Click to listen highlighted text! Powered By GSpeech
Get Adobe Flash player
مستمرين معاكم بإذن الله 2008-2024 **** #لان_لجيشنا_تاريخ_يستحق_أن_يروي **** ***** إنشروا تاريخنا وشاركونا في معركة الوعي **** تابعونا علي قناة اليوتيوب 1100+ فيديو حتي الان **** تابعونا علي صفحات التواصل الاجتماعي** أشتركوا معنا في رحلاتنا لمناطق حرب أكتوبر **** يرجي استخدام خانة البحث **** *** تابعونا علي تليجرام - انستجرام - تويتر

روايه - رأس العش الثانيه - الجزء الثالث

 

اتخذ جنود السرية الأولى أماكنهم داخل الخندق المطل على قناة السويس، كانوا يقبعون في أرضيته حتى لا يحس الإسرائيليون بأن شيئاً غير عادى يجرى. قال قائد السرية الذى استند إلى جدار الخندق وقد قوس ذراعيه حول ركبتيه:

- النهارده يا (نِمَر) الإسرائيليين عازمينا ع الفطار، لأنهم صايمين زينا. بس هما هايفطروا الساعة 4، واحنا هانفطر الساعة 5,30

- بصراحة يافندم الواحد زهق من (اليمك)، وانا سامع إن سفرتهم آخر ألاجا ..

انتبه أحد الجنود وسأل قائده باندهاش:

- معقول يا افندم ها نعبر؟

غمغم القائد:

- الظاهر إنه معقول..قول يارب

*****

 

بعد أن فتح  قائد السرية  المظروف الخاص به في تمام  الواحدة، وفوجئ بأن سريته مكلفة باقتحام النقطة الحصينة في مواجهته، والاستيلاء عليها، بدأ في استيعاب مهمة السرية، والتى تتلخص في أن تقوم أسلحة الضرب المباشر في فتح ثغرتين في حقول الألغام  الإسرائيلية على الميول الأمامية  للقناة ، أثناء تحضيرات المدفعية ، في نفس الوقت الذى يقوم فيه المهندسون العسكريون بتأمين الثغرتين وتحديد أجنابهما،على أن تبدأ السرية في العبورسعت 1455(الثالثة إلا خمس دقائق).بحيث تركب الساترالترابى في تمام الثالثة، بمجرد انتهاء قصف المدفعيات، لاستغلال التأثير النفسى للقصف، وما سينتج عنه من إرباك للقوات المعادية.وحينما يستعيد الإسرائيليون اتزانهم،تكون السرية قد سيطرت على مداخل ومخارج الدشم، وحولتها إلى سجن حديدى لمن بداخلها.

 

نظر إلى ساعته، فوجدها الواحدة والنصف وخمس دقائق. بقيت خمس وعشرون دقيقة، أو هى خمسة وعشرون قرناً على الأصح.

-         ماتنسوش يا ولاد إن النهارده يوم هاكيبور

صاح أحد الجنود:

- يعنى إيه يافندم؟

- يعنى عيد الغفران عند اليهود

صاح الرقيب حسين عباس في ثقة:

- النهارده عيدنا احنا يافندم

- الله أكبر ياشيخ حسين

- أوعدك يافندم - إن عشنا - إنى أأذن لصلاة المغرب من على البرج الإسرائيلي ساعة الإفطارالنهارده

- دا إذا لقيت له أثر يا وحش

رانت حالة من الصمت، أعقبها انفجار للعديد من المشاعر المتناقضة.

*****

 

كان الرقيب أول بدر قد جمع السرية الثانية، حسب أوامر القائد ، الذى ما أن رأى الطابور مصطفاً حتى توجه إليه.استغرب الجنود خطواته التى كانت أقرب إلى الهرولة

منها إلى السير. لقد تعودوا أن يروه-  حتى في أصعب المواقف-  رجلا ًهادئا،. لابد أن شيئاً خطيراً قد حدث. نادى بدر (كتفاً سلاح)، أعقبها بكلمته المعتادة والحاسمة (ثابت). استدار يساراً، وفي خطوات نشطة توجه إلى قائد السرية. دفع كعبه الأيمن بشدة إلى الأرض، وأدى التحية العسكرية.

- تمام يافندم

تجاوزه قائد السرية دون أن يلتفت إليه، ليس من باب التجاهل، لكنه لم يكن يراه فعلا ً. بل إنه حين وقف في مواجهة الطابور لم يستطع أن يتعرف على وجوه جنوده. كان الطابور أمامه كتلة متصلة من جواكت النجاة الصفراء، وتحولت كل الوجوه إلى وجه واحد، يمتد من أول الطابور إلى نهايته. كل ما استطاع أن يميزه أن هذا الوجه الجماعى قد امتلأ بعشرات العيون الحائرة، التى تلتهمه.

 

لم يعرف من أين، أو كيف يبدأ؟.

- أنا اتعودت إنى لما باطلب حاجة منكم، بتنفذوها على أكمل وجه.. والنهار ده مش انا اللى حاطلب، إنما بلدكم، وما افتكرش إنكم ها تخذلوها .

صمت قليلا ًلكى يزدرد ريقه،ثم استطرد:

- احنا اتربينا فى الجيش على إن عقيدتنا هى النصر أو الشهادة، واتعلمنا كمان إن شعارنا هو: مصر أولا ًومصر دائماً.هى دى عقيدتنا، وهو دا شعارنا. وأنا مش هاطالبكم النهارده إلا بتحويل العقيدة والشعار من مجرد كلام إلى فعل حقيقي على الأرض .

صمت برهة ثم أردف:

احنا النهارده ها نعبر..

 

سرت همهمة داخل الطابور، أخذت تتعالى، كانت تصل إلى أذنه كأصوات طبول إفريقية، حتى أنه لم يستطع السيطرة على الطابور، إلا بصعوبة. لقد تعلم في الكلية الحربية ومن خلال خبرته في الجيش، كيف يضبط أعصابه فى المواقف الصعبة، وكيف لا يفاجأ. لكنه الآن فقد السيطرة على هذه السعادة التى خذلته مؤخراً، لم يكن هناك شاهد واحد قبل دقائق على إمكانية نشوب الحرب، التى عادة ما تحتاج إلى تأهيل نفسي من نوع خاص.

 

أحس كل من كان يقف بالطابور أنه كان موزعاً بين غريزتين:

غريزة الواجب كمقاتل، وغريزة البقاء كإنسان

وكان كل منهم  يحاول أن ينحاز إلى الغريزة الأولى على حساب الثانية.

تطلع إلى الوجوه ليرى تأثير المفاجأة على الجنود. كانت وجوها جامدة، خالية من أى تعبير، فازدادت حيرته. سألهم:

فيه حد منكم خايف يارجالة ؟؟

وحينما لم يسمع جواباً، استمر:

- أكيد كلكم شاعرين بالخوف دلوقت، وانا قبلكم. الخوف معناه إن الإنسان حى، وإنه بيحس، وهو دا اللى باطالبكم بيه، الإحساس . قارنوا دايماً بين إحساسكم بالمهانة اللى بنعيشها، وفيه عدو على الجانب الشرقى للقناة،  وبين إحساسكم بالخوف. وانا متأكد إن الإحساس الأول حاينتصر.

 

تطلع مرة أخرى إلى الوجوه الجامدة، ليرى تأثير كلماته، التى لم يفكر فيها، لكنه أفرزها، بل أنه حاول أن يتذكرها ليلمس مدى تأثيرها عليه هو شخصياً، لكنه لم يستطع. بدأت بعض التعبيرات تشق طريقها إلى وجوه الجند، حتى تحول كل وجه إلى تعبير، من اليمين إلى اليسار، تحول وجه عبد الفتاح إلى ابتسامة، وعلى عليان (الأحول) حاول أن يترجم تعبير وجهه، فلم يستطع. وحسونة أصفر زي الليمونة، وصلاح عبد الدايم ظل وجهه جامداً، دون أدنى تعبير. أما عبد الستار فكان يبكى..

توقف عنده وتساءل:

هل يبكى من شدة الفرح، أم من شدة الخوف؟

 

فجأة سمع (النهنهة) تمتد عن يمين عبد الستار، وعن يساره، لتشمل الصف الأول من الطابور، وتنتقل منه إلى الصف الثانى فالثالث.

هل البكاء معدٍ ؟

قاوم الدموع في عينيه:

- ودلوقتى عايز أعرف، لسه فيه حد خايف ؟

مسح عبد الفتاح دموعه، وحاول أن يضحك وهو يقول:

- يا افندم .. دول الصهاينة أهون كتير م (الدرايدة)، أنا معاك..

 

ومثلما انتشرت عدوى النهنهة، انتشرت عدوى كلمة (وانا معاك يافندم)، لتشمل الصف الأول وتنتقل منه إلى الصف الثانى فالثالث.

لاحظ أن الوحيد الذى لم يتكلم، هو الجندى صلاح عبد الدايم:

- وانت ياصلاح، معانا ولا مع نفسك كالعادة؟

- دي لحظة أمر يافندم، مش لحظة اختيار

- رغم إنى ما با حبش كلام المثقفين اللى زيك، هاقول لك بالعكس .. دى لحظة الاختيار الوحيدة اللى ممكن تواجه الإنسان

- الإنسان مابيختارش موته

- لكن بيختار حياته

- دا إذا كان عايش يافندم

- وانت ؟

- ...

- يائس؟

- ...

أدار قائد السرية وجهه باتجاه الجنود الآخرين، رغم أن الكلام كان موجهاً لصلاح بالتحديد:

- المسافة بين اليأس والأمل،هى نفسها المسافة بين الموت والحياة، والجبن والشجاعة.. مجرد خطوة واحدة.

 

بدأت المناقشات الجانبية تعلو، حتى غطت على مناقشة قائد السرية وصلاح عبد الدايم.

نظر قائد السرية إلى ساعته، الواحدة والنصف ؟

-  ياه ..

توجه إلى أول جندى في الصف الأول، وقام بوداعه بأن ضمه إلى صدره وقبّله، وانتقل إلى الجندى الثانى حتى وصل إلى آخر الصف. وكان الجندى الذي يقوم بوداعه، يتجه خلفه إلى الذى يليه ليودعه بدوره.

 

بعد أن انتهت مراسم ما قبل الحرب، أدركتهم لحظة صفاء غريبة لم يستشعروها من قبل. كان كل منهم يحس أنه خفيف، إلى درجة أنه كان يبذل مجهوداً خارقاً حتى لا يتلاشى.

كأنهم قد تخلصوا من ثقل الجسد والشدة معاً.

*****

 

(انت خائف أم يائس؟

مازلت لا تدرى.

ها أنت تقف في المنطقة العازلة مابين موتك أو حياتك.

مازلت تشعر أنك مهزوم، وسوف تبقى طوال حياتك – التى قد تطول- محتلاً هذا الخندق، الذى تقبع فيه كحشرة تافهة، مثل ملايين الحشرات التى تأوى إليه. وحتى لو خرجت منه .. فستنقله إلى داخلك.

أنت محاصر ياصلاح

محاصر بنفسك ويأسك،

من كل شىء ومن لاشىء.

لست إنساناً طبيعياً مثل كل الذين يحيطون بك الآن، لكنك لن تكون آخر الأنبياء كما تخيلت فى أعماقك..

حاول مرة واحدة

قالت لك سامية أن الثرثرة تفسد الفعل، ومازلت تثرثر، على الأقل بداخلك، ولا تفعل شيئاً سوى ذلك..

كنت يوما ًتفاخر بأن أستاذك فى الكلية قال لك:

لو كان لديك من الذكاء أقل مما لديك لاستطعت أن تحيا حياتك،

وها أنت تنامها أو تموتها ..

لا فرق.

حربتك تحركت، والمسافة بين اليأس والأمل، هى نفسها المسافة بين الموت والحياة، خطوة واحدة.

ماذا أنت فاعل ؟

مازلت لا تدرى).

*****

- القوارب جاهزة؟

- جاهزة يافندم

- صحيح إن السرية الأولى هاتقتحم نقطة الكيلو 19، وده شرف كبير كنا نتمنى إنه كان يبقى من نصيب السريه الثانية، لكن مهمتنا لا تقل في أهميتها عن اقتحام النقطة. فالمجموعة الأولى من السرية (مجموعة العزل) هاتكون مسئولة عن حصار النقطة من الجنب اليسار، وهاتقضى على أى قوات تحاول الهرب من النقطة. كما إنها هاتمنع أى قوات تحاول نجدتها من اتجاه الشمال في الكيلو 17. أما المجموعة الثانية (مجموعة قطع الطريق) هاتحتل أماكنها في الكيلو22، وهاتقضى على قوات العدو المنسحبة من نقطة الكيلو 19، وأيضا هاتقوم بمنع وصول أى نجدة إلى النقطة من اتجاه الجنوب،ودى هاتكون تحت قيادتى.

نظر إلى الجنود في ثقة ثم قال:

- أى أسئلة ؟

- شكراً يافندم

*****

اقترب سمير كتكوت من عبد الستار، الذى كان مستغرقاً في التفكير، وهزه بيده:

- خايف ياله ؟؟

وحين لم يسمع رداً، أجاب على سؤاله هو:

- أنا خايف

- من إيه ؟

- من إيه ؟؟ من الموت طبعاً

- ومين قالك إنك ها تموت ؟

- مين قال لى ؟ دى حرب ياجدع .. حرب

- ما تخافش .. مش هاتموت

- وإيه اللى عرفك إنى مش هاموت يا فالح؟

- بكرة الحرب تخلص وتعرف إنك مامتش

- وافرض إنى مت يا حِدِق ؟

- يبقى ساعتها مش هاتحس إنك مت

نظر إليه في غيظ، فقد أخافته كلماته أكثر مما طمأنته.

رأى عبد الفتاح يجلس قريباً منه وعيناه زائغتان:

- عبد الفتاح .. وله يا عبد الفتاح

نظر إليه عبد الفتاح في قلق وقال :

- فين عبلة ؟

- عبلة مين ياجدع في النيلة اللى احنا فيها دى .. صحيح إنك راجل بديل زيها

- مش لاقى عبلة ياكتكوت

- عبلة إيه وزفت إيه ياجدعان ؟ با قول لكم خايف أموت .. واحد يقول لى اطمن مش ها تحس، و التانى  يقوللى عبلة مش لاقيها.. أما ولاد قحبة صحيح

 

أشعل سيجارته واستند بظهره إلى جدار الخندق.

كانت بندقيته القناصة ترقد في سكون على الأرض، وقد أسند ماسورتها إلى كتفه الأيسر، تذكر أنه لم يعمرها. أخرج من شنطة الذخيرة خمس طلقات، وفتح خزنة البندقية، وضع فيها أربع طلقات، وعندما بدأ فى تعمير الطلقة الخامسة، توقف.. تأملها في خوف للحظة، ثم دفع طرفها المدبب في اتجاه قلبه. ضغط عليها برفق أول الأمر ، وازداد ضغطه شيئاً فشيئاً، ثم دفعها بكل قوته، حتى صرخ من شدة الألم. نظروا إليه  باستغراب، لكنه وضع الطلقة بيده المتصلبة أمام عينيه. تأملها ثانية، ثم همس لنفسه:

- والله خسارة في الموت ياكتكوت

 وبكى

*****

 

السيد بشلة

جندى محبوس حُكم عليه - أمام محكمة عسكرية ميدانية - بالحبس لمدة ثلاثة أعوام ، لارتكابه جناية الغياب، والذى تجاوز العام ونصف. كان أحد المخبرين قد اشتبه به فى الطريق العام، فاقتاده إلى القسم حيث اكتشفوا أنه مطلوب القبض عليه، لأنه هارب من الخدمة العسكرية، لذا وجب تسليمه إلى الشرطة العسكرية. بالفعل تم ترحيله ومحاكمته على وجه السرعة، بدرجة أذهلته هو شخصياً، حيث أنه صاحب خبرة فى هذا المجال، إذ حوكم مرتين من قبل.

 

لقد تناهى إلى سمعه فى المحكمة أن القضاء العسكرى يريد إنهاء كل القضايا، وإصدار الأحكام فيها خلال عشرة أيام على الأكثر. لكن ما أثار ريبته بشكل حقيقى، أن الجنود (المحابيس) كان مطلوباً ترحيلهم على وجه السرعة إلى السجن الحربى، وهو مالم يحدث فى فترة مابعد النكسة. فبدأ يستنتج أن وراء الأمر أمور.

 

كان اسمه الحقيقى سيد محمد أحمد الكردى، لكن اسم (بشلة) غلب عليه، ونادراً ماكان يتذكر اسمه الأصلى. لقد اكتسب الاسم الجديد نظراً لخفة يده فى النشل، مستخدماً بشلة يشق بها الجيوب بمهارة فائقة، دون أن يلحظه الضحية. كانت تلك مهنته فى الحياة المدنية، التى تعلمها صغيراً، وأتقنها كبيراً.

 

اشتهر بأنه يتمتع - إلى جانب ذكائه الحاد- بحدس قوى، قلما يخطئ. وكان يتميز بأمانة نادرة تجاه زملائه الجنود، الذين لم يحاول سرقة أحدهم أبداً، رغم أنه لم يكن يتحصل على أية نقود، نتيجة للجزاءات التى كانت توقع عليه. ولم يكن أدل على أمانته من أن أحد الضباط  فقد حافظته وبها راتبه الشهرى، ووجدها سيد بشلة، فقام بتسليمها إلى قائد السرية. ثم أنه رفض بإصرار أن يتقاضى أية مكافأة عن ذلك، واعتبر ماحدث أمراً عادياً، لايستأهل المكافأة.

 

وحينما اقترب ميعاد ترحيل المساجين إلى السجن الحربى، فجأة قام سيد بشلة بقطع شرايين يده دون سبب مفهوم، ونقل على الفور إلى المستشفى العسكرى، حيث تم إنقاذ حياته، بعد أن نزف دماءً غزيرة. قضى بالمستشفى عشرة أيام حتى اكتمل شفاؤه، ثم عاد مرة أخرى إلى الوحدة، بعد أن تم ترحيل المساجين. وظلت تلك الحادثة موضع تساؤل من الجميع، دون أن يتمكن أحد من الوصول إلى حل غموضها.

 

بعد أن تأكد للجميع أن العبور سيتم اليوم، ذهب بشلة إلى قائد سرية الاقتحام، وطلب منه أن يصدر أمراً بتسليمه سلاحه الشخصى، لكن القائد قال له:

- انت بتهزر ياعسكرى؟ مسجون وعايز تشيل سلاح؟ احنا هانرحلك فوراًعلى قيادة الكتيبة ، وبعدها يرحلوك على المؤخرة فى بورسعيد..هى دى الأوامر للى زيك

أجابه بشلة متوسلاً:

- أبوس إيدك يا فندم خلينى فى السرية، وادينى سلاح، وانا عمرى ماهاخذل سيادتك

نفد صبر القائد الذى كانت أمامه إجراءات الإعداد للمعركة، فقال غاضباً:

- ياجندى انت مكانك الطبيعى فى السجن الحربى.. ولولا عملتك السودا كان زمانك هناك دلوقتى

- سيادتك عارف أنا عملت كده ليه؟

- علشان ماتروحش الحربى طبعاً

- فعلاًً.. بس ليه برضه؟

زمجر قائد السرية غاضباً:

 - انت ها تلاعبنى ياله؟..أنا مش فاضى لك يا بابا

- أبداً يافندم، أنا عايزسيادتك تعرف الحقيقة، مش أكتر

صمت قليلاً ليلتقط أنفاسه اللاهثة، ثم استطرد:

- أنا عملت كده لأنى كنت متأكد إننا هاندخل الحرب خلال أيام

قال قائد السرية ساخراً:

- ليه..انت سبت النشل وبقيت تضرب الودع؟

- لا يافندم.. لكن وانا باتحاكم فى التل الكبير عرفت إنهم عايزين يخلصوا كل القضايا خلال أيام. وبعدين ترحيل المساجين للسجن الحربى كان شئ غريب، لأننا كنا بنقضى المدة داخل الوحدة ..وده ماييحصلش إلا إذا كان فيىه شئ غير عادى ها يتم، ومافيش شئ غير عادى فى الظروف دى غير الحرب. وعلشان كده أنا كنت متأكد إن الحرب على الأبواب

دهش النقيب مجدى من ذكاء بشلة الفطرى، وقدرته على تجميع العناصر المترابطة، للوصول إلى نتائج صحيحة، فسأله:

- طيب وده علاقته إيه باللى عملته فى نفسك

- كنت عايز أفضل فى الكتيبة علشان أحارب معاكم، نفسى أعمل حاجة واحدة كويسة فى حياتى، والحرب هى اللى ممكن تدينى الحاجة دى

- مش باقول لك انت بتهزر

- يافندم أنا كان ممكن أموت لما قطعت شرايينى، بس أنا كنت شايف الموت أرحم من عدم احترامى لنفسى.. وصدقنى لو كنت مت ماكنتش هازعل، يكفينى إنى حاولت ومقدرتش، وعلشان كده عايز سيادتك تساعدنى

كان قائد السرية يرمقه باهتمام بالغ، ويتساءل: كيف لمثله أن يمتلك مثل هذا المنطق إلا إذا كان كائناً استثنائياً!! وهل ما يقنعه فى هذا الحوار قوة المنطق، أم نبرة الصدق التى تغلفه؟

استمر سيد بشلة فى محاولته اليائسة:

- يافندم من صغرى وانا نفسى أبقى إنسان كويس..انا لقيت نفسى فى الشارع وانا عندى عشر سنين، واللى فى السن ده ويترمى فى الشارع، بيبقى استمراره على قيد الحياة بطولة. ماعرفتش شغلانة تانية غير النشل، لكن عمرى ما كنت مبسوط بيها، وكل ماكنت أشوف واحد محترم أبكى، لأنى مش قادر أبقى زيه. ولما عرفت إن الحرب على الأبواب قلت لنفسى: دى فرصتك يا سيد علشان تتطهر، يمكن تقدر تبقى محترم..

أنهى كلامه وقد ترقرقت الدموع بعينيه، فازدادت دهشة قائده من قوة منطقه، ومن طموحه النبيل. فاقترب منه، وربت على كتفيه، وقال له:

- خلاص يا سيد، روح للصول خيرى ،علشان يسلمك تسليحك الشخصى، وهاتكون جنبى فى المعركة على طول

حاول بشلة أن يقبل يد القائد، لكنه نزعها منه، ثم أعطاه علبة سجائر كاملة، وقال له:

- ياللا ماتضيعش وقت، علشان تورينى ها تبقى محترم إزاى

*****

 

كانت سرية هاون اللواء عيار 120مم والتى تقوم بمعاونة الكتيبة قد احتلت مرابضها في موقع الكيلو19. قام ضابط الموقع بالتتميم عليها، وأصدر البيانات الأولية إلى حكمدارية الأطقم، والذين قاموا بضبطها على أجهزة التنشين. ثم اتخذ مكانه في نقطة الملاحظة داخل الخندق الأمامى.

كان ينتظر التوقيت المحدد لفتح النيران.

وضع إلى جواره تسليحه الشخصى بداخل الخندق، وتدلت من عنقه نظارة الميدان، ومن القايش البوصلة.

 

أطلت من بين الهيش، فوهتا المدفعين ب11، المكلفين بمعاونة السرية الأولى. كانت مهمتاهما تنحصر في تدمير البرج الحديدي، وإسقاط العلم الإسرائيلي في تمام الثانية وخمس دقائق، ثم فتح ثغرتين في المواقع الأمامية للنقطة، بتثبيت برمة الاتجاه وحل برمة الارتفاع، مع ضرب طلقة ش.ف (شديدة الانفجار) في كل مترين طوليين. قام طاقم كل منهما بتوجيه الماسورة نحو البرج مباشرة، ثم أخذا يرقبان الجندى المراقب الذى حكما عليه بالإعدام، وينتظران لحظة التنفيذ.

إنهما الآن يلهوان به دون أن يدرى.

*****

 

نظر قائد السرية إلى ساعته في قلق، الثانية إلا أربع دقائق، تسع دقائق وتنفتح فوهة الجحيم لتصب نيرانها فوق مساحة تقل عن الكيلومتر المربع.

 

تعلقت عيون جنود السرية الأولى بالساعات.

فتح أحد الجنود جهاز الراديو الترانزستور وألصقه بأذنه، لم يكن يستمع إلى المطرب العاطفى الذى يتوسل إلى حبيبته بأن تبعد عينيها عنه، ثم يتوسل إليها بأن تقربهما منه، لكنه كان ينتظر دقات الساعة الثانية.

 

أبلغ أحد المراقبين قائد السرية بأن جندى إسرائيلى آخر صعد البرج، رفع رأسه ليراه، فوجده يلهو مع الجندى الأول، فابتسم، ثم جلس ثانية:

- جيت لقضاك

 

أعلنت دقات الراديو تمام الثانية، فخفقت القلوب، وازدادت ضرباتها عنفاً.

أعاد الجميع ضبط ساعاتهم، وابتدأ العد التنازلى، كان كل منهم يعيش لحظة الخطر على طريقته الخاصة. إنهم يعرفون أن لكل حرب نسبتها من الخسائر ، ولم يستثن أحد نفسه خارج هذه النسبة. كان الموت بالنسبة لهم جميعاً هو الشىء المؤكد، أما ماعدا ذلك فاستثناء شاذ مضاد للمنطق.

 

الدقائق تمر متكاسلة

كانوا يتعجلون ساعاتهم، لا لشىء إلا لأنهم تعبوا من الانتظار. وإذا كان الموت يتربص بهم، فليقع الآن. فهموا الآن فقط لماذا يقدم المحكوم عليه بالإعدام على الانتحار .

 

وقوع الموت أيسر كثيراً من انتظاره

نظر قائد سرية الهاون- للمرة التى لم يدر كم عددها- إلى ساعته. الثانية وأربع دقائق، تبقى قرن من الزمان على الثانية وخمس دقائق. تمنى لو وجد مرآة ليتأكد أن شعره لم يزل أسود.نقل بصره من الساعة إلى النقطة الحصينة على الضفة الأخرى. كان الجندى المراقب يتحدث مع زميله الذى صعد إليه منذ قليل، ويبدو أنه استلم منه الخدمة، لوّحا له بأيديهما، فابتسم، ثم لوّح لهما.

عطف أم سخرية ؟؟

هو نفسه لا يدرى.

*****

 

صرخ قائد سرية المشاة بكل ما في جسده من قوة :

اضرب ..

بوووم

انطلقت قذيفة مدفع ال ب11 الأول إلى البرج الحديدي، الذى يجلس فيه الجنديان الإسرائيليان، فأحالته إلى مجموعة هائلة من الشظايا المختلطة باللحم الآدمى. مال البرج، في نفس اللحظة التى خرجت فيها طلقة المدفع الثانى، فطاشت. كان العلم مايزال يرفرف على البرج. فانهالت قذائف المدفعين في اتجاهه ، حتى اشتعل، وأخرج الجميع رؤوسهم.

صرخ قائد سرية الهاون بدوره في جهاز اللاسلكى:

اضرب.

ردد ضابط الموقع الأمر.

حمل أفراد طاقم مدفع الأساس الدانة بأقصى سرعة، كانت أخف من وزنها الذى اعتادوا عليه. بل إنها خرجت من مجال الجاذبية، وأصبحت مجرد حجم لا وزن له. قبّلها حكمدار الطاقم قبل أن يضعوها في الماسورة، ثم صاح وهو يبكى:

- الله أكبر

 

انهالت قذائف المدفعيات من مختلف الأحجام والأعيرة والاتجاهات على النقطة الحصينة للعدو. مدافع .. هاونات .. هاوتزرات .. أسلحة عديمة الارتداد. كان الجنود يترجمونها إلى أرقام: 82مم ، 120مم ، 160مم ، ثم 122مم ، 130مم. وأحياناً يترجمونها إلى اتجاهات: الكيلو 14 ، الجولف ، الرسوة ، القابوطى ،الجميل ..

لم يستطع جنود المشاة صبراً

 

أفرغ كل منهم خزنة بها 25طلقة على مزاغل النقطة القوية. كانت الطلقات تصطدم بالزوايا الحديدية الكثيفة داخل حقل الألغام، أو بالكتل الخرسانية، أو القضبان الحديدية التى تعلو سقف النقطة، فترتد في (سكترما) حادة وتسقط في مياه القناة.

 

اتخذت سرية الدبابات أماكنها فوق المصطبة التى ترتفع إلى 20متراً، واشتركت مع المدفعيات في خطة التحضيرات، في نفس الوقت الذى سيطرت فيه - بالرؤية والنيران- على عمق العدو، وكانت جاهزة للتعامل مع احتياطياته، التى تتحرك من العمق.

كان لكل دانة تسقط فوق الموقع أزيز مميز في الهواء، ولكل منها دويها الخاص عند انفجارها.

 

راقب جنود المشاة بدء القتال بواسطة المدفعيات بانبهار.

كانوا يشاهدون أفراد سرية هاون الكتيبة عيار 82 مم، وكذا سرية هاون اللواء عيار 120مم في الخلف منهم مباشرة، فيتابعون الدانات والأيدي تتناقلها، ثم يتابعونهاوهي تسقط في الماسورة، ويتابعونها حين تخرج منها بسرعة هائلة تحجب عنهم رؤيتها، فيتابعونها من خلال أزيزها في الهواء وانفجارها على الجانب الآخر.  

شيئاً فشيئاً بدأوا يميزون طلقات الهاون، دون أن يتابعوا السلسلة السابقة، إما من صوت الأزيز أو من صوت الانفجار. ومن بعيد كانت تسقط عدة أنواع من الدانات، لم يستطيعوا تمييزها لكثرتها وتتابعها.

 

تناهى إلى أسماعهم  صوت الانفجارات التى تدك النقطة القوية للعدو في الكيلو 24 بموقع التينة إلى اليمين، ونقطة الكيلو 10إلى اليسار.

 

كانت طيور النورس- عند بدء القصف- تستمتع بشمس أكتوبر الدافئة، حيث يرتفع بعضها إلى أعلى، ثم ينقض مرة واحدة إلى عمق المياه ، ليخرج وفي فمه سمكة كبيرة، فيصفق بجناحيه في نشوة. أما البعض الآخر فقد استكان بعد أن تناول غذاءه ليجفف ما علق بريشه من ماء، فوق الشمندورات التى تناثرت على جانبى القناة. وعند انفجار أول طلقة، أصيبت الطيور البيضاء بالذعر، فارتفعت إلى أعلى، وأخذت تدور حول المكان.

 

بعد توالى سقوط الدانات، سقط بعضها قتيلا ًنتيجة تخلخل الهواء بسبب ضغط الانفجارات. حاولت الطيورالباقية الفرار إلى اتجاه الشمال حيث البحر، لكنها فوجئت بالخطر مرة أخرى يرفرف فوق موقع الكيلو 10. وحينما حاولت أن تلتف حول موقع الكيلو 10 في اتجاه الشمال إلى البحر، عن طريق أطول، واجهتها النيران التى انهالت على نقطة شرق بور فؤاد، والتى كانت تعرف بنقطة (القطع)، فتوجهت على غير عادتهاصوب الصحراء، في اتجاه الشرق.

*****

 

أنهت المدفعية القصفة الأولى والثانية، على مواقع العدو المتقدمة، فرفعت نيرانها، ثم ابتدأت القصفة الثالثة فى عمق العدو، لتدمير مراكز قياداته واحتياطياته القريبة، وأماكن الشئون الإدارية.

عادت طيور النورس- التى اتجهت صوب الشرق- مرة أخرى إلى الغرب، لكن القصفة الرابعة ابتدأت، فأسرعت بالابتعاد مبعثرة في كل اتجاه.

اندمج الجنود في المعركة، وقد استنامت غريزة حب البقاء لديهم، واستيقظ الحيوان البدائى بداخلهم. أحسوا أن الحرب لعبة بسيطة، وكم هي سهلة، شرط أن تكون قوياً ومنتصراً. وهاهم يتابعون قائد سرية الهاون، وهو يلهو بهذه اللعبة المسلية.

 يضع علامات على الخريطة المفرودة أمامه، وبنظرة من خلال نظارة الميدان، ثم أخرى إلى البوصلة،وتسقط دانة. لقد بدأوا يدركون سر الألغاز التى يبلغها إلى ضابط الموقع باللاسلكى. حقاً لم يستطيعوا ترجمتها حرفياً، ولكنهم كانوا يحسون بما تعنيه، حتى أنه حين أعطى التصحيح للطلقة الأولى في القصفة الرابعة صاح الجندى زين:

- فعلاً دي جت يمين شوية

 

ضحكوا كما لم يضحكوا من قبل.

لم يدركوا هل هم يضحكون على نباهة زين التى استجدت عليه على كبر ؟

أم يضحكون لأنهم يريدون ذلك دون أن يدروا؟

كانوا قد أحسوا بزهو شديد وهم يرون دانة المدفع ب11 (الطرشة)، وهى تطيح في الهواء بالبرج الحديدي على الجانب الآخر، وتحيله إلى شظايا. رأوا بأعينهم كيف أن مدافعهم - التى كانوا يظنونها خرساء – قد استطاعت بقدرة قادر، أن تحرق العلم الإسرائيلي. بل أن شالوم – وكل الجنود الإسرائيليين عندهم بهذا الاسم- كان يسخر منهم في الصباح، وهم يستحمون. وحين قال له أحدهم اليوم (جاى لك يابن الكلب)، أشار له بيده إشارة أغاظتهم جميعاً.

أين أنت يا شالوم الآن ؟؟.

*****

 

شاهدوا طائرتين تقتربان من بعيد في سرعة هائلة، وعلى ارتفاع منخفض، وعندما أصبحتا فوقهم مباشرة، استطاعوا تمييز علامات الأجنحة بألوانها الثلاث، فتعالت صيحاتهم:

الله أكبر

كانت الطائرتان المصريتان، قد عادتا من عمق سيناء، بعد الاشتراك في الضربة الجوية على المحور الشمالى، وفي أعقابهما طائرتان إسرائيليتان تطاردانهما. أطلقت إحداهما صاروخاً جو/ جو فى اتجاه الطائرة المصرية اليمنى، اندفع الصاروخ وخلفه كرة من اللهب بسرعة هائلة، أكبر كثيراً من سرعتها . رأوه وهو يصطدم بمؤخرتها، لتنفجر في الجو، وتتناثر إلى قطع معدنية صغيرة، بدأت تهوى فوق ملاحات المنزلة.

 

وجهت الطائرة الثانية صاروخاً إلى الطائرة الأخرى ظل الطيار على نفس سرعته وارتفاعه، وعندما أصبح الصاروخ قريباً جداً من الطائرة،ارتفع الطيار فجأة في زاوية شبه قائمة إلى أعلى، فاندفع الصاروخ بقوة قصوره الذاتى في نفس مساره إلى الأمام، وانفجر فوق الملاحات بدوره.

عادت طائرتا الفانتوم- دون أن تتجاوزا قناة السويس- إلى اتجاه الشرق، لكنهما قبل أن تقطعا مسافة تذكر، تحولتا إلى فريستين لصاروخين سام 7، انطلقا من الموقع فانفجرتا أمامهم.

كان الجنود موزعين بين الإحساس بالحزن لسقوط الطائرة، والإحساس بالفرح لسقوط الطائرتين.

 

سقطت عدة دانات للمدفعيات في قناة السويس، وانفجرت داخل الماء.

في كل مرة تسقط فيها إحدى الدانات، كانت تعلو نافورة من المياه إلى أكثر من ثلاثين متراً، ثم تهبط ثانية في منظر رائع.

حتى الحرب رغم بشاعتها كانت تفجر جمالاً كامناً فيها !!

صاح أحد الجنود في دهشة:

- شايفين السمك المبدور على وش المية ؟؟

ضحك آخر وقال:

- ياخوفى يابدران ليكون آخر سمك

صرخ الصول خيرى:

- امنع الكلام منك له.. كل الناس تجهز .

*****

Share
Click to listen highlighted text! Powered By GSpeech