Click to listen highlighted text! Powered By GSpeech
Get Adobe Flash player
مستمرين معاكم بإذن الله 2008-2024 **** #لان_لجيشنا_تاريخ_يستحق_أن_يروي **** ***** إنشروا تاريخنا وشاركونا في معركة الوعي **** تابعونا علي قناة اليوتيوب 1100+ فيديو حتي الان **** تابعونا علي صفحات التواصل الاجتماعي** أشتركوا معنا في رحلاتنا لمناطق حرب أكتوبر **** يرجي استخدام خانة البحث **** *** تابعونا علي تليجرام - انستجرام - تويتر

روايه - رأس العش الثانيه - الجزء الخامس والاخير

 

صاح الجندى عكاشه، بلهجته ( الدارعمية):

بعيد الدار ياليلي     غريبٌ ، أين أحبابى؟

ابتسم الجندى فادى الذى كان يشاركه الدشمة:

- الله ينور ياشيخ عكاشة، ولو إنى مش فاهم انت بتقول ايه؟

- دا شعر يا أحمق

رد فادى بسرعة :

- أحمق مظهر

ضحك عكاشة :

- حتى وأنت تواجه الموت  لم تتغير

- ولماذا أتغير يامولانا؟

- وأصبحت تجيد العربية أيضاً؟

قال فادى ساخراً:

- أنا مش عايز أجيد العربية ، أنا عايز اشتريها

سرح عكاشة ببصره:

- تعرف يا فادى، اليوم فقط أدركت أن ليس هناك أغلى من الإنسان

- ياعم توكل، الفلوس أغلى من الإنسان، والعربيات أغلى من الإنسان، كله أغلى مننا..أنا مثلاً تفتكر أساوى كام؟

- تساوى الكثير عندى

- ماليش دعوة باللى عندك ، أنا باتكلم على بره ، الدنيا سوق يا عكاشة.. معاك قرش يبقى تساويه .. اسألنى أنا

- مهما كانت وجهة نظر الآخرين فيك، إلا إننى متمسك برأيى، أنت رجل عظيم. يكفيك ياولد يا فادى إنى مدين لك بحياتى. لولا إنك شدتنى بكل قوتك إلى داخل النقطة أثناء قصف النابالم، وانا كنت سرحان، كان زمانى الآن فى خبر كان..

ضحك فادى:

- تقول ايه ياشيخ عكاشة؟ عضمة زرقا بقى، وأحب أداين الناس من غير ما ادفع ولا مليم

سرح عكاشة ببصره، وتذكر النابالم الفسفورى، وجثة فتحى بدير المتفحمة، وقال بحزن:

- مش مهم إنك تكون عضمة بيضا أو عضمة زرقا، المهم ألا تصبح عضمة سودا ياخواجه

*****

 

سمع الصول خيرى ضجيجاً

خرج من دشمته، فرأى عدداً من الجنود الذين يهرولون إلى إحدى الدشم، في وسط النقطة، توجه إليهم ليستفسر عما يجرى:

- فيه إيه ياولاد؟

- الفطار اللى كانواالإسرائيليين هايطفحوه بعد صيامهم لقيناه زي ما هو

نظر خيرى فرأى ست موائد معدنية، صُفت فوقها أصناف عديدة من الطعام.

- يا للا يا حصّول اقعد ، المغرب أزف

صاح خيرى بصوت حازم:

- ماحدش يمد إيده على الأكل دا

- ليه ياحصّول؟

- مين اللى قالك ياحدق منك له إن الأكل ده مش مسموم؟

رد الجندى فادى بسرعة:

- بسيطة يافندم.. أدوقه أنا، ولو مت يبقى أموت بورك فرخة، أرحم ما اموت بشظية

- طيب افرض إنه مش مسموم، مش يمكن يكون لحم خنزير؟

صاح الجندى عكاشة بصوته الجهورى:

- أولا ًاليهود مثلنا لا يأكلون لحم الخنزير، ثانياً حتى لو كان كذلك فإن الضرورات تبيح المحظورات، كلوا على مسئوليتى

تعالت الصيحات:

- ينصر دينك ياشيخ عكاشة

- أهو مدرس عربى ودين أفتى لك فيها

أسقط في يد الصول خيرى، فهو لا يملك مجادلة "الشيخ" عكاشة في أمور الدين. لكنه قرر ألا يستسلم للهزيمة، فقال:

- برضه ماحدش هايمد إيده على الأكل ده، إلا لما أدى تمام لقائد السرية

نظر الجنود بعضهم إلى بعض، وسكتوا، فلم يكن أحد منهم يملك مجادلة (حصّول) فى أمور الميرى.

*****

 

اصطف الجنود حول الموائد الست، وهم يستمعون إلى أجهزة الراديو، وعندما سمعوا آذان المغرب لم يمد أحد يده إلى الطعام، رغم أنهم يعرفون أن بورسعيد تسبق القاهرة في التوقيت بدقيقتين. ظلوا ساكنين. كأن هذا الآذان يخص بلاد مسلمين أخرى غير بورسعيد ورأس العش. كانوا فى انتظار آذانهم الخاص، الذى عودهم عليه الرقيب حسين عباس.

 

بحثوا عنه بنظراتهم، فلم يجدوه بينهم. قام الجندى فادى من على مقعده على مائدة الطعام، بعد صيام يوم شاق ليبحث عنه. وجده يصلى المغرب قبل الإفطار، على غير عادته. كان يصر على تناول طعام خفيف- كالسنة النبوية- ثم يصلى، وبعد الصلاة يكمل الإفطار. رآه مستغرقاً في صلاته بالقرب من جثة الرقيب فتحى بدير المتفحمة، وحين فرغ من صلاته همس له فى نوع من المواساة:

- حرماً يافندم

- جمعاً يا فادى إن شاء الله.. فيه حاجة ؟

- أبداً قلقنا عليك قلت أطمّن..

ربت على كتفه فى حنو كعادته، وقال:

- شكراً يافادى ، أنا بخير زي مانت شايف

همس فادى لنفسه بأسى:

- فين الخير دا وانت بتبكى؟

 

صعد حسين إلى سطح النقطة بعد أن تذكر أنه لم يؤذن في السرية كعادته.

كانت الكتل الخرسانية المتناثرة، وقضبان السكك الحديدية المدمرة، والأسلاك الشائكة، تجهده أثناء سيره، تعثر أكثر من مرة. أذن لصلاة المغرب، وبعد أن انتهى من الآذان، أحس بالهواء الرطب يلذع بشرته، بعد أن جفف دموعه، وترسب ملحها فوق وجهه.

 

تذكر فتحى بدير، وتذكر عشرة العمر منذ أن تطوعا سوياً حتى مات وتركه وحيداً وأعزل من ذكرياتهما معاً. كاد يقع، فاستند إلى البرج الحديدي المائل الذى يرفرف عليه العلم.

تحسس العلم .. دفن وجهه فيه ، وبكى - دون صوت- حتى استراح.

*****

 

أقبل الجندى حامل جهاز اللاسلكى، وقال لقائد المجموعة:

- الملازم فوزى طالب فردين حملة نقالات ومعاهم نقالة

- خير؟ فيه حاجه حصلت؟

- لا يافندم، هو بيقول إن الطيار رجله مكسورة، وعايزين يشيلوه

- بلغه يضرب طلقة إشاره بيضاء لتحديد مكانه

 ضغط الجندى على ريشة التحميل:

- نصر 7 .. من نصر 3.. هل تسمعنى ؟ أفد .. حول

- . . .

- أطلق واحدة نمر أبيض لتحديد مكانك، حول

أصدر قائد المجموعة أوامره إلى الرقيب أول بدر، بدفع جنديين ومعهما نقالة في اتجاه طلقة الإشارة بمجرد ظهورها.

اتجهت الرؤوس في اتجاه الجنوب الشرقى، لرصد الإشارة. صاح أحد الجنود:

- الإشارة يافندم

أضاءت طلقة الإشارة لمدة خمس عشرة ثانية، كانت كافية لتحديد اتجاه الدورية.

اندفع جنديان يحملان نقالة، أمسك كل منهما سندوتش يكملان به إفطارهما خلال خوضهما في الطين.

****

 

- ماشمخا؟

- يشاي كاتزير

- درجتخا؟

رد الطيار بالعربية:

- ملازم طيار

- هل كنت تقود الطائرة السكاى هوك التى سقطت؟

- نعم

- وما الذى أسقطها ؟

- طلقة بندقية في الكابينة الزجاجية، وأخرى بخزان الوقود

- جائع ؟

 تردد قليلاً،ثم أشار بإيماءة من رأسه، تعنى نعم

توجه قائد المجموعة بالحديث إلى بدر:

- جهزوا له أكل يابدر لحد ما ابلغ الكتيبة

*****

وضع عبد الفتاح رأسه بين كفيه، وبدأ يتذكر ..

كان يقطن إحدى قرى مركزالبدارى بمحافظة سوهاج. كل شئ هادئ فى القرية، إلا حين يتعلق الأمر بالعرض أوالثأر. هنا فقط تصبح البدارى أحد أضلاع مثلث الرعب، إضافة إلى مركزين من محافظة أسيوط، هما أبنوب والغنايم، حيث يتحول قتل الخصوم إلى ما يشبه ارتشاف فنجال من القهوة.

 

تزوج عبد الفتاح وهو دون الثامنة عشرة، وأنجب طفله الأول قبل أن يلتحق بالجيش بعدة أسابيع. وفى بداية خدمته العسكرية وصله خبر مشئوم بأن أخاه الأكبر قد قتل شاباً من عائلة (الدرايدة)، فى عراك بينهما على خلاف حول مواعيد الرى، ثم هرب. ظلت عيون الدرايدة تفتش عنه كل مدن مصر، لكنهم على مدى شهور طويلة لم يعثروا له على أثر.

 

لسوء حظه تُوفى أخوه فى حادث، إذ سقط من  أعلى عمارة تحت الإنشاء كان يعمل بها ضمن طائفة المعمار. وهنا أصبح عبد الفتاح مطلوباً للثأر بدلاً منه، قصاصاً لجريمة لم يرتكبها. لذا لم يقم بأية إجازة ميدانية على مدى العامين الماضيين، خوفاً من انتقام الدرايدة.

 

هكذا تقطعت به السبل بينه وبين أهله، وما آلمه أكثر حرمانه من رؤية زوجته وابنه. لذلك كان إذا ما ألم به مكروه يشكو لعبلة همه، وإذا أضناه الشوق لرؤية معوض الصغير، كانت تغشى عينيه سحابة من الدمع، فيربت فوق رأسها.

 

ربما لهذا السبب صارت عبلة بديلاً أيقونياً لأسرته الصغيرة، وبالتالى ارتبط وجوده بوجودها. حتى أنه إذا ما غابت ساوره القلق عليها، وإذا ما مرضت لم يكن ليغمض له جفن حتى تبرأ. وهاهو قد تركها منذ خمسة أيام فى الكيلو 21، ولم يعد يعرف عنها شيئاً. بدا له الأمر وكأنه يفقد أسرته الصغيرة للمرة الثانية.

 

كان يجلس داخل إحدى الحفر التى حفرتها في الأرض دانة دبابة، بعد أن هذب أجنابها بستار من شكائر الرمل، يفكر فيما يمكن أن يكون قد حلّ بها. ولكى يقتل الوقت أشعل أحد أقراص الوقود، فتصاعدت ناره الزرقاء الهادئة. وضع إحدى صفائح المعلبات، بعد أن غسلها ثم ساوى حرفها فوق النار. ملأها ببعض الماء ولقمها بالشاى، كان قد صنع للعلبة يداً طويلة من السلك الذى برمه جيداً، فاتخذت شكل (الكنكة). أشعل سيجارة وبدأ يتلذذ بنكهتها، ومن بعيد كان يرى وميضا ًمتلاحقاً، تعقبه أصوات انفجارات في موقعى التينة والكاب.

 

فى الأيام القليلة الماضية، تعلم الجنود ألا يتواجدوا خارج الخندق أوخارج حفرهم البرميلية، إتقاءً لنيران الإزعاج التى يطلقها العدو من وقت لآخر، وبشكل غير منتظم. فإذا ما اضطرتهم الضرورة للحركة فى العراء، فإن عليهم السير على أجناب المدق ، وفى الميول الشمالية أو الجنوبية له، مع الحرص الدائم على ارتداء الخوذة. كان الهدف من نيران الإزعاج، كما يبدو من اسمها، هو وضع الطرف الآخر تحت ضغط نفسى مستمر، حيث لا يدرى متى ولا أين تأتيه القصفة القادمة. أى أن تأثيرها كان نفسياً بالأساس، أكثرمنه مادياً. فإذا ماتمكنت نيران الإزعاج من إحداث قدر من الخسائر أو الإصابات، إلى جانب الإزعاج، فخير وبركة.

 

وبينما كان منهمكاًً فى التفكير، أحس عبد الفتاح بحركة من خلفه. نظر باتجاهها، فلم يستطع أن يتبين شيئاً في الظلام. انتفض بسرعة وأمسك بمقبض مدفع الماكينة، الذى كان قد نصبه للضرب م/ ط ، ووضع إبهاميه على عتلة ضرب النار، تحسباً لأى طارئ. ازدادت الحركة وضوحاً، وحين وجه ماسورة المدفع في اتجاهها ليضرب بالتوجيه، تهلل فجأة.

-      عبلة ؟

-      اندفعت الكلبة نحوه، فخرج من حفرته . جثا على ركبتيه، فاندفعت إلى أحضانه . 

بكى كما لم يبك من قبل وهو يمسح على شعرها، وأخذ يهذى :

- واحشنى قوى يا معوض، ياترى بقى شكلك إيه؟ خايف أموت من غير ما أشوفك ياولدى، وأضمك لصدرى

ضم عبلة إلى صدره بقوة، ثم تحول البكاء إلى نشيج.

 

بووووم ..

سقطت بغتة إحدى دانات الإزعاج التى أطلقها مدفع هاون للعدوفوق المدق، فانفجرت مخلفة وراءها دوى مفزع. انقبض قلب الرقيب أول بدر هذه المرة، وبكى كتكوت دون أن يدرى سراً لبكائه.

بدأ قائد المجموعة بالتتميم على الأفراد بالصوت، وعندما نادى على اسم عبد الفتاح.. لم يرد.

*****

 

استقرت مجموعة  الموقع المتقدم فى موقعها الجديد على محور بالوظة - رأس العش ،

لم يكن المدق يمثل عنق الزجاجة لموقع رأس العش ، بل لمنطقة جنوب بورسعيد كلها. قام قائد المجموعة بدفع كمين ليلى على طريق اقتراب العدو،على مسافة كيلومتر تقريباً من الحد الأمامى للمجموعة. وقد اختار ثلاثة أفراد يتميزون بالشجاعة والانضباط لتنفيذ تلك المهمة، والتى تتلخص فى الإنذارفقط. أصدر أوامره بأن يتولى العريف ابراهيم عبده قيادة الكمين، ويكون تحت قيادته الجندى بخاتى والجندى منصور، على أن يتم احتلال مكان الكمين فى آخر ضوء، ثم يتم الانسحاب منه فى أول ضوء.

 

قام أفراد الكمين بتنفيذ الأمر فوراً بمجرد حلول الظلام، فى اليوم الثانى للحرب بالتحرك إلى شرق المدق. بعد وصولهم إلى المسافة التى حددها القائد، قام العريف ابراهيم عبده باختيار أنسب مكان للكمين، وحدد موضع كل فرد فيه، ثم أكد عليهما بالتزام الصمت المطبق أثناء عملية الاحتلال.

 

فى اليوم الثالث للحرب، وقبل تحرك الأفراد إلى موقع الكمين، استأذن العريف ابراهيم عبده القائد فى أن يدفع أحد الجنديين لاستطلاع الأرض أمامهم، نظراً لأن المنطقة المحيطة بهم كانت مكشوفة تماماً، مما قد يعرضهم للخطر إذا ما أجبرتهم الظروف للاشتباك مع العدو. وافق قائد المجموعة على ذلك، وأمره بالتنفيذ فوراً.

*****

 

فى نهاية اليوم الثانى للحرب،كانت نتائج القتال- بامتداد الجبهة- مبهرة. فقد تم الاستيلاء على أكثر من ثمانين بالمائة من النقاط الحصينة بخط بارليف،وكان الباقى على وشك الاستسلام. أما على المستوى التعبوى المحلى، فقد سقطت نقطة الكيلو(19) بالأمس، واليوم سقطت نقطة الكيلو (10)،والتى كانت - فعلياً- تتكون من ثلاث نقاط حصينة. كما تم الاستيلاء على النقاط الحصينة فى المواقع التى تليها جنوباً، فى التينة والكاب والحرش والقنطرة. إنه إنجاز لم يكن يحلم به أكثر المتفائلين، خاصة بعد نجاح المهندسين العسكريين فى فتح ثغرات فى الساتر الترابى بامتداد الجبهة، لإقامة رءوس كبارى للفرق المشاة فى الجيشين الثانى والثالث.

 

وجاءت تقارير المخابرات الحربية لتؤجج الإحساس العارم بالفرحة، إذ كانت خسائر العدو فى الطائرات حوالى  مائتى طائرة، بينما تجاوزت فى المدرعات الثمانمائة دبابة.

هكذا بدأت تتضح معالم الانتصار، حين استطاع القادة المصريون العظام أن يلغوا الصدفة بطريقة شبه حسابية. وعندما تناهت تلك الأخبار إلى الجنود، عبر الراديو أوعن طريق الضباط بدءوا يهللون . وهنا قررجنود السرية الأولى ، التى قامت بعملية الاقتحام، الاحتفال بنجاح قواتنا فى تحقيق تلك المعجزة.

*****

 

أبلغ جندى اللاسلكى النقيب سمير بورود إشارة من الكتيبة، ثم ناوله نصها.

كانت الإشارة تتضمن مرور جنديين من الصاعقة من خلال موقع المجموعة، للقيام بمهمة خلف خطوط العدو. وكان مطلوباً منه أن ينسق معهما حول إمكانية تأمينهما فى حدود قطاع المجموعة أثناء المغادرة، وأيضاً تأمين عودتيهما. كان ذلك يتطلب الاتفاق على كلمتين للمرور والإجابة، بدلا ًمن كلمة سر الليل.

 

بعد قليل وصل الجنديان بالفعل إلى الموقع المتقدم، وطلبا مقابلة القائد. قام النقيب سمير بالاستفسار عن ميعاد المغادرة وتوقيت العودة، واتفق معهما على وسيلة التعارف. بعد ذلك طلب العريف إبراهيم عبده وباقى مجموعته،لكى يتعرفواعلى جنديي الصاعقة، حتى لا يتعرضا لمكروه عند العودة. وبعد أن تم التعارف والاتفاق على كافة التفاصيل، سمح لهما بالمغادرة مع أفراد الكمين الليلى، الذين كانوا على وشك التحرك.

 

اختلى الرقيب أول بدر بالجنديين، وتحدث معهما بصوت خافت، ثم تمنى لهما التوفيق بصوت مرتفع هذه المرة. وبعد أن تحرك الركب، توجه إلى النقيب سمير وهمس فى أذنه ببضع كلمات، ثم ناوله لفافة، عندما فتحها وجد بها رغيفى جراية. لام بدر على تصرفه، لكن الأخير أقنعه بأن معهما ما يكفيهما من الطعام، ثم أن جنود المجموعة لم يتذوقوا الزاد منذ الأمس، فأمره بحفظ الخبز حتى الصباح.

 

وصل الجنود الخمسة إلى موقع الكمين، وقد أبلغهما العريف إبراهيم بأنه سوف يدفع بأحد الجنود لكى يستطلع المنطقة الأمامية، بحيث يجدون موقعاً آخر يوفر الحماية لهم، فطلب منه الجنديان أن يتحرك معهما، خاصة وأنهما سوف يسلكان نفس الاتجاه، فوافق، ثم أمر الجندى بخاتى بالذهاب بصحبتهما،لاستطلاع المسافة المتبقية من المدق.

*****

 

لم يكن للكتيبة هذا اليوم مايشغلها، سوى الحديث عما وقع صباح اليوم لأحد جنود السرية الثانية، والتى تتمركز مجموعة الموقع المتقدم منها على محور رأس العش-بالوظة.

طلب الجندى راشد الإذن بالاستحمام من النقيب سمير قائد المجموعة، فقال له:

- بس المجموعة ما فيهاش (أدبخانة) ميدانى، هاتستحمى فين والأرض كلها مكشوفة؟

رد الجندى:

- يا افندم أنا هاستحمى فوق الملاحات البيضا، لأنها نضيفة وصلبة، وها ابعد مسافة كافية

قال القائد ضاحكاً:

- اوعى تكون بتهرب من المواجهة اللى احنا منتظرينها فى أى لحظة؟

- هو سيادتك مش عارف جنودك؟

- لأ جدع ياله.. كلتنى

ثم أذن له بذلك.

 

كان الجندى قد حصل على إحدى صفائح الجبن الفارغة سعة 20 لتر، ملأها بالماء. وضع على كتفه الغيار النظيف، وأمسك باليد اليسرى بقطعة من الصابون الميرى، ثم توجه شمالاً فوق الطبقة الملحية ناصعة البياض، بينما يحمل صفيحة الماء بيده اليمنى، كى يبتعد إلى أبعد مسافة ممكنة. وعندما أصبح على مبعدة ستمائة متر تقريباً، توقف ليضع حاجياته، وبدأ فى نزع ملابسه.

 

بدأ يغنى(فى الحمام) كالعادة، بينما يصل صوته بالكاد إلى آذان زملائه، الذين بدأوا يتندرون عليه تارة، ويحسدونه تارة أخرى. وكلما أوغل أكثر فى معركة النظافة، كان صوته يزداد علواً وجمالاًً.

 

كان سرب من طائرات الفانتوم الإسرائيلية قد قام قبل قليل فى الاندفاع باتجاه بور سعيد لقصف بعض الأهداف بها. تناهت إليهم أصوات الانفجارات، والتى كانت تهز الأرض تحت أقدامهم، رغم أن القصف يبعد عنهم حوالى 20 كيلو متر. وكان من عادة الطائرات العائدة من من مهامها أن تتخلص مما تبقى لديها من القنابل أو الصواريخ فوق المواقع المصرية، التى يتصادف مرورها عليها فى رحلة العودة. لذا أمر النقيب سمير أفراد المجموعة بالنزول فوراً داخل الحفر البرميلية، وعدم الخروج منها إلا بعد انسحاب الطائرات المغيرة.

 

شاهد الجنود من بعيد عدداً من النقاط السوداء التى تشغل الحيز الشرقى من السماء، بينما يزداد حجمها وصوت هزيمها كلما اقتربت. وفى أقل من نصف دقيقة مرقت من فوقهم، بعد أن أطلقت عليهم وابلاًً من القذائف والصواريخ. فى نفس الوقت انعكس ضوء الشمس على صفيحة المياه التى كان الجندى يستحم بها، فشدت انتباه أحد الطيارين، الذى بدا لهم وكأنه يلهو، إذ استدار عائداً فوق الملاحات البيضاء، وصوب صاروخاً باتجاه الجندى المستحم.

 

شاهد الجندى مناورة الطائرة، وأدرك انه الهدف ، فجلس على الأرض الملحية، واستند بمرفقه الأيمن إلى الصفيحة. كان الصاروخ يتوجه إليه بدقة متناهية، فأدرك أنها النهاية. تلا الشهادتين وأغمض عينيه فى انتظار الموت، لكن الصاروخ اخترق الطبقة الملحية، وغاص فى عمق الملاحة ولم ينفجر. هلل الجنود لتلك المعجزة الربانية، خاصة وأنه لم تحدث فى المجموعة أية خسائر. انتظروا أن يروا زميلهم يتحرك، لكنهم فوجئوا بعدم حركته.

 

بعد أن قام النقيب سمير بالتتميم على المجموعة، وتأكد من سلامة كل الأفراد، نادى الرقيب أول بدر، وأمره بالتوجه إلى الجندى للاطمئنان عليه والعودة به، وقد ظن الجميع أنه قد أغمى عليه. أمر بدر فردى حملة النقالات بالذهاب معه، على أن يحضرا معهم النقالة تحسباً لأى طارئ.

 

وحين اقترب الرقيب أول بدر حيث يوجد الجندى، رآه - من على مسافة المائة متر- جالسا ًويستند إلى الصفيحة بمرفقه، مما يؤيد نظرية إغمائه. نادى عليه فلم يرد، فاستمر فى الاقتراب منه وهو يهزل معه. وحين وصل إليه كان عارياً وعليه بقايا من الصابون، بينما تسنده الصفيحة من السقوط. نادى عليه:

- راشد..راشد.. انت يابنى آدم..أنا عارف إنك زى القطط بسبع ترواح. بقى معقولة الصاروخ يسقط على بعد عشرة متر منك ويكدب؟ دا لولا إنك ابن حلال وربنا بيحبك كان زمانك مليون حتة دلوقتى. راشد.. اصحى ياد واسترعورتك

توجه إليه أحد الجنديين وهزه، فسقط جسده على الأرض مثل كيس الرمل. جس الجندى نبضه، ووضع أذنه على صدره كى يستمع إلى ضربات قلبه، فلم يسمع شيئاً. نهض قائلاً:

- راشد تعيش انت ياحصول

بهت بدر وأخذ يردد عدة مرات:

- لاإله إلا الله.. بس إزاى ده حصل

رد الجندى الآخر:

- أكيد صدمة عصبية.. يعنى مات قبل الصاروخ ما يوصل الأرض

*****

 

بدأ جنود السرية الأولى- المتواجدين بالراحة- فى الاحتفال بالنصر، من داخل الموقع الحصين الذى استولوا عليه. تعالت بعض الأصوات المتباعدة من دشم عدة، ومالبثت الأصوات الفرحة أن عمت الموقع بأكمله. كان الجنود يرددون الأغانى الوطنية التى واكبت عملية العبور، لما تميزت به من بساطة وصدق، بعد أن تجاوزت مرحلة الزعيق (الحنجورية)، مثيلة (بركان الغضب) و(حِنّا للسيف).

 

خرج الجنود من الدشم، وتوجهوا إلى(ميس) النقطة، باعتباره أكثر الأماكن اتساعاً بالموقع. أقبل قائد السرية ومعه باقى الضباط لمشاركة الجنود أفراحهم المشروعة،فتهلل الجميع لحضورهم. أمرالقائد الصول خيرى بتوزيع بعض الحلوى والمشروبات والسجائر المستولى عليها من الكانتين الإسرائيلى بهذه المناسبة السعيدة، فتصايح الجنود فى سعادة. ابتسم الصول خيرى وقال لهم معابثاً:

- خدوا بالكم فيه حاجة ساقعة بعد الأكل.. بس اوعوا تسكروا يا(نِمَر)

ضحك الجميع فى حبور

ثم وجه حديثه إلى الجندى ابراهيم بحبوح:

- الليلة ليلتك يا بحبوح..لا أسكت الله لك حسًّا..سمعنا ياريس حنتيرة

هلل الجنود مطالبين زميلهم بإنشاد مواويله الجميلة، و التى كثيراً ما هونت عليهم مشقة الحياة العسكرية، خاصة أثناء عمليات التجهيز الهندسى، والتى كانت تذكرهم بالأحبة والخلان، وبالليالى الملاح، فى حضن ساقية أوتحت التوتة..

تقدم ابراهيم بحبوح إلى صدارة المشهد، وبدأ الشدو والشجو معاً. وبين الهجران والصدود والسهر وشكوى الأيام. كانت تتعالى آهات الجند، ما بين معجب بالصوت أومنفعل بالمعنى:

يا بحر بُغداد جاش خِلّى ملا منك ؟

أسمر جميل المعانى، يخشى الملام منك

والله لوما قلت لى يابحر لأهدّ  ف جروفك،

وانزح ميتك منك ..

 

إلا أن الغناء كالخمر، حين يتعاطاه شخص ما فإنه يكثف الحالة النفسية لصاحبه: فإن كانت فرحاً، فمزيد من الفرح.. وإن كانت حزناً فمزيد من الشجن. ويبدو أن إيقاف مشروع الإجازات لأغراض المشروع، ثم نشوب الحرب بشكل مباغت، كل ذلك قد عمّق شعور بحبوح بالحزن لأن إجازته كانت قد حلت منذ ثلاثة أيام، حيث أوقف مشروع الإجازات، مما أدى بمواويله أن تكون مصدراً للشجن. وقد تأكد ذلك حين  وصل إلى مواله الأخير:

الأولة النبى

والتانية أيوب

والتالتة غربتى

والرابعة المكتوب

والخامسة كنت غالب

صبحت انا المغلوب..

لعبت ياسوس وخليت المخبى بان

 

حينئذ خفتت الأصوات، وتغير مزاج  المكان، الذى سيطر عليه شجو المواويل الحزينة. قال قائد السرية ضاحكاً:

- مالك يا بحبوح.. لونك غامق ليه النهارده؟

حاول الصول خيرى أن يتخذ المزاج العام اتجاهاً آخر، فقال للجندى يوسف ادوار:

- احك يا يوسف للقائد حكايتك فى الدير

 

بدأ يوسف يحكى بلهجته الصعيدية قصة سفره إلى القوصية لحضور الاحتفالية السنوية التى تقام فى دير المحرق، وكيف كان يتوسل إلى الراهب الذى يقف على باب الدير كى يسمح له بالدخول، قائلا ً:

- و(النبى) يا ابونا

نظر الراهب إلى معصمه الممدود، فلمح علامة الصليب..ابتسم، ثم أغلق الباب فى هدوء.

ضج الجميع بالضحك، خاصة حين وجه كلامه إلى القائد قائلا ً:

- و(النبى) يا فندم ما كنت اقصد

 

على أن الجندى منصور تبرع بسرد حكاية أخرى أنكى وأضل سبيلا ً.

فى إحدى إجازاته الميدانية سافر إلى أهله بمدينة طنطا، وتصادف أن كان مولد السيد البدوى سيقام خلال هذه الإجازة. اتصل به الجندى جرجس، رفيقه فى دفعة الإجازات، وأخبره برغبته فى القدوم من الشرقية لحضور فعاليات المولد، فرحب به. حضر جرجس نهاراً فاستقبلته العائلة كأحسن ما يكون، حتى أن الأخ الأكبر لمنصور دعاه إلى سهرة فى بداية الليل.

 

فى هذه السهرة أنعم عليهما الأخ الأكبر بطاقم (بيرة)، وما لذ وطاب من المزات. شربا حتى الثمالة كما يقولون، وأشعلت النار فى رأسيهما نسمة خريفية باردة. سأل جرجس:

- مش ها نروح المولد بقى؟

فأجابه منصور:

- يابنى الساعة داخلة على اتناشر، واحنا مونونين.. دى خلاص طلبت نوم

- بس أنا جاى مخصوص علشان أروح المولد

وتحت ضغط واجب الضيافة، لبى  منصور رغبة ضيفه.

كان الميدان أمام المسجد مزدحماً، فجرّه منصور من يده لكى يجلسا فى أحد المقاهى،

لكن جرجس قال:

- أنا مش جاى أقعد على قهوة..أنا عايز اقرا الفاتحة للسيد البدوى شخصياً، دى وصية واحد عزيز علىّ قوى

ضحك منصور، ورد قائلا ً:

- فاتحة إيه يا بنى اللى ها تقراها؟ها تقول إيه؟ أبانا الذى فى السموات؟

رد جرجس - تحت تأثير البيرة- غاضباً:

- اشمعنى المسلمين بيدخلوا الكنايس والأديرة بتاعتنا؟

ثم أردف:

- مش بتروحوا برضه مولد الست دميانة ؟ وبتزوروا دير المحرق، ودير مارمينا العجايبى..؟

ضحك منصور، وقال له:

- بس بس..عندك حق. قوم بينا نتقوت الأول، وبعدين نروح زى ماانت عايز

- هو فيه مطعم قريب هنا؟

- فيه اللى أحسن من المطعم..مائدة رحمن بتقدم سحور ماتقولش لعدوك عليه

قاما معاً وسارا فى العديد من الشوارع الجانبية، إلى أن قال منصور:

- خلاص ياعم وصلنا

كانت هناك العديد من الأسمطة مبسوطة، وقد صُفت على الأرض أنواع مختلفة من أطعمة السحور: فول مدمس وجبن ومخلل وزبادى وخس وسلاطة طحينة، بالإضافة إلى أطباق  الحلومن الكنافة والقطائف..الخ.

المهم.. جلسا إلى أحد الأسمطة، ورائحة البيرة تسبقهما. كان أحد المريدين ينظر إليهما شذراً، ربما بسبب الرائحة التى تفوح منهما. لمح منصور نظرات الرجل الغاضبة، فتوجس منه ، وقال هامساً:

- مش يا للا بينا يا جرجس

ورغم الصوت الخافت ، سمعه الرجل، فانفجر غاضباً، وصاح:

- وكمان جرجس يا ولاد الكلب

وعينك ما تشوف إلا النور..

 

ضحك الجميع كما لم يضحكوا من قبل، فقال منصورموجهاً كلامه إلى جرجس:

- صحيح انت يومها ما اكلتش، لكن القفا الصح اللى أخدته شبعك

رد جرجس بغضب:

- ياسلام يااخويا..طب ما الشلوت اللى انت خدته لسة معلم عليك لحد دلوقت

حاول منصور أن يسترضيه حين أدرك أنه قد فضحه أمام السرية، فاقترب منه وربت على كتفيه:

- ما تزعلش بقى ياجدع احنا بنهرج

فتملص منه جرجس فيما يشبه (القمصة):

- لأه بقى ، اوعى كده..أمال لوكنت أكلتنى بجد ومن حر مالك كنت عملت إيه؟

ظل الجنود يضحكون وهم فى حالة من النشوة، حتى أن الصول خيرى قد دمعت عيناه من كثرة الضحك، وكاد يسقط من على كرسيه، فمسح دموعه قائلا ً:

- اللهم اجعله خير..

وقبل أن يكمل جملته سمعوا دوى انفجار بالخارج، فصاح قائد السرية فى فزع:

- دا صوت انفجارلغم

وأسرع مندفعاً إلى خارج النقطة، ومن خلفه هرول الجميع.

*****

 

بدأت مجموعة الكمين فى التحرك - ومعها جنديا الصاعقة - على الجانب الأيسر من المدق، لأنه يتميز بالجفاف. كان المدق يرتفع عن الأرض بحوالى المتر، مما يوفر لهم قدرا ًمن الإخفاء والحماية النسبية. وحينما وصل الجميع إلى مكان الكمين تبادلوا العناق والدعاء إلى الله بالتوفيق والسلامة. أمر العريف ابراهيم عبده الجندى بخاتى بمرافقة جنديى الصاعقة، لاستطلاع الكيلو متر التالى من المدق، مع التأكيد على عدم تجاوزه.

 

تحرك الجنود الثلاثة تحت ضوء القمر، الذى كاد أن يصبح بدراً، دون صوت. وعندما وصلوا إلى مسافة الكيلو رفض بخاتى أن يتركهما، بحكم واجب الضيافة الصعيدى ، وأصر على المضى معهما حتى نهاية المدق للاطمئنان عليهما، وأيضاً للعثور على مكان أنسب للكمين.

 

قرب نهاية المدق بدأت الأرض فى الاتساع، وبدأت الملاحات فى الانحسار، ولم تعد الأرض سبخية كما فى الجزء الأيمن من المدق،أو ملحية كما هو الحال في الجانب الأيسر منه، بل صحراوية صلبة تغطيها الرمال. وعند نهاية المدق التقى بمدق آخر يتجه جنوباً إلى التينة والكاب والحرش والقنطرة، وثانٍ يتجه شمالاً إلى نقطة (القطع) شرقى بورفؤاد.

 

لمح أحد جنود الصاعقة عدداً من الدبابات الإسرائيلية، فرقد على الفور مستنداً إلى حافة المدق، وقد أخذ وضع الاستعداد للاشتباك، وتبعه الآخران.رانت عليهم حالة من الصمت نتيجة للمفاجأة غير المتوقعة، ولم يدر أحدهم ما التصرف المناسب فى مثل هذا الموقف العصيب الذى لم يخطر لهم على بال.

 

مضى عليهم- فى هذه الحالة- ما يقرب من الخمس دقائق، مرت وكأنها خمسة دهور. وعندما لم يشتبك معهم العدو، ولم يحاول أسرهم، اندهشوا. وهنا قرر أحد جنديى الصاعقة أن يقطع الشك باليقين، فقرر أن يقترب بحذر من الدبابات، على أن يقوما بتأمينه بالنيران إذا ما لزم الأمر. رفض الجنديان الآخران ذلك لما فيه من مخاطرة، فأقنعهما أن ذلك هو الحل الوحيد، وإلا فإنهم سيظلون فى مكانهم حتى يأسرهم العدو فى أول ضوء، ثم توجه بالهمس إلى زميله:

- وما تنساش إن عندنا مأمورية لازم ننفذها فوراً

 

لم ينتظر الجندى ردهما، بل بدأ يتحرك بالفعل، منحنياً تحت ستر المدق المرتفع. وعندما وصل إلى الأرض الرملية، بدأ يزحف الهوينا. مرت الدقائق ثقيلة، خاصة بعد أن غاب عن ناظريهما.

 

أدار بخاتى جهاز الرؤية الليلى المركب فوق سلاحه، وبدأ يفتش الأرض بحثاً عنه، فلم يجد له أثراً، كما لم يرصد أية حركة تنم عن وجود جنود إسرائيليين. فجأة وقف الجندى الغائب، وأشار إليهما كى يتقدما. ظنا أن فى الأمر كميناً، لكن الجندى الآخر قال لبخاتى:

- لازم أروح له، لو كان الطريق أمان هاشوَّر لك تيجى، ولو كان فيه كمين ها اشغل العدو عنك لحد ما تنسحب

 شاهد بخاتى الجندى الثانى وقد وصل إلى زميله،ثم أشار له بالقدوم. تحرك باتجاههما، فقال له الجندى الأول:

- ما تخافش..الدار أمان. أنا لفيت الموقع كله ما فيش أى أثر لوجود العدو

صمت قليلاً، ثم أردف:

- الجندى الإسرائيلى مُرفـّه، والظاهر إن القيادة فى نهاية يوم القتال بتسحب الجنود للخلف، لتناول وجبة ساخنة، ثم النوم فى مكان مريح، ومع أول ضوء بيرجعوا لدباباتهم. إحنا كدة مضطرين نسيبك علشان نخلص مأموريتنا، والرجوع بالنسبة لك سهل يا بطل

عانقا بخاتى، ثم تركاه ومضيا إلى المجهول.

*****

 

خرج قائد السرية الأولى مسرعاً من النقطة القوية، بعد أن سمع صوت انفجار لغم، وهو يضرب أخماساً فى أسداس. اندهش لأننا- كمصريين- لانعرف كيف نفرح، فإذا ما ضحكنا أفقنا فجأة وقلنا اللهم اجعله خيراً. وكأن الهم قد كُتب علينا،وللأبد. لم يكن أبداً يؤمن أن عاقبة الضحك لابد وأن يعقبها وقوع  مصيبة، وها هو الآن - وبشكل عملى- تتأكد له تلك الحقيقة.

 

كانت آثار الانفجار ما تزال باقية، فالدخان ما يزال يملأ المكان، بينما رائحة البارود تزكم الأنوف. توجه القائد إلى أقرب جندى مناوب وسأله عما رآه، فأجابه بأنه لم ير شيئاً، بل رأى الوميض وأعقبه دوى الانفجار.

قال أحد الضباط:

- يمكن اللغم انفجر لوحده، لأنه من كتر ما بيتعرض للرطوبة بيبقى شرس،وأقل شىء بيفجره

قال قائد السرية:

- أنا بقى عايز أعرف الأقل شىء ده يبقى إيه

 

أحضر الصول خيرى بطارية طورش، وبدأ فى تسليطها على مكان اللغم، عله يعثر على دليل أو أى أثر للضحية، لكنه لم ير شيئاً. تناول القائد الكشاف منه، وسلطه على نقطة محددة لفت وجودها انتباهه. كانت هناك بقعة ضئيلة من الدم، ركز الضوء عليها فانتبه إليها الضباط:

- دى نقطة دم يافندم

- فعلا ً، بس دم إيه؟

- بعد إذنك يافندم

تناول أحد الضباط الكشاف من القائد، وسلط الضوء على خيط أسود رفيع على مقربة من مكان الانفجار.

- شايف يافندم؟

- إيه ده؟

- دا ديل فار جبلى من اللى كانوا بيعزمونا عليه فى فرقة الصاعقة

تنفس الحضور الصعداء، وانتابتهم نوبة من الضحك. فعلق أحد الجنود قائلاً: 

- صحيح..الجنازة حارة والميت فار

*****

 

أحس بخاتى بالخوف للوهلة الأولى بعد انصراف جنديى الصاعقة، فقد كان يشعر بالأمان بصحبتيهما. أما الآن فإن عليه مغادرة هذا الموقع، وبأقصى سرعة، والعودة إلى موقع الكمين. أحس بالخوف أكثرلأنه تذكر أنه قد خالف الأوامر العسكرية فى زمن الحرب، حين توغل إلى منطقة غير مسموح له بالتواجد بها. أسرّ فى نفسه:

- هى موتة ولا أكتر

فاستراح بعض الشئ.

 

اقترب من إحدى الدبابات الإسرائيلية، وبدأ يتحسسها، وكأنه يحاول ترويضها. اصطدمت يده بقفل يغلق صندوقاً معدنياً على جانب الدبابة، فدفعه الفضول إلى معرفة ما بداخله. بحث عن عتلة أو قطعة حديدية تشبهها، فعثر بالفعل على سيخ حديدى سميك، أمسك به و(عافر) مع القفل حتى فتحه. نظر إلى داخل الصندوق، وهاله ما رآه. كان الصندوق عبارة عن ثلاجة ميدانية، تحتوى بداخلها على أشهى الأطعمة والمأكولات، ناهيك عن الفاكهة الطازجة والمشروبات.

 

فكر أن يسد جوعه الآن، فلم يكن قد تناول طعاماً منذ الأمس، نتيجة لبعد المجموعة عن باقى الكتيبة، وإمكانية تدمير عربات الشئون الإدارية التى قد تغامر بإمدادهم بالطعام. لكنه طرد هذه الفكرة عن ذهنه بسرعة، فلم يكن من الممكن أن تنزل اللقمة إلى جوفه بينما زملاؤه يتضورون جوعاً.

بحث عن أية وسيلة يمكن أن يحمل بها الطعام إلى زملائه، لكنه لم يجد.

استرعى انتباهه وجود مشمع مثبت فوق برج الدبابة عليه علامات معينة، ويستخدم كوسيلة للتعارف مع الطائرات الإسرائيلية، حتى لا تقوم بتدميرها. قام بفك المشمع الذى كان مربع الشكل، تبلغ أبعاده المتر فى كل ضلع. فرده على الأرض، وبدأ فى ملئه بخبز التوست وأنابيب المربى ومكعبات الزبد والفواكه والمشروبات. ولما وجد أن الحصيلة فوق المشمع محدودة، قام بفك مشمع آخر، وملأه أيضاً شأن سابقه.

 

بدأ رحلة العودة وهو يجر على الأرض مشمعاً بكل يد، ومع فرحته الشديدة بتلك الغنيمة التى لم تخطر له على بال، أخذت مخاوفه فى التلاشى. كل ما كان يفكر به فى هذه اللحظة، هو سرعة الوصول بهذه المؤن إلى زملائه.

*****

 

كان الجندى (الشنجى) يقاوم النعاس، ليكمل نوبته التى لم يتبق منها سوى الربع ساعة أو يزيد قليلا ً. لكن النوم الذى يداعبه طار فجأة، عندما تناهت إليه أصوات تأتيه من اتجاه الشرق. هل استطاع العدو أن يغافل الكمين، ويأسر أفراده الثلاثة، ثم يتقدم باتجاه المجموعة؟ وإذا كان ذلك قد تم بالفعل، فلماذا يثير هذه الضجة التى تنم عن غباء شديد؟ لم يستطع الجندى الإجابة على تلك التساؤلات، لكنه صار أكثر يقظة وأشد حذراً.

 

أيقظ حكمدار الخدمة الذى كان يرقد على مقربة منه، وبثه هواجسه. لم يكن الأمر يتطلب الإنصات، لأن الأصوات بدأت تعلو وتتضح، حتى أن معظم جنود الموقع قد استيقظوا، وبدأو يعدون أسلحتهم للاشتباك. توجه الحكمدارإلى القائد ليبلغه بالأمر، فوجده قد استيقظ بالفعل، وبدأ فى إصدار أوامره للجميع، حيث أكد على عدم الاشتباك إلا بإشارة منه لتحقيق المفاجأة.

 

اقتربت الأصوات أكثر، وكانت تشبه أصوات أفراد الكمين، الذين كان عليهم الانسحاب الآن، والعودة إلى الموقع، خاصة وأن آذانهم قد التقطت بعض الكلمات العربية.

أصبح من الممكن تمييز تلك الأصوات، حيث بدأت تتضح معالم أصحابها بعد بزوغ أول ضوء. إنهم بالفعل أفراد الكمين، وكان صوت بخاتى هو الأعلى، خاصة حين بدأ يغنى بعض الأغانى الصعيدية، بينما يقوم زميلاه بدور (الكورس) له. استشاط قائد الموقع غضباً على هذا (الانحلال)، الذى يجافى أبسط مبادئ خدمة الميدان أثناء الحرب. بل إنه انتوى أن يطلب إحالة ثلاثتهم إلى المحاكمة العسكرية، بجناية السلوك المضر بالانضباط العسكرى فى خدمة الميدان.

دخل الجنود الثلاثة إلى الموقع، بينما أمارات السعادة تطغى على ملامحهم، وتتغلب على الصرامة الواجب اتخاذها فى حالة الحرب. وحينما اقتربوا من قائد المجموعة، بادرهم غاضباً:

- يكونش كل واحد فيكم فاهم إنه بيتفسح مع خطيبته ع الكورنيش يا شوية (نِمَر)؟عموماً انتم التلاتة عرض على مكتب قائد الكتيبة باكر

حاول العريف ابراهيم عبده أن يشرح الموقف، فأشاح عنه القائد قائلاً:

- حسابك معايا بعدين يا (أومباشى)

وأصدر أوامره إلى الرقيب أول بدر بوضعهم تحت التحفظ العسكرى.

 

كان بدر قد لاحظ المشمعين اللذين أتوا بهما، بينما لم يلتفت القائد إليهما فى سورة غضبه. سمع منهم الحكاية بالكامل، بينما كان جنود السرية يحملقون فى أصناف الطعام التى لم تخطر لهم على بال، وفى هذا الوقت تحديداً.

 

توجه بدر إلى مكان نقطة القيادة، وشرح للنقيب سمير ما حدث بالتفصيل، فأصابته نوبة من الذهول. ورغم غضبه من تصرف الجندى بخاتى الذى أتى به دون أوامر، إلا أنه أعجب بروح المبادرة لديه. توجه إلى أفراد الكمين وسألهم عن صحة ما أخبره به الرقيب أول بدر، فصدقوا على ما قاله. وبعد محاولات مضنية من الصراع الداخلى، انتزع الجملة التى يصعب عليه تكرارها فى أى موقف آخر:

- كما كُنت المكتب..

ثم وجه حديثه إلى بخاتى:

- وانت ياتحفة إذا حد سألك رحت إلى ملتقى المدقات بأوامر من مين، تقول بأوامر منى أنا شخصياً

ثم احتضنه، فسرت موجة من الرضا بين الجنود.

 

قام قائد المجموعة بحصر غنيمة الأطعمة، فوجدها تكفى المجموعة لثلاثة أيام، مع قدر من التقتير. أمر بدر بتوزيع طعام الإفطار منها فوراً، فسأله بدر:

- والرغيفين اللى أخدناهم من جنود الصاعقة؟

رد القائد ساخرا:ً

- ابقى بروزهم يا بدر

*****

 

فى اليوم التالى بدأ البريد الحربى فى الوصول بسرعة أذهلت الجميع

الخطاب الذى كان يستغرق حوالى خمسة أيام للوصول، وصلهم فى يوم واحد. سلم مندوب بريد الوحدة الخطابات للسرية الأولى، باعتبار أنها الأقرب إلى مركز قيادة الكتيبة، ولكنه اكتشف أن هناك خطاباً لم يتسلمه صاحبه..كان الخطاب موجهاً إلى الشهيد فتحى بدير. فتوجه المندوب إلى قائد السرية وسلمه له. حار فيه القائد: هل يفضه أم لا؟ لكنه توصل إلى الحل المثالى، فقد استدعى الرقيب حسين عباس، باعتباره الصديق الأقرب إلى الشهيد وسلمه إياه.

- ياحسين أنا ماحبيتش أفتح الجواب ليكون فيه أى خصوصيات، وعلشان كده بعت لك، لأنه مكانش فيه بينكم أسرار

 

أخذ حسين الخطاب صامتاً، وفضه بيد مرتعشة، وبدأ فى قراءته:

زوجى الغالى فتحى

أرسل إليك بأشواقى ومحبتى

وأعرفك يابطل إنى خلفت بالأمس ولد سميته ابراهيم زى رغبتك، وأعرفك إنه الخالق الناطق انت، وربنا يطرح لنا فيه البركة وأشوفه راجل ملو هدومه زيك.

مش هاطول عليك يا فتحى، خللى بالك من نفسك، وترجع لنا عن قريب سالم غانم.

                     والسلام ختام

 

                                                                زوجتك المخلصة  

                                                                      سميرة

 

بدأ مندب البريد فى المرور على باقى السرايا، لتسليم الخطابات واستقبال الردود. كانت إدارة الشئون المعنوية قد طبعت كميات كبيرة من الخطابات على هيئة (البوسترز)، وقد خُصص لكل فرد ثلاث خطابات. كان ذلك العدد لا يفى برغبة الجنود فى الاتصال بالأهل والأقارب والأصدقاء، مما أوقعهم فى الحيرة.

 

وعندما عاد مندوب البريد إلى مركز القيادة، وبدأ فى ترتيب وفرز الخطابات، فوجئ أن ثلث الخطابات الصادرة من جنود الكتيبة موجه إلى زوجة الشهيد فتحى بدير.

*****

 

بعد أن أثار انفجار لغم فى الليلة السابقة مخاوف الكثيرين، آثر قائد سرية الاقتحام أن ينهى أية تخوفات مستقبلية، فطلب من قائد الكتيبة تطهير حقول الألغام بالموقع الحصين، على الأقل القريبة من مناطق تحركات الجنود. بالفعل أرسلت قيادة اللواء جماعة مهندسين عسكريين، للقيام بتطهير الألغام القريبة من المدق الموازى لقناة السويس، بقيادة  ضابط برتبة النقيب. استضافه قائد السرية فى دشمته، لحين الانتهاء من عملية التطهير.

 

وبينما كانا يتناولان الشاى، وقد استغرقا فى الحديث عن دور كل منهما فى الحرب، سمعا صوت انفجار قوى، فقال ضابط المهندسين :

- استر يا رب.. دا صوت لغم "شرابنل"

 

كانت ألغام الشرابنل هى أخطر الألغام الإسرائيلية على الإطلاق، لأنها بمجرد بدء الحركة الميكانيكية ، فإن اللغم يرتفع إلى أعلى حتى مسافة 150سم ثم ينفجر، ومن هنا خطورته. إن فلسفة الألغام تعتمد على فكرة إصابة جندى - أو أكثر- ببتر فى ساقه بهدف إخراجه من المعركة، وأيضاً لخفض الروح المعنوية لباقى زملائه. أما هذا اللغم فيعتمد على فكرة القتل المباشر، لا الإصابة.

 

بالفعل، كان اللغم الذى انفجر من هذا النوع، وقد أدى انفجاره إلى الإطاحة برأس الصف ضابط الذى كان يقوم بتأمينه. هوى الجسد بدون رأس داخل حقل الألغام، فحمله زملاؤه الذين انهاروا إلى خارج الحقل. انخرط بعضهم فى موجة بكاء هستيرية، بينما تعرض البعض الآخر إلى مايشبه الصدمة العصبية، نتيجة لبشاعة المنظر، فكانت عيونهم محملقة، رغم أنهم ينظرون إلى اللا شئ.

 

وصل النقيب مسرعاً إلى مكان الانفجار، وراعه ما رآه من حال جنوده، وتساءل:

- إيه اللى حصل يا رجالة؟

رد أحد الجنود باكياً :

- الشاويش عوف كان بيأمن لغم شرابنل، لكنه انفجر فيه

صمت النقيب قليلاً، كى يسيطر على عواطفه، ويتغلب على دموعه التي كانت على وشك السقوط. كما كان يقاوم رغبته فى التقيؤ لبشاعة المنظر، ويقاوم خسارة واحد من أكفا رجاله. وبعد أن تمالك أعصابه، استدعى أقدم ضابط صف، وأمره بالاستمرار فى العمل، فأجابه:

- يافندم الناس منهارة، ومحتاجين يستريحوا النهارده.. ماحدش قادر يتلم على نفسه

صاح النقيب بحدة:

- فيه إيه يا حصول؟ إنت نسيت إن الخطر دا جزء يومى من حياتنا؟ إحنا فى حرب، والحياة مش هاتقف لمجرد إن واحد مات، يا للا ع الحقل..التطهير لازم يخلص فى ظرف ساعتين، لأن عندنا شغل فى موقع تانى

ولما لم يجد استجابة مباشرة زمجر فى غضب:

- ومبدئياً عشر تيام حبس لكل واحد ها يتأخر عن نزول الحقل فى خلال دقيقة من الآن، ومحكمة عسكرية للى ها يتأخر أكتر من كده

 

قام الجنود بتغطية زميلهم المتوفىَ ببطانية، وبدأوا يتوافدون على حقل الألغام مرة أخرى. وبعد أن اطمأن الضابط إلى استمرار عملية التطهير، توجه صوب قائد سرية المشاة، الذى كان يقف على مقربة منه، بينما علامات الاستياء بادية على الأخير. وبدون أن ينطق اصطحب ضيفه مرة أخرى إلى الدشمة، وقام بالإبلاغ عن الحادث، ثم توجه إلى ضابط المهندسين معاتباً:

- معلهش اعذرنى، لأنى شايف اللى انت عملته النهارده كان شئ فى منتهى القسوة، ومافيهوش مراعاة لحرمة الموت

رد عليه ضابط المهندسين وقد تملكه الحزن، بعد أن أطلق لدموعه العنان. كان قد قاوم طويلاً حتى لا يراها الجنود، أخرج منديلاً كفكف به دموعه، ولم يجد وسيلة لإخفاء احمرار عينيه، ثم علق على سخط ضابط المشاة:

-  اللى أنا عملته دا منتهى الحكمة

- ...

ثم أردف فى لهجة مرة:

- تفتكر إن أنا مش زعلان أكتر منهم على وفاة زميلهم، وبالطريقة البشعة دى؟ على الأقل بسبب المسئولية، ومش بعيد أكون من جوايا منهار. الحكاية إن أنا لو سبتهم لحزنهم، ماكانوش هايعملوا النهارده حاجة أكتر من إنهم ها يفضلوا ينوحوا على زميلهم، وكل واحد ها يشوف فيه مصيره. ولو فكروا بإمعان فى اللى حصل، عمرهم ماها ينزلوا حقل ألغام تانى، ويبقى خسرنا خبرتهم غير العادية للأبد، لأن الموضوع عندهم ها يتحول إلى عقدة نفسية مزمنة. علشان كده كان القرار الصحيح إنهم ما ياخدوش فرصة للتفكير، ويستمروا فى العمل فوراً

- وانت شايف إن اللى انت عملته دا كان الحل، ولا كان جزء من المشكلة؟

- طبعاً كان هو الصواب بعينه..لأن حل أى مشكلة نفسية ببساطة يتلخص فى إنك تحط المريض أمام عقدته، وهو بشكل لا واعى هايقوم بحلها لوحده. ودا بالضبط اللى انا عملته

- ومين قال لك إنه مش ها تحصل خسائر تانية النهارده؟

قال ضابط المهندسين:

- ها تشوف بنفسك..وانا على استعداد أراهن بحياتى

ثم استطرد:

- دول جنود محترفين، وتحت ضغط الخطر الماثل قدامهم ها يكونوا أكثر حذراً، يمكن يشتغلوا ببطء شوية، لكن بدون خسائر. وبعد ما يخلصوا شغلهم، ويلاقوا إن ما فيش خسائر حصلت، ساعتها فقط ها تزول عقدتهم، ويعرفوا إن اللى حصل لزميلهم كان مجرد خطأ وارد بشكل استثنائى، لكنه مش قاعدة. وبكده الأمر مش هايتجاوز أكتر من الحزن والتعاطف ، من غير مايتحول إلى عقدة

أشعل سيجارة نفث الدخان منها كأنه ينفث أحزانه، ثم واصل حديثه:

- هم عارفين إننا بنسمى حقول الألغام (حدائق الشيطان)، واحنا دربناهم كويس علشان يتعاملوا مش مع الموت لوحده، لكن مع الشيطان نفسه..علشان كده أنا مطمئن للنتيجة

صمت قليلاً، ثم قال:

- كده أعتقد الأمر بقى واضح

 

نظر إليه قائد السرية مبتسماً، وأردف:

- الحكاية دى بتفكرنى بأول قائد كتيبة خدمت معاه.. حاسس كأنه هو اللى بيتكلم..نفس العبارات.. نفس المنطق، والعامل المشترك بينكم الثقة العالية بالنفس

ابتسم ضابط المهندسين ابتسامة منكسرة، ثم قال:

- شوقتنى أشوف نفسى فى مراية الراجل ده

ضحك قائد السرية، وقال:

ما تستعجلش على رزقك.. القائد ده كنا بنسميه (الغلس)، لأننا كنا بنتصور إنه بيكره لنا إننا ندوق طعم الراحة. أى وقت فاضى يخلق لنا فيه شغل، حتى أيام الجمعة كان بيعطينا نص ساعة للصلاة، وباقى اليوم تجهيز هندسى. ولما ورد اسمه فى نشرة التنقلات، عملنا له حفلة كبيرة، مش لأننا كنا بنحبه، لكن كنا فرحانين إنه ها يحل عننا. وأنا اتجرأت وسألته فى الحفلة:

- ليه يافندم القسوة المفرطة اللى كنت بتعاملنا بيها ؟

نظر إلىّ مبتسماً، وقال فى هدوء:

- قسوة مفرطة ؟

ثم أردف بمزيد من الجدية:

- انت لسه ضابط صغير، ولما تكبر ها تعرف إن اللى كنت با عمله منتهى الرحمة

- ...

- احنا كنا فى حرب استنزاف، يعنى الجندى بيواجه الموت يومياً عشرات المرات بالنهار، بالإضافة للتدريب الشاق، وأعمال الطـُلبة، والتجهيز الهندسى..الخ، دا غير الخدمة الليلية، اللى بتبقى وقت الحرب أشبه بالكوابيس. علشان كده كنت دايماً با اشغِل الكتيبة فى أى عمل والسلام، ما كنتش با اعطيكم فرصة إنكم تختلوا بنفسكم ولو لدقيقة. ولماكانت بتيجى ساعة النوم، الواحد فيكم كان بيترمى ع الفرشة جثة هامدة، بدون ما يمر بمرحلة التفكير اللى قبل النوم. لأن دا لو حصل مش ها يبقى قدام الواحد فيكم غير أحد حلين:

إما إنه يبلغ فرار، أو ينتحر..

نظر إلىَّ مبتسماً من جديد، وقال:

- فهمت أنا كنت باعمل كده ليه؟.. اللى كنت باعمله ماكانش قسوة مفرطة زى ما انت فاهم، إنما كان من باب الرحمة.. ولما يتفتح باب الرحمة، يبقى تنسى العدل

 

وبعد شوية أشعل القائد غليونه، واستمر فى الكلام :

- بالمناسبة.. تعرف مين اللى القوات المسلحة بتدين له بالفضل بعد الهزيمة ؟ الفريق أول محمد فوزى. وجود هذا الرجل فى موقعه فى هذا الوقت تحديداً كان أقرب إلى المنحة الإلهية، ومش هانعرف فضله إلا لما نكسب الحرب القادمة إنشاء الله، لأننا ساعتها هانعرف إنه - رغم قسوته المفرطة زى مابتقول- كان الأب الشرعى لهذا الانتصار المرتقب

 

صمت قليلاً، ثم استطرد:

- وبالمناسبة، فاكر لما كنت انت شخصياً قائد فصيلة عتاقة؟ إيه اللى حصل؟ فاكر حادثة البغل فوق جبل عتاقة ؟

ثم استطرد:

- لو فاكر يبقى هاتفهم

*****

 

أثناء حرب الاستنزاف، كانت إحدى فصائل الكتيبة تحتل موقعاً فوق قمة جبل عتاقة، شرق السويس، بهدف تأمينه، وحرمان العدو من استخدامه في أية عملية إغارة محدودة ومحتملة على القوات المجاورة له. كان العدو يهدف دائماً إلى الإتيان بعمل (تليفزيونى)، يكون الهدف منه تصويره وتصديره إلى الإعلام العالمى، للتأكيد على مقولة "الجيش الذى لا يقهر".

 

كانت القوة الموجودة فوق الجبل، والتى تتشكل من فصيلة مشاة، تتحرك صعوداً وهبوطاً على الأقدام. عملية الصعود تتم عبر دروب وعرة وغير آمنة، مما يتطلب أكثر من 6 ساعات للتحرك من نقطة مواجهة للكيلو 109 على طريق مصر السويس، وكان الهبوط يستغرق وقتاً أقل.

ومع نقص الإمكانات التى كان يعانى منها الجيش المصرى بعد النكسة، لم يكن أمام القوات إلا الاعتماد على الطرق البدائية في عملية الإمداد الجبلى. صرفت الكتيبة أحد البغال الذى صار (عهدة) فيما بعد، لكى يقوم بعملية الإمداد صعوداً أو الإخلاء هبوطاً. كان البغل قد خبر المدق وحده، وأصبح يتحرك جيئة وذهاباً محملاً بالعتاد أو الذخيرة أو التعيينات، دون أن يصاحبه أحد من الجنود. وقد استمر هذا الوضع لمدة عامين، وهو يقوم بعمله على أكمل وجه. إلى أن جاءت اللحظة التى كانتأربكت حساباتن جميعاً.

 

صعد البغل محملا ًبعدد من صناديق الذخيرة، وسار في دروب الجبل التى اعتاد عليها، حتى وصل إلى القمة. كان في انتظاره الجنود الذين بدأوا في تفريغ الحمولة اليومية المعتادة، ولم يكن هناك شىء ذا بال أو غير اعتيادى. استراح البغل قليلا،ً بعد أن قدم له الجنود وجبته المعتادة، ولا أحد يدرى سبباً لما حدث بعد ذلك.

 

نهض البغل لكى يعاود رحلة العودة، وفجأة انتابته حالة من الهياج ، فبدأ يهاجم الجنود -الذين باغتتهم المفاجأة- بشراسة. ولكى يتحاشوا ثورة البغل الهائج، كانوا يلقون بأنفسهم داخل الحفر البرميلية التى يحتمون بها من ضربات الطيران أو المدفعية المعاديين، أو يلتجئون إلى بعض المناطق العلوية التى لا يستطيع البغل الوصول إليها.

 

استمرت حالة الهياج والخوار غير المألوفين لعدة دقائق، بعدها غيّر البغل طريقه المعتاد أثناء العودة، وبدلاً من أن يهبط عبر المدق الذى حفظه جيداً، اندفع إلى أحد أجناب الجبل الذى يشرف على هاوية سحيقة، وألقى بنفسه باتجاهها، وسط ذهول الجميع، ليصل إلى قاعها بعد بضع ثوان. اندفعوا باتجاه الهاوية ليروا ما حدث له، كان يرقد  في قاع تلك الهاوية إلى الأبد، بعد أن تحول إلى نقطة بنية صغيرة، لا تكاد ترى بالعين المجردة.

 

لم يتمكن أحد من تفسير الأمر، سوى أن الحيوان المسكين لم يستطع تحمل ضغوط تلك الحياة اللا طبيعية التى كان يعيشها، من التعرض لقصفات الطيران اليومى، أو لانفجارات دانات المدفع عيار 155مم، والتى كان الجنود يطلقون على واحدها اسم "أبو جاموس"، حيث تنهمر عليهم من منطقة عيون موسى غربى خليج السويس. إضافة إلى رحلة العذاب اليومي من صحراء الكيلو 109 إلى قمة جبل عتاقة، والعكس.

وهكذا انتهت واحدة من أكثر الحوادث التى شهدتها حرب الاستنزاف إثارة ، بتلك الطريقة الدرامية المؤلمة، لمجرد أن البغل قد توقف للحظات ليفكر فى حياته، فاكتشف أنها لا تستحق أن تُعاش.

*****

 

توجه قائد المجموعة إلى مكان الجهاز اللاسلكى لإبلاغ قائد الكتيبة بالمعلومات الخطيرة، التى أبلغها له الجندى بخاتى عن دبابات العدو. وطلب منه أن يتم تدمير هذه الدبابات ليلاً، قبل أن ينتبه العدو إلى اكتشافنا لأمرها. أبلغه القائد بأنه سيبحث الأمر مع قائد اللواء، لإمداده بالمعدات والمتخصصين من رجال المهندسين العسكريين.

 

بالفعل وافق قائد اللواء على هذا القرار، إذ أن قائد الكتيبة أبلغ النقيب سمير بأنه سيتم دفع جماعة تفجير ستصل إليه عند آخر ضوء، وأنها سوف تتلقى أوامرها منه. كما أبلغه بأن طلبه السابق بقطع المدق أمام قوات العدو سيتم اليوم ليلا ًأيضاً، وذلك بعد الانتهاء من تفخيخ الدبابات، أو تفجيرها طبقاً للوقت المتاح.

 

كان قائد المجموعة بمجرد وصوله إلى هذا المكان، قد طلب من قائد الكتيبة سرعة إمداده ببعض رجال المهندسين العسكريين لنسف جزء من المدق، باتساع يصل إلى عشرين متراً. تلك المسافة كانت كافية لابتلاع أكثر من دبابة للعدو، إذا ما فكر فى اجتيازها. ظل يترقب بين حين وآخر أن تتم الموافقة على طلبه، وها هى القيادت الأعلى تحقق له مطلبه أخيراً. فاستراح إلى ما وصلت إليه الأمور، وبدأ فى الإعداد لما سيتم اتخاذه تجاه تلك الليلة الحاسمة.

*****

 

تحركت جماعة المهندسين العسكريين مع مجموعة الكمين عند آخر ضوء

كانت التعليمات تقضى أن يقوم فردين من سرية استطلاع اللواء بمصاحبة الجندى بخاتى إلى مكان الدبابات الإسرائيلية، وذلك سعت2200(العاشرة مساءً)، للتأكد من صدق المعلومات التى أبلغها، وأيضاً لاتخاذ احتياطات الأمن اللازمة لنجاح العملية.بعد ذلك سيتم  تفخيخ الدبابات بالشراك الخداعية، بحيث أنه فى حالة إدارة أية دبابة  سيتم انفجارها. وسوف ينتج عن ذلك تفجير الدبابات الأخرى بما يعرف فى علم الكيمياء العسكرية بخاصية "التعاطف"، نظراً لقرب المسافة بين الدبابات. من المؤكد أن الإسرائيليين ليسوا بهذا الغباء لكى لا يأخذون حذرهم، لكنه غرور القوة هو الذى ورطهم فى هذا الموقف، كنتيجة حتمية للاستهانة بالخصم.

 

نظر قائد الموقع فى ساعته..إنها العاشرة. لابد وأن المهندسين العسكريين يقومون الآن بتفخيخ دبابات العدو. بعد مرور ساعتين ونصف، تعلق بصره بامتداد المدق فى اتجاه الشرق، منتظراً سماع أصوات الانفجارات، وهى تعصف بالمدق الترابى، وتصل فيما بين الملاحتين اللتين على جانبيه.

 

كان قائد المجموعة قد اختار مكان الجزء المنسوف على مسافة ستمائة متر من مجموعته، ليظل تحت تأثير نيرانها. وبذلك يمنع العدو من محاولة ردمه، أو إقامة جسر فوقه يسمح لقواته بالمرور. وفى الليل يصبح هذا الجزء تحت حماية عدة أكمنة، تقبع فى أنحاء متفرقة بالقرب منه.

 

هلل الجنود عندما رأوا ضوء الانفجار العظيم، ثم أعقبه صوت زلزل المكان من تحت أقدامهم. ارتفعت ألسنة اللهب المصحوبة بالغبار إلى أعلى، وبدأت تتساقط على الموقع كتل طينية، رغم بعد المسافة نتيجة شدة الانفجار. استراح قائد المجموعة لما وصلت إليه الأمور، وكان عليه أن يستعد للمعركة الكبرى، والتى يعرف أنها لن تتأخر كثيراً. فقد كان متأكداً أن العدو سيرد- بقوة- على واقعة تدمير دباباته.

 

قام أفراد المهندسين العسكريين برص حقلى ألغام مختلطين على جانبى الجزء المقطوع من المدق، تحسباً لقيام العدو بأى هجوم على الموقع. وكان الهدف من ذلك إحداث بعض الخسائر بالعدو وتعطيله، مما يفقده عنصر المفاجأة إذا ما فكر فى اجتياز الجزء المقطوع من المدق.

*****

كان أفراد الكمين فى غاية اليقظة، فقد مرت السكرة وجاءت الفكرة، حيث المعركة الفاصلة قادمة لامحالة، وسوف يدخلها العدو مدججاً بكل أسلحته وغضبه، بعد الضربة المؤلمة التي تلقاها اليوم.

 

لم يقم العريف ابراهيم عبده بتوزيع الخدمة عليهم، بحيث يستيقظ فرد وينام الاثنان الآخران، بل آثر أن يستيقظوا جميعاً طوال الليل، وأن يناموا بعد عودتهم إلى المجموعة. وقد حدد لكل منهم قطاعاً للمراقبة، حتى لاتفوتهم شاردة أو واردة. كان السكون سائداً بشكل مطبق، فلا يسمع سوى أصوات صراصير الليل.. إنه الصمت الذى يحمل نذيراً بالشر. استغرق ثلاثتهم فى المراقبة، وكانوا ينتفضون عند أقل بادرة تشى بالحركة، خاصة إذا كانت صادرة من اتجاه الشرق.

 

لاحظ بخاتى فى قطاع المراقبة المخصص له، أن ثمة حركة بطيئة لنقطة سوداء، تبعدعنهم بما يقارب الكيلومترين. نبه زميليه إلى ذلك، فركزا انتباهيهما إلى تلك النقطة، والتى كانت حركتها غير محسوسة. احتاروا جميعاً فى تفسير هذالأمر، ولم تسعفهم نظارة الميدان كثيراً فى الوصول إلى رأى بهذا الخصوص. قال العريف ابراهيم عبده:

- إحنا مانملكش غير الانتظار، وكل شئ هايتضح فى أوانه 

 قال بخاتى معترضاً :

- الصبر مر ياخال

- عندك حل تانى يا لمض؟

- نفس الحل اللى بسببه دمرنا الدبابات فى الفجر

- انت اتجننت

- لا يابوى.. داصوت العقل. أناها اقرب من الهدف بدون ما حدن يحس بيه، وأول لما اتحقق منه هارجع على طول، وانتم تبقوا تسترونى بالنيران

- انت بتهزر؟ نسترك إزاى بالنيران وانت على مسافة اتنين كيلو؟

- قصدى لما أقرب منكم

- الغلطة اللى فاتت عدت على خير، وقائد المجموعة سامحك، ومش عارفين المرة دى ها ترسى على إيه؟

- على خير إنشاء الله

ثم استطرد فى حماس:

- ما فيش حدن فينا بيعمل لمصلحته، كلنا بنعمل لمصلحة البلد دية، والنقيب عارف اكده

علشان كده سامحنى

ويبدو أن العريف ابراهيم عبده قد اقتنع أخيراً بمبررات بخاتى، فقال له:

- على بركة الله، وربنا معاك، بس ماتعوقش ياصعيدى

تمم بخاتى على سلاحه ومهماته، وعندما تأكد من أن كل شئ تمام، لوح لهما، ومضى منحنياً فى ستر المدق الترابى.

 

بعد مرور مايقرب من الساعة، التي مرت عليهما كأنها دهر، بدأ القلق يساورهما، حتى أن ابراهيم عبده قد ندم على سماحه لبخاتى  بالذهاب إلى تلك العملية غير المأمونة العواقب. إلا أن الجندى منصور قد لاحظ أن حركة النقطة السوداء قدأصبحت أكثر وضوحاً ، وأن معدل اقترابها صار أسرع. فأسر بذلك للأومباشى، الذى التقط نظارة الميدان بسرعة، وبدأ فى المتابعة، فاكتشف وجود شخصين يسيران معاً، بينما يحمل  أحدهما شيئاً فوق كتفه الأيمن. حينئذ تذكر جنديى الصاعقة فجأة، وبدأ يخمن.

 

بعد مرور ساعة أخرى استطاعا رؤية القادمين بالعين المجردة، فاندفع كلاهما إليهم. كان بخاتى يحمل أحد الجنديين، بينما الثانى يتوكأ عليه، بل لنقل أنه كان يجره جراً. وعندما اقتربا منه قال بخاتى:

- شيلوه بسرعة، واطلبوا دكتور الكتيبة

تعاونا على حمله ومضيا باتجاه موقع الكمين، وهم فى دهشة من قوة تحمل بخاتى، الذى استطاع أن يحمل الجندى الآخر كل هذه المسافة. أنزل بخاتى حمولته ببطء،حيث كان الجندى محموماً، بينما ساقه عارية بعد أن نُزع عنها رجل الأوفرول، وتم ربطها بالجزء المقطوع، فكانت متشبعة بالدماء، مما يعنى أن الجندى نزف كثيراً.

 

أنزلا الجندى الآخر والذى دخل فى حالة من الإغماء، ولفاه ببطانية حتى يفيق بعد استشعاره الدفء، مثلما صنع بخاتى مع الجندى الأول. سألاه عما حدث، فرد بأنه لايعلم  شيئاً، فلم يكن الظرف أو المكان ليسمحا له بذلك، ثم عقب بلهجة حزينة:

- المهم إنهم يقوموا بالسلامة

*****

 

أرسل العريف ابراهيم عبده فى طلب  أربعة من جنود حملة النقالات، مع سرعة استدعاء اسعاف الكتيبة. بمجرد وصول النقالات تم حمل الجنديين، والعودة بهما فى اتجاه المجموعة بأقصى سرعة، أولاً لسرعة انقاذ الجنديين ، وثانياً لسرعة إخلاء الموقع قبل أول ضوء.

 

بمجرد وصول الجميع شاهدوا عربة الإسعاف وهى تتخفى خلف أحد سواتر الدبابات، فوضعوا النقالة التي بها الجندى المصاب فى عربة الإسعاف، حيث انطلقت بأقصى سرعة فى اتجاه النقطة الطبية. وفى المقابل وضعوا النقالة الأخرى فى مركز قيادة المجموعة، وأبلغوا النقيب سمير الذى حضر على الفور للإطمئنان على جندى الصاعقة. التف الجميع من حوله، وهم يدلكون أطرافه لابتعاث الدفء فيه.

 

بدأت الحياة تدب فى جسده الضعيف، فأحسوا برفة جفنيه وحركة المآقى خلفهما،ثم بدأ يفتح عينيه فى بطء. همس بصوت ضعيف:

- أنا فين؟ وانتم مين؟

وكأنه قد تذكر شيئاً:

- وفين مصطفى؟

طمأنه النقيب سمير أنه فى أمان، وأن مصطفى فى أمان بدوره حيث أخلى للخلف لإجراء جراحة، لاستخراج الرصاصة المستقرة فى ساقه. ثم سأله عما حدث، فأجاب بصعوبة، بعد أن بدأت ذاكرته فى التيقظ، وعرف أن المتحدث هو قائد المجموعة:

- كنا فى مهمة لاستطلاع قاعدة لشئون إدارية العدو، وبالفعل وصلنا لها بعد ما سبناكم.  راقبناها على مدى يوم كامل، وعند آخر ضوء بدأنا الانسحاب. اكتشفنا أفراد مراقبة العدو، ضربوا علينا نيران كثيفة فأصيب مصطفى. ثم توقف إطلاق النار بعد تأكدهم إننا اتقتلنا أو على الأقل أُصبنا. وانتظرنا إنهم يقوموا بأسرنا، لكن يبدو إن خوفهم من وجود كمين هواللى خلاهم يأجلوا الموضوع للصبح، خاصة وأنهم وحدات غير مقاتلة.

فى اللحظة دى قررت إننا ننسحب، فحاولت مع مصطفى إنى أسنده واحنا ماشيين، لكن مقاومته انهارت نتيجة الدم اللى نزفه، قبل ما أطهر الجرح وأربطه. ومكانش قدامى غير إنى أشيله 8 كيلو لحد هنا. وعلى مسافة اتنين كيلو من الكمين انهارت مقاومتى فنزلت مصطفى على الأرض، ونمت جنبه لحد ماوصل بخاتى،  فوّقنى وشجعنى إنى استند عليه، وهو شال مصطفى لحد ما وصلنا الكمين ، بعدها ماحسيتش بحاجة

 

نظر قائد المجموعة إلى بخاتى متصنعاً الغضب، وقال ً:

- تانى يابخاتى عدم إطاعة الأوامر العسكرية ؟ الظاهر عليك إنك مش هاتبطل العمايل دى إلا لما (تتلب) محكمة عسكرية

 قال جندى الصاعقة متوسلاًًً:

- لا يافندم، سامحه المرة دى عشان خاطرى، دا لولاه علينا كنا متنا..بخاتى دا راجل ولا كل الرجالة، ربنا يحميه

- العمل اللى عمله معاكم يستحق عليه وسام، وانا هاطلبه له بالفعل..

واستطرد:

- بس بعد ما يتحاكم طبعاً

ثم توجه بالكلام إلى بخاتى:

- دى نقرة، ودى نقرة ..صح يا بطل؟

ران الصمت على الجميع، وتوجسوا من لهجة قائد المجموعة، لكنه فاجأهم بعد أن انفرجت أساريره بقوله :

- صحيح بخاتى ده عسكرى بايظ، لكن أنا لو تحت قيادتى خمسين جندى فى رجولته وشجاعته وحسن تصرفه، كنت عملت بيهم المستحيل

ثم ضمه إلى صدره، فبكى الرجل الحديدى فى حضنه كالأطفال، وسط دهشة باقى الجنود، الذين كانوا يطلقون عليه لقب "الرجل الحديدى".

*****

عند بزوغ أول ضوء، استيقظ الجنود على أصوات انفجارات مروعة، مما يعنى نجاح عملية تدمير دبابات العدو، فغمرتهم فرحة عارمة. وعلى الفور بدأ الجميع التهيؤ ليوم طويل. اتخذوا أقصى درجات الاستعداد والحذر، نظراً لإيمانهم أن رد العدو لن يتأخر، بل ربما سيصلهم اليوم.

 

فى حوالى الساعة العاشرة صباحا ً، شاهد الجندى المراقب عدداً من النقاط السوداء الصغيرة، تقترب بسرعة كبيرة من اتجاه الشرق، وتثير من حولها غباراً كثيفاً. قام بإبلاغ قائد المجموعة الذى توجه إلى نقطة الملاحظة بسرعة، فرأى من خلال نظارة الميدان ثلاثة عشرة دبابة تقترب، ومن خلفها ظهرت عربة نصف مجنزرة .أصدر أوامره - على الفور-  باحتلال المجموعة لأماكنها، استعداداً للمعركة الحاسمة التى أصبحت وشيكة.

 

مر بنفسه على طاقمى الـ ب11 المضادين للدبابات، كانت الكتيبة قد دعمته بالمدفع الثانى، بالإضافة إلى مدفع ب10. ثم وزع مجموعات اقتناص الدبابات على الأماكن التى تسيطر على طريق اقتراب العدو، بعد أن تأكد أن هذه الأماكن تحقق مبدأ الإخفاء والتمويه. ثم قام بالمرور على طاقمى مدافع الماكينة، للتأكد من صلاحيتها، وأمر حكمدارا الطاقمين بالتعامل الفورى مع أفراد العدو، بمجرد وصولهم إلى الجزء المقطوع من المدق.

 

أمر الجميع بحبس نيران المدافع المضادة للدبابات حتى تصبح الدبابات على مسافة مناسبة، سوف يحددها فيما بعد، على أن يتم فتح النيران لجميع الأسلحة فى توقيت واحد، وبأوامر شخصية منه. أراد بذلك  تحقيق عنصر المفاجأة، لأنه حين قام بحساب إمكانياته فى الصد، لم تكن مقارنة القوات فى صالحه، وكانت المفاجأة - وحدها - هى التى تمكنه من إعادة الاتزان الدفاعى إلى الموقع .

 

إن حساباته - المستمدة من خبرات الحرب السابقة - تؤكد له أنه لن يستطيع سوى تدمير عدد من الدبابات لا يتجاوز الثلاث، وهو الآن يواجه ثلاث عشرة دبابة. لكنه كان متفائلا ً، فهو لا يطمع فى تدمير أكثر من الدبابات الثلاث الأولى. وإذا نجحت قواته فى ذلك فسوف تسد هذه الدبابات المدق أمام باقى الدبابات، التى لن يكون متاحاً لها سوى خيارين: إما أن تنسحب من أرض المعركة وهو مايريده، أو تتوقف لبعض الوقت لحين إخلاء الدبابات المصابة. فى هذه الحالة سوف تصبح هدفاً ثابتاً، مما يمكنهم من الاشتباك معها من مواقعهم المجهزة، بالإضافة إلى إمكانية تدميرها بواسطة المدفعيات من الخلف.

*****

 

اتخذت مجموعات اقتناص الدبابات أماكنها داخل الملاحات على جانبى المدق وفى أماكن متباعدة، لكنها تحقق تقاطع أقواس نيرانها. كانت كل مجموعة تتكون من جندى يحمل قاذف صاروخى ( آر بى جى )، وتحت قيادته جندى آخر مساعد له، وجندى مسلح برشاش خفيف.  قام القائد بالتتميم عليهم بالصوت من نقطة ملاحظته، أعطت مجموعتين منها التمام برفع الأيدى، إلا أن المجموعة الثالثة لم ترد. أمرالقائد الجندى الساعى البحث عن قائدها، فقال له:

- دى مجموعة صلاح عبدالدايم يا افندم

- ردد بغيظ :

- تانى صلاح عبدالدايم ؟؟

ثم خبط غاضباً بيده جدار نقطة الملاحظة، فسقطت إحدى شكائر الرمل .

*****

 

نشأ بخاتى بإحدى القرى التى تقبع في سفح الجبل الغربى، والتابعة لدرنكة بمحافظة أسيوط. منذ طفولته الباكرة عاش أسيراً لسيرة جده الأكبر، الذى كان أسطورة في زمانه، وتحول مع الوقت ليصبح سيد الناحية بأسرها. كان الجد يتمتع بشجاعة وجرأة لا نظير لهما، إضافة إلى قوة عاتية، وبسطة في الجسم أورثها لنسله من بعده، ومنهم بخاتى.

 

حكت جدته له كل ماتعرفه عن جده الأكبر، والذى هو جد جده. كان النوم لايعرف طريقه إلى عينيه إلا بعد أن يتوسد فخذها، ثم تقص عليه كل ليلة جزءًا من سيرة الجد، حتى صارت تلك الحكايا زاداً يومياً له.

 

سألها عن البداية فأجابته بأن جده كان يعشق الجلوس على شاطئ النهر، يرقب المراكب الشراعية التى يأخذها التيار إلى البلاد البعيدة بحرى مصر، والتى كان يتمنى أن يراها، أو لينشغل بحركة الماء تحت قدميه. وقد أدمن التأمل فى النهر، لدرجة أنه أتقن "لغة الخرير". صار يتحدث إلى النهر، كما كان يجيد الاستماع إليه، حتى عرف الكثير من أسرار الماء، والتى لم يصل إليها أحد من قبله.

 

عرف- مثلاً- أن الماء، شأن كل الكائنات، يتعب من الحركة الدائبة التى تنهكه كل يوم، لذا كان يحب أن يرتاح في غفلة من العيون، فيتوقف لبرهة عن الحركة الدائبة. وبعد أن رصد الجد حركة الماء سنين طويلة، توصل إلى أخطر أسرار النهر، والمتمثل فى "سر المياه النائمة". فقد عرف الوقت الذى تغافل فيه الجميع كى تتوقف عن الحركة للحظات، ثم تعاود سيرها مرة أخرى، ويقال أنه ارتشف حفنة من ذلك الماء النائم. لحظتها تفتقت عنه خيوط ثيابه، بعد أن نفر صدره إلى الأمام، وبرزت عضلات الساعد والعضد، وازداد كتفاه اتساعاً. لقد أصبح يمتلك قوة خارقة بعد أن أزاح الحجب -لأول مرة-  عن سر الماء.

وفي مرة أخرى حكت له الجدة عن أن الجد الأكبر قد اكتسب شجاعته وجرأته، عندما كان في ريعان الصبا، وقد ذهب إلى أبيه في الحقل في أحد ليالى الحصاد، فوجد ذئباً يعترض طريقه وقد كشر عن أنيابه. دارت بينهما معركة رهيبة، استطاع الجد أثناءها أن يقتل الذئب بيديه المجردتين، ثم أنه قام ببقر بطنه بأظافره، حتى استخرج كبده الذي كان ما يزال ساخناً، والتهمه نيئاً. بعدها اكتسب قدرة وجسارة لا نظير لهما.

 

ويقال أيضاً أنه أثناء مكوثه الطويل على ضفة النهر، عشقته جنيّة. ظهرت له ذات مرة على شكل إنسيّة بارعة الجمال، فعشقها بدوره. كثيراً ماكانت تصحبه إلى قصرها الذى شيدته فى عمق النهر، ليرتشفا معاً ما طاب لهما من اللذة. وفى كل مرة كان يغيب عن بيته عدة أيام، وحينما يعود يبقى صامتاً لايكلم أحداً، حتى يزول عنه تأثير الجنيّة، فيعاود بعدها حياته الطبيعية.

 

رجته (بسم الله الرحمن الرحيم) أن يتمنى عليها، فقال على الفور:

- أريد أن أكون أشجع الرجال، وأكثرهم قوة وجرأة فى كل الصعيد

فسألته:

- هل تستطيع أن تخلع شجرة الكافور هذه؟

وأشارت إلى شجرة قريبة منهما، فقال لها:

- ومن أين آتى بالقوة التى تمكننى منها؟

ابتسمت وقالت له :

- لم لاتحاول؟

ذهب إلى الشجرة متثاقلا،ً وهو يدرك فشل محاولته مسبقاًً. (عبط) الشجرة بكلتا ذراعيه، ثم حاول خلعها، ولدهشته طاوعته جذورها، التى بدأت تخرج من شقوق الأرض. لم يستطع عقله أن يستوعب ماحدث، لكنه بعد عدة أيام وعدد من المحاولات الأخرى أدرك أن حلمه قد تحقق بالفعل.

*****

ظلت ذكرى الجد تناوش بخاتى فى صباه وشبابه، فيحلم بأن يترك- من خلفه- ذِكراً كالذى تركه جده الأكبر، حتى التحق بالجيش وهو في العشرين من عمره. وقد فكر في أنه يمكن أن يجد فى الحرب فرصة سانحة، لكى يسطر لنفسه سيرة مثل تلك التى كانت للجد في سالف الوقت والأوان.

 

ونظراً لأنه لم يضبط نفسه متلبساً بارتكاب فعل البكاء، حتى وهو صغير، لذا فإن بكاءه في حضن القائد بعد أن وعده بمنحه وساماً، أدهشه بالفعل. ولما سأله القائد عن سبب بكائه وهو الذى كان يجاهر بأن البكاء للنساء وحدهن، أما الرجل فهو كالجمل (شيال حمول)، أجابه قائلاً:

- كان نفسى أكون بطل له عزم وشدة جدى الأكبر

فرد عليه القائد:

- ومين قال لك إنك مابقيتش زيه؟

فتساءل بخاتى:

- ولكن كيف أقنع أهلى وناسى باللى قمت به وهم لم يروه؟

- لما تنزل إجازة بعد الحرب، والوسام بيلمع فوق صدرك، هو اللى هايحكى لهم إن بخاتى وِلْد زهران ولد عبد الجبار ولد وهدان ولد بخاتى الأكبر، أصبح له تاريخ وسيرة.. وإنه الآن بيجلس إلى جوار جده بخاتى الأول، الذى تسمّى على اسمه .. الأول يمسك بيديه عصاه، والثانى يمسك بيديه وسامه ..

 

لمعت الدموع فى عينى بخاتى، وهنا أدرك قائده أن الرجل الحديدى قدَ بكى من قبل، بعد أن أيقن أنه قد سطـّر لنفسه تاريخاً وسيرة، سوف تجرى على ألسنة الرواة من بعده.

*****

انهالت القذائف على الموقع فجأة بكثافة عالية، فقد كانت الدبابات تقوم بالضرب من الحركة . لكن معظم القذائف كانت تسقط فى الملاحات، دون أن تحدث خسائر بالقوات.

ظل قائد المجموعة يتتبع رتل الدبابات وهو يتقدم بسرعة محمومة، برفع رأسه بين حين وآخرلبرهة قصيرة، ثم يخفضها ثانية. اصطدمت إحدى الشظايا بالشكائر الخلفية لنقطة الملاحظة التى يقف بها، ثم انغرست فيها. حاول أن يجذبها بيده ليلقيها بعيداً، حتى لا تعوق حركته أثناء متابعة المعركة، لكنه نزع يده بسرعة عنها، بعد أن تخلصت من بعض الجلد فوق حواف الشظية الملتهبة. أمسك ببندقيته، دفع بها الشظية فسقطت داخل الحفرة البرميلية،ثم تشاغل عن الألم الرهيب الذى كان يشعر به، بمتابعة الدبابات المتقدمة من جديد .

 

توقف طابور الدبابات عن التقدم، ولكن القصف لم يتوقف

تقدمت عربة نصف جنزير من خلف الرتل، واندفعت إلى الأمام. وحين وصلت إلى الجزء المقطوع من المدق، ترجل منها ثمانية أفراد، أنزلوا بعض المعدات من العربة. بعد قليل بدأوا فى رفع الألغام تحت ساتر من نيران الدبابات، التى لم تمكن أياً من أفراد الموقع من رفع رأسه خارج حفرته، للاشتباك معهم. تضاءل الأمل مرة أخرى .

 

ازدادت كثافة النيران بعد أن أصبحت الدبابات على مسافة سبعمائة متر

أصدر أوامره بالاستعداد للاشتباك، لكن أحداً لم يردد الأمر خلفه. حتى الساعى الذى يكمن فى حفرته التى لا تبعد عنه إلا بمترين، لم يسمع الأمر نتيجة لشدة القصف. واستغرب ثم ذعر، فقد كانت أصوات الانفجارات أعلى كثيراً من صوته. فكر بالخروج من الحفرة لتبليغ الأمر بنفسه، لكنه توقف. كان ذلك يعنى انتحاراً مؤكداً، وبلا مبرر.  كانت الشظايا تدور مثل آلة ضخمة بألف ذراع، كل ذراع تمسك بمنجل إله الموت. بينما موجات الضغط المتعاقبة - التى احتمى منها داخل حفرته - تقتل كل شىء، الإنسان والحشرات، وحتى الحجارة. وها هو النورس يغادر الموقع ويتركهم وحدهم، فلا يبقى أمامه أثر للون الأبيض.

 

وصلت الدبابات إلى الجزء المقطوع من المدق، وتوقفت قبل الجنود الذين يقومون بتطهير الحقل، حتى لا تعوق عملهم. بذلك، أصبحت على مسافة ستمائة متراً، أى داخل قطاع نيران أسلحة الضرب المباشرللمجموعة، فصرخ يائساً :

- اشتبك

لكن أحداً لم يشتبك

- هل ماتوا جميعاً ؟

أدرك مؤخراً أن النهاية سوف تكون تحت جنازير الدبابات الإسرائيلية،إن لم تحدث معجزة إلهية، فى زمن عزت فيه المعجزات.

*****

 

اقتربت دبابات العدو من الجزء المنسوف من الطريق، أبطأت من سرعتها، لكنها زادت من معدلات نيرانها . رفع نظارة الميدان إلى عينيه، ونظر من خلالها، فى نفس اللحظة التى انفجر فيها أحد الألغام فى دبابة المقدمة، فتوقفت على مشارف الحقل. أحس بالأمل يعاوده من جديد .

 

اقترب أفراد مهندسى العدو من نهاية الحقل على جانبه الشرقى، وبدأ بعض الأفراد الآخرين فى إنزال مجموعة من القضبان الحديدية لعمل كوبرى فوق الجزء المقطوع من المدق. ظل النقيب سمير عبد الرحيم يراقبهم من خلال نظارته، وكان قد طلب قصفة مدفعية، إلا أن قائد الكتيبة أبلغه بالصمود حتى يتم الدفع بأحد ضباط المدفعية لإدارة النيران.

 

كان صراعه الأساسى مع الوقت، قبل أن يكون مع العدو

نظر مرة أخرى فشاهد أفراد العدو قد انتقلوا عبر الجزء المقطوع، وبدأوا فى تطهير الجانب الغربى من الألغام. معنى ذلك أنهم استطاعوا تطهير أكثر من نصف الحقل.وفى لحظة درامية مذهلة، شاهد الجندى عبد الستار- حامل الرشاش فى مجموعة صلاح عبدالدايم- وقد انتصب فجأة، على مسافة قريبة جداً من الجنود الإسرائيليين، وحصدهم جميعاً برشاشه الخفيف.

رفع النظارة عن عينه وهلل رغماً عنه :

- الله اكبر

لقد ألحت عليه هذه الفكرة حين لم يجد مجموعة اقتناص الدبابات الثالثة، ولكنه طردها من ذهنه. لم يكن يتصور أنه من الممكن أن يقوموا بهذه المهمة وحدهم،  ودون أوامر منه. وحتى لو تصور أن هناك مجموعة من الجنود من الممكن أن تنفذ هذه المهمة، فسوف تكون أية مجموعة أخرى عدا مجموعة صلاح عبدالدايم .

 

أحس بالانتعاش من جديد وتابع الموقف من خلال نظارته.

كان قد نسى عبد الستار الذى وجهت إليه الدبابة الثانية إحدى قذائفها، فنظر فى اتجاهه. شاهد عموداً من الطين والدخان يرتفع إلى أعلى، ويهوى ببطء إلى الملاحة ثانية. وعندما تلاشى الدخان وهبطت ذرات الوحل، نظر فلم يجد عبدالستار، كأنه ارتدى طاقية الإخفاء.

هل خدعه مثلما خدع العدو، واختفى فجاة مثلما ظهر فجأة ؟

 

لم يصدق أنه من الممكن لرجل مثله أن يموت

ولكنه حينما لم يسمع صوت دانات أخرى فى اتجاهه، تأكد أن الأمر قد انتهى، وتساءل وهو يمسح عينيه المبتلتين بظاهر يده:

- ياترى انت فين ياصلاح ؟

*****

 

أخذت الدموع طريقها إلى عينيه لأول مرة

كان صلاح عبد الدايم يرقد فى حفرة على الجانب الآخر من الطريق وشاهد عبدالستار الذى وقف فجأة ليواجه ثلاثة عشرة دبابة وحده، ثم يمتزج مرة أخرى بالأرض التى جاء منها. لقد تعلم كيف يُفلح الأرض التى كانت لأبيه، وها هو يتعلم كيف يدافع عنها، ثم كيف يمتزج بها.

 

(ها هى بطولتك الزائفة تسقط تحت قدميه المليئتين بالشقوق..

أردت أن تكون بطلا ًلتراهن على يأسك

فكانت لك بطولة المنتحر،

لكنه امتلك إرادة الحياة، فى نفس الوقت الذى فقدت فيه كل شئ، حتى نفسك..

كنت تظن أن بينك وبين الجنود الآخرين، أو الكائنات الأرضية كما كنت تسميهم، مسافة بعيدة .

وها هو أحدهم يؤكد لك أن المسافة بينك وبينهم أبعد مما تتصور،

لكنها هذه المرة مسافة معكوسة.. أنت فى قاع الحياة وهو فى قمتها.

حين تمنيت موتك كنت تفعل ذلك لأنك لست كفئًا للحياة،

أما عبدالستار فقد كان عاشقاً لها.

لماذ اختار موته إذاً .. وبإرادته ؟

هل تفهم ؟

لأنه لم يعرف الثرثرة، فلم يفسد فعله /

ولأنه عاش لحظة اختيار.. فاختار

ألم تتعلم من الوجوديين أن الإنسان فى العالم، وأنه موقف ؟

لقد عرف عبدالستار أن المسافة بين الموت والحياة لا تزيد عن ارتفاع قامته ،

وها أنت تدرك الآن أنه حتى الرجل الشجاع ممكن أن يموت بقنبلة !!

هل تقرأ عليه الآن سفراً من "كتاب الموتى" ؟)

 

*****

 

نظر من تلسكوب القاذف الصاروخى، فرأى دبابة المقدمة تصب نيرانها على  موقع المجموعة فى الخلف منه. كان يسمع صوت الدانات وهى تئز من فوقه، محملة بالموت والدمار. تأكد له أن عبد الستار لن يكون وحده الضحية، بل ربما يكون الدور على المجموعة بأكملها. تراءت أمامه أجداث زملائه، وقد افترستهم قذائف الدبابات، أوتناثرت أشلاؤهم تحت جنازيرها.

 

فى مركز التدريب كان المعلمون يؤكدون للجنود المستجدين على مبدأ أساسى:

 )أن الحسنة تخص والسيئة تعم)

كم استنكر ذلك من قبل!!، وكان يفسره بأنه المظهر الأوضح للفاشية العسكرية، التى تريد أن  تصب الجميع داخل قالب واحد. لكنه الآن فهم الحكمة من وراء ذلك، أدرك فجأة أن لحظة الخطر عادة ماتدفع الذات الفردية باتجاه المجموع. حينئذ استنارت بصيرته، فولج - مثل المتصوفة -  داخل لحظة(الكشف)، ليعرف - للمرة الأولى- مغزى شعار (الكل فى الواحد، والواحد فىالكل)، الذى كان يرفعه الفرسان الثلاثة. الحرب - كأقصى درجة من لحظات الخطر - لاتعنى سوى شئ واحد:

أنها مواجهة بين الذات الجمعية والموت، ولامكان فيها للذات الفردية إلا منظوراً إليها من خلال المجموع.

 

(فجأة تذكر شهداء الصاعقة، ورئيس الأركان، والمحامى ابن الباشا، وسهام صبرى، وأم كلثوم، وراوية عاشور، وأولاد الأرض، والكابتن غزالى..)

 

لم يدر بنفسه إلا وهو يضع سهم التنشين فى منتصف الدبابة الأولى تماماً

كتم أنفاسه لفترة حتى لا يهتز القاذف الصاروخى بين يديه، ثم أغمض عينه اليسرى. أحس أن سلكاً شائكاً يخدش اليمنى المفتوحة، بعد أن جف سائلها الدمعى . أوشك على الاختناق، لكنه لم يشهق بعمق إلا بعد أن ضغطت سبابته على التتك، فاندفع الصاروخ مخلفاً وراءه ذيلا ًطويلا ًمن اللهب، ليرتطم بالوحش الحديدى، ويخترق دروعه.

عن يمينه سمع مساعده الجندى منصور وهو يهتف:

- ينصر دينك يا صلاح ..

 

أحدث الصاروخ ثقباً بالدبابة الأولى، اندفعت منه نافورة من اللهب إلى داخلها. وعندما لم يخرج أحد من أفرادها من فتحة البرج أو فتحة الهروب، تأكد أن موجة الضغط قد قضت عليهم جميعاً. فى نفس الوقت، أسرعت باقى الدبابات المذعورة فى الهرب باتجاه الشرق، خوفاً من ملاقاة نفس المصير. تباعدت حتى أصبح يراها كمجموعة من النقاط الصغيرة، ثم اختفت بين الغبار والعادم.

 

لقد ظن الإسرائيليون أنهم وقعوا في كمين مصرى، وأن هناك قوات كبيرة تحاصرهم داخل الملاحات، وأن هذه الطلقة هى كلمة السر التي سيعقبها الهجوم الشامل، فآثروا الانسحاب بسرعة.. فلم يعودوا قادرين على تحمل المزيد من الخسائر.

 

خرج صلاح من حفرته

توجه إلى المكان الذى كان يكمن فيه عبد الستار، فلم يجد إلا حفرة عميقة، يرتفع الماء حتى منتصفها. بحث عنه فلم يجده، كأن السماء قد هبطت من علوها وابتلعته. وفوق صفحة الماء الراكد كان الموت يفكر بصوت مرتفع ، إذ رأى قرصاً معدنياً يحمل اسمه ورقمه وفصيلة دمه، يقبع على جانب الحفرة، بينما الهواء مايزال مشبعاً برائحة أنفاسه التى لم تكن قد تلاشت بعد. لقد أحس بها تلفح وجهه، وكأنها تطبع قبلة أخيرة عليه، أو كأن عبد الستار يقول له من خلالها:

"إذا كان علىّ أن أختار نهاية أخرى، لاخترت نهايتى"

 

كيف يرثيه إذا ً؟

 

تذكر تلك الفقرة  من " كتاب الخروج إلى النهار" التى طالما شغف بها، والتى أشارت إلى البعث قبل ظهور الديانات السماوية بأكثر من ألفى عام:

    

                (حين يصير الزمان إلى خلود

                  سوف نراك من جديد

                                    لأنك صائر إلى هناك

                                             حيث الكل فى واحد)

هكذا أدركته الحكمة، فتعلم كيف يقبض على المعرفة الجنائزية التى أتقنها المصرى القديم، فإذا بها تراوغه داخل تلك المتاهة المقدسة، التى اسمها "الخلود". إنها تتردد بين معابد تخليد الذكرى والمعابد الجنائزية، فى محاولة لتجاوز النسيان، الذى كان يهابه كل من الملوك والآلهة معاً.

 

 من المؤكد أن عبد الستار قد أدرك، بحكم ميراثه النفسى والتاريخى، أنه ما من هدف مقدس إلا ويعارضه - عادة - موت ما، وصولاً إلى حلم الخلود المطلق.

 

سار فى اتجاه الدبابة التى حكم عليها بالإعدام  

كانت أشبه بالوحش الرابض على أبواب طيبة. دُهش حينما أحس بها كما لو كانت تتحرك ، كأن الوحش الحديدى يسأله نفس السؤال القديم :

 

(ما الكائن الذي يمشى فى الصباح على أربع، وفى الظهيرة على اثنتين، وفى المساء على ثلاث) ؟

 

لم يكن يعرف الإجابة من قبل، لكنه لم يفكر هذه المرة ، بل أجاب على الفور :

- عبد الستار

فتتابعت الانفجارات داخل الدبابة المدمرة، لتحيل الوحش الحديدى إلى كتلة من الحديد

المصهور.

Share
Click to listen highlighted text! Powered By GSpeech