Click to listen highlighted text! Powered By GSpeech
Get Adobe Flash player
مستمرين معاكم بإذن الله 2008-2024 **** #لان_لجيشنا_تاريخ_يستحق_أن_يروي **** ***** إنشروا تاريخنا وشاركونا في معركة الوعي **** تابعونا علي قناة اليوتيوب 1100+ فيديو حتي الان **** تابعونا علي صفحات التواصل الاجتماعي** أشتركوا معنا في رحلاتنا لمناطق حرب أكتوبر **** يرجي استخدام خانة البحث **** *** تابعونا علي تليجرام - انستجرام - تويتر

روايه - رأس العش الثانيه - الجزء الاول

إهــــــداء :

         إلى سمير عبد الرحيم

أحد رجال الله الذين اختصهم بقضاء حوائج الناس .. فآمنه من خوف.

 

القائد العظيم

              هو الذى يستطيع أن يلغى الصدفة ..بطريقة شبه حسابية .

                                                                                فون كلاوزفتز

 

 

 

 

الطريق إلى رأس العش

استند إلى جدار نقطة الشرطة العسكرية، فى انتظار عربة تكون متجهة إلى طريق المعاهدة، تأمل البانوراما المحيطة به ليقطع الوقت. كان الظلام يلف الكون، فلا يرى سوى انعكاس ضوء النجوم على الخراب المحيط به.

 

على بعد أمتار قليلة، يربض كوبرى الرسوة نصف غارق في مياه القناة الداخلية، بعد أن دمرته الطائرات الإسرائيلية. كان قد تقوس جزء منه، فبدا في الظلام كسنام جمل خرافى. من خلفه كانت ملاحات المنزلة ساكنة، إلا من بعض الارتعاشات التى يحدثها الهواء القليل، أو من حركة مفاجئة لأسماك البورى والدنيس، ثم لا تلبث أن تعود إلى سكونها الموحش. فى نفس الوقت، كانت أعواد البوص التى تتجمع في جزر سوداء صغيرة، تزيد من كثافة هذا السكون.

 

اتخذت السماء وضعها المألوف فوقه  

كادت تكون شبه خالية إلا من بعض النجوم، استطاع أن يميز من بينها الدب القطبى في توهجه المعتاد. جمعته بهذا النجم ألفة نادرة بدأت منذ أول نوبة حراسة كلف بها، واستمرت طيلة خمس سنوات هى كل مدة خدمته.

كان يتوسط السماء - مثله – وحيداًكل النجوم تشير إليه، لكنه يحتفظ بمسافة دائمة بينه وبينها. فبينما تدور من حوله يظل متمسكاً بثباته في مركز دائرة الكون الرهيبة، منتظراً أن تتبدد طاقته بعد عدة بلايين من السنين، فيتلاشى، أو يتحول إلى ثقب أسود.

 

كثيراً ما كان يبحث عن سبب كى يفسر- من خلاله - ارتباطه النفسى بهذا النجم. أخيراً أدرك أنه  ربما كان "التوحد" هو ما يجمع بينهما،أو ربما كان الإحساس بالتفرد عن كل ما يحيط بهما، وكأن كلا ًمنهما مركز كونه الخاص .

على جانبه الأيمن، ظهرت مجموعة "كاثيوبيا"، ذات النجوم الخمس. بها يُستدل على وجود الدب القطبى، وبالدب القطبى يُستدل على اتجاه الشمال. وبتحديد اتجاه الشمال تتم لعبة "بسيطة"، تبدأ بعدة عمليات حسابية فوق الخريطة، لتنتهى بالدمار فوق الأرض.

قرأ ذات مرة أن "كاثيوبيا" تعنى الملكة الجميلة، وأنها كانت تحكم بلاد الحبشة، التى تغير اسمها فيما بعد ليتم اشتقاقه من اسم الملكة الغابرة.

 

(- إنها أنا

- ....

- ألا يرضيك أن تشير إليك ملكة جميلة مثلى ؟؟

- سامية !!

- أنا كاثيوبيا..)

 

أدرك أن وقتاً طويلا ًقد مضى على وقوفه، حين بدأت مجموعة المغرفة في الظهور، لتتآزر مع الدب القطبي في تحديد اتجاه الشمال.

- ساعتان ؟

سكنت المجموعة - بنجومها السبع - على يسار الدب القطبي لتدل  بدورها عليه، وكأنه محور وجودها.

 

( لن تستدل على وجودك إلا بالملكة الجميلة والمغرفة

- ....

- أي الجسد والخبز

همس في أسى:

- وروحي ؟ )

 

 تلفت في اتجاه بور سعيد، حين التقطت أذنه اليسري صوت محرك يأتي من بعيد، كطنين داخل حلم. لم يكن يحلم، طرح نفسه أرضاً وألصق أذنه بالأرض، كما تعلم في طوابير المهارة في الميدان، فاتضح له الصوت. هب واقفاً وقد انتعشت روحه، حينما أدرك أن هناك عربة قادمة، مما يعنى قرب وصوله إلى موقعه. كان في حاجة إلى ذلك كي يتخلص من إجهاد السفر، وكذا الإجهاد النفسي الذي يصيب معظم الجنود عند عودتهم من عالم الحرية إلى عالم القيود والأوامر.

 

لمح النور العالي لعربة تقترب

انتبه جندي الشرطة العسكرية للصوت القادم، فوقف أمام سدادات الطريق. وبعد عدة دقائق توقفت عربة عسكرية أمامه، توجه إلى السائق الذي كانت لهجته تشير إلى أنه اسكندراني:

- ترخيصاتك ..

تفحص الجندي الأوراق على مهل:

- على فين يا دفعة؟

- التينة

- خد الدفعة معاك لحد الكيلو 19

كانت العربة قديمة، أو- بمعنى أصح - متهالكة من طراز زيل 157، التي أنتجها الروس في الأربعينات، أثناء حربهم مع الألمان في الحرب العالمية الثانية. وهى- الآن- إحدى عربات الشئون الإدارية  التي تستخدم في نقل الأطعمة والمياه للوحدات في الجيش المصري.

 

حاول أن يفتح الباب بصعوبة، فلم يتمكن.

ساعده السائق بدفع الباب من الداخل،حيث جلس إلى جواره صامتاً على عكس عادة باقى الجنود، الذين يأتلفون مع بعضهم -عادة- خلال دقائق معدودة. أحس السائق بأنه لا يرغب بالكلام، فتجاهل وجوده، وأخذ يدندن بصوت خفيض. أخرج صلاح علبة سجائره، وتناول منها واحدة، وحين أشعلها أحس بأن الدخان يكاد يشرخ حلقومه. كانت سيجارته الخامسة بعد إفطار رمضان. نظرإليه السائق بطرف عينه، وقال متخابثاً:

- مساء الفل يا حلاوة

ثم أردف السائق ساخراً:

- تكونش فاكر إننا قاعدين فى بنزينة ؟

ثم أطلق ضحكة ذات معنى.

تذكر أنه لم (يُتحّى) السائق، فأحس بالحرج. أخرج العلبة مرة أخرى، وناوله سيجارة:

- لا مؤاخذة يادفعة

- مؤاخذتك معاك يا أخ..

وبعد أن أطلق الدخان من صدره، سأله:

- راجع من أجازة؟

- أيوه

ابتسم السائق الذى كثيراً مامرّ بمثل هذا الإحساس، والذى يمكن تسميته"فوبيا العودة"، فأردف بلهجة العالم ببواطن الأمور:

- علشان كدة !! عموماً.. أجازة سعيدة ياعم

 

سعيدة !!

خمس سنوات مضت منذ التحاقه بالخدمة العسكرية

في السنة الأولى احتمل قسوة تلك الحياة التى ينفر منها بطبيعته، باعتبار أنها مدة خدمة إجبارية. أما السنوات الأربع بعد استبقائه، فقد كانت كابوساً. ظن أنه بمرور الوقت قد يتأقلم على حياته الجديدة، لكنه فشل، وفقدت كلمة السعادة ومشتقاتها كل معنى.

قطع عليه تفكيره صوت السائق الذى بدأ يعلو، كى (يسلّى طريقه)حين أدرك أن (الأخ) ليس عشرياً، وربما يكون (شايف نفسه حبتين). تجاهل وجوده، وبدأ يغنى إحدى أغانى الجنود الشهيرة:

"الحلو فايت على دمياط

بنى له مصنع للستات ..

ستاته حلاوة"

 

ومع حركة لسانه، كانت يده تتحرك على آلة التنبيه، وجسده يهتز بتوافق جميل مع النغم. ونظراً إلى أنه يمتلك عقلية تحليلية، فقد انتبه إلى حقيقة هامة، وهى أن الإنسان كائن (طبوغرافى) بطبيعته. بمعنى أن مفردات الطبيعة التي تحيط به من كل جانب، عادة ما تطبع شخصيته بتضاريسها، ليصبح - مع مرور الوقت- صورة مصغرة منها. وهذا ينطبق- ربما بصورة أوضح- على المدن الساحلية، تلك التي يخلع البحرمعدله عليها، من الانفتاح إلى الانفعال الصاخب. إنها روح البحر التى يضفيها على كل من يجاوره، ليصبح  المرح - مع السخرية والفهلوة- أهم مكونات تلك الشخصية.

 

( فتحت سامية باب العربة المسرعة، أزاحته جانباً ثم جلست إلى جواره، قبلته بحرارة فوق شفتيه، وألقت برأسها المحاط بغابة من الشعر الأصفر فوق كتفه الأيمن، كان مستسلماً لها كعادته، وكانت متنمرة كعادتها)

 

اقتربت العربة من نقطة مراقبة العدو في الكيلو 14، ثم انحرفت بشدة مع دوران الطريق الذي ينحنى إلى جهة اليسار. لم يهدئ السائق- في غمرة نشوته - من سرعة العربة، اهتزت سامية إلى جواره ، فتعلقت به.

 

تذكرها حين جذبته من ذراعه ، أثناء مظاهرات الطلبة فى العام 1968 . وقتها كان في ليسانس. حاول أن يتخلص من قبضتها دون جدوى، كانت تحتمى به أكثر مما تحاول أن تحميه. أحس بدفء ملمسها وعمق مشاعرها تجاهه، فتمنى لحظتها أن يموت برصاصة طائشة، أو غير طائشة، حتى تتوقف الحياة عند هذه اللحظة، المهم أن يموت.

 

لقنه بعض أساتذته - من مريدى شوبنهاور- أن الموت هو الحقيقة المطلقة ..

لم يكن يبحث عن الحقيقة، لكنه كان يبحث عن الخلاص، مثل أبطال البير كامى الذين كانت حياتهم تنتهى بالموت دائماً، أوبالانتحار. ورغم أنه قرأ حواراً للمؤلف ينكر فيه تقديسه للانتحار، قائلاً أنه يقدم الموت في أبشع صورة له حتى يرفضه الإنسان، إلا أنه - وبتأثير من بعض الأفكار العدمية - ظل مؤمناً بأن خلاصه في موته. وبين الوجودية - التى آمن بها- والعدمية التى اجتذبته، ظلت حياته تتذبذب في انتظار لحظة التنوير، التى يتحدث عنها السينمائيون دائماً، والتى ظل يحلم بها أبداً.

 

تمنى فى هذه اللحظة أن يلقى بجسده على الفراش لينام. كان مجهداً، وكان إجهاده النفسى يفوق إجهاده الجسمانى.

 

("الموت رحلة نوم طويلة بلا كوابيس".

ضاع صوته وسط الهراوات المطاطية وهو يصرخ:

أريد أن أنام

اخترق كتفه سيخ من الحديد المحمى، فارتمى على صدر سامية، التى جذبته مع آخرين إلى داخل قهوة "أسترا" بميدان التحرير،

ونـام).

*****

 

فجأة سمع زمجرة فرامل العربة، وصوت السائق يأتى إليه من بعيد:

- حمد الله ع السلامة ياحلاوة

وقفت العربة .

(بعد أن توقفت العربة، قفزت سامية إلى الملاحات، مع صوت الفرامل. بداية رآها تطير مثل فراشة، ثم تحط فوق وجه الماء بشكل ملائكى.. إنها كرامة أخرى تضاف إلى فضائلها. وفوق وجه البحيرة شبه الساكن، بدأت تسير الهوينى، بينما يتابعها بكل حواسه، حتى اختفى نصفها السفلى بين أعواد البوص المتناثرة وحقول الألغام. وعندما أخذ نصفها العلوى فى التلاشى، أشارت له ملوحة بيدها كعروس البحر، واختفت في الماء) .

 

هزه السائق بيده:

- الكيلو 19 يادفعة

انتبه فجأة من ذكرياته:

- إيه .. فيه إيه؟

رد السائق:

- خلاص .. فنيتو.. وصلنا الكيلو 19 يا حلاوة

مال عليه، وفتح له باب العربة( المزرجن)، فقال صلاح:

- ألف شكر يادفعة..لا مؤاخذة، كنت سرحان

ضحك السائق ساخراً:

- فى الملكية طبعاً، علشان كده "لا مؤخذاتك" كتير النهاردة.. عموماً خلى بالك من نفسك..انت ماشى فى سكة اللى يروح ما يرجعش ياحلاوة

- معلهش.. أصلى تعبان شوية النهارده

- تعبان من إيه ياباشا؟

ثم أردف ضاحكاً:

- ركبك مش قادرة تشيلك؟

هبط من كابينة العربة المتهالكة، بينما كان السائق يلوح له بيده وهو يضحك، واستمر فى الغناء:

" الحلو فايت على أسوان

بنى له مصنع للنسوان..

نسوانه حلاوة"

 

بعد أن نزل من السيارة، مضى في طريقه المظلم ، والذى بدا له بلانهاية. تباعد صوت العربة، واختفت في منحنى الذاكرة، ثم تلاشى ضوؤها كى تصبح الظلمة سيدة المشهد. تذكر التعبير الصادم للسائق: "سكة اللى يروح مايرجعش". جفل قليلا ً، لكنه أمّن عليه، فمنذ سنوات وهو يمضى فى تلك السكة التى لايعلم مداها إلا الله.

*****

 

23سبتمبر1973

كان قد حل ميعاد إجازته الميدانية التى عاد منها اليوم، مضافاً إليها أسبوع من إجازته السنوية، مما يعنى أنه سيقضى خمسة عشر يوماً كاملة فى الحياة المدنية. عاش نفس إحساس الطفل الصغير الذى يستقبل العيد، إذ قام فى الليلة السابقة بتلميع البيادة، وأرسل الأوفرول- الذى يحتفظ به للإجازات- إلى مكوجى الوحدة، ثم قام بحلاقة ذقنه (على بيات) ليوفر قدراً من الوقت يضيفه إلى الإجازة، حتى ولوكان بضع دقائق. لم ينم نوماًًعميقاً كما اعتاد من قبل، نتيجة للإجهاد اليومى المستمر، بل كان نومه متقطعاً تملأ الفراغات به أحلام اليقظة، دون أن تنتابه الكوابيس.

نهض من فراشه عند سماعه آذان الفجر، وتوجه إلى رئاســـــة السرية لاستلام تصريح الإجازة.قام رقيب أول السرية بالتفتيش على ملبسه وعلى حلاقة ذقنه،ثم ناوله التصريح مع باقى زملائه فى دفعة الإجازات، بعد أن وجه إليهم بعض النصائح المعتادة، وتمنى لهم إجازة سعيدة. توجه الجنود بعربة الإجازات إلى (جنينة سعد)، حيث موقف سيارات الأجرة آنذاك، فاستقل صلاح العربة المتجهة إلى القاهرة، وإحساس عارم بالسعادة يغمره.

فى هذه اللحظات كان يحس أن بداخله إحساساً مقدساً، أن يجعل من حياته دائماً موضع تساؤل، بينما ذلك الصمت المشع يضيئه دائماً نفس القلق. كان يشبه طفلاً صغيراً يلهو فوق شاطئ البحر، ولم يكن قد تخلص بعد من الرمال التى علقت بملابسه.. تلك الرمال التى يطلقون عليها الذكرى. إنها مجرد مشاعر غامضة يطمسها عادة هطول الليل المتمثل فى النسيان، والذى تعلن الشمس دائماً عن غيابه، إذ يتحدث إلى الحاضر بلغة الأطلال الدارسة.

كانت تقول له دائماً: الحب شئ من السهل أن تقوله،ولكن من الصعب أن تفعله،وبالتالى من السهل أن تخلقه،ولكن من الصعب أن تحيله إلى كائن قادر على مواصلة الحياة.وقد تأكدت له تلك الحقيقة بوضوح،مماجعله يحاول أن يضع حبه داخل صوبة من نوع نادر الوجود.

*****

بمجرد وصوله إلى المنزل، استبدل ملابسه العسكرية على عجل، ثم قبّل أمه وخرج مسرعاً. لم يلب دعوتها له بالبقاء إلى ما بعد الغداء، الذى أعدته خصيصاً له، ليبرّ به نفسه، حيث كانت - بقلب الأم - تراه على الدوام هزيلاً. لقد كان فى اشتياق ليرى سامية، بعد أن غاب عنها ثلاثين يوماً كاملة، كل يوم منها كان يمر كأنه الدهر.

كثيراً ما كان يتعجب من طبيعة العلاقة التى تجمعهما، ولم يتوقف يوماً عن محاولة تفسيرها. فرغم الاختلافات البينة فيما بينهما، والتى كثيراً ما تصل إلى درجة التناقض، إلا أنه ظل يصفه بأنه "تناقض اكتمال". كان يستند فى ذلك إلى القانون الطبيعى الذى يشير إلى أن الأقطاب المتنافرة تتجاذب، حيث يرى أن هذا القانون يعنى أنه باتحاد النقيضين معاً، فإن ذلك يلغى الفوارق فيما بينهما، ولهذا يصل كل منهما إلى أقصى درجات الاتزان. صارمتأكداً أن هذا الأمر ينطبق عليهما، ربما أكثر مما ينطبق على مجال  المغناطيسية. لذا كتب إليها ذات مرة: " إذا كنت شبيهتى فلست فى حاجة إليك، لأن ماينقصك ينقصنى.. أما إذا كنت نقيضاً لى فإن حاجتى لك تصبح ضرورة وجود، حيث أن ما يجمع بيننا هو الحاجة إلى الاكتمال".

لذا فإن تناقضه مع سامية هو ما كان يشده إليها: حيويتها الدافقة، ثوريتها، حماسها لمبادئها، بحثها الدائب عن العدل، ارتباطها بالواقع الاجتماعى ...الخ. أما هو فقد كان على العكس منها: منعزل عن الواقع، يميل إلى السلبية بعد أن كسرته هزيمة 1967، والتى أحالته إلى  ما يشبه البللور الذى تهشم إلى مئات من الشظايا. كان أمره أشبه بالانتقال بين حالين متناقضين: من التسخين الشديد إلى التبريد المباغت، فكان من الطبيعى أن يعانى حالة من الانكسارالنفسى، التى لم يبرأ منها طوال سنوات. وبحكم دراسته للفلسفة، صار يبحث بدأب عن الحقيقة المطلقة والتى لم يعد يدركها إلا عبر فكرة الموت. كل ذلك أدى به إلى نوع من الفصام الفكرى، فبينما ينتمى جسده إلى العالم الواقعى، كانت روحه تقف دوماًعلى حافة العالم الأثيرى، فيما يشبه نوعاً من الانتحار اليقظ !!

وفى محاولته لتفسير تلك العلاقة، أدرك أنه ربما كان وعيه الباطن هو ما دفعه إلى الارتباط بها لكى تلئم نقصه. لكنه على مدى سنوات أربع - هى عمرعلاقتهما- ظل يتساءل: ما الذى دفعها إلى هذا الارتباط ، بينما لا تحتاج هى إلى ما تلئم به نقصها ؟، إذ ظل يراها كاملة الأوصاف.

على أنه ربما كان أصدق شاهداً يؤكد على التناقض العميق فيما بينهما، كان يتمثل فى نظرة كل منهما إلى الرومانسية.فهى بحكم إيمانها العميق بالفلسفة المادية كانت تستهجن المشاعر المفرطة فى ميوعتها، باعتبار أن الحس الرومانسى-فى ظروف الفقر المادى- إنما يعبر عن فقر روحى،وبالتالى فهو يعد رفاهية تتجاوزاحتياجات البشر فى هذاالواقع المتردى. وفى المقابل، فإنه بحكم انحيازه إلى الفلسفة المثالية، كان يرى فى الرومانسية ضرورة لتجاوز الإحباطات التى يخلعها علينا ذلك الواقع المتردى.

فى هذا الصدد حاول أن يقنعها أن العلم عادة ما يتحول إلى شعر، بعد أن يتجاوز عتبة الفلسفة، وهذا نوع من الرومانسية. لكنها كانت ترد عليه بأن العلم - على العكس- دائماً ما يبتدئ كشعر،لأنه على مستوى الفرضيات والنظريات يتأسس على الخيال، لكنه بعد أن يتجاوزعتبة الفلسفة ينتقل من إهاب الخيال إلى دائرة التطبيقات النفعية،وبالتالىتنتفى عنه صفة الشعرية.

وهكذا ظلت المسافة بينهما متسعة، بل ومغرقة فى التناقض. لذا كانا فى حاجة دائمة للحفاظ على شعرة معاوية فيما بينهما،رغم أن ذلك كان أشبه بالوقوف على حافة هاوية. ولأنهما كانا يدركان أن الوقوف على حافة هاوية، على حد تعبير الشاعر عفيفى مطر، لا يكون بديلاً عن السقوط فيها، فقد ارتأيا أن العلاقة فيما بينهما أشبه بالمعادلة الجبرية غيرمتساوية الطرفين،لذا كانا يدركان أيضاً أنه فى الوقت الذى كان فيه التفاؤل يضعف المعادلة، كان التشاؤم يهدمها من الأساس.

وصل الباص الذى كان يقله إلى ميدان التحرير، فغادره باتجاه كافيتريا إيزائيفتش التى كانت تطل على الميدان من الدور الأول بإحدى عماراته، حيث اعتادت سامية التواجد به، فهى إما هنا أو فى مقهى ريش القريب. لقد اعتاد الأدباء والمثقفون التواجد فى أحد هذين المكانين، فإذ ما أراد أحدهما أن يمارس قدراً أكبر من الصعلكة، كان يمر على المكان الثالث الأثير: بار" ستلا " الكائن فى شارع طلعت حرب، والذى كان المثقفون يطلقون عليه اسم  "المستنقع"، ويقع فى منتصف المسافة بين المكانين.

عندما دخل إلى الكافيتريا التى كانت ملتقى لكل فصائل اليسار المصرى، رأى العديد من المثقفين المعروفين وغير المعروفين يجلسون فرادى أوجماعات، وقد التفوا حول عدد من المناضد.استغرق بعضهم  فى مناقشات ساخنة،بينما آثر البعض الآخرالاختلاء بنفسه فى انتظار قدوم فكرة أو حضور صديق.

فى ذلك السكون المشع الذى يضيئه نفس القلق القديم، حاول أن يتدبر شكل علاقتهما. كان يعرف أن قناعاته على درجة من التصلب، الذى كان كثيراً ماكان يغضبها. تذكر ما قالته من قبل: " الذين لايملكون خبرة الحياة، ليس لديهم شئ ليفقدوه". لذا أدرك أنه ربما كان موجوداً، ولكن بدرجة أقل مما تبدو عليه حياته.حاولت أن تقنعه أن التصلب لغة، لكنها مغلقة على صاحبها، وبالتالى فإنها مستغلقة على الآخرين. وتتمثل إشكاليتها الأساسية فى أنها لايمكن ان تستحيل إلى حوار، لذا فإنها لغة الفاشيست بكل تدرجاتهم.

بحث عنها بعينيه فلم تكن قد وصلت بعد. فكر فى الذهاب إلى مقهى ريش، لكنه حين نظر إلى ساعته وجدها الثانية والنصف مما يعنى أنها على وشك الوصول.كان يعرف أنها اعتادت أن تتناول غداءها هنا، لذا آثر البقاء.

بعد قليل ظهرت فى مدخل الكافيه بطلعتها الأثيرة لديه، وأناقتها المفرطة فى بساطتها. كانت ترتدى بذلة جينز زرقاء وبلوزة سماوية، وقد صففت شعرها الأصفر بطريقة بسيطة لكنها آسرة. غمرت ابتسامتها الرقيقة المكان، بينما يسبقها عطرها الأثير (سوار دى بارى)، والذى عادة ما كان يعلن عن قدومها. ألقت التحية على الجالسين، الذين تعرفهم جميعاً، فاحتفوا بها، وحاول كل منهم أن يدعوها إلى طاولته، بينما اعتذرت لهم بابتسامة. وحين وقع بصرها علي صلاح بغتة، اتسعت ابتسامتها، واندفعت تجاهه غير مصدقة. قبلته أمام الجميع، ثم جلست إلى طاولته:                                          - إيه المفاجأة دى؟ حمد الله ع السلامة ياصلاح.. وحشتنى بشكل!! جيت امتى؟             - من حوالى ساعة، غيّرت هدومى، وجيت لك على طول                                  - و(الحاجّة) سابتك تنزل كده بالساهل ؟                                                       - الحقيقة كانت مجبرة كالعادة                                                                 أشارت بيدها إلى الجرسون، ثم قالت:                                                           - هه ..تحب تشرب إيه ياحضرة المجند؟                                                       قال بلهجة محايدة لكنها مُرّة:                                                                   - ميت مرة أقول لك لما نكون مع بعض أنا اللى أسال تحبى تشربى إيه، مش انتى                        ردت ببطء وهى تضغط على الحروف:                                                         - وانا مليون مرة أقول لك إنه ما فيش فرق بين الراجل والست، ولا ناوى تحولها لخناقة مجانية؟                                                                                  ثم استدركت أن حدتها ربما تكون قد جاءت فى وقت غير مناسب، فقالت بدلال:        - هه.. تشرب إيه بقى؟                                                                         حضر الجرسون وحياها، فقال صلاح وهو يحاول ألا يفسد اللحظة:                          - إيه رأيك لونتغدى؟..أنا فعلاً جعان                                                            قالت للجرسون:                                                                                      - اتنين مكرونة بالبشاميل يا ميشو                                                                    - تأمرى ياست الكل                                                                             وبعد أن انصرف النادل سألها صلاح باندهاش:                                                                    - اشمعنى المكرونة يعنى؟                                                                         ردت باقتضاب:                                                                               - على قد فلوسى

- ياحبيبتى أنا معايا فلوس كفاية.. باقبض مرتب استبقاء من الجيش، وباصرف مرتب وظيفة ما اعرفش حاجة عنها،وما باشوفش الدنيا غير كل 30 يوم،يعنى خير ربنا كتير    ثم استطرد:                                                                                       - إيه رأيك أعزمك على الغدا فى أى مطعم قريب؟                                             - فيما يتعلق بالأماكن انت عارف إنى زى الدخاخنية (خرمانجية) أماكن، يعنى ما أحبش أغيَر                                                                                    رد صاغراً:                                                                                          - خلاص ناكل هنا، بس أنا اللى هاحاسب                                                                  - إذا كان ده يرضى غرورك كراجل شرقى.. ماعنديش مانع ياسى السيد                                                          وضع الجارسون الغداء وانصرف                                                                    بدءا فى التهام الطعام، بينما كانت عيونهما تثرثر بما لايمكن ترجمته إلى كلمات. قالت لنفسها: "ياه..كل هذا اللهب فى تلك النظرة الصامتة"؟ هوأيضاً تذكرما قالته له عرضاً فى الإجازة السابقة: " أعرفك من صمتك، بينما لا أتعرف على الآخرين إلا من خلال أصواتهم". فى هذه اللحظة  التى عادة ما تسمو فيها روحه، أدرك أنه لم يعد يؤمن بأنه يمكن التأثيرعلى البشر بالمعرفة، كما كان يظن من قبل، أو بالإكراه كما قديظن الطغاة والجلادون. لكن ذلك التأثير لايتم إلا من خلال أحد سبيلين: الثقة أو الحب.

وهاهما - الآن- يمارسان طقس الصمت المقدس، لكنه - هذه المرة- صمت طازج، أو بالأصح صمت بكر،حيث يغادرالمحبون (واغش) الدنيا،كى يقيموا خارج حدود الكلام. قرأ ذات مرة أنه ما من فرق بين الشعر والحب إلا كون الأول كلام الصمت والآخر فعله، وهاهو الآن يتأكد له ذلك.

بعد أن انتهيا من الطعام قال لها:                                                                - شكراً ياسمسمة                                                                                        - على إيه؟ ما انت اللى هاتحاسب                                                                   لكنها انتبهت فجأة لعبارته الأخيرة التى باغتتها، فنظرت إليه دهشة:                                  - انت قلت إيه بالضبط؟                                                                              - قلت (شكراً ياسمسمة)                                                                  وضعت يدها على جبهته لترى إن كان محموماً يهذى، فضحك:

- فيه إيه؟                                                                                          - فيه إن واحد صاحبنا كان مخاصم الدنيا، وفجأة خدها بالحضن                                    - مش للدرجة دى..                                                                                  ثم استطرد:                                                                                    - يمكن علشان هاشوفك لمدة 15 يوم، الحياة اتغير لونها                                          - لاأنا عايزة أعرف إيه اللى حصل ده.. (سمسمة) مرة واحدة؟ دى  مجرد غلطة، ولا تغيُر كيفى؟                                                                                            - شامم ريحة ماركس فى التعبير ده.. حرام عليكى إنسى السياسة شوية                           - مصيبتك إنك مش فاهم إن كل تفاصيل حياتنا سياسة..                                  ثم ضحكت وقالت:                                                                                   - داحتى "أرخص ليالى" - على رأى يوسف إدريس- كلها سياسة                                          - قصدى خلينا مع بعض من غير مايبقى بيننا عزول أياً كان                                       ردت بسعادة حقيقية،ولكن بلهجة ساخرة:                                                                 - حاضر ياسى روميو، بلاش أبقى (سيخ) النهارده علشان خاطرك                              ثم استرسلت:                                                                                                - تعرف بجد إنك وحشتنى؟

من خلال علاقته بها، تعلم أن المرأة تحب أن تكون محور حياة رجلها، وأنها حين تدخل فى حوار فيجب أن يكون عن حاضرها، لاعن ماضيها،ربما لأنها أكثر فهماً للرجل الشرقى، منه لفهمه عنها. لذا قرر أن يتجوز تصلبه، وأن يجعل منها محور حياته، لأنها بالفعل كذلك، فأجابها:                                                          - وانتى كمان..أنا آمنت مؤخراً إنى لما باشوفك با احس إنك بتحيينى؟                          تهلل وجهها:                                                                                          - ياعينى ياعينى..إيه يا واد الشعر ده؟ بتحب نصف إلهة حضرتك؟                                          - أقسم لك بك إنى باتكلم جد.. مش عارف من غير خيالك اللى ملازمنى على طول، كنت قضيت فترة الجيش إزاى؟.. كل ما أفكرفيكى بتهوِّنى علَىَّ قسوة الواقع               - حلوة حكاية أقسم لك بك دى .. وكل ده لمجرد إنك بتتخيلنى؟ تعرف إن أنا دلوقتى خايفة لاييجى يوم تطلب منى فيه إيد خيالى؟                                               أمسك بيدها، ثم ضغط عليها، فضربت على يده برفق:

- أنا باقول إيد خيالى مش إيدى.. وخد بالك إن كل اللى حوالينا دول ما لهمش شغلة غير الكلام وبس..وانا مش ناقصة إشاعات                                                     سحبت يدها بحجة أنها تنظرفى ساعتها. لقد كانت تدرك أن اليد أعمق من الفم، وأن اللمسة أقوى أثراً من الكلمات. لذا قررت ألا تستسلم لسحر تلك اللحظة على الملأ ..   قال لها:                                                                                             - انتى مستنية حد؟                                                                                    - آه.. واحدة صاحبتى انت تعرفها كويس                                                           وقبل أن تنهى جملتها، دخلت المكان فتاة بيضاء طويلة ذات شعر أصفر وجمال آخاذ. كانت بيضاء البشرة، فارعة الطول، وتتميز بكاريزما واضحة. حياها الجميع وقوفاً ، وردت عليهم بتلويحة من يدها، كأنهم شعبها.توجهت مباشرة إلى المكان الذى يجلسان به، فتهللت سامية عند رؤيتها لها.. وقفت وعانقتها، ثم مد ت يدها إلي صلاح، فسلم عليها. قالت سامية :                                                                           - طبعاً أول مرة تتقابلوا..                                                                       ثم قدمت كلاً منهما إلى الآخر:                                                                    - صلاح.. سهام                                                                            قالت سهام:                                                                                    - ولو إنها - زى ما سامية بتقول - أول مرة نتقابل، إنما أقدر أقول إنى باعرفك من زمان                                                                                               - إذا كنتى سهام اللى بتحكى لى سامية عنها، يبقى أنا كمان أعرفك من زمان، مش من سامية بس، لكن من الجامعة كلها                                                                      - شفتى ياستى .. شهرتك تجاوزت الآفاق، وبقيتى زى الصواريخ عابرة للقارات                ثم توجهت بالكلام إلى صلاح:                                                               - كان نفسى تشوفها وهى بتحرج المسئولين فى الاجتماعات، ولا وهى بتهتف فى مظاهرة أو اجتماع، كنت هاتعرف قد إيه البنوتة الجميلة دى أصبحت أيقونة للحركة الطلابية                                                                                                - واضح إنك بتموتى فى المبالغة ياسامية                                                        - علشان تعرفى إنى مش بابالغ فاكرة ياسهام الوزيراللى قال لكم مرة فى اجتماع (أنا مجرد بوسطجى)، وانتى عصرتيه زى الطماطماية؟                                               ودون أن تنتظر إجابة منها، توجهت بالكلام إلى صلاح:                                  - قالت له (إحنا مابنتعاملش مع بوسطجية..قول للى باعتك ييجى لنا بنفسه)، وبعدين انسحبت، وانسحب وراها كل زمايلها، وسابوا الراجل ياعينى لايص                 قالت سهام:                                                                                    - سيبينا من الماضى شوية ياسامية، خلينا فى الحاضر                                    حاولت أن تغير دفة الحديث بعيداً عن ذكرمزاياها، فقد كانت تتمتع بدرجة هائلة من التواضع الصادق. فتوجهت بالحديث إلى صلاح:                                          - بالمناسبة دى ياصلاح، طمننا.. إيه آخر أخبار الجبهة؟ هانحارب ولا عام الضباب لسه ممتد عندكم؟                                                                            رد باقتضاب:                                                                                  - أنا مجرد جندى مش جنرال..وعلشان كده ما اقدرش أجاوب                             - طيب ياسيدى، ها اعيد السؤال بطريقة تانية.. بإحساسك كجندى شايف إننا نقدر نحرر الأرض، ولا..؟                                                                   صمت برهة بعد أن باغته سؤالها، ثم أجاب دون لف أو دوران:                          - أعتقد بإن الأمر فى الحالة دى ها يكون أشبه بالانتحار، فالمقارنة بيننا وبين العدو ظالمة.. تفوق جوى كاسح، وتفوق كمى ونوعى فى المدرعات، وحرب الكترونية خارج المقارنة، وشئون إدارية حدثى ولا حرج. بيتهيأ لى كده كفاية علشان توصلى بنفسك للإجابة على السؤال                                                              تغيرت تعبيرات وجهها لهذه النتيجة الصادمة، وردت فى سخرية:                              - واضح إنك ضعيف فى مادة التاريخ، لأنك ما سمعتش عن حاجة اسمها قانون التحدى والاستجابة عند الشعوب، وواضح إنك نجحت بملحق فى الفلسفة، رغم إنها تخصصك، لأنك مش مستوعب قوانين الجدل                                                          نظر إليها باندهاش على جرأتها، لكنه لم يرد، فتدخلت سامية بسرعة لتلطيف جو اللقاء. سألتها لتغير مجرى الحديث الذى بدا وكأنه على وشك التوتر:                            - طمنينى عاملة إيه فى حياتك ياسهام؟                                                   تنهدت بعمق ثم قالت:                                                                          - أبداً.. با افكر أطلب الطلاق                                                                      بهتت سامية:                                                                                     - بالسرعة دى؟

- لما تنزلى مستنقع، مابتبقيش محتاجة إنك تمشى غير خطوة او اتنين علشان تعرفى انتى مديتى رجليكى فين.. إنما الغباء الحقيقى إننا نكمل المشوار للنهاية، علشان نخرج من الجانب الآخر للمستنقع، مع إننا لو تراجعنا خطوة واحدة هانوصل لنفس النتيجة..                                         صمتت قليلاً ، بعدها ارتسمت على وجهها ملامح الحنق، ثم هبت واقفة بغضب بعد أن دخل أحد الأشخاص المكان، وقالت:                                                          - باى دلوقتى ياسامية.. أشوفك بعدين                                                            ثم غادرت المكان على عجل                                                                    دهش صلاح من الطريقة التى غادرت بها، وسأل سامية عن سبب هذا التغير المفاجئ فى سلوكها، فقالت له:                                                                               - الشخص اللى دخل من شوية هو السبب                                                       ثم أردفت:                                                                                            - أمن الدولة كان بيحقق معاها فى مرة من المرات الكتيرة اللى استضافوها فيها.. كانوا مغميين عينيها، وفجأة سمعت صوت واحد من الموجودين اتعرفت عليه، واكتشفت إنه نفس صوت الشخص ده اللى كانت حافظاه كويس. وساعتها عرفت إنه مخبر، وإنه هو اللى بلغ عنها. وعلشان كده مابتحبش تقعد فى أى مكان بيتواجد فيه، وإلا بتقلبها دندرة. وعلشان كده، هى بتفضّل الانسحاب، وتسيب موضوع البهدلة للتاريخ..                      استرسلت بعد فترة صمت:                                                                        - سهام دى مافيش منها فى اتنين فى الدنيا ، رغم إن حظها وحش.. اتنازلت عن طبقتها الاجتماعية، واتحدت أهلها علشان تتجوز اللى بتحبه.كان من عائلة فقيرة دُقة، وما لوش أى دخل، ورغم كده اتجوزته، وعاشوا فى أوضة فوق السطوح. ولأنها خريجة مدارس أجنبية وف نفس الوقت طالبة فى هندسة، بدأت تدى دروس فى اللغات والرياضيات علشان تقدر تعيش هى وجوزها                                                                - وفين المشكلة هنا؟                                                                           - المشكلة إنك تحب حد بكل نبضة فيك، وبعدين تكتشف إن الطرف التانى مش مقدر ده. فى الحالة دى ثقتك فى نفسك بتهتز لأنك ماعرفتش تختار صح، ولو كنت مثالى زى سهام، بتبقى الصدمة أكبر،لأن الإنسان المثالى بيشوف نفسه مقياس للعالم، وما بيقدرش يفهم إن العالم مش على مقاسه هو لوحده.والمصيبة الأكبر إنه لما يكون من أصحاب المبادئ، بيبقى مش مستعد أصلاً يقدم أى تنازلات..                       شربت جرعة ماء،كى تزدرد ريقها الذى جف، ثم أكملت حديثها بطريقة نصفها جاد والنصف الآخر ساخر أن بنات الطبقة البرجوازية العليا اللائى أغراهن بريق اليسار، كن ضحايا شعاراته الزائفة. ولأن أغلبهن كن قليلات الوعى بالتناقضات التى تكتنف حياتهن، كان اليساريون يستخدموهن أكثر مما يتمسكون بهن باعتبارهن مناضلات. لقد كانوا يتبنون نفس منطق اليمين الرجعى فى نظرته إلى المرأة، حين يوحد فقهاؤه مابين المرأة والدابة، باعتبار أن كلتيهما قد خلقت للركوب!! وأشارت إلى أن سهام تعرضت للكثير من المواقف الفجة من هذا النوع، وقد أثر عليها ذلك بشكل سلبى.. والنتيجة هى ماتراه الآن.         

نظر فى ساعته، وقال:                                                                       - طيب..أشوفك بالليل؟                                                                       - أنا بالليل ها اكون فى حزب التجمع.. فيه سهرة غنائية مع عدلى فخرى..ما تيجى    - انتى عارفة ماليش فى وجع الدماغ ده، وماتنسيش إنى دلوقتى مجند، يعنى المفروض أبعد عن السياسة، وخصوصاً الأماكن الحزبية.. عموماً هابقى أكلمك..                  ثم استطرد:                                                                                        - ياللا علشان أوصلك                                                                             - روّح انت .. أنا مستنية ناس الساعة أربعة، جايبين لى كام درس خصوصى

*****

لم تكن ثورة الشباب فى مصر فى   21 فبراير 1968 مجرد ثورة على الأحكام العسكرية التي صدرت بحق قادة الجيش والطيران، الذين تسببوا فى نكسة مهينة للبلاد، بل كانت حلقة فى سلسلة غضب شاملة للشباب فى معظم دول العالم. بدأت بثورة الشباب فى أمريكا ضد الحرب على فيتنام، وأعقبها ثورة الشباب فى فرنسا، ثم ثورة الشباب الصينى التي شهدها ميدان "السلام السماوى" فى بكين. وفى أوربا نشبت ثورة تشيكوسلوفاكيا ، والتى قمعها الجيش الأحمر. وكانت هناك أيضاً بوادر ثورة أخرى فى بولندا، اكتملت فى سنوات لاحقة..

كانت محاولة الشباب لفهم ما يحدث متغلغلة فى الزمان والمكان ، فلم يكن للأحياء- بأرواحهم الشابة- أن يقدسوا الأموات، حتى لوكانوا فى مقام السدنة، ويجعلوا منهم حكماً-لا تُرد له كلمة- على أفكارهم وأحلامهم. لذا لم يكن التفاف هذا الجيل حول شعارات الغضب سوى امتداد لتلك الثورات، حيث كانت - جميعها-  تبحث عن الحق فى الحب والحرية والعدل.

لقد بدأ شباب مابعد الحرب العالمية الثانية، ومنهم شباب مصر، فى فتح الملفات القديمة للسلطة، من خلال التمرد على السطوة البطريركية للزعماء التقليديين، وأيضاً رفض كل الثوابت اليقينية، واختبارها أمام الواقع. لقد أدركوا أن مجال الخضوع غير متسق مع مفهوم الحياة، لكنه يتسق بصورة أكبر مع مفهوم الموت.

فى هذا المناخ المشحون بعوامل التوتر، انكسر حلم هذا الجيل الذى آمن بأفكار جيفارا، وتعليمات ماوتسى تونج، وثورية هوشى منه، وشجاعة فيدل كاسترو، وعظمة مارتن لوثركنج، وكتابات فرانز فانون..الخ، كما كان زاده الروحى يتمثل فى أشعار لوركا ويانيس ريتسوس وناظم حكمت وبابلو نيرودا وأمل دنقل.

ومن هذا المنطلق فإن مرارة الهزيمة المهينة التي لقيتها جيوش ثلاث دول عربية من جيش دولة صغيرة، كانت مرشحة للإلقاء فى البحر، صارت مضاعفة لدى هؤلاء الشباب الذين يمتلكون قدراً هائلاً من الوعى الثورى. فإذا أضفنا إلى ذلك إحساسهم بالخديعة، لعرفنا مدى الغضب الذى كان يعتمل فى صدورهم. لذا شاركت سامية فى كل الانتفاضات الثورية، خاصة فى غضبة الكعكة الحجرية، وظلت تردد فى مرارة مع الواقفين فى الميدان أشعار أمل دنقل:

 

" قلت لكم مراراً

إن الطوابير التي تمر..

فى استعراض عيد الفطر والجلاء

(فتهتف النساء فى النوافذ انبهارا)

لاتصنع انتصارا

إن المدافع التي تصطف على الحدود،

فى الصحارى

لاتطلق النيران إلا حين تستدير للوراء

إن الرصاصة التي ندفع فيها ثمن الكسرة والدواء

لاتقتل الأعداء

لكنها تقتلنا،

إذا رفعنا صوتنا جهارا "

*****

 

كثيراً ما كانت سامية تلوم صلاح على مواقفه السلبية، والتى تأتى كرد فعل طبيعى للإحساس بذلك الخواء وتلك اللا جدوى التى يعانى منهما. كانت تقول له دائماً أن الأوضاع الخاطئة تزول بالثورة عليها، لا بالالتفاف من حولها، أو بالبكاء على اللبن المسكوب. قالت له أيضاً أن إشكالية المثقفين الأزلية أنهم يرجعون فى أسانيدهم إلى المكتبة أكثر من رجوعهم إلى الخبرة، وهذا ما يفصلهم تماماً عن الواقع، ويجعلهم يعيشون فى يوتوبيا زائفة. ورغم ذلك لم تكن على استعداد لأن تخسره لأسباب إنسانية، إذ كانت تراه الأكثر صدقاً ونقاءً فيمن حولها. فهى تراه الأقرب - إنسانياً- إلى نموذج صديقتها سهام. لذا كان تفاعل كل منهما مع الواقع الخارجى مختلفاً تماماً:

فبينما سامية تمثل نموذج المثقف العضوى كما طرحه جرامشى، كان صلاح لا يمتلك سوى براءة الفوضويين ويأسهم.

 

سألته ذات مرة:

-         تعرف أنا متمسكة بيك ليه؟

-         ...

- لأنك من جواك نقى، وما بتزايدش على مبادئك..

وبعد فترة من الصمت استطردت:

- غير كده أنا عندى معيار ثابت للحكم على الرجال.. اللى بيميز بينهم من وجهة نظرى، إلى جانب التربية فى البيت، هو نظرة كل واحد فيهم للمرأة، وانا شايفة إن نظرتك للمرأة متحضرة، وإنك عكس نموذج المثقف الشرقى، اللى الصبح يتكلم  فى ندوة- بحماس شديد- عن حقوق المرأة، وبالليل ممكن يضرب مراته لأنه لقى العشاء بارد!!

صمتت للحظة، ثم استطردت:

- دا غير إن فيه كتير من الرفاق واخدين الموضوع تجارة، وأول ما حد يلوَّح لهم بالسعر اللى هم عايزينه، بيبيعوا بدون تردد.. واللى عاجبنى فيك إن انت مالكش سعر

رد ساخراً:

- ماليش سعر؟.. دا مدح فيما يشبه الذم، ولا العكس؟

- انت عارف إنى ما أقصدش المعنى اللى وصلك، واللى بتحاول تستخدمه علشان تغير به الموضوع

- وانتى عارفة إنى أمقت المديح، رغم أننى أسعى إليه سراً،على رأى طاغور

قالت بحدة:

- خلينا فى المهم

استطرد وهو يشعر بالحيرة:

- مادام انتى شايفانى كويس، طيب ليه عايزانى أتغير؟

- للأحسن يا حبيبى

- هو يعنى لازم أبقى يسارى علشان أرضيكى؟

- مش مهم إنك تبقى يسارى أو يمينى.. المهم ما تبقاش من الجيل الخائب

قال ساخراً:

- منكم نستفيد يا أبلة

- الجيل الخائب دى تسمية ارتبطت فى القرن 19 بالعدميين والفوضويين، اللى زى حضرتك، واللى مالهمش حلم وما عندهمش رؤية، والغريب فى الموضوع إن أفكارهم صورة طبق الأصل من أفكارك،رغم اختلاف الظروف، ورغم إنك ما قريتش عنهم كفاية

- بس معلوماتى بتقول إنهم بيرفضوا فكرة الدولة زى الماركسيين.. يعنى كلكم فى الهم شرق

- ياحبيبى..الهدم وحده مش هدف الثورة، لكن البناء فى مرحلة تانية هو الهدف، وده الفرق بيننا وبينهم فى النقطة دى. الثورة يمكن اختزالها فى تلات كلمات فقط:

حلم ورؤية وإرادة شعبية

قال ساخراً:

- يعنى أنا لو بقيت إيجابى، وعندى حلم ورؤية، هااغير العالم؟

- انتهى عصر الأنبياء يامحترم، يعنى ما فيش إنسان لوحده يقدر يغير العالم. طبعاً احنا ما نقدرش نلغى دور الفرد فى صناعة التاريخ، لكن فى حدود العلاقة بين الظرف الذاتى والظرف الموضوعى. باختصار..الإنسان الثورى مش هو اللى بيخلق حالة ثورية، لكن الحالة الثورية هى اللى بتخلق الإنسان الثورى.. وانت من الواضح إنه ولا مليون حالة ثورية ممكن تغيرك

ابتسم متهكماً، وقال:

- والكلمة دى بتوقيع مين إن شاء الله؟

- بطل خبث بقى يا سلبى.. مرة تتهمنى إنى تروتسكية، ودلوقتى بتلمح إنى لينينية.. ماترسى لك على بر

ثم أردفت ضاحكة:

- صدقنى..أنا بقيت مقتنعة إن تغييرك بقى محتاج لمعجزة، لدرجة إنى باتصور أحياناً إنه لاصلاح نصر ولا حمزة البسيونى، حتى لوتحالفوا مع بعض، يقدروا يغيروك!!

نظر إليها مندهشاً من غرابة التمثيل، فاستطردت ربما لتغير الموضوع:

- بالمناسبة دى أنا ها أدى لك كتابين تقراهم وتدعى لى

- أفهم بقى..غسيل مخ ولا تجنيد؟

قالت فى دلال:

- فقط من باب الثقافة العامة ياحبيبى

فرد بخبث:

- وطبعاً الكتاب الأول اسمه "الثورة والأدب"، والتانى اسمه"عشرة أيام هزت العالم"

سألته باندهاش:

- صح.. وعرفت منين؟

- انتى نسيتى ياهانم إنك بعد محاضرة زى دى اديتهم لى قبل كده علشان اقراهم، ونسيتى تسمّعي لى اللى قريته كعادتك؟

خبطت جبهتها باستغراب، بعد أن تذكرت:

- ياخبر.. دا صحيح

- الخبر الأغرب بجد إن الكتابين  مش عندك أصلاً

ردت بتهكم:

- وعرفت منين يا أستاذ؟

- انتى نسيتى برضه إنك اللى علمتينى قاعدة ذهبية فى استعارة الكتب؟

ثم حاول أن يقلد طريقتها فى الحديث:

- اللى يسلف كتاب يبقى حمار، واللى يرد كتاب استلفه يبقى أحمر منه.. صح؟

انفجرا معاً بالضحك.

*****

 

فى رحلة العودة إلى المنزل، تذكر تلك الأيام التي لا تُنسى

بعد النكسة اجتاحت مصر العديد من الانتفاضات الاحتجاجية، على أيدى كل من الحركات الطلابية والعمالية. كانت أولى تلك الانتفاضات حركة احتجاج عمال حلوان في فبراير 1968 على الأحكام العسكرية الصادرة بحق قادة الطيران، وسرعان ما امتدت شرارتها إلى حرم الجامعة، التى تحركت صوب الجماهير في الشارع المصرى.

لقد تحركت مسيرة ضخمة من جامعة القاهرة، مروراً بميدان التحرير، باتجاه شارع رمسيس، حيث قام الأمن المركزى بتفريقها عنوة في منطقة غمرة. وكان يقود الحركة الطلابية آنذاك العديد من الأسماء الهامة، أبرزها أحمد عبد الله وأحمد بهاء شعبان وشوقى الكردى وسهام صبرى. وسرعان ما استطاع عبد الناصر احتواء تلك الأزمة، بقرار إعادة المحاكمة أمام دائرة أخرى، حيث قامت بتغليظ العقوبة على قادة القوات الجوية في نكسة 1967.

وبعد وفاة عبد الناصر حدثت حالة من الاحتراب السياسى مابين اليسار- الذى كان يشمل الماركسيين والناصريين- من ناحية، والنظام الجديد الذى يمثله السادات من ناحية أخرى. وحارب اليسار المصرى السادات بأخطر الأسلحة المصرية وأكثرها فتكاً: النكتة السياسية، حتى أن رئيساً لمصر لم يحظ بكم يعادل ما حظى به السادات في هذا الصدد. وبدأ ظهور ما يمكن أن نسميه "الشعر المقاوم" ، وكان من أبرز أعلامه أحمد فؤاد نجم، وحمدى عيد، وزين العابدين فؤاد، وسمير عبد الباقى. وسرعان ما انضم إلى نجم المغنى والملحن الشيخ إمام، ليكونا ثنائياً أرّق نظام السادات كثيراً، وزلزل العرش من تحته. وعلى  جانب آخر، برزت ظاهرة (الغناء المقاوم)، التى  يقودها - إلى جانب الشيخ إمام- عدلى فخرى.

وقد انتظر المصريون عامين على السادات، الذى أعلن أن عام 1971 هو عام الحسم للقضية سلماً أو حرباً. لكن الصبر نضب، في الوقت الذى لم ينضب فيه ميراث الغضب لدى هذا الشعب. وسرعان ما نشبت انتفاضة طلابية جديدة في عام 1972، تعبيراً عن استياء المصريين من مرور عام الحسم دون أن يحسم شيئاً. وقد تحجج السادات أن قيام الحرب الهندية الباكستانية آنذاك، هو الذى أدى إلى عدم اتخاذ أية إجراءات عسكرية تجاه الاحتلال الإسرائيلى، نتيجة لانشغال المجتمع الدولى بنتائج الحرب التى دارت في شبه القارة الهندية. وهكذا تحول (عام الحسم) إلى (عام الضباب)، والتعبيرين كانا من عنديات السادت نفسه.

وعندما أحس السادات بقوة اليسار المصرى، وسيطرته على كل من الحركتين الطلابية والعمالية، اتخذ أسوأ قراراته على الإطلاق، بالعفو الشامل عن أعضاء جماعة الإخوان المسلمين وعلى رأسهم عمر التلمسانى المرشد العام، لمواجهة الاتجاهات اليسارية. في نفس الوقت بدأت بعض الجماعات الجهادية والتكفيرية في الخروج من عباءة الجماعة، وكان أشهرها جماعة التكفير والهجرة، والجماعة الإسلامية، وجماعة الجهاد.

لقد أدى العفو عن أعضاء جماعة الإخوان إلى ميلاد تيار جديد بعملية قيصرية، أجراها له بطلاه (العثمانين): عثمان أحمد عثمان، ومحمد عثمان اسماعيل محافظ أسيوط آنذاك وأمين لجنة التنظيم بالاتحاد الاشتراكى. لقد استولداه ورعياه، حتى تمكن من الوقوف - جنباً إلى جنب- مع تيارى اليسار المصرى والقومى العروبى، ليصبح  لجماعات الإسلام السياسي موطئ قدم داخل حرم الجامعة، مما أدى لاحقاً إلى نتائج كارثية.

 

ورغم ذلك نشبت انتفاضة 1972 قوية هادرة، واستمرت حالة الشد والجذب ما بين اليسار المصرى، وفي مقدمته الجماعة الطلابية، وبين النظام الذى بدأ يعيد إنتاج توازن القوى في المنطقة، لتصبح كل أوراق اللعبة في يد الأمريكان وحدهم، بعد أن ألغى السادات اتفاقية الصداقة المصرية مع الاتحاد السوفيتى.

في هذا الجو المغلف بالضباب، والذى زادته سياسات السادات تعقيداً، تشكلت موجة جديدة من حركات الرفض الطلابية، بما يمكن أن نطلق عليه – مجازاً- حركة " الكعكة الحجرية"، والتى قامت باحتلال ميدان التحرير والاعتصام به في عام 1972. وقد أسهمت تلك الحركة الضاغطة فى التعجيل باتخاذ قرار الحرب، الذى كان يُعد مطلباً شعبياً بامتياز.

كان المصريون يرون فى هذا القرار أنه ضرورة وجود أكثر منه ضرورة حياة. فلم تنهك الهزيمة المصريين بنفس القدر الذى أنهكتهم فيه حالة اللاسلم واللا حرب، ووضع قضية الشرق الأوسط داخل الثلاجة الأمريكية الضخمة، وفي أبرد منطقة بها . خاصة وأن السادات لم يستكمل مابدأه عبد الناصر بشن حرب الاستنزاف، التى أوجعت الإسرائيليين على مدى عامين، واتخذ قراره بالامتناع عن إطلاق النار، فى الوقت الذى كان  الجيش المصرى قد استكمل فيه بناء قواعد الصواريخ. لذلك شكلت انتفاضة الكعكة الحجرية درجة من السخونة أذابت الجمود المقابل في اتخاذ القرار المصرى، حيث كان النظام يخشى أن يلاقى هزيمة أخرى لا يقدر أن يدفع ثمنها.

ومن عام الحسم إلى عام الضباب، كانت مصر تمضى بحركة القصور الذاتى باتجاه الانتفاضات الشعبية، فى محاولة للوصول بها إلى حافة الحرب. إن تلك الحرب يمكن أن يقال أنها فُرضت على النظام فرضاً، حيث كان يتمنى حل القضية بشكل سلمى، مهما كانت التنازلات التى كان على استعداد لأن يقدمها. لكن فشل المبادرة التى قدمها السادات في العام 1972، أدى إلى دوران آلة الحرب رغماً عنه.

 

في كل الانتفاضات السابقة كانت سامية طرفاً فاعلاً وأصيلاً بها، إذ شكلت لجنة لرعاية المقبوض عليهم، وجمع التبرعات، وتقديم العون إلى ذويهم. بالإضافة إلى الضغط المستمر على النظام للاستجابة لمطالب الطلاب العادلة، والعفو الفورى عن المقبوض عليهم منهم. كانت تزداد بهاءً وجلالاً في عيني صلاح، الذى لم يحضر سوى الانتفاضة الأولى، وحرمه الالتحاق بالجيش من المشاركة فى الانتفاضتين التاليتين. وربما كان -في أعماقه- راضياً عن عدم المشاركة نتيجة لسيطرة إحساسه باللاجدوى على ذاكرته، رغم أنه لم يصرح بذلك، ربما للحفاظ على الشعرة التى كانت تربطه بسامية، والتى كان حريصاً على ألا يقطعها أبداً.

Share
Click to listen highlighted text! Powered By GSpeech