Click to listen highlighted text! Powered By GSpeech
Get Adobe Flash player
مستمرين معاكم بإذن الله 2008-2024 **** #لان_لجيشنا_تاريخ_يستحق_أن_يروي **** ***** إنشروا تاريخنا وشاركونا في معركة الوعي **** تابعونا علي قناة اليوتيوب 1100+ فيديو حتي الان **** تابعونا علي صفحات التواصل الاجتماعي** أشتركوا معنا في رحلاتنا لمناطق حرب أكتوبر **** يرجي استخدام خانة البحث **** *** تابعونا علي تليجرام - انستجرام - تويتر

روايه فهد الليل- الجزء الثاني

 

 

كتبها على لسان أبطالها

أســامة على الصــــادق

.....

الطبعة الأولى .. مارس 2012

الناشر: الكاتب

.....

تصميم الغلاف: ريهام سـهيل

.......

حقوق الطبع محفوظة للكاتب

موبايل: 01227970032

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

 

الدوريات تجوب سيناء

 

    الآن ظهرت الحقيقة واضحة جلية بأن الجيش المصري ُهزم أمام الجيش الإسرائيلي وإنسحبت قواتنا أمام الأعداء ؛ لقد مضى على هذا العمل أكثر من خمسين يوما ؛ ولم نعلم به إلا مصادفة من تاجر المخدرات وعصابته ، لقد كتب الله علينا البقاء بسيناء لمقاومة العدو ، لقد قالها الشاويش إدريس : إلى أين أتجه ولماذا أنسحب؟ هل من المنطق أن أترك أرضي للعدو وأهرب وألجأ إلى منزلي وزوجتي أحتمي بهم ، ومن الذى سوف يقوم بالحرب؟ بل لم يكتف بهذا ؛ لقد ألهم الله الجمل بأن يظهر لنا القرار المناسب الذى تقبله جميع الجنود ولولا هذا لحدث تضارب بينهم وكل واحد منهم قرر أمراً مخالفاً للآخرين.

 

     جلست هامداً بعد أن شعرت بأن مستقبل حياتي أصبح ُمظلماً ، فليس لي جيش كي أخدم به وحتى الآن لم تصل شهادة إنهاء الخدمة العسكرية وأصبحت شبه أسير بسيناء ، لقد تركت أمي وشقيقاتي كما ضاع مستقبلي الدراسي ، وضاع أيضا حبي لصديقتي ريهام ، كل شيء ضاع ولم تعد هناك آمال أو صفحات بيضاء فى مستقبل حياتي وعلىّ أن أتقبل قرار البقاء مع زملائي بالحدود وأن أتبع حياتهم وسيرتهم وألا أشذ عن قراراتهم.

 

    بعد أن إنتهي إدريس وبعض معاونيه من رسم اللوحة التى تمثل سيناء وطبيعتها جلس أمامنا يوضح طبيعة كل منطقة سواء قرأ عنها أو خدم بها ، فالرجل جاب سيناء عدة مرات وله فيها سبعة عشر عاما حفظ خلالها كل دروبها ومسالكها وأماكن المياه والمناطق الهامة والتضاريس الوعرة.

 

   كان الرجل فاهما حاذقا فى شرحه المسهب الواضح ، بعد أن إنتهي من شرحه قسم رجاله إلى مجموعات ، كل مجموعة فردان وطلب من كل مجموعة التوجه لمنطقة محددة يظلان بها لمدة أسبوع يعودان بعدها إلى المقر بتلك المنطقة بهضبة النسور حاملين معهم ملاحظاتهم عن العدو والمتمثلة فى عدد القوات والتسليح ، وطبيعة ما يقومون به ، ونقاط الضعف التى تمكننا من التعامل معهم بأقل الخسائر والحصول على نتائج هامة   ومن أجل هذا ُقسمت القوة إلى ثمان مجموعات ولم يتبق سواى وبعض الجمال الزائدة عن الحاجة كما تركوا الجمل المشاغب " أمشير " خشية أن يتسبب لهم فى مشاكل أثناء السير أو حين مشاهدة قوات العدو ، تحركوا بعد أن تبادلنا الوداع مع تحذيرات محددة لي من الشاويش إدريس باليقظة والحذر وحماية المهمات ومخابئ الأسلحة والذخيرة الزائدة عن الحاجة ؛ بالإضافة إلي رعاية الجمال وتقييدها وعدم تركها حرة حتى لا تترك الموقع باحثة عن أماكن إعاشة أخري أو البحث عن الجنود الذين تصادقوا معهم. 

 

     فى جنح الظلام غادر الرجال الموقع يرتدون ملابس بدوية وأخفوا أسلحتهم بأغطية قماش باليه كي لا يرتاب بهم أحد حين اللقاء رغم أن تعليمات إدريس الإبتعاد عن البشر بقدر الإمكان وعدم فتح النار على أحد إلا تحت الظروف القهرية حتى لا نكشف أنفسنا كما أمرهم بترك الكارنيه العسكرى بالمخلة لحين العودة حتى إذا إلتقوا مصادفة بأفراد من العدو لا يعلمون شخصيتهم وإذا حدث فتكون أقوالهم بأنهم عمال بمناجم الفحم أو الفوسفات أو البترول وهم راغبون بالعودة إلى أقاربهم بوسط سيناء. 

 

   أصبحت بمفردي مع عشرة جمال بالإضافة لهذا الجمل المتهور "أمشير " الذى زاد توتره حينما شعر بأن الكثير من الجمال غادر المنطقة خاصة الجمل المدعو هادي حيث كان أمشير يشعر بحب نحو هذا الجمل لكبر عمره ومن المحتمل أنه شعر بأن هذا الجمل هو أبوه!!

 

     ظللت طيلة الليل يقظا ومعي بندقية ومستعد لإستخدامها حين الشعور بالخطر قادم على الجمال رغم إنني لم يسبق لي إستخدامها من قبل ، كانت ليلة طويلة جدا والسكون يلف المكان ولم أشاهد أي ضوء فى الأفق أو السماء حيث كانت ليلة صامتة سوداء بكل المعايير وتعتبر رحلة احضار العشب المهدئ الأولى فى حياتي وأن أظل خلالها بعيدا عن الناس.

 

    ظللت على حالي باليقظة ليلاً والنوم نهارا مع الإستمرار في رعاية الجمال التى لم تجد سواي ولهذا شعرت بقربها منى أكثر عن الأيام السابقة ، كنت فى بعض الأوقات أشدو ببعض الألحان لأغانى بعض المطربين والمطربات المشهورين ، أيضا كنت أشعر بالراحة والأمان حين تلاوة القرآن حيث كنت أجيد التلاوة مقلداً صوت الشيخ محمد رفعت إلى حد بعيد وسبق وأن أخبرني بهذا من سمع تلاوتي ، لاحظت أثناء التلاوة أن الجمال تمتنع عن طحن الطعام والبعض منها يقترب منى ويبرك مجاورا لي لدرجة أن إدريس أقبل وباقي الرجال ولم تهتم بهم الجمال وظلوا قريبا منى يستمعون للتلاوة ، كنت أثناء ذلك أحاول أن أستفسر منهم هل أنتم جمال أي حيوانات؟ أو ملائكة فى صورة جمال لما تقومون به وأنكم تفهمون وتعبرون، أيضا حين أداء الصلاة كنت أشاهد الجمال تنظر إلىّ كأنها راغبة فى محادثتي.

 

    كل تلك التصرفات أشعرتني بأنني أجالس بشرا علي مستوي عال من الرقي والقرب من الله ، حتى الجمل المتهور " أمشـير " لم يتصرف معي تصرفاً طائشاً ؛ حيث كان إدريس يخشي حدوث توتر منه أثناء غياب الفصيلة عن الموقع ، أسعد هذا إدريس والرجال بعد أن عادوا وعلموا بأنه لم يحدث أي شيء غير عادى لي أو للجمال المتبقية وظل الوضع على حاله مما دفع بإدريس إلى أن يقدم لي الشكر والثناء على ما قمت به.

 

      تكررت الدوريات وكانت ذا فائدة عظيمة حيث شعرنا بأن سيناء شبه فارغة من جنود الأعداء بإستثناء أماكن محددة وبعض المحاور الواضحة التي يستخدمونها وينشرون حراستهم حولها وعلمنا بأنهم أنشأوا وحدات صغيرة لتوزيع المعونة الغذائية على أبناء سيناء وعادة ما تشمل تلك المعونة الدقيق والسكر والشاي والبن والسجائر وبعض الأدوية الصغيرة سيرا على نهج الحكومة المصرية قبل الإحتلال ؛ كما وصلت معلومات تفيد بأنهم يقومون بتوزيع بعض الهبات من النقود الإسرائيلية "الليرة" فى ذلك الوقت لدعم البدو وإجتذابهم نحوهم وتدعيم الحب معهم، وبأنهم أحسن حالا الآن عن ذي قبل إبان الحكم المصري.

 

     أحد الأيام حضر مندوب عن الشيخ "حمـــدان" زعيم عصابة المخدرات وقدم هدية بسيطة للشاويش إدريس عبارة عن راديو ترانزستور وبعض بطاريات إضافية ، شكره إدريس على هذا ؛ حيث كنا نجتمع حوله لسماع قرآن المساء الصادر من الإذاعة المصرية بتوقيت الثامنة مساء يعقبها نشرة الأخبار ، شعرنا أننا نحيا ونعيش مع أبناء الوطن ، أصبحت المعلومات والأخبار تصل إلينا أولا بأول وأفادنا هذا وبالأخص حينما سمعنا عن المعركة البحرية بين مصر وإسرائيل وفيها قامت البحرية المصرية بإغراق مركب كبير يقال عنها المدمرة ايلات وعلمنا بعد ذلك ما معنى مدمرة.

 

     تلك الأخبار دفعت بدماء الحمية الوطنية إلى أجسادنا الهزيلة ورفعت من هامتنا وشعر كل فرد بيننا بأننا إتخذنا القرار المناسب وبالتالي طغى هذا على كل شك أو ريبة فى صحة ما إتخذه إدريس من قرار بالبقاء بسيناء ومقاومة العدو ، لم تمض عدة أيام علي عودة دوريات البحث عن المعلومات إلا وقام إدريس بتحويل كل تلك المعلومات إلى خطة لمهاجمة العدو ، كانت الخطة سهلة وميسرة وتصب بالهجوم على الحراسات النائية البعيدة عن كثافة القوات المعادية ، أيضاً تتلخص بالهجوم المباغت بعد منتصف الليل وفى هذا التوقيت يهاجم النوم الحراسات ؛ أما طريق العودة فقد وضع به كمين مكون من فردين يقومان بستر القوة المهاجمة وإحداث خسائر بالعدو ؛ كما حدد أماكن الإختباء قبل شروق اليوم التالي بساعتين مستغلين الظلام وعلينا البقاء بالكهوف يومين أو ثلاثة حتى تنتهي مهمة البحث والمتابعة كما أن سير الجمال فوق الصخور فى إتجاه الكهوف سوف يمحى كل أثر متبقي من خف الجمل.

 

    مضت أربعة أيام منذ غادر رجال العملية الفدائية ؛ ها هم قد عادوا ثانية ولم يصبهم أى ضرر وقد إستقبلناهم بفرحة عارمة ، جلس إدريس يعدد مكاسب تلك العملية والتى أسفرت عن قتل جندي وإصابة ثلاثة والإستيلاء على رشاش إسـرائيلي من ماركة "عوزي" وهو رشاش قصير لكنه مباغت فى العمليات العسكرية بداخل الجبال ولم يكن به ذخيرة ولهذا أضيفت للخطة التالية الحصول على ذخيرة لهذا الرشاش ؛ تلك العملية شجعت الرجال على الإندفاع لمهاجمة قوات العدو ولهذا أطلق إدريس على تلك العمليات اسـم   " فهد اللـيل "

 

***

 

أول عملية قمت بها:

 

    منتصف شهر ديسمبر من عام 1967 ؛ وقد مضي على هزيمة الجيش المصرى ستة أشهر وبضعة أيام ، مازال الشاويش إدريس يجوب سيناء بحثا عن المعلومات وخلال تلك الفترة إستطاع مع رجال الفصيلة الحصول على الكثير من المعلومات التى تفيد الجيش المصري ولكنه لم يستطع الوصول إلى الطريقة المثلي كي تصل تلك المعلومات إلى القيادات ، أمرنا إدريس بأن نتجه إلى منتصف سيناء قريبا من المحور الأوسط الذى تكثر به حركة الإسرائيليين للحصول على البيانات حيث إننا لم نقم بتغطية تلك المنطقة وكان التركيز بالمنطقة الجنوبية التى يقل بها نشاط العدو.

 

    تم التحرك بالفصيلة بالكامل مع بقاء العريف أبو بكر بمؤخرة الفصيلة للحماية وبرفقته الجمال الزائدة عن الحاجة والأسلحة والأدوات الإدارية بالفصيلة ، طلب إدريس أن نحمل معنا طعام ثلاثة أيام على أن يكون الطعام جافا مثل الجبن وقطع من العجوة وبعض عبوات الماء الشخصية لزوم الشرب كما أُعد جمل يحمل بعض عبوات ماء بلاستيك عبوة 20 لتر من المستخدمة كعبوات زيت موتور لسيارات الجيش والتى عثرنا على الكثير منها.

 

     إقترح الأمباشى أحمد الطيب أن نسلك الطريق التى كانت تستخدمه القوة ذهاباً وعودة من وإلى قيادة الفوج بالسهل الساحلي القريب من بحيرة البردويل بجوار منطقة رمانة ، وافق الجميع على ذلك ، بالفعل تحركنا حيث كان رجال الفصيلة يشدون من أزرى وبتشجيعي على الإشتراك معهم فى الدوريات ، بعد مسيرة يوم ومن خلال العواصف الرملية الشديدة التى ألهبت وجوهنا إقتربنا من المحور الأوسط وكان الوقت قد قارب من المغرب والظلام بدا يسرع بإتجاهنا.

 

    لمح البعض منا كومة تغطيها مهمات أو ملابس فأسرع الجميع نحوها وتبين إنها لهيكل عظمى لإحدى جمال الدورية التى كانت قادمة من القيادة إلينا ، كما عثر أحد رجالنا على الشنطة الجلد التى يحتفظ بداخلها مندوب الدورية على الأوامر والمعلومات والأوراق ، طلب منا إدريس أن نبحث عن الرجل الذى كان يركب الجمل ، لم تمض عدة دقائق إلا وعثر أحدنا على الهيكل العظمى لصاحب الجمل ، تعرفت عليه القوة وكان للجندي عثمان آدم وهو أحد أبطال فوج الحدود فى مطاردة الهاربين والمخالفين للقانون.

 

     قام الرجال بدفن الجثمان بعد أن تفحصوا ملابس الشهيد والتى تدل على أنه حصل على دفعة رشاش من مدفع إسرائيلي نظرا لتمزق الافرول بثقوب من آثار الطلقات التى أطلقت عليه ، اليوم التالي نهض الرجال والحزن كامن بالصدور ، تفحص إدريس الأوراق وكانت أول ورقة وقعت عيناه عليها هى شهادة إعفائي من الخدمة العسكرية ، ُبهت القوم وكنت أول هؤلاء؛ فلقد أصبحت حر طليق ، توقف بى الزمن فترة ثم ُعدت كي أستدرك الوضع الذى أصبحت عليه الآن ؛ كيف أصبحت حرا طليقا وسيناء محتلة بجنود العدو الذين ينتشرون فى كل مكان ، تمنيت بألا أكون قد شاهدت وعلمت بوصول شهادة الإعفاء ؛ فقد تأقلمت مع الرجال ورتبت نفسي على العيش معهم حتى النهاية حين يتم الإنتصار على العدو.

 

    بكلمات قليلة تحدث إدريس موضحاً بأنه من الواجب علينا الأخذ بثأر الشهيد وألا تضيع دماءه هباء ، ولهذا قرر بأن يتجه جميع أفراد الفصيلة إلى منطقة جبل الحلال ونصب كمين لدورية الشئون الإدارية والتى سبق وأن رصدنا تحركها عدة مرات الشهر السابق ولهذا طلب منى الإختباء قريبا من الصخور الواضحة القريبة منا والتي تقع بأول جبل المغارة ؛ أشار إلىّ بأن تلك الصخور القريبة يمكنني أن أختبئ خلالها وترك معي الجمل "هادى" حتى لا تحدث مشاكل من أحد الجمال الأخرى بينما سلك الرجال الطريق الواصل بين جبل الحلال وبئر روضة سالم.

 

     هكذا غادر الرجال المكان فرادى بين كل فرد وآخر ربع ساعة تقريبا حتى لا يلفتوا أنظار الأعداء لو كانت هناك مراقبة دون أن ننتبه إليها ، مضت أكثر من ساعتين وأصبحت بمفردي بتلك المنطقة التى تكثر بها قوات الأعداء ، برك الجمل بين الصخور بينما تحركت قريبا منه ثم توجهت إلى هيكل الجمل الذى كان يحمل الشهيد الجندي عثمان آدم ، حركت الهيكل العظمى قليلا فشاهدت أثراً لقطعة من القماش الميرى "الـُبل" وهو قماش متين مثل المشمع ، جذبت قطعة القماش وتبين أنها تحتوي علي شيء ما لأنها صعبة ولا تتحرك ، أزلت الرمال من حولها ثم جذبتها فتحركت معي بسهولة ، فضضت قطعة القماش وتبين أنها لبندقية جميلة ذا حجم أكبر من البنادق الآلية التى يحملها الجنود ؛ بل إنها مزودة بجهاز به قطعة من الزجاج وفيما بعد علمت أنها تلسكوب ، تذكرت أن تلك البندقية طلبها الشاويش إدريس من قيادة الفوج منذ عدة أسابيع ، ولهذا فقد أرسلت إليه ولم تستخدم من قبل كما لم يستخدمها الشهيد عثمان آدم حينما واجهه الأعداء وأعتقد أن الأعداء قد إستولوا علي سلاحه الشخصي فلم يكن متواجدا مع الجثمان ؛ أيضا لم يفطنوا لوجود البندقية القناصة التي كانت مخبأة علي ظهر الجمل بين الأغراض الشخصية له ، كانت البندقية سليمة ولم يطلها الصدأ حيث يحيط بها قماش منغمس فى زيت خاص يمنع الصدأ.

 

    قمت على نظافة البندقية بسعادة وقلدت زملائي جنود الحدود حينما كنت أشاهدهم يقومون بمثل هذا العمل اليومي ، كانت البندقية محشوة بالطلقات ، أسعدني أن أختبر التلسكوب وأنظر بداخله ، كنت في غمرة النشوة والتي تسعد أي شاب صغير مثلي بأن يعثر على سلاح بتلك الطريقة ، رددت بداخلي : لقد أصبحت أمتلك سلاحا أعتقد أنه أفضل من أسلحة زملائي الجنود حيث كنت أستمع لبعض تعليقاتهم بأنهم يرغبون بقطعة من بندقية قناصة مزودة بتلسكوب ولكن قيادة الفوج أهملت هذا الطلب الذي تكرر مرات عديدة ، أخيرا وافقت علي تزويد الفصيلة بالبندقية لكن من حملها قتل أثناء قدومه للفصيلة وبالتالي حرمت الفصيلة من مزاياها لأنها لم تتسلمها.

 

     أثناء تفحصي أجزاء البندقية شاهدت حيوانا يعدو مسرعا قريبا منى وتبين لي بأنها غزالة من النوع الفريد المنقط ، لم أهتم بتعليمات الشاويش إدريس ولم أتذكرها إذا قمت بالتصويب على هذا الحيوان وضغطت على الزناد فخرجت الرصاصة تشق عنان السماء وشاهدت نفسي مقلوبا على ظهرى من رد فعل البندقية الشديد ؛ شعرت بكدمة قوية بجفن عيني اليمنى من تلسكوب البندقية ، تنبهت إلى الخطأ الشديد الذى إقترفته ولهذا أسرعت وخبأت البندقية بالغلاف الذى كانت مغلفة به قبل ذلك وقمت بالحفر بالرمال قريبا من موقع  " َبرك الجمل " وعدت ثانية وأنا أتلفت عن يمينى وعن يسارى ، لم تمض دقائق إذ شاهدت غبارا ناتجا من سيارة وبدا واضحا أنها سيارة جيب للأعداء قادمة فى إتجاهي ، أدركني الخوف والتوتر فإختبأت بين الصخور وتبين لي فيما بعد أنهم إكتشفوا موقعي وأين إختبئ حيث أنهم مزودون بنظارة ميدان تقرب وتوضح لهم الرؤية على مسافة عدة كيلومترات، هكذا توقفت السيارة الجيب وهبط منها أحد الجنود متقدما فى إتجاهي شاهراً سلاحه بينما ظل الثلاثة الآخرون بالسيارة.

 

     توقف الجندي على مسافة لا تبعد عن مخبئي بأكثر من خمسين مترا وصاح مناديا بصوت مرتفع:

 

ـ تعالى هنا يا مصري يا ابن الكلب ، لم أتحرك سواء خشية منه أو لسوء حديثه والسباب الذى لم أكن أتوقعه ، إقترب قليلا حتى وصل إليّ وقبض عليّ بشدة ودفعني أمامه وظل يضربني بأقدامه " بالشلوت " بينما كنت أسمع أصوات ضحكات باقى الجنود ، مازال الجندي يضربني بقسوة كنت خلالها أسقط أرضا سواء بضربي بالشلوت أو على مؤخرة الرقبة.

 

     كان إتجاه دفعي للسير فى إتجاه السيارة ؛ الآن علمت نهايتي المحتومة، سواء بالقتل أو بالأسر لكن الشيء الذى لم أكن أتوقعه وأعتقد أيضا بأن الجنود لم يتوقعوا حدوثه هو مشاهدة "هادى" الجمل الذي نهض ُمسرعا وأقبل فى إتجاهي ولم ينظر ناحيتي حيث كان مركزاً نظره أثناء عدوه ناحية الجندي الذي مازال واقفاُ مشغولا بإيذائي وفى لحظات هجم الجمل على الجندي الإسرائيلي وقبض علي ذراعه  بأسنانه القوية ورفعه لأعلى ثم هوا به أرضا بين صرخات الجندي ، كان واضحا حالة الهياج والضيق التي لبست الجمل والتي سبق وأن أوضحها لي زملائي جنود الحدود بعدم الإقتراب من الجمال حين تتوتر أو يصيبها الضيق لأنها تصبح عنيفة وتهلك الأشخاص الذين أمامهم خاصة حينما يشعر الجمل بالخطر وبأن صديقا له قد أصابه الأذى، صمت الجنود الآخرون من هول المفاجأة ؛ بعد أن سقط الجندي أرضا داس الجمل عليه بقوة مستخدما الخف وسمعت صرخة الموت صادره من الجندي وتحطمت عظامه وخمد جسده بينما تنبه أحد الجنود وفتح النار على هادي الذي أسرع فى إتجاه السيارة العسكرية.

 

     لم يستطع الجنود مغادرة السيارة من هول المفاجأة بينما كنت أشاهد الدماء تندفع من مقدمة وصدر الجمل والذي كاد أن يسقط أرضا ولكن في لمح البصر قفز فوق السيارة الجيب وسمعت صرخات الجنود وقد أصبحت السيارة أسفل الجمل بعد أن تحطمت وبعد أن تحطمت عظام الثلاثة الآخرين وبركت السيارة أرضا بعد أن حطم ثقل الجمل العجلات والوصلات وأصبحت لا ترتفع عن الأرض ، جلست أنظر لما حدث حولي حيث كان المشهد مثيرا مرعبا وأنا على هذا الحال شاهدت بعض الجمال قادمة مسرعة نحوى ثم تلاها جمال أخري ، لقد أقبل رجال الفصيلة بعد أن إنتهوا من وضع بعض المفرقعات قريبا من ممر الدورية المعتاد وأثناء عودتهم سمعوا صوت الطلق الناري ثم شاهدوا السيارة مندفعة فى إتجاهي وعلموا ما سوف يحدث لي ولكنهم لم يتوقعوا بطولة هادي الذي فقد حياته للدفاع عنى.

 

      أصدر إدريس أوامره بالإختباء بداخل الثنايا القريبة من جبل المغارة نظرا لأن اليهود سوف يقبلون مسرعين للإنتقام مما حدث لزملائهم ؛ لقد سمعوا كل ما دار وحدث على جهاز اللاسلكي المتواجد بالعربة الجيب ، حاول بعض الرجال مع إدريس أن يمهلهم لبعض الوقت كي يعدوا حفرة لدفن عرابي ولكنه كان حازما مؤجلا هذا إلى أن تهدأ الأمور ، تحرك الرجال كسالي ورغم حالتى المتردية مما حدث لي علي يد الجندي الإسرائيلي إلا أنني شاهدت الجمال تتحرك بصعوبة ولم ترفع عيونها عن زميلهم هادي كأنهم يودعون شخصا عزيزا عليهم ، كان المنظر مؤثرا للغاية وكنت فى حالة من الضيق والخجل لما حدث وأنبت نفسي لما تسببت فيه من مشاكل لرجال الفصيلة ورغم هذا لم يوجه لي أحد كلمة توبيخ أو تقريع.

 

     وصلنا إلى الميول الجنوبية لجبل المغارة وهي عبارة عن سلسلة من الصخور الممتدة والمنتشرة حول جسد الجبل الضخم ، كان إدريس غاية فى الذكاء حيث تخير الموقع الذى سوف نعتكف به ليكون غير صالح لتحرك السيارات أو الدبابات ، بل وتكثر به الثنايا التي تساعد علي إختباء الأفراد والجمال ؛ وعلمت بعد هذا بأن هذا المكان يحتوي علي ثلاثة عيون ماء صغيرة ولكنها كافية ؛ وتلك المنطقة تساعد الرجال على مقاومة قوات المشاة والكوماندز الإسرائيلي إذا حاولت الإقتراب منا ؛ كل تلك المعلومات علمتها من حديث إدريس مع الرجال ورغم الخطأ الذي إرتكبته إلا أنهم حملوني ووضعوني بمكان تنتشر به الرمال وليس به ندوب صخرية ؛ كما قام على رعايتي الجندي طلحة الذى إستخدم بعض سوائل الأعشاب "بيض الجمل" لعلاج الإصابات التي ألمت بى ؛ قام إدريس بتوزيع المهام على الرجال كما قام كل رجل منهم بإخفاء الجمل الخاص به تحت إشراف إدريس كما أسرع الرجال بتوفير المياه قبل حلول الظلام.

 

       إستيقظت صباح اليوم التالي أنظر حولي وأتأمل فى تلك الطبيعة الخلابة التى تحيط بى ، عبارة عن صخور من مختلف الألوان والأشكال تحيط بالكهوف التى قامت الطبيعة ببنائها وأعتقد أن الله أعد تلك الكهوف كي يقيم بها الإنسان في بداية الكون بديلا عن المساكن كي تقيهم البرد والأمطار شتاءً ؛ أيضا تحميهم من حرارة ولهيب الشمس صيفاً ، تنبهت على صوت طائر يغرد بين الصخور ، أدخل صوته وشكله الجميل السعادة والفرحة إلى قلبي بعد ما نلته من أذي على يد الجندي الإسرائيلي بالأمس ، كان الطائر يغرد ويتحرك فى إتجاهات معينة ، بعد فترة زمنية ظهر من خلال الصخور حيوان ذهبي اللون وشكله رائع إلى أقصي درجة وإستطعت أن أميز نوعه حيث أن هذا الحيوان يقارب فى الشبه حيوان أبو الحصين "الثعلب" الموجود بمنطقة أنشاص ويهاجم الطيور ويسرقها يقتات بها ، حينما سألت أحد الجنود أكد لي أن هذا هو الثعلب الجبلي بمنطقة سيناء وكما تراه بلونه الذهبي الجميل كما أنه يحاول دائما أن يقترب من الناس كي يحصل على طعامه وطعام أبنائه.

 

 أصبح منظر الطائر ذا اللون الأحمر والأخضر مع الثعلب صغير الحجم ذى اللون الذهبي هو شاغلي الأول والأخير ؛ فأنا لست مكلفا بعمل ، بل وشبه مريض ولهذا طلب منى إدريس أن أركن للراحة ، شعرت بأن الطائر يرفرف كثيرا ويتجه ناحية الثعلب وإعتقدت أن الثعلب سوف يهاجمه ويصبح وليمته القادمة، لكن تبين لي أن هناك حديثا يدور بين الاثنين ؛ الطائر والثعلب ؛ حيث يصدر الطائر أصواتاً يتبعها الثعلب بحركات وتصرفات غير طبيعية ثم يطير الطائر إلى أن يصل إلى أقصي إرتفاع ثم يعود ويتحاور مع الثعلب ، ظل هذا الحوار قائما بينهما وأنا أمنى نفسي لو كنت أعلم لغة الطير لكنت إشتركت معهما فى هذا الحوار.

 

 بعد قليل شاهدت الثعلب قادما قريبا منى وبدأ يتحرك ويقفز ويقف على قدميه الخلفيتين وبقدميه الأماميتين يقربهما من أنفه ثم يقفز ويعلوا بمؤخرته لأعلى مما آثار الجمال القريبة منى ودفع هذا بأحد الجمال ليحدث صوتا غير عادي ثم تبعته بعض الجمال التى أخرجت من فمها "القلة" بلونها البمبي ؛ إزداد صوت إحتجاج الجمال مما دفع الرجال بأن تسرع وتسألني عن السبب فى هذا وماذا حدث للجمال وأثارها بتلك الطريقة، شرحت لهم ما شاهدته من الطائر ثم الثعلب ثم إقتراب الثعلب من الجمال والحركات التى قام بها.

 

       صمت الرجال لفترة ثم تحدث إدريس بصوته الهادئ وبلهجته النوبية التى لم أعلم عنها أي شيء ؛ بأن شيئا غير طبيعي سوف يحدث ، إقترب منى أحد الجنود وأخبرني بأن إدريس يعتقد بأن طائرات قادمة فى إتجاهنا لقذفنا ، وما قام به الطائر الذي كان يقوم بالمراقبة وأخبر الثعلب الذي أفاده بأن ما تشاهده سوف يقضي علينا ولهذا أسرع الثعلب ليخبر الجمال ؛ نظرت إليه بدهشة متسائلاً : إنني أرغب فى معرفة ما يدور بعقل وفكر هذا الطائر وتلك الحيوانات لكن الجندي ترك المكان ُمسرعاً ، أثناء هذا شاهت الثعلب يضع أحد الثعالب الصغيرة فى فمه ويقفز به من مكان إعاشته القريب منا ويغادر مخبأة ثم عاد بعد فترة فنقل صغيراً آخر حتى إنتهي من حمل صغاره وعددهم أربعة ، نظر أحد الرجال إليّ قائلاً : تلك المنطقة سوف تشهد معركة دامية ونيران وإنفجارات ، إن تحرك الثعلب يعنى هذا وضيق الجمال يؤكد ذلك.  

 

أثناء إنشغالنا فى تلك الإجراءات أقبلت ثلاث طائرات هليكوبتر وحلقت فوق رؤوسنا ودارت دورة ثم سمعنا صوتها عاليا مما يدل علي إنها سوف تعود ثانية ، أشار إدريس للجميع بالإختباء بداخل الكهوف وعدم إستخدام السلاح ضد الطائرات ومن المحتمل إنها تحاول إشغالنا عن هجوم مباغت لرجال المشاة أو الكوماندز.

 

       أثبت إدريس أنه يجيد قراءة أفكار العدو مثلما أجاد إستنتاجات أفكار الطائر والثعلب ؛ حيث ظهرت أشباح لجنود إسرائيليين ، لم أكن أتوقع دقة رجال الحدود فى الرمي بتلك الطريقة الرائعة حيث كانت الطلقات تندفع فرادي لكنني إستطعت مشاهدة عدد من الإصابات مما دفع بالطائرات إلى قذف المنطقة بالصواريخ شديدة الإنفجار كي تساعد الجنود على الإرتداد والهرب حاملين القتلى والجرحى ، لقد خسر الإسرائيليون بعض رجالهم فى تلك المعركة الصغيرة التى لم تتجاوز الدقائق.

 

 شاهدت فرحة النصر على الوجوه السمراء العفية ، تلك الوجوه الطيبة المخلصة للوطن ، أقبل البعض نحوي يخبرونني بإنتصارهم على العدو وأن المعركة بدأت ولم تنتهِ بعد معلقين: نحن نعلم عن الإسرائيليين الكثير من طول مدة الخدمة بسيناء ، نحن نعلم عنهم كل شيء ونعد أنفسنا منذ زمن طويل لمعركة معهم وقد أقبلت ونحن على أتم إستعداد لها ، كرر أحدهم قوله ، سوف نلحق بالجمل هادي ؛ هذا الجمل الرائع الذي ظل معنا لمدة تزيد عن عشر سنوات قدم خلالها الكثير من الخدمات للوطن وقطع خلال تلك الفترة آلاف الكيلومترات بحثا عن الخارجين عن القانون وفى نهاية حياته أنهي حياة أربعة من رجال العدو.

 

    كنت أشاهد إدريس جالساً هادئا كعادته وهذا يدل إما على الرضا أو أنه مشغول البال يفكر فى الخطوة التالية ، تساءل عن عدد إصابات العدو وتبين أن هناك ثلاثة قتلى وسبعة جرحي ، حرك إدريس رأسه دليلاً على الثقة ثم وجه حديثه لزملائه قائلاً: أيها الرجال الشجعان ، رجال الحدود المصريون  سوف تبدأ المعركة مع العدو وهناك إحتمال كبير أن يقوم بقصفنا بالنابالم أو القنابل شديدة الإنفجار ، علينا الإختباء بعمق بداخل الكهوف مع الإحتياط حتى لا تصيبنا القنابل الحارقة والتى ليس لها علاج ، سوف يتبع هذا حصار طويل لموقعنا حتى نخرج رافعين الأيدي علامة الاستسلام والهزيمة، ولو كانت الظروف مواتية وخدمنا الحظ وتلبدت السماء بالغيوم وأمطرت بشدة فسوف يساعدنا هذا على ترك الموقع دون أن يلحقنا الأذى كما أن العدو لن يستطيع إقتفاء أثر الجمال ، طلب إدريس من الجميع أن يتوجهوا لله بالدعاء أن يثبت قلوبنا على المعركة الفاصلة مع العدو وأن يمنحنا الخير بالمطر الشديد الذي يملأ السماء رعداً وبرقا.

 

     خلال الليل وفى الظلام الدامس كنت أشاهد بريق عيون الرجال المتيقظة كما لم أسمع ضحكات أو أي أحاديث تدور بينهم ، كان الرجال فى حالة من الإنضباط الشديد وإحترام القوانين والتعليمات التى أمر بها الشاويش إدريس ، كنت أشعر بالسعادة بأننى أرافق هؤلاء الرجال كما إزداد فخري بأبناء وطني الذين يعملون بكل دقة وفى ظروف صعبة دون عون إداري أو قيادة للإشراف والمساعدة والتوجيه ، لقد أيقنت أن ما سبق وسمعته فى "ُكتاب القرية الذى يملكه " الشيخ حسن مستكة عن سير الصحابة الأجلاء لرسولنا الكريم وأحسست بأن هؤلاء الرجال يقتدون بهم  فما الذي كان سيفعله الصحابة سوي الجهاد بالنفس والبدن دون إنتظار عائد مادي أو أدبي ، هؤلاء يقومون بهذا دون جلبة أو ضوضاء وكان من الممكن أن يعملوا إلى العودة لغرب القناة تنفيذاً لأمر الإنسحاب أو يظلون بسيناء قابعين دون عمل أو يقومون بمساعدة المهربين ويحيون حياة رغدة طيبة مقارنة بما يقومون به الآن.

 

    اليوم التالي لم يجد جديد والهدوء ينشر ستارة مريحة على النفس لكن التوتر كنت أشاهده فى عيون إدريس أثناء مروره على الرجال وحين الإقتراب منا ، توقف لحظة ثم رفع صوته عاليا : إستعدوا يا رجال ، لقد أقبلت طائرات العدو القاذفة التى سوف تشعل المكان حريقا ضخما ، أنهى الرجل تعليماته وأسرع بالإختباء بداخل الكهوف مع باقى الرجال ؛ إزداد صوت الطائرات وضوحا وأصبحت الأصوات مرعبة ولكن الأكثر رعباً وخوفاً هو صوت إندفاع اللهب من صهاريج النابالم من الطائرة فى إتجاه المنطقة التى نقيم بها ، ثم إنفجارها وإنتشار الحرائق المهلكة بكل مكان ، كنت أشاهد النابالم أثناء إنفجار العبوات كأن مياها حارقة تتناثر فى كل مكان واللهب الحارق يتصاعد ويمتد لمسافات أبعد عن المكان التى سقطت به العبوة ولهذا تأكد لي أن إدريس كان واعيا وفاهما لطبيعة العدو ولتلك الأسلحة الفتاكة ، ظلت النيران مشتعلة بعض الوقت وبدأت تخمد رويدا رويداً حتى إنطفأت ومضت ساعة من الزمن ثم شاهدنا تقدم أفراد العدو قادمين فى إتجاهنا.

 

    كان واضحاً لجنود الأعداء بأنه قد لحقت بنا إصابات شديدة ومن المحتمل أنها قضت علينا ولهذا لم يحتاطوا لنا كما حدث فى السابق حيث كان تقدمهم سريعا والسلاح ليس فى وضع الضرب ، إقترب منا رجال العدو حتى قاربوا فتحات الكهوف ومازالت أثار النابالم واضحة على الصخور بلونها الأسود المتفحم ، لم أشعر إلا والرصاصات تخرج من بنادق رجال الحدود وفى المقابل كنت أسمع أصوات صرخات وأنين المهاجمين ، حاول البعض منهم الفرار دون جدوى خاصة أن رجال الحدود ضايقهم قذفنا بالنابالم ولهذا كان العناد والإستبسال هو سيد الموقف.

 

      إختبأ الرجال بين الصخور وبعد عدة دقائق سمعنا صوت إنفجارات قنابل بصوت مكتوم ثم شاهدنا أدخنة سوداء قاتمة تتصاعد بحيث لم نستطع أن نشاهد ما يدور حولنا ، صاح إدريس بعدم تحرك الرجال حتى إذا شاهدت غريبا قادما عليك فإقتله فى الحال لأنه من الأعداء ، بدأت الأدخنة فى الزوال تدريجيا وبعد ُمضي نصف ساعة عاد صفاء الرؤية للمنطقة وتبين لنا أنه خلال تلك الفترة إستطاع العدو الإنسحاب بعد أن حمل قتلاه وجرحاه.

 

      خرج المراقبون من رجال الحدود لأماكنهم وإجتمع إدريس بالرجال وجلست معهم بعد أن تحسنت حالتى الصحية ، أخبرنا الرجل بأنه من المحتمل أن تهطل علينا الأمطار مساء غد ؛ حيث يشاهد آثار غيوم ويشم رائحة المطر القادمة من إتجاه الشمال ، خاطب الرجال قائلاً: أيها الرجال إذا حدث المطر فستكون تلك فرصتنا للهرب ؛ وقد أبلغني المراقبين بأن العدو يحتفظ بعربتين مدرعتين خارج المنفذ الوحيد الذى يمكن أن نغادر منه تلك المنطقة برفقة جمالنا ولا يمكن أن نفرط بترك الجمال ؛ فالجمل بالنسبة لنا مثل الدبابة والطائرة والمدفع والسفينة بالنسبة للمقاتل ، أعيد حديثي : إذا هطل المطر فيجب عليكم الإستعداد للهرب تباعا بعد أن أشير إليكم وإذا حدث وغادر أول فرد فينا الممر الواصل بين الكهف والصحراء دون أن يطلق أحد عليه النار فهذا معناه أن الطريق أصبح آمناً ولهذا سوف نسلك طريقنا المعروف الذي تسلكه دورية الشمال القادمة إلينا متجهين إلى موقعنا بالجنوب أما عن حالي فسأقوم ومعي إثنان بوضع ألغام من التى نحتفظ بها معنا منذ تحركنا من الجنوب أسفل جنازير العربات المدرعة من الأمام والخلف والجنود لن يلحظونا لأنهم سوف يختبئون بداخل سياراتهم إتقاء العواصف والمياه الشديدة ، تلك هي فرصتنا الوحيدة للنجاة من هذا الحصار؛ أما بخصوص صابرا فيوضع على أحد الجمال القوية ويقوم الرجال بربطه جيداً بالحبال حتى لا يسقط من فوق الجمل أثناء الهرب بتلك السرعة الشديدة ولن يستطيع أحد إنقاذه وحين الوصول لموقعنا بالجنوب نفك وثاقة ، ثم عاد وتساءل: هل تفهم الرجال المهمة؟ أجاب الرجال بلغتهم الغريبة على أذني بما يفيد بأنهم تفهموا ووعوا كل تعليماته ، أشار إلىّ إدريس بأن أظل على ظهر الجمل الذي يعلم طريق عودته حيث ستتبع جميع الجمال الجمل الأول فى طريق العودة.

 

   قبل غروب اليوم التالي بات واضحا بأن المطر علي وشك السقوط ولهذا أمسك بى أحد الجنود وسار معي فى إتجاه أحد الجمال الباركة والذى كان يتناول بعض الأعشاب المتواجدة بتلك المنطقة ، سمعت صوت إدريس عاليا يطالب الجنود بالسرعة والإستعداد لتنفيذ خطته لأن الرياح الباردة قادمة مسرعة من إتجاه الشمال محملة بالأمطار ؛ ضحك حيث كان يدعو الله بأن تكون تلك الرياح رعدية حتى يستطيع الرجال كسر الحصار الذى فرضه جنود العدو على الفصيلة ، جلست فوق ظهر الجمل كما طلب منى الجندي ، كان الركوب مخالفاً حيث جلست على مؤخرة الصنم وأقبل جندي آخر وشاهدته يمسك ببعض الحبال وقام بربط الحبل حول المعصمين ومن الناحية الأخرى بأقدام الجمل الأمامية بمنطقة المفصل بين الساق وبطن الجمل ؛ حدث هذا أيضا لساقيّ حيث ربطت الحبال حول المفصل بالكعبين ثم ربطت بأقدام الجمل الخلفية ، أقبل إدريس وصرخ فى الجنديين متسائلاً لماذا إخترتم هذا الجمل ، إنه جمل شارد ، سمعت جنديا آخر يدعو الله أن يكمل أمشير الرحلة مع صابر على خير ، إنتفضت حين سماعي لهذا الاسـم ، فأنا أعلم من هو أمشير المتمرد العنيف ، طلب منهم إدريس وضع اللجام حول فمه حتى لا يصيب صابر ، قاوم الجمل وأقبل إدريس وآخرون ونجحوا فى مهمتهم وفى تلك اللحظة هطلت الأمطار مصحوبة برعد يصم الآذان وبرق يخطف الأبصار وسمعت إدريس يصرخ فيمن حوله متسائلاً من وضـع هذا العشب أمام أمشير إنه ُعشب " أبو خوسبا " رددت بصوت عـــال   " أبوخوسبا " لكن الوقت والموقف إنقلبا سريعا إذ نهض الجمل ُمسرعا دون إنتظار باقى الجمال وأصبحت الرؤيا ضعيفة من شدة الأمطار وشعرت بأن أمشير يسابق الريح من خلال الصخور التى أشاهدها من حولي وصوت إدريس يكرر: لقد تعوذ رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأيهمين ، وهما السيل الجارف والجمل الهائج ، قال الشاعر:

 

رغى عقب التمتمة والهديري *** من خوف مصقول ٍ يقص العتاري

 

       حينما ظهرت الصحراء شاهدت أضواء العربات المدرعة للعدو بضوء خافت من تأثير شدة الأمطار ، كان الريح هو أمشير وأمشير سابق للرياح العاتية والأمطار تهبط من حولي ومن شدتها شعرت بأن حبيبات المطر سوف تخترق ظهري ؛ لكن كلمة "أبو خوسبا " كانت الشغل الشاغل لي ، إنها تعنى العشب المهيج جنسيا لدى الجمال وهذا الجمل لم يتم خصيه بعد وهو جمل شاب راغب فى البحث عن أنثي وقد فعل العشب فعله وسوف تزيد من هياجه ووضح لي أن مفعول العشب بدأ يؤثر فيه بعد مغادرة ركب الفصيلة وباقي الجمال وتلك السرعة الهائلة التى يجري بها وخلال ذلك كنت أسمع صوت هديره عاليا رغم أصوات الرعد المصاحبة للمطر وأيضا صوت سقوط المياه على الأرض والصخور القريبة.

 

     أيقنت بأن حياتي قد قاربت على الإنتهاء ؛ سواء من عضة هذا الجمل وما سبق ورأيته منذ عدة أيام من الجمل هادي الذى كان اسما على مسمي ورغم هذا قضي على أربعة من الأعداء ومازال منظر رفعه لجسد الجندي الإسرائيلي لأعلى وسقوطه أرضا يخيفني ، أيضا توترت وتخوفت من هذا الجمل أمشير ؛ وإذا أنقذني الله من جنونه فسوف أموت من شدة البرد التى بدأت تلسع ظهري وأجنابي.

 

 

Share
Click to listen highlighted text! Powered By GSpeech