Click to listen highlighted text! Powered By GSpeech
Get Adobe Flash player
مستمرين معاكم بإذن الله 2008-2024 **** #لان_لجيشنا_تاريخ_يستحق_أن_يروي **** ***** إنشروا تاريخنا وشاركونا في معركة الوعي **** تابعونا علي قناة اليوتيوب 1100+ فيديو حتي الان **** تابعونا علي صفحات التواصل الاجتماعي** أشتركوا معنا في رحلاتنا لمناطق حرب أكتوبر **** يرجي استخدام خانة البحث **** *** تابعونا علي تليجرام - انستجرام - تويتر

روايه - رأس العش الثانيه - الجزء الثاني

     

إهــــــداء :

         إلى سمير عبد الرحيم

أحد رجال الله الذين اختصهم بقضاء حوائج الناس .. فآمنه من خوف.

 

القائد العظيم

              هو الذى يستطيع أن يلغى الصدفة ..بطريقة شبه حسابية .

                                                                                فون كلاوزفتز

 

بدأ يلملم أحداثا ًكثيرة تحتشد بها ذاكرته، وهى تمر الآن أمام عينيه مر السحاب، فيربطها معاً. سامية - مثلاً- ابنة الطبقة البرجوازية العليا في المجتمع، تخلت عن أحلام والديها - الأستاذين الجامعيين- فى أن تندرج مثلهما داخل هذه الطبقة. لقد تنازلت عن كل مكتسباتها الاجتماعية الكثيرة، لتكون- فى النهاية- نفسها، وليست مجرد ظل شائه لوالديها. فقد أصرت أن تدافع عن حقوق الفقراء، بل وكانت تعتبر نفسها واحدة منهم، وتردد له دائماً أنهم" أهلها وناسها".

لذا، ورغم أنها وحيدة والديها، فقد تركت فيلا المعادى، لتسكن فى شقة استديو عبارة عن حجرة وصالة، تقع فوق سطح إحدى العمارات الكائنة بحى عابدين الشعبى. كانت الشقة شبه خالية إلا من بعض الأثاث البسيط والضرورى، ورغم ذلك كانت  سامية تبدو سعيدة على الدوام. وكلما جادلها فى قرارتها (المجنونة) تلك، كانت تستدعى النموذج النضالى الأشهر، ومثلها الأيديولوجى الأعلى:                                      

ابن الباشا الذى كان أبوه رئيساً لوزراء مصر عند قيام الثورة، والذى تنازل عن ميراثه الضخم من أبيه، لأن ذلك كان ضد قناعاته المعتقدية. امتهن المحاماة ليدافع عن قضايا العمال مجاناً، وليترافع - دون أتعاب - فى قضايا الرأى، حتى لمخالفيه فى المعتقد. لقد اختار أن يكون فقيراً بإرادته، لا غنياً بإرادة أسلافه، أو تحت ضغط  من أبناء طبقته.

قالت له سامية ذات مرة:

- لوكنت عايز تفهمنى لازم أولاً تفهم الشعب المصرى، لأنى مصرية حتى النخاع. ولوعايز تعرف الشعب المصرى بجد يبقى لازم تقرا تاريخه ..

قال لها:

- معنى كده إنى عايز عمر إضافى علشان أقدر أفهمك

أجابته فى هدوء:

- الموضوع أبسط من كده بكتير.. تعرف - مثلاً- إن مصرجربت أكتر من ستين نوع من الاستعمار خلال التاريخ، لكن مافيش استعمار واحد قدر يكسرها؟. الشعب ده عبارة عن معدة ضخمة بتلتهم الغزاة، وبعد كده بتصب عليهم عصارتها، علشان تصبغهم زى ماهى عايزة، واللى ماتقدرش تهضمه بتطرده إلى غير رجعة. الإسكندر الأكبر جالها غازى، لكنه بقى مصرى زينا.. بنى المعابد لآلهتها وعبدهم. ومن بعده البطالمة..نسيوا إنهم إغريق وبقوا مصريين يمكن أكتر مننا، وغيرهم كتير:نوبيين وأفارقة وإغريق وفاطميين وأيوبيين وإخشيد، وإشى مماليك برجية ومماليك بحرية وعثمانيين.. وأما الهكسوس والحيثيين ، فطردتهم مصر لأنهم رعاة، وحياة الحضارة ماتتفقش معاهم، علشان كده لفظتهم وكان مصيرهم الزوال، مش من المنطقة فقط، إنما من التاريخ كله. الاستعمار الفرنسى هو استعمار ثقافى بالدرجة الأولى،لكن الفرنسيين لما جم مصر هى اللى استعمرتهم ثقافياًً، وبقت مصر بالنسبة لهم "ولع فرنسى". وده السبب إن الشعب ده مليان بالنماذج العظيمة، اللى تليق بتاريخ بلده

- بتتكلمى عن الشعب ده وكأن ما فيش نماذج زى خنفس ومحمد بك أبو الدهب..وغيرهم كتير

- دا صحيح.. كل شعب فيه الخونة وفيه المجرمين، لكن دول الاستثناء الل بيأكد القاعدة، وما يقدرش ينفيها

صمتت برهة كأنها تستعيد التاريخ بأكمله، ثم قالت:

- من الشعب ده - مثلاً-  سمعت عن واحدة اسمها (أم الأبطال)؟

استطردت حينما لم يجب:

- المفروض إنك كجندى تعرفها أكتر منى.. عموماً الست دى اسمها راوية عاشور، ومن يوم ما وقعت الهزيمة وهى عايشة فى الجبهة بين الجنود.. بتمرعليهم باستمرار، تشجعهم وتحل مشاكلهم ومشاكل أسرهم فى الحياة المدنية.. بتجمع لهم هدايا وترفيه، وبتجيب لهم إعانات وشقق، علشان يتفرغوا للمهمة الأساسية المكلفين بيها، وكمان علشان مايحسوش إنهم وحدهم، إنما الشعب كله وراهم. دايماً معاهم وهى فى الجبهة، ومعاهم كمان وهى فى بيتها.. علشان كدة سموها أم الأبطال

استمرت سامية بحماس:

- تحب أجيب لك نماذج تانية من الشعب الغريب ده، علشان تقدر تقرانى كويس ؟

استطردت:

- خد عندك أم كلثوم- مثلاً- وهى فى السن ده، ومش محتاجة لشهرة ولا لنفوذ، فضلت تسافر من بلد لبلد، تغنى وتجمع فلوس للمجهود الحربى، أرض تشيلها وأرض تحطها.. كل ده علشان إيه؟ والكابتن غزالى وفرقة (ولاد الأرض)، اللى رفضوا يغادروا السويس، وفضلوا مصرين يعيشوا بين أنقاضها،علشان ما يغنوا للجنود فى المواقع، ويحنّوا قلب أم الشهيد، زى ما أغانيهم بتقول.. وماتنساش عبد المنعم رياض، اللى ساب مكتبه المكيف، وراح الجبهة علشان يموت بين جنوده على الخطوط الأمامية

وبعد فترة صمت قالت:                                                                       

- هم دول الناس اللى متسقين مع أنفسهم، واللى انا أحب أكون زيهم مهما كان التمن اللى ها ادفعه

ثم قالت فيما يشبه الهمس، وكأنها توجه الخطاب إلى نفسها:

- فهمتنى دلوقتى؟

*****

أخيراً وصل إلى رأس العش

تحسس طريقه إلى داخل الموقع، تمكنت أقدامه - رغم الظلام-  من اصطياد المدق.عن يمينه وعن يساره أحس بعيون الألغام تخترق الطبقة الترابية الرقيقة التى تغطيها، وتلمع في الظلام كعيون القطط المتوحشة. تباطأت خطواته، وسار محاذراً من خلال ثغرة فى الحقل. كانت قدمه تمتد أمامه كقرن استشعار، وحين لا يرى ضوءً مبهراً أو يسمع صوت انفجار، مما يعنى شرك أو لغم، يمد قدمه الأخرى. ورغم أنه كان يستطيع أن يجوب الموقع  معصوب العينين قبل قيامه بإجازة، إلا أن الأمر يبدو كما لو كانت الذاكرة المدنية تقوم - عادة – بالتشويش على ذاكرة القدمين، بعد العودة من الإجازة مباشرة.

- قف من أنت؟

بدا وميض السونكى الفضى - تحت ضوء النجوم- وكأنه معلق في الهواء، ومن يمين "الهيش" ظهر شبح يحمل بندقية، ويسددها باتجاهه. كانت الخوذة قد التهمت نصف وجهه العلوى، فلم يتعرف عليه وثبت في مكانه.

- الحلو ؟

- أنا صلاح

سمع صوت الأجزاء المتحركة للبندقية تنسحب للخلف، ثم ترتد إلى الأمام، أحس بالرعب

- الحلو؟

- أنا صلاح عبد الدايم، هاعرف الحلو إزاى وانا  لسه راجع من أجازة؟

ثم أردف:

- مين انت ؟

- عبد الستار

ارتفع السونكى في ربع دورة إلى أعلى، وأقبل الشبح مسرعاً، واحتضنه بعد أن تعرف إلى صوته:

- حمدالله ع السلامة يا ابو صلاح

-  الله يسلمك يا أخى.. لبشتنى..

ثم تساءل:

- إيه الأخبار ياعُبَد ؟

أجاب عبد الستار ضاحكاً:

- ولا حاجة.. كل شئ زى ماهو.. بحطّة إيدك

 

بعد حديث قصير سار في اتجاه الملجأ، بينما تدوى فى أذنه كلمات عبد الستار، ليتاكد لديه الإحساس باللا جدوى. تذكر أن السينما المصرية ظلت تكرر كثيراً عبارة: "احنا فى عصر السرعة" فى كل أفلامها، كى تؤكد على أننا في عصر التحولات المستمرة والدائبة، حتى فقدت تلك العبارة معناها. لأن السرعة - رياضياً - هى معدل تغير المسافة بالنسبة للزمن. المصيبة أن إحساسنا بالمسافة غائم، وإحساسنا بحركة الزمن منعدم أصلاً. العالم يتغير من حولنا فى كل ثانية ونحن نيام، نكتفى عادة برفع شعارات مستهلكة، أو بأن نضع ماضى العرب الذهبى فى مقابل حاضر الغرب الذهبى، لكى ننهى مباراتنا الحضارية مع الغرب، والتى لم تُقم أصلاً، بالتعادل.

فى المرحلة الثانوية سأل مدرس الفلسفة عن تعريف لقانون التغير، فأجاب المدرس ساخراً:

- التعريف هو (كل شئ يتغير، إلا قانون التغير)

لكن هاهو الواقع يفسد على المدرس سخريته، ويطأ القانون الأعظم ببيادته. تلك هى لازمة التخلف، أن تظل المسافة بين النظرية والتطبيق شاسعة، حتى لو تحولت النظرية إلى قانون.

هبط بضع درجات تحت سطح الأرض، ثم دخل إلى (قفص القرد) كما كانوا يسمونه. سمع غطيط زملائه المستغرقين فى نومهم بعد معاناتهم اليومية، مابين التدريب والخدمة وأعمال التجهيز الهندسى الشاقة. تفحص وجوههم واحداً واحداً، أشفق عليهم مما هم فيه، ولم يحس بأكثر من ذلك. لقد كان يراهم (كائنات بائسة)، ضحايا لكوارث لادخل لهم بها.. يطحنهم الفقر ويؤازره فى ذلك المرض، ورغم ذلك كانوا مطالبين أن يصبحوا أبطالاً، كى يصححوا أخطاءً لم يرتكبوها. فعلاًً..الحياة بالنسبة لهم غير عادلة،

خاصة وأنهم لايملكون سوى حلم واحد: الستر، ورغم ذلك لم يجبهم أحد سوى فرعون الفلاح الفصيح، إذا صحت الحكاية طبعاً. ربما لذلك أحبوا عبد الناصر وتغاضوا عن أخطائه، لأنه تبنى حلمهم البسيط، لكن الموت كان لهم بالمرصاد، والآن العدو.

ألقى بحقيبته على أرضية الملجأ مهتدياً بضوء لمبة الجاز الشاحب، حيث السناج يقترب من أسفل الزجاجة، فتشع من الظلام أكثر مما تشع من النور.

وحين ألقى بجسده فوق (نمرته).. كان قد نام.

*****

 

في صباح اليوم التالى بمجرد أن استيقظ باكراً بعد الخامسة صباحاً بقليل، ناداه الشاويش رجائى الذى كان يستعد لتغيير أفراد الخدمة، وأبلغه بأنه مكلف) برنجى( الخدمة النهارية، والتى تمتد من السادسة صباحاً وحتى العاشرة.

قال له وهو يحمل الزمزمية ليطـُس وجهه بالماء:

- على طول كدا ياحصّول، وانا لسه راجع بالليل ؟

فرد الشاويش رجائى ساخراً:

- انت في جيش يا (نوغّة) !

 ابتسم فى سريرته، ربما لأنه توقع تلك الإجابة تحديداً، والتى صارت إحدى اللوازم الأساسية للرقيب رجائى. كان الجنود يحبونه، بينما يكرر محاولاته المستميتة لإثبات أن عسكريته (مُرّة)، رغم أنه عادة ماكان يفشل فى ذلك. كان معروفاً عنه أنه ما من مرة تسبب فى مجازاة جندى، إلا فى حالة النوم فى الخدمة، والتي كان يراها نوعاً من الخيانة، حتى ولو لم تكن مقصودة. وفى المقابل، فإنه كان يسعى لدى القادة لرفع أى جزاء يوقع على أى جندى، مهما كلفه ذلك من إلحاح مع الضباط، بعد أن يضمن ذلك الجندى ب(رقبته)، ويتكفل  بألا يصدر عنه ذلك الخطأ مستقبلاً. فإذا ما داعبه أحد الضباط، وقال له:

- طيب افرض إن الخطأ ده اتكرر ياحصّول؟

كان يجيب على الفور:

- يبقى سيادتك توقع الجزا عليا أنا

ثم يردف بحماس:

- ومضاعف كمان

*****

مضى باتجاه نوبته.

في برج المراقبة الذى يرتفع عن الأرض عشرين متراً، وضع أدواته:

سِجِل الملاحظة، نظارة الميدان، والبوصلة. وعن يساره استرخت البندقية فوق قبة الخوذة، التى كانت تشبه ثدياً مشبوباً يقترب من لحظة الملامسة.

بدت سيناء بعيدة بعداً سحيقاً

اندهش ، كان يظن أنها لا تبتعد عن البرج إلا بمائتى متر فقط، لكنه في هذه اللحظة أحس أنه يراها للمرة الأولى، فتذكر الحكمة التى كانت أمه ترددها دائماً:

- البعد جفا.

الهواء يحرك أعواد الهيش، فتتسع المسافة فيما بينها ثم تضيق، وتبدو الألغام الوتدية من بين الهيش كقطيع من العقارب الصغيرة، المشدودة بعضها إلى بعض بسلك رفيع،لا يستطيع أن يراه إلا بنظارة الميدان. في مواجهته كانت شجرة محترقة، تستحلب غذاءها من بين طبقات الملح، وقد نُزِعت عنها أوراقها بتأثير الخريف والنابالم ووطأ البيادات.

" الحلو فايت على أسوان .."

صوت محرك عربة يأتى من الجانب الآخر

دوّن في سجل الملاحظة الوقت والتاريخ، ونوع المركبة.

وعلى الجانب الآخر أيضاً، لوح له جندى ذو لحية طويلة، شعره مسترسل إلى ما دون شحمة الأذن. ومن فوقه كان العلم الإسرائيلي ذو الخطين والنجمة السداسية، يهتز مع نسمة هواء. لقد تعود على رؤية هذا العلم كلما رفع رأسه خارج الخندق، حتى أدمنه، مثلما أدمن عذاباته اليومية.

عاد بذاكرته إلى الوراء.. إلى شهر مايو1967، حين أعلن عبد الناصر عن إغلاق مضيق تيران الواقع فى خليج العقبة، أمام الملاحة الإسرائيلية. كان الجميع يدرك أن هذا القرار هو بمثابة (إعلان حرب)، لأن القادة فى إسرائيل - وعلى رأسهم إيجال آلون- قد أعلنوا من قبل أن هناك أربعة مواقف تستوجب فوراً القيام بضربة وقائية، من بينها إغلاق مضيق تيران. لقد كان هذا المضيق مغلقاً بالفعل فى وجه الملاحة الإسرائيلية حتى عام1956، وقد سُمح لإسرائيل بالعبور منه مقابل انسحابها من سيناء إبان العدوان الثلاثى على مصر.

كانت الروح المعنوية للمصريين فى ذروتها، فقد آن الأوان ليعوضوا هزائمهم السابقة. ولم لا وهم موقنون أنهم يملكون أقوى جيش فى الشرق الأوسط، وإن هى إلا ساعات - من بدء الحرب - حتى يكون الجيش المصرى على مشارف تل أبيب. لذا ارتفع شعار:

" عبور العقبة بقطع الرقبة "

 ولم يخطر ببال أوخاطر فرد واحد فى مصرأننا بصدد كارثة كبرى، ليس لها مثيل فى تاريخنا الحديث.

على أن أكثر البشر تشاؤماً لم يكن ليتصور أن تصل الحال إلى ما وصلت إليه، حيث يقبع الجنود الإسرائيليين - الآن- على مرمى حجر من الضفة الغربية للقناة ، بعدأن استولوا على سيناء كلها دون مقاومة تقريباً، وبطريقة أذهلت حتى الإسرائيليين أنفسهم.

*****

 

تأمل نقطة العدو في الكيلو 19 جنوبى بور سعيد، وهي ثالث نقاط خط بارليف الحصينة من اتجاه الشمال.من الأمام طبقات كثيفة من أسلاك الكونسرتينا الدائرية "الشائكة"، صُفت بين زواياها الحديدية عدة حقول من الألغام. وعلى أجناب النقطة امتد الساتر الترابى شمالا ً، حتى نقطة الكيلو 10، وجنوباً حتى نقطة (التينة)، بارتفاع يزيد عن الخمسة عشر متراً،فى نفس الوقت الذى ينحدر فيه على الضفة الشرقية للقناة بزاوية شبه قائمة.

ومن خلف النقطة امتدت حقول الألغام بنصف دائرة في صفوف كثيفة، وبدت خلفها "مصطبة" دبابات بعرض مائتى متر، يمر من بينها مدق ترابى عريض، يصل إلى بالوظه شرقاً على مسافة 25 كيلومتراً.كانت المصطبة تتخذ شكل الزاوية المنفرجة، وتبعد عن النقطة بحوالى 2 كيلو متراً.

 لم يستطع أن يميز شيئًا آخر .

 أحس بوخزة مفاجئة، كانت ملاحات جنوب بور فؤاد بيضاء زاهية عن يسار المدق، وعن يمينه كانت الملاحات طينية ضحلة، يقترب لونها من السواد. من هذه المقابلة الكونية أدرك ما الذى يعنيه الخيط الأبيض والخيط الأسود.

أيقن أن الحقيقة هى غياب الإبهام عن العقل

أما ما يراه الآن فيتميز بالوضوح .. الأسود أسود، والأبيض أبيض. لامكان للبين بين، ولا وجود للتدرجات اللونية ، التى عادة ما تقودنا باتجاه الخداع البصرى، وبالتالى تصرفنا عن الحقيقة. الحواس - إذن- هى أعدى أعداء العقل، لأنها تقوم بنفس دور الزوجة الخائنة طوال الوقت.

كانت نوبته قد انتهت، صعد إليه أحد زملائه، فسلمه أدوات الملاحظة. هبط سلم البرج، ثم توجه إلى الملجأ.

*****

الرابعة بعد الظهر

كان الملجأ خالياً عندما دخله بعد انتهاء نوبته، بقية زملائه إما خدمة أو يحضرون التعيين من مطبخ السرية. أحس بالجوع، فحاول أن ينام حتى موعد الإفطار حوالى الخامسة والنصف مساءً، فغمغم :

ما أطول أيام رمضان !!

 

- (مالك ؟

- ...

- ألا تريد أن ترانى؟

- أريد

- متعب؟

- بل جائع

- تأكلنى ؟

- نتوحد).

 

استيقظ على الضجيج..الساعة الآن الخامسة، ولم يتبق على آذان المغرب سوى وقت قليل. ربما يكون قد استيقظ بفعل صوت أدوات التعيين في اصطدامها المتعجل بأرضية الملجأ، وفحيح وابور الجاز، ولغط الآخرين الذين بدأوا في تجهيز (سُفرة) الإفطار على الأرض، فاليوم هو ثامن أيام رمضان.

قال عبد الستار ضاحكاً:

- نوم العوافى

لم يرد كالعادة..

تثاءب، ثم نهض عن نمرته، حمل الزمزمية إلى خارج الملجأ، وعاد بعد أن أزال ما تبقى من آثار النوم، عندئذ أحس أن الجفاف يكاد يشرخ حلقومه، وأن نقص النيكوتين يضغط على أعصابه. لم يكن الامتناع عن الأكل أو الشرب مايجهده فى نهار رمضان, لكنها السيجارة. طالبته سامية ذات مرة بالامتناع عن التدخين، فرد عليها ساخراً: (طيب..وأعيش ليه؟).

 

قال سمير كتكوت:

- شد حيلك يا "خواجة"

- مالكش دعوة بيه يا كتكوت.. الراجل كتر خيره صايم معانا طول اليوم

- يا عم تلاقيه بياكل من ورانا

عقب سليمان تادرس بسرعة:

- والله ماحطيت حاجة في بطنى

- والمسيح الحى ؟

 

تصاعد بخار هائل مصحوب برائحة خاصة، لا تخطئها الأنف، حين امتلأت الطاسة بقطع اللحم والسمن النباتى. ورغم ضيقهم بنوعية (اليَمَك) التى كثيراً ما تتكرر، إلا أنه بدا شهياً، باعتبار أن (الجوع أحسن طباخ)، كما يقولون.

قال الجندى صبحى بلهجته الريفية:

- تعرفوا، أبويا كان دايماً يقول: أحسن حاجة في الدنيا أكل اللحم، ودخول اللحم في اللحم

- وطبعاً كان بيعمل بالنص الأولانى بس

رد سمير كتكوت ساخراً:

- والنعمة لا الأولانى ولا الثانى.. تلاقوا أبوه دا  حتة راجل (كَحُول) عمره ما شاف اللحمة، علشان كدة لما شاف مراته ليلة الدخلة اتجنن..

ضجوا بالضحك من تلك (القفشة)، وكان أسبقهم إلى ذلك صبحى نفسه، رغم أنه قال لكتكوت:

- اخرس يا اسكندرانى

عقب عبد الستار ضاحكاً:

- على رأى النكتة ياصبحى ..اسكندرانى اتجوز اسكندرانية، خلفوا ولد صعيدى

- لأ مفتح ياقفل

وجه عبد الستار حديثه إلى صلاح عبد الدايم فى محاولة لجره إلى عالمهم:

- ماتقول حاجة يا بتاع الفلسفة، ولا كلامنا مش على هواك ؟

 

(رآها - فجأة - تجلس في مؤخرة الملجأ، قرب فتحة الهروب. كانت تبتسم ابتسامتها التى تعذبه، رفعت حاجبيها وهمست ساخرة:

يا بتاع الفلسفة !! )

 

قال سليمان:

- مالك ياصلاح؟

- ....

- تكونش زعلت من كلامنا ؟

رد كتكوت ساخراَ:

- وهو من إمتى ماكانش زعلان يابا؟

ثم استطرد:

- سيبك منه..علشان قرا له كتابين عامل لنا فيها (فِلّة)

 

(كيف يفهمون ؟

إنهم مجرد مجموعة من الكائنات الأرضية التى لا ترى أبعد من باب الملجأ..

كأن شيئا لا يعنيهم.

لقد خسرت حياتى، وهم أيضا يخسرونها ..

الفارق الوحيد بيني وبينهم أننى اكتسبت وجودى قطعة قطعة، وقد فقدته كلاً واحداً. أما هم .. فقد اكتسبوه كلا ًواحداً،وهاهم - الآن- يفقدونه قطعة قطعة.

الكل خاسر

ورغم ذلك فإنهم يُقبلون على حياتهم في نهم، أو في لامبالاة..

أنا مخرب، وهم فارغون، هذا كل ما في الأمر .

الإنسان لا يتعالى على خرابه إلا باللامبالاة أو التصوف.

بالقطع هم ليسوا بلداء، وكذلك فإنهم ليسوا متصّوفة، إنهم جنس ثالث أورابع .. أما أنا ..)

 

سمعوا صوت جندى يؤذن لصلاة المغرب:

" أشهد أن محمداً رسول الله"

امتدت أيديهم إلى الطعام، بعد أن تشهّد المؤذن

" اللهم إنى لك صمت .. وعلى رزقك أفطرت".

 

انتهوا من الإفطار

لاحظ أن حالة من الصفاء تشع فى أجواء المكان وتكتنف أرواحم، فتفيض على وجوههم ابتسامات الرضا. كان يندهش كلما رأى أحدهم، وهو يُقبّل يده عن ظهر قلب، بعد أن يأكل مثل هذا الطعام، ثم يردد: "اللهم أدمها نعمة، واحفظها من الزوال". هل هذه قناعة، أم مجرد قلة حيلة؟

 

تذكر تحفة أوسكار وايلد الروائية الخالدة (صورة دوريان جراى)، والتى كانت تؤكد على أن ما يدور بدواخلنا عادة ما ينعكس على وجوهنا، فتصبح وجوهنا مجرد مرآة لأرواحنا. اندهش لتلك الحقيقة..هل يمكن لأرواحهم أن تكون بهذا الصفاء الذى تبدو عليه تلك الوجوه؟ هاهو يكتشف فجأة هذا العالم الصغير الذى يحيط به، والذى لم ينتبه إليه من قبل، وكأنهم يحاولون- دون أن يدروا- إعادة اكتشافه.

 

أدرك أن الفارق بينه وبينهم أنهم يعيشون فى عالم مستقر، وفى سلام مع نفسه. بينما هو ما يزال يصر، وبإرادة حديدية، أن يعيش فى عالم مهوش ومتوتر، وبالتالى لا يعرف للسلام الداخلى أى  معنى.

 

(قلت لك من قبل أن الثرثرة تقتل الفعل)

*****

 

صعد درجات الملجأ ليتسلم خدمة البرنجى الليلية.

كان الظلام سائداً، والهواء رطب. وضع الخوذة فوق رأسه، وحمل بندقيته وشنطة الذخيرة وجهازالرؤية الليلية. اتجه إلى المعدية الخشبية فوق ترعة الاسماعيلية، ومن فتحة ضيقة أسفل طريق المرشدين الذى يرتفع عن الأرض بعلو مترين، عبر إلى الجهة الأخرى، في الخندق المطل على قناة السويس.

 

المياه منخفضة لغياب القمر وهادئة.

تسمّع أصوات أسماك  "اللوت" "والقاروس"، وهى تخرج للبحث عن فريسة.  تتكرر الحياة في الماء مثلها فوق سطح الأرض،حيث البقاء – دائماً- للأقوى.في هدوء، قام بتركيب جهاز الرؤية الليلية على البندقية، ضغط على زر التشغيل، ونظر من خلال "العينية". استحال الظلام داخل الجهاز إلى ما يشبه ضوء الفجر، الممتزج بصفرة خفيفة، ومن بين أعواد الهيش- خلفه- تعالت أصوات صراصير الليل.

مسح قطاع خدمته بجهاز الرؤية، وأعاد زر التشغيل إلى وضع الراحة.

 

( أيهما تحبه أكثر .. أكل اللحم ، أم دخول اللحم في اللحم؟

- ارحلى

- ليس قبل أن تجيب

- صدقيني.. لا أعرف

- أنا  أم الخبز؟

- قلت لا أعرف

- ومتى ستعرف؟

- ... ) .

 

مسح مرة أخرى قطاع المراقبة، وثبت نظراته - رغماً عنه - على نقطة العدو القوية، كانت تبدو كجبل صغير، فرآها كما لو كانت تتحرك أمامه حركة خفية، أقرب إلى السكون العنيف، وتضحك مثل كائن خرافى، ثم تمد لسانها المشقوق في اتجاهه. كانت تشبه الوحش، الرابض على أبواب طيبة، ليسأل كل من يمر به سؤالا ً، وحين يعجز عن الإجابة عليه يقتله.

 

أدرك أنه لابد أن يقتل أحدهما الآخر، ليعيد الاتزان إلى هذه الفوضى .كان يعرف أيضاً أنه من المستحيل أن يظل كلاهما مستنداً إلى الفراغ، وفي صدره حربة مسنونة، حركة واحدة إلى الأمام قد تدفع بحربتها إلى صدره أو بحربته إلى صدرها، وفي كلتا الحالتين لم يكن لديه ما يخسره سوى يأسه.

 

(" ما الكائن الذى يمشى في الصباح على أربع، وفي الظهيرة على اثنتين، وفي المساء على ثلاث ؟".

إنها تسأله نفس السؤال القديم..

 

تقترب حربتها أكثر من صدره وتخترق طبقة اللحم الرقيقة. يحس بألم، فيستند إلى جدار الخندق، وتموت صرخته حين يتخيل أن الضفة الأخرى تتحرك تجاهه.

الحركة بطيئة لكنها مؤكدة.

ضاقت المسافة بينهما، حتى لا يكاد يرى من المياه سوى بعض الأحجار الجيرية، التى تدبّش الشاطئ القريب.فى حين امتلأ الخندق بأعداد هائلة من الأسماك الباحثة عن غذائها، سدت عليه الاتجاهات الأربعة.

 

نظر إلى السماء في ضراعة وحاول أن يصرخ، لكن أصوات صراصير الليل كانت أعلى من صرخته. ظن أن الجواب على سؤال الوحش سوف يوقف تحرك الضفة الأخرى باتجاهه، فتحشرج صوته.

*****

 

حل الظلام، وسكن الجنود داخل ملاجئهم بعد الإفطار. ومن بعيد كانت هناك بعض بقع صغيرة من الضوء تقترب صوب الموقع من اتجاه الكيلو 14.

بعد قليل تأكد الجندى الخدمة على بوابة السرية أنها أضواء بعض العربات، التى حجزت أنوارها خلف عاكس الضوء الميدانى. كانت  تسير على المدق الترابى الموازى للساتر دون أن يصدر عنها صوت.

وصلت العربة الأولى إلى مدخل السرية.

 

أشار لها الجندى بحركة من يده لتمر، بعد أن تعرف على الضابط الذى يجلس جوار السائق. دفع البرميل الذى يتوسط المدق جانباً، فاستمرت العربة في المسير، وصوت المحرك يكاد يختنق. كان السائق حريصاً على ألا يصدر عن العربة صوت عالٍ، وحين وصلت إلى مكان رئاسة السرية، توقفت.هبط الضابط الجالس بجوار السائق ، واتجه إلى مؤخرة العربة. اقترب منه قائد السرية الذى كان في انتظاره:

- حمدلله ع السلامه يارؤوف

- الله يسلمك يافندم

- كله تمام ؟

- تمام

 

تحرك الضابط إلى مؤخرة العربة، ونزع المشمع الذى كان يغطى حمولتها الراقدة في أرضية الصندوق الخلفى. بمساعدة السائق، فتحا الباب الخلفى للصندوق، وأشار الضابط بيده، فبدأت حمولة العربة في القفز إلى الأرض. خمسة عشر جندياً من السرية الأولى بمعداتهم، كانوا جميعاً حريصين على عدم إصدار أى صوت أثناء هبوطهم أو أثناء إنزال الذخائر.

 

اتجهت العربة إلى تجويف في باطن الساتر الترابى، بعد أن تم تفريغها تماماً، ثم قام السائق بنصب شبكة التمويه فوقها. توالى وصول العربات، كل منها تفرغ حمولتها في صمت، ثم تتجه إلى المكان المخصص لها، حتى وصل عددها إلى ثلاث عشرة عربة. سبع منها خاصة بالسرية الأولى، والست الباقية خاصة بسرية هاون الكتيبة.

 

حاول أحد الجنود- الذين دفعهم فضولهم إلى الخروج من ملاجئهم- أن يعلق، لكن (زغرة) من الصول خيرى قطعت عليه جملته، فانسحب إلى ملجئه وهو يغمغم. في نفس الوقت كان يقوم فيه قائد سرية الهاون بالتتميم على الأفراد والأسلحة والمعدات.

 الصمت ثقيل، ولسعة خفيفة من هواء الخريف المشبع بالرطوبة واليود، تغطى الجلد بطبقة لزجة، أو كما يقول أهل بورسعيد (الجو يَزَب).

*****

 

أصدر قائد السرية الثانية التى تحتل الموقع أمره بإخلائه  في نفس الليلة خلال ساعة واحدة، والتحرك إلى الكيلو 21، في الفاصل مابين التينة ورأس العش.سيطر شعور بالضيق على الجنود الذين فوجئوا بهذا الأمر، حيث أنهم كانوا قد تهيأوا للراحة. زمجر أحدهم لزميله:

- الصبح له عنين ..

لكنه قبل أن يكمل جملته كان يقف كدليل لطابور السرية. ربما لأنه أيقن أن لليل عيوناً كثيرة، خاصة حين تذكر أن إجازته الميدانية لم يتبق عليها سوى يومين.

 

حاول بعض الجنود اصطحاب أشيائهم الأليفة من (العَبَل)، لكن قائد السرية أمرهم بتركها، لأن (المشروع النهارده وبكره بس، وراجعين تانى).

 

تحركت السرية – بعد التتميم عليها- سيراً على الأقدام، إلى موقع الكيلو 21 الذي يبعد عن موقعهم في رأس العش بمسافة 2كم إلى اليمين. حمل كل منهم عتاد الحرب المكون من التسليح الشخصى والخوذة والجربندية وشنطة الجراية والزمزمية، بالإضافة إلى بُلّ القنابل اليدوية والقناع الواقى.

 

كان الرقيب أول بدر قد تأكد قبل التحرك من أن كلا ًمنهم يحمل محتويات الجربندية كاملة، وخصوصاً رباط الميدان. كما أكد على أنه سيتمم في الصباح على علامات الفبر والأقراص المعدنية، حتى لا يتسبب أى جندى في توجيه "ملاحيظ" إلى السرية، أثناء تقييم المشروع.

*****

 

وصلت السرية إلى الموقع المحدد أخيراً أشار النقيب سمير عبد الرحيم- قائد السرية- بيده إلى الرقيب أول بدر، الذى نادى بصوت خفيض:

- سرية قف.. لليمين در

أعطى تماماً لقائد السرية، الذى أصدر تعليمات، مؤكداً على عدم إصدار أى صوت يستدل منه العدو على وجود قوات في هذا الموقع المهجور، ثم أصدر أمراً لبدر بعمل انصراف للجنود بعد تعيين أفراد الخدمة.

 

توجه الجنود إلى باطن الساتر الترابى بحثاً عن بعض الملاجئ للمبيت بها، وقد توجسوا من وجود حشرات أو زواحف تعشش فيها، نظراً لأنها لم تكن مأهولة. أمر قائد السرية جندى المراسلة بفرش بطانية له في الحد اليسار للموقع،لينام عليها. استلقى عليها ، وقد سحب أخرى فوق جسمه لتقيه من الطلّ. كان يرتدى ملابسه كاملة، وبجواره  شدته. وضع الخوذة تحت رأسه، وفوقها بطانية تم تطبيقها لتكون مخدة. شبك كفيه خلف رأسه، واستغرق في التفكير قبل أن ينام.

 

كان متأكداً أن المشروع الاستراتيجي لن يستغرق سوى اليوم وغداً، فالكتيبة لم تستدع الإجازات التى يحل ميعاد حضورها اليوم، إلا أن إحساساً مجهولا ًكان يقلقه. فهو يخشى أن يمتد المشروع إلى أكثر من يومين، حيث أن إجازته سوف تحل بعد ثلاثة أيام، وقد حدد في الإجازة السابقة ميعاد خطبته التى أجلها أكثر من مرة، بسبب ظروف عمله. وآه لو تأجلت هذه المرة !! . أحس بالقلق، فهو بحكم خبرته لا يضمن مكرالجيش وتقلباته، أحيانا ًمن النقيض إلى النقيض.

 

سمع صوت الأغصان الجافة وهى تتكسر، وبعد قليل شاهد عن يساره أحد الجنود، وقد انحنى على راكية من النار ينفخ فيها. تغيرت ملامح وجهه، واكتست بالغضب، نهض عن فراشه الميدانى، وتوجه إلى النار التى ارتفعت فوقها سحابات الدخان، كان الجندى يدعك بسبابتيه في عينيه اللتين تأثرتا به. عندما اقترب من النار ركل ببيادته الكوز الممتلئ بالماء الساخن، نظر الجندى إليه في خوف وحسرة على "تلقيمة" الشاى التى اختلطت بالتراب.كان ضوء النيران أو تصاعد الدخان كافياَ لجذب انتباه دوريات العدو السيارة،خاصة وأن هذا الموقع كان مهجوراً من قبل. تذكر تعليمات قائد الكتيبة بعدم إصدار أي صوت، فابتسم الجندى في سعادة، لأن الظروف قمعت قائده عن المضىّ أبعد من ذلك.

*****

 

حاول أن ينام فلم يستطع، فقرر أن يشغل تفكيره بأية أفكار، ربما يغافله النوم

مرت على ذهنه صورة قائد اللواء السابق، والذى غادرهم منذ بضعة أيام بعد أن رقى إلى رتبة العميد، ليقود أحد لواءات المشاة الميكانيكية. كان يتمنى أن يخوض الحرب تحت قيادته، لشدة إعجابه به، ولثقته المفرطة فى قدرته على اتخاذ القرار الأصوب فى أقل وقت ممكن.

 

تذكر تاريخه المشرف، والذى كان يمثل القدوة الأفضل للضباط الأصاغر. لقد أطلق عليه الطلبة فى الكلية الحربية الاسم الكودى (العنتيل)، حينما كان يُدرس بها مادة التكتيك، وهو برتبة الرائد. كانت تلك الصفة تعبرعن  إعجابهم بوفرة معلوماته، وقدرته الفذة على الإقناع التي تميز بها طوال حياته العسكرية.

 

تخرج العنتيل من الكلية الحربية قبل قيام الثورة بعدة أيام، ولما كان ترتيبه الأول على دفعته، فقد طلبت منه إدارة "كاتم أسرار" أن يختار المكان الذى يرغب فى الخدمة به، كما هو متبع مع أوائل الدفعات. كانت القاعدة السائدة والتى لم يشذ عنها أحد قط، هى اختيار الحرس (الملكى)، لكنه فاجأ الجميع بطلب الخدمة فى (رفح) المصرية. أسقط فى يد من حوله، لأن مثل هذه الخدمة كانت تعد عقابأً للضباط، والمفروض أن تكون منحة. حاولوا إثناءه عنها، لكنه تمسك بها بإصرار، باعتبار أن الضابط الحقيقى هو "ضابط التشكيلات لاضابط التشريفات".

 

فى عيد الأضحى الماضى، والذى قضاه - ككل الأعياد السابقة- بين جنوده، بحيث يمضى يوماً كاملاً فى إحدى الكتائب، جلس فى نهاية اليوم مع النقيب سمير، الذى كان يتوسم فيه خيراً، وفاجأه بجملة لن ينساها طوال حياته:

- تعرف إن أنا واثق تماماً إننا هانكسب الحرب الجاية

اندهش سمير من هذا التاكيد، ثم تساءل:

- وإيه سبب ثقة سيادتك دى ياافندم ؟

رد فى اقتضاب:

- لإيمانى المطلق بجيلكم

ازدادت دهشته أكثر، وتساءل:

- أى جيل يا افندم؟

- جيل الضباط الأصاغر: الملازم والملازم أول والنقيب الحديث

ثم استطرد:

- الضابط قبل النكسة كان مرتبه رقم (1) فى مصر، أى مشكلة تواجهه هو أو أسرته، كان يكفيه أن يرتدى زيه العسكرى لكى تُحل فوراً. فإذا ماوصل إلى سن التقاعد، فهناك وظيفة محترمة تنتظره. علشان كدة كانت وظيفة الضابط مطمع لامطمح

- وإيه اللى اتغير يافندم ؟

ابتسم فى هدوء، ثم قال:

- دفعتك مثلاً.. كام واحد محول من كليات قمة؟

- كتير يافندم.. أقدر أقول أكثر من نص الدفعة

- لما ده يحصل مع ضعف الراتب، اللى تراجع من المرتبة الأولى إلى المرتبة الستاشر، وتراجع معاه بريق الزى العسكرى، لأن الكل أصبح بيلبس أوفرول بالأمر.. ده ما يعطكش مؤشر على حالة التفاؤل اللى عندى؟

- يعنى احنا ماشيين صح ياافندم؟

- أكيد

*****

 

اقترب صوت نباح أحد الكلاب من اتجاه الكيلو 19، عقد قائد السرية ذراعيه فوق صدره، ووقف حائراً. وحين سمع بعض الجنود داخل الملاجئ صوت الكلب تهللوا.

- ابسط ياعُبد .. مراتك وصلت

انفرجت أسارير عبد الفتاح حتى ظهرت مجموعة أسنانه الصفراء، التى تغير لونها بفعل الشاى الأسود والدخان، وصاح:

- عبلة !!

- عرفتوا ياجماعة انها (عُشَر) ؟

أجاب سليمان ساخراً:

- البركة ف عبد الفتاح ياسيدى

ثم أردف عبد الستار:

- على النعمة لانا باعت لمراته ، وقايل لها إنه اتجوز واحدة تانية من بور سعيد

- لأ وإيه .. هايبقى أب

 

اشتمت الكلبة رائحة عبد الفتاح، فاقتربت منه لاهثة، وقد أخرجت لسانها ابتهاجاً بذلك .

لم تكن علاقتها به مجرد علاقة بين سيد وتابعه،إذ كانت تصحبه أثناء قيامه بخدمته الليلية لتؤنسه إن كان مستيقظاً، وكان أحياناً (ما يأخذ تعسيلة) فتقوم هي بواجبات الحراسة، وتتولى إيقاظه في الوقت المناسب، فيشهر بندقيته في أى اتجاه وهو يصيح:

- قف، من أنت ؟؟

لذلك تحولت العلاقة بينهما ، لتصبح على حد تعبير عبد الفتاح نفسه علاقة (أخوية).

كان الظلام يسود الملجأ المهجور، وعندما سحب أحد الجنود نفساً من سيجارته، بدا وجه عبد الفتاح على ضوء السيجارة للحظة، ثم اختفى، وبدفعة واحدة من ساقيها الخلفيتين كانت ترقد في حجره.

*****

 

نهض جنود السرية الأولى من نومهم في الموقع الجديد بالكيلو 19، على صوت محرك عربة قائد الكتيبة الذى يستطيعون تمييزه من بين مئات الأصوات الأخرى. كانت هذه هى المرة الأولى التى يقوم فيها بالمرور على إحدى وحداته الفرعية (من النجمة).

اللهم اجعله خير ..

 

كانوا ينامون وهم يرتدون ملابسهم بالكامل، فلم يمر سوى وقت قصير، اغتسلوا فيه، ثم توجهوا للجمع أمام رئاسة السرية. أبلغهم الصول خيرى أن اليوم مخصص لصيانة الأسلحة والذخيرة، وبعد ذلك شؤون إدارية.

- والمشروع ؟

- امنع الصوت

 

أمرهم بالانصراف وهم مستبشرون

أحسوا أنهم بالفعل في حاجة إلى قدر من الاسترخاء، بعد المجهود الذى بذلوه بالأمس في التحرك. كما كانوا في حاجة إلى بعض الوقت لتجهيز أماكن المبيت الليلى، قبل عودتهم إلى الموقع القديم بالكيلو19

 

صرف كل منهم كهنته، وملأ المزيتة بزيت السلاح، وبدأوا في تنظيف الأسلحة.

بعد أن انتهوا توجه بعضهم إلى طريق المرشدين، ووقفوا في مواجهة الجندى الإسرائيلى الذى يتولى المراقبة من البرج الحديدى على الضفة الأخرى. تبادلوا معه تحية الصباح التى اعتادوها مع الجنود الآخرين في موقع الكيلو 10، والتى عادة ما كانت تتكون من الشتائم والوعيد، وبعض النكات ذات المغزى.

تلك هي الحرب الباردة التى تعلمها الغرب عنهم.

 

استدار أحدهم عندما سمع صوت (تزييق ) المعدية الخشبية من خلفه، فوجد نفسه وجهاً لوجه أمام قائد الكتيبة، الذى لم يكن قد انصرف بعد. ذعر الجندى، وحاول تنبيه زملاءه إلا أن الكلمات انحشرت في زوره، فسكت. أدرك الجنود الآخرون- بالغريزة- أن شيئاً ما يجرى من خلفهم، فاستداروا. رأوا قائد الكتيبة وهو يتابع المعركة الباردة، ويبتسم على غير عادته.

(استر يارب)

 

أشار لهم بالاستمرار فيما يفعلون، فظنوا أنها مجرد خدعة لزيادة حجم الجزاء لاغير، لكن نظرته لهم شجعتهم، فاستمروا. في البداية على استحياء، ومع مرور الوقت اندمجوا فى أدوارهم، فشنوا حرباً باردة على الجنود الإسرائيليين، ربما أقوى مما تفعله أمريكا والغرب على المعسكر الشرقى.

 

لم تمر سوى دقائق قليلة حتى رأى الجنود السابحون طابوراً طويلا ًمن باقى جنود السرية بلباسهم الداخلى، وفي مقدمتهم الصول خيرى،يتوجهون إلي القناة، بينما يهم القائد بالمغادرة، وكأنه لم يأت إلي الموقع إلا لهذا الأمر.

صاح أحد الجنود معابثاً:

- إيه الشياكة دى ياحصّول ؟

- امنع الصوت يا (نمرة)

مد الصول قدميه في الماء البارد، وأخذ يطرطش بهما، حتى يتعود جسمه على برودة الماء. ضرب (غُطس) ومن خلفه الجنود،الذين سبحوا في النصف الغربى من القناة، وهم يتضاحكون.

 

اعتلى الجنود الإسرائيليون سطح النقطة الحصينة، ليتفرجوا على تلك المظاهرة، وتبادلوا - كالعادة- بعض الشتائم والنكات مع الجنود السابحين. استمر الجنود في لهوهم، الذى اتخذ صورة أخرى بعد رحيل قائد الكتيبة، حتى الساعة الحادية عشرة والنصف، حين سمعوا صراخ الرقيب هاشم، الذى أصيب  بجرح عميق فى ساقه ، إثر اصطدامه بالحديد (المشرشر) الذى يبطن جانبى القناة، فخرجوا من الماء، وحملوه إلى نقطة إسعاف السرية.

 

شاهد الجنود خلف الساتر الترابى عربات من قيادة اللواء وهى تفرغ حمولتها من معدات المهندسين العسكريين، كما شاهدوا عدداً من القوارب المطاطية البيضاء اللون، التى تكومت أمام رئاسة السرية، وكان آخر عهدهم بها مشاريع الخطاطبة. أمر قائد السرية عدداً من الجنود بتوزيع القوارب أمام نقطتين حددهما بنفسه في مواجهة الخندق، كما طلب من الصول خيرى أن يقوم بجمع السرية في تمام الثانية عشرة بالشدة، للتتميم عليهم.

*****

اتخذت السرية الثالثة موقعها الجديد في الكيلو 17 منذ الليلة الماضية، كانوا قد تركوا بعض الأفراد في الموقع القديم بالكيلو 14، حتى لا يحس الإسرائيليون بأى تغيير في الروتين اليومى لهم.

انضم باقى الجنود إلى المجموعة في الصباح، عدا فردى خدمة.

 

في تمام الساعة الثانية عشرة كان قائد السرية يقوم بالتتميم عليهم، ثم قسمهم إلى مجموعتين، يقود الأولى اثنان من الضباط، على أن تكون الثانية تحت قيادته ومعه ضابط آخر.

 

وزع أسلحة الدعم عليها بالتساوى، أمر المجموعة الأولى وتسمى (مجموعة العزل) باحتلال موقع الكيلو 17، والثانية وتسمى (مجموعة القطع) تحتل موقع الكيلو 15.

انضم إلى كل من المجموعتين ثلاثة أطقم من مدافع الماكينة، وطاقما مدافع ب 10 و ب 11 المضادين للدبابات، ودفع مع كل منهما جندى إشارة يحمل جهاز (آر 105) اللاسلكى.

أخذت كل مجموعة ثلاث قوارب مطاطية، وخصص قائد السرية القارب السابع للرئاسة. أسرّ جندى - في الصف الخلفى- لزميليه الواقفين عن يمينه وعن يساره:

- مشروع وجع قلب

- زى ما نكون ها نعبر يا جدع ؟؟

- بلاش تعيش في الوهم ، دي قريفة جيش يابا ..

*****

 

 

سمع الجندى المكلف بالحراسة فى حد يسار الموقع أصواتاً خافتة تأتى من اتجاه الشمال. التفت إلى مصدرها، فرأى مجموعة من العربات العسكرية جاز،66 وهى المخصصة للمهام القتالية تتقدم باتجاه الموقع. بعد قليل توقفت العربات فى هدوء،حيث كانت تحمل عدداً من الجنود بقوة فصيلة مدعمة بعدد من الرشاشات ومدفعين عديمى الارتداد، مخصصين للتعامل مع دبابات العدو.

 

التقى النقيب عبد القادر قائد المجموعة بقائد الكتيبة الذى كان يمر على موقع الكيلو 19فى هذه الأثناء. بعد حوار قصير توجه قائد المجموعة إلى مقعده بكابينة العربة الأولى، وبدأت العربات الثلاث فى التقدم لاتجاه الجنوب، بنفس الحذر،وبمحاذاة الساتر الترابى.

 

كانت هذه المجموعة هى مجموعة القطع من اتجاه الجنوب بهدف تدمير أى امدادات أو قوات تحاول نجدة نقطة الكيلو19من اتجاه الجنوب،أى من اتجاه موقع التينة. فى نفس الوقت، كانت المجموعة مكلفة بتدمير أى قوات تتمكن من الهرب من نقطة الكيلو 19، فى حالة فشل مجموعة العزل فى القضاء عليها.

 

وصلت العربات إلى الكيلو22،وهبط الجنود منها فى هدوء، حتى لايجتذبوا انتباه دوريات العدو السيارة وكمائنه على الجانب الآخر.وبعد أن استقرت السرية فى موقعها الجديد , بدأ قائدها فى اتخاذ الإجراءات اللازمة لبدء المشروع التدريبى.

*****

 

أسرع قائد السرية الثانية لمقابلة قائد الكتيبة، الذى أقبل بعربته الجيب من اتجاه الكيلو 19. صافحه القائد، ثم سأله عن الوقت بالضبط، فأخبره أنها الواحدة إلا خمس دقائق. كان هناك فارق في التوقيت بين ساعتيهما بمقدار دقيقتين، أمره قائد الكتيبة بأن يؤخر ساعته بمقدار دقيقتين لتوحيد التوقيت فيما بينهما. بعدها ناوله مظروفاً كبيراً، أمره بفتحه سعت 13.00 تماماً (الواحدة)، على أن ينفذ التعليمات الصادرة به حرفياً، ثم انصرف.

 

أحس بالارتياح بعد أن غادره قائد الكتيبة. كان مصدر ارتياحه تأكده من أن المشروع سينتهى آخر اليوم، وبالتالى لن تتأخر إجازته الميدانية عن موعدها. توجه إلى نقطة الملاحظة، وجلس على حافتها، ومن بعيد كان الساتر الترابى على الضفة الأخرى يواجهه في عناد، فاستغرق في التفكير، شادية، والخطوبة والتكاليف والشقة المستحيلة، وأمه التى تريد أن تفرح به .

أفاق من تفكيره، فنظر إلى الساعة، وجد أنها قد تجاوزت الواحدة بدقيقة. فض المظروف بسرعة، وبدأ في قراءة العنوان، لكنه توقف عند عدد محدود من الكلمات :

سري للغاية

أمر قتال قائد الكتيبة (     ) لاقتحام قناة السويس

وعمل رأس كوبرى للواء (        ) والاستيلاء على نقطة

العدو القوية في الكيلو 19 جنوبى بورسعيد

 

نادى الملازم فوزى، الذى كمن في حفرة قريبة منه وناوله أمر القتال في وجوم، ليقرأه. توقف مثله عند العنوان، ونظر إليه، ثرثرت عيونهما بعض الوقت في حديث طويل بعد أن عجزت كلماتهما عن التعبير، لكنهما سرعان ما استعادا توازنيهما، بعد أن غمرتهما مشاعر متناقضة، مابين الفرح والخوف.

- بسرعة يا فوزى اجمع السرية

- حاضر يافندم

خرج من حفرته بصعوبة، أحس أن الأرض تدور من حوله.

نسى شادية والفرح والمعازيم، وأمه التى تتمنى أن تفرح به، بعد أن غطت عينيه غشاوة ثقيلة من تأثير المفاجأة.

- معقول ؟؟

 

 

Share
Click to listen highlighted text! Powered By GSpeech