Click to listen highlighted text! Powered By GSpeech
Get Adobe Flash player
مستمرين معاكم بإذن الله 2008-2024 **** #لان_لجيشنا_تاريخ_يستحق_أن_يروي **** ***** إنشروا تاريخنا وشاركونا في معركة الوعي **** تابعونا علي قناة اليوتيوب 1100+ فيديو حتي الان **** تابعونا علي صفحات التواصل الاجتماعي** أشتركوا معنا في رحلاتنا لمناطق حرب أكتوبر **** يرجي استخدام خانة البحث **** *** تابعونا علي تليجرام - انستجرام - تويتر

روايه - رأس العش الثانيه - الجزء الرابع

 

أثناء تمهيدات المدفعية، شاهد جنود السرية الثانية في موقع الكيلو 21، خمس قوارب مطاطية تنزلق عن يمينهم إلى القناة، بدأ بعض الجنود يتخذون أماكنهم داخل هذه القوارب، ومن دبشك البندقية الحديدي الذى ينطوى، عرفوا أنهم من رجال الصاعقة.

 

شدت القوارب انتباههم، وصرفتهم عن متابعة نتائج ضرب المدفعيات، فقد دفعهم الفضول إلى متابعة التجربة التى سيخوضونها بعد قليل. اندفعت القوارب الخمس إلى عمق القناة، بعد أن اكتمل الجنود والأسلحة بداخلها. صاح جنود المشاة:

ربنا معاكم ياأبطال

لوح لهم جنود الصاعقة بأيديهم القابضة على أسلحتهم.

 

وصل القارب الأول إلى الجانب الآخر، فهلل جنود المشاة

أمسك الجندى حامل الرشاش الموجود في أول القارب بإحدى الزوايا الحديدية المصطفة في حقل الألغام، ليتمكن من تثبيت القارب. اندفع جنديان من أفراد المهندسين العسكريين وخرجا من القارب. أمسكا بثلاث وصلات معدنية طويلة، وثبتاها معاً. قال الصول خيري عن هذه الوصلات، أنها طوربيد (البنجالور). دفعا الوصلات الثلاث، بعد أن أصبح طولها معاً ستة أمتار، إلى داخل الحقل بواسطة عجلة يدوية. أشارا بأيديهما فخفض كل من بالقوارب رؤوسهم. وبعد ثوانٍ انفجر الطوربيد، فتناثرت عن يمينه وعن يساره أعداد كبيرة من الزوايا الحديدية، واتسعت المسافة بين الأسلاك الشائكة بعرض مترين.

صاح قائد السرية:

الحمد لله الثغرة انفتحت

 

خرج جنديا المهندسين العسكريين مرة أخرى من القارب، دخلا إلى حقل الألغام من خلال الثغرة لتحديد أجنابها، وقصا الأسلاك الشائكة التى كانت ماتزال تعترضهما. لم يستغرق الأمر سوى دقائق حتى كانا يشيران بأيديهما لقوات الصاعقة، كي يقوموا بعبور الثغرة في نوع من الزهو.

وصلت القوارب الأربعة الأخرى حتى أصبحت في مواجهة الثغرة، واندفع الجنود من خلالها إلى الساتر الترابى وهم يكبرون، ويسمعون صوت التكبير من الضفة الشرقية للقناة. وفي ثوانٍ ابتلعهم الجانب الآخر، واختفوا خلف الساتر التربى الذى يمتد بامتداد القناة، من جنوبى بورسعيد في الشمال، وحتى بورتوفيق في أقصى الجنوب.

 

في كنف هذا الساتر كانت تقبع ثلاثة وثلاثون نقطة حصينة، فيشكل الساتر والنقاط الحصينة معاً ما يسمى " خط بارليف".

ظلت القوارب الخالية تتأرجح على الجانب الآخر، ولم يجرفها التيار. كانت المياه ساكنة، إنها الآن في الفترة الفاصلة، ما بين تغير اتجاه التيار من الشمال إلى الجنوب، ليصبح بعدها من الجنوب إلى الشمال. تلك الفترة عادة ما تستغرق من 10 – 15 دقيقة، وتتكرر مرة كل 6 ساعات.

تعودوا أن يروا المياه خلال هذه الفترة هادئة، لكنهم لأول مرة يرونها مستسلمة ومطيعة.

 

اندفع من المكان السابق قارب آخر، يحمل أفراد مجموعة استطلاع اللواء، الذين سوف يتدفقون إلى خلف خطوط العدو لكشف نواياه وإنذار قواتنا.

بعد مرور خمسين دقيقة على بدء تحضيرات المدفعيات، وفي تمام الثالثة إلا خمس دقائق صاح قائد السرية:

- نزلوا القوارب للقناة

*****

 

اقتربت طيور النورس مرة أخرى من موقع الكيلو 19 .كانت تحلق على ارتفاعات عالية. ورغم أن طبقة فضية كثيفة من الأسماك كانت تغطى سطح القناة، التى أثر عليها ضغط الانفجارات، إلا أن النوارس لم تغامر ولو لمرة واحدة بالانقضاض إلى أسفل لتلتهم تلك الوليمة المجانية كعادتها.

 

توقفت نيران المدفعيات.

لمحت طيور النورس خمسة قوارب مطاطية تقترب من الشاطئ الشرقى للقناة، في اتجاه النقطة الحصينة، فاطمأنت. كانت القوارب تحمل فصيلتين من السرية الأولى، وكذا رئاسة السرية. اندفع القارب الأيمن بسرعة أكبر من القارب الآخر، وفي مقدمته وقف الملازم محمد فهمى، وقد لف حول جسده العلم ذا الألوان الثلاثة. اتجه القارب ناحية الثغرة اليمنى، التى فتحها المدفع ب11 الأول، بعد أن قام رجال المهندسين بتأمينها وتحديدها.

 

قبل أن يصل القارب إلى الشاطئ، كان الضابط قد قفز منه ، واندفع بكل قوته من خلال الثغرة. ارتقى الساتر الترابى العالى، وعلى قطعة متفحمة من البرج الحديدى المائل رفع العلم المصرى.

بكى الجميع وهم يهتفون :

الله أكبر

*****

 

اندفع الملازم أول مجدى ناشد من الثغرة اليسرى بفصيلته، وتقدم الجنود خلال الثغرة، حتى وصل إلى قمة الساتر. رفع رأسه بحذر، يستطلع الأرض الخلفية، رأى خندق مواصلات في باطن الساتر مباشرة، فزحف بسرعة، ثم أسقط جسده بداخله. سحب أجزاء البندقية للخلف، بعد أن فتح سقاطة الأمان، ثم تبعه الجنود، حتى اكتملت الفصيلة داخل الخندق، وبدأوا ينتشرون إلى الخنادق الآخر المتصلة به.

 

كان الجنود الإسرائيليون مايزالون محتلين الدشم ذات الأبواب الحديدية، التى تقيهم من تأثير نيران المدفعية، وعندما استعادوا قدرتهم على التفكير، شاهدوا من مزاغل الدشم عدداً كثيفاً من الجنود ذوى الأوفرولات الكاكية، والوجوه السمراء. ظلوا كامنين داخل تحصيناتهم في انتظار وصول ذراعهم الطويلة، أو احتياطياتهم المدرعة، فلم يكونوا يستشعرون أدنى خطر. لقد ظنوا أن المصريين قد وقعوا داخل الشرك، وسوف يدفعون ثمن ذلك غالياً .فبعد قليل سوف تأتى الاحتياطيات التى تدق عظامهم،والطائرات التى سوف تصطليم بنيرانها.

 

كان الإسرائيليون يظنونها عملية محدودة على موقعهم، ثم يحاول المصريون العودة بأقصى سرعة، قبل أن تطولهم ذراع جيش الدفاع الطويلة، ثم ينتهى الأمر، بعد إحداث خسائر كبيرة في قواتهم. لكنهم أدركوا مؤخراً أنهم كانو واهمين.

 لقد حاول القائد الإسرائيلى الاتصال بالمواقع المجاورة لنجدتهم، ففوجئ أن كل المواقع القريبة والبعيدة تم (ركوبها) بواسطة المهاجمين. حينئذ أدرك أخيراً أنها الحرب قد بدأت، وقد تكون النهاية.

 

لقد كانت استهانة الإسرائيليين بقدرة المصريين العسكرية أشبه بمن يضع نصف جندى فى نصف دبابة، كى يخوض بهما نصف معركة. ولأن الحرب تخذل دائماً من يستهين بها، فإنها عادة ما تذهب بالنتائج إلى من يستحق. وفى هذا الوضع كان المثل العربى ينطبق بشكل مذهل على كلا الطرفين. يقول المثل: (إذا أهانك عدوك، فاجلس على عتبة بيتك ، وسوف تمر عليك جنازته). هكذا جلس المصريون على عتبة قناة السويس، كى يتابعوا جنازة ثمانمائة دبابة ومائتى طائرة فى أول يومين للحرب، بينما بدا خط بارليف أشبه بقالب من جبن الروكفور، والتشبيه لديان، به من الفراغ أكثر مما به من الجبن.

 

شاهد الملازم محمد فهمى - بعد أن رفع العلم المصرى فوق البرج المدمر- عربتين نصف جنزير في المنطقة الخلفية للموقع، نُصب فوق كل منهما مدفع نصف بوصة، وهاون 81مم. خشى أن يتمكن الإسرائيليون من الوصول إليهما، لإجهاض هجوم المصريين، وذلك بضرب القوات التى سوف تكون هدفاً سهلا ً، حينما تصبح على خط (السماء)، والمقصود به خط الأفق .

 

اندفع في اتجاه العربتين، واستولى عليهما وحده، بل أنه قام بتعمير مدفع نصف بوصة، وقام بتوجيه نيرانه إلى مزاغل الدشم، لجذب انتباه الإسرائيليين بعيداً عن القوات المهاجمة، وكذا لزيادة التأثير النفسي عليهم.

 

تأكد الإسرائيليون أنهم محاصرون من كل جانب، وأصبحت النهاية بالنسبة لهم مسألة وقت. ومن المؤكد أنهم  - فى هذه اللحظة – كانوا يصلون إلى الله أن ينقذهم من هذه الورطة القاتلة، بينما كان من المفترض أن ضباطهم وقادتهم يرددون الآن النص التوراتى، الذى ينسب إلى النبى موسى حين كان يخوض إحدى معاركه الصعبة، إذ قال :   

" يارب الجنود ..

اجعل قلوب رجالى في صلابة الفولاذ".

*****

 

اتخذت السرية الثالثة مواقعها في الكيلو 15، والكيلو 22، أعطى قائد السرية تماماً باستعداد سريته للاشتباك. اندفعت دبابة اسرائيلية من موقع نقطة الكيلو 10، لتنضم إلي نقطة الكيلو 19، فلم يكن قائدها يدرك أن الحرب امتدت بطول الجبهة كلها، إلا حين شاهد حركة كثيفة أمامه من الجنود المصريين في الكيلو 15. زادت الدبابة باتون إم 60 الإسرائيلية من سرعتها، وحينما أصبحت على مسافة 800متراً من القوات المصرية فتحت نيرانها بكثافة، لتمشيط المنطقة، وإجبار الجنود المصريين على خفض رؤوسهم، حتى يتسنى لها اختراق الحائط البشرى الكثيف، دون مقاومة.

 

ظلت الدانات تتتابع، محدثةً دوياً هائلاً، وموجة شديدة من الضغط. انبعثت سحابات كثيفة من الغبار، غطت المنطقة ومنعت الجنود المصريين من الرؤية.

اندفعت الدبابة خلال تجمع المصريين، في نفس الوقت الذى كان يتحرك الرشاش 0.5 بوصة المثبت على البرج في قوس واسع، ليقذف أكثر من 250طلقة في الدقيقة.

سمع الجنود الذين انبطحوا أرضاً صرخة عالية، كانت آتية من اتجاه حفرة  الملازم أول/ أحمد رفعت، قائد مجموعة قطع الطريق. لقد طالته إحدى رصاصات الرشاش المثبت فوق برج الدبابة، فصرخ في ألم:

- كتفى

وسكن الصوت.

 

تمكنت الدبابة من اجتيازهم

ومن بعيد بدت نقطة الكيلو 19 لقائدها بلا برج، وبلا علم. لا .. بل كان هناك علم غريب، يراه للمرة الأولى، يرفرف فوق النقطة.

صاح أحد أفراد الطاقم:

- لابد أنه العلم المصرى.. أنا لا أعرف شكله، لكن لابد أنه هو.

 

أبطأت الدبابة من سرعتها، وأصيب طاقمها بالشلل

فمن خلفهم القوات التى تجاوزوها، والتى لابد أنها ستعيد تنظيم نفسها مرة أخرى. وأمامهم قوات لا يدرون كم عددها في الكيلو 19. وعن يمينهم الساتر الترابى، ومن ورائه قناة السويس كمانع لن يستطيعوا اجتيازه، وعن يسارهم ملاحات بور فؤاد الرخوة التى ستبتلع الدبابة إن اقتربت منها.

 

يا رب الجنود ..

أخذت الدبابة تدور حول نفسها كحيوان جريح محاصر. انطلقت من خلف الساترالترابى - عن يمينها- قذيفة ( آر بى جى ) من أحد الكمائن المتحركة، لتستقر في الفاصل ما بين البرج والجسم . سقط البرج على الجانب الأيسر للدبابة، وظهرت رؤوس أفراد الطاقم وقد غطاها  (الهلميت) الذى يضعونه على الأذنين، ليقيهم صوت دوى الانفجارات.

بسرعة انخفضت هذه الرؤوس، وارتفعت بدلا ً منها الأيدي ملوحة بالمناديل البيضاء، علامة على الاستسلام للأسر، بديلا ًعن موت مؤكد.

*****

 

اتخذت مجموعة قطع الطريق- من السرية الثالثة- موقعها في الكيلو 22.

قبل أن يقوم قائد المجموعة بتوزيع الأسلحة على طرق اقتراب العدو، انهالت الدانات على جنوده من حيث لا يدرى.

بعد قليل أقبلت من بعيد سحابة من الغبار، ومن داخلها كان وميض شديد ينبعث من فوهة ماسورة دبابة، بمجرد خروج الطلقة.

كان معدل النيران عالياً.

تأكد قائد المجموعة أن هناك أكثر من دبابة.

 

اتخذ طاقم المدفع ب11 المضاد للدبابات، والذي يعمل كدعم للمجموعة،  من  موقعه للاشتباك خلف إحدى الثنيات الأرضية. وعندما اقتربت كتلة الغبار حتى مسافة 60 مترأً، انطلقت منه قذيفة، إلى منتصف سحابة الغبار تماماً، لكن الطلقة اختفت بداخلها. انتظر الطاقم الذى كشف عن موقعه أن ترد الدبابات بالقصف المضاد، وكان أفراده  يعلمون أن الطلقة الأولى في صراعهم مع الدبابة هى دائماً الطلقة الأخيرة ،فإما أن يدمروها، أو تدمرهم.

 

توقفت سحابة الغبار، وأخذت في الانتشار إلى أعلى. بدأت الرؤية تتضح ببطء.كانت النيران قد اشتعلت في الدبابة، وبدت دبابة أخرى من خلفها تندفع في سرعة كبيرة، ثم تنحرف إلى اليمين قليلا ًفي الأرض الرخوة. غرز جنزيرها، وغادرها الطاقم هارباً داخل الملاحات، بعد إصابة الدبابة الأولى.

*****

 

كان الرقيب جمعة مجنداً، وقد تم تسريحه منذ ستة أشهر، ضمن خطة الخداع الاستراتيجي، بعد أن قضى ما يقرب من الخمس سنوات،وهى مدة خدمته الإجبارية، إضافة إلى فترة استبقائه.

 

مايزال زملاؤه يتذكرون كيف بكى عندما سمع خبر تسريحه من الخدمة العسكرية،منذ مايقرب من الستة أشهر، حيث أنه عاش على أمل مشاركة زملائه في حرب التحرير.

تم استدعاؤه مؤخراً، كي يشارك القوات في "مناورات الخريف "، التى كانت تتكرر كل عام، على مدى السنوات الثلاث الماضية.

 

عرفه كل ضباط الكتيبة وأفرادها، نتيجه لانضباطه ودماثة خلقه، إضافة إلى حديثه الدائم عن أن الحرب قادمة لا محالة، وأنه ينتظرها على أحر من الجمر. ونظراً لأن قائد الكتيبة كان قد تولى القيادة بعد تسريح جمعة مباشرة، فلم يكن يعرفه لأنه لم يلتق به من قبل.

 

عندما عرف جمعة أن الحرب سوف تنشب بعد قليل، كاد يرقص فرحاً.

قال له أحد زملائه القدامى ممازحاً:

- الليلة ليلتك ياعريس

كان قد تم استدعاء جمعة ضمن دفع الرديف السابقة، التى تم تسريحها طبقاً لخطة الخداع الاستراتيجى،لاستكمال الوحدات المقاتلة.ونظراً لأن الكتيبة كانت مستكملة بالفعل، فقد صدرت أوامر قائد الكتيبة بأن يعمل المستدعون جميعاً في أعمال (الطـُلبة)، أى حمل وتوزيع التعيينات والأسلحة والذخائر، وكافة أمورالشؤون الإدارية، علي وحدات الكتيبة الفرعية. 

 

وقع الخبر كالصاعقة على جمعة، الذى أيقن أنه لن يلاقى حبيبته التى انتظرها طويلاً. ذهب متظلماً إلى قائد الكتيبة من هذا القرار، لكن القائد المشغول بالإعداد للحرب صرفه غاضباً، إلا أن قائد السرية الأولى الذى كان يعرف قدراته توسط في الأمر، وطلب ضمه إلى قوات الاقتحام، فوافق القائد.

 

حينما صدر الأمر للسرية بالعبور، قام قائد السرية بتلقين جنوده بتعليمات القتال التى لم تستغرق سوى دقيقتين. وبينما توجه الجنود لإنزال القوارب في القناة، فوجئوا بأن الرقيب جمعة كان قد سبق الجميع إلى القناة، لكى يلاقى حبيبته التى شفـّه الشوق إليها.

 

كان القارب المطاطى (زودياك) ثقيلاً، لدرجة أنه يحتاج إلى عدة أشخاص لكى يدفعوا به إلى الثغرة، ومثلهم لكى يتمكنوا من إنزاله إلى الماء. لكنه- بإرادة حديدية- تمكن من إنزاله وحده، ثم قفز داخله. ونظراً لصغر حجم المجاديف، كان القارب يحتاج - فى عملية- التجديف إلى ثمانية جنود..أربعة عن اليسار، ومثلهم عن اليمين. إلا أن جمعة تمكن – وحده - من التجديف، مرة من الجانب الأيمن للقارب، وأخرى من الجانب الأيسر، حتى لا يدور حول نفسه.

 

هكذا اندفع وحده باتجاه الضفة الأخرى.

هلل البعض وضحك البعض الآخر، فقد كان الجميع يدركون شغفه  بلقاء حبيبته وحدهما، دونما عزول. كان يؤمن أن تلك حربه وحده، وأن سيناء لا تخص أحداً آخر سواه. لذا فقد سبق الجميع إليها، كي يختلى بها لبضع دقائق بعيداً عن أعين الرقباء.

 

حين وطأت قدماه أرض الضفة الأخرى للقناة، بدأ جسده يهتز بنشيج خافت. وعندما عبر الساتر الترابى وعانقت عيناه أرض سيناء، ارتمى على الأرض وقبـّلها. تساقطت بعض قطرات العرق أو الدموع، لم يكن يدرى، فوق (الطـَفْـلة) السوداء، فتكونت كتلة صغيرة من الطين. أمسك بها في قبضته، ثم اشتمّها. كان لها نفس رائحة الحبيبة التى طالما حلم بها. حاول أن يتذوقها، تذكر أنه صائم، فمسح بها على وجهه كأنه يتيمم للحرب، ثم انخرط في موجة من النشيج، لم يفق منها إلا حين هزه زملاؤه المتأثرين بمشاعره الجياشة.

*****

 

أبلغ قائد مجموعة قطع الطريق عن تدمير إحدى الدبابات وأسر أخرى في الكيلو 22، بعد أسر طاقم الدبابة الأولى ومقتل طاقم الثانية. صدرت الأوامر باللاسلكى للنقيب سمير عبد الرحيم بالاندفاع في اتجاه الشرق، لاحتلال مصطبة الدبابات، لمنع احتياطيات العدو من احتلالها، ليتسنى للسرية الأولى إتمام مهمتها بالاستيلاء على النقطة، فأصدر أوامره - على الفور- إلى الملازم فوزى ليقوم بتنفيذ الأمر.

 

تبعد المصطبة عن القناة بحوالى كيلومتر ونصف، إلى اتجاه الشرق. ويمر من وسطها محور بالوظة - رأس العش. ولكى تصل المجموعة بسرعة، تحركت في خط مستقيم اختصاراً للوقت. كان على المجموعة أن تخوض في الأرض الرخوة، مما قلل من سرعة اندفاعها، خاصة مع الأوزان الثقيلة التى كانت يحملها جندى المشاة، من أسلحة ومعدات. بعد خمس عشرة دقيقة وصلت المجموعة إلى المصطبة، واتخذت تشكيل القتال، في انتظار احتياطيات العدو التى لم تصل أبداً.

 

شاهد أفراد المجموعة معركة شرسة، تدور بين جنود الصاعقة، الذين عبروا من قبلهم، واحتياطيات العدو المدرعة. كان بعض من جنود الصاعقة قد استطاع الوصول إلى المدق، واتخذ أوضاع الرمى. في نفس الوقت كان الجزء الأكبر من سرية الصاعقة ما يزال يخوض في الملاحة الطينية، بينما تقترب  دبابات العدو من طراز باتون  إم 60 بسرعة هائلة، فهى أحدث دبابات في الترسانة الحربية الأمريكية.

*****

 

اندفعت أربع دبابات تمثل الاحتياطى التكتيكى القريب من اتجاه الشرق، كقطيع من الأفيال الجامحة. شاهد أطقم الدبابات جنود الصاعقة الذين كانوا يقاومون حركتهم البطيئة داخل الأرض الطينية، التى انغرسوا فيها حتى ما فوق الركبة، فانهالت عليهم القذائف  التى كانت تُضرب من الحركة. تساقطت كميات هائلة من القذائف من حولهم، لكنها كانت تغوص في الطين ثم تنفجر بداخله، فلم يصب أحد من رجال الصاعقة بسوء، لكنهم ظلوا هدفاً ثابتا للنيران، بعد أن توقفت حركتهم تماماً.

 

لم تكن أطقم الدبابات تظن أن أحداً من الجنود المصريين استطاع الوصول إلى المدق، فظلت مندفعة في اتجاهها، وقد انشغلت تماماً بالفريسة التى يمسك بها الطين .  كانت أشبه بعنكبوت هائل، يلف خيوطه حول فريسة سهلة.

 

 عندما وصلت الدبابات المهاجمة إلى الكمائن التى نصبها رجال الصاعقة على جانبى المدق، خرج صاروخ مباغت من أحد القواذف الصاروخية لجنود الصاعقة، الذين كانوا قد نجحوا فى الوصول إلى المدق، في اتجاه الدبابة الأولى المتقدمة على رأس الرتل.أصيبت الدبابة إصابة مباشرة، في المنطقة التى تفصل بين البرج والجسم. سقط البرج على الجانب الأيمن للدبابة، وبدأت الانفجارات تتوالى بداخلها. احترقت الدبابة فى مشهد مهيب،ولم يخرج منها أحد.

 

كان الجندى الذى أطلق الصاروخ يختبئ خلف أحد الأكوام الترابية التى أقامها العدو على جانبى المدق، لكى تستخدمها الدبابات كساتر عند الاشتباك مع أية قوات مصرية. وهاهم جنود الصاعقة يقلبون السحر على الساحر، فيتوارون خلف الردم الذى أقيم لحماية الدبابات، ليكون سبباً فى هلاكها.

 

أطلقت الدبابة الثانية قذيفة باتجاه الساتر الذى انطلق منه الصاروخ، فدمرته. تصاعد التراب إلى أعلى بشكل كثيف تعذرت معه الرؤية، فمرقت من خلاله الدبابة، بعد أن ظنت بأنها قد قضت على الخطر. لم تبتعد لأكثر من خمسين متراً، حتى فوجئت باندفاع صاروخ آخر باتجاهها، فدمرها شأن سابقتها. أطلقت الدبابة الثالثة قذيفة باتجاه الساتر، فبدا الأمر وكأن المشهد يتكرر،حيث استشهد الجندى الثانى. وقبل أن تتجاوز تلك الدبابة مسافة الخمسين متراً التالية، كانت قد لحقت بسابقتيها.

 

أطلقت الدبابة الرابعة قذيفة باتجاه مصدر النيران، الذى دمر الدبابة الثالثة، وتسببت فى استشهاد الجندى الثالث. وتكرر المشهد بنفس السيناريو، حين مرق صاروخ رابع باتجاهها، لكنه أخطأ نقطة التنشين فى الفاصل بين البرج والجسم،حيث أصاب جسم الدبابة، فانحرفت إلى جانب المدق، ثم توقفت. ارتفعت من داخلها يد تلوح بمنديل أبيض، ثم بدأ جنودها الثلاثة في الخروج منها، وأيديهم خلف رؤوسهم.

 

وصل باقى جنود الصاعقة إلى المدق، دون خسائر. تفحص قائد السرية الجنود الأسرى. ثلاثة من الوجوه البيضاء التي يميزهاالأنف المعقوف، والنظرات الزائغة.

أشار لهم بيده فتقدموا نحوه .

- ماشمخا؟

رد الجندى الأول في خوف:

ديفيد ليفى.

*****

 

توقف جنود المشاة عند هذا المشهد المهيب

جندى الصاعقة الأول يدمر الدبابة الأولى، فتقتله الثانية. ورغم ذلك، لم يتردد الجندى الثانى فى تدمير الدبابة الثانية، وهو يعلم أن رد العدو على قراره سيكون الموت الأكيد. وسوف يتكرر الأمر مع الجندى الثالث بنفس التفاصيل، لتكون حياة كل جندى - من الجنود الثلاثة - مقابل دبابة للعدو، بما فيها من أفراد.

 

ربما كان صلاح عبد الدايم هو الأكثر اندهاشاً، حين أدرك أن هؤلاء الجنود يمضون فى اتجاه مضاد لكل سنن الكون. كيف تسنى لهم أن يتغلبوا على غريزة حب البقاء بتلك البساطة المتناهية، ومن دون تردد؟ وهل يمكن أن تذوب الذات الفردية فى المجموع إلى درجة الفناء فيه؟ أدرك أن تعمق الإنسان للحياة فى مواجهة الموت، لايكون إلا صدًى لفهمه عن الحياة ذاتها. إن مجال التضحية غير متسق مع الغريزة الهدامة الكامنة فيما وراء الموت، لكنها تتسق - وبصورة أكبر- مع الغريزة الخالقة التى تحمل فى ثناياها سر الحياة. الشهيد - إذن- يتحول عن واقع يخضع له، وتمثله غريزة البقاء، باتجاه مصير يتحكم هو به. ليست الشهادة صورة إيجابية للانتحار، لكنها نقيض استبدالى له. المنتحر عادة ما يغمره اليأس، إنه يتخلص من حياته لأنه يدرك أنها قد تجاوزته، بينما الشهيد يدرك أن حياته ضيقة عليه، لذا فإنه يخلق مبررأً لكى يعيش طويلاً فيما وراء موته. لقد رأى صلاح أن خشية الجنود من الموت تكون أكثر قوة فى بداية المعركة، لكنهم كلما تقدموا خطوة تقربهم منه، ازدادوا به استهزاءً!! 

 

كان يقف على عتبة ما تبقى من الأجساد التى رآها تخبو، ثم تتلاشى. لكنه أدرك أن وميض الأشلاء سوف يدوم، ربما أبعد من الأزمنة التى تحيط بها. فى ذلك الصخب المقدس كان الموتى- وحدهم - هم الذين يتكلمون، فرأى الدماء التى ما زالت تقطر منهم، ترددهمهمة الجنود فى ليلهم الجنائزى، والتى تقول:(نحن موتى"مجدو" و"قادش" الذين لن ينال النسيان منهم). هنا لا يمكن العثور إلا على هذا المجد الذى يغلفه الموت. تذكر ماقاله ستالين ذات مرة:" فى نهاية الأمر،لاينتصر إلا الموت". فهل انتصر بالفعل عليهم، أم أنهم هم الذين استدرجوه إلى شرك مجدهم الشخصى؟

اكتشف - فجأة - أنه أمام درجة عليا من التصوف الإنسانى. ورغم حيرته إزاء تفسير تلك الظاهرة الخارقة، إلا أنه أحس أنه يتغير، فأشياء كثيرة لم تعد ب"حطة إيده"، كما كان يظن. بل إنه بدأ الآن يدرك أن كل شئ من حوله يتغير، إلا قانون التغير. وهاهى عواطفه تسكن الآن، فيما يشبه سكون المدن المهدمة، حيث صمت الأرواح يردد نشيده عن الصفاء الجنائزى. إنه يدرك الآن أن المرء يجهل الموت مهما قرأ عنه، لا لشئ إلا لأنه لم يجربه، وربما لوحاول .. لعرف.

 

تذكـّر أنه فى كل الديانات الكبرى ما من موت نهائى، بل تحول من حال إلى حال.

تقول كتب الهند المقدسة:

(..ذلك لن يكفّ عن الوجود أبداً،

إذ لا يُقتل عندما يُستباح الجسد..

ومثلما تطرح الثياب البالية، لتلبس غيرها/

فكل شئ يتغطى بجسد

يطرح عنه الأجساد البالية..)

لكن أكثر ما أثار حيرته ودهشته معاً، أنه على العكس من كل الجنود الذين شهدوا تلك الملحمة، لم تعرف الدموع طريقها إلى عينيه، رغم هذا المشهد المهيب. فهل استعصت عليه دموعه ؟ أم أن مشاعره هى التي جفت؟ وكيف تجف دموعه، وهو لا يذكر أنه قد سفحها من قبل؟

إذن هو تبلد المشاعر، الذى ينتج - بالضرورة- عن السلبية واللا مبالاة، وهذه علامة موت عاطفى، إن لم تخنه ثقافته الجوفاء، التي تعتمد على الاستظهار أكثر مما ترتبط بالواقع.

كانت سامية تقول له دائماً:

- إنسان بلا عواطف هو مشروع طاغية، أوهو ميت بالفعل

*****

بعد أن أنهى قائد سرية الصاعقة مهمته، وأوشكت سرية المشاة على الوصول إلى الموقع، لاستكمال مهمة احتلال الموقع الجديد ، جلس على الأرض في حالة من الحزن الشديد. أمر أحد الضباط بأن يحضر له (الأولاد). أدرك الضابط أن القائد يريد بقايا أجداث الشهداء الثلاثة من رجال الصاعقة، الذين دمروا دبابات العدو.

بدأ البحث المضنى عما تبقى منهم، بعد أن فتكت بهم قذائف الدبابات الإسرائيلية. لم يستطع الجند أن يجدوا سوى القليل من البقايا: الأقراص المعدنية.. قطع من بقايا القوايش .. جزء من جلدة رأس بها بعض من الشعر.. أصبع مبتورة. وضع الضابط كل ما وجده الجنود داخل منديله الكاكى، وقدمه إلى قائد السرية فى خشوع.

 

فرد القائد المنديل، ووضعه مفتوحاً على الأرض، وبدأت يده تتحرك جيئة وذهابا ببطء فوق ما تبقى من الشهداء الثلاثة، وكأنه أم تهدهد طفلها. ثم خاطب بقاياهم:

- خلاص ياحبايبى، مش حانشوفكوا تانى ؟

صمت لبرهة، ثم استطرد:

- صدقونى احنا هانكون رجالة زيكم، وأقسم لكم عمرنا ما هاننساكم..

ثم أردف:

- مع السلامة ياحبايبى

 

حفر بأصابعه حفرة صغيرة في الأرض، وضع بها المنديل. سكب بعضاً من ماء زمزميته على الرمل الذى غطاهم به، وكأنه يريد لتلك البقايا أن تثمر، أو أن تمد جذورها في التربة كى تستمد خلودها منه.

نهض واقفاً بعد تلك الطقوس

وفي كلمات قليلة أمر السرية بالاستعداد للتحرك إلى الخلف، بعد أن وصلت سرية المشاة إلى الموقع. كان وجهه يحمل تعبيرات لا يمكن لأية كلمات أن تترجمها، ولم يكن لأحد أن يستطيع قراءتها سوى الشهداء.

لم يبق شئ من مخلفات الضوضاء، سوى انعكاس أشعة الغروب فوق وجوه الجند الكالحة. وفى إهاب الصخب المقدس كانت الأرواح ما تزال متوهجة، من بقايا الموت الذى كان يشع كاللهب، بعد أن تفرغ الصحراء من احتضان قتلاها. كل هذا الكرنفال من الموتى كان يصطخب بالمخاوف الليلية، إذ تذوب الظلمة فيمن يحيطون بها، فيبدو النهار هو الميت الأحب إلى قلوبهم. هكذا لم يكن من الممكن العثور على الذات، أى ذات، إلا وهى تتأبط موتها.

*****

كانت مجموعة  (العزل) من السرية الثانية، التى كانت تحتل الكيلو 21 بقيادة النقيب سمير عبد الرحيم، قد وصلت إلى محور بالوظة - رأس العش، لاحتلال الموقع الذى كانت تحتله سرية الصاعقة، بمهمة تأمينه ومنع العدو من التقدم عليه،في اتجاه الغرب.

وعلى مشارف موقعها الجديد، شاهد الجنود الملحمة الرائعة التي سطرها أبطال الصاعقة. لقد تمنى كل منهم أن تتاح له الفرصة، ليحاكى هؤلاء الأبطال فيما قاموا به. وكان جزء من المجموعة ما يزال يخوض فى الملاحات الطينية، مستدلين علي موقعهم الجديد بأربعة من أعمدة الدخان، التى كانت تتصاعد من الدبابات المدمرة.

 

أطلق قائد المجموعة الذى كان يسير خلف الخائضين، عدة طلقات من طبنجة الإشارة في اتجاه سرية الصاعقة للتعارف، وحتى لا تتعرض المجموعة للنيران الصديقة. وعندما شاهد طلقات إشارة أخرى تندفع من الموقع تقدم في اتجاهه. وصل باقى  المجموعة إلى الموقع الجديد، ليلحقوا بمن سبقوهم. قام قائد السرية بتوزيع الأفراد والأسلحة، بعد أن وضع خطة نيران مناسبة, للدفاع عن الموقع ضد الاحتياطى التكتيكى البعيد، والذى كان ينتظر وصوله خلال 24ساعة إلى 48ساعة على أكثر تقدير. وإذا كان أبطال الصاعقة قد تكفلوا بالاحتياطى القريب، فإن المجموعة قادرة على دحر أى هجوم آخر.

*****

سمع جنود السرية الأولى البيان الأول للحرب، من خلال أجهزة الراديو، بعد أن استقروا في أماكنهم داخل خنادق النقطة القوية للعدو، في نقطة الكيلو19 الحصينة جنوبى بورسعيد، بمنطقة رأس العش. أحس كل منهم بالزهو، فمن المؤكد أن عائلته تفاخر به الآن.

 

كان الرقيب فتحى بدير يتذكر زوجته سميرة

لم يكن ينتظر منها سوى أن تأتى له بولد أو بنت، فقد تركها منذ ثلاثة أيام وهي على وشك الوضع. ظل ينتظر هذا الحدث الهائل ثمانى سنوات كاملة، فقد كانت سميرة لاتستطيع الإنجاب لوجود عيب خلقى فى الرحم. باع قطعة أرض هى كل ميراثه من أبيه كى يعالجها، وكان على استعداد أن يبيع عمره لو تطلب الأمر.

 

لقد يئست من إمكانية الإنجاب بعد سنوات طويلة من الانتقال من طبيب إلى طبيب، ومن مستوصف إلى مستشفى. بل إنها طلبت منه الطلاق لكى يتزوج بأخرى، فبكى. ألحت عليه أن يتزوج وأن تظل بعصمته، لكنه رفض. كانت سميرة حب عمره، لم تتوان عن إسعاده بعد زواجهما. كان يستحرم أن يظلمها، لتدفع ثمن ذنب لم ترتكبه. وإذا كان هو يتالم لعدم الإنجاب، فإنه يعرف أن ألمها كان مضاعفاً:

كانت تتألم للأمومة التى حُرمت منها، وتتألم أكثر لألمه. لقد كان متيقناً من ذلك، ولهذا قاوم إلحاف أمه وأسرته فى الزواج الثانى لكى ينجب. بل إنه - فى قرارة نفسه- كان على استعداد لأن يتنازل عن حلمه بالولد، ولا يتنازل عنها.

 

لم يخيب الله رجاءهما، فقد نجح الطب فى حل المعضلة، وحدثت المعجزة حينما حملت سميرة. وهاهى الأشهر التسعة قد ولت أوتكاد، ولم يتبق سوى أن يشيل ابنه ونور عينيه بين يديه. لكن البرقية التى وصلته ، والتى بموجبها تم استدعاؤه إلى الوحدة، قبل أن يعيش اللحظة المبهرة التى انتظرها لسنوات طويلة. لم يكن أمامه سوى أن يلبى نداء الواجب، بعد أن طلب من سميرة أن تسمي الطفل ابراهيم إن كان ولداً أوعنايات إن كانت بنتاً.

 

همس لنفسه:

- ياترى عاملة إيه دلوقت ياسميرة؟ ولد ولا بنت؟

قال له حسين عباس:

- مالك يافتحى ؟

- سميرة زمانها وضعت، ومش عارف إذا كانت جابت ولد ولا بنت .. دا غير إنى عايز أطمئن على سلامتها

قال حسين عباس:

- عموما ًولد ولا بنت كله كويس ياراجل..

ثم أردف:

- واطمن عليها.. انت مش سايبها لوحدها، معاها أهلها وأهلك، والكل هايشيلها فى عينيه وانت عارف كده

سرح بفكره قليلا ًثم قال:

- فعلا ًكله كويس.. المهم إنى أطمئن عليها وعلى المولود ولو بالتليفون . انت عارف ياحسين دى حب عمرى، والمولود دا كان حلم عمرى

- عموماً سيب لى الحكاية دى، أنا ها اكلم ضابط الإشارة يشوف لنا حل لموضوع التليفون، وانا واثق إنه لو يقدر يعمل حاجة مش ها يتأخر

استطرد فتحى وقد ترقرقت عيناه بالدموع:

- مهما قلت لك يا حسين مش ها تعرف معزتها عندى.. وقدرها اللى زاد أكترمن الأول.. دى هى اللى هاتجيب لى ابن يشيل إسمى من بعدى

- فال الله ولا فالك ياجدع .. ربك كريم

*****

 

28  سبتمبر1970

كان صلاح عبد الدايم قد غفا وقت القيلولة، محاولاً أن ينال قسطاً من النوم، حتى يتمكن من إنهاء خدمته الليلية على خير. وقبل أن يستغرقه النوم العميق، استيقظ فجاة مفزوعاً حينما هزه عبد الستاربعنف ليوقظه. فرك عينيه فى دهشة لهذه الطريقة التي لم يعتد عليها من زملائه، فقد كان يضع حائلاً زجاجياً بينه وبينهم :

"يستطيعون أن يروه، دون أن يتمكنوا من لمسه"

لكن دهشته ازدادت حينما رأى عبد الستار يولول كالنساء، بينما عيناه حمراوتان من كثرة البكاء

- اصحى يا صلاح.. شفت المصيبة اللى حصلت؟..أبونا مات يا صلاح..أبونا مات

ثم غلبته نوبة من النشيج، انتفض جسده معها بشدة

كان صلاح يعلم أن أباه قد مات منذ أمد بعيد، فلِمَ يولول هكذا؟ لذا سأله باستغراب:

- بتقول مين اللى مات ياعبد الستار؟

مسح عينيه بمنديله الكاكى، وقال بصوت منكسر:

- عبد الناصر مات ياصلاح.. وأول مرة أحس إنى يتيم

ردد صلاح مبهوتاً:

- مش معقول !!

كررها أكثر من مرة، وكأن الرجل كان عصياً على الموت، رغم أنه لم يكن يحمل له أية مشاعر حب. هل من الممكن أن نحب أحداً دون أن ندرى؟ أم ان الهالة التي صنعها الشعب من حوله هى التي أحالت حبه إلى مايشبه العادة السلوكية؟

نهض من فراشه متثاقلاً، وربت على كتف عبد الستار معزياً، فبادره الآخر:

- بتعزينى فى إيه ؟ الحق إن إحنا اللى متنا مش هو.. ماحدش حب الفقرا زيه، علشان كده با أقولك أبونا مات

صمت قليلاً كأنه يستعيد حياة بأكملها، ثم استطرد:

-         أبويا- الله يرحمه- كان بيحكى لى دايماً إزاى الباشوات والبهوات بتوع زمان كانوا بيتحكموا فى الفلاح، وإزاى حياته مكانش لها تمن عندهم، لحد ماجه عبد الناصر..

توقف قليلاً ليلتقط أنفاسه:

- طبعاً تلاقيك عرفت اللى حصل للفلاحين فى "بهوت"، وف أماكن تانية كتير

- طبعاً عارف..

- لكنك ماتعرفش عنه كل حاجة، انت بتقرا وبس عن اللى كان بيعمله فى الكتب أو الجرايد، لكن احنا كنا بنعيش اللى انت بتقراه، لأنه كان بيعمله علشاننا. تعرف مثلاً إن بلدنا بجلالة قدرها كان كل الفلاحين اللى فيها بيمشوا حافيين، ماعدا العمدة وشيخ الخفر طبعاً؟ وتعرف إن كل عيلتنا كانوا "تملية" فى أرض الباشا، يعنى بيشتغلوا بلقمتهم وبالهدمة الدمور اللى بتستر جتتهم؟ هو اللى ادى كل واحد فينا خمس فدادين، ولأول مرة الفلاحين تعرف يعنى إيه "أرض ملك" ..

 

قطع سمير كتكوت حديثهما عندما اندفع من باب الملجأ فى حالة من الهياج والصخب، صرخ وقد استغرق فى النشيج:

- شفتم اللى حصل؟

حدق فى وجوههم، وكأنهم مسئولون عما حدث:

- ليه سابنا ومشى؟ واحنا ما لناش سند غيره

انخرط فى موجة حادة من البكاء، ثم سقط مغشياً عليه.

تعاون الاثنان على حمله ووضعه فوق إحدى الأرضيات الخشبية. حاول صلاح إفاقته مستخدماً الكولونيا التي لاتظهر إلا عند القيام بإجازة، بينما انكب عبد الستار عليه، ليردد فى أذنه بعض الآيات القرآنية. نجحت المحاولة، وبدأ كتكوت فى الإفاقة التدريجية، بينما كان زائغ النظرات، وكأنه يبحث عن شئ غيرموجود.

فى هذه الأثناء دخل حكمدار خدمة التعيين بالكتيبة ، ليطلب فرداً يستلم منه تعيين عشاء السرية، فصاح به سمير كتكوت غاضباً:

- انت ما عندكش دم؟ هو فيه حد يقدر يتسمم النهارده يا ابن القحبة؟

لم يضحك صلاح عبد الدايم من تلك المفارقة اللاذعة، بل كان يمسح عن عينيه دموعه اللاإرادية التي غالبته ، ولم يستطع أن يغلبها لكنها غلبته.

*****

 

أدرك قائد سرية الاقتحام أنهم في مأزق، فبالرغم من سيطرتهم على مداخل ومخارج النقطة القوية للعدو،إلا أن أى هجوم جوى، أو حتى قصف مدفعى، سوف يمثل خطراً كبيراً على السرية. كان جنود السرية يقفون في العراء، بينما الجنود الإسرائيليون يكمنون داخل دشمهم، ولن يؤثر عليهم ضرب طيران أو مدفعية. لذا قرر أن يقتحم الدشم بأقصى سرعة.

 

قام بتجميع أفراد القواذف الصاروخية، وأمرهم بتوجيه قذائفهم إلى الأبواب الحديدية، التى صنعت من الصلب، والتى يصل سمكها إلى أكثر من عشرين سنتيمتراً.  أعاد توزيعهم مرة أخرى على الدشم. وقف بجوار الجندى الأول، ليرى تأثير القذيفة التى انطلقت إلى باب الدشمة الأولى. نتج عن هذا القصف ثقب صغير، لا يتجاوز قطره السنتيمترين، وهو ما أراده قائد السرية.

 

سُمعت الأصوات المكتومة للقذائف فى مختلف أنحاء الموقع الحصين، إضافة إلى أصوات التكبير. كان الموقع يحتوى على سبع دشم  تُغلق أبوابها هيدروليكياً . بعد قليل بدأ فى استجلاء ما تم إنجازه،  توالت التمامات.

 

أصدر أوامره إلى طاقم قاذف لهب ملحق على السرية، بضرب قصفتين من خلال الثقب داخل الدشمة. اقترب الجندى من الثقب، ووجه (الباشبورى) إليه، ضغط على التتك لتخرج قصفته الأولى. وقبل أن يضغط عليه للمرة الثانية، انفتح الباب الحديدي الضخم، واندفع منه أربعة من الجنود الإسرائيليون يصرخون في رعب، بعد أن احترقت ملابسهم وجلودهم. كان شعرهم قد (شاط)، وزاد من بشاعة منظرهم أنهم بدوا كبشر بلا رموش أو حواجب.

انبعث الدخان كثيفاً من داخل الدشمة، التى كانت النيران قد اشتعلت في بعض محتوياتها.

 

واتته فكرة قام بتنفيذها على الفور، إذ  قام بتوزيع الجنود الأربعة الأسرى على الدشم الأخرى التى لم يتم قصفها بعد. توجه كل منهم إلى إحدى الدشم، ليخاطب الجنود الآخرين من خلال الثقب. بعد قليل كانت الأبواب الهيدروليكية تُفتح، ليخرج منها الجنود الذين كانوا يحتمون بتحصيناتهم، والتى ظنوا أنها تحميهم من أى خطر، عاقدين أيديهم خلف رؤوسهم. وهكذا انتهت أسرع معركة على امتداد 170كم، هي طول جبهة القتال، إثر استسلام كل جنود الموقع، ودون خسائر تذكر.

*****

 

كان القائد كلما تحرك، وجد بشلة فى عقبيه، وقد تغيرت ملامحه من الكآبة إلى الصرامة، حتى صار ظلاً آخر له، مما أثاردهشة باقى المجموعة. زال اللهب الذى كان يشتعل فى تلك النظرة المتحجرة التى كانت تشع من عينيه. كما فقد - أيضاً- تلك النظرة المنطفئة التى كثيراً ماكانت تطغى عليه، كلما غمره الآخرون بمزيد من العطف أو الشفقة. كان يحس بالنشوة كلما أدرك أنه أصبح مثل باقى الجنود، حراً وبدون حرس، بعد أن تنازل عن ممارسة الإحساس بالدونية. إنه الآن إنسان مكتمل، لاحاجة به للرثاء، بل الإعجاب، وهذا ما يحاول الوصول إليه جاهداً..أن يكون فاعلاًً لامجرد كائن طفيلى، يعيش على آلام الآخرين أحياناً، أو مايلقون إليه به فى أحيان أخرى.

 

بعد أن تم الاستيلاء على كل الدشم، وقف القائد فى صحن النقطة كى يصدر آخر تعليماته، بشأن الإجراءت الدفاعية ضد أى اختراق محتمل للاحتياطى التكتيكى القريب للعدو. كان بشلة يقف على مقربة منه يرقبه فى إعجاب، ويتساءل لِمَ لم يصبح ضابطاً مثله؟ تنهد فى سعادة، وهمس لنفسه: ضابط أم جندى..الأمر سيان.

وبينما يمارس هذا الإحساس الجديد للمرة الأولى، أحس بأمورمريبة عند مدخل النقطة، فقرر أن يتبع هواجسه. أخذ يرنو إلى المدخل كجندى مقاتل، فأحس بحركة خفية فى خندق المواصلات الذى ينتهى بمدخل النقطة. تحرك بحذر كى يستطلع الأمر، وقد شهر بندقيته بعد أن حرك سقاطة الأمان إلى وضع الضرب الآلى. وأثناء اقترابه من الخندق، لاحظ خوذة ترتفع بحذر من أعلى الخندق يتبعها عينان، سرعان ما اختفيتا عند رؤيته. تأكدت هواجسه إذن، فقرر أن يخوض المعركة وحده.

 

استمر فى الاقتراب الحذر، فأ حس أن الحركة الحثيثة تبتعد بشكل مرتبك هذه المرة. نزل إلى الخندق بهدوء، ثم تقدم إلى الأمام بثقة، حتى وصل إلى مصدر الحركة، وهاله ما رأى. كان يتسلل أمامه جنديان إسرائيليان، فى محاولة للفرار، فزأر كجندى حقيقى:

- اثبت..

توقف الجنديان اللذان كانا يتسلحان برشاش عوزى، بعد صيحة بشلة، وألقيا بسلاحيهما على الأرض، ثم رفعا أيديهما إلى أعلى دلالة على الاستسلام. كانت نظراتهما زائغة، ولا يقويان على الوقوف إلا بصعوبة بالغة. أمرهما بشلة بدخول النقطة القوية، فتحركا فى الاتجاه العكسى ويداهما إلى أعلى.

 

كم كان يحس بالزهو حين تلتقط يده "دنيارة" (حافظة) أحد ضحاياه، وكم كانت سعادته تزداد كلما ازداد مابها من "ذهوب" (جنيهات). لكن إحساسه بالزهو الآن أكثر عمقاً، وأشد اختلافاً. كم ستكون مفاجأة قائد السرية الآن، حين يراه وقد أسر - وحده - جنديين للعدو!!

 

فى مدخل النقطة أمر الجنديين بالانبطاح أرضاً، ولما لم يفهما الأمر دفع أحدهما بقوة فسقط على الأرض، فاستلقى الآخر إلى جواره بسرعة. كان قائد السرية قد توقف عن الحديث، غير مصدق لما يحدث أمامه، وازدادت دهشته حين تحرك بشلة فى اتجاهه بخطوات عسكرية نشيطة ومنضبطة، وأدى التحية العسكرية كجندى حقيقى:

- تمام يافندم..تم أسر جنديين للعدو كانو بيحاولوا الهرب

ابتسم القائد، وربت على كتفه، ثم أمر الصول خيرى باستلام الأسيرين، واتخاذ اللازم. بعدها توجه بالحديث إلى بشلة:

- ألاقى معاك سيجارة يا سيد..أصل سجايرى خلصت؟

هرول بشلة فى اتجاهه، وأخرج علبة السجائر التى كان القائد قد منحه إياها منذ ساعتين، وحاول ردها إليه ، لكن القائد قال له:

- خليها معاك ياسيد.. دى علبتك..كفاية سيجارة دلوقتى، وها استنى منك السيجارة التانية بعدين

رد الجندى سيد محمد أحمد الكردى بصوت مدوٍ:

- تمام يافندم

أدى التحية العسكرية بقوة، ثم استدار وضرب كعبه فى الأرض بشدة، وكأنه كان يركل ماضيه إلى الأبد، ومضى، وسط نظرات الإعجاب التى أحاطه بها زملاؤه.

*****

 

كانت نقطة الكيلو 19 الحصينة هى أول موقع إسرائيلى يتم الاستيلاء عليه فى خط بارليف بامتداد الجبهة، ولم يستغرق الأمر سوى أقل من ساعتين. لكن هذا النجاح أعطى دفعة معنوية هائلة لباقى قوات العبور بامتداد الجبهة. وبعد استيلائهم على النقطة الحصينة بقليل، استمع جنود السرية الأولى إلى البيان رقم (3)، والصادر عن القوات المسلحة، بنجاح قواتنا فى الاستيلاء على بعض مواقع العدو فى خط بارليف.

 

أصدر قائد السرية أوامره إلى  الصول خيرى بسرعة إخلاء الأسرى إلى رئاسة الكتيبة على الضفة الغربية، على أن تسرع باقى السرية باحتلال الدشم للاحتماء بها.

 

استعلم قائد السرية من الملازم اسماعيل الزرقا عن الأسيرين الأخيرين اللذين أسرهما سيد بشلة، فأبلغه أنه قد تم استجوابهما، وقد أدليا بأنهما من قوة النقطة، وقد كان مكلفين بالعمل فى إحدى نقاط الملاحظة على أجناب النقطة القوية. وبعد أن فوجئا بقيام الحرب، اختبئا معاً فى إحدى الحفر، حتى توقف ضرب المدفعيات. حاولا العودة إلى النقطة مرة أخرى، لأنهما لم يتوقعا أن تسقط بمثل هذه السهولة، لكنهما فوجئا بسيطرة القوات المصرية عليها. حاولا الرجوع مرة أخرى إلى مكمنهما السابق حتى يحل الظلام، وتحت ستره يحاولان الفرار باتجاه الشرق مرة أخرى، لكن سيد بشلة أفسد عليهما الخطة، فسقطا فى الأسر. والآن يتم ترحيلهما مع باقى الأسرى، إلى مكتب المخابرات الحربية.

*****

 

الليل يقترب، وأنت وحدك مازلت تأخذ دورك كراصد

الموت من قدامك ومن خلفك، والنورس الذى أحببته فرّ منك، وتركك وحيداً.

فكرت ذات يوم أن تراهن مرة أخرى، لكنك – كمقامر قديم- توقفت.

كنت تخشى الخسارة دائماً

ولم تدرك حتى الآن أن أحلامك لم تخذلك، لكنك – أنت- الذى خذلتها.

كل من حولك وجد نفسه، أو هو يحاول ، لكنك مازلت غائصاً حتى سمائك في الطين الذى عن يمينك والذى عن يسارك.

راصد ؟!!

أنت قرن استشعار لحيوان خرافى يسكنك،

وسوف يطردك منك.

 

حاول صلاح عبدالدايم أن يعيش تلك الحظة المبهرة فى تاريخه، لكنه عجز- حتى الآن- عن استيعابها، فقد كان الموقف أكبر من قدرته على التفكير.

أراد أن يبكى ففشل،

حتى دموعه خذلته.

 

( كنت أظن أنى لو رأيتك يوماً هكذا، لضحكت منك حتى الموت، لكننى أكاد أبكى

- ولم ؟

- تحمل شدّتك كأنك تحمل صخرتك

- سامية

- بل صخرتك أنا الأخرى

- أريد أن .. أن أنام

- الذين ينامون هم المستيقظون،أما أنت..

- تعبت

- من كونك رقماً ، أم علامة فبر

- من كونى إنساناً

- أتريد أن تقنعنى أنه حتى الموتى يتعبون ؟!!

تركته ومضت إلى الملاحات .

لم تغص في الطين ، لكنها تلاشت،ربما.. إلى الأبد)

*****

 

بدأ أفراد مجموعة العزل- التى تغير اسمها إلى مجموعة الموقع المتقدم- في التجهيز الهندسي للموقع، إلا أنهم توقفوا بعد أن سمعوا أزيزاً يأتى من ناحية الشرق.

اقتربت ثلاث طائرات اسرائيلية منهم فانتشروا داخل الملاحات، لكن الطائرات تجاوزتهم واتخذت تشكيل المعركة من فوقهم. كانت طائرات سكاى هوك، وعندما اقتربت من النقطة القوية، فتحت خزانات النابالم. اندفع السائل الجهنمى في شبق إلى الأرض، التى ما إن كان يصطدم بها حتى تتحول إلى كتلة من الجحيم بامتداد مائتى متر. كانت النيران تنتقل في موجات متلاحقة لتحرق كل ما تطوله (بلا رحمة)، مشتعلة بوميض أخضر يميل إلى الاصفرار.

يا ولاد الكلب ..

نابالم فسفورى ؟!!.

اشتعل سطح النقطة القوية بتأثير النابالم.

 

عادت الطائرات مرة أخرى من اتجاه الغرب، وفتحت خزاناتها ثانياً، ثم استمرت في طيرانها  باتجاه الشرق.اندفعت أعداد هائلة من طلقات الأسلحة الصغيرة، تلاحقها فيما يسمى بـ (السد النارى). اهتزت الطائرة الأخيرة في عنف، ودارت حول نفسها عدة دورات، شاهد النقيب سمير عبد الرحيم قائد مجموعة الموقع المتقدم، رغم الظلام الذى بدأ يحل، شيئاً يندفع من الطائرة على مسافة كيلومتر في اتجاه الجنوب. نظر من خلال نظارة الميدان فتأكدت ظنونه.

 

قفز الطيار بالمظلة، وهوت الطائرة في الملاحات ثم انفجرت، وفي الحال أصدر أوامره إلى الملازم فوزى عاكف بتشكيل دورية والاندفاع بها لتفتيش الملاحة، وأسر الطيار.

*****

 

قام قائد السرية الأولى بأخذ تمام عن الخسائر بعد الغارة الوحشية على الموقع.كان يظن أن كل من كان خارج النقطة الحصينة قد تفحم،لكنه فوجىء أن الله قد سلم، فجاءت كل التمامات حتى الآن سلبية.

 

حمد الله كثيراً على ذلك، إلا أنه شاهد الرقيب حسين عباس ينزوى فى أحد أجناب الموقع، بينما يبكى في صمت، وهو ينظر إلى داخل أحد الخنادق.

سأله بقلق:

- فيه إيه ياحسين؟

أجهش بالبكاء وأشار إلى أرضية الخندق، كانت جثة متفحمة تآكل عنها اللحم، فبرزت منها العظام، التى لم تعد بيضاء بعد أن طالها التفحم أيضاً. انزعج قائد السرية من هذا المنظر البشع، وسأله:

- مين دا ياحسين؟

ارتمى على صدر قائد السرية، ثم انخرط فى موجة من البكاء:

-      فتحى بدير يافندم ..

تمالك أعصابه قليلاً، ثم استطرد:

- فتحى بدير مات، قبل ما يعرف مراته خلفت ولد ولا بنت

*****

 

انطلق أفراد السرية بعد انتهاء الغارة في دوريات تفتيش لكل أنحاء النقطة، بحثاً عن أى خسائر، وليتأكدوا من تمام تأمين النقطة. كانت هناك بعض الدشم المغلقة، قاموا بفتحها بالتفجير. فى نفس الوقت عثروا على مخازن الشئون الإدرية للموقع، ودهشوا حينما رأوا كمية ونوعية احتياجات النقطة الإدارية من التعيينات والمهمات والذخائر، التى تكفى لقتال أفرادها لمدة شهر على الأقل، إذا ما حوصروا. ولم يجدوا جثثاً أخرى.

 

اتخذ قائد السرية من إحدى الدشم مقراً له.

دخلها ليستريح بعد عناء يوم، فدهش. كانت مجهزة مثل بيت عصرى بكل الإمكانات الحديثة: الثلاجة.. التليفزيون.. التليفون.. أسرّة مريحة .. مراتب اسفنجية ..الخ.

 

كاد النهار الذى يدفن بعض ضحاياه ينصرم، بينما الأرواح تدخل ليلها الأبدى محاطة بذلك البذخ الجنائزى، فى صحراء تشيد القصور لموتاها. أدرك أن نعمة الليل بنت هذه الصحراء، حيث توحى بتآلف لا ينفصم بين الأرض والأجساد. هكذا كانت الشمس حين تغرب تهب الصحراء للموتى بكل اتساعها، كى يهبطوا إلى عمق مملكتهم العمياء فى باطنها.

 

استلقى على سريره فغاص فيه، وحينما استسلم للراحة، أدركه التعب. لكنه حينما فكر فيما حدث، والذى مر عليه كحلم، تناسى تعبه. وإذا كان دخول الإنسان في حرب يمنحه أبشع إحساس بالحياة، فإن خروجه منها منتصراً يمنحه أروع إحساس بتلك الحياة، إنه يريد الآن أن يرتشف ذلك الإحساس الممتع. لم يكن يتذكر ما حدث، لكنه تأمل ما سوف يحدث.

 

فجأة صارت مشاهد الحرب تترى أمامه، أخذ ينفض جسمه على المرتبة الأسفنجية التي تجاوبت معه، وهو يضحك فى عصبية، حين تذكر أن فتحى بدير قد مات، والضابط أحمد رفعت أصيب، وتم ترحيله.

كان يعرف أن الإنسان نوعان:

إنسان طبيعى، وإنسان تاريخى

الأول يعشق الحياة، والثانى يتعالى عليها. العسكريون - بدون استثناء - يندرجون عادة داخل النوع الأول. هذا النوع الذى يدرك الكون من خلال الحواس، وبالتالى فإنه يتبع غرائزه. ربما كانت الحياة العسكرية بقسوتها، ورهانه الدائم على الحياةعلى مر العصور، هى التي تسم أعضاءها بذلك الهاجس الحسى، الذى يواجهون به الموت والمجهول، باعتباره خط دفاعهم الأول. وبعد أن شهد الآن موته مستتراً خلف موت الآخرين، قال لنفسه فى أسى:

الدور عليك الآن

احلم ..

احلم بسوق العيش .. أو بسوق الجوارى .. كله أكل. ليس لك في الدنيا سوى النساء والجيش. والحرب قد تطردك الآن من الحياة كلها كالنفاية، مثل الجسم حين يطرد خلاياه الميتة ليجدد أنسجته، ولن تجد ملاذك الأخير إلا في حضن امرأة.

 

أخرج مجموعة الصور النسائية، التى كان يحتفظ بها في جيبه الأيسر دائماً، فوق القلب مباشرة. تأملها واحدة واحدة .. شويكار ونزهة ووجنات.

وأين صورة فريدة ؟ أين ؟ بحث عنها فلم يجدها.

- راحت فين بنت الحرام .. تكونش استشهدت في الحرب؟

ضحك فى سخرية لهذا الخاطر:

- ولا زمانها بتبرم مع واحد غيرك

تذكر- مرة أخرى- فتحى بدير، وسميرة التى وضعت أمس أو اليوم، والولد الذي جاء إلى هذه الدنيا لكى لا يجد له أباً، ككل الأطفال. وتذكر الجثة المتفحمة، التى برزت عظامها واسودت. بدأ يفكر فيما سوف يحدث له:

طلقة أم شظية؟

لغم أم نابالم؟

دانة دبابة أم صاروخ طائرة؟ ..

- اشرب

بكى بقسوة مثلما كان يضحك بقسوة منذ قليل، ثم أخرج ما في جوفه، فوق الصور التى سقطت على الأرض.

Share
Click to listen highlighted text! Powered By GSpeech