Click to listen highlighted text! Powered By GSpeech
Get Adobe Flash player
مستمرين معاكم بإذن الله 2008-2024 **** #لان_لجيشنا_تاريخ_يستحق_أن_يروي **** ***** إنشروا تاريخنا وشاركونا في معركة الوعي **** تابعونا علي قناة اليوتيوب 1100+ فيديو حتي الان **** تابعونا علي صفحات التواصل الاجتماعي** أشتركوا معنا في رحلاتنا لمناطق حرب أكتوبر **** يرجي استخدام خانة البحث **** *** تابعونا علي تليجرام - انستجرام - تويتر

روايه فهد الليل- الجزء الثالث

 

 

كتبها على لسان أبطالها

أســامة على الصــــادق

.....

الطبعة الأولى .. مارس 2012

الناشر: الكاتب

.....

تصميم الغلاف: ريهام سـهيل

.......

حقوق الطبع محفوظة للكاتب

موبايل: 01227970032

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

 

 

معالم روحانية تظهر على أمشـير

 

         إقتفيت أثر خطي أمشـير وإقتربت من رحيل ؛ طبعت قبلة على خديها ومثلها على خد طفلها الجميل ، ركبت فوق الأجولة وأثناء سير "أمشـير" كنت أشاهد رحيل تحمل طفلها وهما ملوحان لي بوداع باسم مع التمنيات برحلة موفقة ، إزدادت المسافة بيننا ولهذا لم أعد أشاهد سوي ظلها ثم تلاشي الظل وإرتعشت الرؤية وإهتممت بحالي وبالمهمة الوحيدة التى سوف أقوم بها من تلقاء نفسي بعيداً عن تعليمات وأوامر إدريس والمساعدة التي يقدمها لي باقي جنود الفصيلة.

 

      أقبل الليل وشعرت أننا قطعنا نصف المسافة ؛ فقد تعدت المسافة التى قطعتها خمسون كيلومترا ولم يتبق سوى خمسة وخمسون كيلومترا بالتقريب، كنت أخشي أن أضل الطريق ولكن أمشير كان أذكي من أن يضل طريقه وهو الذي علم طريق حبيبته وأم ابنه القادم "بعرور" ؛ منتصف الليل توقف "أمشـير" عن السير وبرك أرضا فشاهدت نبعا من الماء بجواره بعض الحشائش وكلأ الصحراء ، هكذا سوف نصيب جزء من الليل كراحة بعد أن قطعنا مسافة كبيرة تعدت من الزمن العشر ساعات.

 

    إقتربت من "أمشـير" وجلست مستنداً بظهري على جانبه الأيسر كي أتفادي الرياح الباردة وبعض لسعات من رمال تتطاير بفعل الهواء السريع ، فتحت كيسا من القماش أعطته لي رحيل ؛ أخرجت منه بعض الأطعمة والتى تشبه الفطائر وهذا النوع محشو بالجبن ومعد إعدادا جيداً ؛ بعد أن إلتهمت الطعام الذى هدأ من شدة الجوع والبرودة الزاحفة التى تظهر أنيابها بعد منتصف الليل ، بعد هذا عببت من ماء العين المثلج ذى الطعم المستساغ تلحفت بالشال والعباءة التي معي ونمت بجوار "أمشـير" أستفيد من حمايته لي كى يصد الرياح عنى أثناء النوم.

 

   ضرب ضوء الصباح بشعاع هادئ ينبئ عن بزوغ يوم جديد فى حياتي بعيداً عن عائلتي وأنا أحيا وأعيش فى سيناء بل وأخدم بجيشها دون سند قانوني ، أثار هذا ضيقي وتبرمي ثم تنبهت وعادت بى الذاكرة ؛ حيث كنت أستمع لمدرس حصة الدين أثناء الدراسة بالمدرسة الإبتدائي ؛ حيث كان يردد أن القتال والدفاع عن الوطن فرض عين وليس فرض كفاية وظل يوضح هذا المعنى ولم أفهم هذا المعنى إلا بعد مضي عدة أعوام ، أي أن القتال فرض على كل المسلمين ولا ينوب فيه أحد عن آخر فى القتال طالما كان قادر على هذا ؛ الحمد لله فأنا قادر على هذا وأقوم بالدفاع عن الوطن وليس هذا مرتبطاً بالتجنيد والخدمة الإلزامية بالجيش ، بعد فترة زمنية سكن فؤادي وهدأت نفسي المترددة الثائرة.

 

    نهض " أمشـير " وإستكملنا سيرنا حتى إقترب غروب اليوم التالي ؛ شاهدت أحد جنود الفصيلة راكبا جمله مقبلاً ناحيتي حتى إذا شاهدني وتعرف علىّ صاح مردداً: الله أكبر ولله الحمد ، صابرا لسه عايش ، صابرا حي يا رجال ، شاهدت بعض الرجال على الجمال وآخرين دون جمالهم مسرعين للقاء بى محتضنين جسدي وكلمات رقيقة طيبة صادرة من القلوب البيضاء الطاهرة.

 

    جلست بين زملائي فى حضرة الشاويش إدريس الذى قرر أن يحتفل بتلك المناسبة بأن يدخن سيجارة على غير عادته ، شكرني الرجال على المعونة الهامة التى وصلت فى موعدها فقد أضر بهم الجوع منذ ثلاثة أيام؛ حيث كانوا يقتسمون الشعير مع الجمال ، هكذا علق أحد الرجال بأن نيران إعداد الطعام سوف تظل مشتعلة طوال الليل ، قام بعض الرجال بإعداد الطعام بينما ظللت أقص علي الباقين رحلة "أمشـير" ولقاء عروسه مما أضحكهم جميعا ، بعد أن قطعت شوطا من الزمن بالتحدث مع زملائي شاهدت رجالا ثلاثا لم أشاهدهم من قبل ، أقبلوا ناحيتي مرحبين قدومى وما سمعوه من الزملاء عن فقدي ، تعرفت عليهم وكان المهندس عزيز ميخائيل أول من تحدث معي مرحبا مهنئا سلامة الوصول وتبعه الإثنان الآخران.

 

    صباح اليوم التالي شعرت بأننى فى منتهي السعادة ؛ فقد إكتملت منظومة الحياة والصحبة ، سردت على إدريس ما شاهدته وسمعته أثناء إقامتي مع السيدة رحيل ؛ طلبت منه النصيحة ، أيد إدريس إستمرار وجودي مع السيدة ؛ لسببين هامين: الأول .. طلبها الحماية وهذا كان شائعا فى صدر الإسلام بأن أهل الملل الأخرى يطلبون الحماية والعون فيهب المسلمون لنجدتهم ، ثم الشيء الثاني .. قيامك بتزويد الفصيلة بإحتياجاتها من المؤن التى وفرها العدو للتوزيع وبتلك الطريقة سوف نحصل على بعض ما سلبه منا هؤلاء اللصوص.

 

    جلست عدة ساعات مع رجال الفصيلة الذين أسهبوا فى وصف وسرد ما حدث من هجمات بسيطة متفرقة قاموا بها على دوريات العدو ، كانت الهجمات ناجحة وأثرت فى تلك القوات تأثيراً واضحاً لدرجة زيادة أعداد الدوريات وهذا حمل القوات المعادية مجهودا إضافيا وجعلهم فى حالة من التوتر والتأهب والإستعداد وبالتالي أدى هذا إلى فقد العدو الكثير من قدراته ؛ أيضاً تقلصت أماكن إنتشار دورياته حتى لا تتعرض لهجمات رجالنا وهذا ساعد رجال الفصيلة على الحركة والتغلغل بداخل الصحراء فى إتجاه المحور الأوسط والمحور الشمالي التى تزداد حركة ونشاط العدو عليه.

 

     سمعت عن تلك العمليات الجريئة بتأثر شديد وفرحة غامرة ؛ كما شعرت بالفخر لإنتمائي لتلك القوة الرافضة الإنسحاب ؛ والتي لم تكتف بهذا حيث تقوم بمهاجمة قوات العدو ، لقد تبين لي من حصر ضحايا العدو المؤثرة بأن عددهم لا يقل عن ثلاثة عشر فردا خلال الشهور الثلاثة المنصرمة.

 

    ودعت الرجال عائداً إلى مستودع المعونة الشهرية لبدو سيناء الفقراء برفقة أمشير ، مضى على مغادرة موقع الفصيلة ؛ أربع وعشرين ساعة ؛ هكذا حلت علىّ الليلة الثانية منذ وداع رجال الفصيلة الذين قاموا بوداعي وداعا مؤثرا تتخلله كلمات الإشادة بما قمت به وأن هذا العمل لا يقل عما يقومون به من مهاجمة قوات العدو.

 

     برك الجمل فى بداية الليل قريباً من منطقة عشبية وكعادتي إلتحفت بالشال والعباءة كي تقوم على حمايتي من البرودة القاتلة ، كان للمجهود المبذول وإنخفاض درجة الحرارة وما أصابني من حبيبات الرمل المتطايرة المرافقة للهواء البارد أثر سلبي على وجهي ويداي ، غفلت لبعض الوقت وكان النوم عميقا لم أتنبه إلا على صوت "أمشـير" بعد أن زام وظهر صوت غضبته التى أعلمها ، جلست أتبين ما حولي فشاهدت ثلاثة ذئاب تقف على بعد أمتار قليلة من مكان جلوسي ، نهضت فزعا وبالتالي نهض "أمشـير" ثم أنزل رقبته حتى كادت تلامس الأرض ؛ فقفزت عليها متسلقا ظهره وخلال تلك الثواني قامت الذئاب الثلاثة بمهاجمته فدفعه هذا لإظهار غضبة بصوته المرتفع المثير وشاهدت "القلة" التى خرجت من فمه والتى تدل على أنه غاضب وفى أشد حالات هياجه ، مضت عدة لحظات وشاهدت أحد الذئاب بعد أن طار فى الهواء من دفعة قوية بقدم أمشير الأمامية فصدر منه عواء الذئب المخيف ثم سقط أرضاً بعد عدة أمتار يتلوي بينما الذئب الآخر سمعت صوت تحطم جسده أسفل خف الجمل ، نجح الذئب الثالث فى التعلق بذيل الجمل وظل يقضم فى فخذه بأسنانه والجمل يلتف حول نفسه ومن شدة دورانه السريع سقطت أرضا وشعرت بأن عظامي تحطمت.

 

      شاهدت "أمشـير" على بعد عشرين خطوة ومازال الذئب ينهش فى فخذه لكن الجمل برك فوق الذئب فخرج عواءه يضرب صداه من خلال الجبال والأودية ، نهضت ُمسرعاً فى إتجاه "أمشـير" فشاهدت الحزن على وجهه ، هدهدت على رقبته وقبلت رأسه وقد أصابني الجزع أن شاهدت بركة من الدماء كانت خلفه سواء من دمائه أو دماء الذئب الذى شاهدت جزءاً من جسده والرأس وأحد الأرجل وقد فارق الحياة حيث تدفقت الدماء من فمه الواسع.

 

   طلبت من "أمشير" النهوض ، أخرج بعض الأصوات التى تدل على أنه متعب ونظر إلىّ نظرة عتاب بما يعنى ألا تفهم أيها الجندي بأنني إشتبكت مع ثلاثة ذئاب جائعة وأحدهم إقتطع جزءا من أعلى الفخذ الأيمن ، بعد ُمضي عدة دقائق نهض أمشير وسرت بجانبه أحدثه من حين لآخر ، إستمر سيرنا حوالي ساعتين قطعنا خلالها ثمانية كيلومترات تقريبا وتلك المسافة تعادل نصف المسافة التى يقطعها الجمل فى الأحوال العادية.

 

     شعرت برغبة أمشير فى الراحة ولهذا ساعدته على أن يبرك أرضا ، أحضرت له بعض العشب من حولي فلم ينظر إلىّ ، شعرت بحزن أليم وأن فقدي لهذا الصديق سوف يكون كارثة لا تقل عن الكارثة التى لحقت بالسيدة رحيل حين فقدت زوجها ، كنت فى أشد الحاجة لمن يشد أزري ولهذا لم أجد أنفع وأشفع من تلاوة بعض آيات من الذكر الحكيم.

 

     بدأت التلاوة وكما توقعت فقد خارت قوى أمشير حيث إستسلم للراحة وغادرته مشاعر الألم رويدا والتى كانت واضحة على وجهه ، ظللت أتنقل فى التلاوة من سورة إلى أخري من قصار السور حتى وصلت إلى السورة الأخيرة والتى قررت التيمم بعد تلاوتها لأداء صلاة الفجر والصبح ؛ فقد بدأت تظهر أضواء اليوم الرابع منذ مغادرة منزل السيدة رحيل:

 

(بسم الله الرحمن الرحيم)

 

وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا (1) وَالْقَمَرِ إِذَا تَلاهَا (2) وَالنَّهَارِ إِذَا جَلاَّهَا (3) وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا (4) وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا (5) وَالأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا (6) وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (7) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا (8) قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا (9) وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا (10) كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْوَاهَا (11) إِذْ انْبَعَثَ أَشْقَاهَا (12) فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ نَاقَةَ اللَّهِ وَسُقْيَاهَا (13) فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاهَا (14) وَلا يَخَافُ عُقْبَاهَا (15). صدق الله العظيم

 

 

 

      أسرعت جهة أمشير حيث شاهدته قد مد قدميه الخلفيتين للخلف ولم أشعر به أو أسمع صوته ، شعرت أن الجمل قد فارق الحياة ، جلست مجاورا له أنعيه بكلمات بائسة غير مفهومة لي أو لمن يستمع إليها ، قدمت إعتذاري له واننى سوف أنهض لأداء الصلاة قبل أن يتعدى موعدها ثم أعود إليه.

 

      نهضت متثاقلاً وتيممت ووجهت وجهي جهة القبلة بالتقريب وقمت بأداء صلاة الفجر بصوت عال رغم إنني الوحيد الذي يصلي وليس معي أحد ، قبل نهاية الصلاة شعرت بشيء يتحرك على مؤخرة رأسي "القفا" ، خشيت ترك الصلاة وإعتقدت أنه ثعبان جاء يخرجني من الصلاة وأكيد أن هذا الثعبان من سلالة إبليس كي يقوم على هذا ، تماسكت وتشجعت ولكن الحركة تحولت إلى صوت وبدا الصوت يرتفع ، فى تلك اللحظة إنتهيت من الصلاة ونظرت سريعا للخلف لأشاهد من أتى لمهاجمتي ، ألا يكفى ما حدث لصديقي "أمشـير".

 

     كانت المفاجأة المذهلة المفرحة ، لقد كان أمشير الذي تنبه وأقبل يستمع لما أقوله أثناء الصلاة ، قبلت شفتيه الكبيرتين وبالتالي بادلني القبلات التى كادت تصبح نهايتها قطع جزء من مقدمة الوجه ، حدثته طالبا منه الهدوء حتى أنتهي من صلاة الصبح ، غير من وضعه ليقف مواجها لي وظل هكذا؛ لكن المدهش أنه كان يحرك رأسه ورقبته ، فى الركعة الثانية كدت أخرج من الصلاة حين شاهدته يبرك أرضا كأنه يركع بل حين برك وضع رأسه بالرمل وحين شاهدني أسلم بعد الصلاة شاهدته يحرك رأسه ذات اليمين وذات اليسار وأخرج بعض أصوات من فمه وهي أصوات لينة هادئة كأنه يقول "السلام عليكم ورحمة الله".

 

 

 

    أسرعت بالوقوف وتركت قدماي للريح أعدو بأقصى سرعة ، لقد تبين لي بأن هذا الجمل مسحور أو أن به لطف ونحن بصحراء سيناء التى كنت أسمع عنها الكثير من القصص والحكايات وما كان يحدث للأنبياء بها من معجزات الله ، كانت الجرعة كبيرة على شاب فى عمري وبمفرده ليلاً بالصحراء مع هذا الجمل الغير عادي ، مما أربكني وزاد من خوفي وإضطرابي مشاهدة أمشير يعدو خلفي راغبا فى اللحاق بى ، لقد لحق بى الجمل وأمسكني بأسنانه القوية من تلابيب جلبابي ورفعني لأعلي وإعتقدت بأنه سوف يتصرف معي مثلما قام بهذا العمل الجمل هادي مع الجندي الإسرائيلي ولكن المفاجأة أنه وضعني على ظهره بهدوء وخلال هذا سمعت حشرجة وأربعة عيون تلمع فى الظلام ، لقد أقبلت ضباع سيناء القاتلة وإشتم أمشير رائحتها ولهذا وضعني بتلك الطريقة السريعة ثم ترك أقدامه الأربعة للهواء لدرجة إنني إسترجعت سرعته يوم الأمطار حتى كدت أفقد إتزاني.

 

       خلال هذا كنت أتشبث بكمية الأصواف الموجودة على ظهره وأنا أعلم من رجال الحدود أن جذب الجمل من تلك الشعيرات أو شعيرات المحيطة بفمه تثير ضيقه وحنقه ورغم هذا لم يظهر الجمل غضبه حيث كنت أنظر من حين لآخر خلفي فأشاهد الضباع مازالت تطارد الجمل ولكنها لم تلحق به نظراً لسرعته الكبيرة ، أقبل ضياء اليوم الرابع ومازال الجمل يسرع فى عدوه حتى لم أشعر بأننا إقتربنا من مستودع الغذاء وفجأة شاهدت الباب الحديد الذي إقتحمه أمشير مثل المرة السابقة ولكن تلك المرة سقطت من على ظهره أرضا أتلوى فشاهدت رحيل التى أقبلت مسرعة لدى سماعها للصوت والجلبة التى أحدثها أمشير وصياحي وصراخي من ألم السقوط.

 

     شاهدتني فأسرعت تمسك بى تساعدني على الوقوف لكـن الدماء كانت

 

 

 

تغطي وجهي وجزءاً من جسدى ، ساعدتني رحيل كي تضعني بالفراش بنفس الحجرة التى سبق وأن رقدت بها ثلاثة أيام سابقة وقامت على تمريضي ، فى تلك المرة كنت منتبها ولم يكن يعكر صفو حياتي سوي شعوري بتأثير الإصابات المتنوعة.

 

    اليوم التالي سمعت صوت أمشير على باب الخيمة كأنه زائر يرغب فى الإستفسار عن حالي فأسرعت إلىّ رحيل وطلبت منى الخروج ولقاء أمشير حتى لا يحطم الخيمة ولحظتها لن أتركه يقوم بهذا العمل فسوف أطلق عليه النار فوراً ، خشيت عليه حيث كنت أعتقد بأن هذا الجمل قريب من الله وصاحب بركات وحظوة مما شاهدته وسمعته وما أراه حين تلاوة القرآن بل حين أداء الصلاة ، لقد ظللت عدة أيام بعد هذا الحادث أتخوف من لقاء أمشير وبالأخص ليلاًً ، بل إمتنعت عن قراءة القرآن بصوت مسموع.

 

    اليوم الرابع شعرت بالتعافي فخرجت أتنزه بداخل المنطقة وإلتقيت بأمشير والسيدة زوجته "ناقة" هانم التى تنتظر حادثاً سعيداً  بعد ثمانية أشهر فقد مضي من شهور الحمل أربعة أشهر ، أقبل علىّ أمشير ومد رقبته ورأسه ناحيتي كأنه يحادثني وشاهدت آثار الجروح التى سببها له الذئب الثالث الذي تعلق بفخذه لمسافة طويلة وقد تماثلت للشفاء وتأكد لي صدق رواية رحيل حينما أخبرتنى بأنها ضمدت جراح أمشير فى نفس ليلة وصوله بما تحمله معها من أدوية وعقاقير ، مازال أمشير راغباً فى محادثتي  لكن هذا لم يؤثر فيّ بل الذي أثر فيّ وجعلني أكاد أرتكب معصية لن تمحيها الأيام والسنين بأن أطلق عليه النيران هو ما فعله وجعلني فى وجل منه ، لقد مد رأسه ناحيتي ثم أخرج بعضاً من أصواته المختلفة والمتتالية ؛ أثناء هذا هز رأسه هزة خفيفة لليمين واليسار بالتتابع ، لقد حاول أمشير أن يقلد أدائي للقرآن وكأنه يطالبني بالتلاوة.

 

 


 

 

بداية عـام جديد

 

 

 

     بقرية أنشاص وبعزبة رضوان باشا إختلف القوم فى تفنيد المعلومات والحقائق حول إختفاء الجندي صابر ؛ البعض أكد أن صابر لاقي ربه أثناء قتاله مع الأعداء مثل الكثيرين والبعض الآخر نفي هذا مؤكدا أن صابر لا يستطيع إستخدام السلاح نظراً لضعف بنيته وأنه مازال حديث الخدمة بالجيش ؛ جلست أمه وشقيقاته ناعيات حظهن بأن الولد الوحيد إختاره الله إلى جواره وهم لا يعلمون شيئا عن مصيره.

 

     أقبلت ريهام مع أسرتها لزيارة أسرة رضوان باشا ؛ توجهت إلى منزل أم صابر تستوضح منها عن أي بيانات تخصه ، أخبرتها أمه بأنهن لا يعلمن أي معلومات عنه وأنهن ينتظرن لعل الله يرسل لهن بمن يطمئن قلوبهن عليه ، غادرت الفتاة المنزل وتوجهت إلى الإسطبل وهناك شاهدت الخيول التى قام صابر على رعايتها والإهتمام بها حتى أصبحت تلك الخيول جزءاً هاماً من حياته ؛ بل أن الخيول أصبحت المنافس القوي فى حب صابر لأسرته ؛ كان واضحاً الوجوم والحزن على الخيول ، فلم تعد تلك الخيول التى تصهل وتعدو داخل الإسطبل سعادة وفرحاً وقد أيد هذا عم صديق ، معلقاً:

 

ـ تعرفي يا ست ريهام ، الخيل من يوم ما صابر راح الجهادية وحالهم زى ما أنتي شايفه ، مالهمشى نفس للأكل ولا للشرب ، مش عارف صابر كان عامل لهم إيه ، ربنا يرد غربتك يا صابر يا ابني عشان خاطر إخواتك وأمك الغلبانة ، دول ولايا.

 

ـ ما فيش أخبار عنه يا عم صديق؟ الحرب إنتهت من أربع تشهر وفيه ناس كتير رجعت ، أكيد فيه مكان نسأل فيه عن عساكر الجيش ، تفتكر منطقة التجنيد تعرف حاجه عنه؟

 

ـ مش عارف يا بنتي ،  فيه كفر جريب منا ناحية الزوامل أعرف نعمان أفندي موظف فى الأطيان الزراعية وأعرف أنه له أخ بجاله مده فى الجيش، بيجولوا عليه متطوع ، وأنه ماسك حاجه مهمه وزى ما تجولي كده بجي صول ، بكره أخطف رجلي وأوصله يمكن ربنا يكشف عنا الغمه عشان خاطر أمه وأخواته وكمان الخيل اللى مش جادره تتكلم.

 

 

 

      بعد يومين توجه صديق لقرية المساعد "الصـول" عرفان بعد أن علم بأن الرجل لا يأتى للقرية إلا مساء كل خميس نظرا لظروف الحرب فيمضي مساء الخميس ونهار الجمعة مع أمه وزوجته وأطفاله يعود بعدها لعمله بالقاهرة ، إستطاع صديق الوصول لمنزل شقيقه الأستاذ نعمان الصراف بمأمورية الأطيان الزراعية بمركز بلبيس ، بعد الإستقبال والترحيب توجه الإثنان للقاء الصول عرفان الذي رحب بهما ، تحدث صديق وأخبر عرفان بما حدث للجندي صابر ، طلب منه الرجل تزويده ببياناته من الاسم الثلاثي وتاريخ التجنيد ورقم الوحدة ، لم يستطع صديق تقديم أي بيانات ولهذا طلب إمهاله حتى الأسبوع القادم ، خلال الأسبوع التالي أخبر صديق رضوان باشا بحالة أسرة صابر وما قام به وطلب منه سؤال الدكتور عبدالحميد السيوي عن أي بيانات تخص صابر لأنه علم أنه قد ساعده فى إنهاء أوراقه بغرض الإعفاء من الخدمة ، اليوم التالي كان الباشا قد أنهى إتصاله بالدكتور عبدالحميد وحصل على صورة من الأوراق التى كانت بحوزته ؛ حيث كان الدكتور عبدالحميد يحتفظ ببعض نسخ من كل الأوراق الرسمية التي يقوم بتوقيعها وتصدر عن مكتبه؛ كرر ّصديق زيارته للصول عرفان وخلال ذلك سلمه الأوراق التى شعر حين تصفحها بأنها تحتوى على كل البيانات التى طلبها والمتوفرة بتلك الأوراق ولهذا طلب عرفان من الريس ّصديق زيارته الأسبوع القادم ليخبره بحالة الجندي صابر ، تكررت زيارة ّصديق للمرة الثالثة ، رحب به عرفان وأخبره بالخبر الذي لم يتوقعه أحد ، عم صديج ، الجندي صابر تم إعفاءه من الخدمة بالجيش وجدم كشف عيله بالحكاية دية وتسلم ورجة الإعفاء يوم 20 مايو 1967 ، يعنى صابر مش فى الجيش.

 

      إضطرب ّصديق وأعاد التأكيد هل تلك المعلومات دقيقه؟ أخبره الصول عرفان بأنه يعمل بالسجلات العسكرية بالقاهرة وهم يعلمون كل شيء عن كل جندي ومتطوع بأفرع القوات المسلحة ، ُمضيفاً: على فكره لو حصل له حاجه "وفاة" جبل ما يرجع لبلده مش ح يستحج معاش ولا مكافئة ، صابر مش فى الجيش جبل ما الحرب تبدأ.

 

     نزل هذا الخبر الصادم على كل من يعرف صابر وأسرته وتعددت التعليقات والمبررات وكان أكثرها تعليقا وإنتشاراً أن صابر أصابه التعب والإرهاق من تحمل أعباء أخوته وأمه ولهذا فقد قرر أن يهجر العزبة ويطفش وراح أتجوز بنت حلوه من اللى بتحط أبيض وأحمر وزغللت عينه.

 

***

 

فى بـــلاد النــــوبة

 

 

 

    اليوم الأول من شهر أكتوبر من عام 1967 توجهت أنا الرائد طارق من قوة المنطقة العسكرية فى مهمة محددة إلى قرية "ميت عنيبه مركز نصر النوبة محافظة أسوان" لإبلاغ أسر المفقودين السبعة عشر من قوة ســلاح

 

الحدود بالفوج الذي يعمل بشمال وجنوب سيناء ، لقد وصلت قوة الفــوج

 

 

 

كاملة إلا أفراد الفصيلة الخامسة والمكونة من سبعة عشر رجلا من أبناء تلك القرية ، كانت المهمة شاقة ومؤلمة أن تبلغ أسر هؤلاء الرجال بفقد ذويهم بسيناء بعد الهزيمة الساحقة التى منيّ بها الجيش المصري.

 

    لم أرغب فى أن ترافقني قوة من الشرطة المدنية كما تقضي التعليمات بذلك ؛ حيث أن العزاء عسكري بحت كما كنت أعلم الكثير عن أهالي النوبة الشجعان وما يتصف به قومها من نبل الأخلاق ورقة المشاعر وإحترام الغريب حتى لو كان القادم يحمل خبر فقد رجال بهذا العدد وهذا الفقد يغلفه شعور عام بالموت شبه المحقق بسيناء.

 

  كان الطريق طويلا وشاقا ، وحينما ظهر لنا جسم السد العالي الذي مازال تحت التشييد والبناء عبرنا النيل إلى الجهة الشرقية ، فلم تكن بحيرة السد قد ظهرت على الوجود بعد ، واصلنا سيرنا بالسيارة العسكرية وكان يرافقني أحد ضباط الفرع المالي للمنطقة العسكرية حاملا معه بعض أوراق ومستندات صرف مستحقات مالية لعائلات الضحايا السبعة عشر ، أيضا فرد حرس من الشرطة العسكرية وسائق السيارة الجيب ، كنا جميعا نرتدي لبس الميدان الافرول الكاكي نظرا لحالة الطوارئ التى تعم البلاد منذ رفعها قبل خمسة أشهر.

 

    وصلنا إلى مشارف القرية وإستقبلتنا رائحة ذكية للنباتات العطرية المنتشرة على أجناب الطريق أيضا أشجار الكركديه والتمر هندي وقصب السكر والذرة الشامية وبعض النباتات العطرية التى تشتهر بها تلك المنطقة، كنا نشاهد الشباب والرجال بوجوههم السمراء المكتنزة والبسمة المضيئة تعلو تلك الوجوه بل كانوا يقومون بتقديم التحية صوتا بالفم وحركة باليد ، كان هذا الإستقبال أحد المكونات الهامة للجلد والثقة بالنفس على إنـهاء تلك

 

 

 

المهمة بنجاح والتي تتلخص فى إعلام أهالي المفقودين بفقد ذويهم وصرف المستحقات المالية وهي راتبهم الشهري الذى كانوا يتقاضونه قبل الفقد ويبدأ الراتب من شهر يونيو الماضي.

 

     سألنا عن كبير الناحية فأسرع البعض للمصافحة بعد أن تركنا السيارة بأحد أجناب الطريق الغير معبد نظراً لضيق الطريق وأيضا كي نترك مساحة لسير الدواب التي كانت تتحرك من حولنا سواء أغنام أو أبقار أو حمير ، سار معنا نفر من القرية من أجل لقاء الشيخ شعبان وهو كبير الناحية ويعتبر شيخ تلك القرية ويعتبر بمثابة الحاكم الآمر الناهي بتلك القرية والجميع يحترم قراره ورأيه ، هذا ما أخبرنا به من إلتقينا بهم ، البعض حاول الإستفسار عن سبب زيارة رجال من الجيش للقرية لكننا لم نفصح لهم عن أي شيء وإكتفينا بالإبتسامة والصمت.

 

     هذا هو دار الشيخ شعبان ، تلك الجملة قالها أحد الشباب المرافق لنا بينما أسرع آخر للدق على باب كبير ليعلم الشيخ بحضور بعض الزوار له ، فتح الباب وظهر بعض الرجال المعاونين للشيخ والذين إستقبلونا أحسن إستقبال ودخلنا إلى قاعة فسيحة يطلق عليها اسم المندره والمخصصة لإستقبال الضيوف والتي تحتوي على العديد من الكنب البلدي المغطي بأغطية جميلة نظيفة وشلت للجلوس مزودة بمسند ظهر يريح الضيف الجالس ومصنوعة من القطن فتريح من يستخدمها.

 

    إستقبلنا الرجل بترحاب وقدموا إلينا المشروبات الساخنة من الشاي والقهوة رغم إرتفاع درجة الحرارة فى ذلك الوقت ، عرفت الشيخ شعبان بنفسي وباقي الزملاء ، رحب الرجل ومعاونوه بنا فرداً فرداً ، أوجزت بالمهمة المكلف بها ، لم تتبدل ملامح الرجل أو معاونوه بل علق قائلاً: نحن

 

 

 

نحتسبهم عند الله ، لذا فأنتم على الرحب والسعة زملاء لهم ، تحدث زميلي الضابط المالي بأنه راغب بلقاء أسر هؤلاء الرجال كي يقدم لهم مستحقات أبنائهم المالية مع رجاء بإحضار الوثائق والأوراق التى تثبت درجة القرابة.

 

     أشار الشيخ إلى معاونيه الذين غادروا المكان وبعد نصف ساعة شاهدنا بعض الرجال والنساء مقبلين على المندرة ، قام على ترتيبهم رجال الشيخ حيث بدأ بالنداء على أقارب كل فرد على حدة ، كانت توجد بعض الأوراق من شهادات ميلاد وإذا لم تكن كافية كان يقدم إقرارا كتابيا موقعا عليه من الشيخ شعبان ، ظل هذا الحال أكثر من ساعتين تسلمت الأسر مرتبات أربعة أشهر "يونيو/يوليو/أغسطس/سبتمبر" ، قدم إلينا الرجال الشكر كما غطي البكاء وجوه بعض النساء فأصدر الشيخ أوامره بمنع البكاء.

 

     قدمنا الشكر للشيخ راغبين بالعودة ولكنه أصر علي أن نظل تلك الليلة بضيافته حيث هبط الظلام والتحرك ليلاً بتلك المنطقة به خطر علينا من سوء الطرق الغير معبدة ، تحت الضغط والإرهاق البدني قبلنا البقاء وأعدت دار ضيافة وأحضرت الملابس "الجلباب الأبيض وبأسفل منه السروال" ، حصلنا على وجبة الغذاء الفاخرة ، همس الشيخ فى حديثه بأن تلك الليلة سوف يتم بها زواج كبري بنات الشاويش إدريس أحد المفقودين ومن أجل هذا رغبت بأن تحضروا هذا الإحتفال بالإنابة عن الفقيد.

 

    شرح لنا الشيخ كيف يتم الإستعداد لتلك الليلة حيث يتم إجراء عملية تجميل طبيعية للعروس يطلق عليها "الطلح" وهي عبارة عن خشب الصندل الذي يوضع فى حفرة بالأرض ويتم إشعاله ثم تطفئ النيران فتتصاعد منه الأبخرة المعبقة برائحة الصندل التى تغزو الأنوف متعة وجمالا ، تحصل العروس علي الدخان الذي يتصاعد من الحفرة إلى داخل ملابسها ولا يتواجد

 

 

 

معها سوي النساء بعد أن يلين جسد العروس ويصبح هلاميا يحك جسدها بشحم الأغنام المضاف إليه روائح طبيعية من بعض الأشجار الأفريقية وتسمي "الحمره" والتي يضاف إليها مخلوط يعبئ بزجاجات تغطي وتحفظ فى مكان مظلم لفترات زمنية طويلة حيث تعتق مثل الخمر فتزداد الرائحة بها تعتيقا فتزيدها عبقاً جميلاً ، كل هذا يساعد العرائس المتزوجات حديثاً بأن تظل الواحدة منهن ذات رائحة طيبة لفترة زمنية طويلة. 

 

     رغبنا بالتعرف على المزيد من المعلومات عن أبناء مصر ببلاد النوبة التى إبتعدت عنهم وسائل الإعلام إما لبعد المسافة أو للإهمال المتعمد لأبناء مصر على الحدود والقرى ، شرح لنا الشيخ شعبان كيف يتم الزواج بين الشباب من الجنسين من نفس القبيلة أو من قبيلة مجاورة وبالتالي الجميع يعرفون بعضهم جيداً كما أخبرنا بأن أكبر قبيلتين بالنوبة هما "قبيلة فارتس وقبيلة كنزي" فمثلا بلهجة الفارتس كلمة هجوم تقال ُجم وبالكنزي كلمة حدود تقال حدود تناتر والعدو يقال عنه عدوّ والجمل يقال عنه كم والبقرة يقال عنها تي والفرح ّبليه وعروسه إركنيه وشيخ مسجد يقال فجير وشيخ البلد يقال ثمل وزوجة بالكنزي إإن وبالفرتس إدين .. ولد/  برو .. أو إبرو.

 

      قام الشباب بالغناء والرقص التعبيري بحركات إلتفافية طيبة والتصفيق بطريقة موحدة وتصفيقات متعددة مع دقات الطبلة والرق ، كانت اللحوم المشوية من الأغنام والماعز منتشرة بكل مكان والجميع يتناول طعامه بسعادة مع إنتشار الحلوى وتوزيعها على الأطفال والشباب ، قدمنا التهنئة للعروس من على ُبعد وللعريس أيضا وخلدنا فى نومنا حتي صباح اليوم التالي ثم ودعنا أهل ميت عنيبة مركز نصر النوبة محافظة أسوان بعد قضاء أربع وعشرين ساعة من أحسن ما قضيت كما أنهيت مهمتي والحمد لله أنا والمرافقين لي.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 أمنيات تتحقق بفضل الله

 

 

 

       كنت أمنى نفسي بقتل جندي إسرائيلي أسوة بزملائي رجال فصيلة الحدود ، لقد أصبحت أجيد الرمي ولكن المشكلة التي كانت أمامي هي كيفية العثور على هؤلاء الأعداء وكيفية الهرب دون اللحاق بى؟ لو إستخدمت "أمشير" فسوف يسبب لي مشاكل كثيرة كما أنه أصبح بطيء الحركة ، جلست جلسة تأمل أنظر فى الأفق متمنيا أمنية بعيدة المنال ؛ أردد بداخلي   " لو كنت أمتلك حصانا مثل الخيول التى كانت تجاورني وأعتني بها ؛ لقد كانت أفراس وخيول رضوان باشا نعمة ومتعة لي" ، خرجت من صدري تنهيدة ، لو حدث هذا فمن الممكن القيام بعمليات كثيرة بمختلف الأماكن وسوف يساعدني الحصان بسرعته سواء بالهجوم أو الفرار بحيث أترك المكان قبل أن يعثر عليّ الأعداء.

 

     ظللت جالساً أمام الباب الحديدي الذي كان يتم إغلاقه ليلاً ، إعتكفت بين الصخور المتعرجة أحتمي بها من برودة شهر نوفمبر وأتمتع بشعاع الشمس الذي أدخل الدفء إلى جسدي ، مازال خيالي سابحاً فى الفضاء المترامي أمامي متخيلاً عثوري على فرس قوي قادر على أن يساعدني فى تحقيق أمنياتي ، فجأة شاهدت فرسا عربيا أصيلا أمامي ؛ تعجبت من أحلامي تلك وهذه الخيالات لدرجة أننى إعتقدت أنها أصبحت حقيقة واقعة ، نهضت لأملس على هذا الفرس الذي أمامي ؛ تراجعت وجلست وأغمضت جفنيّ وطلبت من الله أن يحقق أحلامي وأمنياتي بالعثور على الفرس ، تنبهت على صوت سيدة عجوز تحدثني تطالبني بأن أمدها ببعض المؤن حيث أنها إستهلكت كل ما تسلمته الشهر الماضي ومازال أمامها عشرة أيام

 

على موعد صرف مستحقاتها ، أخبرتها بأن هذا غير جائز ، بكت وإستعطفتني بأن أحقق لها رغبتها وأنها على إستعداد أن تقايضني بهذا الحصان فى مقابل جوال من الدقيق.

 

      ضحكت من حديثها وإعتقدت أنها أضغاث أحلام وأصبحت هلوسة وقد أثرت عليّ حتى إختلط حديث السيدة بأمنياتي وأحلامي ، تساءلت : حصان إيه يا حاجه؟ أجابتني : هذا الحصان الذي أمامك ، أنه حصان "جاهل" أى مازال شاباً وسوف يساعدك على الحركة والجري ويمكنك أن تحقق ما كنت تفكر فيه ، إضطربت وشعرت أن السيدة إما تقرأ الطالع أو أنني وصلت إلى مرحلة من الهلوسة التى سوف تؤدي بى إلى الجنون.

 

    لم يسعفني وينقذني من تلك الحالة سوي وصول رحيل ؛ أعادت السيدة عليها الحديث عارضة شراء جوال دقيق فى مقابل هذا الحصان ، صرخت بها رحيل ورفضت عرضها وأنها ليست فى حاجه لهذا الحصان الهزيل ، تنبهت وتأكد لي أن ما أشاهده من وجود فرس قوى هو حقيقة واقعة وأن ما تعرضه السيدة علينا لهو واقع أيضاً ، بكت السيدة العجوز مرة ثانية ورغم هذا لم تتأثر رحيل ، فى تلك اللحظة تدخلت وطلبت من رحيل الإستجابة لطلب السيدة ، رفضت رجائي وصرخت فيّ وأسمعتني بعض كلمات قاسية على أذني لم أسمعها منها من قبل.

 

    تأثرت لهذا وغادرت المكان ُمسرعا وعدت ممتطيا "أمشير" مودعاً الجميع ، أسرعت رحيل ترجوني البقاء وسوف تنصاع منذ الآن لكل رغباتي ورغبات السيدة ، هكذا أصبحت أمتلك فرساً وفى المقابل سلمت السيدة جوال دقيق ورغبت فى أن أمدها بجوال سكر فشكرتني على هذا معلقة بأن هذا جوال السكر وفره لحصانك ، إقتربت مني وهمســت بأذني:

 

الحصان اسمه شهاب ، ماتنساش شهاب ، ضحكت وغادرت المكان مسرعة حتى إنني شاهدتها على مسافة بعيدة وقد أسرع بها الجمل الذى وضعت جوال الدقيق فوق ظهره وقمت بإحكام رباطه ؛ مازالت الدهشة هي حالي متسائلاً: كيف أسرعت السيدة بمغادرة المكان بتلك السرعة التى لا يستطيع أمشـير اللحاق بها ، تعجبت وخشيت بأن تكون العجوز قد خدعتني بهذا الحصان وأنه لا جدوى من إقتنائه وكيف تضحى بحصان مرتفع الثمن فى مقابل جوال من الدقيق.

 

     من أجل هذا إمتطيت الحصان المزود بسرج جميل مرتفع الثمن لا يقل عما كنت أشاهده من سرج على ظهر أي حصان من خيول رضوان باشا ، أسرعت بالحصان لمسافة بعيدة وشعرت بأنه يستجيب لي وقمت بعدة دورات كانت ناجحة ثم دورات قصيرة حادة نجح خلالها الفرس بالقيام بها ؛ تأكد لي أن هذا الفرس من الخيول الأصيلة سواء لمظهره المعتد بنفسه أو لحركته السريعة.

 

     كانت رحيل تنظر ناحيتي وتشاهد الحيرة فى وجهي الذي أصبح ساكناً لا يتحرك ولا يجيب أو يتحدث ، قمت بالسير متجهاً إلى مخزن الدقيق والفرس يتبعني ، شعرت أن دوارا أصابني وأن عقلي لا يسعفني في الشرح     وتفسير كل ما أشاهده منذ عدة أيام سواء من " أمشـير" أو في هذا اليوم من تلك العجوز وذاك الفرس ، لقد ظللت طوال الليل يقظاً منتظراً أن تظهر العجوز دون جدوى ولم أعثر على جواب شاف لإختفاء السيدة بتلك السرعة من أمامي ولم أعد أشاهد لها أي أثر فى الصحراء المفتوحة أمامي.

 

     أثناء الليل نهضت فزعاً من أحلام وكوابيس مخيفة هاجمتني ، خلالـها

 

كنت أشاهد السيدة العجوز بأشـكال مختلفة ، كما شـاهدت "أمشير" يتحدث

 

 

 

معي كأنه الشاويش إدريس ، فى الصباح شعرت بصداع بالرأس أعقبه إرتفاع فى درجة حرارة الجسم سقطت بعدها مغشيا عليّ ، تنبهت فشاهدت رحيل بجواري تقوم على رعايتي مستخدمة كمادات مياه باردة على وجهي، كنت أنهض من حين لآخر فزعاً باحثاً عن السيدة العجوز ، بعد هذا بأيام     تحسنت حالتى الصحية نسبيا.

 

     يوجد منطقة رمليه بين الأخاديد بداخل هذا الجزء من جسم الجبل أيضاً تجري بها مياه السيول ، المنطقة مغطاة بالرمال وتكثر بها الأعشاب البرية التى تعتبر غذاءً هاماً لتلك الحيوانات سواء الجمال أو الماعز أو الخيول ، المنطقة متسعة ومساحتها تقارب مساحة حوش المدرسة أي حوالي قيراطين ونصف أي أكثر من أربعمائة متر مربع ، تلك المنطقة أصبحت ميدان التدريب الذى إخترته لتدريب الفرس المهدي إليّ والذي سقط عليّ من السماء ، وضعت كل خبراتي بالسنوات السابقة بعزبة رضوان باشا فى خدمة الخيول وتدريبها ؛ إستفدت من تلك الخبرات وعزمت على إستهلاك وقت فراغي فى تلك الهواية الممتعة والتى لا يستطيع من خبرها أن يبتعد عنها ؛ كانت منطقة التدريب تلك بعيدة عن أنظار دوريات العدو أو زوار السيدة رحيل ، لقد كانت مخفية بجوف هذا الأخدود بالجبل.

 

     كل حركة أو أمر أصدره للحصان تبدأ بقطعة من السكر وتنتهي بقطعة أخري إذا تفهمها وأجادها ، لهذا بدأت فى تعليمه الأرقام ، فإذا أشرت بإصبع واحد وفهمها ضرب الأرض بقدمه ضربة واحدة وهكذا حتى أجاد أرقام العشرات أي الأرقام من رقمين ، ثم تدرب على معرفة الشمس سواء الغروب أو الشروق ، أيضاً تدرب على معرفة رحيل ، فإذا أمسكت شـعر رقبته الطويل فتلك هى رحيل ، وإذا أمسكت إحدى إذنيه فهذا هارون ، وإذا

 

 

 

وضعت يدى على صدري فهذا يعني بأنني صابر وأرغب فيّ أن أعطيه الإشارة المطلوب تنفيذها ، ظللت على هذا الحال عدة أسابيع حتى شعرت بأنه أتقن الكثير من الإشارات كي أستطيع التفاهم معه مثلما كنت أفعل وأتصرف مع خيول رضوان باشا بالإضافة إلى تدريبه على العدو لمسافات.

 

      أقبلت رحيل سعيدة بما أقوم به مع هذا الفرس ومن أجل هذا أحضرت المرجيحة الخاصة بابنها هارون وجلس بداخلها يشاهدني بسعادة بالغة ولهذا كنت أشير إلى أذن الحصان فيتجه إلى هارون يشتم رائحته و إذا ملست على شعره إتجه نحو رحيل فتضحك باسمة وتناوله قطعة من السكر، كنت من حين لآخر أطفئ رغبتي وأهدئ من غربتي بتلاوة آيات الذكر الحكيم والتى كان يجتمع عليها كل من أمشير وهذا الحصان حتى أصبحت تلك التلاوة هى شفرة النداء لهما.

 

     ظل هذا حالي حتي تماثلي للشفاء من الخوف والتوتر من لقاء السيدة العجوز ، لقد شعرت بأن تلك الحالة التي لبستني من تأثير تلاوة القرآن على أمشير وشهاب لن أخرج منها وأستريح إلا بعد أن ألتقي بأصدقائي الذين سوف يوضحون لي كل ما شاهدته سواء من أمشير وشهاب أو السيدة العجوز ، أخبرت رحيل برغبتي فى زيارة العاملين زملائي السابقين ، لم تناقشني ولم تعرض عليّ بعض المواد الغذائية من دقيق وسكر وشاي.

 

    قررت المجازفة وإستخدام الحصان قبل أن يهبط ضياء هذا النهار ؛  وصلت إلى زملائي الذين إستقبلوني بفرحة عارمة ودهشتهم من عثوري على هذا الفرس بتلك الديار التى يندر بها وجود مثل تلك الأفراس ، بعد أن حصلت على قسط من الراحة تحدثت مع زملائي عما حدث ، كانت دهشتهم كبيرة بالأخص حين تحدثت عن موضوع السـيدة العجوز أما ما حدث من

 

 

 

أمشير والحصان فقد أكدوا لي بأن تلك آية من آيات الله الكونية التى يرسلها لعباده ولكنهم لا يفقهون ، بينما أوضح العريف أبوبكر بأن الله أوضح فى إحدي سور القرآن بأن هذا القرآن لو نزل على جبل لرأيته متصدعا من خشية الله ، فما بالنا بتلك الحيوانات التى تعبد الله لكن بالطريقة والكيفية التى خلقها الله.

 

    أما الباقون فلم يستطيعوا أن يفسروا ما حدث وطلبوا مني أن أهنأ وأرتاح لأن رغبتي قد حققها الله والذي لا يحقق سوي الرغبات الطيبة والتى أمرنا بها ، لقد أصبحت الآن تمتلك فرساً وتجيد الرماية وعليك الإحتراز واليقظة من ألاعيب العدو ومن عملاءه وجواسيسه وقد تكون رحيل إحداهن.

 

     صباح اليوم التالي ُعدت مسرعا إلى مخزن التموين ، أثناء الطريق شعرت بالعطش والظمأ كما لاحظت العرق الغزير على رقبة الحصان ، توجهت إلى عين الماء التى رقد بجوارها "أمشـير" في المرة السابقة ، عببت منها وحمدت الله وبدأ الحصان فى عب المياه ، أثناء متابعتي للحصان شعرت بمن يتحرك خلفي ، نظرت مسرعاً فشاهدت العجوز التى أقبلت منذ أيام ومعها الحصان ، نظرت إليّ باسمة؛ مرددة: ربنا  معاك ، تحدثت معها قليلاً: أجابت بكلمات قليلة ، ربنا معاك ودايما تفتكر الصحابة عملوا إيه ، معك شهاب هذا الفرس القوي وشبابك وحبك لبلدك ، عليك العمل ، أستودعك الله وأسرعت وإختفت والجمل يسابق الريح؛ جلست هامداً وتنبهت إلى أن الحصان يدق بقدميه أرضا كي أنتبه فالوقت يسرع والليل سوف يهبط بعد ساعات ، ركبت صهوته وأسرعت عائداً إلي مستودع الأغذية فشاهدت رحيل تجلس أمام قبر زوجها كعادتها فإستقبلتني إستقبالاً طيبا مشيدة بعدم تأخري وعودتي مبكرا.

 

 

 

هل البطولة موقف؟

 

 

 

     لم أتناول طعاما رغم أن رحيل حاولت جاهدة أن تدفعني لتناول الطعام معها لكنني كنت فى أشد الحاجة للإنفراد بنفسي ، كل ما تناولته كان كوبا من الشاي وتركت رحيل برفقة ابنها هارون بعدها توجهت للمخزن وأغلقت الباب خلفي وجلست مستنداً بظهري على أجولة الدقيق أفكر وإسترجع أحداث الأيام السابقة وآخر لقاء تم مع العجوز منذ ساعات قلائل.

 

     نهضت صباح اليوم التالي أكثر نشاطاً وحيوية نظراً لما بثته فى رأسي تلك السيدة العجوز والذى أكد لي حديثها الأخير بجوار نبع المياه أنها سيدة صالحة وإذا كانت روحا فإنها روح طيبة أو ملاك جاء لمساعدتي لأن أصبح شيئا ذا قيمة بدلا من عملي هذا الذي لا يخرج عن كوني حمالا أرفع أجولة الدقيق لأضعها فوق الجمال عدا هذا فلم أقدم لوطني أي شيء ذا قيمة تذكر مثل رجال الحدود الأفذاذ.

 

    أقبلت رحيل فشاهدتني منشرح الصدر وقد أثرت عليّ ساعات النوم المريحة فظهر الضياء على وجهي كما قالت ، إقتربت منى وقبلت خداي كعادتها ورافقتني حتى مسكنها وتناولنا طعام الإفطار بصحبة هارون هذا الطفل الساكن الهادئ الذي أودع الله به كل الصفات الجميلة.

 

     أثناء تناول الطعام أدارت حديثها متسائلة عن أحوال أصدقائي وهل مازال الدقيق متوافراً لديهم أم إنهم فى حاجة إلى كمية أخري؟ أخبرتها بأنهم فى حاجة لدقيق ولكني خشيت أن طلبت منك كمية أخرى أن يصيبك هذا بالضيق والضجر ، هدأت من ضيقي وما عليّ سوي أن أطلب منها الكمية المرجوة وهى قادرة على إستعاضة أي كمية من الدقيق المنصــرف والتى

 

تأتي من الولايات المتحدة مباشرة إلى المناطق المحتلة بغرض إيهام سكان تلك المناطق بأن حالتهم أصبحت أحسن حالا وأفضل عن السابق خلال خضوعهم للحكم المباشر للحكومات الوطنية قبل قيام الحرب وإنتصار جيش الدفاع الإسرائيلي على جيوش الدول العربية المتهالكة والباغية التى تكره وجود دولة إسرائيل الحرة بالمنطقة.

 

     نظرت رحيل إليّ بعيونها الجميلة متسائلة: هل تشعر بأن إسرائيل دولة راقية ومتقدمة عن باقي الدول العربية المجاورة لها؟ أجبتها بأنني لا أشعر بهذا ، بل من قراءة كتب التاريخ أشعر بأنهم عصابات وقتلة راغبة فى سفك الدماء ، إضطربت وأحمر وجهها من شدة الضيق وصمتت لفترة ، ثم نهضت راغبة فى إنهاء اللقاء ، نهضت خلفها ووجهت لها نفس السؤال ، رحيل : لقد نشأت بمصر وتربيت بها حتى وصل عمرك إلى أربعة عشر عاما ، هل شعرت بأن مصر والمصريين أكثر تخلفاً من إسرائيل وهل لاحظت أن الشعب المصري يعشق سفك الدماء؟

 

   كانت دهشتي قوية ، إذ إنفطرت عيونها بدموع غزيرة وأمسكت كتفيّ تهزهما بعنف ، وتردد : مصر ما فيش زيها ولا فى الأحلام ، مصر أحلى بلد فى العالم ،  مصر بلدي وبلد أجدادي ، مصر بلد الديانة اليهودية وعلى ترابها نشأ نبي الله موسي ، ثم أمسكت بكلتا يديها ببعض وجلست على ركبتيها ونظرت لأعلى تناجي الله: يارب ، إغفر لي كل ما قلته بحق هذا الوطن العظيم الذي تخيرته ليكون مهدا لطفولة موسي وحامي لرسالته ثم حميته من الحاكم الظالم وأغرقته فى البحر ؛ إستدارت نحوي وعادت تحتضنني مقدمة أسفها وإعتذارها لما قالته فى حق مصر والمصريين وأسرعت من أمامي وإختبأت بداخل حجرتها.

 

  

 

     بداخل الإسطبل أشرت إليه ؛ أقبل أيها الفرس ، أشاهده قادماً مسرعاً حتى إذا وقف أمامي صهل ودق بقدميه أرضا كأنه يقول لي حاضر يافندم مثل التى كنا نقولها للشاويش إدريس ، وضعت السرج على ظهره وقفزت أعلاه وخرجت من باب المستودع والشمس تضيء المكان والصحراء هادئة من حولي ، كنت أشعر بأن شهاب ينهب الأرض نهبا ؛ بل كدت أن أطلب منه خفض سرعته ، وجهته كما كنت راغبا ، مضت ساعتان حتى وصلت إلى المكان الذي أبغيه ، الهيكل العظمي للجمل الذى مات وكان يحمل أحد رجال الحدود والذي عثرنا بداخل حافظة البريد التى كان يحملها على شهادة الإعفاء الخاصة بى ، قريبا منه يرقد هيكل الجمل هادي الذي أنقذني من براثن الجنود الإسرائيليين ؛ أيضا السيارة الجيب الإسرائيلية محطمة وقد علاها الصدأ.

 

     بجوار الجمل الأول حفرت أسفل عظامه حتى عثرت على الجراب المشمع الذي خبأت به البندقية القناصة ، سحبت الجراب وبداخله البندقية  فشاهدتها ومازالت سليمة ولم يقترب منها الصدأ نظرا لحمايتها بالجراب المشمع المبطن بزيت السلاح المانع للصدأ ، ظللت أحفر قريبا من الهيكل العظمى حتى عثرت على صندوق من الخشب في حجم علبة الحلوي الصغيرة يحتوي علي ذخيرة البندقية ، تذكرت كلمات الشاويش إدريس:

 

ـ عسكري صابرا ، البندجية الألية عيارها 7,62×39 بينما البندجية الجناصة عيارها 7,62×54 ، البندجية دية واعرة جوي وكل طلجة منها بتهد الكتف لكن ضربها دجيج لو النفر منا منشن ُصح ومدرب عليها ، صابرا ، البندجية دية كل رصاصة تخرج منها بنفر يموت فى الحال.

 

      أخيراً عثرت على ذخيرة البندقية ، أسرعت بالعودة إلى مســتودع

 

 

 

الأغذية حاملا معي البندقية وصندوق الذخيرة الخاص بها ؛ شاهدت رحيل جالسة خارج المستودع وصغيرها يلهو قريبا منها ، أشارت إليّ بأن أعود إليها بعد أن أحرر شهاب من السرج ثم قالت بصوت عال بأنها وضعت أمام الجمال صباح اليوم بعض الشعير بالإضافة إلى العشب الجبلي الذي أحضره لهم يوميا.

 

     بالداخل تركت ظهر الحصان وحللته من السرج فأصبح حرا ووضعت الطعام أمامه وشاهدت عبوات الماء ممتلئة ، توجهت لأمشير كي أطمئن عليه وهدهدت على رأسه وقبلت صدغه الأيمن ثم توجهت للسيدة ناقة وقمت بتحيتها مثل ما حدث مع أمشير لكنه زمجر وبدأت الغيرة واضحة عليه وكادت القلة تخرج من فمه وهذا يعني بأن الدفاع عن الشرف لا بد من أن تراق عليه الدماء ، تركته مغادرا المكان طالبا منه أن يشبع بالسيدة ناقة وكل واحد ينام على الجنب الذي يريحه.

 

      ليلاً فتحت صندوق الذخيرة وأخرجت عبوة كرتون تحوي خمسين طلقة من طلقات القناصة ولففتها بقطعة قماش من الألياف الصناعية التى تستخدمها رحيل لمنع تسرب المياه من ابنها هارون أثناء نومه على فرشة السرير ، حملت بعدها الصندوق وكوريك الحفر وفتحت باب المستودع وبالخارج قمت بتخير مكان قريب من الصخور ومرتفع نسبيا حتى لا تركن به مياه الأمطار ، قمت بالحفر وبعد أن لففت الصندوق الخشبي عدت ووضعت بعض الرمال فوق الحفرة وبسطحه الخارجي وضعت بعض أحجار من الصخور كي أعلم أين أخبئ الذخيرة.

 

     كنت أخشي قوات العدو ولهذا فكرت فى تلك الطريقة ، اليوم التالي وفى المساء تسللت أنا وشهاب الذي كان يســعده هذا الاسـم وغــادرنا

 

 

 

المستودع وبعد مسيرة ساعتين إختبأت معه فى إنتظار الدورية التى قال لي عنها الشاويش إدريس إنها تتحرك قريبا من هذا الجبل فى ميعاد يقترب من الثامنة مساءً ونظراً لعدم وجود ساعة يد معي إضطررت للجلوس ولم أكن أخشي الذئاب أو الضباع لوجود البندقية القناصة وبالنظر داخل التلسكوب أوجه الضرب على الهدف وفي أقل من الثانية يكون قد لقي حتفه.

 

     جلست طوال الليل ولم أشاهد الدورية وضاعت عليّ تلك الفرصة ؛ تركت البندقية وعلبة الذخيرة الكرتون بعد أن لففتهم جيدا ووضعتهم بداخل فتحة بداخل سرداب بالجبل الذى كنت أحتل قمته ، لقد كنت أخشي لقاء مباشرا ًومفاجئا ًمع دورية من العدو وبتفتيشي يعثرون على السلاح والذخيرة ويلقون القبض عليّ ، لم أكن أخشي أن يقوم أحد من البدو بسرقة السلاح ؛ فمن سوف يأتى لهذا المرتفع الصخري الذي لا فائدة منه فليس به ماء أو كلأ تتناوله الدواب من الماعز والأغنام والجمال.

 

    فى الصباح ُعدت ثانية للمستودع ، شاهدت رحيل تقف فى وضع غير مألوف وتهز ساقيها لأعلى وأسفل أثناء وقوفها وهذا معناه إنها إكتشفت خطأ ما إرتكبته ، تساءلت: لماذا تقفين هكذا؟ أشارت إلىّ بأن أتبعها ؛ وافقت على طلبها بعد أن أقوم بتحرير السرج من علي ظهر شهاب وأضع أمامه الطعام والشراب ، عدت منفذا تعليماتها وتبعتها وأنا أفكر فيما إكتشفته من أمري وفكرت بأنها قامت بمراجعة الدقيق وأجولة السكر وإكتشفت نقصا ، دخلت إلى الحجرة التى نتناول بداخلها الطعام ، أشارت إليّ بالجلوس ، جلست ثم أقبلت نحوى وجلست أرضا تحت أقدامي وأمسكت بيدي ونظرت فى عيناي وهي تردد:

 

دي عمايل الإخوات : دي عمايل الإخوات ، مكنتش فاكره أن قلبك أسود من

 

 

 

ناحيتي ، ظهرت الحيرة على وجهي ولم أَجب ؛ ثم نهضت وعادت بعد قليل حاملة الصندوق الخشبي الذي خبأته والذي يحتوى على ذخيرة البندقية القناصة.

 

     شعرت أن الأرض تميد بى ، فكرت بالفرار وأن أمتطي الفرس وأهرب ولكني جبنت ولم أقو على المواجهة ؛ حيث كانت الحجة دامغة لا أستطيع لها ردا ولا نفيا ، عادت وجلست جلستها الأولي تحت أقدامي ، هبطت أرضا وجلست أمامها مباشرة وإنحنيت مقبلاً وجنتيها لكنها إبتعدت عني راغبة فى مقاطعتي ، أحدثها: هكذا تعاملين أخاك الأصغر ، نظرت إليّ نظرة كلها أسي قائلة وهكذا تعامل أختك الكبرى ، هل أصبح بيننا أسرار ، لماذا تخفي عني الذخيرة وطالما هناك ذخيرة هناك سلاح وطالما هناك سلاح فهناك قتلي من أبناء عقيدتي ، أنت من أبناء وطني ولكن من تقوم بقتلهم من أبناء عقيدتي ، لماذا تضعني فى حيرة؟ هل أظل صامتة ساكنة على قتل أبناء عقيدتي بيد أبناء وطني أم أقوم على خيانة أحد من شباب  وطني وأبلغ عنه ، لماذا؟

 

     جلست صامتا لفترة وشعرت أن عدوي الصمت قد أصابتها أيضاً ، نهضت ُمسرعا إلى داخل المخزن وجلست بالظلام ؛ أقبلت خلفي مسرعة وجلست بجواري لصيقة بى ، تنادي عليّ : أخي صابر لا تضعني فى هذا المأزق .. أرجوك .. أرجوك .. ثم بكت بكاءًً مراً مؤلماً لم أستطع إخراجها منه ، مازالت تردد: سوف أحتفظ بتلك الذخيرة كي أضمن ألا تستخدمها ، مما إضطرني لإعادة تقبيل رأسها ووجهها ، نهضت مسرعة مغادرة المخزن فلحقت بها فتوقفت وألقت برأسها على صدري ، كنت أسمع شهقات وتشنجات صدرها ومازالت الدموع منهمرة ، شعرت لحظتها بأنني إرتكبت

 

 

 

معصية كبيرة ومن المحتمل أن أفقد رحيل وأنا لا أستطيع العيش بدونها ؛ فلقد أصبحت بالنسبة لي مثل الطفل الذي ولد في الحال ومازال ملتصقا بأمه بالحبل السري.

 

      دفعتني بعيداً عنها بهدوء وغادرت المخزن ، ترددت وتساءلت: هل ألحق بها أو أنتظر؟ بعد ُمضي نصف ساعة تقريباً على هذا الحوار سمعت صوت موتور سيارة وشاهدت أضواءها فأسرعت وفتحت الباب فشاهدت جاستون الذى جاء للمرة الثانية والذي تسبب فى مقتل موشيه زوج رحيل ، رحبت به وهو بالأحرى أشار إليّ بتحية مخالفة عن اللقاء الأول ؛ هبط من السيارة وسرت أمامه حتى باب الحجرة المواجهة والمعدة سلفاً لإستقبال زوار رحيل ، أشار إليّ بيده بعد أن وضع ساقا على ساق حيث قال:

 

ـ بسرعة عرف ستك أنى وصلت

 

ـ حاضر يا سعادة الباشا ، هرولت ودخلت على رحيل ولم أستأذن للدخول؛ لحظتها كانت تستبدل ملابسها فنهرتني فتركت حجرتها عائداً بسرعة مؤنباً نفسي على تلك السقطة الأخلاقية ، متسائلاً: كيف يحق لي أن أنتهك حرمة السيدة وقد أمرنا القرآن بأن نستأذن قبل الدخول للبيوت ، لقد أصبحت قراءة القرآن شيء والعمل به شيء آخر ، عكفت بداخل المخزن وبعد قليل خرجت من تلك الأفكار السيئة وتأنيب الضمير بتلاوة القرآن ، شعرت بسعادة أثناء التلاوة ولم أفكر فيم يحدث بالخارج ودون أن أشعر ارتفعت درجة صوتي حيث أقبل بعض المستمعين لسماع ترتيلي ، أمـشير وبصحبته السيد شهاب وتبعتهم الناقة حيث وقفت بعيداً نظراً لخجلها من مزاحمة الذكور!!

 

     شعرت برغبة قوية فى النـوم ، رددت بهدوء : صـدق الله العظيم ؛

 

 

 

فقد إنتهت التلاوة وخلدت لنوم هادئ ولم أشعر بأي شئ إلا بصوت ورائحة رحيل التى أقبلت بعد أن غادر جاستون خيمتها ، شعرت بها تحتضنني وتقبل خدي قائلة: يخرب عقلك يا صابر ، بأحبك موت ، ياه ، والله لو بابا وماما كانوا جابوا ليا أخ ما كنتش حبيته زيك ، متزعلشى منى ، أنا عارفة أني زعلتك وقلت في نفسي قبل ما أروح أنام آجي أراضيك ، خلاص مش زعلان ، تصبح على خير يا أحلي أخ ، رددت خلفها ؛ تصبحي على خير يا أحلي أخت.

 

      بعد تلك العواطف المتبادلة بيني وبين رحيل شعرت من جانبي بأن علىّ واجبا إنسانياً بأن أظل مع تلك السيدة رغم الخلاف الواضح بيننا ، فرحيل لم تشعر بعد بأن إسرائيل دولة معتدية ومن حقنا مقاومتها وتحرير أرضنا ، لقد تأثرت بالدعاية المغرضة التى يبثها الإعلام الإسرائيلي رغم مظاهر بعض العواطف الكامنة التى كانت واضحة على تصرفاتها معي سواء لمصر أو المصريين من جراء إقامتها ونشأتها بمصر خلال المراحل الأولي من حياتها حيث هاجرت وهي صبية خلال فترة المراهقة ؛ فلم تستطع تكوين صورة حقيقية عن مصر وطباعها وُحسن أخلاق شعبها.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

الصـيد الثمين

 

 

 

   صباح اليوم التالي هاجمني شعور قوى بأنه من الواجب علىّ التحرك والعمل ضد العدو المحتل ، تساءلت: هل سأظل هكذا صامتاً كسولاً وقد أصبحت مستعداً للقتال سواء بالتدريب أو بوسيلة الإنتقال وأخيرا آمنت نفسي مشقة الحصول على طعام مثل المشقة التى يلقاها رجال الحدود الشجعان ، تناولت طعام الإفطار على عجل بعدها إتجهت إلى السرداب الذي خصص لوقاية الحيوانات بداخله من برودة الشتاء ومياه الأمطار ووضعت السرج على ظهر الحصان وأمسكت بالحبل وإتجهت به إلى جهة الباب الخارجي ، تنبهت رحيل وأقبلت تتساءل عن السبب لسرعة مغادرة المستودع هذا اليوم، أخبرتها بأنني حصلت أمس على عبوة من بذور نبات الشعير من زملائي العاملين وهم راغبين بزراعتها بوادي القبقاب نظراً لأن هذا موسم تساقط الأمطار ومن المحتمل أن تنهمر الأمطار خلال الأسبوع القادم.

 

     شجعتني وأمدتني ببعض الأطعمة ثم قامت بوداعي حتى الباب الحديدي الخارجي ، أسرعت إلى وادي القبقاب بعد أن وضعت عبوة بذور الشعير على ظهر الحصان ، وصلت قبيل الظهر ؛ فقد تعدت المسافة ستين كيلو متر ، كان واضحا أن رجال الحدود يعلمون أماكن سقوط مياه الأمطار ومن ضمن تلك الأماكن هذا الوادي حيث شاهدت الكثير من النباتات الخضراء البرية والتى لم يقم أحد على زراعتها ، تركت الحصان الذي إنهمك فى تناول الحشائش بينما شمرت عن ساعدي وقمت بتسوية الأرض بإستخدام بعض المعدات القديمة الصدأه القريبة من المكان وإستطعت إحضارها بربطها بسرج الحصان.

 

     نثرت حبوب الشعير وعدت ثانية أمشط المكان بتلك القطعة من الحديد الصدأ والتى كانت عبارة عن شاسيه سيارة قديم حيث كان الحصان يتحرك به كأنه محراث بدائي ، كنت أتذكر أثناء العمل ما قاله لي العريف أبو بكر، أنثر البذور فى الميول الجانبية للوادي وليس بعمق الوادي حتى لا تجرف مياه الأمطار البذور أيضاً حاول تغطية البذور بالرمال وإتركها والله سوف يرعاها ، هكذا إنتهيت من زراعة مساحة لا بأس بها من الأرض لا تقل عن فدان مقسمة على عدة أجزاء حسب طبيعة الأرض ، جلست لأستريح ثم غادرت المكان بعد حوالي نصف ساعة متجها إلى مستودع الغذاء.

 

   أثناء طريق العودة أسدل الليل ستارته وحينما إقتربت من هضبة الجبل الذى خبأت به السلاح غيرت من جهتي وصعدت لقمة الجبل وهناك تركت الحصان فى منطقة آمنة نسبيا قريبا منى وبحثت عن السلاح فعثرت عليه ، كنت فى حالة من السعادة بأن أشاهد السلاح مرة أخري ، وضعت التلسكوب على البندقية وقمت بالتصويب فى أي إتجاه ، كنت أشاهد بعض هيئات أمامي ، أسعدني هذا ، أثناء النظر بداخل تلسكوب البندقية شاهدت سيارة نصف جنزير إسرائيلية تمر من أمام الهيئة التى أحتل قمتها ، لم أتمهل وأفكر ؛ بل وضعت طلقة بفم الماسورة وعدت للتصويب بالتلسكوب المزودة به البندقية بكل ثقة وإحتراز ، كان التصويب على جندي من الجنود الأربعة الذين يجلسون بمؤخرة العربة ؛ ضغطه هادئة على الزناد بنظرية العصر أي دون جذب الزناد دفعة واحدة حتي لا يختل التنشين.

 

      سمعت صوت خروج المقذوف بصوت عال مما دفعني للخلف قليلاً من شدة إندفاعه من فوهة البندقية ، حاولت تدقيق النظر ومشاهدة ما حدث بداخل العربة المدرعة مستعيناً بضوء القمر فى تلك الليلة ، توقفت السـيارة

 

 

 

بعد عشرات الأمتار وشاهدت حالة من الهرج بداخلها وحركة الجنود الجالسين بالخلف بينما دوى المدفع الرشاش المزودة به العربة بصوت إطلاق الرصاص فى كل إتجاه.

 

     أسرعت بوضع البندقية باللفافة وبداخل السرداب وبحثت عن الظرف الفارغ حتى عثرت عليه فوضعته في جيبي كي أتخلص منه بعيداً عن هذا المكان ، مازال صوت المدفع الرشاش يعربد فى كل إتجاه وتأكد لي أنهم لم يحددوا مكان إطلاق الرصاصة نظرا لأن إطلاق الرصاص كان عشوائيا ً، تحركت السيارة وبعدها بنصف ساعة نهضت وتحركت مستخدماً الجانب الآخر من الوادي الذي يحيط بالجبل رغم طول المسافة إلى المستودع مقارنة بالطريق الأول المعتاد.

 

     وصلت قبل منتصف الليل وخلال الطريق ألهبت البرودة جسدي خاصة أنني لا أرتدي ملابس تناسب فصل الشتاء فالملابس التي أهداها لنا حمدان تاجر المخدرات تعتبر من الملابس الصيفية وبالطبع لم نستطع شراء ملابس تناسب برودة فصل الشتاء بسيناء ، وصلت لمستودع الأغذية وجسدي يرتجف ؛ شعرت رحيل بوصولي فأقبلت علىّ فشاهدتني وأنا أغادر السرداب الذى تحتمي به الناقة وأمشير وشهاب.

 

     إطمأنت رحيل على حالي وتساءلت لماذا تأخرت فأجبتها بأنني شاهدت الكثير من الجنود فإختبأت خشية أن أتعرض للأذى ، شجعتني وأيدت تصرفي وأشادت به وطلبت منى اللحاق بها إلى غرفة الطعام كي نتناوله سويا ، بعد أن إستبدلت ملابسي وإغتسلت وتوضأت من مياه العين شديدة البرودة قمت بأداء صلاة المغرب والعشاء جمع تأخير ثم توجهت لرحيل فشاهدت الطعام والأبخرة تتصاعد منه دليلاً على سخونته وبتناوله سوف يدحل الدفء فى جسدى.

 

     جلسنا معا وسألتها عن هارون فأخبرتني بأنه فى سابع نومه بعد أن تناول طعامه ، كانت سعادتي لا مثيل لها ؛ حيث قمت اليوم بأول عملية ضد قوات العدو وطلبت من الله أن يساعدني على الإستمرار بها ، كنت أشاهد نظرات رحيل لي من حين لآخر وكأنها راغبة بالدخول إلى عقلي ومعرفة سبب سر سعادتي والإبتسامة التى على وجهي وأنا بالأحرى أتذكر حديث رجال الحدود بأن أكون حذراً معها ؛ فمن الجائز أنها تتجسس عليك رغم أنك تساعدها وهم قوم يجيدون التجسس والخديعة والغدر.

 

    نظرت إلىّ باسمة بعد أن توقفت عن تناول الطعام متسائلة: يا تري حبيبي أخويا الصغير مبسوط من إيه؟ أكيد قابلت بنت بدوية جميلة وتعرفت عليها ، حين سماعي هذا أصابتني حالة من الضحك وتوقفت عن تناول الطعام وأنا أستعيد كلماتها ، مازالت تحاول معرفة سبب ضحكاتي وأخيراً أخبرتها بأن سعادتي هى مشاهدتي لكِ ثم تناول هذا الطعام الجميل ، لقد كان موشيه رجلاً محظوظاً أن أرتبط بكِ ، نظرت إليّ نظرة الأنثى الراغبة بمعرفة المزيد والإفصاح عن بعض كلمات الثناء والمديح التى تطرب آذان السيدات فى مثل هذا العمر ؛ تساءلت:

 

ـ موشيه بس اللى كان محظوظ؟

 

    أصابني هذا السؤال بضيق ، فقد تذكرت علاقتها بجاستون الذي قتل زوجها ثم أصبح يعاشرها مرة أو مرتين كل أسبوع ، لم أجب على سؤالها ونهضت بعد أن شكرتها على الطعام ، جلست بالمخزن أسترجع نتائج عمل اليوم ، لقد قمت بزراعة نبات الشعير الذي سوف يصبح علفاً وغذاءً لأمشير وزوجته وصديقي شهاب ، ثم الأهم أنني دخلت ميدان القتال والجهاد ضد العدو ، خلدت فى نوم هادئ ولم أشعر بأي شيء حتى نهضت في الصباح إستعداداً ليوم جديد.

 

     مساء اليوم التالي توجهت إلى المكان الذي خبأت به البندقية ، عثرت عليها وقمت بنظافتها من الداخل لأنني لم أستطع تنظيفها بالأمس ، لقد تذكرت كلمات إدريس : عسكري صابرا ؛ لما تضرب بالبندجة لازم تنضفها وتضع كهنه جافة على أول الحربي وتدفعه لداخل الماسورة مرتين رايح جاي وبعدين تطلعها ، عسكري صابرا : باين عليك مش بتفهم ، خلى ودانك معايا ، نضافة السلاح أهم من نضافة البدن ، ليه؟ لأن البدن مش ح يصدي لكن السلاح يصدي ومنعرفش نستخدمه وبنشتريه بالعملة اللى بيجولوا عليها الصعبة وأنا مش عارف اسمها كده ليه؟

 

    هكذا نفذت تعليمات الشاويش إدريس دون تواجده ، حملت السلاح وصندوق الذخيرة راغباً فى تخير مكان آخر ، بالفعل إخترت مكانا ًيبعد عن المكان الحالي بحوالي عشرين كيلومتر جهة الجنوب حتى لا يرصد العدو مكان وجودي ، كنت أستعيد كلمات الشاويش إدريس ، عسكري صابرا ، دايما تبدل مكان صيدك للأعداء عشان المكان مايترصدش ويكبسوا عليه ويخلصوا عليك ، فاهم يا صابرا؟ والله باين عليك ما أنت فهمان واللي جابك الجيش ظلمك ، يا لله ؛ كلتها كام أسبوع وتاخد ورجاتك وتعود لأهلك.

 

    ظللت مستيقظاً فى إنتظار هدف أستطيع التعامل معه لكن دون جدوى ومضي الوقت بطيئاً وبالتالي شعرت بالبرودة تسري فى أوصالي فإلتحفت بالعباءة والشال وركنت جانبي بمدخل أحد الأخاديد بالجبل ، تنبهت على صوت محرك فنهضت مسرعاً مترقباً المكان فشاهدت دبابة معادية تسير على مهل وأحد الجنود يقف بداخل البرج يراقب المنطقة التى أمامه ، لم أشعر سوي أننى عمرت البندقية وصوبت التلسكوب فى إتجاه هذا الفرد وضغطت على الزناد "عصراً" فخرجت الرصاصة تشــق المكان وشاهدت

 

 

 

الجندي قد تدلي جسده فوق الدبابة مما يعنى أنه فقد حياته ، بعد قليل توقفت الدبابة وتم سحب الجندي من البرج ولم يظهر أحد من الداخل لكن الدبابة قامت بقذف عدة قنابل شديدة الإنفجار فى إتجاهات متعددة.

 

    أسرعت بإخفاء البندقية وإلتقطت الظرف الفارغ ومن خلف المرتفع الصخري هربت برفقة شهاب لأحد الممرات الجبلية القريبة ؛ لقد أصبح النهار كاشفاً لكل شيء ، لم تمضِِ نصف ساعة منذ مقتل الجندي إلا وسمعت صوت طائرة مروحية تفتش المكان ، ظللت مختبئاً بينما الطائرة تقوم بالبحث عن مرتكب الحادث ، لم يعثروا على المطلوب لكن الطائرة أطلقت عدة صواريخ فى إتجاهات متعددة ومنها المنطقة التى كنت أستخدمها للضرب على الهدف السابق ؛ بعد حوالي نصف ساعة هبطت طائرة هليكوبتر بجوار الدبابة وحملت المتوفى وعادت به للخلف.

 

     ظللت مختبئا وبعد ساعتين أقبلت عدة سيارات مدرعة وقامت بالبحث والتفتيش بالمنطقة عن المتسبب فى هذا الحادث ، مازالت مختبئا وشعرت بأن الدائرة تضيق علىّ حيث شاهدت الجنود يسيرون على الأقدام يتفحصون الرمال مشيرين إلى الإتجاه الذي كنت أختبئ به مقتفين أثر حوافر شهاب ، أشعرني هذا بحالة من الخوف ؛ سوف يلقون القبض عليّ ، إقتربت من أذن شهاب طالبا منه العدو بأقصى سرعة والعودة بالمساء ، أعيد عليه ، عليك بالعودة للمكان الأول وأشرت إلي الشمس إذا إختفت فعليك بالعودة ثانية.

 

   رفعت من فوق ظهره السرج وضربته بيدي على مؤخرته فخرج مسرعاً يعدو فى المنطقة المحصورة بين الجبلين والتى ينتشر بها الجنود اليهود الذين شاهدوا الحصان يعدو وحيداً وحينئذ توقفوا عن المطاردة وشاهدتهم بتلسكوب البندقية يتضاحكون من مطاردتهم لهذا الفرس الذي يعدو منفردا.

 

   

 

   تحركت القوات وغادرت المكان ولم يتبق أحد ، ظللت كامنا بمكاني والوقت يمر علىّ بطيئا مملاً حتى إختفت الشمس من كبد السماء ولم يعد شهاب وتأكد لي أنه هرب وعاد للسيدة العجوز ، ضرب الجوع والبرد بجسدي فإزدادت حالتي سوءا ولم يتبق معي من ماء سوي جرعة واحدة وتساءلت كيف سأظل طوال الليل فى هذا المكان بتلك الحالة اليائسة ، قمت على نظافة البندقية وأخفيتها مع كمية الذخيرة المتبقية ، قررت الإحتفاظ بالظرف الفارغ بجوار جثة موشيه كما حدث مع ظرف الرصاصة الأولي ، لقد تأكد لي أن هذا المكان لن يعبث به أحد.

 

     شعرت بهبوط مفاجئ ورغبة بالنوم ، سكنت وتدثرت فى العباءة والشال ورحت فى سبات لم أستيقظ منه إلا على صوت حافر الفرس ، فتحت عيناي فشاهدته يقف أمامي ينظر إليّ ، كنت فى ضيق من تأخره لكنه فى النهاية حضر ، نهضت متثاقلاً ووضعت السرج على ظهره وركبت صهوته عائداً إلى مستودع الأغذية.

 

       وصلت قبل منتصف الليل فشاهدت من على بعد سيارة تخرج من البوابة الحديدية وهذا معناه أن المجرم جاستون كان موجوداً ويغادر المكان الآن وإذا شاهدني ومعي الفرس فسوف يتأكد له بأنني من قام بهذا العمل ، بسرعة توقفت بالفرس وهبطت من على ظهره وجذبت اللجام لأسفل فبرك الحصان أرضا وظللت ضاغطاً عليه حتي تخطت السيارة المنطقة التى كنت مختبئا بها رغم أنها تبعد بحوالي خمسمائة متر عن الطريق الذى يسلكه جاستون ؛ وكان من الممكن أن يشاهد الفرس.

 

    بعد أن تأكدت من إبتعاد السيارة نهضت وأكملت طريق العودة مع شهاب ، وصلت للبوابة الحديدية فشاهدت الباب مغلقا ، ضربت علـى الباب

 

 

 

دون جدوى ؛ حيث كانت الرياح شديدة بالخارج ولم تسمعني رحيل ، أعدت ضربات يدى دون جدوى ، صهل الفرس دون جدوى ، تساءلت ماذا أفعل؟ خلال الظلام شاهدت أمشير قادماً فى إتجاه البوابة وإرتفع صوته وظهرت القلة من بين أسنانه ثم أسرع فى إتجاه خيمة رحيل فشاهدتها قادمة مضطربة وبيدها البندقية ، حين شاهدتني ظهرت الفرحة على وجهها وقامت بفتح الباب وإستقبلتني أحسن إستقبال ؛ حيث كانت سعيدة بعودتي وعطرتني بكلمات طيبة وقبلات على الوجه تعبيراً عن فرحتها.

 

       أسرعت رحيل تعد الطعام بينما أسرعت إلى الإسطبل كي أريح شهاب مما تحمله نهار أمس ومساء اليوم ، رفعت من على ظهره السرج ودعكت ظهره بفرشاة عبارة عن جزء من " مقشة" فشعر بالسعادة وصهل كأنه فى حفل راقص ، عب من الماء ووضعت الشعير أمامه ، ثم توجهت لأمشير أرتب على فخذه ورقبته فأسعده هذا ورفع رأسه لأعلى كأنه يدعو الله أن يسترها معي ، ألقيت التحية على السيدة ناقة عن ُبعد دون قبلات حتى لا يغضب منى أمشير مثل المرة السابقة.

 

     ُعدت بعد أن إغتسلت من مياه العين الباردة ، كما شربت منها حتى إرتويت ؛ بعدها توجهت للمخزن وإستبدلت ملابسي وعدت بالعباءة كي تقيني برودة الليل القاتلة ، شاهدت رحيل جالسة وقد أعدت الطعام ، ظهرت الفرحة على وجهها وأشارت إلى الطعام وأخبرتني بأنها لم تتذوق الطعام منذ الصباح ؛ حيث كانت فى توتر بسبب غيابي الغير مبرر ، تساءلت عما حدث؟ أخبرتها بأنني كنت متوجها لأصدقائي لزيارتهم ومن شدة التعب نمت أثناء تحرك الحصان ولم أدر سوي أنني سقطت من فوق ظهره وظل الفرس يعدو وظللت بالمكان أنتظر مشاهدة أي أعرابي كي يقلني تلك المسـافة التى

 

 

 

تعدت الخمسين كيلومترا ، وأخيرا عاد شهاب وحملني وعدت والحمد لله.

 

     صباح اليوم التالي نهضت وقمت بكل ما إعتدت القيام به يوميا من الإغتسال والإطمئنان على أمشير والناقة وشهاب والكلب ثم توجهت ناحية خيمة رحيل فشاهدتها تقف بجوار عمود الخيمة بأحد الأجناب إتقاء البرودة ، تبادلنا الإبتسامات وأعقبها التحية المتبادلة بكلمات طيبة ، صافحتني وأمسكت بيدي متجهين للخيمة وبادرتني:

 

ـ إيدك ساقعة قوى ، باين عليك بردت بالليل؟

 

ـ أبدا لكن الوضوء والإغتسال من ماء البئر مباشرة هو الذي أثر فيّ،   عادت من المطبخ تحمل "تورمس" وأفرغت ما به بكوبيتين كبيرتين حيث كان به شايا مضافا إليه اللبن وبجواره بعض فطائر صغيرة تجيد صنعها ، تحدثت معي فى أمور شتي ثم إقتربت مني قائلة:

 

ـ إمبارح إنفتح النجس "جاستون" في حديثه وأفشي لي بعض أسرار خطة الخدمة للدوريات بالمنطقة التى نحن بها وهي تشمل المحور الأوسط وبداخل الخطة شرح تفصيلي لأماكن الدوريات وتسليحها ، أيضا تحركات جاستون نفسه والأماكن التى يتمركز بها بمفرده ، صابر ... الخطة سرية ومكتوبة بالعبري وشرحها لي فى لحظة ضعف الرجل أمام المرأة حين يشتد به الشوق نحوها وتتمنع عليه فيعمل على إغوائها بالمزيد من الهبات والهدايا وكانت تلك هديتي ، لقد وضعت أول الحبل حول عنق هذا النجس.

 

      كنت فى حالة من الصمت المطبق ، سواء للدهشة مما تقول أو لتلك المرأة التى إستطاعت خداع القائد الإسرائيلي ، إقتربت مني بعد أن وضعت كوب الشاي بجوارها تتصاعد منه الأبخرة متحدثة بصوت خافت:

 

ـ صابر ... مســاء الجمعة القادم سـوف يحضر "جاستون" ومعه بعض

 

 

 

زملائه ونقضي سهرة رائعة يتخللها الطعام والرقص المثير ، كنت أرغب بأن تشاهد براعتي فى الرقص والغناء ولكننى أعددتك لعمل هام ، إذا كنت مستعداً لتنفيذه فأخبرني.

 

ـ مستعد يا رحيل لو كان هذا فى مقدرتي

 

ـ صابر.. على فكرة أنا عرفت عنك كل حاجة ، أنت قتلت إتنين من جيش الدفاع الإسرائيلي ، جاستون عرفنى أن فيه واحد مخرب يستخدم حصان قام بقتل ضابط صغير وشاويش بالجيش الإسرائيلي فى عمليتين منفصلتين ، وطلب منى لو أعلم من هو مستخدم الحصان لأخبره وله مكافأة من قيادة المنطقة العسكرية الجنوبية الإسرائيلية.

 

   صمت قليلاً وشعرت أن حبل عشماوي يقترب من رقبتي ، تنهدت وإبتسمت لها معبراً عن سعادتها بالمكافأة التى سوف تحصل عليها ، نظرت إليّ قليلاً دون مبالاة ثم إستطردت فى حديثها : مقابل إخفاء سرك وحمايتك بعد هذا عليك قتل "جاستون" المجرم مساء الجمعة القادم ؛ حيث سيترك باقي زملائه متجهاً إلى إحدي الوحدات القريبة من جبل "لبني" حيث موعده هناك الساعة الثانية عشر مساء ولذا فسوف يغادر المكان الساعة العاشرة ، عليك إنتظاره بالمنطقة الصخرية التى إعتاد السير بجوارها قبل الجبل بمسافة عشرين كيلومترا حيث المكان ضيق وبه بعض الصخور ولهذا فهو يتحرك بسيارته الجيب ببطيء تجنبا لوعورة الطريق ، هناك تنتظره وتطلق عليه النار وتتركه لمصيره فإما يقوم أحد بنقل جثمانه أو تأكل الضواري لحمه.

 

     شعرت بإختناق وخوف ورهبة ، لقد أصبحت قاتلا محترفا والمرأة راغبة بأن تدفعني لقتل من قتل زوجها رغم أنها تعطيه من المتعة واللذة الكثير ، تحاول قراءة أفكاري وأنا أنظـر إليها فى بلاهة لهذا الموقف التي

 

 

 

 ترغب بأن تضعني به ؛ بل أنه فوق طاقتي وإحتمالي ، تشير بيدها متسائلة: ما هو قرارك أو رأيك؟

 

ـ رحيل ، إننى أخشي الإسرائيليين وبالذات هذا الرجل ، بل إننى أخشاك وأعلم إنك سوف تتخلصين مني بتلك الطريقة المهلكة ، قفزت بجواري ووضعت يدها فوق شفاهي مرددة " ماتقولشى كده .. ماتقولشي كده، مافيش أخت بتعمل مع أخوها كده ، إفهم .. إفهمني وإعرف وحس باللي بيحرق جسمي وعقلي ، موشيه مدفون بالأرض والقاتل نايم فى حضني بامتعه ، شفت أكتر من كده ُفجر وإجرام؟ ، ده كله فوق طاقتي من تمثيل الدور ده ، خلاص .. أعصابي إتحرقت ، ساعدني وإرحمني ، إعتبره واحدا من خصومك وأعدائك اللى قتلتهم"

 

    نهضت باكيه ، وما لرحيل من تأثير فى البكاء على شخص مثل حالي وتأثيرها الأنثوي على ضيوفها ، إقتربت منها ومسحت دموعها بفوطة صغيرة بجواري وهمست بأذنها ، أخوكى وحبيبك صابر ح ينفذ كل اللى قلتي عليه عشان خاطرك وخاطر حبيبي هارون ، أسرعت وإحتضنتني بقوة كأنها تودعني إلى عالم مجهول ثم وقفت أمامي مرددة "مش ح أنسي معروفك ده ، النهاردة إحنا مصريين ، من اليوم أنا وابني مصريين ، ده أول يوم نرجع فيه لبلدنا حبيبتنا مصر اللى كل جدودي نشأوا فيها ودفنوا فى أرضها.

 

     سارت الأمور عادية سواء بالخروج بالتنزه قريبا مستخدما "أمشير" بدلاً من شهاب الذي قررت أن أخصصه للعمليات الليلية حتى لا يرتاب أحد بى، كنت أجلس وأفكر فيما أنا مقدم عليه ، هل هذا الإتفاق الذي تم بيني وبين رحيل فى صالحي قبل أن يكون فى صالحها؟ كنت أود الحصول على رأي

 

 

 

 إدريس ولكن الوقت لم يكن فى صالحي ، نحن يوم الثلاثاء والعملية سوف تتم مساء الجمعة ، لقد أعدت رحيل الخطة وأقبلت منذ ساعتين ورسمت لي أين المكان؛ بل وطالبتني بزيارته والتأكد منه وإختيار الموقع الذي سوف أطلق منه النيران ، بالفعل فى اليوم التالي توجهت نهارا بصحبة أمشير وقطعنا المسافة فى ثلاث ساعات وشاهدت الموقع وبرك أمشير، ودست بقدمي الأرض ونظرت من حولي لأعلم طريق قدوم "جاستون" وأين موقعي ونقطة وصول جاستون التى سوف أطلق منها النيران بحيث لا أكون فى مواجهة السيارة حتى لا يكشفني ضوؤها ومن المحتمل أن يبادر جاستون بقتلي.

 

        إستعدت نشاطي ووعي وحيويتي بأنني أبحث عن أهداف إسرائيلية وهذا هو الهدف الثمين الآن ، رائد بجيش الدفاع الإسرائيلي يتولى قسم الإستخبارات بوسط سيناء وعلمت ببعض ما قام به خلال الأشهر الماضية منذ الإحتلال ؛ سواء بتعذيب بعض المصريين أو قتل البعض الآخر أثناء مطاردته لهم ، لقد أطلقوا عليه اسم السهم الأسود من سرعته وشدة جبروته وعدم مشاهدته أثناء المهام المكلف بها ، بل وصل الأمر بأن أصبح جاستون كشخصية أسطورية بسيناء وأصبح اسمه يخيف الكثيرين من أبناء سيناء  حيث كانت توكل إليه المهام الصعبة التى فشلت أقسام المخابرات الأخرى فى القيام بها ، إذا سوف أقتنص جاستون وقبل أن أقتنصه حبا فى إخوة رحيل سوف أقتنصه حبا فى بلدي حتى إذا قتلت أكون قد نلت الشهادة.

 

   تأكد لرحيل بأنني مستعد وأسعدها هذا؛ حيث كانت تغدق علىّ بحبها وحديثها الطيب حتى وصل الحديث إلى نقطة يجب التوقف عندها فقد زادت

 

كمية الكلمات الطيبة وما صاحبها من تعبيـرات وإيماءات إلى نقطة أثارت

 

 

 

بعض نوازعي كشاب ولهذا نبهتها إلى هذا وإستجابت لرغبتي تلك ضاحكة بأن أخاها الأصغر قد كبر وأصبح يميل إلى النساء!!

 

    مساء الخميس أسرعت ممتطيا شهاب إلى النقطة التى خبأت بها سلاحي، هناك إحتضنته بقوة وبحب لا مثيل لها ، كنت فى شغف إلى لقائه كنت أشعر بالحماية والأمان وهو معي ، بل كنت أشعر بأنني رجل ميسور الحال بما أملكه من سلاح قادر على إصابة الأعداء وهذه إحدي نسائهم تطلب ودى وعوني بالقضاء على أحد أعدائها ، حملته عائداً إلى مستودع الأغذية وكنت هيابا أثناء العودة بألا أفاجأ بدورية تستوقفني وتقوم على تفتيشي ولكن سرعان ما غادر هذا الإعتقاد مخيلتي ، لقد كانت الليلة تنبئ بصقيع ودرجة حرارة تصل إلى الصفر ، لقد أضاءت السماء وأصبحت النجوم تتلألأ بضوء أبيض لامع كأنها مرآة وهذا فى عرف أبناء الصحراء يتبعه سقوط البرد أو تتجمد قطرات الندي وتصبح جليداً ولهذا فسوف تعكف القوات على الإختباء طلبا للدفء.

 

     وصلت والحمد لله إلى المستودع ، بعد قليل أقبلت رحيل تستوضح عما كنت أحمله ملفوفا بقطعة من القماش السميك ، أظهرت لها البندقية ، ظهرت الفرحة فى عينيها وكادت أن تصرخ حينما علمت أنها بندقية مزودة بتلسكوب فهى تعلم أن نسبة الإصابة بها تقترب من النسبة النهائية أي 100% ، قبلتني وهي تهز جسدى فرحا وطلبت إخفاءها بعيدا عن زوار الغد ، لقد حدث كل شيء وأصبح مرتبا مع رحيل ، عكفت فى الخيمة ولم أظهر إلا مساء الغد للعمل على خدمة الضيوف.

 

    أقبل الرجال وأعتقد أن عددهم وصل إلى أكثر من عشـرة من الضباط وبعض الجنود السائقين وقد حملوا معهم أطعمة فاخرة ومشـروبات وجهاز

 

 

 

 كاسيت تصدر منه الأغاني وأنغام راقصة رائعة ، أضيئت الخيمة بإضاءة إضافية أحضرها الضيوف وقام أحد الجنود بتوزيع الأطعمة والمشروبات ولم يسمحوا لي بالدخول أو تناول الطعام وكل ما أوكل إلى حماية السيارات وقد أدهشني هذا وما حمايتي لتلك السيارات وهل ستسرق.

 

     شاهدت رحيل مقبلة من أحد أجناب الخيمة وأشارت إلى ساعة بمعصم يدها وأخبرتني بأن الساعة الآن التاسعة وعليّ البدء الآن بالتوجه للمكان إنتظارا للملعون "جاستون" على حد قولها كما طلبت مني أن أقوم بسحب حبل الحصان بهدوء وأضع اللجام حول فمه حتى لا يصهل وينكشف الأمر.

 

      نفذت تعليمات رحيل وخرجت بالحصان بهدوء بعد أن ناولته بعض قطع من السكر أسعدته ونظر إلىّ نظرة طيبة بما يعني أنه سوف يجعل تلك الليلة بطعم السكر ، كنت أحمل معي البندقية والذخيرة والعباءة والشال نظراً لظروف البرد القارص ، أيضا قطعة من قماش بلاستيك لحمايتي أنا وشهاب من سقوط مياه الأمطار الباردة والتى قد تؤثر على حالتنا الصحية ، بعد مغادرة المستودع أغلقت الباب الخارجي بهدوء وسرت مسافة بجوار شهاب حتى إذا إبتعدت مسافة أمان ركبت شهاب وطار بى كالريح ، وصلت إلى الموقع المختار وساعدت شهاب على الإختباء نظراً لأن الخيول لا تستريح ولا تبرك مثل الجمال بل تقضي الجزء الأكبر من حياتها وقوفا.

 

       جلست مجاورا لشهاب وقمت بإستخدام المشمع لتغطية كل منا معا فتسلل الدفء نسبيا إلى جسد كل منا، كما قمت بتمويه شكل شهاب من حصان إلى لون قطع من الصخور المجاورة لنا ، بعد أن تسلل الدفء إلى جسدي ورحت فى سـبات ، لم أنهض إلا بعد سـماعي لصـوت موتور السـيارة وملاحظة ضوئها الذي سطع بالمكان ، خرجت من أسـفل الغطاء

 

 

 

لأجد أن السيارة قد تعدت المكان وبالتالي فشلت خطة الإيقاع "بجاستون" لكن المفاجأة أن جاستون حينما مر بجوار شهاب تشكك فى هذا الشكل ولهذا أوقف سيارته وهبط منها عائداً للخلف كي يتأكد مما شاهده وإعتقد وقتها أن هذا هدف أو شيء يبحث عنه ، كان ذلك هو دأب جاستون ، الشجاعة وعدم خشية الآخرين ، لقد زادت ثقته في نفسه ، كنت خلالها قد عمرت البندقية ورقدت أسفل شهاب الواقف ومن أسفل المشمع صوبت فى إتجاه جاستون الذي تنبه فأسرع وأخرج سلاحه صائحاً بطلب النجدة وقبل أن ينهي كلمته كانت الرصاصة قد إخترقت رأسه فسقط أرضا دون حركة ، ظللت فى مكمني وانا أعلم أنه شيطان ماكر ، بعد أن تأكد لي أنه فارق الحياة ، نهضت وسرت فى إتجاهه ووضعت البندقية فى وضع الضرب وألقيت عليه نظرة ثم وضعت إصبعي علي عينه فلم يتألم ، تركته مغادراً المكان حتى وصلت إلى المستودع وكما خرجت متبعاً أسلوباً معيناً عدت بنفس الطريقة ودخل شهاب الحظيرة بعد أن أهديت له بعض قطع من السكر فشرب وبدأ فى تناول طعامه وأعتقد بعد أن تركته قد أفاض فى الحديث مع أمشير والسيدة ناقة بما حدث ثم توجهت لمستودع الأغذية وأضأت نور الفانوس فإذا شاهدته رحيل فسوف تعلم بعودتي.

 

    تسللت قريباً من خيمة رحيل وسمعت الموسيقي الصاخبة وشاهدتها ترقص رقصا يثير الأشجان والمشاعر والأحاسيس ، شاهدتها تخرج رأسها من الخيمة وتنظر فى إتجاه المخزن حتى إذا شاهدت الضوء بداخل المخزن علمت بأنني قد ُعدت وكان هذا إتفاق بيني وبينها مما أدخل السعادة إلى قلبها فعادت ترقص بنشـاط وسـعادة وتتمايل طرباً ودلالاً وأنوثة ناحية ضيوفها

 

الذين شـعروا بسـعادة غامرة لتلك الفاتنة وما تهديه لـهم من مـتع داخل

 

الصحراء بأرض محتلة لدولة مجاورة.

 

    إنتهت الحفلة وبدأ الضيوف فى الإنصراف حيث كنت أقف على الباب الخارجي فى وداع كل ضيف خارج والبعض يشير إلىّ بالتحية والبعض يتجاهلني حتى إذا غادر آخر ضيف المكان أغلقت الباب الخارجي وأمسكت رحيل بيدي وأسرعت إلى الداخل تنظر بعيونها الساحرة بداخل عيوني متسائلة: حصل؟ أشرت إليها بتحريك رأسي فصفقت وقفزت لأعلى وأسفل ودارت حول نفسها عدة دورات وأقبلت ناحيتي تقبلني وتحتضنني مرددة ، مش ح أنسي اللي قمت بيه من أجلي ومن أجل هارون ، دلوقتي أنا إرتحت وكل اللى أنت عايزه أنا أنفذه لك بالتمام والكمال ، شكراً حبيبي ، ربنا يخليك ، ربنا يخليك ، جلست أرضا تبكي وأنا فى دهشة أتساءل: ماذا يبكيكِ؟ تجيب:  أبكي الزوج الطيب أبو ابني الذى قتل غدراً ، اليوم أعيد أحزاني التى منعتها حتى أقتص ممن قام بها ، منذ اليوم سوف تشاهد رحيل أخري ، رحيل الملتزمة المتمسكة بالدين ، رحيل الأم والأرملة التي أخذت بثأر زوجها موشيه ، تصرخ: موشيه .. موشيه .. إسترح فى قبرك ، لقد نلت من الجبان الذي قتلك غدراً ولا تحزن بأني دفعت جزءا من شرفي وكبريائي حتى أقتص منه.

 

      غادرت خيمة رحيل وأنا أشعر بأن السيدة فى حالة غريبة ، رغم أن السعادة الطاغية هي حالها إلا أنها كانت تدقق النظر فيّّ مما أخافني وإعتقدت أنها إستخدمتني لتنفيذ مهمة ما وسوف تتخلي عني ؛ حيث ُكنت فى دهشة من حالة الثأر التي تقمصتها لكنني تذكرت بأن القرآن الكريم أباح للمسلمين القصاص فى مثل تلك الأحوال.

 

     مساء اليوم التالي كان القرار بالتخلص من شـهاب خشية القبض علينا

 

 

 

وقد أيدت رحيل هذا الإقتراح ؛ ولتنفيذ هذا القرار نهضت مبكراً وحملت معي جوالا صغيرا من السكر وصندوقا من الشاى يزن كيلوجرامين وإمتطيت صهوة شهاب وأسرعت متجها إلى مقر فصيلة الحدود ، كنت خلال هذا أنهب الطريق مع الحيطة والحذر والخشية من مفاجأة دورية إسرائيلية.

 

     الحمد لله ؛ وصلت إلى رجال الفصيلة الأعزاء الذين أسعدهم حضوري رغم أن نصف قوة الفصيلة كانت فى مهمة مع الرجال الثلاثة من شركة البترول ولم يتول أى أحد من زملائي شرح طبيعة المهمة وأنا أيضا لم أتساءل عما تكون تلك المهمة ؛ ليلاً عاد الرجال وفوجئ الجميع بحضوري وبعد تناول الطعام أخبرتهم بالغرض الذي حضرت من أجله والعملية التى قمت بها بقتل الميجور "جاستون" ، دهش الرجال فهم يسمعون الكثير عن إجرام وقسوة هذا الرجل ، نهض البعض يقبلني بسعادة بالغة بينما إشرأبت الأعناق وظهرت البسمة على وجه الشاويش إدريس وعلق ضاحكاً "الولد صابرا كبر وبجي أجدع من الرجالة".

 

     اليوم التالي زودوني بأحد الجمال السريعة الهادئة لينة الحركة ويدعي "البركة" أسرعت به عائداً وبعد أن قطعت مسافة لا بأس بها إعترضت طريقي دورية إسرائيلية وقامت بإستجوابي ومن بين تلك الأسئلة من أين أتيت وإلى أين تتجه؟ وحينما علم الجنود أنني الخادم والمساعد للسيدة رحيل بمستودع المساعدات الغذائية أفرجوا عنى وعلمت أنهم يبحثون عن العصابة الإجرامية التى قتلت "جاستون".

 

     وصـلت اليوم التالي إلى المستودع وإلتقيت رحيل بها التى أخبرتني بأنها شـعرت بالراحة لمغادرتي المكـان بصحبة شــهاب وإقتربت منى

 

 

 

وهمست بأذني: صابر ؛ بعد أن غادرت المكان بساعتين أقبلت عدة سيارات عسكرية وجلس معي بعض الضباط وأخبروني بمقتل "جاستون" وأن من قتله تركه بالعراء حيث هاجمته الحيوانات الليلية المفترسة وشوهت جثته وبالتالي فلن يقابل الله لأنه أصبح مشوهاً.

 

     كنت أشعر بسعادة طاغية وأنا أستمع لما حدث لهذا المجرم جاستون ، لقد شرب من نفس الكأس الذي أذاقه لزوجي الحبيب "موشيه" ، كنت أتذكرك وأفكر فيك وقررت حين حضورك أن أقيم حفلة خاصة بك وأن أقدم لك أي هدية ترغب بها ، لقد أخبرني الرجال بأنهم يبحثون عن مجرم يمتطي فرسا هو الذي قام بهذا العمل ولهذا فإن القيادة أمرت بتوزيع الدوريات والبحث عن صاحب الفرس ولقد شاهدنا آثار أقدام فرس قريبة من هذا المستودع ولهذا فنحن نسألك هل شاهدت هذا المجرم؟ وعندما نفيت هذا أكد لي الرجال بأن هذا المجرم أراد قتلك مثلما قتل جاستون وهو يعلم مقدار معزته لديك ومدى الصداقة التى تجمع بينكما ، البعض رأف بحالي حينما لاحظ  دموع الحزن تنساب من عيوني ولكن تلك الدموع كانت دموعي على الراحل موشيه والذى قررت ألا أنعيه إلا بعد  الأخذ بثأره من قاتله المجرم.

 

     صابر ؛ إحترس وعليك القيام بنظافة السرداب الذي كان يقيم به شهاب مع الجمل والناقة حتى لا يشاهد أي أحد من الجنود أثر فضلات شهاب وبالتالي نتعرض لمشاكل نحن نرغب بأن نكون بعيداً عنها ؛ شعرت بحسن رأي رحيل ولهذا أسرعت بسحب الجمل "البركة" إلى الداخل وقمت بعدها بجمع فضلات شهاب ، خارج المستودع أعددت حفرة عميقة ودفنت بها كل فضلات شهاب ثم أهلت عليها الرمـال وعدت ثانية فإستقبلتني رحـيل بكل حب وتقدير وأخذتني بين ذراعـيها وهي تربت على ظـهري وكتفي مقبلة

 

 

 

رأسي وتردد .. ألف شكر يا صابر .. يا أحسن أخ وأحسن صديق عرفته ؛ توقفت وأبعدت رأسها عن صدري ونظرت إليّ بكلتا عينيها وتساءلت: ماذا تطلب من حبيبتك وأختك رحيل؟ إبتسمت لها وبكلمات قليلة أجبتها: الأخ لا يحصل على عائد من شقيقته نظير سعادتها وسعادة ابنها ، هذا يكفيني ويسعدني أن تنامي مرتاحة البال وفى المستقبل حين يكبر هارون تخبريه بأنكِ أخذت بثأر والده من قاتله.

 

     صمتت قليلا ثم إندفعت فى البكاء واحتضنتني وهي تردد ، يا ريت ما إخترتك أخ وكنت إخترتك حبيب لكن معدش ينفع ، بقينا إخوات ومش معقول الإخوات ينقلبوا إلى عشاق ، ضحكت من تعبيرها وأخبرتها بأن الإخوة ليس عليها إلزام، لكن الأحباء هناك إلتزام على كل منهما، وبالتالي فمن المحتمل أن يحدث تقصير من أحدهم أو من كليهما وتحدث مشاكل ، لكن الأخت تظل حبيبة الأخ وبالتالي فالإخوة أضمن وأطول عمراً.

 

     سرت معها إلى الداخل فشاهدت هارون نائما فإنحنيت عليه وقبلته وكادت الدموع تخونني لفقده والده مبكرا وشعرت أنه ابنا لشقيقتي.

 

 

 

 

 

 

Share
Click to listen highlighted text! Powered By GSpeech