Click to listen highlighted text! Powered By GSpeech
Get Adobe Flash player
مستمرين معاكم بإذن الله 2008-2024 **** #لان_لجيشنا_تاريخ_يستحق_أن_يروي **** ***** إنشروا تاريخنا وشاركونا في معركة الوعي **** تابعونا علي قناة اليوتيوب 1100+ فيديو حتي الان **** تابعونا علي صفحات التواصل الاجتماعي** أشتركوا معنا في رحلاتنا لمناطق حرب أكتوبر **** يرجي استخدام خانة البحث **** *** تابعونا علي تليجرام - انستجرام - تويتر

روايه فهد الليل- الجزء التاسع

كتبها على لسان أبطالها

أســامة على الصــــادق

.....

الطبعة الأولى .. مارس 2012

الناشر: الكاتب

.....

تصميم الغلاف: ريهام سـهيل

.......

حقوق الطبع محفوظة للكاتب

موبايل: 01227970032

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

 

 

المحكمة العســكرية

  ذلك يوم لن أنساه ، فلم يحدث لي ما حدث فيه قط سواء قبل أو بعد ذلك اليوم ، زج بي وبالشاويش إدريس بداخل قفص صنع من الحديد بقاعة محكمة عسكرية ونحن نرتدي ملابس السجن ذات اللون الأزرق .. لم أفهم ما يقال لأنها تعبيرات ومصطلحات عسكرية وقانونية حيث كال نائب الأحكام التهم والجنايات جزاما علي كل فرد منا علي حدة ، الشاويش إدريس ألصقت به تهم : عدم تنفيذ أوامر قائده الأعلى ، التخاذل ، حرمان القوات المسلحة من الرجال والعتاد الذي كان من الممكن الدفع بالقوات لتحسين الأداء أكثر من هذا ، حصول أسرته على معاش ومكافأة إستشهاد دون وجه حق ، بعد أن طرح القاضي بعض الأسئلة علي إدريس وحصل علي الإجابات بالإضافة إلي وجود محام عسكري غير مدرب ، نطق القاضي بالحكم :

قضت المحكمة العسكرية الميدانية بمحطة السويس العسكرية بعقاب المتهم رقم ..... رقيب متطوع إدريس إبراهيم جعفر بالأتي:

1-    الطرد من الخدمة العسكرية

2-    السجن لمدة ثلاث سنوات علي أن يكون السجن أشغال شاقة ويودع بالسجن الحربي بالواحات

3-  إسترداد كل ما تم صرفه لأسرته دون وجه حق وأي مبالغ أخري حصلت عليها كتعويض عن الموت بميدان المعركة وإذا لم تكف المبالغ المتوفرة فيتم التصرف بالبيع لبعض الممتلكات الخاصة بلأسرة لسداد الأموال الأميرية.

4-    ينشر هذا الحكم بالنشرة العسكرية ليكون عبرة لأمثاله.

لم يتحرك إدريس وظل صامتا وجاء الدور علي شخصي ، كنت مضطربا ًوخائفا ًولا أعلم ماذا سوف يحدث لي ، فقد سمعت إثنين من الحرس يتحدثان عن ما ينتظر الجاسوس الذي نقوم على حراسته وقال أحدهما ، مافيش غير الإعدام.

شاويش الشرطة العسكرية والذي كان يتولي النداء علي المتهمين والذي سبق وأن نادي على إدريس ؛ نظر إليّ بضيق وتبرم ودفعني من ظهري للأمام رغم أن يداي كانتا موضوعتين بداخل الكلبشات الحديدية بالإضافة إلي قدماي اللتان مازالتا موضوعتين بالسلاسل ، بصوت مرتفع قرأ .. صابر إبراهيم أبو ركبة ، دفعني بظهري كي أرد .. أفندم .. قلتها ، طلب القاضي من حرس المحكمة فك قيود يداي وترك أقدامي مصفدتان بالسلاسل ، نائب الأحكام يقرأ عريضة الاتهام: 

سيدي القاضي ، المذكور الذي أمامنا الآن إرتكب الكثير من الجرائم التي يعاقب عليها القانون العسكري وقد ارتكبت تلك الجرائم أثناء الحرب بالتعاون مع العدو وعلي أرض المعركة ؛ أعرض عليكم بعض نقاط إستطعنا الحصول عليها تؤيد ما إرتكبه من جرائم في حق الوطن:

1-    العيش والإقامة مع وحدة عسكرية مصرية منذ فبراير عام 1967 ْ

حتى الآن بحجة أنه مجند والحقيقة غير ذلك ، فلم يثبت لنا بالدليل القاطع أنه تحت التجنيد ؛ فقد إنتهت علاقته بالجيش والخدمة العسكرية بتقديم كشف عائلة وبموجبه تم إعفاءه من الخدمة العسكرية بشهر مايو من نفس العام.

2-    الخدمة بقوات الناحال الإسرائيلية وكان يرتدي لباسهم ويحيا معهم

3-    التطوع للعمل فى إنشاء النقاط القوية لخط بارليف

4-    أخيرا ، التوغل بداخل قوات الجيش الثالث المحاصر بغرض الحصول على معلومات كي يقوم بإرسالها لقوات العدو

لهذا أطالب بتوقيع أشد عقوبة عليه

ـ رئيس المحكمة : ما أقوالك يا صابر؟

ـ كل ما قاله نائب الأحكام مخالف للحقيقة ، لأنهم علموا مني كل تلك المعلومات وأنا الذي أخبرتهم بتلك المعلومات ، أيضا لو أن أحدا من الموجودين بالمحكمة وقع بالأسر هل كان سينفذ تعليمات العدو أو يرفض؟ لقد إلتقيت برجال أبطال من الذين أسروا أيام حرب 1967 سواء كانوا ضباطا أو جنودا يعملون بالسخرة بإنشاءات خط بارليف ، ماذا تطلب منهم يا سيدي ، لقد قدمت الكثير من المعلومات الهامة لقواتنا بغرض تدمير بعض أهدافه كما قمت بقتل العديد منهم وأخص بالذكر الميجور جاستون قائد مكتب الإستخبارات العسكرية بسيناء ، أيضا قمت مع رجال الحدود والقبائل والمهربين بتقديم العون الإداري لرجال الجيش الثالث وأخيرا دخلنا مع قوات العدو المحمولة جوا بمعركة أصبت خلالها .. هذا كل ما أستطيع قوله ، أنا لست أقل وطنية من وطنية سيادة الرائد نائب الأحكام حيث كنت بسيناء أقاتل بينما كان هو يحيا حياته بالقاهرة ، صرخ بى القاضي مانعا لى من الحديث بهذا الأسلوب.

الحكم: بعد قراءة كل ما هو منسوب للمتهم مع إستخدام الرأفة حكمت المحكمة علي المتهم صابر إبراهيم أبو ركبة بالسجن ثلاثة أعوام والشغل علي أن يقضي تلك الفترة بأحد السجون المدنية المشددة.


 

إدريس وقائد الجيش الثالث

هكذا وجدت نفسي مساقا إلي سيارة الترحيلات وقد وضعت القيود أيضا بساعدي ، أثناء الطريق نلت من رجال الحراسة الكثير من الإهانة والسباب وكل كلمة تسبقها كلمة جاسوس وخائن ، تم ترحيلي إلي سجن أبو زعبل حيث تحدث أحد ضباط السجن بعد أن رمقني بنظرة حادة متسائلا: الواد ده الجاسوس ، شاويش عليّ ، خد الجاسوس ده يكسر فى الحجر مع المجرمين العتاة.

     مع المجرمين والمهربين والقتلة سجنت حيث سمعت منهم كل ما هو رديء وحينما تحدثت مع أحدهم بأنه قاتل ومجرم أجاب بأن هذا شرف له لكنه لم يخن بلده ، أيها الخائن الجاسوس وتهجم على شخصي ضربا كدت خلالها أن ألقي حتفي حيث أنقذني الحرس ولهذا أمر مدير السجن بوضعي بحجرة مفردة بعيدا عن هؤلاء القتلة الذين كانوا في حالة من الغثيان والتبرم لوجودي معهم.

***

   مضت عليّ ثلاثة أشهر ولم أرحل إلي السجن الحربي بالواحات وما زلت بغرفة الحبس بقيادة الجيش الثالث وعلمت بأن سجن الواحات كان أحد المعتقلات التي كانت منفي لرجال الإخوان المسلمين ومن دخل هذا السجن لا يخرج منه إلا إلى القبر ، جاء الحرس كي يأخذوا بعض المسجونين لكسح "طرنش المجاري" الخاص بقيادة الجيش ، ظللت أعمل مع المسجونين لثلاثة أيام حتي تم العمل ولهذا فسوف نكلف من باكر برصف طريق يصل بين قيادة الجيش وجبل عتاقة بين الصخور نظرا لأن شركات الرصف المدنية رفضت رصف الطريق للصعوبة وأيضا الخشية من الألغام التي قام اليهود بزراعتها ، أثناء تحركنا طلب منا الحرس التوقف والإنزواء حيث حضر قائد الجيش ولا يجب أن يشاهدنا ، هبط الرجل وشاهدته وعرفته على الفور .. اللواء أحمد بدوي .. حينما أقترب من المكان الذي نقف به صرخت بأعلى صوتي طالبا لقاءه لكن الحرس أنهال عليّ ضربا وصفعا مما لفت إنتباه الرجل الذي أمر بوقف تلك المهزلة وتحويل المسئولين عنها للتحقيق ثم أقبل ونظر إلي المسجونين وتساءل من رغب بلقائي؟ أشرت له فأشار إليّ أن أتقدم منه فشاهد الكلابشات بيدي فطلب من الحرس تحرير يداي ، وقفت أمامه وعدت بذاكرتي لثلاثة شهور مضت ، تساءل الرجل فيما شكواك؟

ـ سيادة القائد ، أنا شاويش متطوع بحرس الحدود ولو سيادتكم تتذكر حينما قمت بمصافحتك بالشرق حينما كنت مع رجالي نرتدي الجلباب السيناوي وكنا نحضر الماء للرجال و..... تذكرتك ولكن ماذا فعلت كي توضع مع هؤلاء؟ أوجزت للرجل ماذا حدث منذ الإنسحاب .. صمت قليلا وطلب سكرتيره العسكري وطلب منه إرسال مندوب علي وجه السرعة لإحضار ملف محاكمة الرقيب إدريس ، أسرعت وأخبرته بحال زميلي صابر ، أضاف هذا وكتب هذا بالأمر ووقع ثم طلب منه أيضا التحفظ عليّ بوحدات الخدمة بقيادة الجيش والقيام علي رعايتي ونظافتي وإستبدال ملابسي.

    مضت عدة أيام ولا حس ولا خبر ، تساءلت فلم يفدني أحد بنتيجة ما ، بينما أحد المساعدين "صول" تهكم عليّ مرددا : أنت فاكر نفسك إيه يا شاويش؟ تفتكر أن قائد الجيش فاضي للي زيك؟ بعد يومين آخرين حضر رائد بالشرطة العسكرية ورافقني ووجدت نفسي بقيادة الجيش بعد قليل قام بتدويري "مكتب" أحد ضباط فرع الأفراد فشاهدت اللواء أحمد بدوي الذي رحب بي بل نهض مصافحا وطلب جلوسي وأنا فى حالة نفسية سيئة فقد إعتقدت أن الأمور إزدادت تعقيدا ، جلست هامدا لكنه ألقي عليّ بالخبر السعيد ، إدريس ألغيت الحكم وأوصيت بالبراءة وعدم خصم أي مستحقات وعودتك لوحدتك أسوة بباقي زملائك مع منحك ميدالية بطل الجيش الثالث والسبب في تأخري تلك الفترة هو إنتظار تصديق السيد رئيس هيئة أركان حرب القوات المسلحة لما هو متعلق بالأمور المالية ، أيضا أرسلت وزارة الحربية بأمر إفراج عن صديقك صابر وإلغاء الحكم حتي لا يؤثر على صحيفة الحالة الجنائية ، منحتك أجازة لمدة شهر تعود بعدها لقيادة حرس الحدود بكوبري القبة وهذا تليفون "أشار إلي السكرتير العسكري" لو كنت فى إحتياج لأي شيء فأخبرني ، أنت أحد الأبطال والذي أعتز بمعرفته.

   بعد قليل حضر ضابط "شرف" وأدي التحية العسكرية ليخبر قائد الجيش بأن ميس الطعام ُمعد كما رغبت ، نهض الرجل وأمسك بيدي وسار خلفنا الضباط حتي توجهنا للميس وهناك شاهدت العديد من القيادات العسكرية الذين صمتوا حتي جلس قائد الجيش وأشار إليّ بأن أجلس بالكرسي المجاور له ، كنت في حرج فلم أشاهد مثل تلك الكوكبة من قبل ، أشار بأن نبدأ تناول الطعام منبها علي الجميع بأن يظلوا فى أماكنهم وعدم المغادرة لرغبته بالتحدث معهم.

    كنت أمني نفسي لو تركني قائد الجيش كي أدخل المطبخ وأتناول الطعام مع القائمين عليه حتي أكون علي حريتي ، إرتبكت أثناء تناول الطعام ولم يهتم الرجل بل كان يقدم لي قطعة لحم أو نوعا معينا من الطعام ، إنتهينا من تناول الطعام الذي لا أعرف نوعه ولا طعمه حتي الأن ثم تحدث إلي القادة والضبط قائلاً:

   أيها السادة ، يجلس بجواري أحد أبطال سيناء والجيش الثالث ورجال الحدود ، الرقيب متطوع إدريس ثم نظر إلي سكرتيره العسكري الذي أقبل ومعه ظرف مغلق فتحه ووقف القائد قائلاً: اليوم قررت ترقية الشاويش إدريس إلي درجة رقيب أول ، سمعت تصفيقا ًولم أعد أعلم هل إدريس المقصود بكل هذا هو أنا أو أن شخصا ًآخر يجلس ُيدعي إدريس ، أشار إليّ القائد أن أقف فوقفت وأنا أكاد أن يغمي عليّ ، فتح علبة صغيرة وأخرج منها ميدالية علقها على الجانب الأيسر لصدري مردداً: حيوا معي بطل الجيش الثالث ، سمعت تصفيقا ًوشعرت بأنني أسمع أصوات لطائرات وقصف ومعارك ، لقد حدث تشويش ثم أمر رئيس فرع المهمات بالجيش بإعداد بدلة فسحة تليق بالرقيب أول إدريس وأمر رئيس فرع الأفراد بمنحي أجازة مدتها ثلاثين يوما وخطابا ًموجها ًمن قيادة الجيش إلي قيادة سلاح حرس الحدود وخطاب شكر لمدير السلاح بما قامت به فصيلة الحدود بمنطقة عيون موسي خلال حرب الإستنزاف وخلال حصار الجيش الثالث.

     لم أشعر بما حدث ولمدة يومين قضيتهما بقيادة الجيش حيث أقبلت سيارة جيب تقلني إلي القاهرة وأنا أرتدي بدلة جديدة عليها درجة رقيب أول ومعي ظرف أعطاه لي مدير القسم المالي بقيادة الجيش طالبا مني الحفاظ عليه حتي عودتي لأسرتي هذا بخلاف إستمارة السفر وبعض هدايا من قسم التوجيه المعنوي.

   كنت أتحرك بلا عقل وركبت قطار أسوان وغادرته أيضا ولم أشعر بطول المسافة حيث ظللت صامتا ساكنا ، هناك بأسوان ركبت سيارة نصف نقل أقلتني إلي قريتنا .. قرية ميت عنيبه والتي تتبع مركز نصر النوبة بمحافظة أسوان ، شاهدت بعض أبناء القرية وأحدهم ردد بأن هذا الشخص يشبه المرحوم إدريس والبعض الآخر تأكد بأنني إدريس لكن عفريته الذي صحا وعاد يخيف الناس وقد أسرع البعض بالقرية يرددون: عفريت إدريس يا ناس .. عفريت إدريس يا ناس .. البعض أسرع بالإختفاء والأكثر شجاعة حاول أن يراقبني من خلف باب أو حائط بينما تشجع العمدة ومعه مجموعة من الخفر وشاهدته يقف أمامي فلوحت مرحبا .. أهلا وسهلا ؛ تساءل الرجل: إنس وإلا جن؟ ضحكت متسائلا: جري إيه يا حاج شعبان ، أنا إدريس ، نسيت إدريس ، بس الحرب خلصت وكنت محجوزا بسيناء والحمد لله عدت ، تشجع الرجل وإحتضنني وسار معي فبدأ البعض يقبل عليّ مرحبا خلال هذا شاهدت زوجتى الطيبة أم سلمي مقبلة وتوقفت أمامي وضربت بيدها على صدرها مرددة: والله هوه ، مافيش غيره إدريس أبو عيالي وحامي ضهرى وعرضي ، أقبلت عليها مقبلا رأسها بينما إنحنت تقبل يدي مرددة : الحمد لله .. الحمد لله .. نورت أهلك وبلدك.

    هكذا ُعدت لأسرتي ومساء نفس اليوم وبعد أن إنتهيت من بعض الإستقبالات والعواطف المتبادلة والتي زرفت خلالها الدموع حيث شاهدت ابنتي سلمي وزوجها عطا لله وابنها محمود ؛ بعد أن سكن الدار ونام الصغار جلست مع زوجتي فى حجرتنا وأحضرت الظرف الذي سلمه لي مدير القسم المالي بالجيش الثالث وسميت الله وفتحت الظرف فشاهدت العديد من الأوراق النقدية فئة الـ  10 جنيه "لم تكن الأوراق النقدية قد وصل نموها للمائة والمائتي جنيه كما هو الحال الأن".. وصل المبلغ الذي أهدته لي قيادة الجيش ثلاثمائة جنيه .. وهذا المبلغ يعادل مرتب عام بالتمام والكمال ، قبلت يدي وش وظهر ورفعت يدي أشكر الله ودموعي تنساب علي نعمته وحب الناس ورحمتهم على الفقراء والضعفاء .. عشت فترة رائعة مع أسرتي وبعد إنتهاء الإجازة ُعدت إلي قيادة سلاح الحدود الذين رحبوا بي وأخبرني أحدهم بأن قائد الجيش اللواء أحمد بدوي اتصل بقائد سلاح الحدود وشرح له بعض ما قمت به وأيضا باقي زملائي لمساعدة رجاله أثناء الحصار.


 

عودة الفهد لدياره

      أثناء عملي بمفردي بعيدا عن باقي السجناء أقبل أحد الحراس وبصوت مرتفع ردد: الواد النجس ابن النجس الجاسوس صابر ، تعالي ورايا يا كلب يا ابن الكلب ، تبعته وكل مجموعة من السجناء أسير بالقرب منها أتلقي التحية بالبصق والسباب وببعض إشارات سيئة باليد ، تسلمني "المساعد" هيما أو إبراهيم وهذا المساعد يقارب حجمه حجم نصف دبابة ، أمسك بى من قفاي ودفعني للأمام تنفيذا لأمر الباشا الحكمدار ، لكنه لم يجدني حيث إلتصقت بشباك الحديد الموجود بالممر من شدة دفعه فجذبني للخلف فعدت لبداية الطرقة متزحلقا على الأرضية البلاط الملساء ، نهضت ووقفت أمامه والدماء تكسو وجهي فطلب أحد جنوده بإحضار خيشه لمسح وجه النجس الخائن ، أحضر الجندي خيشه المسيح التي قام البعض بمسح بلاط الحمامات بها ومسح وجهي فأزال الدماء وترك بقايا البشر التي كانت بدورة المياه على وجهي والرائحة تزكم الأنوف.

    بداخل حجرة مأمور سجن أبي زعبل ، مجرد أن شاهدني المأمور إبتسم مرددا .. براءة يا صابر .. الحمد لله تأكدت براءتك من كل التهم وصحيفة الحالة الجنائية بتاعتك ح تفضل نضيفة ، يا لله ورينا عرض أكتفاك ، صول إبراهيم .. نعم ساعات الباشا .. خمس دقائق ويكون واقف بره باب السجن يروح لأهله .. فاهم .. ترددت متسائلا: ألا أجد ركوبة توصلني لأهلي ، إعتذر مأمور السجن بينما سحبني الصول من قفايا للخارج وعطر وجهي ببعض لمسات من يده المبرطشة لزوم العلاج الطبيعي لقلة الأدب بمخاطبة المأمور بتلك الطريقة ، بعد قليل قام الصول هيما بأخذ بصمة يدي عدة مرات ثم أحضر الجلباب العهدة الذي أصبت به أثناء المعارك مع العدو وطلب إستبدالها ببدله السجن العهدة والتي تنتظر خنزيرا آخر ، ثم فتح باب السجن الضخم ووجدت نفسي أقف خارج أبواب السجن.

    من المعروف أن سجن أبي زعبل قريب المسافة من منطقة الزوامل وأنشاص لكن المسافة لا تقل عن ثلاثين كيلو متر بالإضافة إلي حالتي المزرية من الروائح السيئة التي خلفتها خيشه الصول هيما ، لن أستطيع الوصول لأسرتي بعد تلك السنوات الطوال وأعود لهم بهذا المنظر وتلك الرائحة ؛ توجهت لشاطئ ترعة الإسماعيلية المواجه للسجن وقمت بغسل وجهي عدة مرات مستخدما الطين بديلا عن الصابون ، بعد قليل حضرت سيارة نقل وألقت ببعض القمامة والقاذورات وقلبت ما بها فعثرت على جلباب كبير الحجم ولكنه سيء ، قمت بارتدائه وقمت علي غسل الجلباب الملوث بالدماء وساعدني في هذا عثوري علي بقايا علبة بها مسحوق غسيل بداخل القمامة ، ظللت على هذا الحال حتي المساء وقد قارب الليل على القدوم ، ظللت ليلتي بهذا المكان وقد ضرب الجوع معدتي ، في المساء ُعدت لإرتداء جلبابي بعد أن جف.

صباح اليوم التالي كنت أشعر بأنني أحسن حالا وأثناء جلوسي أقبلت سيدة عجوز وهي تحمل إناء ثم قالت: تاخد شوية نابت على روح المرحوم ، شعرت بكنز أقبل عليّ ، تشجعت وأخذت منها بعض النابت وجلست قريبة مني حتى أنتهي من طعامي ، نظرت إليّ ورددت: تاخد شوية كمان .. أجبتها يا ريت يا خاله.

 الحمد لله شبعت وقبلها إرتويت من مياه الترعة وقمت على نظافة بدني وجلبابي ، لم يعد هناك سوي وسيلة الوصول ، تحركت سائرا لقريتي وبعد قليل أقبلت سيارة نصف نقل وأثناء سيرها بالقرب مني سقطت بعض الأمتعة ؛ توقفت السيارة فأسرعت بتقديم يد العون للسائق الذي شكرني وعرض عليّ أن أركب معه إذا كنت متجها إلي مدينة بلبيس ، أخبرته .. الزوامل وبس .. جلست بجوار السائق وأنا أستعيد ذكريات هذا الطريق بما يحمله من لحظات طيبة حلوه حيث كنت أتذكر سماعي لأغنية عبد الحليم حافظ "صورة .. كلنا كده عايزين صورة .. تحت الراية المنصورة" حاولت أن أستنتج ماذا سوف يكون عليه حال أمي وشقيقاتي ، بل صديقة الطفولة ريهام ، لقد تبدل كل شيء خلال السنوات السبع الماضية.

    الحمد لله ، فقد وصلت إلي مشارف العزبة ، أشاهد عزبة رضوان باشا ، سرت فى إتجاهها فقابلتني سيدة عجوز وملابسها مهللة ولم أتبين وجها وسألتني: ما شفتش صابر؟ أسألها: صابر .. صابر مين؟ صابر ابني .. صابر أبو ركبه .. بقاله سنين غايب ، كدت خلال هذا أن أغيب عن الوعي ، لقد كانت أمي ، قبلتها وأنا أردد .. أنا صابر يا أماه .. أنا صابر .. تنظر إلي ّ تحاول الرؤيا والتوضيح .. تردد: ريحتك ريحة صابر وصوتك صوت صابر لكني مش شيفاك ، أقبل شاب صغير لا يتجاوز عمره الخامسة عشرة وطلب مني إهمال كلام العجوز لأن عقلها به خبل من كام سنة وبتمشى وتلف بتدور على واحد اسمه صابر.

   نظرت إليه شبه باك وقلت له: أنا صابر .. أنا صابر ابنها وكنت متغيب بالحرب بينما أمي تحيا بالشارع لا تجد المأوي والأمان بينما أنا أقدم المأوي والأمان لكل أبناء مصر وأنت منهم كي تسخر من أمي وكي يعيش الباقون فى القصور ونحن بجوار المقابر ، تركني الفتي مسرعا مقدما إعتذاره ، سرت مع أمي حتي دخلت باب العزبة ، شاهدتنا سيدة فأقبلت على أمي تحدثها ، رحتي فين يا أختي بندور عليكي ، كل يوم كده تلفي على صابر ، خلاص ريحي نفسك ، صابر راح مع اللي راحوا ، تضرب يدها مرددة .. صابر ابني اهه .. لقيته بس لسه نظري مرجعشي عشان أمتع عيني بيه .. طلبت مني السيدة بألا أغضب من تلك العجوز  لأنها تبحث عن صابر ابنها منذ سنوات وبالأخص بعد أن تزوجت بناتها وأصبحت وحيدة ، أردد .. سيدتي .. أنا صابر ابنها .. أنا صابر .. تردد .. الحمد لله إنك رجعت .. سارت معنا وهناك شاهدت رجلا لا يقوي على السير ، لقد كان عم صديق المشرف علي إسطبل الخيول والذي كنت أعمل تحت رئاسته.

    حينما عرفني رحب بي كثيرا كما طيب من خاطر أمي مرددا .. خلاص يا ست أم صابر .. ابنك رجع بالسلامة .. يحدثني بسعادة: تعرف، إمبارح كنت مع الباشا ربنا يديله الصحة وكان جايب في سرتك .. بيقول أنه عامل حاجه كويسه لصابر ولو مرجعشي تبقي تفضل لأم صابر .. الباشا ده وليّ من عند ربنا .. كان حاسس برجوعك. 

لقـــاء الأحـــبة 

   اليوم التالي إنتشر خبر عودتي من الحرب ، أسرع الكثير من الناس للترحيب بي ، كما وصل الخبر لشقيقتي التي تزوجت ببلدة قريبة من العزبة فحضرت بصحبة زوجها وابنتيها كما أخبرتني بأن شقيقتيها يقمن بالقاهرة وبلبيس وسوف تحضران حينما أرسل إليهن بخبر عودتك ، كنت أشعر بأن أمي قد أصبحت أحسن حالا لوجودي بجوارها وأيضا لقيام بعض سيدات العزبة بمعاونتها علي النظافة وإستبدال ملابسها ، كل هذا إنعكس علي حالتها الصحية والنفسية مما دفعها بأن تخبرني بأنها أصبحت تشاهدني طشاش ، وبالفعل لاحظت أن عينيها قد صبغتا باللون الأحمر ، أخبرني عم صديق بأنهم حاولوا عرضها علي طبيب العيون لكنها رفضت أي عون للعلاج.

   صباح اليوم التالي إصطحبت أمي إلي الطبيب الذي فحصها وقرر لها نوعين من القطرة لإزالة الإلتهابات الناتجة عن الحزن وحالات الرمد الربيعي المتعددة والتي أصيبت به وأهمل علاجه ، تتابع وصول شقيقاتي وسعادتهن بعودتي وشاهدت أسرة كل واحدة منهن وجلسنا جميعا حول الأم الطيبة وقضينا عدة أيام مما ساعد على تحسن حالة أمي بالإضافة لمداومة إستخدام أدوية ونصائح الطبيب ، فى تلك الليلة أقبل مرسال يخبرني برغبة الباشا بلقائي حينما علم بعودتي ، أسرعت للقاء هذا الرجل دمث الخلق الذي لن أنسي أول لقاء به يوم أن ضمد جرحي النفسي إثر إعتداء ابنه عليّ بشاطئ مرسي مطروح.

    دخلت عليه حجرته فشاهدته جالسا على كرسي لا يستطيع الحركة ، إنحنيت علي يده أقبلها وفي نفس الوقت حاول الرجل أن يقبل رأسي لكن صحته لم تساعده ، طلب مني إحضار كرسي والجلوس أمامه كي يراني ولكني جلست أرضا علي السجادة كي أملي عيني بالنظر إليه ، تحدث وضحك وإبتسم ، ثم قال: صابر ؛ لك هدية عندي والحمد لله أن أعطاني الله العمر والصحة كي أظل علي قيد الحياة حتي أسلمك هديتك، صابر ؛ يوجد حول البيت التي تسكن به أسرتك ثلاثة أفدنة من حدائق المانجو المثمرة ، أتتذكرها؟

     أجبته بأنني أتذكرها منذ قدومي للعمل هنا بالعزبة وأسمع أنها من أجود الأراضي ، أيضا هي قريبة من إسطبل الخيل ، ردد: هذا عظيم ، لقد منحتك تلك الأفدنة هبة مني لك راجيا أن تشبعك كي تبدأ حياتك فأنت تستحق كل تكريم ، فأنت بطل حارب العدو للدفاع عنا ولا أقل بأن أقدم إليك تلك الهدية المتواضعة ، أيضا سوف تظل تشرف علي الإسطبل إذا وافقت علي هذا وبراتب أعلي من راتبك السابق ، سوف تلتقي بناظر العزبة الجديد إسماعيل أفندي الذي سيسلمك عقد الهبة الغير مشروط ومحصول تلك الأرض والذي إقترب موعد حصاده هو لك ، عليك أيضا أن تباشر عملك بالإسطبل وتراعي أمك الطيبة ، ربنا يوفقك.

     لم أستطع التحدث وكل ما قمت به هو البكاء وتقبيل يد الرجل ، فقد أكرمني الرجل في نفس الوقت التي أهانت كرامتي الجهات الرسمية بالدولة ، لقد كرمني بينما الجيش الذي وقفت بجواره أهانني أنا والشاويش إدريس ، دعوت الله أن يخفف آلآم الشاويش إدريس بالسجن، بل قررت زيارة أسرته بقرية ميت عنيبه قريبا من أسوان ، غادرت قصر الباشا وأنا لا أشاهد الطريق ، لقد كانت منحة الباشا الإنسانية أكبر وأعظم من كونها منحة مادية ، كنت أدعو لله له بتمام الصحة وأن يدخله الله جنته ويرضي عنه مثل ما رضي عني وأسعدني أنا وأمي  فسوف يكفينا ما قدمه لنا شر الحاجه وعون الناس.

     عدت وإلتقيت بعم صديق وأخبرته باللقاء والمنحة ، ربت الرجل علي كتفي مقررا بأنني أستحق هذا ، فأنت قدمت للوطن سبعة أعوام من عمرك وتركت أسرتك في أشد الحاجة لعونك ورعايتك ، كما أن مجهودك مع خيول الباشا أثمرت حيث وفق الباشا في بيع بعض الخيول بأثمان مرتفعة بفضل ما قمت به من العناية والتدريب ، أنت تحصل على حقك والحمد لله أن الباشا مازال علي قيد الحياة وربنا يطول في عمره.

   لم أخبر أمي بما قدمه الباشا خشية الإنفعال قبل النوم ، قررت أن أخبرها صباح الغد ، أيضا قررت حين تسويق محصول المانجو هذا العام أن أتوجه لقرية الشاويش إدريس وأقدم لأسرته دعما ماليا وأعمل علي زيارته بسجن الواحات الرهيب ، لقد فرجها الله عليّ وسوف أظل أدعوه بأن يفرجها علي إدريس ، لقد قاسي الرجل كثيرا وظل مخلصا لوطنه وجيشه ، كما أدعو الله بأن ترق قلوب أصحاب السلطة قبل أن يقوم المسئول بتطبيق القانون ، وعليه أن يدقق في الأمر أولا قبل أن يصدر العقاب ، فنحن لم نكن في نزهة بل كنا في رباط وكنا نكافح ونؤدي واجبا ًوطنيا ًأفاد الجميع بلا شك.

     حينما سمعت أمي نبأ ما قرره الباشا لنا نهضت ورفعت يدها لأعلي مرددة : الحمد لله .. ربنا يكرمك يا سعادة الباشا ويعطيك من عطاياه ويفرح قلبك زي ما فرحت قلبي أنا وابني .. الحمد لله .. أن النعيم والخير جه من عند ربنا ولم نذل أنفسنا بطلب أي شيء .. الحمد لله ، أردت أن أزيد من فرحة أمي فأخبرتها بزواجي من تراجي وإنجابي لطفلة بلغت من العمر ثلاثة أعوام ، سمعت الزغرودة تخرج من فمها كأنها لحن موسيقي وقبلتني ورفعت يديها بالدعاء بلم الشمل.

    شغلتني الحياة وقمت علي بيع محصول المانجو بمبلغ لم أكن أسمع عنه قبل هذا مما دفعني لتنفيذ نصيحة عم صديق بفتح دفتر توفير بالبريد كي أدخر وأحافظ على هذا المبلغ حين الزواج ، إقتربت من أذنه وأصررت بها : عمي صديق لقد تزوجت فتاة رائعة الجمال بسيناء وأنجبت منها طفلة تبلغ من العمر ثلاثة أعوام ، نهض الرجل رغم سوء حالته الصحية وقبلني مرددا الدعاء بأن يسترها الله معي ومع أمي الطيبة ،  خلال تلك الفترة كنت في شوق للقاء تراجي وطفلتي عفاف وكنت أنتظر الفرج ؛ حيث كنت أسمع عن المناقشات السياسية حول وضع حل للنزاع المستمر بين مصر وإسرائيل ، كنت أدعو الله بأن يكلل كل تلك الخطوات بالنجاح حتي يجتمع شملي مع تراجي وطفلتي ولإستكمال رعاية ابن الراحلة رحيل.

     قررت نهاية شهر أكتوبر زيارة قرية ميت عنيبه للقاء أسرة الشاويش إدريس ، أثناء جلوسي ليلا وبعد أن هدأ الحال وحمدت الله في كل صلاة على نعمته وبالأخص أن الله مّن علي أمي بالشفاء وأصبحت تشاهدني وتراني وهي سعيدة بعودتي إليها ، بعد أن خلدت أمي في نومها سمعت طرقا علي باب الدار قطع عليّ متعتي حيث كنت أستمع لأغنية أم كلثوم "سهران لوحدي" لقد ضاعت السهر والخلوة ولأري من القادم ، نهضت وفتحت الباب فأخبرني أحد عمال العزبة بأن شخصا يدعي إدريس يرغب فى رؤيتى.

    توترت وحدث لي إضطراب وخشيت حدوث مشكلة من تلك الزيارة، لقد هرب إدريس من السجن ولم يقض سوى ستة أشهر وسوف يلاحقه رجال الشرطة العسكرية ، تنبهت من جزعي وخوفي على صوت إدريس بالظلام يردد: مالك صابرا؟ واجف مسهم كده ليه ، أسرعت إليه وأنا مازلت أتلفت يمينا ويسارا وأدخلته الدار وأغلقت الباب بسرعة ، أنظر إليه فشاهدت الحيرة علي وجهه من سلوكي معه كما شعرت بأن الغضب بدا يظهر علي وجهه الطيب ؛ تساءل:

ـ مش عايز تشوفني صابرا؟

ـ أبدا شاويش إدريس .. بس أنا خايف عليك ، من هروبك من السجن وكمان لابس لبس الحدود ده ح يخليك تقابل مشاكل كبيرة .. ضحك الرجل وطلب مني إعداد كوب شاي زين يعدل الدماغ وسوف يخبرني بكل شيء مردداً:

ـ ما تخافش صابرا .. إدريس ما يعملش الغلط

     ظل إدريس يقص عليّ كل ما حدث منذ إفترقنا بعد المحاكمة العسكرية الظالمة ، كنت أستمع إليه وأنا أردد بداخلي .. الله أكبر .. الله أكبر ، الأن علمت أن إدريس أصبح رجلا مهابا بسلاح الحدود ورقي إستثنائيا وسوف ينال درجته التالية بداية العام وهي درجة "صول أو مساعد" فقد تعدي أقرانه كما أن أموره المالية علي أحسن ما يكون رغم أنه حاول أعادة مكافأة الإستشهاد إلي وزارة الحربية إلا أن رئيس أركان حرب القوات المسلحة صدق علي إعتبارها منحة لا ترد إذا كانت أسرته قد تصرفت بها لكن الرجل رفض أن يحصل علي شيء لا يستحق الحصول عليه ، أردد .. الله عليك يا إدريس .. العفيف القنوع يفضل علي الحال ده لا ينظر إلي الحرام أبدا والله هو الذي يغني عباده بعد عوز.

     قضينا أمسية طيبة ثم غادر إدريس القرية متجها لأسرته ، لقد قرر قبل أن يسافر لعائلته في أول أجازة من إدارة السلاح أن يقوم علي زيارتي ، نعم الرفيق ، لقد كان السبب بعد الله في فك سجني فلم يكتف بأن يعرض مشكلته ومظلمته بل عرض مشكلتي ومظلمتي أيضا.

     أثناء حديثي مع عم صديق سألته عن أخبار علاء بك ، أفاض الرجل في ُخلق علاء ثم أخبرني بما لم أتوقعه: من يوم ما علاء بك تزوج بالمهندسة ريهام بنت د. عبدالحميد وحاله دايما في العلاليّ ، الحقيقة مراته ست محترمة وبنت ناس ، والله كل ما تيجى للعزبة تروح تزور الست والدتك وتطيب خاطرها ، ربنا رزقهم بحتة عيل بعد جواز أربع سنين ، الحمد لله علي كده ، أصل علاء بك متولي مكتب المحاماة بتاع ساعات الباشا ، ما أنت شايف حال الباشا ، معدش يقدر علي الجري والمحاكم والقضايا خصوصا بعد وفاة الست بتاعته ، كانت ونس وعشرة عمر وهوه زي ما تقول كده ابن أصل ، العشرة ما تهونشي عليه أبدا.

     لم يمض علي عودتي عدة شهور إلا وحضر علاء بك والسيدة زوجته للزيارة وقضاء بعض الأيام ، كنت سعيدا ليس لحب لم ينضج بعد ولكن لرقة ريهام ومساندتها لي ، لقد كانت البلسم الشافي لما حدث لي علي يد علاء بك الذي أصبح الصديق والسند لي بعد كل ما حدث ، إنتابني شعور رقيق طيب بقدوم صديقة أو أخت أرنو دائما لسماع أخبارها ؛ بل مشاهدتها والإنصات لحديثها الذي دائما لا يخلو من الطيبة ورقة الكلمات والدفع للأمام بوضع الأمل بديلا عن وضع العراقيل والمشاكل ، تلك هي ريهام وقد أيد شعوري هذا ما قاله عم صديق منذ عدة أيام حينما أخبرني بما يخصها ويخص علاء بك بل ووالدها الدكتور عبدالحميد الذي رقي بالوزارة وأصبح يتقلد منصبا هاما قريب الصلة بوزير الصحة.

      عصر اليوم التالي عُدت من الإسطبل فقد كنت في شغل شاغل نظرا لأن إحدي الإناث وضعت المولود الأول وكنا في حالة ترقب حيث كانت حالة الوضع غير مريحة مما دفعنا للإستعانة بالطبيب البيطري الذي قام بالمهمة علي خير قيام وتشرف الإسطبل بميلاد ُمهرة غالية ، لم أندفع بتسميتها فى إنتظار رأي الباشا أو علاء بك ، حينما دخلت الدار شاهدت سيدة جميلة تجالس أمي ، نهضت باسمة ومدت ذراعها لي مصافحة مرددة .. حمد لله بالسلامة يا صابر .. من الصوت وقبل هذا بالإحساس تأكد لي أنها ريهام ، رحبت بها وتساءلت عن علاء بك فأخبرتني بأنه يجلس بجوار والده الباشا يخبره بكل ما يحدث بالمكتب حتي يكون علي علم بما يحدث ، باركت لها الزواج والإنجاب وأسعدها هذا مردده الحديث السابق لأمي .. ألف مبروك علي جوازك وبنوتك الصغيرة .. شكرتها وجلسنا نتحدث في أمور الوطن بعد الإنتصار وما المنتظر حدوثه بعد هذا وما قامت به قواتنا المسلحة من أداء معركة علي أحسن ما يكون ، إنتهي اللقاء وغادرت الدار فخرجت برفقتها مودعا حتي باب القصر وعدت وأنا سعيد حالم بعودة صديقة الطفولة إلي خيالي مرة أخري فهي تاريخ ولن يستطيع أحد إهمال التاريخ لأنه واقع حدث ولا يمكن الرجوع فيه.

    صباح اليوم التالي وأنا بداخل الإسطبل كي أتأكد من العناية التي يحصل عليها كل من الأم والمولود الجديد أقبل علاء بك مرحبا مصافحا محتضنا والفرحة تملأ قلبه وجوارحه مرددا : لولا خشيتي من إيقاظك في نومك لكنت حضرت بالأمس حينما أخبرتني ريهام بعودتك ولقاءك بمنزل والدتك ، سرنا معا وخرجنا للتنزه بالحديقة وطال الحديث وتفرع وتشعب ثم تساءل: ألا ترغب في إستكمال تعليمك؟ كان السؤال مفاجئا وتلعثمت لعدم إعداد رد مسبق ولكنه أجاب بالإنابة ، أعلم بأنك ترغب في هذا وسوف أسأل عن كيفية إستكمال التعليم وربنا يوفق ، بعد فترة قضاها معي سألته عن اسم المهرة الجديدة صمت قليلا مرددا : شهر زاد.

   لم يمض علي هذا اللقاء عشرة أيام إلا وإتصل بى علاء بك من القاهرة يخبرني بأنه بالإمكان إستكمال تعليمك بسبب عذر قهري وقومي وهو دخولك الجيش وحضور الحرب وما المطلوب منك إلا أن تثبت بأنك كنت خلال تلك المدة تخدم بالقوات المسلحة ، كان الخبر مفرحا وصعب التحقيق ، توجهت لعم صابر أستفسر منه فرافقني إلي شقيق صديقه المساعد عرفان والذي يعمل بالسجلات العسكرية ، أخبرني بأن شهادة الإعفاء يمكن تثبت ذلك ، أخبرته بأنها فقدت بسيناء فطلب أن أستخرج شهادة أخري أو أتوجه لمكتب التعبئة التابع له "مدينة بلبيس" وبمراجعة الكشوف سوف يزودني من بالمكتب بخطاب يثبت فيه بأنني دخلت الجيش في بداية عام 1967.

  وجدت ان هذا الحل هو الأسهل ، توجهت لمكتب تعبئة وتجنيد بلبيس وإلتقيت هناك بالرقيب أول سعدون الذي قلب بالأوراق والدفاتر ونظر إليّ ثم تساءل: فين المخلة يا عسكري واللي تسلمتها أول ما دخلت الجيش؟ صمت لفترة كي أستوعب وتساءلت: مخلة إيه يا ح الصول ، كله راح في سيناء ، يردد خلفي : راحت في سينا ، طيب ورايا يا نطل ووجدت نفسي أقف أمام الضابط المسئول بالمكتب والذي عرض عليه الرقيب أول سعدون المشكلة وزيل كلامه بأن ده ملعوب بيعمله كل العساكر طمعا في البطاطين ، أشر الضابط بالخصم علي الجندي ، ظهرت الفرحة علي وجه سعدون وكتب إذن دفع بمبلغ "240 جنيه" عام 1975 .. حيث كان الدولار يساوي 30 قرشا .. دهشت لضخامة المبلغ ولكنه أوضح أن الدفع ضعف ثمن المخلة ثم غرامة موازية لثمن المخلة، عليك الدفع بحوالة بمكتب البريد علي العنوان "إدارة المهمات للقوات المسلحة" وتحضر الإيصال أسلمك الخطاب.

   لم أجد مفر من التنفيذ رغم ضخامة المبلغ ، دفعت المبلغ وعدت إليه فظهرت البسمة علي وجهه وسلمني الخطاب الموجه إلي الفرع المالي لقوات حرس الحدود للبحث في وجود أي متعلقات مالية يجب عليّ سدادها ثم بعد هذا أتوجه للتربية والتعليم بهذا الخطاب الذي يفيد بأن المذكور تم تجنيده بداية عام 1967 ، توجهت للقاهرة وسألت عن الفرع المالي وظللت يومين بين المكاتب حتي عثرت علي بغيتي وهو المسئول عن مرتبات رجال الحدود ، قلب بالدفاتر وقرر بأن عليّ مبلغ أربعة جنيهات وعشرين قرشا قيمة راتب شهر يونيو 1967 وحيث أنني تسلمت شهادة الإعفاء بتاريخ 20 مايو فيصبح طرفي راتب أربعين يوما ، يتم إستردادهم مع دفع الغرامة المقررة ، حاولت إخباره بأن جميع رجال الحدود لم يتسلموا رواتبهم عن هذا الشهر فأيد حديثي حيث سرق اللصوص مرتبات الجيش أثناء الإنسحاب لكنك الأن حي ترزق فإما تدفع المبلغ أو تحول لمحاكمة بجناية الإستيلاء علي أموال أميرية دون وجه حق ، أعد خطاب الدفع ولا أعلم :كيف أصبح مبلغ الأربعة جنيهات وعدة قروش 76 جنيها وثلاثة قروش ونصف ، قمت صاغرا بدفعها وحصلت علي الخطاب وعدت لقريتي بعدها توجهت للمنطقة التعليمية وقدمت الأوراق والمستندات المطلوبة وسرت في طريق التعليم بعد عناء وتكلفة لا أعلم كيف تمت وحين أفصحت لعم صديق بمأساتي ضحك قائلاً:

ـ يا ابني إحنا كده ، الضعيف أمام القانون يفرموه والقوي أمام القانون يسندوه ، مين ح يتبهدل ويدفع ويتسجن غير اللي زي حالتنا ، إرجع للتاريخ وشوف مين اللي حفر قناة السويس؟ ما فيش غير الغلابا ، لكن باشا وإلا أفندي مش ممكن ، قول يا رب .. رددت خلفه .. يا رب ؛ سرت في خطوات التعليم وكل يوم تقريبا أتذكر تراجي وعفاف وهارون ابن رحيل.

   منتصف عام 1975 حصلت علي الثانوية العامة نظام منازل الشعبة الأدبي وقد حققت مجموعا ًيمكنني من الإلتحاق بكلية الألسن ولكن كانت رغبتي أدبية ولهذا تقدمت كطالب منتسب بكلية الأداب بجامعة عين شمس بغرض دراسة التاريخ ، كنت فى حالة كبيرة من السعادة وأنا أقوم بالتوجه للجامعة وأجلس بالمدرج مجاورا للطلبة والطالبات وسماع الأساتذة وهم ثروتنا بالمعلومات الغائبة عن عقولنا ، لقد كانت غذاء للروح والعقل ، كما تعرف عليّ الكثير من الطلبة والطالبات ليس لأنني أكبر منهم عمرا ولكن لدي سماعهم ترتيلي للقرآن الكريم وإجادته ، مضت الأعوام الأربعة بنجاح مع ثناء من الزملاء وبعض الأساتذة ، الحمد لله حصلت علي الليسانس منتصف عام 1979 ومازلت أقوم بعملي كسائس ومدرب للخيول التي لا أرغب في البعد عنها أو التخلي عن خدمتها فهي تستحق منا كل خدمة وكل تقدير.

         قبل نهاية عام 1979 بثلاثة أشهر وقعت إتفاقية السلام بين مصر وإسرائيل ، كانت سعادتي كبيرة ، بداية العام التالي أسرعت بالسفر إلي سيناء وتوجهت إلي قبيلة أبو إسماعيل قبيلة تراجي ، مجرد دخولي للقبيلة شاهدتها تجلس وتلاعب ما إعتقدت أنه هارون وبجواره طفلة لا يتعدي عمرها الثماني سنوات ، شعرت بأن قلبي قفز سريعا نحوهم ، أطلقت صيحة قوية وقفزت ترجي ناحيتي ترحب بي ولولا حياءها لقبلتني بينما أشارت إلي الطفلة وتردد  ، بنتنا عفاف وهارون ابننا ، قبلت الإثنين وجلست معهم وأقبل عم إسماعيل ثم الشيخ عيد وباقي من كنت أراهم كل عدة أيام قبل بداية حرب أكتوبر كما شاهدت أمشير الذي أقبل ناحيتي مهرولا وقبلني بشفتيه الكبيرتين وقدمت التحية للسيدة ناقة وشاهدت أكثر من بعرور من مختلف الأعمار وكانت المفاجأة بمشاهدة ِمسك الليل وأكثر من إثني عشر جملا من جمال فصيلة الحدود التي أسرعت يوم المعركة بالحاق كل من أمشير والبركة وظلوا في ضيافة أسرة تراجي ، كانت الجمال سعيدة وهي تخرج الرغوة البيضاء من أفواهها الكبيرة والبعض إستطاع أن يصل إليّ ولعق قمة رأسي أو كتفي ثم أقبل شهاب وزمردة وإلتقيت بهما وإستقبلوني بالصهيل ورفع الأرجل الأمامية وتحريك الذيل وشاهدت ياقوت المهر الصغير وقد قوي عوده ، اليوم التالي أخبرت العائلة برغبتي بأن ترافقني تراجي وابنتي وهارون وباقي الخيول ، لم يعترض أحد لكن كان الرأي الصائب إما الإنتظار ثلاثة أشهر نظراً لعدم إستقرار الأحوال بالمنطقة ، كما طلب مني الشيخ عيد بالعمل علي إستعادة رجال الحدود لتلك الجمال فهي عهدة وأخبرني بأن مقر فوج الحدود بعد الإنتصار في نفس المكان السابق قريبا من منطقة رمانة ، أسعدني كل هذا حتي تسعد أمي وشقيقاتي بالفرحة والسعادة.

     رافقني أحد الشباب وكل واحد منا إستقل فرسه وبالطبع كان رفيقي الحصان شهاب ، أسرعت للإلقاء نظرة علي منطقة المستودع وقراءة الفاتحة علي الإثنتين اللتين ترقدان بذلك المكان ، وصلت ولم أجد أثرا ًللمستودع فقد قام البدو بالإستيلاء علي كل المخلفات ، بالمنطقة الخلفية فوجئت بجنة خضراء من أشجار الزيتون المثمرة ، كأن عمر أي شجرة لا يقل عن عشرين عاما كما أخبرني المرافق من أبناء سيناء ، لكن تلك المنطقة المباركة والتي زرعت بها الأشجار منذ تسعة أعوام كبرت بها النباتات وأصبحت جنة خضراء.

    حدد توقيت عودة تراجي بالأطفال منتصف عام 1980 حتي تكون المنطقة القريبة منهم قد تحررت ويستطيع باقي الأقارب الحضور وزيارة مصر وزيارة آل البيت "سيدنا الحسين والسيدة زينب" ، تركتهم علي وعد بالإنتظار ، كان الوداع ممتعا مؤلما لكنني علمت أن تراجي مازالت محبة لي وترعي الأطفال رعاية رائعة ، ركبت الجمل البركة وتبعه باقي الجمال بإستثناء أمشير والسيدة ناقة وأطفالهم من البعارير الكثيرة والجمل ِمسك الليل ، كانت الجمال تعلم طريق قيادة الفوج أو أنها إشتمت رائحة الجنود والجمال التي تعيش بهذا المكان ، وصلنا بعد مسيرة يوم ونصف وكانت الفرحة والسعادة علي الجمال التي أسرعت جهة الفوج من علي مسافة لا تقل عن إثنين كيلومتر حينما شاهدت رجال الحدود بزيهم المميز ووقفت الجمال تتفحص الوجوه فلم تشاهد إدريس ولا أحمد الطيب ولا العريف أبو بكر أو الجنود آدم و رباح وعثمان وحمزة وبلال ، هدأت الجمال ووقفت مع باقي الزملاء ، أقبل رقيب أول بالفوج وتساءل عن كنية تلك الجمال فأخبرته بالخبر الذي أسعده وأخبر الباقين بأن تلك الجمال التي كانت تخدم مع الباش جاويش  إدريس وظلت في الحصار والحرب سبع سنوات ، وافق قائد الفوج علي ضم الجمال إلي عهدة الفوج وأرسل معي بسائق بعربة جيب حتى وصلت إلي شرق القناة إستعدادا للعبور للضفة الغربية بأحد معديات الجيش التي تقوم علي خدمة أبناء سيناء ورجال القوات المسلحة.

    قبل عبور المعبر من الشرق إلي الغرب كان أفراد من المخابرات الحربية يشاهدون تحقيق الشخصية أو تصريح المخابرات بالتحرك بداخل المناطق العسكرية ، أظهرت لهم البطاقة الشخصية ، سألني أحدهم عن موقفي من التجنيد ، أخبرته بأنني أنهيت خدمتي العسكرية بداية عام 1974 ، تشكك في حديثي طلب مشاهدة شهادة إنهاء الخدمة العسكرية أو الإعفاء منها ، تذكرت بأن الشهادة فقدت بسيناء ولكني تذكرت الكارنيه العسكري ، أخرجته من جيب الجلباب كما وضعته منذ ثلاثة عشر عاما مرفق بخطاب ريهام ، فضضت الغلاف البلاستيك وسلمته للشاويش الذي كان يقوم بعملية التفتيش والمتابعة ، شاهد الكارنيه وسلمه لآخر الذي أشار إليّ وحينما أخذني لأحد الأجناب أخبرني بأنه يتشكك فيّ وبأنني هارب من الخدمة ، حاولت إقناعه وإستعطافه لكنه أبي وطلب إحتجازي بإحدى كتائب الإمداد بالرجال.

     هكذا وجدت نفسي شبه محبوس بأحدي كتائب الإمداد بالرجال بالقاهرة وخلالها لقيت أسوا معاملة وعشت أسوا حياة ، ظللت لمدة شهرين حتي تأكد لهم بأنني معاف لأنني وحيد أسرتي ، غادرت الكتيبة وأنا لا أري الطريق أو الشارع وتحركت سيرا من منطقة الجبل الأحمر حتي كوبري القبة للقاء الرقيب أول إدريس أو "الصول" إدريس ، حيث أقبل وحينما شاهدني إمتقع وجهه وتساءل عما حدث لي وأخذني من يدي لمكتبه بالداخل وقصصت عليه كل ما دار بخصوص المهمات والفرع المالي وأخيرا تشكك رجال المخابرات الحربية بي بأنني هارب، هدأ من روعي وإصطحبني إلي منزله البسيط بحي المطرية وقمت بالإستحمام والنظافة مما علق ببدني وجلبابي وإستبدلت الملابس القذرة والهلاهيل والأسمال التي كانت علي بدني بملابس نظيفة وأخبرته بما حدث مع تراجي وأسعده هذا كما أسعده لقائي بكل من أمشير وزميله البركة وبتسليم باقي الجمال العهدة لقيادة الفوج بسيناء.

     صباح اليوم التالي أقرضني إدريس مبلغا من المال وعدت لقريتي بين دهشة أمي وكل من قابلني حيث أعتقد الجميع بأنني كنت أحيا بأحسن ما يكون بجوار حبيبة القلب تراجي ، لقد أخفيت عنهم كل ما حدث حتي لا أزيد مشاعر الناس عبوسا وضيقا.

    أقبلت أسرة تراجي منتصف عام 1980 وقد كان العدد كبيرا لكن أهم شيء أسعدني بالقدوم هما شيئان هامان :

الأول .. قدوم عفاف وهي تمسك بيد هارون ، لقد نمت عفاف وجاءت تقبلني مرددة "بابا صابر" شب هارون وأصبح صبيا مليحا ويتحدث بلباقة وزال عنه التوتر النفسي الذي كان يصاحبه

الثاني : هو قدوم كل من شهاب وزمردة وياقوت تلك الخيول الرائعة ، لقد إكتملت الأسرة وألحقتهم بفصل المتفوقين من خيول رضوان باشا.

   أعدت الزينات وأقيمت الأفراح وإلتف الجميع من حولنا سعادة وفرحا وإبتهاجا بزوجتي وإستقراري بعزبة رضوان باشا كما حضر كل من علاء بك وزوجته ريهام وشقيقاتي بعائلاتهم ، ظلت أسرة تراجي وأقاربها في ضيافتنا لمدة أسبوع قاموا خلالها بزيارة آل البيت وبعض المناطق بالقاهرة.

   نهاية عام 1980 أرسلت إليّ إدارة الشئون المعنوية للقوات المسلحة بخطاب ترجوني فيه بالحضور لمبني الإدارة بالعنوان المرفق بالخطاب لحضور حفل تكريم أبطال حرب أكتوبر من المدنيين الذين قدموا لمصر كل عون ومساندة ، كنت وجلا خائفا من حدوث مفاجئات مثل التي حدثت لي بمكتب التعبئة أو الفرع المالي أو حين عودتي من سيناء.

     أخبرت علاء بك فشجعني الرجل ؛ حيث قام بالإتصال بأحد ضباط القوات المسلحة والذي تربط الصداقة بينهما منذ مرحلة الدراسة بالمدارس الثانوية الذي أكد له أنه إحتفال عادي سوف يكرم فيه بعض المصريين الذين جاهدوا ودافعوا ضد العدوان الإسرائيلي خلال تلك الفترة ، تشجعت وتوجهت إلى الإدارة علي العنوان المكتوب ولم يكن الموقع التي تقع به إدارة الشئون المعنوية للقوات المسلحة بعيدا أو مرهقا بل يقع بحي مصر الجديدة ولهذا وصلت قبيل الموعد حيث شاهدت بعض الرجال بالزى المدني في إنتظار الدخول لذلك المبني الذى يتسم بالفن المعمارى الجميل.

     في الموعد المحدد فتح الباب ووقف أحد الضباط وبكل ذوق وهدوء نادي علي الأسماء وكل واحد كان يتقدم ويدخل إلي داخل الإدارة بعد أن يبرز تحقيق الشخصية الخاص به "البطاقة الشخصية أو العائلية" ، جلسنا في مكان فسيح معد إعداد طيب وبعد قليل حضر بعض القادة وجميعهم ذوى رتب عسكرية عالية ، قدم أحدهم الشكر بالإنابة عن مصر والقوات المسلحة للحاضرين ثم بدأ أحدهم ينادي علي كل فرد من الموجودين ، خلال هذا الجمع إلتقيت بإثنين وهما الشيخ عيد والشيخ أبو إسماعيل والد زوجتي تراجي حيث كانت السعادة واضحة علي وجوهنا جميعا باللقاء بهذا المكان وهذا الحفل الرائع.

       أشاد القادة بما قام به كل فرد من الذين نودي على أسمائهم بذكر ملخص موجز لأعماله الفدائية أو أعمال المخابرات والحصول علي المعلومات ؛ حيث كنت أحد هؤلاء وقدمني أحد القادة بأن ما قام به المواطن صابر إبراهيم أبو ركبة أفاد القوات المسلحة إفادة كبيرة في إستكمال بعض بيانات ومعلومات عن أهداف هامة طلبنا الحصول عن معلومات وتوضيحات إضافية ، بعد أن نودي علي اسمي مثل الباقين نهضت متجها للمائدة التي يجلس عليها القادة وصافحني أحدهم وسلمني ظرفا وحين فتحته كان يحتوي علي شهادة تقدير موقعة من وزارة الحربية بتوقيع أمين عام وزارة الدفاع اللواء ........

     بعد نهاية الحفل عدت بصحبة كل من الشيخ عيد ووالد زوجتي الشيخ أبو إسماعيل إلي أنشاص وهناك كانت تراجي في إستقبالنا بكل ترحيب وأيضا أمي التي أسعدها عودتي حيث كانت تخشي غيابي لفترة طويلة حيث إعتادت علي هذا في كل مشوار أقوم فيه بالتوجه لأحد الجهات التابعة للجيش ، قضي الرجال اليوم وتمتعنا بحلو الحديث والطعام الهنيء الوفير وفي الصباح غادر الرجال أنشاص عائدين إلي سيناء كي يسعدوا مع عائلاتهم بأن قواتهم المسلحة لم تنس رجالها وما قدموه من عون عسكري وقتالي وإستخباراتي. 

   الحمد لله علي منحة الله لي ، فأنا أحيا علي أحسن ما يكون ولي عملي والحديقة الصغيرة التي أصبحت ملكي بعد أن أهداها لي الراحل رضوان باشا ، تحيط بي أسرتي المكونة من زوجتي المحبة الرقيقة تراجي وبناتي " عفاف ورضوى وحنان" بالإضافة إلي ابني محمد وهو الأصغر والذى يبلغ عمره نهاية هذا العام 2011 ستة عشر عاما كما تبارك حياتي أمي الطيبة التي أثرت عليها السنون والأعوام لكنها مازالت قادرة علي الفهم والحياة والتمتع بأحفادها وهارون ابن الشهيدة راحيل ، أيضا أحصل علي السعادة من أحفادى ، بارك الله في الجميع ولا يسعني إلا أن أردد: الحمد لله علي نعمتك .. ومن كان رزقه علي الله فلا يحزن ؛ وإذا سألت فإسأل الله وإذا إستعنت فإستعن بالله.

تمت بحمـــد اللـــه

Share
Click to listen highlighted text! Powered By GSpeech