميع معي ؛ حيث إنني الأصغر عمرا نظرا لأنهم جميعا من أصحاب الأعمار الكبيرة عنى ، فلا يقل عمر أي واحد منهم عن ثلاثة وثلاثين عاما بينما يبلغ إدريس سبعة وثلاثين عاما ، جلست بالقطار وأنا أفكر فيم أنا مقبل عليه وكيف أستفيد من الوقت المسموح لي بأن أتوجه لـ أنشاص لزيارة أسرتي بعدها أتوجه إلى مطروح لإعداد الأوراق وأهمها بالطبع شهادة وفاة والدي.

     كنت فى حيرة ؛ فالسفر من أنشاص إلى مطروح يحتاج يومين والعودة يومين ومكتب الصحة يحتاج يومين وعودتي إلى العريش تحتاج يوما .. مجمل الأيام سبعة أيام بينما الأجازة ستة أيام ؛ وصلت لمنزل أسرتي أرتدي البدله العسكرية وحينما شاهدتني أمي أطلقت عدة زغاريد وقامت على  رقيي ؛ حيث أخبرتنى بأننى أصبحت وسيما وعليا القيمة وشبه أولاد الذوات؛ أقبلت شقيقاتي وكل واحدة منهن حصلت على بعض من حقها لحب الشقيق الوحيد، أمضيت نصف الليل أتحدث مع أسرتي وأوضح لهن ما أنا مقبل عليه ، صمتت أمي قليلاً وقالت لماذا لا تتوجه لمكتب الدكتور عبدالحميد السيوي بالقاهرة ؛ هو القادر على مساعدتك ؛ حيث يتقلد منصباً هاماً بوزارة الصحة ، كانت الفكرة جديدة ورائعة ولكن كيف لي بعنوان الدكتور عبدالحميد؟

     صباح اليوم التالي إلتقيت بعمى صديق رئيسي بالعمل وبعد حديث طيب عرضت عليه مشكلتي ورأى والدتي فأيدني فى هذا وأخبرته بعدم معرفة عنوان الدكتور عبدالحميد أو من أين أحصل على عنوان مكتبه ، صمت قليلاً ثم قال أنه يعتقد بأن العنوان لديه وقد تركته ابنته ريهام حينما حضرت منذ شهر وعلمت بأنك تؤدى الخدمة العسكرية.

     أنشرح صدري فقد يسر الله لي أمرى وحلت عقدة اللقاء بالدكتور عبدالحميد ؛ فقد تركت ريهام العنوان كي أخبرها عن حالي وأطمئنها على وضعي ، عاد عم صديق بعد قليل ومعه ورقة صغيرة مطوية ناولها لي قائلاً: هذا هو عنوان بيت الدكتور ورقم التليفون ، قدمت له الشكر الجزيل وأسرعت لمكتب العزبة وإلتقيت ببعض العاملين وبعد قليل هل علينا رضوان باشا الذي رحب بى ؛ طلبت منه بحياء بإمكانية الإتصال بالدكتور عبدالحميد فطلب من ناظر العزبة تلبية حاجتي.

    أسمع رنين التليفون ثم صوت نسائي يسأل عن المتصل ، كانت السيدة حرمه وعرفتها بنفسي فهتفت "حمد الله بالسلامة "وبعض عبارات مماثلة ، سألتها عن الدكتور وأخبرتني أنه بالعمل وقدمت لي رقم تليفون مكتبه ، إتصلت به وبعد أن إستوعب مَن أكون رحب بى وعرضت عليه مشكلتي ؛ طلب منى أن أقوم بإملائه اسـم والدي بالكامل وأسماء أشقائي ووالدتي وأعمارهن.

     طلب منى الدكتور عبدالحميد أن أقوم على زيارته بالمكتب غداً فى الصباح ، شكرته على هذا ، صباح اليوم التالي توجهت لوزارة الصحة وسألت عن مكتب المتابعة الذى يعمل به الدكتور ، هناك إستقبلني الدكتور أحسن إستقبال وشاهدت أوراق كشف العيلة أمامه ومختومة بختم النسر ، طلب منى أن أوقع عليها كصاحب المصلحة .. جلسنا نتحدث بعض الوقت ثم قال: اليوم تتناول الطعام مع أسرتي ظهراً ؛ سرت برفقته إلى شقته الفاخرة بحى الدقي تحملنا سيارة الوزارة ، إستقبلتني أسرته أحسن إستقبال وجلست معه بعض الوقت ثم أقبلت ريهام فرحة سعيدة وبعيداً عن عيون الآخرين ناولتني مظروفا طلبت منى عدم قراءته إلا بعد وصولي للوحدة التى أعمل بها حتى لا أنشغل بأي شئ آخر ، أضافت معلقة: بصراحة ح تلاقى الجواب فيه حاجات غريبة وح تقول ريهام بقت جريئة لكن الحقيقة المشاعر هيا اللى كتبت الجواب .. جوابي سـر وأنا موقعتش عليه.

     إنتهى يوم جميل وأثناء عودتي فى طريقي لأسرتي كنت أحمل كشف العائلة الذى لولا وجود الدكتور عبدالحميد الذى سخره الله لي ما كنت قد إنتهيت منه ؛ كما تمتعت بحديث ولقاء ريهام وطعام شهى لأقصى درجة ، أمضيت ليلتي فى حالة من السعادة ؛ من الواجب علىّ في الصباح الباكر أن أتوجه لمنطقة تجنيد التل الكبير وأتقدم بتلك المستندات ؛ بعدها أستقل القطار من التل الكبير مرورا بالإسماعيلية ونهايته مدينة العريش ؛ حيث سأصل فى موعدي تماما.

      أنهيت ما كنت قادما لإنجازه وسلمت كشف العائلة بالمكتب المختص بمنطقة تجنيد التل الكبير ، ركبت القطار حتى الإسماعيلية ومن هناك ركبت القطار المتجه للعريش ؛ أقترب القطار من محطة العريش للسكة الحديد وكنت خلال الساعات الطويلة أثناء السفر أشعر بوجود كنز معنوي بداخل سترة الافرول ؛ خطاب ريهام ، كنت أتساءل عما يحويه هذا الخطاب ولم أجد الرد المناسب حيث كنت أفكر بأنها تشد من أزرى وتدفع بى لمواصلة العلم حيث إبتسمت لي فى آخر لقاء معلقة بأنه لو تم دخولي الجامعة سوف أحصل منها على مكافأة سخية مما أشاع الضيق بصدري بأنها تتعامل معي معاملة الغنى للفقير.

     ضاقت رأسي الأفكار وبالأخص المثيرة للأرق ، فقد إلتقيت بعلاء بك هذا الشاب الذى أصبح يعاملنى بتواضع جم لا يتفق مع ما عاملنى به فى أول لقاء وذلك بعد عودتي من القاهرة وحين علم بأنني كنت فى ضيافة الدكتور عبدالحميد سألني والخجل يغلفه ؛ هل شاهدت ريهام فإنبريت أخبره بكل ما حدث بإستثناء الخطاب التى سلمته لي ، أعاد بعض أسئلة لم أنتبه إليها فى حينها ؛ أسئلة تدور عن أحوالها الصحية وهل كانت سعيدة وترتدي ملابس ُمبهجة وأنيقة وهل لاحظت فتنتها وجمالها وذكائها.

    كل تلك الأسئلة والإستفسارات لم أتفهم معنى لها ؛ أثناء أن هممت بوداعه شد على يدى قائلاً: في إجازتك القادمة سوف تسمع أخبارا تسرك عما سألتك عنه من معلومات ، بعد أن إفترقت عنه ظللت أتساءل: ماذا يقصد؟ قلت فى نفسي الأجازة القادمة تنتهي فترة التجنيد وأعود كي أستكمل دراسة السنة المتبقية بعدها ألتحق بالجامعة وأتمكن من مشاهدة ريهام ومشاهدة القاهرة الجميلة.

   بعد وصولي إلى محطة العريش حضرت دوريه الحدود كعادتها وإستقبلوني إستقبالاً طيباً وحدث بينهم حوار متداخل بالأصوات بنفس اللغة الغريبة عنى ؛ إبتسم لي أحدهم ليخبرني بأنهم يقولون لي إن صحتك طيبة!!

     وصلت إلى الموقع وقدمت تمام وصولي للشاويش إدريس الذى تحدث كثيراً مثل زملائه ثم ناولني الكارنيه العسكري والأقراص الفبر والتى تكتب عليها بيانات كل جندي أو ضابط وعلق على هذا قائلاً: علىّ أن أضع الكارنيه بكيس بلاستيك خشية البلل حيث كان مكتوبا بالحبر الشينى دون تغليف.

    لم أستطع فض الخطاب ؛ حيث بلغ بى الإرهاق مداه ، قلت الصباح رباح ، جاء الصباح وأمرني الشاويش إدريس بأن أخرج مع دوريه لمطاردة مهربي المخدرات على خليج السويس ، سبب لي هذا الضيق وتساءلت بداخلي: مالي ومال المطاردة؟ فأنا جندي مؤقت وسوف أترككم بعد شهر ونصف على أكثر تقدير كما أخبروني بالتل الكبير حتى تتم المراجعة وإبلاغ الإدارات المسئولة عن الإعفاء النهائي الذى سوف أحصل عليه ، فأنا الذكر الوحيد العائل لأمه وإخوته لأب توفى.

    اليوم التالي طلب إدريس من قائد دورية الغد أن يلحقني بها للتدريب حتى يحين موعد وصول شهادة الإعفاء من الخدمة العسكرية ، لم أستطع رد الأمر وخرجت مرغما وأثناء الطريق حدثني البعض عن معلومات وتوجيهات يجب إتباعها أثناء المطاردة أو فى حالة الاشتباك مع المهربين بإطلاق الرصاص ، اليوم التالي وصلنا لمنطقة المهربين المحددة ولم نعثر على أي أحد منهم ؛ إقتفينا الأثر ودخلنا فى دروب وممرات جبلية غاية فى الوعورة والصعوبة حتى شاهدناهم فى نهاية الممر وتبين لنا أنهم تخلصوا من البضاعة.

    أخذنا طريق العودة ومازال الطريق صعبا وقد أجهد هذا كل من الرجال والجمال بسبب الصخور والتواء الممرات حيث قال أحدهم إنه من الصعب التعرف على هذه الطرق بل يوجد العديد من الدروب لا يعلم عنها أحد سوى المهربين أنفسهم ، قطعنا مسافة عشرين كيلومترا بالتقريب فى أربع ساعات وهو زمن كبير بالمقارنة بالسير فى الرمال ، كانت هذه أول تجربة لي وأشاد الرجال بى حين وصولنا وأخبروا الشاويش إدريس بأننى قادر على معاونتهم بالدوريات ؛ ضحك إدريس وأخبرهم بأنه ضيف عليهم عدة أسابيع بعدها يعود لأهله.

  إستغرق وجودي بتلك الدورية ثلاثة أيام والآن مضت أربعة أيام منذ عودتي من الإجازة لم أستطع قراءة الخطاب ، صباح اليوم الخامس طلب منى الشاويش إدريس رعاية الجمال لأنهم جميعا سوف يغادرون الموقع وسيعودون قبل حلول الظلام ، غادر الرجال الموقع ووضعت العشب والعليق أمام الجمال وإنهمكت الجمال فى تناول طعامها بينما جلست مستندا بظهري على جانب أحد الجمال الذي ظل باركا وأصبح كالمسند والحائط ، فضضت الغلاف وشاهدت خطاب سيهام.

    كان الخطاب نصف صفحة ، قرأته على عجل ثم أعدت قراءته عدة مرات حتى أستوعب ما تخبرني به ، بدأت خطابها بأيام المرحلة الابتدائية ثم إنقطاع الوصل عدة سنوات حتى شاهدتني على شاطئ مطروح أقوم على تأجير الكراسي والشماسي للمصطافين وشعورها بسعادة غامرة وهى تشاهد تقدمي فى الدراسة حتى لم يتبق غير هذا العام وأحصل على الثانوية العامة وألتحق بالجامعة.

     كل ما قرأته ليس به جديد لكن السطرين الأخيرين كان بهما كل جديد وسعيد ؛ لقد إعترفت بحبها لي ولهذا تشجعت وكتبته بدلا من أن تقوله جهرا وهى تمنى نفسها بعد أن أنتهي من دراستي الجامعية أن يزيد إرتباط كل منا بالآخر وكل ما تخشاه هو علاء ابن رضوان باشا حيث قامت أسرته بزيارتهم عدة مرات وأنهم يلوحون برغبته بالتقدم إليها وهى لا تكرهه لكن قلبها شغل بصديق الطفولة وأنت تعرفه!!

    جلست قليلا أستوعب الخطاب ، لقد كان الخطاب جميلا حزينا فى نفس الوقت ، كان جمال الخطاب فى إمتداد صداقة الطفولة وتنامى الحب بيننا بل أنها تتذكر حادث الحصان الذي جمح بها وكاد أن يؤدى بحياتها لولا إنقاذي لها لكانت فى عداد الأموات ؛ لكن هذا المنافس القوى علاء بك هو ابن باشا وهو شاب وسيم وقد تخرج من الجامعة ويعمل محاميا بمكتب والده ، أين أنا منه؟ لكن حب ريهام كان أقوى من مميزات علاء.

    وضعت الخطاب مع الكارنيه العسكري مع أقراص الفبر بكيس صغير أعطاه لي الأمباشي عثمان الطيب ، جلست أفكر ولم يصل تفكيري لأي شئ مفيد ؛ أصبحت مشغول البال ومعلق بين السماء والأرض فلقد شجعت كلمات الحب قلبي وتأكد لي أنها شعرت بعاطفتي نحوها لكن ماذا أفعل أمام علاء بك وهو صاحب أفضال علىّ ويحبني كما أنه قدم لي الكثير من المساعدة.

***

       بعد عدة أيام حضر مندوب الفوج من منطقة بئر العبد على ساحل البحر الأبيض بعد أن قطع مسافة تزيد عن 300 كيلومتر حاملا ً التعليمات وبعض الأدوية الخفيفة ؛ كما أقبلت دورية الشمال يقودها العريف أبو بكر ومعه جنديان ، بعد أن تحدث مع الشاويش إدريس بعض الوقت حيث كنا نشاهدهما على بعد خمسين مترا ، شاهدت الحيرة والربكة على وجه إدريس الذي أقبل يسير ببطيء حتى وقف أمامنا وأظهر الظرف الأصفر الذي كان يحمله العريف أبو بكر ، تحدث إدريس قائلاً:

   أيها الرجال ، أخبركم بما وصلنا مع أبو بكر ، لقد تم رفع درجة الإستعداد للحالة القصوى وأعلنت الطوارئ بالجيش المصري منذ عدة أيام ، كل فرد فينا ينتبه إلى جمله وسلاحه والمعدات التى بحوزته ، الخدمات الليلية عليها أن تدقق النظر وترهف السمع لإحتمال تعرضنا لدورية معاديه من العدو على غرار ما حدث منذ عشر سنوات عام 1956 ، لقد كان نصفكم على الأقل يخدم معي هنا ، علينا الإنتباه واليقظة ، الله الموفق.

    بتلك الكلمات القليلة القاطعة تحدث قائدنا الشاويش إدريس ، لم أكن أعلم معنى الكثير مما قاله ، ما معنى رفع درجات الإستعداد وحالة الطوارئ ، إقتربت من أحد الجنود أستوضح منه معنى تلك الجمل ، أفادني بإحتمال نشوب حرب بين مصر وإسرائيل ، إرتعدت فرائصي وشعر الجندي بذلك وانتقل نفس الشعور إلى بعض الجنود المتواجدين قريبا منا ، طيب أحدهم من خاطرى وبأنني لن أحضر تلك الحرب إذا نشبت لأنك معاف وشهادة إعفائك من الخدمة العسكرية سوف تصل خلال أسبوعين على الأكثر كما أخبرنا العريف أبو بكر ، كما علق آخر بأن صابرا "جاهل فى العمر" ويخشي الحرب ، البعض ضحك من رد فعلى والبعض علل ما حدث لصغر السن.                                                            

     وصل لانش السواحل بخليج السويس كالعادة وتوجه إليه بعض رجال الفصيلة لإحضار المؤن من الدقيق والحبوب والسكر والشاي والسولار المستخدم لموقد طهي الطعام بالإضافة إلى الدريس والشعير المخصص كعلف للجمال والتى كانت تحتاج للعديد من الجمال لحملها ؛ كما علموا بتلك التطورات من زملائهم باللانش كما أضيفت إلى المؤن ذخائر للأسلحة وعدد من نظارات الميدان للمراقبة بالإضافة إلى كتالوج لكيفية التعرف على الطائرات المعادية والدبابات الإسرائيلية ونوعية القوات المحتمل القتال معها وبالأخص جنود الناحال أي القوات غير النظامية بالجيش الإسرائيلي ؛ كما أخبروا رجال الحدود بأن البندقية القناصة سوف ترسل لهم عن طريق قيادة الفوج مع مندوب.

      اليوم التالي جلسنا جميعا على هيئة نصف دائرة بناء على أوامر الشاويش إدريس ؛ جلس يخاطبنا بما وصل إليه من معلومات وكان الجزء الأكبر منها قد علمناه بالأمس بعد حضور مندوب رئاسة الفوج ؛ أضاف إدريس فى حديثه الواجبات الملقاة على عاتقنا من مراقبة الساحل الشرقي لخليج السويس بالإضافة إلى الواجب المنوط بنا من مهاجمة المهربين وتجار المخدرات بل أضاف واجبا ًآخر بأن نضع رجال البترول بالحقول المجاورة تحت حمايتنا لأن القوة المرافقة لهم من رجال الأمن غير كافية وقليلة العدد وغير مدربة ولا تحمل سلاحا آليا مثل سلاح رجال الحدود.

***

   نشطت الفصيلة للقيام بالمهام الملقاة على عاتقها سواء الروتينية المعتادة من دوريات ومراقبة أو من وضع الإستعداد لقتال العدو فى حالة نشوب الحرب ؛ هدأت نفسى وأحسست بأننى فى حالة من السعادة بما يجرى من حولي ؛ فهذه المـرة الأولى التى أشارك فيها بالإستعداد للحرب ؛ لم يكن يضايقني ويثير قلقي سوى إنتظار شهادة المعاملة أو شهادة الإعفاء من الخدمة العسكرية ، كنت أدعو الله بألا توافق إدارة التجنيد على إعفائي من الخدمة رغم شوقي الشديد لأمي وشقيقاتي ، أيضا لصديقتي العزيزة ريهام والتى أشعر بنبض الحب والشوق تجاهها.

      طلب منى إدريس أن أستمر بالعيش بجوار الجمال فى تلك الأحوال وأن أنتبه إليها رغم أنه وضع حراسة عليها لكن يجب الإحتراز والإنتباه ، حملت أغراضي ونمت على بعد أمتار قليلة من الجمال بعد أن توجهت إلى عرابي "الجمل" الذى سبق وأن عالجت جروحه فشاهدت الهدوء باديا عليه ، إقترب منى بشفاهه الغليظة يمسح على ظهري كأنه يقدم شكره على ما قمت به نحوه ، هدهدت على عنقه الطويل وحاولت تقبيل رأسه المرتفعة فلم أستطع فخفض من إرتفاعها ليساعدني على ذلك ، بعد أن قبلته رفع رأسه عاليا وأصدر صوتا لم يصدر منه من قبل فلاحظت أن باقى الجمال تنظر إلينا ثم أطلقت صيحات مماثلة فأقبل أحد الجنود مصافحا لي مادحا ُحسن التعامل مع تلك المخلوقات المباركة وهذا دفع بقطيع الجمال إلى توجيه الشكر لك معلقا " من النهاردة يا صابرا كل الجمال أصحابك وبجي لك مكانه عنديهم ، خلاص حبوك ووثجوا بيك ، والله أنت ٍولد طيب وابن حلال" غادر المكان وترك السعادة والرضا بنفسي ؛ فردت جسدي على البطانية وأنا مازلت أنظر إلى عرابي وأخوته بينما باقى الجمال مشغولة بطعامها وعرابي ينظر إليّ من حين لآخر.

    كانت دورية الجنوب متجهه إلى القيادة بالشمال قريبا من بحيرة البردويل بمنطقة رمانة ، رغبت بأن أنبههم إلى السؤال عن شهادة الإعفاء من التجنيد إن كانت قد وصلت ولكن لسانى توقف حينما نظر إلىّ أحد الجنود القريبين مني ووضع إصبعه على فمه بما يعني بألا أتحدث ؛ ثم أقبل علىّ يحدثني همساً بأنه من غير اللائق أن أثير هذا الموضوع الذي سوف يتم دون تتبعه نظراً لأن الحديث عنه ونحن ننتظر معركة سوف يجعلك وسط الفصيلة كأنك ضعيف تخشي الحرب وأنت تعلم يا بني أن الجهاد فرض عين أي أن كل من يستطيع أن يقاتل فلابد أن يقاتل دون شهادة إعفاء من التجنيد أو خلافه فليس الجهاد فرض كفاية بأن يقوم البعض بالقتال بالإنابة عن الآخرين ، لا تعود لمثل هذا الحديث.

     تركني متجها إلى جمله كي يعده نظراً لأنه من ضمن أفراد دورية الجنوب المتجهة للشمال ، فكرت فيما صبه فى أذني وشعرت بأن حديثه هام وجاد فى مثل تلك الأوقات ، كيف أهرول وأسرع لترك المكان والحرب على الأبواب ، همدت فكرتي نحو هذا الشأن لكن بعد قليل تذكرت أمي وشقيقتي الصغرى زينب وباقي شقيقاتي ثم هاجمتني ذكرى الحبيبة ريهام ، أصبحت فى حالة من التشتت ما بين الهدوء وإنتظار وصول ما يفيد بأنني معاف لأنني العائل الوحيد لأسرتي وبين أن أعود لعائلتي فى أقرب وقت قبل إندلاع المعارك ؛ جلست حزينا لا أقوى على التفكير ، أقبل علىّ "عرابي" وحك جانب رأسه بكتفي وأنا جالس فكدت أن أفقد إتزاني أثناء جلوسي، نظرت إلى عينيه فشاهدت حزنا وقد كستها سحابة قاتمة ، إعتقدت أن هذا سببه الجرح الذي بقدمه ؛ إقتربت من مكان الجرح وأزلت الرباط فشاهدت أن مكان الجرح على ما يرام وقد إلتأم نسبياً ؛ إذاً لماذا هذا الحزن أيها الصديق العزيز؟ تركته يمضغ العشب وتوجهت لفحص باقى الجمال وقد هالني مشاهدة وملاحظة نفس الحالة التى عليها عرابي ، الحزن والكآبة على الجميع ، أسرعت لأخبر الشاويش إدريس فصمت قليلاً وأشار بيده فوق الرمال بما يعني أن أجلس حيث كان يرقد بجانبه على الأرض.

    صابرا ، الجمل بيفهم وبيشعر أكتر من البني آدم ، الجمال عارفه إنه ح تحصل الحرب وح يموت ناس يامه ومنهم ناس معانا وعشان كده الجمال ظاهر عليها الحزن ، شوف صابرا ؛ رفع حالة الإستعداد بدأت من يوم 14 مايو الشهر الحالي وإحنا اليوم 29 فى الشهر يعنى عدى 15 يوم وطبعا لما الأوامر بتوصل لنا بتكون متأخرة لطول المسافة وأنت شايف حالنا لا تليفون ولا جهاز لاسلكي ، يعنى إحنا زى المسلمين الأوائل بناخد الأوامر من ورجه ترسل لنا ، الحرب جربت وده عرف الإسرائيليين إنهم يجوموا حرب كل شويه ، ربنا خلجهم كده وده وارد نص عليه فى كتاب الله القرآن الكريم، إطمن صابرا وقل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا ، لو جامت حرب ح تشوف الرجالة اللي معانا بتحارب كيف الأسود ، إطمن إحنا منخافش من حد واصل صابرا ، روح دلوجتى على مكان نومتك ريح الجمال وعينك مفنجله وودانك مزنهره لأى مفاجئ وأنا جريب منك وحوالينا تمن رجاله بسلاحهم واخدين أماكن مراجبه وفتح نار.

     هكذا تركت محل راحة الشاويش إدريس وعدت إلى الجمال أهدهد على كل جمل بهدوء ؛ حيث كنت أتلوا بعض سور من القرآن الكريم وأنا أسير بينهم مما دفع بالبعض منهم إلى إصدار أصوات أعتقد أنها طيبة لأنها مشابهه لما أصدره عرابي منذ ساعة تقريبا مما دفع بالشاويش إدريس إلى الضحك بصوت عال مرددا ، والله عملك طيب يا صابرا ، ربنا ح يكرمك معانا.

     مضت عدة أيام كنا خلالها ننفذ تعليمات الشاويش إدريس بتجميع المؤن من المياه والحشائش للجمال كما عادت دورية الشمال بقيادة العريف أبو بكر وكانت آخر التعليمات التي حملتها ألا تعود أي دورية للشمال إلا بعد أن ترسل لنا القيادة بدورية المؤن والمعدات وبآخر التعليمات أما الواجب المكلفين به فيجب علينا تنفيذه وأن نسير على خطة العمل الخاصة بفوج الحدود من مقاومة التسلل إلى أرض الوطن أو التهريب وخاصة المخدرات يضاف إليها  مقاومة العدو فى محيط منطقة العمل.

***

     هذا يوم كئيب فى حياتي فلقد نهضت من نومي مذعورا على أصوات إنفجارات قريبة منا وأكد كل من حولي إنها آتيه من ناحية آبار شركات البترول وعللوا هذا بإحتمال حدوث خطأ فني أدى إلى هذه الإنفجارات المتتالية ، لم نظل على هذا الوضع كثيرا إذ شاهدنا بعض طائرات قريبة منا تقوم بإغارة على موقع لقوات المظلات القريبة منا والتى أقبلت منذ أسبوعين بعد رفع حالة الطوارئ ؛ أعلن إدريس أن الحرب قد بدأت وسوف نظل متمسكين بمواقعنا وعلى الأعداء أن يأتوا ليلقوا الهزيمة على أيدى رجالي  هلل الرجال وخرجت منهم الصيحات المشجعة وسرت على نهجهم ومضت الأيام بطيئة ولم نعد نشاهد إنفجارات أو أي شيء ينبئ عن قتال ، كما أن إحدى الدوريات التى أرسلت بالأمس أخبرت الشاويش إدريس بأن شاهدوا مواقع شركات البترول القريبة من موقعنا مغلقة ولا توجد به قوات حراسه من الشرطة أو أى من العاملين.

    تلك المعلومة أعطت إدريس إنطباعا بأن الحكومة أصدرت أوامر للجهات المدنية بمغادرة مواقع عملهم خشية على أرواحهم من الإصابة أثناء العمليات ولهذا كلف إثنين من رجال الفصيلة بالتوجه إلى قيادة الفوج قريبا من رمانة على ساحل البحر الأبيض كي ينقلوا تلك المعلومة إلى القيادة وأيضا إحضار مرتبات الفصيلة التى لم تصل وقد تعدى التاريخ نصف شهر يونيو ؛ أيضا معرفة آخر الأخبار وهل ستظل حالة الطوارئ سارية أو إنها قد إنتهت ، وهل ستعود الحياة إلى طبيعتها خاصة أن بعض رجال الفصيلة تعدى موعد حصولهم على الأجازة خمسة عشر يوما كما لم تصل دورية الشمال إلى الفصيلة وكانت آخر دورية قد وصلت يوم 28 مايو أي الشهر السابق.

      مازالت الفصيلة على حالها من النشاط ومراقبة المنطقة ومتابعة المهربين الذين تلاحظ قلة نشاطهم وقد أوكل الشاويش إدريس هذا لحالة الطوارئ والحرب المنتظره ، لكن ما آثار ضيق الشاويش إدريس هو آخر جمل عهدة وصل إلينا منذ ثلاثة أشهر وتبين أن هذا الجمل الشاب لم تتم له عملية الاخصاء وبالتالي فهو عنيف ويبحث عن أنثي يقوم على إخصابها وهذا غير متوفر فى الفصيلة حيث أن جميع الجمال ذكور تمت عملية الاخصاء لهم منذ فترة ، طلب منى إدريس أن أسهر على راحة الجمل الشاب وأن أطلق عليه اسما ينفرد به عن الآخرين ، فكرت بعض الوقت ولم أجد اسما يناسب عنفوانه وتمرده سوى "أمشـير " نسبة إلى شهر أمشير كثير العواصف الرملية والتى كانت تسبب لنا أبناء مطروح الضيق والتوتر.

    من حين لآخر كنت أهدهد على " أمشـير " وأقدم له الطعام وفى نفس الوقت كنت أخشي أن يهاجمني ويعضني بأسنانه القوية نظرا لحالته العصبية المتفردة دون باقى الجمال ، طلب منى الشاويش إدريس إضافة ُعشب ورقة مريم إلى طعام الجمل أمشير كي تهدأ حالته الجنسية ، بالبحث فى عبوات الحشائش التى يحتفظ بها لم أعثر على هذا النوع وأخبرني أحد جنود الحدود بأن هذا العشب غير متوافر لديهم نظرا لأن جميع الجمال تم خصيها وبالتالي فهم ليسوا فى إحتياج لهذا العشب وما علىّ سوى البحث عن عشب ورقة مريم بالوادي الأبيض القريب من موقع الفصيلة ولا يبعد عنا سوى خمسين كيلومتر تقريبا ، أوضح لي شكل وحجم العشب كما أوصاني بالحذر حين محاولة أخذ بعضا منه وعلىّ التأكد بعدم وجود أفاعي أو عقارب أو حشرات ضارة "بكدي" الحشائش.

      أخبرت الشاويش إدريس بهذا الأمر وركبت أحد الجمال الهادئه وهو جمل عجوز ولقبه "هادى" وكان اسما على مسمى ، وصلت إلى الوادي في اليوم التالي ورغم أن هذه هى المرة الأولى التى أتوجه إلى الوادي وأتحرك منفردا دون عون الآخرين الأكثر منى خبرة واشد منى قوة جسمانية إلا أن وصف زميلي جندي الحدود كان دقيقا ، تفحصت الحشائش حتى عثرت على النوع المطلوب ، بالعصا التى معي إختبرت أسفل "الكودية" وتأكدت بعدم وجودكائنات ضارة وبالتالي قطعت الكثير من الأوراق كي أقدمها لهذا الشاب الثائر " أمشــير " ، قفلت عائدا بصحبة الهادي ، لقد ضللت طريق العودة ولهذا لم أوجه الجمل وتركته يسير حتى وصل إلى موقع الفصيلة ، قبل الوصول لموقع الفصيلة غلبني النوم ولم أشعر إلا حين قام بعض زملائي بعملية التنخيخ "تبريك" الجمل فإنتبهت وسمعت تهليل الجميع لجرأتي والتوفيق بعودتي.

     طلب منى إدريس ألا أكثر من كمية أوراق مريم التى سيتناولها        " أمشـير " حتى لا تسبب له الضرر ؛ وما علىّ سوى وضع كمية من هذه الأوراق فى حجم كف يد الإنسان وأخلطها بالدريس وتتم تلك العملية مرة واحدة أسبوعيا ، نفذت تعليمات إدريس وبعد ُمضي يومين على تناول        " أمشـير " تلك الأوراق هدأت حالته وأصبحت لا أخشاه وأصبح وديعا مثل باقى الجمال.

مازال وضعنا كما هو ، التدريب والدوريات القريبة وتخزين الأطعمة وأعلاف الجمال ومياه الشرب ، اليقظة والحذر ، كانت الساعات والأيام تمضي ثقيلة ؛ فقد إنقطعت عنا خطوط الإتصال مع القيادة بالإضافة إلى ُسبل الإعاشة من الطعام وهذا هو مُنتصف شهر يونيو من عام 1967 ولم تصل المرتبات للقوة كما لم تصل أي معلومات عن كيفية نزول الأجازات التى توقفت بسببه حالة رفع درجات الإستعداد.

 


 

كيف علمنا بقيام الحرب؟

       مضي أسبوعان منذ تحرك دورية الحدود المتجهة إلى قيادة الفوج ، لم تعد الدورية حتى الآن ويعتبر هذا وقت طويل ، أزعج هذا كل زملائي جنود الفصيلة ولكن الذى كان أكثر إنزعاجا هو الشاويش إدريس الذي تردد فى أن يرسل بدورية أخرى أو ينتظر ، بعد مشاورات بينه وبين باقى زملائه والتى لم أفهم منها كلمة واحدة ؛ قرر إدريس الإنتظار ثلاثة أيام أخري قبل أن يرسل بدورية للبحث عن الدورية الأولي.

      ظهر اليوم التالي أقبل رجال الدورية الأولي بين سعادة الجميع والتهنئة على سلامة الوصول ، جلس الرجال وأخبرونا بما حدث وتبين لنا أن بعض دوريات الجيش الإسرائيلي تتواجد بوادي القبقاب وأن الحرب مازالت مشتعلة ولهذا ظلوا مختبئين حتى لا يشاهدهم الإسرائيليون وكانوا يتحركون ليلا بعيداً عن الطائرات العمودية المنتشرة بالصحراء.

     زادت الأمور وضوحا الآن وتبين لنا أننا أصبحنا معزولين عن قيادة الفوج بالشمال وأننا لن نتسلم أي تعليمات بعد الآن وما علينا سوى الإعتماد على أنفسنا من طعام وشراب وإطعام الجمال وأيضا لن تصل إلينا الرواتب الشهرية وبالتالي سوف تفقد عائلاتنا الدعم المالي الذى نرسل به كي يساعدهم على المعيشة ، ظل الإجتماع قائما بين رجال الفصيلة وكان الهدف الأكبر أمامنا كيف نفتح ثغرة نمر من خلالها إلى قيادة الفوج بالشمال ، كانت الآراء كثيرة ولكن الشاويش إدريس كان هادئ البال حيث أخبر الجميع بأن هناك شيئا لا نعلم عنه أية معلومات ، لقد مضي موعد إرسال الإمدادات من خليج السويس عبر البحر والتي توقفت أيضا ، تساءل إدريس: ماذا يدور خارج منطقتنا ونحن لا نعلم عنه شيئا وأصبحنا نهاية شهر يونيو؟

     تمنى الرجال بأن لو أن مع أحد منا "راديو" لكنا قد علمنا ماالذى يدور بالعالم ولكننا قد أصبحنا فى عزلة تامة فى هذا المكان ، كان قرار الشاويش إدريس إتباع نفس منهج العمل والإستمرار فيه وعلى الجمال أن تحصل على طعامها من البراري مثل جمال الرعي وأن نقتصد نحن فى الطعام أما الماء فهو متوفر من حولنا وما أكثر مياه الآبار التى فجرها الله لقوم موسي.

***

     تعدى الوقت منتصف شهر يوليو وإذا بإحدى دوريات فصيلتنا تلقى القبض على بعض مهربي المخدرات وأحضروهم إلى الشاويش إدريس الذى هلل بمقدمهم ينبئهم بأشد العواقب ، كان من بين المقبوض عليهم زعيم تلك العصابة ويدعى حمــدان أبو رمح ، بإبتسامة صفراء أجاب حمدان على تهكم إدريس متسائلاً: ماذا أنت فاعل بنا؟ أجابه سوف أسلمك إلى قيادة فوج الحدود بالشمال أنت وعصابتك ، ضحك الرجل وقال بهدوء: إسمع منى يا إدريس ، لقد هزم جيشنا وتفتت ومن بقي أسرع بالهرب إلى مدن القنال حيث وصلت أوامر للجيش بهذا، وإحتل الجيش الإسرائيلي كل سيناء ، لقد تفتت كل شيء وأصبحت المنطقة خراباً منذ خمسين يوما أو يزيد.

  أصابت الدهشة إدريس من هذا الخبر مثلما أصابتنا أيضاً وساورنا إعتقاد بأن الرجل يكذب ؛ شعر حمدان بأننا لا نصدقه ولهذا أخرج من جيب

جلبابه راديو ترانزستور صغير وفتح زر التشغيل وظللنا نستمع لإذاعة القاهرة ؛ أقبلت نشرة أخبار الساعة الثانية والنصف ومن بين ثنايا النشرة علمنا بكل شيء وبالكارثة المطبقة التى حلت بالبلد جميعها وبالخسائر القاتلة التى لحقت بالجيش وتدمير الطيران وإستقالة الرئيس جمال عبد الناصر وعودته تحت ضغط الشعب ، لقد دمرت الأحلام ، بل علمنا أيضاً بما يقوم به أفراد الجيش الإسرائيلى من تصرفات شائنة على الضفة الشرقية لقناة السويس.

     نظر إدريس إلى حمدان وعصابته وطلب من رجاله فك أسرهم ، قدموا إلينا الشكر مشددين على أن المصيبة عمت علينا جميعا ونحن أبناء سيناء سوف نقف ونشد من أزركم حتى ترحلوا تنفيذا لأمر الإنسحاب إلى الضفة الغربية لقناة السويس.

   لم يجبه إدريس وتحرك متثاقلا وتوارى عن أعيننا وجاء رده على ما حدث ببكاء وتشنجات عنيفة وهلوسة قوية خلعت قلوب الرجال الذين يعلمون علم اليقين قوة وشراسة هذا الرجل ، لقد إنكسرت صلابته أمام هول الهزيمة، حاول زملاؤه الإقتراب منه ومواساته والدموع بالأعين تزرف مثل شلال فاض وأغرق من حوله لكن الرجل كان صاماً أذنيه وأغلق عقله وقلبه عن أي نداء.

    هكذا مضت علينا تلك الليلة ؛ لم ننل فيها طعاما ولا شرابا ولا جرعة ماء رغم توفر كل هذا ، إنطلقت أقوم بعملي وأتابع تلك الحيوانات الأليفة ، شاهدت فى عيونهم ما سبق وشاهدته على قائدنا الشاويش إدريس ، عيون تحجرت بالحزن وأصوات الجمال هادرة بألم وقد فتلت بعض الجمال الشفاه  "أي يقوم الجمل بلف شفته العليا والسفلى للخلف جهة الرأس والبعض منهم خرج من فمه شيء يطلق عليه اسـم "القلا" كيس بمبي اللون يحدث به صوتاً مرعباً وهذا الشيء مشابهاً لقلة الماء الخاصة بالشرب ولكنها ذات حجم صغير وفي حجم ثمرة المانجو وهذا فى عرف من يتعاملون مع  الجمال دليل علي الغضب والحزن الكامن مما دفع ببعض الجنود لأن يجذبوني بعيداً عن الجمال خوفا من إفتراسها لي ولهم.

   تركنا الجمال على حالها وإدريس أيضا على حاله ، تسربت الجمال فرادا وقطعانا تاركة المكان وأصبح علينا الصباح والمنطقة كأنها مقبرة أسفل سفح الجبل الذي نعيش بجواره ، مضى نصف النهار ثم شاهدت الجمل عرابي قادما فى إتجاهي بأقصى سرعة ، هرب الرجال خشية أن يفترسهم وطلبوا منى الإسراع بالإختباء خلف الصخور ولكنى تكاسلت حتى وصل إليّ عرابي وصرخ صرخة مدوية وألقى بجسده أرضا جانبي يرفس برجليه.

   أسرع الرجال بالعودة ؛ فقد شعروا أن الجمل أصابه شيء خطير والبعض فكر بأن إحدى الحيات الضخمة قد نجحت وعضته وهو يلفظ أنفاسه ، سكن الجمل ومازال قلبه ينبض ويحصل على شهيق بصعوبة ، إقتربت منه أقبله كسابق عهدي ، رفع رأسه وهو مازال على وضعه وصرخ وشعرت بأن إذنى قد أصابها الصمم ، كانت صرخته ونظرته لأعلى كمن يستجير بالله مثل أى إنسان تصيبه مصيبة ، أعاد صرخته وعلى أثرها شاهدت باقى قطيع الجمال مقبلا نحونا وعددهم لا يقل عن أربعين جملا من الجمال ضخمة الحجم ، كان المنظر رهيباً يخيف أي إنسان رغم علاقتنا بهم لكن الوضع كان مؤلما.

   أسرعت الجمال وتوقفت أمام الشاويش إدريس الذى إنتفخت عيناه من البكاء ، نظرت إليه ونظر إليها أقترب جمل منه ويدعى "الـبركة" نخ الجمل لأسفل وبشفتيه الكبيرتان لعق وجه إدريس ، تحركت أشجانه ومشاعره نحو الجمل الذي علمت أنه قضى معه تسع سنوات ، قبل إدريس الجمل فنام الجمل على جانبه وأفرد ساقيه الأماميتين نحو إدريس وجذبه نحوه بحيث وضع رأس إدريس على عنقه كأنه مخدة ووضع حول خصريه ساقيه كأنه يحتضنه ، وقفنا فى شبه ذهول ؛ البعض رفع يديه لله بالدعاء والبعض صمت ووضع يده على قلبه خشية أن يهاجم الجمل إدريس فيقتله فى الحال.

    خرجت رغوة بيضاء من فم الجمل وأعقبها أصوات مختلفة وإدريس يجيبه مرة بالحديث ومرة يهدهد بيده على رقبته ومرة أخرى يخبئ رأسه أسفل رقبته ، مما دفع الجمل إلى الغرغرة مرة أخري حتى صمت إدريس ، نهض الجمل ووضع رقبته لأسفل فإمتطاه إدريس وقام الجمل يلف لفة دائرية بالمكان ونحن نهتف له مرددين صيحة الله أكبر ، أسرع الجمل يتهادى ومازال إدريس جالساً فوقه وقد عاد إليه وقاره وحكمته ، هدهد على رأس البركة طالبا منه أن ينزله أرضاً ، أنصاع إليه الجمل ونخ وهبط إدريس ووقف بيننا متحدثا:

    زملائي ورجالي أبناء جيش مصر ، ماذا نحن فاعلون؟ فقد علمنا أن المصيبة كبيرة والخطب عم البلاد ؛ لقد صدرت إلينا الأوامر بالإنسحاب ونحن جنود ؛ ماذا نحن فاعلون؟ صمت البعض وتحدث البعض بوجوب تنفيذ أمر القيادة ، نزع إدريس سترته العسكرية قائلاً: هذا ردي ؛ لقد أصبحت خارج الجيش لكنني مازلت مصريا ابن مصر ، سوف أظل أقاوم بسيناء ، من أين أنسحب وإلي أين أتجه ، هذا هو وطننا مثل ما بلاد النوبة وأسوان بلدنا الصغير ، أنسحب وأعود لزوجتي وأبنائي لأخبرهم بأننى شبه رجل ولم أستطع أن أحافظ على شرف وطني وجئتك يا زوجتى كي أجلس بالدار أطبخ وأعجن الدقيق وأربي الأبناء وعليك أنتِ وشقيقاتك وبنات القرية الذهاب لملاقاة العدو ، لن يحدث هذا ومن يريد العودة فليعد.

    صمت القوم وكأن على رؤوسهم الطير ؛ فهذا قائدهم الذي يقدرونه حق قدره قد قرر البقاء ، بعد قليل تحدث الرجال وحدث لغط فى الحديث ومازال إدريس متخليا عن سترته العسكرية ويرتدى الشورت والقلشين الذى يغطى ساقيه والحذاء الميرى ؛ كأنه يخبرنا قائلاً : إذا فسوف أترك هذا الزى الذي سوف يؤدى بى لترك أرضى وأهلي بسيناء ؛ تحدث أحمد الطيب الذى كان يؤم المصلين للصلاة طالبا منا جميعا بأن نحذو حذو رسول الله عندما هاجر من مكة إلى المدينة وحدث تنافس بين المسلمين الأنصار أهل المدينة على من يتولى شرف ضيافة رسول الله وترك هذا الأمر لله بأن دفع بالجمل إلى إختيار المكان.

    شملنا شعور عام بالإرتياح لهذا الإقتراح ولم يعارضه أحد ؛ كان السؤال الملح هو كيفية تفهم الجمل لما نريد ، إبتسم أحمد الطيب موضحا ما سبق وتفهمه من أجدادنا المسلمين الأوائل فى عصر الرسول الكريم ، إقترب أحمد الطيب وطلب من الجمل "بركة" أن يشير عليهم هل ننفذ أمر القيادة وننسحب أم نظل بموقعنا نحارب العدو بقدر طاقتنا .. نظر بركة إلينا ثم سار قليلاً مقتربا من بقية جمال القطيع ، ثم تركنا جميعا وأسرع يعدو بالمنطقة ودار من حولنا عدة دورات لا نعلم عددها ثم توقف ورفع رأسه للسماء مثلما فعل عرابي قبل هذا وتلفت يمنه ويسره ثم دار حول نفسه دورة واحدة برك بعدها أرضا وجلس ومد رقبته ورأسه للأمام وظل على هذا الوضع عدة دقائق.

     تحيرنا بعد أن تنفسنا وتركنا حزن الهزيمة جانبا ، تساءل الطيب : بماذا يخبرنا الجمل بعد أن أصبح على هذا الوضع ، أقبل إدريس وأتجه إلى الجمل وقبله ووقف بجوار رأسه وأشار إلى الجهة التى ينظر إليها الجمل قائلاً: نتجه إلى هذا الإتجاه؟ حرك الجمل رأسه لأعلى ولأسفل عدة مرات كأنه يجيب ويؤيد إدريس ، هلل إدريس مكرراً مكبراً "الله أكبر .. الله أكبر" لقد قرر الله وأرسل إلينا برسالته بأن نظل فى هذا الإتجاه .. إتجاه الشرق الذي يعنى إتجاه العدو وليس إتجاه الغرب إتجاه قواتنا التى إنسحبت ، هلل باقى الجنود ، طلب منا أحمد الطيب الوضوء لأداء صلاة الشكر لله على نعمته بأن هدانا ولم نكن لنهتدى لولا أن هدانا الله.       

   هكذا تقرر أن نظل بسيناء بمواقعنا وأن نقاوم العدو ونترك مقاومة مهربي المخدرات حتى نتفرغ للمحتلين ، أصابني هذا القرار بصدمة شديدة؛ لقد دمرت أحلامي وكل الأماني التى كنت أفكر بها بأن تتحقق بالعودة إلى أنشاص والعيش مع أمي وإخوتي ولقاء ريهام التى أكن لها كل حب وأنا أعلم بأنه حب لن يستمر طويلا من ناحيتها ولن يكتب له النجاح بأن نصل إلى نهايته ويكلل بالزواج.

   قام الشاويش إدريس بتوجيهنا ببعض الأمور الإحترازية ومن أهمها عدم مجابهة العدو بقوة كبيرة بل نكتفي بالهجوم على الدوريات ونقاط التفتيش المنعزلة على أن يتم كل هذا ليلا بعيداً عن ضوء الشمس أو خلال الليالي القمرية حتى لا يشاهدنا الأعداء، مع الإلتزام بالسرية والكتمان ووضع الجمال فى أماكن مخفية لحمايتها بحيث تصبح مستترة حتى لا يشاهدها العدو ويطلق عليها النيران ويحرمنا من تلك الوسيلة الهامة للتحرك من مكان لآخر.

    قرر إدريس بأن يرسل بإثنين من الجنود إلى الريس حمدان مهرب المخدرات كي يزودنا بملابس أبناء سيناء تساعدنا على التخفي والتمويه حتى لا يصبح زينا الرسمي مثار ملاحظة سواء من العدو أو من بعض البدو الكارهين لما قمنا به من إعتقال ومقاومة لنشاطهم الإجرامي المنافي للقانون ، أخبرنا إدريس بأنه سبق وهمس بهذا الأمر مع حمدان الذي أيد تلك الفكرة حتى لا نصبح لقمة سائغة أمام من يرغبون بالحصول على المعلومات وإرسالها للمحتلين.

    اليوم الرابع للقرار الذي إتخذ بالمكوث بسيناء ومقاومة المحتل عاد الجنديان بالجمال بعد أن حملها حمدان ورجاله بالكثير من ملابس الأعراب وبعض الإحتياجات من مؤن وخلافه ؛ تبادلنا النظرات بأن يقوم هذا المجرم الخطير بفعل هذا ولكن أحمد الطيب علق قائلاً: هذه هى مصر وتلك أخلاق المصريين الذين يتحدون في الشدائد ويشد بعضهم بعضا ، فنحن أقوياء أمام الخطوب والمحن ولذا فضلنا رسولنا الكريم عن باقى الأمم.

    تم توزيع الجلابيب علي الجميع وقد حصل كل فرد فينا على جلباب بالإضافة إلى جلباب آخر إضافي مع بعض الملابس الأخرى ومناشف وقطع من الصابون والتى تبين أن نصف تلك الأغراض قد سرقت من مخازن الجيش المصري ، تعاون البعض معي كي أقوم بلف غطاء الرأس بالطريقة السليمة.

   رغبت بالإستفسار عن وضعي وهل ستصلني شهادة الإعفاء من الخدمة العسكرية من عدمه، ولكنى تراجعت أمام قوة الرجال وإنهماكهم فى إعداد السلاح كما قام إدريس يعاونه إثنان برسم لوحة علي الأرض توضح طبيعة صحراء سيناء وأهم الهيئات من جبال وهضاب وأودية وطرق موجودة بها؛ كان حجم اللوحة يقارب العشرين مترا فى عشرين متر ؛ كما تعاون جميع الأفراد كل واحد بما يعلمه من أسماء الهيئات والجبال بوضع كل هذا على تلك اللوحة.

     كنت فى دهشة مما يقوم به الرجال وما الغرض من إجهاد النفس لأيام ثلاثة لرسم مثل تلك اللوحة على الأرض ؛ وهل سوف ننظر إليها كل يوم وما سوف يحدث لتلك اللوحة حين هبوب العواصف الرملية أو حين هطول الأمطار ، أيقنت أنهم لا يفكرون بعمق وأنهم يلهون على الرمال مثلما كنت ألهو مع ريهام ونحن أطفال صغار على شاطئ مطروح الساحر مما فتح خزانة الذكريات وبالتالي إندفعت دموع الألم وإبتعدت عنهم مستترا بقطيع الجمال حتى تفيض دموع الحزن والذكريات التى هاجمتني بعيداً عنهم بعد أن أصبحت سجينا فى تلك الصحراء وقد أنقطع وصل الأهل والأحبة بى ولم يعد هناك من مستقبل لإستكمال طريق الدراسة الذي بدأته منذ عدة أعوام بعد أن وفقني الله فيه ولم يتبق على دخولي الجامعة سوي تلك السنة الدراسية ؛ حيث لم أتمكن من تسجيل دخولي بسبب حالة التجنيد وعدم وجودي قريبا من مديرية التربية والتعليم بالشرقية والتى تتبعها بلدتي أنشاص إداريا ؛ فمنذ بداية العام وأنا مجند بالجيش بداخل صحراء سيناء فلم أستطع كتابة إستمارة دخول إمتحان الثانوية العامة نظام منازل.

 

Share
Click to listen highlighted text! Powered By GSpeech