Click to listen highlighted text!Powered By GSpeech
مستمرين معاكم بإذن الله 2008-2024 **** #لان_لجيشنا_تاريخ_يستحق_أن_يروي
**** ***** إنشروا تاريخنا وشاركونا في معركة الوعي **** تابعونا علي قناة اليوتيوب 1100+ فيديو حتي الان **** تابعونا علي صفحات التواصل الاجتماعي** أشتركوا معنا في رحلاتنا لمناطق حرب أكتوبر **** يرجي استخدام خانة البحث
**** *** تابعونا علي تليجرام - انستجرام - تويتر
لقد مضي علي هزيمة جيشنا عام كامل ، خلال هذا العام إستطعت أن أقوم بواجب وطني لم أخطط له بل كانت الأقدار تضع تلك الأهداف أمامي ووفقني الله فيما قمت به ، نسيت الأهل والوطن وأصبح كل همي ما أصبحت عليه ، لقد أصبحت عاجزاً عن القيام إلا ببعض الأعمال الصغيرة من صرف مستحقات الأسر الفقيرة ووضع الطعام أمام الإبل ، كنت ألاحظ الحزن على وجه الناقة وقد إزداد حجمها وما هي إلا شهور قليلة وتلد ، كما أن الجمل البركة بطبيعته هادئ الطباع ولم يشكل لنا أي مشكلة لكنني كنت فى شوق إلى كل من أمشير وشهاب ، كانت تراجي تأتي لزيارتي كل عدة أيام حسب الظروف المحيطة وأحوال الطقس ، شعرت بأن الفتاة تزداد قربا منى ولكنى كنت أشعر بالبعد عنها ، لقد أصبحت عاجزاً وشعرت بأنني لن أستطيع الزواج فإصابتي جعلتني أسير منثني الركبتين وبالتالي أصبحت قصير القامة وأتحرك ببطء.
كانت رحيل تشد من أزري وتدفعني لزيادة التقارب مع تراجي ولكني شعرت بأن الحياة ليست وردية ولم يكن بها أي شيء وردي سوى كلمات هارون البسيطة ضعيفة النطق والفهم أما النظرة إليه فكانت تدخل السعادة إلى قلبي ، أحد الأيام جلست تراجي أمامي بينما جلس هارون على ساقيها تلاعب خصلات شعره الناعم بأصابعها الرقيقة والطفل يشعر بسعادة ، تتساءل: لماذا تبتعد عني؟ أشعر بأنك غير راغب فى أن أراك؟ صمت ولم أعلق ؛ بعد قليل فاضت دموعها مما دفعها للنهوض مسرعة للداخل فأقبلت رحيل تنظر إلىّ عاتبة ولسان حالها يتساءل لماذا أغضبت تلك الفتاة الرقيقة المحبة لك؟
شاهدت تراجي تسرع بالخروج من الخيمة فأشرت إليها بصعوبة بأن تحضر ؛ أنادي عليها فلم تستجب ، أسرعت أعدو خلفها بعد أن قفزت فوق الجمل بخفة ورشاقة ولكن ساقاي لم تطاوعني فسقطت أرضا فوق الصخور أتألم بصوت مرتفع.
لم أشعر سوى أننى نائم على السرير وبجواري تراجي ورحيل بينما هارون يلاعب أصابع يدى ويحركها ، نظرت إليهما متسائلاً ماذا حدث؟ لم أتلق إجابة من أى منهما وكل ما شاهدته إبتسامة وأنوثة فرحة بنجاتي مما ألم بى ، حاولت الجلوس فساعدتني الإثنتان وجلست فى مواجهتهما ووجهت حديثي لتراجي موضحا لها أنني أكن لها كل حب وتقدير وأنتِ تشاهدين حالي وأشعر بأنني لن أكون الزوج المناسب لكِ.
تشير إلىّ رحيل بألا أقول هذا بينما تنحني تراجي راغبة بتقبيل يدي فأجذبها مقبلاً يدها فتضحك باكية وتنحني على وجهي تعطرني بقبلة ندية على خدي مما دفع برحيل إلى التصفيق والتهليل ، هكذا عاد الحب والوئام بيننا بفضل إخلاص تراجي وعون ومحبة رحيل ، أصبحت تراجي تأتي كل أسبوع لزيارتي وقد إقترب عام 1968 من نهايته وخلال هذا العام نما إلي أسماعنا أخبار عن المعارك بين الجيشين المصري والإسرائيلي على ضفاف قناة السويس ، كانت تلك الأخبار تدخل السعادة والحياة المتجددة إلى قلوبنا وحياتنا حتي رحيل التى كنت أشعر بأنها فى حالة من السعادة حينما يذيع راديو القاهرة ما يلقاه الجيش الإسرائيلي على القناة من ضربات موجعة وخسائر كبيرة لم يعتد عليها وأيضا حين غرقت المدمرة الإسرائيلية إيلات العام الماضي.
مضى على حالتى الصـحية السيئة أكثر من أسبوعين ، أحد أيام أثناء زيارة تراجي قالت لي أنها أخبرت والدها بما تعرضت له وما عليه حالي ، ثم قالت أنه سوف يذهب لإحضار الشيخ عيد أبو ِمسـعد حيث علم عنه أنه يجيد علاج تلك الحالات مردداً: ربنا سوف يعافيه من إصابته ، أسعدني سماع هذا؛ فهذا يدل على إهتمام تراجي وأسرتها بحالتي ، والمريض دائما ما يسعده مثل هذا الإهتمام رغم تأكدي بأن ما سوف يقوم به الشيخ عيد أبو ِمـسعد لن يقدم أو يؤخر فى شيء.
مازالت رحيل ترعي حالتى وتقدم لي كل خدماتها لإعتقادها بأنها المتسببة فيما أصابني من الأعداء ، لم تمض أيام قلائل إلا وأقبلت تراجي يرافقها كلٌ من والدها الشيخ إسماعيل وشخص آخر علمت فيما بعد أنه الشيخ عيد الذى سبق وأن حدثتني عنه ، إستقبلتهم رحيل بترحاب بعد أن همست تراجي فى أذنها بحديث قصير تصاحبه بسمة مضيئة طيبة إنعكست على حالتي ، شاهد الشيخ عيد الإصابة وأوضح بعد قليل بأن هذا من أعمال المجرمين اليهود ، نظرت إليه رحيل بضيق وغادرت المكان فأخبرت الرجل بأن تلك السيدة يهودية ولا داعي لأن تسب اليهود فتلك ديانة أما الأعداء فهم من دولة تسمي إسرائيل ، إضطرب الرجل وهاجمه الضيق لوجود سيدة يهودية بجوارنا مما دفع تراجي لأن تخبره بأن ما قامت به تلك لسيدة فاق عون أي إنسان حتى الآن.
أكد الشيخ عيد أنه سبق وأن قام بعلاج لمثل تلك الحالات وسوف يستمر العلاج لمدة ثلاثة أسابيع يوما بعد يوم يقوم بزيارة كي يقدم علاجه ، كانت أمامنا مشكلة بأن تتقبل رحيل تلك الزيارات ، طلبت من تراجي أن تخبر رحيل بأنني سوف ألحق بكم بناء على رغبة والدك ، بعـد قليل أقبلت
رحـيل وتراجي؛ نظرت إليّ رحـيل ساهمة مرددة ، مش موافقة ... إنت فاهم؟ هما مش عارفين إنت تبقي ليا إيه ؟ ده أخويا .. إنتوا فاهمين .. أخويا .. وده ابني هارون .. الإتنين دوول ماقدرش أعيش من غيرهم .. تعالى كل يوم يا شيخ عيد وعالج صابر وكمان أنا مش هزعل لما تشتم اليهود!!
فى تلك اللحظة قدم الشيخ عيد والشيخ إسماعيل كل إعتذار موضحا بأنه يقصد الأعداء لكن اليهودية ديانة ونحن كمسلمين نؤمن بها ونقول على نبيكم سيدنا موسي عليه السلام ، أعتذر سيدتي.
أضاء النور وجه رحيل وقدمت لنا جميعا مشروبا وحدث تبادل طيب للأحاديث بيننا ثم سألت الشيخ عيد عن تكلفة العلاج فإنبرى الرجل رافضا أن يحصل على أتعاب لكنها صممت ووضعت شرط حصوله على أتعاب فى مقابل أن يبدأ عمله وإلا سوف تعتذر عن إستقباله وسوف ترفض علاجه ، حاول الرجل والشيخ إسماعيل والد تراجي لكنها أوضحت لهم بأن صابر لديه نقود نظير عمله معها لمدة تقارب العام ، نحن الآن فى نهاية شهر ديسمبر ولقد عمل معي منذ شهر نوفمبر من العام الماضي ، صابر سوف يعالج على نفقته ، صمت الرجال وأنا بالأحرى أسعدني وجود مال يخصني وسوف يتم العلاج على نفقتي ويكفي الآخرين العون الأدبي والمعنوي.
بدأ الشيخ علاجه بأن أعد مخلوطا مكونا من دهن إليه الخروف ُمضافا إليه نبات فيسأ الكلاب بالإضافة إلى نبات لبن الحمار ، كنت أضحك بداخلي لأسماء تلك النباتات ، كان الرجل يوزع أجزاء صغيرة من هذا المخلوط والذي أصبح على شكل عجينة لينة يغلب عليها اللون الأخضر ثم يقوم بفردها على الأجزاء المصابة وما أكثرها ثم يقوم بالدعك الطولي ثم العرضي ثم الدائري حتي يصبح جـسدي رطب الملمس ؛ حيث كنت أشعر من خلال هذا العمل بأن تلك المنطقة تسري بها الراحة كما تسرى أيضا فى باقي أوصال جسدي ، بعد هذا ينتقل الشيخ عيد إلى منطقة تالية ويقوم بتوزيع نفس العجينة على الأجزاء المصابة والتى كانت تشبه المصاب بمرض الحصبة من كثرة الثقوب المنتشرة بها ولكن هذه الثقوب ناتجة من أثر غرس المسامير التى تغير لونها إلى اللون الأحمر لإنصهارها بوضعها بداخل النار لفترة طويلة ، إنتهي يوم عمل الشيخ عيد بعد حوالي ثلاث ساعات من المجهود المتواصل ، ظل هذا الرجل يقوم بتلك العملية ثلاثة أيام كل أسبوع وقد بدا يصل إلىّ إحساس وشعور بالراحة البدنية بعد أن غادر جسدي الكثير من الآلآم التى لحقت بى من أثر التعذيب الذي تعرضت له.
الحمد لله .. مضي علىّ أكثر من شهرين ونصف وقد إلتأمت جروحي من أثر التعذيب الذي أثخن الكثير من الجراح والآلآم التى شعرت بها وأصبحت حالتي الصحية كالمعتاد وُعدت إلى حالتي التي كنت عليها قبيل الإعتقال ، كما طلب الشيخ عيد من رحيل بأن تقوم كل يوم بتدليك جسدي بمستحلب بيض الجمل المضاف إليه بعض اللبن من الناقة حتى يصبح جسدي ناعما وتغادره الخشونة التى صاحبت عملية العلاج التى قام بها ، أحضرت رحيل مبلغا من المال كي تسلمه للرجل ولكن الرجل رفض تسلمه، حاولت أن تقنعه بأن يتسلمه وأخبرته بأن هذا كان إتفاقا بيننا قبل البدء فى العلاج ؛ شكرها الرجل ورفض الحصول على أي أتعاب ؛ تلك اللحظة نظرت إليّ رحيل بما يعني تحدث أيها الشاب ؛ فهذا شأنك ، مجرد أن حاولت إقناعه بتقبل المبلغ كأتعاب، فإذا بالسيدة العجوز تظهر وتهبط من على ظهر الجمل قبل أن يبرك أرضا؛ والمعروف أن تلك عملية شـاقة، ثم قالت لى: أتعابك دفعت يا صابر ، عد لدارك يا شيخ عيد شاهدت الرجل فى حالة من الإرتباك والخوف والإحترام ثم أسرع بركوب ناقته مغادرا المكان بأقصى سرعة ، أشارت العجوز للجمل بأن إهبط دون حديث ؛ أسرع الجمل وبرك أرضا وقبل أن يستقر على الأرض تعلقت العجوز بصنم الجمل الذي نهض لأعلي دون أمر ودون إذن وفر من أمامنا فتبادلت نظرات الدهشة مع رحيل.
***
الحب لغة التفاهم مع الحيوان
أشاهد الشاويش إدريس يجلس بين الرجال والقلق باديا على وجهه ، يرجع السبب فى ذلك إلى عاملين هامين ، الأول نقص المواد التموينية التى كان يأتى بها صابر والثاني حالة الهياج المستمر من أمشير وشهاب ، لقد مضي على غياب صابر ثلاثة أشهر سواء لمقتله أو لأسره من قبل الأعداء؛ ومنذ ذلك الحين والجمل والحصان لا يكفان عن إحداث الإضطراب والأصوات المزعجة ومحاولة الهرب واليوم حدث تطور جديد فقد حاول أمشير عض زميلنا أحمد الطيب وعندما تدخل زملاؤنا لإنقاذه هاجمهم الحصان محاولا رفس الرجال والحمد لله أن الرجال نجوا جميعا.
نظر إلىّ الشاويش إدريس محدثا: لماذا تقف هكذا تراقبنا يا رباح؟ أقبل وشارك معنا فى الحديث والمناقشة لعلك تفيدنا برأيك والذي دائما ما يكون صائبا فقد ألهمك الله القرار الحكيم.
ـ سيدي القائد ، أري أن نفك أسر الجمل والفرس ، فأنا أعلم علم اليقين حبهم لصابر وأعتقد بأنهما سوف يسرعان بالعودة إلى مركز المساعدات إعتقادا بأن صابر موجود هناك ، وإذا لم يكن موجودا سوف يعودان أدراجهما لطيب العيش بيننا وبين باقى الجمال ، ولهذا فإذا قررت إطلاق سراحهما فأري أن نحدد ثلاثة رجال لمتابعتهم حتى نعلم ماذا حدث لهما وفى نهاية المأمورية يحضران لنا العون الغذائي من مركز المساعدات سواء كان صابر هناك أو لم يكن ، فالسيدة رحيل تعلم أننا أصدقاءه وكما أخبرني صابر بأنها تعلم بأننا من رجال التعدين التابعين لإحدى الشركات ولم نستطع العودة إلى الديار لظروف الحرب.
أشاهد إدريس يتحاور مع بعض الزملاء على ما أفضيت به من إقتراح ، صمت إدريس قليلا وظهرت بسمة الضياء التى دائما ما ترتسم على وجهه الطيب وأعلن موافقته على الإقتراح وحدد الرجال الثلاثة وكنت أنا من ضمن هؤلاء ، تقرر أن يبدأ التحرك فى الصباح ومن أجل هذا وضع الطعام والماء أمام شهاب وأمشير.
بكل شجاعة الرجال قمنا بفك قيود الجمل والحصان بعد الإستعانة بباقي الجمال التى أصبحت تعمل كحائط صد من محاولة هجوم الجمل والحصان علينا ، لم نشاهد طيفهما؛ حيث أسرع الإثنان بالعدو خلف بعضهما ، بل من المدهش أن الحصان توقف قليلا كي يقترب منه الجمل لإختلاف سرعة الإثنان ، كنا نسرع خلفهما ولكن الإثنين أصبحا مثل الريح العاصفة سرعة وإختفاء ولا يميز حركتهما سوي الغبار الناتج من العدو.
منتصف النهار شاهدنا أمشير وشهاب مقبلين نحونا أى أنهما عادا من حيث توجها وقد صهل شهاب بينما زمجر أمشير وظهرت القلة من فمه والتى تعني الضيق ، بعد قليل شاهدنا من علي ُبعد ثلاثة من سيارات العدو تطارد الإثنان ، لقد كان هذا الوادي محصورا بين جبلين ولهذا لم يستطع الإثنان المراوغة أثناء المطاردة سوي العودة ولكن الطائرات الهليكوبتر المعادية أقبلت من الجهة المضادة أي التى هرب إليها كلٌ من أمشير وشهاب، لقد ُحوصر الإثنان ومازالت العربات المدرعة قادمة فى إتجاهنا ؛ حيث كنا نشاهدها من على مسافة لا تقل عن ثمانمائة متر يميزها الغبار المتخلف عن المطاردة وأعتقد أنهم لم يرونا حيث كنا نقف بجوار بعض الصخور المنعزلة بجوار أحد الجبال بالمنطقة.
تبادلنا النظرات وماذا نحن فاعلين فليس معنا سلاح ولو كان معنا لما إستطعنا استخدامه لأن قوة العدو أكبر من قوتنا وسوف تحصدنا بالمدافع المسلح بها السيارات المدرعة ، تفتق ذهن أحمد الطيب بأن نشتت الهجوم المدرع ضد أمشير وشهاب ؛ من أجل هذا هبطنا من فوق الجمال وكل واحد منا طلب من جمله أن يقوم بالعدو فى أحد الإتجاهات غير الإتجاه الذي توجه إليه كلٌ من أمشير وشهاب.
قمنا بهذا وما توقعه أحمد الطيب حدث حيث إنقسمت قوة المطاردة ؛ كل سيارة تطارد جملا معتبرة بأن هذا الجمل سوف يصلها للحصان نظرا للمعلومة التى لديهم بأن الحصان أكثر سرعة من الجمل ، ظل هذا الوضع حتى أقبل الظلام ولم تستطع قوة المطاردة أن تنجح فى مهمتها لأننا لم نسمع صوت إطلاق رصاص ومن غير المعقول أن يجازف أحد الجنود بأسر أحد من تلك الحيوانات وفى تلك الأحوال تزداد شراسة الحيوان لحالة الخوف والتوتر التى أصابته.
منتصف الليل شاهدنا الجمال الثلاثة مقبلة وقام الطيب بإصدار صفيره المميز فأقبلت الجمال ُمسرعة وحصل كل جمل على هدية معنوية من صاحبه ببعض اللمسات على الرقبة وكل واحد منا إستقل جمله وكانت جهة السير مركز المساعدات الغذائية.
***
صباح اليوم التالي وصلنا إلى مركز المساعدات ؛ كانت البوابة الحديدية مفتوحة على مصراعيها ، تحركنا بحذر جهة الباب ونحن نخشى السيدة رحيل التى نعلم كل صغيرة وكبيرة عنها ، إستقبلتنا فتاة شابة من بنات سيناء ، فى البداية رحبت بنا ، طلبنا منها لقاء المسئول عن توزيع الإعانة ، تساءلت: تقصدون السيدة رحيل أم صابر؟ تبادلنا النظرات بيننا ، تشجعت قائلاً : هل يمكن لقاء صابر؟ أشرق وجهها وأخبرتنا بالجلوس للراحة بجوار الباب الخارجي وسوف تخبره برغبتكم فى لقائه، بعد قليل شاهدنا صابرا يقف أمامنا، لم نستطع كبح عواطفنا فنهضنا للقائه بين الفرحة المختلطة بدموع البكاء، لم يكن صابرا أقل منا فرحة وسعادة ، وسمعته يردد اسمي : رباح .. رباح أهلا بكم ثم توالي ذكر باقي أسماء زملائنا.
إصطحبنا للداخل ؛ بداخل المخزن علمنا منه أن هذا بيته المختار ، أعددنا أكواب الشاي وتبادلنا الأحاديث الطويلة وأخبرناه بما تبادر إلينا وخشيتنا بأنه قد لقي حتفه ، شرح لنا كيف وقع فى الأسر وبعض ما لاقاه من أذى وعنت المحتل ، كان جسده خير دليل وبرهان على عذاب الشاب ، أخبرناه بواقعة هروب أمشير وشهاب ، ضحك الفتى وأخبرنا بأنه يتوقع وصولهما الليلة حين تهدأ أعمال الدوريات الإسرائيلية ، ظهر الفتاة البدوية علي باب الخيمة والتى لوحت لنا بتحية الإسلام وأخبرت صابرا بأنها سوف تعود لمقر قبيلتها.
توجه صابر إلى رحيل التى وافقت على إمدادنا بكل ما نحتاج إليه من مواد غذائية وملحقاتها ، تساءلنا كيف ستقوم بسداد كل ما حصلنا عليه ؛ أجاب : لقد نسيتم أنني أعمل لدي السيدة ولي راتب وسوف أتولي دفع تكلفة ما طلبتموه ، لقد مضي عليّ عام حتى الآن ولم أمسك بيدي مليما واحدا ، تضاحكنا على هذا وما لليهود من أسلوب للحياة يخالف جميع شعوب العالم ، طلب منا صابر أن نظل فى ضيافته تلك الليلة وأن نتحرك صباحا إلى مواقعنا حتى نحصل على الراحة المطلوبة من عناء طريق القدوم لنا ، كانت الجمال تتناول طعامها بداخل الدهليز الذى تقيم به الناقة وقبلها أمشير والذى يقيهم حرارة شمس الصيف وبرودة فصل الشتاء.
أمضينا ليلة طيبة مع صابر تمتعنا خلالها بالطعام الوفير وشرب الشاي والضحكات المتبادلة وتجاذب أطراف الحديث مع الحرص من إكتشاف هويتنا أو عملنا الحقيقي قبل نشوب الحرب كما حصلنا علي قسط وافر من النوم المريح ؛ بعد أن تناولنا طعام الإفطار أعددنا الجمال بالحمولة إستعدادا للعودة إلى مقر الفصيلة ، أثناء وقوفنا أمام الباب الحديدي الخارجي للمصافحة والوداع شاهدنا عن ُبعد قدوم كلٌ من أمشير وشهاب ، كانت فرحتنا طاغية خاصة أن صابرا هلل صائحا ملوحا لهما رغم أن المسافة بيننا وبينهم لا تقل عن خمسمائة متر ، نظرت إليه باسما متسائلا : أشعر أن سعادتك لا توصف ، نظر إليّ ولسان حاله يخبرني بمدي فرحته حيث قال: والله يا رباح كأن شقيقاتي قد أقبلن من مصر ، رتبنا وقوف الجمال أمام البوابة الخارجية بحيث تحول دون إندفاع أمشير وشهاب بقوة نحو الداخل كما وقف صابر خلفهما منعا لإصابته حين يستبد بالإثنين الشوق للقائه.
توقف الإثنان بصعوبة أمام السد الذى قامت به الجمال خشية الإصابة ، صهل شهاب ومد أمشير رقبته من أسفل رقاب الجمال وخرج صوته وتناثرت الرغوة من فمه والتي تدل على الحب والسعادة التى تأخذ بتلابيب الإنسان حين يستبد به الشوق والحب فتخرج دموع الفرح من خلال عينيه ، كان هذا حال أمشير بينما شهاب ظل يصهل ويرفع قدميه الأماميتين للأمام ويحركها فى الهواء كأنه يلوح لصابر ، لم يستطع صابر مقاومة مشاعره وحبه لصديقيه حيث أقبل ُمسرعا من خلال الجمال وتعلق فى رقبة أمشير الذي كان يعلم مقدار أي تصرف منه عنيف قد يؤدي بحياة صاحبه ومن أجل هذا برك الجمل بحيث أصبح صابر فى نفس مستوي رأسه ، تبادل الإثنان العناق والقبلات حيث كنا نسمع أصوات لمسات شفاه أمشير على وجه صابر.
إلتفت صابر للخلف ليشاهد شهاب يتحرك بحركة راقصة يمينا ويسارا كأنما هو حسناء تختال بجمالها وأناقتها أمام المحبوب ، قام صابر بتقبيله بل وتعلق برقبته ولم يستطع شهاب السيطرة على مشاعره وكأنه راغب بإختطاف صابر بعيداً عن الجميع كي يعاتبه على بعده عنه تلك الفترة الطويلة ، إندفع شهاب مسرعا وصابر مازال متعلقا برقبته ويدفعه بيده صائحا "يخرب عقلك ، ح أقع علي الأرض" لكن الحب كان أقوي وبالفعل سقط صابر أرضا مما دفع بشهاب للعودة وإنثنت قدماه الأماميتان وإقترب برأسه من جسد صابر المنبطح أرضا ضاحكا فأمسك برأس شهاب ونهض معه يتبادلان العناق والقبلات بين ضحكاتنا.
أشرنا إلى الأصدقاء الثلاثة بالوداع وتركنا لهم حرية إظهار العواطف الجياشة بينهم وكان السبب فى تركنا المكان هو ظهور السيدة رحيل وطفلها وكلبها الشرس ؛ كما ظهرت السعادة عليهم مما دفع بهارون للعدو نحو صابر وصديقيه ولحقت به رحيل ونبح الكلب نباح التهليل ؛ حيث كان ينبح ويحرك رأسه فى كل إتجاه وكل حركة بنباح كأنه يخبر أهل المنطقة بخبر سار ، إستمر سيرنا بطريق العودة ولم ينشغل بالنا سوي بحب صابر للجمل والحصان هذا الحب الذي إستطاع هذا الشاب الصغير أن يعود عليه بفائدة عظيمة ؛ فقد عوضه هذا عن بعده عن زملائه بل وعن أهله بمصر.
***
الحمد لله ، فقد منّ الله عليّ بالشفاء وعوضني عن كل ما كان ينقصني كي أعود لقوتي وأصبح صلب القوام كسابق عهدي والسير لمسافات ليست طويلة وإجراء بعض الحركات الرياضية التى أشار عليّ بها الشيخ عيد أو ما نطلق عليه بمصر "العلاج الطبيعي" ؛ خلال كل أسبوع كنت أتبادل الزيارات مع تراجي إلا فى ظروف الطوارئ والتى يحظر فيها الجيش الإسرائيلي التحركات على الناس بسيناء لفترة عدة أيام أو فى بعض الأماكن حيث ترامي إلى مسامعي من العرب ثم تأكد هذا على لسان رحيل بأنه توجد منظمة مقاومة للأعداء وأحدثت بهم خسائر كبيرة.
إنتهي عام 1968 والشتاء القارص يضرب بنا وأصبح الإعتكاف هو عملي الوحيد ؛ حيث أقوم على العبادة وتلاوة القرآن ترتيلا وأصبح لي مريدون يستمعون لي ولم أعد أخشي من حبهم وتأثرهم بسماع القرآن ؛ بل كنت أنتظرهم حتى الإنتهاء من الطعام حتى أشعر بالتشجيع مثل ما يفعل المقرئون والمنشدون حيث يصبح هذا دافع لهم للإجادة ، فليس لي جمهور أو معجبين سواهم.
في بداية عام 1969 والصقيع يضرب كل مكان فى سيناء ، وفى تلك الليلة قمت بكل ما إعتدت القيام به سواء صرف المواد الغذائية أو متابعة أحوال جيراني الأعزاء وقد بدا على السيدة ناقة أن الحمل قد قارب على النضج ولهذا دفعت دفعا إلى تخزين بعض العشب الجبلي وأيضا بعض سيقان النخيل الجافة وإستطعت أن أحضره إلى الدهليز بعد أن من الله عليّ بتمام الصحة ، قمت بتخزين هذا العشب بداخل الدهليز تجنبا لأمطار الشتاء وذلك لإستخدامها فى الدفء حين الحاجه رغم أن رحيل أمرتني بألا أقوم بإشعال النار بداخل المخزن حتى لا تتأثر المواد التموينية بدخان الحريق ولهذا حين الحاجة للدفء كنت أشعل كمية محددة من العشب للتدفئة بالدهليز الذي يقيم به الجيران دون إعتراض منها.
أتذكر أنه منذ أسبوعين شاهدت غطاء ضخما من المشمع الثقيل سقط من فوق شاحنة نقل إسرائيلية كبيرة الحجم وإستطعت بمعونة شهاب سحبه حتى المخزن وبذلت من الجهد والعرق الكثير حتى إستطعت أن أثبته على فتحة الدهليز حتى لا يصيب البرد أصدقائي الأعزاء ، بل كنت أتوقع أن تلد السيدة ناقة ويأتي بعرور ابنها فيشعر بالبرد وقد يدفع هذا والده العصبي السيد أمشير إلى التصرف الأحمق معي بأن يأكل ذراعي أو يقوم بالهجوم على مخزن المساعدات وتدميره وبالتالي أفقد وظيفتي.
تلك الليلة سمعت بعض الأصوات وكانت تخص السيدة ناقة ؛ إعتقدت لحظتها أن السبب في هذا هو أمشير ؛ فمن المحتمل أنه قد شعر بأنها معجبة بشهاب الذي يرسل لها بإشارات تدل على الحب والإعجاب فضايقه هذا وبسبب الغيرة قام بضرب زوجته ناقة هانم علقه ساخنه مما دفعها لأن تطلق الأصوات مستغيثة بالجيران ، تحيرت بعد أن وصلت الإستغاثة إليّ ؛ وما الذى عليّ أن أقوم به ، أنا لا أؤيد التدخل بين الأزواج ؛ كل زوج يقوم بقيادة بيته كيفما شاء ، مازالت الأصوات تصل إلي سمعي ولهذا عملت ودن من طين والأخرى من عجين كما يقول المثل الشائع.
بعد قليل سمعت صوت أمشير بالخارج وكأنه يطلب وساطتي لحل النزاع مع زوجته ، لم أتحرك ، إزداد صوته وشعرت بأنه بعد قليل سوف يخرج القلة من فمه وقد يحطم الخيمة على رأس اللي خلفوني ؛ قلت في بالي ألم الموضوع ؛ نهضت مدثرا بالعباءة متجها لباب المخزن وفتحته فشاهدت أمشير فى حالة من الحزن رغم الظلام ، شعرت بالسعادة وإعتقدت بأن السيدة ناقة رنته علقه سخنه ومن المحتمل أن السيد شهاب قد عاونها في ذلك والذي كنت أسمع صهيله ، شعرت بأنني سوف أصبح مصلحا بين الأحبة والأزواج ، أسرع أمشير أمامي وأنا أهرول خلفه حتى دخلت الدهليز فسمعت أنات السيدة ناقة ، ُعدت مسرعا وأحضرت علبة الكبريت وأشعلت العشب فأضاء المكان ووقفت مذهولا مما شاهدت.
السيدة ناقة تنظر إلى أمشير بينما تدلي من فتحتها التناسلية ابنها بعرور، كان بعرور نصفه للخارج ونصفه للداخل ، وقفت بجوارها أشد من أزرها مثلما كانت تفعل السيدة حلاوتهم الداية بقريتنا بمرسي مطروح ، وقفت أشد من أزرها بينما أمشير يهمهم ببعض الأشياء لا أعرف ما يريد ويقترب من الناقة هانم ومازالت عيونها تتسع وتلمع والعشب أعطي لهم الراحة والدفء.
ظل الحال على هذا الوضع لمدة تزيد عن العشرة دقائق وبعرور يحاول بأقدامه الأمامية الفلفصة للهبوط من بطن أمه لكن السيدة ناقة توقف طلقها كما يقول العامة ، تشجعت وأمسكت بكتف بعرور وجذبته قليلا للخلف فشاهدته يتحرك ناحيتي فواصلت الجذب ؛ خلال هذا كنت أشاهد أمشير ينظر إلىّ مشجعا حتي ظهر ثلثي بعرور وفجأة إندفع مرة واحدة وسقط أرضا ؛ حاول بعرور الوقوف دون جدوى ، كما لاحظت الراحة على وجه أمه كما أقبل أمشير يلعق جسد بعرور ثم تبعته الأم بينما وقف شهاب ينظر إلينا كأنه ُيمني نفسه بتكوين أسرة مثل أسرة أمشير.
حاول بعرور الوقوف لكنه سقط ثم حاول بمساعدة الأب والأم ، كرر المحاولة عدة مرات حتى إستطاع الوقوف بأرجل مرتعشة ، لا أعرف كيف علم بعرور بأنه يوجد بأسفل جسد أمه من الخلف مخزن طعامه وشرابه حيث أسرع بالقفز خلف أمه ومد رقبته الطويلة نسبيا بين رجليها وأمسك حلمات أمه وهات يا مص ، أقبل علىّ أمشير يسير الخيلاء وكأنه يخبرني بأن هذا ابنه وأنه أصبح منذ اليوم أب وقبل هذا بعام كامل وعدة أيام كان زوجا ، قبلته وقبلت السيدة ناقة موضحا لأمشير ما فيش غيره وخلينا حبايب وكأنه فهم ما كنت أبغيه ، أسرعت إلى المخزن وأحضرت علبة السجائر وقمت بإشعال سيجارة وكل نفس أقوم على سحبه أقترب من السيدة ناقة وأنفث الدخان بوجهها فتسحبه على الفور سعيدة ثم أشاهد الدخان يخرج من بين فتحات أنفها الكبيرة ، نهاية السيجارة كانت ناقة فى حالة طيبة مما جعلها تضع أنفها أرضا قريبا من أقدامى تحكها كى تشعرنى بأنها تقدم شكرها وثنائها لى.
بعد أن تأكدت أن كل شىء على ما يرام جلست جانبا أمام النيران المشتعلة والدفء يسرى بأوصالى وأيضا الأضواء الناتجة من إشتعال العشب أدخل السكينة والسعادة إلى نفسي فغرقت فى نعاس عميق ، تنبهت من نومي بالدهليز على من يرفع المشمع السميك الذي كنت قد فردته كي يحمي الأم وطفلها من البرودة ، على ضوء النهار شاهدت الشمس تنعكس بضيائها على بشرة وشعر رحيل فأدخل هذا الطمأنينة إلى قلبي ، تحركت فشاهدت بعرور فأطلقت صيحة طيبة متأملة هذا المخلوق الجميل وأقبلت ناحيته وقبلت رأسه بين سعادة أمه وأبيه ، نهضت متثاقلا ووقفت أتحدث معها وسألتني أسئلة كثيرة عن كيف تم هذا ولماذا لم أوقظها لتحضر تلك اللحظة الجميلة ، غادرنا المكان بعد أن أزحنا الستارة فدخلت أشعة الشمس ونشطت الحيوانات وشاهدت بعرور يحاول القفز جريا حول أمه.