Click to listen highlighted text! Powered By GSpeech
Get Adobe Flash player
مستمرين معاكم بإذن الله 2008-2024 **** #لان_لجيشنا_تاريخ_يستحق_أن_يروي **** ***** إنشروا تاريخنا وشاركونا في معركة الوعي **** تابعونا علي قناة اليوتيوب 1100+ فيديو حتي الان **** تابعونا علي صفحات التواصل الاجتماعي** أشتركوا معنا في رحلاتنا لمناطق حرب أكتوبر **** يرجي استخدام خانة البحث **** *** تابعونا علي تليجرام - انستجرام - تويتر

روايه فهد الليل- الجزء الثامن

 

 

كتبها على لسان أبطالها

أســامة على الصــــادق

.....

الطبعة الأولى .. مارس 2012

الناشر: الكاتب

.....

تصميم الغلاف: ريهام سـهيل

.......

حقوق الطبع محفوظة للكاتب

موبايل: 01227970032

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

 

يوم النصر الخالد

     هكذا بدأت أعتاب عام 1973 كنت كل يوم في إنتظار ما أخبرتني به أم سيناء من فرحة المصريين والعرب بالنصر المبين ، بدأت الأيام تزحف فتكمل أسابيع ثم شهور ولا بصيص لهذا الأمل بعيد المنال ، فقد زاد الطين بله أن إجتمعت القوي العظمي أمريكا والإتحاد السوفيتي نهاية العام الماضي وأطلقتا مصطلح الإرتخاء العسكري بالشرق الأوسط ، كنت أستمع للإذاعة المصرية التي كانت حانقة على هذا الإتفاق .. قبل هذا الإتفاق تخلص الرئيس السادات من الخبراء الروس ، ماذا يخبئ القدر لمصر والمصريين  الأيام تسير ببطئ ولم تعد هناك فرحة أو بصيص من أمل ، فمنذ العام الكئيب عام 1967 والفرحة غادرت قلبي ، وإكتمل الحزن بوفاة الرئيس عبدالناصر ثم تلا هذا ما يعرف بمراكز القوي تبعها طرد الخبراء الروس وأخيرا مصطلح الإرتخاء العسكري.

     الله يرحمك يا أم سيناء ، كنتي بتاكلي أرز مع الملائكة ، فلا حرب ولا يحزنون والقوات من الجانبين تقف أمام بعضهما البعض والحالة الإقتصادية بمصر متردية وما أسمعه من إذاعة لندن يخبرنا بهذا بينما الإسرائيليون يتمتعون بمساعدات ضخمة فى كل المجالات كما أنهم المنتصرون بل وصلت سرقتهم وسطوهم على حقول بترول أبو زنيمة ورغم محاولات رجال الحدود إلا أنهم إستطاعوا السيطرة علي الآبار وإستغلالها.

    لم تكن هناك فرحة تسعدني وتبهج قلبي سوي ما أشاهده أمامي ، كانت هناك ثلاثة أفراح غامرة لا زلت أتذكرها حتي الأن بعد مرور تلك الأعوام الطويلة ، الفرحة الأولي كانت إنجاب ابنتي الأولي وأطلقت عليها تراجي اسم عفاف أما الفرحة الثانية فكانت لهو الطفولة الجميلة البريئة بين هارون وأصدقاءه الثلاثة وهم الكلب ليفي والحصان الصغير ياقوت والجمل الصغير هادي ؛ حيث كنت أقضي أوقات الفراغ أؤدى ثلاثة أشياء ، الصلاة وقراءة القرآن ومشاهدة لعب تلك المخلوقات وكيف تتفاهم مع بعضها البعض ، أعود بذاكرتي لأيام الطفولة حينما كنت صغيرا ًفى عمر هارون وكان بجوارنا كلاب وجمال لكن اللعب معهم بتلك الطريقة ومصادقتهم فهذا لم يحدث لي ولم أره يحدث لأطفال آخرين.

     أما الفرحة الثالثة والتي أثلجت قلبي وقللت من الضيق الذي إنتابني من عدم تحقق نبؤه أم سيناء هو ما طرأ على رحيل ، لقد سيطرت عليها حالة من الروحانية العالية والثقة بالنفس والهدوء الذي نفحها به الله بعد إيمانها ، لقد شاهدت الفارق بين المؤمن وغير المؤمن فى هذا المكان ، كان الفارق واضحا وضوحا مذهلاً ، كنت أشاهد رحيل فى غاية الرقة والوداعة وحين سماعها الآذان بالراديو كانت تنطلق للداخل وتعود بعد فترة فأسألها أين كانت وماذا فعلت ، تجيب بهدوء وإستحياء بأنها كانت مع الله ، يا ربي ، مع الله وليس مع جاستون أو موشيه ، أستوضح: تؤدين الصلاة؟ فتحرك رأسها بإيماءة بسيطة ، ثم تنظر إليّ متحدثة: أخي صابر: هل يمكنك أن تسمعني بعض آيات من القرآن الكريم ترتيلا بصوتك الرخيم؟

    نعم أختي المؤمنة ، أجلس أمامها أتلو القرآن وفي بعض الحالات قد تخونني الذاكرة بسبب عدم التركيز فى التلاوة لما أشاهده من إنفعالات تظهر على وجهها الأبيض الرقيق ، لقد كانت رحيل تستمع للتلاوة ليس فقط للتمتع بصوت القارئ ، لكن لتتبحر فى المعاني ؛ حيث كانت تحتفظ بورقة وقلم وتكتب أسماء بعض الكلمات والتعبيرات وبعد الإنتهاء من التلاوة تستوضح مني ما خفي عنها.

      بداخل المنطقة الخلفية التي دفنت بها أم سيناء قمت على إعدادها لتشوين المواد الغذائية كما طلبت مني أم سيناء منذ أكثر من عامين ؛ حيث قمت بإستخدام الغطاء السميك الذى كنت قد عثرت عليه قبل ذلك بأن قمت بوضعه فوق المواد الغذائية التي قمت على تشوينها لحمايتها من الأمطار وتأثير درجات الحرارة ؛ فقد كنت أقبل باللورى مباشرة وأقوم بنقل كل تلك الأجولة للخلف مستخدما كلا من أمشير وزميله بركة وجمل أم سيناء ِمسك الليل والفرس شهاب وزوجته زمردة ، حيث طلبت رحيل من الإدارة زيادة الحصص التموينية نظرا لدخول عدد كبير من المستحقين الإعانة نظرا لندرة الوظائف والأعمال وبالطبع إستجابت الإدارة الأمريكية لأمر الإدارة الإسرائيلية وتضاعفت الكمية مرتان خلال النصف الأول من عام 1973 وكل هذا كان بإيعاز مني تمشيا مع وصية أم سيناء.

     شعرت بأنني أخطأت بتشوين كل تلك الكميات ، فمازالت الأسر البدوية على حالها وقد تضخمت الكمية المخزنة والتى يمكن أن تتلف في بداية العام القادم حسب ما هو مدون على كل عبوة من جميع الأصناف ، تحيرت ماذا أفعل ولم يسعفني تفكيري فأسرعت للحصول على النصح والنصيحة من أحبابي رجال الحدود وبالأخص الشاويش إدريس أيضا كي أطلب منه أن يعاونني ببعض الرجال كي نقوم على حصد محصول الشعير فقد قارب على النضج ونحن فى أشد الإحتياج له لإطعام أصدقائي خاصة أن ناقة هانم أنجبت بعرور الثاني وبالتالي فمن المحتمل بالمستقبل أن يزداد العدد وكل هذا سيقع علي أكتافي مما دفعني للخروج يوم بعد يوم لجمع أكبر كمية من الأعشاب الخضراء قريبا من المنطقة ، أيضا قررت إخباره بما حدث لرحيل منذ نهاية العام الماضي ودخولها فى الإسلام ولم أرغب فى إخباره فى المرات السابقة لقناعتي بأنها فترة وسوف ترتد ثانية ولن تقوي على حرمان نفسها من اللهو واللعب والفسق التي تشربت منه لسنوات بإسرائيل منذ هجرتها وطنها الأصلي مصر والحصول على جنسية دولة مزيفة ليس لها جذور ومغتصبة حقوق عرب فلسطين.

     فكرت قبل التوجه إلى رجال الحدود بأنه من الأفضل لي نقل بعض المؤن وحفظها لديهم كي أضمن المحافظة عليها خاصة أن رحيل حذرتني بأنه من المحتمل أن تأتي لجنة تفتيش ومتابعة وتكتشف كل تلك المؤن الزائدة عن الحاجه مما يضطرها بأن تقدمنا لجهات التحقيق المختصة ، وجدت أن فكرتها صائبة ومن أجل هذا قمت بتحميل كل من شهاب وأمشير وبركة وِمسك الليل بكميات من الدقيق والسكر وأودعتها بالمنطقة بجبل الحلال كي أستطيع العودة فى نفس اليوم ، ظللت على هذا الحال خمسة أيام وفى اليوم السادس رافقني شهاب متجها إلى رجال الحدود فوصلت مساء نفس اليوم وجلست بينهم وتمتعت بدفء الحديث ومظاهر الحب الذي يجمعنا، فقد مضت علينا ست سنوات ونحن نحيا بعيدا عن الأهل ؛ فقد كان شهر مايو على الأبواب ، وحين علم الرجال بأن زوجتي أنجبت فتاة هللوا وقدموا لي التحية الواجبة.

     أخبرت إدريس بما جد على رحيل ، توقف الرجل وتعجب ثم إبتسم وردد الله أكبر وحينما أخبرته بتشككي فى إسلامها كرر قول رسول الله صلي الله عليه وسلم حين قال للصحابي خال بن الوليد "هلا شققت عن قلبه" حينما أخبره بأنه قتل أحد الكفار بعد أن قال أشهد أن لا إله إلا الله .. طلب مني إدريس تركها لله فهو الهادي وهي لا تخشي من أحد بأن تظل على ديانة الآباء أو تستبدلها بالديانة الحق ، أما بخصوص حصاد الشعير فسوف أطلعك علي شيء أعتقد أنه سيبهرك ، سرت برفقته مسافة لا تقل عن كيلومتر فشاهدت حديقة غناء قام رجال الحدود بزراعتها بفضل براعة المهندس عزيز وزميليه بتوفير المياه ورفعها من عيون موسي وتشغيل طلمبة السحب مستخدما خام البترول المكرر بدائيا ؛ حيث قام الرجال بزراعة نبات الشعير على مساحة عدة أفدنة ثم بعض الخضراوات المختلفة من فلفل وباذنجان وجرجير وبسلة وطماطم وبعض الأنواع الأخرى وقد عاوننا حمدان مهرب المخدرات بأن هرب إلينا بذور تلك النباتات ، كما قرر إدريس بأن يرسل رجاله لإحضار المؤن التي أخبرته عنها ثم طلب مني لا أتشكك فى كلام أم سيناء فقد قالت هذا الكلام وهي فى النزع الأخير ثم أكدته بعد هذا بعام في رؤيا صالحة أمام قبرها ، ومازال عام 1973 لم نبلغ منتصفه بعد ، إترك كل هذا ولا تتعجل يا بني فنحن لا نصوم شهر رمضان إلا آخر شهر شعبان حينما نتأكد من هلال شهر الصيام فقد يأتي ما تحدثت عنه الشهيدة الطاهرة في آخر أيام هذا العام.

   عدت للمستودع بعد قضاء يوم كامل ولهذا ضاع مني أيام ثلاثة فى الذهاب والعودة ويوم هناك مع الرجال الأفذاذ ، وجدت رحيل على حالها من السكون والدعة والعبادة والإهتمام بعملها والتفاني فيه وحسن معاملة البدو الفقراء بديلا عن الترفع والتقزز التي كنت أشاهدها عليه كما أن رجال الجيش الإسرائيلي تجنبوا التعامل معها لشعورهم بأنها أصبحت جافة ولا تتمادي معهم بالضحكات والقفشات الخليعة التي كانت تشتهر بها.

   مضي عشرة أيام أخري منذ غادرت مقر رجال الحدود ومازلت أواصل نقل المؤن وتأكد لي بان إدريس أرسل برجاله ونقلوا جزءا ليس باليسير مما تم نقله لذلك المكان المتوسط المسافة بيني وبينهم ، بعد عدة أيام شاهدت ثمانية رجال من رجال الحدود ورجال البترول قادمين فرادي على الجمال وتوجهنا جميعا للمساحة المنزرعة شعير وأسعدهم ما قمت به وللمساحة الشاسعة التي زرعت بنبات الشعير ، ظللنا نحصد الشعير ؛ حيث كنت خلال الفترة السابقة قد طلبت من البدو حين حضورهم إحضار بعض الفوارغ من الأجولة معهم  للإحتياج إليها وقد نفذ الجميع رغبتي وأصبح متوفر لديّ كمية من الفوارغ ؛ حيث كنا نحصد الشعير ونعبئه على الفور فى الأجولة حتي تجمعت كمية كبيرة وظل العمل قائما علي قدم وساق تحت حرارة شهر مايو المرتفعة .             

     بعد هذا تم نقل كميات الشعير إلي المستودع وقد ظل رجال الحدود معي لأكثر من عشرة أيام وقد شاهدت قيمة العمل الجاد التي إستطاعت حصاد تلك الكميات من الشعير والتي أعتقد أنها سوف تكفي أصدقائي من الجمال والخيول لأكثر من عام يكون محصول العام القادم قد نضج ، ودعت الرجال ؛ حيث عادوا لموقعهم بينما عدت لإستكمال الأعمال وإعطاء رحيل راحة فقد ظلت طوال الفترة السابقة تقوم على أداء العمل بمفردها.

    مضت الأيام طيبة هانئة إلا من بعض منغصات من رجال الجيش الإسرائيلي الراغبين فى إلحاق الأذى برحيل ولا أعلم السبب وهي لم تهتم بهذا ، خلال تلك الفترة قمت على زيارة أسرة تراجي وتأكد لي تقدم حالة تراجي الصحية أيضا المولودة وشعرت بسعادة بالغة ، بعدها عدت للمستودع وظللت أقوم علي أداء عملي كالمعتاد ، مساء هذا اليوم علمنا من راديو القاهرة بأن بداية شهر رمضان غدا ، صاحب رؤيا هلال الشهر المبارك إذاعة بعض أغانى رمضان الجميلة والتي إهتزت لها رحيل طربا وسعادة وهي تضحك وتخبرني بأنها كانت تستمع لتلك الأغاني وهي طفلة صغيرة قبل ضياعها من وطنها الحبيب مصر ، بكت وهبطت دموعها غزيرة وهي تندد بتصرف والدها ووالدتها بأن حملوها من حلم مصر الجميل إلى كابوس إسرائيل الفظيع ، تردد ..  صابر: هل هارون يملك من أمره شيئا؟ لقد أحضرته أنا وموشيه إلى هنا وهو صغير لا يستطيع الإعتراض ، أنا وجميع الأطفال هكذا ولذلك طالما تساءلت : ليه يا بابا عملت كده؟

     مضت الأيام جميلة من شهر رمضان وكانت رحيل عند وعدها بالصيام وإعداد طعام الإفطار وأيضا طعام السحور ؛ لقد قرب بيننا الشهر المبارك بأن نتناول طعامنا سويا والسحور أيضا ؛ حيث كنا نقضي وقتا طيبا بعد صلاة العشاء أمام باب المستودع ونستمتع بهواء الصحراء الجاف والهدوء الجميل الممتع وسماع بعض الأغاني الجميلة ولمسابقات الفوازير التى تذاع بإذاعات القاهرة المتعددة.

       وحل السبت الموافق العاشر من رمضان السادس من أكتوبر قررت ظهيرة ذلك اليوم أن أقوم بالغد بتوزيع المعونة الغذائية على البدو بكميات مضاعفة كي أتخلص من الكميات المخزنة والتي ملأت المنطقة الخلفية والمخزن أيضا كما قمت بنقل بعضا منه إلى منطقة جبل الحلال بخلاف ما قام بنقله رجال إدريس ، شعرت بإرهاق وتعب بعد أن قمت بترتيب الأصناف بالمخزن وبعد أن أديت صلاة الظهر إختبأت بداخل المخزن ورحت فى نوم هادئ خاصة أن الأصدقاء الأربعة قرروا اللعب بالمنطقة الخلفية التي يوجد بها قبر الراحلة أم سيناء.

    أثناء نومي شعرت أنني محلق بالسماء فشاهدت أم سيناء تجلس علي كرسيها بملابسها البيضاء الناصعة تبتسم لي ملوحة مرددة بكلمة واحدة .. مبروك .. مبروك .. ونهضت على صوت رحيل التى أقبلت توقظني من نومي واللهفة والخوف حالها ، تساءلت خير يا رحيل .. خير؟ .. بكت بسرعة ووضعت يديها على عينيها وهي تردد .. مش معقول .. ألطف يارب .. أصرخ فيها .. رحيل .. لا داعي لهذا .. فقد أيقظتني من رؤيا جميلة .. ماذا حدث؟ تردد .. الحرب .. الحرب .. أستوضح .. مالها الحرب ...  خلاص مافيش حرب وكله نايم فى العسل .. تصرخ فى وجهي .. قوم يخرب عقلك .. الحرب قامت بين مصر وإسرائيل بقالها ساعة .. أردد بتلعثم: مش معقول وشعرت بأنني غير قادر على السير وإستندت على أجولة الدقيق وشعرت بأن عيوني جحظت ومازلت أردد .. يارب .. اللهم لا أسألك رد القضاء ولكن أسالك اللطف فيه.

   سرت برفقة رحيل إلى خيمتها وأنا لا أري بوضوح وكان هذا باديا من حالتي ؛ حيث كانت تمسك بيدي وتوضح لي الطريق وأنا شبه أعمي ، وصلنا إلي الخيمة وجلست أرضا فأقبلت حاملة الراديو الذي يذيع أغانى وطنية وموسيقى عسكرية ، أتساءل: إيه اللي حصل؟ أبدا .. أدارت مفتاح تشغيل الراديو أسلي نفسى وأنا أجهز طعام الفطار سمعت البيان رقم 3 من إذاعة مصر وقال أن فيه إشتباكات بين الجيش المصري والإسرائيلي على طول الجبهة قلت فى بالي كلام إذاعة مصر مش مصدق ، حولت المؤشر على إذاعة الجيش الإسرائيلي فسمعت بيانهم قال أن بعض الغوغاء من الجنود المصريين حاولوا عبور قناة السويس لكن قوات جيش الدفاع سحقت عظامهم وإرتد من عاش ذليلا جريحا وتركوا قتلاهم بالمئات.

     قمت على تشغيل الراديو فسمعت البيان السادس أي أن خلال فترة قدوم رحيل لي وتحدثها معي أذيع بيان 4 ، 5 .. كان البيان السادس هو فيصل القصيد ، فقد أذاع راديو القاهرة أن حوالي عشرين ألف جندي عبروا القناة وهم موجودون على الضفة الشرقية ؛ حيث يقومون بتدمير خط بارليف وأن عددا ًليس بالقليل من الطائرات الإسرائيلية الحربية سقط بنيران صواريخ الدفاع الجوي أو من أثر الإشتباك مع القوات الجوية المصرية.

    جلست ساهما ، جيش وحرب وطيران إسرائيلي يدمر وطيران مصري قاتل ، إيه الحلاوة دية ، تذكرت حديث رحيل بأنها لا تثق بإذاعة القاهرة ، حولت المؤشر على إذاعة لندن وسمعت نفس ما قالته إذاعة القاهرة مع تضخيم قيمة خسائر الجيش الإسرائيلي ، جلست ساهما ثم أسرعت عائدا للمنطقة الخلفية وأمام قبر الراحلة أم سيناء قرأت الفاتحة وشكرتها وسجدت لله أمام القبر بأن أرسل لي بتلك السيدة كي تخبرني ، الحمد لله فأنا قمت بالإستعداد بالكثير من المؤن لمساعدة المقاتلين الأفذاذ بسيناء.  

     الحمد لله ، قلتها بعد أن إستقرت حالتي من التوتر الذي صاحبني حينما أخبرتني رحيل بأن الحرب قد إندلعت بين كل من مصر وإسرائيل ، فقد كنت أخشي ما حدث منذ أكثر من ست سنوات وأن تلحق بنا الهزيمة المؤلمة يليها الإنسحاب الذي مازلت أدفع ثمنه ببقائي هنا ، بسيناء ، أردد: سيناء الرائعة تلك الأرض التي عشت بين ربوعها ستة أعوام أو يزيد فى ظروف أشد صعوبة لكن من يقول بأنني كنت سوف أقوم بما قمت به؟ وبما أرسلت به من معلومات إلي القيادة عن طريق الراحلة أم سيناء أو الشيخ عيد ، ثم تقديم يد العون والمساعدة لرجال الحدود الأفذاذ ، وتلك السيدة التى هداها الله إلي نور الإسلام وليس لي الفضل لكن الله سخرني لهذا ، فأنا عامل مساعد لكن الله هو الذي يهدي من يشاء.

     أخبرت رحيل برغبتي بزيارة رجال الحدود ، ترددت خشية أن يحدث رد فعل من أهالي سيناء على أحداث الحرب ، إبتسمت لها وأخبرتها بأن الحرب مازالت قائمة مشتعلة والبدو في سيناء على حالهم يقبلون طالبين المساعدة الغذائية ولم يعلق أحدهم على ما يحدث بميدان القتال رغم إنني ألاحظ البسمة والسعادة تظهر آثارها على بشرتهم ، أيدت إستنتاجي وطلبت مني ألا أتأخر عليها وأخبرتني بأنها علي أتم الإستعداد بسلاحها كما أنها أعدت جهاز الإتصال اللاسلكي للعمل!! تساءلت: جهاز لاسلكي معك يا رحيل ؟ أجابت أيوه يا صابر ، فمنذ نشأة هذا المستودع وجيش الدفاع زودني بجهاز إرسال وإستقبال لاسلكي لا أقوم علي تشغيله إلا وقت الحاجه؛ حيث يقوم بالإتصال برئاسة المستودع ويعلموا مني ما أريده وقد يستدعي الأمر إرسال دورية عسكرية سريعة أو طائرة هليكوبتر فى خلال دقائق لإنقاذي وتقديم يد المساعدة ، نظرت إليها وقمت علي وداعها متجها لرجال الحدود.

     أثناء الطريق من مستودع رحيل للأغذية إلى منطقة عيون موسي حيث مقر رجال الحدود كنت فى دهشة وأتساءل: نقطة مساعدات للغذاء مزودة بالماء النظيف وسخان الغاز للتدفئة والطهي وتسخين مياه الإستحمام ومدفع رشاش وأحد كلاب الحرب الشرسة ثم جهاز إتصال لاسلكي ، بينما نحن فى سلاح الحدود والذي يحمي الحدود من المتسللين والأعداء وأيضا يحمي الوطن من الداخل من مهربي المخدرات ورغم هذا لا نمتلك تليفونا ًأرضيا ًأو جهازا ًلاسلكيا ًويظل إعتمادنا على فرد قادم بالجمل من شمال سيناء إلى الجنوب ليقطع 300 كيلومتر كي يحمل إلينا الأخبار والمعلومات ، تساءلت: ما الفرق بيننا الآن وبين الصحابة في صدر الإسلام حينما كان يرسل الخليفة بالأوامر إلى الولاة وقادة الجيوش بمرسال يستخدم الجمل أو الحصان  ونتيجة ذلك أن بدأت الحرب وإنتهت فى عام 1967ونحن لا نعلم بما جرى إلا بعد خمود نار القتال بأكثر من شهر ونصف من أحد المهربين أيعقل هذا؟

   وصلت إلي فصيلة الحدود ولم أعثر إلا على رجال البترول الثلاثة حيث أخبروني بان رجال الحدود إشتبكوا مع العدو الإسرائيلي فى معركة حامية لحماية قوة من الصاعقة هاجمت آبار البترول وبعد الخسائر التي لحقت بالعدو أقبلت قوة إضافية وحدثت خسائر برجال الصاعقة وكان رجال الحدود بالقرب منهم وشاهدوا المعركة وإشتركوا فيها وظل القتال دائرا خلال النهار ومنتصف الليلة ولقي إثنان من رجالنا الشهادة وهما ....

   ترددت ماذا أنا فاعل؟ غادرت الموقع عائدا إلى المستودع لكني شعرت بحنين إلى سلاحي الذي لم أستخدمه منذ إعتقالي أي منذ أكثر من عام ونصف العام ، عرجت على السرداب الذي أخبئ به السلاح ، تفحصته ، شاهدته ينير بوسط ظلام الليل كأنه يطلب مني أن أمنحه شرف القتال في تلك المعركة ، أسمع صدي صراخه بأذني: ما هو دا الوقت المناسب كي نعمل ثلاثتنا .. أنا وأنت وشهاب؟

    حملت السلاح وتوجهت إلي النقطة التي قتلت بها المجرم جاستون منذ أكثر من خمسة أعوام ، إختبأت فى إنتظار هدف ما ، وأنا أعلم صعوبة مشاهدة هدف فردي فى تلك الظروف فالحرب على أشدها لكن الله يساعد من يرغب في المساعدة حيث كنت أناجيه بطلب تحقيق الهدف ، أقبلت عربة لورى إعتقدت وقتها أنها تحمل مهمات أو شيء من هذا القبيل أطلقت علي قائدها رصاصة سقط قتيلا في الحال وترك عجلة القيادة وسارت السيارة دون سيطرة حتي إرتطمت بعد عدة أمتار بمنطقة الصخور بالمنطقة وإنقلبت على أحد الأجناب ، لم أسمع أي أصوات وبعد فترة زمنية قصير سمعت أصوات بعض جنود الأعداء بداخل صندوق اللوري المقلوب.

      كان الجنود مسلحين وأخذوا في إطلاق النيران من داخل اللوري دون تمييز حيث كانت الرصاصات تخترق مشمع اللوري في أي إتجاه ، كانت النيران كثيفة ومنتشرة ، خشيت الإصابة وظللت معتكفا حتي تهدأ النيران ولكنها لم تهدأ ، سمعت هاتفا يقول: لماذا لا تطلق النار على تنك الوقود الخاص باللوري وسوف يقوم باللازم نحو الجنود الأوغاد بالداخل ، بتلسكوب البندقية مع دقة التصويب إخترقت الرصاصة تنك اللوري الذي ظهرت النيران منبثقة منه فجأة ؛ خلال هذا أسرعت بالهرب رغم الرصاصات الطائشة وذلك للإبتعاد بعد أن إنفجر خزان الوقود الخاص باللوري الذي كان يحمل الجنود وبعض الذخائر مما أدي إلى إندفاعي من فوق صهوة الفرس إلي الأرض مع تفجر دماء من مختلف أجزاء جسدي كما لاحظت أن الدماء تغطي بعض أجزاء من جسد شهاب.

     نهضت متثاقلا وشعرت أن نهايتي قد أشرفت ، ربت على ظهر شهاب الذي كان فى حالة توتر شديد وكأنه يخاطبني متسائلا: ليه التهور ده؟ أنت عارف إني متزوج وعندي طفل جميل اسمه ياقوت ، أنت كده ح تخلي زمردة أرملة وتضطر أنها ترضي بالحصان العجوز اللي إشتراه الشيخ عيد بعد ما لملمت أسرتي وأصبحت زمرة وياقوت معي ، بهدوء سرت بجوار شهاب الذي كان يزك ثم نظر إلي وهز رأسه وصهل بصوت خفيض وأشار بمقدمة رأسه للخلف جهة ظهره أي إركب أيها الفارس ، ترددت رغم لهفتي لهذا راغبا بالبعد عن المنطقة ، ركبت صهوة شهاب وسرت في إتجاه عكس إتجاه مستودع الأغذية حتي وصلت لمنطقة صخرية سرت عليها وإلتففت من الجانب الآخر بين الصخور والتلال حتي وصلت للمستودع من المنطقة الخلفية التي تملؤها الصخور ، وصل شهاب إلى الحظيرة ورفعت من فوق ظهره السرج ، سمعت رحيل قادمة ومعها "كشاف" إضاءة يدوي وتساءلت ماذا حدث وحينما شاهدت الدماء تغطي أجزاء من جسدي وجسد شهاب كادت أن تصرخ لكني أسرعت أقدم لها الإطمئنان مع طلب المساعدة الطبية فأسرعت لإحضارها وقمت بمساعدتها بعلاج شهاب بعد تنظيف جسده بالكامل بقطعة إسفنج مبللة بالماء.

    تبين أن إصابته سطحية من شظية أعتقد أنها من أخشاب صناديق الذخيرة بينما كانت إصابتي من قذائف الزلط والأحجار بفعل الإنفجار ، حمدت الله بأنها لم تكن من المعدن بحيث تحتاج إلى جراحة وخبراء ، أخبرت رحيل بأنني سوف أغادر المكان الأن ومعي شهاب ونظل بعيدا عدة أيام حتى تهدأ الأحوال ، أيدت فكرتي حيث أخبرتني بأن مكتب الإستخبارات العسكرية تحدث معها وأخبرها بالعملية وأن من قام بها يستخدم حصان.

    زودتني ببعض الأطعمة وعبوة من الماء وغادرت المكان ومعي سلاحي، لم تكن المسافة بعيدة بيني وبين الدهليز الذي تخيرته بحيث يكون قريبا من المستودع ويعطي نفس النتائج أي الإختباء عن الأنظار ، بعد أربعة أيام تحسنت حالة شهاب الصحية أيضا إندملت جروحي وخلال تلك الفترة كنت أتلو القرآن ، فقد أصبح ذلك همى الوحيد مع الدعاء للمقاتلين بالنصر المبين.

    تحركت فى إحدى الليالي متجها إلى مقر رجال الحدود ، بعد أن بذلنا أنا وشهاب مجهودا كبيرا من أثر الإصابة ؛ وصلنا إليهم وإستقبلونا أحسن إستقبال وأشاد إدريس برجاله والمعركة التي قاموا بها لمساندة قوات الصاعقة لحماية إنسحابهم بعد أن تكالب عليهم العدو رغم خسارة رجلين وإصابة ثالث مازال يعالج وهو العريف أبو بكر ، كما إقترب مني إدريس قائلا سمعت عن عملية واعره تم فيها تفجير لوري ذخيرة بعساكره جرب المحور الأوسط واليهود بيجولوا اللي جام بيها راجل إستخدم فرس جلت لإخوانك هنا ما فيش غيره .. صابرا.

     إبتسمت له وأظهرت له الإصابات التي مازالت تحت العلاج فأسرع بطلب بيض الجمل وقام بوضع بعض نقاط على الجروح أيضا قام بنفس العمل مع شهاب ، بعد مضي حوالي الساعة من الزمن شعرت براحة وقد زال الألم وأعتقد أن هذا ما حدث لشهاب لأنه في صباح اليوم التالي أخذ يصهل راغبا في العودة فقد أضناه الشوق لزمردة وياقوت ، طلبت منه الهدوء نظرا لأننا فى حالة حرب وبلاش حكاية الحب والعواطف شويه ؛ لكنه مازال يصهل رافعا قدميه لأعلي.


 

مســك الختــام

   أخبرت زملائي بالحدود برغبتي بالعودة حيث كنت أشعر بجزع وخوف على رحيل ، وافقوا ورغب إدريس بتكليف إثنين من الجنود بمرافقتي ولكني أخبرته بأنني سوف أعود ليلا حتي لا أفاجأ بدورية نهارية أو طائرة هليكوبتر تقتنصني ، أثناء العودة كنت أسرع الخطي إلى المستودع ، كان قلبي يحدثني بحدوث شيء غامض منذ نصف ساعة تقريبا ، تساءلت: ماذا سوف يحدث هناك ؟ يجب عليّ أن أظل هادئ الجنان ، أيضا كنت أشعر بأن شهاب يكاد يقفز لأعلي حتي يصل إلي السحاب راغبا بالوصول لعائلته مبكرا ، لا أعلم ماذا أصابنا نحن الإثنين بما دفعنا للرغبة فى العودة مبكرا وبتلك السرعة وقد حدث كل هذا قبل نصف ساعة مضت قبل طلبي هذا من الشاويش إدريس حيث كنت راغبا بأن أظل ثلاثة أيام أخري لكن حدث هذا التوتر فجأة.

     وصلت قبيل الفجر إلي المنطقة الخلفية ، شاهدت بجوار تشوينات الأغذية شيئا يتحرك ، خشيت أن يكون الإسرائيليون في إنتظاري ، لكن ما هدأ من توتري سماع نباح ليفي ثم أعقبه صوت هارون وتلاه أصوات صديقيه ياقوت والجمل الصغير هادي وأدهشني هذا بأن تترك رحيل مجموعة الصغار يلهون بهذا المكان حتي قرب الفجر ألا تخشي عليهم من ذئب أو ضبع والذي سوف يفترسهم فى الحال دون مقاومة ، حملت هارون الذي كان يبكي فهدأت من خاطرة وقبلته وسار أصدقاؤه خلفي ، دخلت إلي الدهليز المؤدي إلي الحظيرة ومنها إلي المستودع فسمعت صوت بكاء.

     أدهشني هذا وتوقفت عن السير وشعرت بأن كارثة قد حدثت أو على وشك الحدوث ، تساءلت: من هناك؟ لم تصلني إجابة وأزداد البكاء إرتفاعا ثم تلي هذا إستفسار من الباكية : صابر؟ أيوه مين ؟ رحيل؟ لأ .. أنا بثينة!! يا للدهشة .. بثينة فى المستودع وفي هذا الوقت المتأخر ، أسرعت إليها فأمسكت بملابسي وجسدها يرتعد ويكاد قلبها الصغير يقفز من بين ضلوعها.

   ـ فيه إيه يا بثينة؟

ـ المجرمين اليهود .. جم جبل العصر وكانوا عايزين ينسفوا المستودع عشان خايفين أن الجيش المصري يوصل لحد هنا ، رفضت رحيل لكنهم صمموا ووضعوا المتفجرات ، رفعت عليهم السلاح ، قام أحدهم بإطلاق النار عليها فأطلقت عليهم عدة رصاصات وقبل أن تلقي مصرعها ، صاح أحدهم برحيل : إنتي ورا كل المصايب اللي حصلت لجيش الدفاع بالمحور الأوسط.

ـ يعني إيه؟ رحيل ماتت .. بصوت باك

ـ أيوه .. أيوه يا صابر

ـ يارب .. ليه .. بعد ما قربت منك تموت .. ده جزاء المؤمن الصالح .. حرام .. حرام .. طلبت مني بثينة ألا أتصرف هكذا ويجب عليّ أن أقوم علي دفن رحيل حيث تركها اليهود بالعراء بينما حملوا الثلاثة الذين قتلتهم وبعض جرحاهم .. لقد غادروا المكان بعد هذا بنصف ساعة وبعد أن قاموا بنسف مخزن المساعدات .. الحمد لله أنهم لم يفطنوا لهذا المخزون الكبير ، أتساءل: لماذا يا بثينة تركتِ هارون بالخلف ،  أبدا يا صابر لم أتركه لكن رحيل طلبت مني أن أقوم على حماية هارون بالخلف خشية أن يصيبه أي مكروه أثناء عملية نسف المخزن وحينما سرت به وبباقي الحيوانات عدت لأقف بجوار رحيل لكن الأوغاد تشاجروا معها وسبوها وأنها كافرة وليست على ديانتهم حيث أنهم وضعوا ميكرفون لنقل كل ما تقول وتتحدث به وعلموا منه بأنها أصبحت كافرة حيث تتبع دين محمد.

   أهذا كل ما حدث يا بثينة ، نعم ثم بدأ القتال الذي دار بينهم ، نعم صابر، لقد كانت رحيل سيدة شجاعة وأخبرتهم بأنها مسلمة ومصرية وتكره إسرائيل وكل من يعيشون بداخلها وأنها بعد الحرب سوف تعود أدراجها للعيش بمصر لهذا جن جنونهم ورفعوا عليها السلاح فكانت أسرع منهم وقتلت بعضهم مما دفعهم لقتلها بإطلاق دفعات رصاص كثيرة حيث كنت أخشي على نفسي وعلي هارون الذي كان يبكي أمه.

    لكن كيف ظللت هنا بجوار رحيل ولم تعودي إلى دارك؟ الحقيقية منذ يومين حينما أتيت بصحبة أبي لصرف المستحقات التموينية لعائلتي وعائلة خالتي طلبت منا رحيل أن أظل معها نظرا لأنك سافرت لمهمة ، كان أبي فرحا بما علمه من رحيل بدخولها الإسلام وبإنتصارات الجيش المصري على الأعداء فوافق أن أظل بجوارها حتي عودتك وقد شاء القدر بأن أكون هنا كشاهد عيان على ما حدث.

     هبطت السرداب تاركا بثينة وهارون وأصدقاءه الصغار التي كانت أمهاتهم تنظر إليهم طالبة منهم العودة لأحضانها دون إهتمام منهم سوي بالصديق الذي فقد الحنان والحب والرعاية بفقده أمه ، أسرعت حذرا أمام البوابة الخارجية أتلصص فلم أجد أثرا لأي من جنود الأعداء عدت ثانية وشاهدت رحيل ملقاة على ظهرها والرشاش بيدها والدماء تغلف جسدها ، إنحنيت عليها وقبلت رأسها مرددا : أختي الكبرى ، هنيئا لك ما وصلت إليه، فقد لقيت ربك وأنتِ صائمة شهر رمضان وشهيدة وسوف تدخلين الفردوس الأعلى وتجلسين مع الأنبياء والصديقين وأم سيناء.

     حملتها وعدت بها للمنطقة الخلفية وطلبت من بثينة أن تحمل هارون بعيدا حتي أنتهي من دفن الشهيدة رحيل .. أردد .. ياه .. البطلة والشهيدة رحيل .. هل هناك من كان يصدق أن تلك السيدة التى شاهدتها في بداية قدومي إلي هنا تصبح هذه خاتمتها؟

    أنهيت الحفرة وإجراءات الدفن وحملتها كما حملت أم سيناء وبعد أن حملتها عدت ووضعتها أرضا غير مصدق ما يصل إلى حاسة الشم عندى وأشعر به ، رائحة العطر الطيب تفوح منها ، هل هي صدفة أو أن هذا نصيب الشهداء البررة الأطهار ، عدت وحملتها وشعرت بأن جسدها خفيف مثل جسد أم سيناء لكني عولت السبب في خفة جسد أم سيناء لأنها نحيفة بعكس رحيل ذات الجسد والقوام المتناسق ، بهدوء وضعتها بحفرتها أو بمقبرتها وتلوت عليها بعض من قصار السور ثم أهلت عليها الرمال ووضعت بعض الأحجار ثم باقي الرمال وحددت محيط المقبرة وجلست أمام قبرها أتأمل ولكن البكاء هاجمني ، لا أعلم لماذا حدث هذا فأنا صلب متماسك وقد أعتدت مشاهدة الموتى منذ كان عمري عشرة أعوام حينما كنت أعمل صبي حانوتي حينما يحتاج عم عايش الحانوتي للعون وهذا في مقابل ثياب المتوفى الرثة وليست القيمة أو الصالحة.

     جلست والدموع تملأ عينى وأعود بذاكرتي للماضي حين أقبل بي أمشير إلي هنا والحالة المرضية التي كنت عليها وعنايتها بى ؛ ثم حين تعارفنا وكم شاهدت ما أنعم الله عليها من جمال وفتنة ورقة ثم سبابها لي وعنفها ضدي ثم حنانها نحو رجال الحدود والعطاء الكريم بلا مقابل للمواد الغذائية التى كانوا فى حاجة إليها ، ثم تقاربها مني وتنافرها أيضا وحبها لي كأخ صغير حيث كنت أشعر بحنان الأم والأخت الكبيرة ، رحمك الله ، رحمك الله فقد نلت الشهادة وأنتي تدافعين عن الحق ؛ لقد أسلمت وجهك لله ولاقيت الله وأنت صائمة شهر رمضان وقد عقدت النية أن تقومي بحج البيت الحرام فى العام القادم بعد إنتصار مصر وعودتك إليها .. رحم الله الأمهات الصالحات.

    حوالي الساعة العاشرة صباحا سمعنا نداء بعض البدو الراغبين بصرف مستحقاتهم ، كنت قد قررت البقاء بالمنطقة الخلفية لإقناع العدو بأن المستودع أصبح فارغا ولم يعد له وجود ومن أجل هذا طلبت من بثينة أن يظل الجميع بالخلف ولا يظهر منا أحد بالمنطقة الأمامية ، تفقدت المستودع وتبين لي أن الجنود الذين أقدموا علي عملية نسف المستودع لم يكن بينهم محترف حيث وضعت العبوات سطحية وحين التفجير حدث الإنفجار سطحي  والذي أثار بعض الشظايا من الصخور التي غطت وأخفت فتحة خيمة المؤن وبالتالي لم تعد ظاهرة ، كما حاولوا تخريب خيمة رحيل وكان التركيز على قاعة الجلوس والإستقبال أما ما عدا هذا فمازالت هناك أوعية للطهي وأغطية وبعض المفروشات والملابس الخاصة بهارون وبالراحلة حيث طلبت من بثينة تجميع كل ملابسها وحفظها في بعض الصناديق الكرتون المتخلفة من عبوات الشاي والكاكاو.

    شعرت بأن ورائي أعباء كثيرة أود الإنتهاء منها ، كان العبئ الأول والمهم الملقي علي عاتقي هو عودة بثينة لأسرتها ، فالفتاة فى حالة نفسية سيئة ولا يجب أن تظل هكذا فترة أطول من ذلك في هذا المكان الذي يحمل كل شواهد وصور الحزن الناتج عن الإجرام فى التعامل مع البشر ، أخبرتها بذلك فإزداد بكاؤها وأشارت إلي هارون ورغبتها فى الحفاظ عليه ، تحيرت ماذا أفعل ، فقد أصبح هارون مسئوليتي الأولي ، فبعد وفاة رحيل لابد من أن أحافظ وأحمي هذا الطفل يتيم الأبوين والذى لم يبلغ العاشرة من عمره وهذا عمره الزمني أما عمره الفكري فلا يتجاوز السبعة أعوام نظرا لحالة الإنطواء التي تلازمه والسبب في هذا هو حرمانه المبكر من والده ومن اللعب مع الأطفال الذين في مثل عمره ، أيضا ما شاهده من مظاهر الخلاعة علي رحيل أثناء الحفلات الماجنة التي كانت تقيمها لضباط جيش الدفاع الإسرائيلي ومن المحتمل أنه شاهدها مع جاستون فأثر كل هذا على حالته النفسية.

    أخبرت تراجي بأنني أوافق على أن يرافقها هارون وأن تحافظ عليه حتي تنتهي تلك الغمة وأسعدها هذا كثيرا ، بعد غروب شمس ذاك اليوم إصطحبت كل أصدقائي من الحيوانات وأيضا بثينة وهارون في طريقنا إلي قبيلة تراجي ، كنت أدعو الله بألا يشاهدنا أحد من الأعداء ، الحمد لله قبيل فجر اليوم التالي وصلنا إلي ديار تراجي ونهض القوم لإستقبالنا والترحيب بنا وتساءلت أم تراجي عن رحيل فصمتت بثينة بينما إندفع هارون في البكاء، حاولت النساء تهدئة هارون ولكنهن لم يتمكن من ذلك.

     أخذت بيده ودخلت به حظيرة الحيوانات فشاهد أصدقاءه سواء هادي أو بعرور والحصان الصغير ياقوت وليفي كلبه الوفي ، شعر بالسعادة والفرحة ونسي أحزانه وجلس بأحد الأجناب فوق الأعشاب الجافة يلاعبهم ، إلتف أصدقاءه حوله وكأنهم يشدون من أزره ورفض الصغار نداء الأمهات للحصول على الوجبة من الألبان حتي يظلوا بجوار هارون ، كنت أنظر إلى تلك المخلوقات وأردد سبحان الله وخرجت بنتيجة واحدة ، تلك النتيجة تقول لو ظل الإنسان بعيدا عن الماديات والسيطرة وحب المناصب لأصبح يتفهم تلك الحيوانات وأصبحت الحيوانات صديقة له لكن الفارق بيننا وبينهم إننا لا نشبع لكن الحيوانات إذا شبعت سكنت ولم تنظر لطعام أو جنس فقد حصلت على حقها الذي قرره لها الخالق عز وجل ووضعه فى غريزتها الطبيعية.

     جلست قريبا منهم وحاولت تراجي أن تدعوني للجلوس بالداخل ولكني فضلت تلك الحياة وهذه الصحبة التي شعرت خلالها بأنني إنسان نبيل وبعيد عن كل مساوئ البشر التي أعلمها والتي لا أعلمها ، أشاهد هارون يملس علي رقبة الحصان المهر الصغير ويحدثه: عايز تلعب دلوقتي وإلا تروح لمامتك؟ يهز ياقوت رقبته ويدق بأحد أرجله رغم أنه ينام أرضا بجوار العشب الذي يجلس فوقه هارون ، يجيب هارون : خلاص خليك هنا وأنا أروح أجيب لك أكل من ماما رحيل عشان أنت جعان ، يتذكر الصبي بأن أمه لاقت حتفها ولم يعد يراها أو يسمع صوتها ، فيندفع في البكاء فيقبل عليه أصدقاءه ، الكلب ينبح معربا عن سخطه وضيقه لمن قام بهذا العمل وحرم هارون من أمه بينما يسرع الجمل "هادي" إلى أمه يخبرها بأن صديقه يتألم فأشاهد السيدة ناقة مقبلة وتبرك أمام هارون وتضع رأسها أرضا بين أقدامه فيمسك بأذنيها يلعب بهما وتخرج بعض الأصوات التي تدفع ابنها للسعادة فيقفز لأعلي ويسعد هذا هارون وليفي والحصان الصغير ياقوت.

  أتساءل: ماذا قالت الأم كي يتفهمه هارون أو الحصان أو المهر الصغير ، من الممكن أن ابنها يتفهم إشارات أمه لكن الباقين كيف فهموا الإشارات وما معني قفزات الجمل الصغير ، تعجبت بعد أن صفقت مرددا .. لا إله إلا الله .. أنهم أبرياء أتقياء ليست بدمائهم السموم التي ترسبت في بني الإنسان كي يصبح خائنا ًوقاتلا ًوكاذبا ًومنافقا ًوهاتكا ًللأعراض .. الحمد لله على هذا .. إنحنيت وقبلت هارون وتركته مع محبيه الذين سوف يسعدونه وغادرت المكان بصحبة تراجي ، جلست معها قليلا فشاهدتها تحمل إناء به لبن من أجل هارون ، أسعدني هذا الحنان وطيبة قلبها، فبالرغم أن عفاف طفلتها في أشد الإحتياج إليها إلا أنها تحاول أن تسري عن هارون ، شاهدتها عائدة ولازال الإناء بيدها ومازال ممتلئا ، أشرت إليها بماذا حدث؟ هل رفض هارون اللبن أو أنه نائم أو مشغول باللعب؟

     إبتسمت تراجي وذهبت لأمها وأعادت إليها الإناء ثم أشارت إليّ فوقفت وتبعتها لحظيرة الحيوانات وبأصبع السبابة أشارت إلي هارون وهي باسمة ، كدت أقفز لأعلي وأصيح الله أكبر فوق كل شيء ، لقد كان هارون واقفا أسفل الناقة وبجواره بعرور ابنها والإثنان يتبادلان الرضاعة من حلمات الناقة والتي كانت تقف صامته كي تشعرهما بالراحة والإطمئنان وتدفعهما للحصول على أكبر كمية من اللبن.

    صباح اليوم التالي غادرت ديار تراجي متجها إلى مستودع الأغذية وحين إقتربت منه شاهدت بعض البدو عائدين والذين يعرفونني ؛ تساءلوا لماذا دمر المستودع ولم يعد به مؤن و لم نشاهد رحيل؟ أجبتهم بأن تلك أوامر الجيش الإسرائيلي ، غادروا المكان صامتين واجمين ، دخلت المنطقة الخلفية بصحبة أمشير والبركة الذين إتجها إلي الحظيرة بينما ظللت بالخارج وتأكد لي أن كل شئ مازال في مكانه ، جلست أمام القبر أقرأ الفاتحة على روحين طاهرتين من أرواح نساء مصر الكنانة.

   تبدلت وتغيرت الأخبار الخاصة بالقتال ، فبعد تقدم وتفوق الجيش المصري سمعنا عن بعض إنكسارات وهزائم محدودة ثم زاد الطين بله عبور بعض من قوات الجيش الإسرائيلي إلي الجهة الأخرى من شاطئ القناة ، فلم يعد الشاطئ الشرقي محتلا منذ عام 1967 بل تعداه إلى جزء من الشاطئ الغربي وسمعنا عن معارك قاسية بين الإسرائيليين والمصرين جيشا وشعبا ، بل بعد عدة أيام أخبرني بعض البدو بأنهم شاهدوا أرتالا ًمن اللوارى الإسرائيلية متجهة شرقا إلى داخل إسرائيل وهي تحمل المئات من الفلاحين المصريين بزيهم المعروف وأيضا المئات بل الآلآف من الحيوانات مثل الأبقار والجاموس التي إستولي عليها جيش إسرائيل بعد عبوره وأرسل بها لداخل إسرائيل كي يسعد شعبه بأننا هزمنا جيش مصر وهذه هي العلامات والنتائج.                   

غرفة عمليات القوات المسلحة والقادة يحيطون بالرئيس السادات لعلاج المعضلة العسكرية وما عرف عنها إعلاميا باسم الثغرة ، كان قرار رئيس الأركان سعد الدين الشاذلي تصفية الثغرة عسكريا ، فهذا عمله ولا يجب على القائد العسكري أن يدلي بإقتراح تتحمله أي جهة أخري غير الجهة العسكرية فهذا دأب القادة العظام بجميع دول العالم المتقدم ، لأن الأعمال العسكرية تجابه بأعمال عسكرية مضادة ، كان القرار صعبا لكن من المؤكد أنه سوف ينجح لأسباب كثيرة يعلمها العدو قبل القيادات العسكرية المصرية، أعد رئيس الأركان عدته لتنفيذ مهمته ولكن الولايات المتحدة دخلت على الخط مباشرة بتحذير واضح لمصر مرده إذا أقدمتم على تصفية الثغرة عسكريا فسوف نتدخل مباشرة لصالح إسرائيل وسوف ندمر الجيشين الثاني والثالث والسد العالي وبعض المنشآت الهامة بمصر.

   حمل التحذير مستشار الأمن القومي الأمريكي هنري كيسنجر إلي الرئيس السادات الذي راوغه مما جعله في ضيق شديد فهو يعلم مقدار ذكاء ودهاء أنور السادات وحينما واجهه بقرار رئيس الولايات المتحدة ريتشارد نيكسون بخصوص هذا الأمر ، أخبره الرئيس السادات بأنه ليس أمامه من مفر سوي التصفية العسكرية لكن كيسنجر ردد أمامه سوف أضع حلا آخر: سوف أجبر إسرائيل على سحب قواتها من الثغرة ، تساءل السادات وما هو المقابل؟ ردد كيسنجر بخبث ودهاء ، مقابل أن تبعد رئيس الأركان سعد الدين الشاذلي عن هذا المنصب نظرا لأن الإسرائيليين لا يأمنوا لهذا الرجل الذي أذل قيادتهم وذبح الكثير من جنودهم وهم يحاولون تسليم أنفسهم للجيش المصري ، فقد رفض أسر القوات وقرر القتل ردا على ما حدث لجنود مصر بسيناء عام 1967.

     وافق الرئيس السادات علي إقتراح كيسنجر وظل متكتما الخبر حتي تأكد من أن القوات الإسرائيلية بدأت فى الإنسحاب فقرر التضحية بأعظم بطل مصري عسكري فى العصر الحديث وأشاع عنه الرئيس السادات وقتها بعض الإشاعات المغرضة المخالفة للواقع بغرض تأكيد أسباب الإقالة وإبتلع الطعم كيسنجر وإسرائيل ، لكن كانت هناك مشكلة أخري لأن الإنسحاب أو الفصل بين القوات المتحاربة سوف يستلزم وقتا لا يقل عن الشهرين والجيش الثالث بالشرق محاصر ولا تصل إليه المياه أو الأدوية أو الأطعمة ، بعد مفاوضات شاقة طويلة وبحضور الصليب الأحمر الدولي وافقت إسرائيل على مرور الأطعمة والمياه والأدوية للجيش المحاصر حتي تمام الإنسحاب الكامل.

   كانت القيادة الإسرائيلية تعمل على إطالة أمد الحصار حتي يموت الجيش الثالث عطشا أو يتنازل الرئيس السادات عن بعض إنتصارات حققها ، بل أن قيادة الجيش الإسرائيلي أمرت جنودها بأن يضيفوا إلي فناطيس مياه الشرب المحمولة على اللوارى بعض الكيروسين حتي لا يستطع المصريون شربها وفعلوا وشرب منها الجيش الثالث فقرروا أن يقوم الجنود بالتبول في فتحات الفناطيس حتي لا يقوم المصريون بشرب تلك المياه وبالفعل رفضوا شرب هذا الماء الملوث وفضلوا العطش.

    قرر الرئيس السادات بخبرته الطويلة قبل الثورة والتي حصل عليها أثناء فصله من الخدمة بالجيش الملكي حيث عاش سائقا يتجول بكل أنحاء مصر أن يطلب عون أصدقاءه وأحبابه مشايخ سيناء ، أرسل بأحد ضباط المخابرات الحربية الأكفاء الذي تسلل من خلال القوات المحاصرة للجيش الثالث وإلتقي برجال القبائل حاملا رسالة الرئيس المحددة بكلمات قليلة:  رجال سيناء الأبطال .. جيشكم الثالث محاصر ويحتاج إلى الماء والطعام.

***

الصــراع بين الشيطان والإنســان

   وزارة الحرب الإسرائيلية التي شكلت فى أعقاب إندلاع حرب يوم عيد الغفران للطائفة اليهودية ، تساءلت رئيسة الوزراء الإسرائيلي مسز جولدا مائير عن أوضاع قوات الجانبين الإسرائيلي والمصري المعادي ، عرض وزير الدفاع الجنرال موشي ديان تقريره الذي تلخص في النقاط التالية:

أولا جيش الدفاع الإسرائيلي .. الوضع المعنوي تحسن عن الأيام الأولي لبداية الحرب وهذا راجع للمعونة الفعالة التي قامت بها كل من وزارة الدفاع الأمريكية وحلف شمال الأطلنطي والدعم العسكري والتقني غير المحدود وغير المسبوق ؛ أيضا مستوي الإعاشة طيب للغاية وبالطبع منذ توقف إطلاق النار بين الجانبين والخسائر البشرية تضاءلت بوجه عام ، لكن الشيء المؤلم والذي لا يخلو من الضيق والتوتر سببه الرئيسي العمليات العدوانية الغير مبررة التي تقوم بها القوات المصرية وبالذات قوات الكوماندوز مما أسقط بعض القتلى من قواتنا.

ثانيا الجيش المصري .. الجيش الثاني فى وضع عادي نظرا لإرتباطه بخطوط الدعم الخلفية للقيادة .. أما بالنسبة لوضع الجيش الثالث فأنا أؤكد هنا أنها أيام قلائل ويلفظ رجال الجيش أنفاسهم من شدة الحصار الذي قمنا بتطبيقه بصرامة وجدية بالغة وكان أخر تقرير وصل إلينا من الأقمار الأمريكية يبين حالة الهذيان والجفاف التي وصل إليها الجنود المصريون لدرجة أنهم يحاولون تكرير المياه المالحة كي تستخدم في الشرب والمحاولات ضئيلة لا تفي بحاجة الرجال الذي يصل تعدادهم لأكثر من 50ألف رجل .. نحن في إنتظار الرئيس السادات يتقدم بطلب عودة القوات المتحاربة إلي الخطوط التي سبقت قيام حرب يوم الغفران ولو تمسك بقراره سوف يهلك الجيش الثالث بالكامل ولن نأخذنا بهم شفقة ولا رحمة " تصفيق حاد ومتواصل وهتاف بحياة دولة إسرائيل القوية"

***

 


 

أبوبكر:

   مساء اليوم الأول من شهر نوفمبر سمعنا أصواتا لبعض الرجال يتحدثون مع جنود الحراسة القائمين على حراسة موقع الفصيلة ، نهضت من نومي متجها إليهم وتساءلت: ماذا حدث يا أحمد؟ أمباشى أبو بكر .. هاذان الرجلان قادمان برسالة من زعيمهم حمدان أبو رمح إلي الشاويش إدريس ويقولان بأنها هامة وخطيرة .. سمعت صوت الشاويش إدريس ينادي عليّ : أقبل بهما يا أبو بكر ولنر ماذا يريد حمدان بعد أن تركناه لأكثر من ست سنوات يمرح ويقوم بالتهريب ويعمل كل ما هو مخالف للقانون .. السلام عليكم شاويش إدريس .. وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته .. أين الرسالة؟ تفضل .. رباح .. أعد الشاي للرجال ترحيبا بهم وقم على خدمتهم حتي أنتهي من قراءة تلك الرسالة.

     ماذا يريد حمدان برسالته تلك؟ هل فقد عقله ويعرض علينا أن ننضم لعصابته؟ سوف يكون هذا العرض أكبر نكتة في العالم وفي سلاح الحدود المصري ، لقد أصاب الوهن عقل الرجل ولم تنفع معه أية أنواع من المخدرات التي يجلبها للمصريين ثم إستبدل بهم جيش إسرائيل .. ولماذا أستعجل النتائج؟ سأقوم على فتح الرسالة وقراءة ما بها ثم أقرر ما يجب عليّ القيام به في وجود الرجال كما إعتدنا منذ أكثر من ست سنوات ..   

   السلام عليكم شاويش إدريس .. أنا حمدان أبو رمح .. وصلت إليّ معلومات مؤكدة من شيخ القبيلة يعرفني فيها أن السيد رئيس الجمهورية الزعيم أنور السادات طلب معونة الرجال بسيناء لإمداد قوات الجيش التالت بالأكل والشرب وهم محصورون بين جيشين لإسرائيل ومش عارفين نقدم لهم المساعدة ، المكان اللي حدده لنا سيادة المقدم حمزة اللي حمل رسالة الرئيس بتقول أنه محصور بين خليج السويس بجوار موقع بور توفيق حتي جنوب البحيرات أو قريبا من منطقة سرا بيوم .. رغبت بأن أعرفك كي نقدم يد المساعدة لجنودنا الأبطال نظراً لأن المجرمين الإسرائيليين راغبين فى قتلهم جوعاً وعطشاً .. أخوك .. حمدان أبو رمح.

    أشاهد الشاويش إدريس صامتا بعد أن كان يقرأ الخطاب بصوت مرتفع وسمعت كل ما جاء بخطاب حمدان .. نظر إلي قائلاً: رباح .. أيقظ الرجال، قمت وأفراد الحراسة بإيقاظ الرجال الذين أقبلوا مسرعين وكل فرد يحمل سلاحه منتظرين أمر القتال ، أشار إليهم إدريس بأن إجلسوا .. جلسوا وفي نفس الوقت أقبل رجال البترول أيضا وتحدث إدريس وأعاد قراءة الخطاب للمرة الثانية .. طلب من الرجال الإختصار وعرض الأفكار ..  لم تكن هناك أفكار سوي تقديم الماء إليهم وعلي الفور ، بينما تحدث المهندس عزيز ميخائيل بأهمية الحصول علي براميل خام فارغة سعة 200 لتر وهذه كفيلة بإنجاز عملية المساعدة ونقلها بحيث يحمل كل جمل بإثنين من البراميل، فلو كان مجموع الجمال عشرة فهذا يمكننا من نقل عشرين برميل بما يوازي 4000 لتر ماء تكفي نصف القوة المحاصرة.

     ضرب إدريس بعصاه أرضا راغبا بإنتهاز فرصة الليل ومهاجمة بئر بترول أبو زنيمة للحصول علي البراميل المطلوبة وقرر إصطحاب خمسة عشر جملا بحيث يحمل كل جمل بثلاثة براميل فارغة تمكننا من تقديم المساعدة للقوة بأكملها كما أمرنا بإعداد السلاح لأننا سوف نشتبك مع قوات العدو التي إشتبكنا معها منذ ثلاثة أسابيع كي ننتقم لزميلينا اللذين لاقي الشهادة.

     تحركنا بسرعة مع اليقظة حيث تقدمنا رباح وأحمد الطيب للإستطلاع ، وصلنا إلي المنطقة منتصف الليل وتلصص البعض وتأكد لهم بأن المكان هادئ ولا توجد به سوي بعض الحراسات الخفيفة ، سبقنا المهندس عزيز وزميليه وقاما بفتح مخزن العبوات الممتلئ براميل صاج سعة 200 لتر وذلك بإستخدام قصافة السلك الصلب التي كان قد أحضرها مع بعض العدد في أعقاب معركة 1967 ، دخل الرجال وقاموا بتحميل البراميل علي الجمال ؛ لكن أحد الجمال توتر وأخرج أصواته العنيفة وكان هذا من سوء تصرف الجندي المسئول عنه الذي تهاون في تكميم فم الجمل مثل الباقين ، تنبه الحرس وشغلوا الإضاءة وأطلقت صفارة الإنذار ، لم يمهلهم الرجال إذ فتحوا عليهم النيران وظل تبادل أطلاق النيران قائما بين الطرفين قرابة النصف ساعة حتي صمت الحرس الإسرائيلي ما بين قتيل أو جريح بينما لفظ المهندس عزيز ميخائيل أنفاسه من إصابة مباشرة في الصدر ، حمله الرجال وأسرعوا عائدين فهم يعلمون بأن القوات المحمولة جوا سوف تحضر بأقصى سرعة ، ظللنا نتحرك بسرعة خلف الجمال التي تحمل البراميل الفارغة ؛ إستطعنا الوصول إلي الحواف الشمالية للجبال المحيطة بمنطقة عيون موسي وخلال هذا ظهرت أضواء الصباح وسمعنا وشاهدنا عشر طائرات هليكوبتر تجوب المنطقة.

   لم يتم إكتشاف مكاننا وظللنا في حالة من الإختباء حتي أقبل الليل فخرجنا نسعى لموقعنا ، بالموقع شاهدنا أحد الرجال الغرباء الذي كان يقف مع أحد رجال حمدان وفرد الحراسة المتبقي من رجال الفصيلة ، تقدم منا الرجل وعرفني بنفسه ، النقيب فريد من رجال المخابرات الحربية وأتبع المقدم حمزة الذي سبق وأن كتب حمدان اسمه فى الخطاب الذي تخلصنا منه بالحرق كما أخبرنا رسول حمدان قبل أن يغادرا المكان ، جلس الرجل معنا وشرحنا له ما سوف نقوم به وأسعده هذا ، خلال الحديث كان الرجال قد أداروا موتور سحب المياه ودفعه بالبراميل ، خلال ساعتين كانت هناك أكثر من 25 برميل ممتلئة بالمياه الصالحة للشرب ، أخبرنا النقيب فريد بأنه سوف يرافقنا كي يحدد لنا إلي أين نتجه.

    تحركنا حوالي الواحدة صباحا ، برفقة النقيب فريد ، وصلنا الخط الأول للقوات قبل السادسة صباحا ، لقد شاهدت ما لم أكن أتوقعه حيث كان الجنود شبه سكارى والرؤوس تترنح ولا يستطيعون السير أو الحديث ، نظروا إلينا كأننا أشباح ، كان الواحد منهم يرفع يده إلينا ولا يستطيع الصمود برفعها فتسقط منه بسرعة لحالة الضعف والهزال ، أمرنا النقيب فريد بأن نترك بكل موقع جملا ًببرميلين وبعد التفريغ يتم التجميع للعودة لموقعنا السابق بعد آخر ضوء أي بعد ذوبان شمس هذا النهار.

   وقفت مع إحدي الوحدات وأقبل الرجال فرادي سكارى عجزة حيث عاونني أحدهم وقمنا بوضع البرميل علي ظهر دبابة متخندقة وفتحت الطبه الصغري فسالت المياه كخيط رفيع من الفضة يتلألأ وبكل عبوة بلاستيك سعة 20 لتر كنا نفرغ البراميل ، كان المندوب يأخذ العبوة ويمر على الرجال ويقدم لكل واحد منهم شربة ماء لا تزيد عن كوب ماء بعدها يصمت الجندي ويترنح وبعد دقائق ينتبه وينهض ويعدو خلف مندوب المياه راغبا فى كمية أخرى ، هكذا تنبه الرجال وخلال ثلاث ساعات وبكل المواقع عادت الحياة للرجال.

     طفرت الدموع من عيني وأنا أشاهد هذا المنظر ، أتساءل :من قال أن القتال والحرب تستخدم فيه عملية التعطيش والتجويع ولكنهم اليهود وأربابهم الأمريكان ، بئس الأخلاق والقيم والمبادئ ، بعد الساعة السادسة مساء تحركنا بصحبة النقيب فريد ؛ وصلنا إلى موقعنا بعد العاشرة ، إستبدلنا الجمال بأخرى وقام الرجال بعملية ملئ المياه ولهذا قسمت الرجال ، جزءاً يقوم بتعبئة المياه وجزءا يقوم بتوصيلها حتي نظل نعمل يومياعلي أن يسير جندي خلف كل جملين بدلا من جمل ، سرنا على هذا الحال.

    أخبرت النقيب فريد بأنه يوجد لدينا دقيق وسكر .. شكرنا الرجل حيث أخبرنا بأن القوات كبيرة وتحتاج إلي عبوات وقد يصل حجم الدقيق المطلوب يوميا إلي أكثر من نصف طن ، إبتسمت له وأخبرته بأن هذا متوفر ، لم يصدقني حتي نهضت وإصطحبته معي وشاهد كميات الدقيق والسكر واللبن الجاف المخزنة ، صفق الرجل وقام بتقبيلي وتساءل هل يمكن الجمل أن يحمل جوال دقيق فوق حمله البرميلين؟ أخبرته بان الجمل لا يستطيع هذا ولكن يوجد لدينا خمسة جمال فى الراحة فيمكننا أن نقوم بتحميل كل جمل بأربعة أجولة دقيق وهي تقل عن وزن البرميلين مياه.

   أعطيت تعليماتي للرجال وأسرعوا بالتنفيذ وقبل منتصف الليل تحرك الركب يحمل الدقيق والماء ، قررت مرافقة الركب رغم نداء البعض لي بأن أحصل على راحة لأنني أعمل يوميا ولم أحصل على راحة لكني رفضت وطلبت من أحد الرجال بأن يتوجه إلي لقاء صابر وإخباره بكل ما تم وأن يعمل على مدنا بما يستطيع ، ثم يعرج علي مقر عصابة حمدان طالبا منهم العون بتزويدنا ببعض الجمال حتي يمكننا نقل المؤن من مستودع رحيل إلي موقع الفصيلة.

      ما شاهدته بالأمس إختلف عن اليوم حيث كان الجنود في إنتظارنا ولهذا لم نستغرق وقتا طويلا في التفريغ وكانت حمولة الدقيق كأنها هدية من السماء فقد أيقن الرجال بأنهم سوف يقتاتون خبزا جافا وهذا لا يهم ، لكن المهم أن تجد المعدة ما تعمل على تشغيلها ، أيضا عبوات السكر المرافقة التي أسعدت الرجال أن شاهدوا عبوات الشاي وعلق أحدهم قائلاً: لو كوب شاي وكوب ماء كل يوم سوف أظل لمدة عام تحت الحصار وأحارب كالأسد.

     وصلت قبل العشرة صباحا إلي مستودع رحيل وشعرت أنه أصبح خرابا وينعق البوم بداخله ، بعد قليل شاهدت الجمل يتحرك ويحدث أصواتاً وأنا أعدو خلفه لكنه إستمر في العدو وأنا أخشي أن أفقده وكيف أعود للفصيلة لكن المفاجأة إنني شاهدت جملين آخرين سرعان ما تعرفت عليهما وهما أمشير المشاكس والبركة .. لم أجد بجوارهما أحد ، منتصف النهار سمعت حركة ثم شاهدت صابرا الذى أقبل نحوى سعيدا وجلسنا معا نتحدث وأخبرته برسالة الشاويش إدريس ، أجابني بأنه سوف ينفذ كل تعليماته من باكر وسوف يتوجه لبعض معارفه لطلب المدد.

    تساءلت: إنني لم أشاهد رحيل حتي الأن .. أين ذهبت؟ نظر إليّ صابر صامتا ثم أشار إلي أحد الأجناب جهة الأرض مرددا ، بداخل الأرض التي سوف نعود إليها جميعا وكل واحد له موعد حدده الله ، أخبرني بقليل من الكلام بما حدث لها فقرأت الفاتحة علي روحها الطاهرة وغادرت المكان متوجها إلي قبيلة حمدان أبو رمح ، بينما أخبرني صابر بأنه سوف يتوجه إلى الجانب الأخر في إتجاه جبل المغارة للقاء قبيلة أبو إسماعيل والشيخ عيد طلبا للعون. 

***

     وصلت بعد أن خيم الظلام على الأرض مبددا ضوء النهار .. إستقبلتني القبيلة بترحاب ، صافحت هارون وقبلته وكانت سعادته عاليه حيث شاهد العديد من الحيوانات كي يلهو معها فقد أضيف إلي قائمة الأصدقاء بعض الماعز والخراف والدواجن ، همست في أذن الرجال بما أخبرني به زميلي فى الحدود ، تنبه الرجال وأسرعوا بركوب جمالهم والقدوم معي ، وصلنا قبيل الفجر ، إعتكفنا تفاديا لمراقبة الطائرات أو الدوريات ، قبيل الغروب بساعتين حملت الجمال الدقيق والسكر بعد أن حصلت علي ما تحتاج إليه من طعام وشراب ، بعد أن هبط الظلام أسرعنا بالعدو بالجمال وأخذنا الطريق دفعة واحدة رغم أننا نسير على أقدمنا ولم يقم أحد بركوب الجمل حيث تركناه لمهمة سامية وهي حمل أجولة الدقيق للرجال المقاتلين ، تنبهت لكلمة الرجال المقاتلين .. كدت أصرخ وأخذت في ترديد اسم أم سيناء .. الله يرحمك .. لقد أنار الله لها الطريق إلي الجنة وأيضا أنار الله لنا الطريق كي نقف أمام إجرام اليهود ومن ورائهم.

      وصلنا قبل الضحى وبركت الجمال وحرر الرجال ظهورها من الأثقال، هناك شاهدنا أعدادا غفيرة من الجمال فتبين لنا أنها إمدادات من حمدان ورجاله الذين تولوا الإمداد ومعهم القبائل للجانب الأيمن القريب من البحيرات نظرا لخطورة تلك المنطقة ولهم بها سراديب وممرات يعلمونها جيدا ولا يعلم عنها اليهود شيئا ، رافقت الرجال المتجهين للجيش ، كنت سعيدا بمشاهدة رجال الجيش حيث إستقبلوننا بالترحاب وشاهدتهم وهم في  حالة طيبة وكل واحد منهم يقف بجوار سلاحه على أهبة الإستعداد ، نظر إليّ إدريس وسمعته يردد سبحان الله ، لو كنت يا صابرا شفت الرجالة دولت من أربعة أيام كنت تجول مش يفضلوا عايشين للصبح ، كانوا مثل حباية العنب إللي بجت زى الزبيبة ونشفت ، خلاص يا بني ، تعرف أن فيه عساكر منهم ماتت من العطش والجوع بس محدش جاب سيره عشان ميحصلشي ردة فعل عليهم.

   إجتماع مجلس الوزراء الإسرائيلي الذي وجه سؤالا ًإلي وزير الدفاع موشيه ديان يتساءل فيه، لقد مضي أكثر من شهر ولم يمت الجيش المصري ولم يرسل السادات برسائل أو وسطاء لعودته للحدود التي كانت قبيل إندلاع الحرب ؛ ماذا حدث لهم؟ أيها السادة أنه لشيء محير أن صور الأقمار الصناعية الأمريكية أظهرت أن الجيش المحاصر بحالة صحية طيبة وأن الجنود في أوقات الفراغ يلهون بالجري ولعب الكرة ؛ بل الصور توضح بأن هناك نيرانا ًمشتعلة لإعداد طعام وأن عبوات المطبخ الكبيرة يقف عليها جنود يطهون أشياء لا نعلمها ولكن البخار يتصاعد منها وبعض الصور حددت أن بعض الجنود يتناولون اللحوم وإستطاع رجال الإستطلاع الإلكتروني أن يلتقطوا أصوات بعض الجنود وهم يشكرون الطهاة على حسن طهي اللحوم وإعداد "الحساء" الشوربة.

    رئيسة الوزراء ، أيها السادة ؛ نحن نضحك على أنفسنا والأمريكان لن يظلوا واقفين في إنتظار نتائج غير محسومة ، سوف أبلغ هنري كيسنجر بتحديد مواعيد فصل القوات ولنجعلها قادمة من دولة إسرائيل بدلا من أن يضحك علينا العالم مرة ثانية خلال شهرين ، إنتهي الإجتماع.

***

    عسكري صابرا ، تفتكر كم من الطحين مازال متبقي طرفك بالمخزن  شاويش إدريس لم يعد هناك سوى أجولة الشعير التي قام رجالك بحصدها معي منتصف هذا العام ، الحمد لله علي كل حال عسكري صابرا ، والله أنت ولد زين وجدع والولية أم سينا بتفهم أنها طلبت منك توفر طحين  الحمد لله ، يا شاويش إدريس ما أنت راجل جدع وحكاية توزيع جمل على كل وحدة عسكرية كبيرة في مستوي لواء مشاه أو مدرعات عمل شغل والعساكر شربت الشوربة وأكلت اللحمة وعلي رأي أحد العساكر لو كان فيه رز كنا عملنا فتة ؛ بس يا عسكري صابرا .. إنت شايف الرجل الزين الحلو اللي واجف هناك ريح الجنود اللي بيوزعوا عليهم اللحمة

ـ أيو ه شايفه .. يبجي مين الراجل ده؟

ـ يا وله يا عبيط  .. ده قائد الديش .. أيوه .. اسمه أحمد بدوي لكن إيه .. راجل .. صح وزين .. ورايا ح نروح نجابله ونتحدد وياه:

ـ السلام عليكم يا فندم

ـ أهلا .. أنتم تبع مين؟

ـ إحنا رجالة الحدود واللي معسكرين في عيون موسي من جبل حرب 67 ما تبدأ

ـ مش معقول ، إنتم مانفذتوش أمر الإنسحاب؟

ـ والله يا فندم ما عرفنا إلا بعده بأكتر من شهر وطبعا ماكناش نعرف نعود والجمال معانا .. وزي ما تجول كده يا فندم الجمل بتاعي هوه الطيارة والدبابة بتاعتنا

ـ برافوا عليكم .. إنتم قدمتم للجيش التالت خدمة كبيرة

ـ أيوه يا فندم .. البركة في شيوخ قبائل جنوب سينا .. وحمدان مهرب المخدرات

ـ خليكم بجوار رجالنا لحد ما تنتهي المشكلة علي خير وعلي كل حال قربت تنتهي ، الأخبار وصلتني بتقول أنها كام يوم وتعدي المحنة ، ح نفضل علي الحال ده ، كل شويه الأمريكان يساعدوا إسرائيل علي الظلم ، على كل حال ربنا معانا

ـ ونعم بالله ،  تمام يا فندم

ـ شكرا أيها الرجال الشجعان

***

إستراحة القناطر والرئيس السادات مع معاونيه ؛ حيث تحدث قائلاً: خلاص يا أحمد "الفريق أول أحمد إسماعيل وزير الحربية" ، كيسنجر بلغني أنه من بكره كل المعابر مع رجال الجيش التالث حيستلمها الصليب الأحمر وهما بدورهم ح يسلموها لنا ، ربنا لطف بينا وكان معانا ، مش عايزك تنسي تشكر الولاد بتوع سينا ، رجاله بصحيح ، كمان عرف ممدوح سالم أنه يبحبح على العيال بتوع المزاج شويه ، يعني نبسطهم ونبسط الناس ، كله ينبسط رغم مخالفة القانون.

    صابرا .. نعم شاويش إدريس .. النجيب فريد كتب اسامينا عشان يعطونا مكافأة .. مش فلوس .. يعني كده زي ما تجول ورجه تجول إن الولد صابرا رجل زين وكان همام وعمل حاجه زينه للبلد وللناس ، فال طيب يا صبرا؟ والله إنت ما فهمان واللي دخلك الديش ظلمك .. ياه .. نسيت إنك مش تبع الديش ، ح أدور على النجيب فريد وأعرفه أن الولد صابرا مش تبع الديش ولا مش مهم؟ ، هوه في حد فهمان حاجه .. كله زين وكله بيزيط دلوجتي والحرب إنتهت وحنرجع لإدارة السلاح زي ما عرفني النجيب فريد بس لما يبعتوا لينا ، دلوجتي ح نجمع في السويس ، كلتنا حتى الجمال ، يا لله يا صبرا هات الجملين العهدة اللي عندك وكمان الجمال الصغيرة كمان.

ـ إزاي يا شاويش إدريس؟ .. الجمال دية مش تبعهم

ـ ليه يا ولد ؟.. مش أبوهم أمشير؟ .. وأمشير ده من جوة الفصيلة ؟.. والجمل الصغير يتبع أبوه في الاسم والديانة؟ .. يبجي ينضموا للحدود ، ليخصموهم علينا يا صابرا .. دوول يا بني بيعرفوا كل حاجه وبيجروا "يقرئوا" اللي في رأس النفر منا .. كفايه مناهده .. يا لله يا صبرا روح وهات الجملين الصغار ، أنا عارف إن أمهم ح تكون زعلانه لكن اللي ح يطيب خاطرها أنهم راجعين مع أبوهم أمشير.

      مضي يومان خلال ذلك أعلنت إسرائيل ومصر برعاية أمريكية عن إنتهاء محادثات الكيلو 101 والتى كان يتولى رئاسة الوفد العسكري المصري اللواء أركان حرب محمد عبدالغني الجمصي رئيس هيئة عمليات القوات المسلحة ، نبأ الإتفاق للفصل بين القوات وإنسحاب إسرائيل تباعا ، خلال إنسحاب القوات الإسرائيلية كنا ومازلنا نقوم بإمداد قوات الجيش الثالث بما يمكن تقديمه من دعم إداري وبالأخص المياه رغم برودة الشتاء فمازال الرجال في إحتياج للعون ، كما إستطاع حمدان ورجاله السطو على مخازن الجيش الإسرائيلي بمدينة العريش وسرقة محتوياته الإدارية وقد أدي هذا إلى حالة من الهستيريا للقيادة الإسرائيلية الجنوبية بسيناء.

    لم تمض أيام قلائل وإذا بهجوم إسرائيلي مباغت على قوافل المساعدات، كان إدريس كعادته سريع البديهة ، مجرد أن شاهد طائرة هليكوبتر تحلق قريبا من القافلة حتي أسرع بتنبيه الرجال بإخفاء الجمال والحرص وأخذ مواقع إطلاق نار ، لم تمض نصف ساعة إلا وظهرت عدة طائرات هليكوبتر قامت بإطلاق النيران علي أي شيء متحرك وفي نفس الوقت كانت هناك قوات أرضية أنزلتها تلك الطائرات على الممر الذي كنا نسلكه ، حدث إشتباك مسلح بيننا وبين الجنود الإسرائيليين كنت خلاله مستترا خلف بعض الصخور وبالبندقية القناصة إستطعت قتل ثلاثة من الأعداء بالتوالي وشاهدت إصابة طائرة هليكوبتر وشاهد الرجال النيران تشتعل بها وحاولت الهبوط الإضطراري لكن الوقت لم يسعفها فإنفجرت قبل أن تصل إلي الأرض ولو وصلت لكنا قد أسرنا طاقمها.

    إستطاع العدو تحديد مكاني وهذا ناتج من كمية النيران التي كانت تطلق على موقعي الذي كان مغايرا لإتجاه موقع رجال فصيلة الحدود ، شظية قنبلة أصابت ساقي الأيسر ووقعت أرضا وشعرت بأن الألم والدماء قد غطت علي كل أعضاء جسدى ، مازالت المعركة مستمرة ، كنت أسمع اصوت طلقات رصاصات رجال الحدود وإنفجارات قنابل الأعداء ، قبل الغروب إنتهت المعركة وتركت الطائرات ساحة القتال بعد أن تدخلت بعض وحدات المشاة من رجال الجيش الثالث مما أدي إلي إصابات كثيرة لحقت بالمعتدين وبرجال الجيش الثالث وخشت إسرائيل أن تكون نتيجة المعركة الفشل في تطبيق الإتفاق خاصة بعد أن قاموا بسحب الجزء الأكبر من قواتهم من غرب القناة.

     سمعت من ينادى عليّ ، هذا هو الصوت الذي أستطيع  أن أميزه بين أصوات كثيرة ، صوت الشاويش إدريس ، نهضت قليلا من وضع الرقود لأجيب على ندائه ، شاهدته يحاول الوصول إليّ وكان باديا عليه الإصابات التي لحقت به من الدماء التي تغطي جزءا كبيرا من الجلباب وعدم مقدرته على السير بكفاءة ، جاهدت حتي أستطيع الوقوف محاولا الوصول إليه لكنني سقطت في منتصف المسافة ولم يكن بيننا فاصل كبير ؛ بل عدة خطوات ، فرد ذراعيه راغبا بأن يمسك بذراعي قبل أن يلقي ربه ، ولم نستطع نحن الإثنان أن يلتقي الذراعان وفي هذا التوقيت أقبل بعض رجال الجيش الثالث بنقالات نقل الجرحى وحملونا إلي مواقعهم وهناك شاهدنا شبه طبيب من الحالة البدنية التي كان عليها من أثر الحصار ، قدم الرجل لنا العون بكل براعة ولملم جراحنا وهدأ من توترنا حيث كنا نرغب فى معرفة أخبار باقي رجال الفصيلة والتي تبين فيما بعد بأنهم جميعا نالوا الشهادة في تلك الموقعة ولم يتبق منهم سواى وإدريس ، أيضا علمنا بأن الشيخ حمدان وجزءاً من عصابته وأعوانه نالوا الشهادة بعد المعركة التي نشبت بينهم وبين جنود الأعداء ، كما أبلغنا رجال الجيش الثالث بأن العدو لحقت به خسائر كبيرة مما دفع بالحكومة الإسرائيلية لتقديم إحتجاج إلي لجنة متابعة الإنسحاب والمكلفة بهذا بناء على الإتفاق المبرم.

     كنت مستلقيا ًبداخل حفرة بالرمال بموقع الجيش الثالث وقريباً مني إدريس الذي بادرني ضاحكنا : إسمع صابرا ، شوف كل رجالتنا ربنا راضي عليهم إزاي ، كلتهم نالوا الشهادة ، مش فاضل غيرى وغيرك  تعرف صابرا ، إحنا أجل منهم ، يوم الجيامة ح يكونوا جاعدين في الجنة ونعيمها في درجة أولي وأنا وأنت برضه بالجنة لكن ريح السور ، يعني زي ما تجول بره ، والأكل اللي يفيض منهم ح يبعتوه لنا ، مش هما أحسن منا ، حنعمل إيه؟ ما أنا وأنت حاربنا لكن لسه فيه أجل ، علي كل حال كل واحد بيحصل نصيبه ، الله يرحمهم.

     مضي على وجودنا أكثر من أسبوع خلالها تحسنت حالتي الصحية وأيضا الشاويش إدريس ، طلبت منهم أن أعود إلي عشيرتي وبعد أن فحصني الطبيب وافق علي هذا ولكن المشكلة أن الإسرائيليين لم يكن قد تم إنسحابهم من المنطقة التي سوف أقوم بالمرور بها وبالتالي قد يحدث بيني وبينهم إحتكاك خاصة أننا علمنا بأن الهزيمة أحدثت توترا ًعاما ًبينهم وأيضا الخسائر البشرية كانت كبيرة لم يتوقعها أحد من قادتهم بالإضافة إلي الأعداد الكبيرة من الأسري.

     اليوم الأخير من شهر ديسمبر حضر لزيارتنا النقيب فريد وإصطحبنا إلي مدينة السويس ، شاهدنا فرحة النصر وأيضا شاهدنا الأهل والأحباب بعد فراق دام سبع سنوات ، توجهنا برفقة النقيب فريد إلي مكتب قيادة  مخابرات السويس وإلتقينا بالمقدم حمزة الذي رحب بنا ، بعد تقديم الشكر والثناء وكالعادة قام بعض المحققين بأخذ أقوال الرجال الذين كانوا تحت الأسر أو منعتهم الحرب من العودة ، بعد تحقيق دام عدة أيام التقي بى إدريس متجهم الوجه والضيق يلفه وبصوت عال علي غير عادته تساءل : هما كانوا عايزني أعمل إيه؟ أمر الإنسحاب وصل لنا مع حمدان تاجر المخدرات ، مافيش إتصال ولا طريجة نعرف بيها اللي ُحصل ، شوف يا صابرا ، المحجج "المحقق" عرفني أني ح إتجدم لمحاكمة عسكرية بجناية مخالفة الأوامر وعدم تنفيذ أوامر القيادة الأعلي وجت الحرب ، مش عارف أجول للناس إيه؟

    هاجمني الضيق ، فهذا الرجل العملاق قد تحطم بعد أن عاد يحيا بين قواته وجيشه وأهله وبعد أن  ذاق المر والألم والبعد عن أهله سبع سنوات لم يهمد خلالها وحارب وحاول نقل المعلومات وحافظ علي رجاله وجماله ثم قدم مساعدة لقوات الجيش الثالث المحاصرة لا يستطيع أي جاحد أن ينكرها، ونحن الذين شاهدنا أشباه رجال في أول يوم قمنا فيه بنقل المياه لهم ، ألا يدرك البعض بأن هناك ظروفا قهرية تمنع الإنسان من تنفيذ التعليمات والأوامر ، فإما أن تقتل بيد العدو أو تحول لمحاكمة عسكرية ، اليوم التالي جاء أحد الجنود طالبا مني لقاء نائب أحكام محطة السويس العسكرية ، هناك قابلني الرجل بكل أسلوب فظ وسيء حيث كان يلقبني بالولد .. أنت ياولد كنت بتعمل إيه فى وسط الجيش وأنت مدني؟ حاولت إيضاح الأمر وأنني كنت مجند ولم تفلح كل محاولاتي حيث أن اسمي لم يعثر عليه ضمن قوات حرس الحدود بسيناء.

   نطق بما كنت أتوقعه ، يحول المجرم صابر إبراهيم أبو ركبة لمحاكمة عسكرية ميدانية لتواجده بين أفراد القوات المسلحة أثناء المعارك الحربية ، ومن المحتمل أن هذا المجرم كان يعمل علي نقل معلومات لقوات العدو ؛ أشار إلي أحد جنود الشرطة العسكرية : عسكري .... خد المجرم ده وإرميه في غرفة الحبس ، هكذا وجدت نفسي في يوم وليلة بداخل سجن عبارة عن حجرة صغيرة وشباك حديد وعادت بي الذاكرة للخلف عدة أعوام ، نفس المعاملة ونفس الحجرة التي أودعني بها جيش الإحتلال ، لم أستطع كبت إنفعالي وخرجت من عيوني الدموع مدرارا ، حيث كنت أصرخ بصوت مرتفع : ده حرام ، أنا مصري وطني وإسألوا العساكر والضباط اللي قابلتهم أثناء عملنا بالسخرة في إعداد مواقع عسكرية للعدو علي شط القناة وإيه اللي كنا نقدر نعمله ، معقول يا ناس تحولوا الرجولة إلي إجرام ؟ ، أرسل نائب الأحكام بإثنين من عتاة السجن لتهذيبي وإصلاحي حيث نلت من بطشهم الكثير حتي أصبحت غير قادر على الحركة أو الحديث.   

 

 

 

Share
Click to listen highlighted text! Powered By GSpeech