Click to listen highlighted text! Powered By GSpeech
Get Adobe Flash player
مستمرين معاكم بإذن الله 2008-2024 **** #لان_لجيشنا_تاريخ_يستحق_أن_يروي **** ***** إنشروا تاريخنا وشاركونا في معركة الوعي **** تابعونا علي قناة اليوتيوب 1100+ فيديو حتي الان **** تابعونا علي صفحات التواصل الاجتماعي** أشتركوا معنا في رحلاتنا لمناطق حرب أكتوبر **** يرجي استخدام خانة البحث **** *** تابعونا علي تليجرام - انستجرام - تويتر

عذرا شهيدي

عذراً ... شهيدى

بقلم اسماء الكاشف 

ربما تختلط المعالم والأسماء  والمعارك ،، تتناثر الحقائق فى عقولنا وعلى صفحات الكتب حولهم  لكن ثمة حقيقة واحدة  لا تقبل الجدال  ،، أنهم  " أحياء ولكن لا تشعرون  " ...

 

 

توقفت أمام حديقة أحيطت بسياج حديدى ، تلاقت عيناها بالواجهة علها تعرف اسم تلك الحديقة المزدانة بزهور رائعة لم تر فى حياتها مثيلها  ، وفجأة استلفت انتباهها صوت ينادى .. هييه أنت أنت ، تلفتت حولها يميناً ويساراً باحثة عن مصدر الصوت ..  آه  .. إنه هناك  ، توجهت إلى مصدر الصوت حيث تراءى لها من خلف سياج الحديقة رجل ٌ يرتدى الزى العسكرى حاملا نياشين وأوسمة لا تعرفها .. بادرها بالقول : ألم تسمعى النداء ، نظرت إليه وقد أرتسمت على وجهها علامات الدهشة : تقصدنى أنا ؟؟  نعم  : أنت وهل هناك غيرك  .. هى : نعم المارة فى الطريق كثر  ، قاطعها قائلاً : لكنك أنت التى توقفت هنا وحدقتى النظر فى البستان ... أدخلى ، أدخل ؟ لكن اشغالى  ... ، قلت تعالى ، ولم تجد أدنى فرصة للأعتراض  ، دخلت إلى الحديقة  وهى لا تعرف كيف قادتها قدماها للدخول فى مكان لا تعرفه وسارت فى خطى قلقة بطيئة خلفه  ،، لحظة لكن الشخص لا يبدو غريباً عليها ، نعم رأته بالأمس .. لالالا أيعقل هذا  ..  نظر خلفه فإذ بها تبعد مسافة كبيرة عنه رمقها بنظرة أمتزجت فيها الصرامة بالطمأنة وقال : لا تخافى  .. تقدمى  ،، استوقفته متوسلة إليه أن يجب سؤالها  المتعلق بوجود تشابه كبير فى ملامحه مع ملامح الشهيد الذى قرأت عنه بالأمس .. رمقها بنظرة امتزجت فيها الثقة والفخر قائلاً نعم : أنا هو  إبراهيم عبد التواب .. وما أن سمعت أجابته حتى أرتسمت على وجهها علامات الذهول والتعجب : أنت هو  ؟؟ كيف  .. هو فى رحاب الله  رد قائلا : ولكننا أحياء عند ربهم يرزقون ،، أحياء ولكن لا تشعرون ... وسرعان ما تلاشى من أمامها ... أنت   أيها  الشهيد  أين تركتنى  وذهبت ؟؟ دعوتنى للدخول وتخليت عنى .. عد إلى وألقنى خارجاً .. ولكنها لم تجد مجيب ..

يا الله أين أنا ؟؟ وكيف لى بالخروج  .. همت للخروج من حيث أتت لكن باب الحديقة كان موصداً ،، لا حراس ولا عمال .. لا أحد ..  تجولت فى أركان الحديقة  وكانت مشاعرها مزيجاً من الخوق والقلق  .. ولكن ليس أمامها خيار سوى الأنتظار  .. انتظرت ساعات وساعات  أن يخرج إليها أحد .. دون جدوى

تراءى أمامها باب زجاجى تسبقه درجات رخامية  .. لكنها ارتابت المرور إليه أو حتى طرقه  وقررت الجلوس على الدرج منشغلة التفكير فى كيفية الخروج ، وفجأة قطع صمتها وتفكيرها صوت يسألها :  من أنت  ؟؟ وكيف جئت إلى هنا ؟ ولم تجلسين على الدرج .. شرحت له ما حدث وبادرته سائلة : وهل أنت أيضاً شهيد ؟؟ أطلق ضحكة قائلا ً لا   .. لا تخافى ، فأنا كنت رفيق الشهداء  فى حياتهم  وحاربت بجوارهم .. تعالى

وأندفع نحو الباب الزجاجى ودخلا سوياً .. وما كان خلف الباب عالم جديد ،،  امتزج فيه كل شىء واى شىء .. تشابه فيه الأشخاص والصور والأهل والأسلحة  ..  أين نحن ؟؟  حيث يقطن الشهداء  ،، أنا فى حلم أم حقيقة  ومن أنت ؟؟ ومن هم  ؟؟

كان المكان خلف الباب الزجاجى عبارة عن ردهة فسيحة زخرت بصور المقاتلين ولوحات الشرف التى حملت اسمائهم ، تجاورت صورهم بصور الشهداء من مختلف الفئات ،، هاهم أطفال بحر البحر ،وهؤلاء بناة حائط الصواريخ من عمال وفلاحين ، وهؤلاء رجال المقاومة الشعبية  ... على يمين الردهة الفسيحة انقسمت أركان عدة الأول للكتاب والمؤرخين والثانى للأبطال رفاق الشهداء وشركائهم فى صنع البطولات والثالث لأسر الشهداء   وآخر للقراء والمحبين .. ظلت تتلفت حولها غير مصدقة ما بدا أمام عينيها ..

تداركت عيناها صورة رجلٌ يؤدى التحية العسكرية بحزم وثقة وفخر وقالت : من هو ؟؟ رد قائلاً : هو أمير شهداء أكتوبر  العميد الرفاعى .. ؟؟ وهل تعرف قصته ؟؟ هييه كان قائدى وقدوتى فى المجموعة 39 قتال  وظل يسرد لها بطولات الشهيد واعتزازه بوطنه ونفسه  .. أطلقت من قلبها تنهيدة  وظلت تلوم نفسها كيف لها ألا تتعرف على بطل مثله .. أكل هذه البطولة لم تجد لها مساحة فى مناهج التعليم ! يدرس التلاميذ جوارى شجر الدر ولا يعرفون شيئاً عن أبطالنا .. لكنها عادت تلقى باللوم على نفسها  التى لم تفكر يوماً أن تقرأ عنهم واكتفت بالأفلام السينمائية الخاوية من أى مضمون .. سارا سوياً فى خطوات وطيدة  سألته إلى أين نتجه ؟؟ قال : إلى مؤرخ المجموعة ..  توجه الأثنان إلى ركن أطلق عليه  ركن الكتاب والمؤرخين ،، أشخاص يجلسون فرادى يوثق كل منهم  شيئاً ما  ، وآخرون يجلسون فى مجموعة يوثقون معاً  ،، كم من الكتب التى وضعت على رفوف الركن  وكلها حول هذا العالم  وأبطاله  .

نظرت إلى رجل منكب على الكتابة وظلت تحدق النظر فاذ به يطلب من المؤرخ الترحيب بها ،، تتلقى الترحيب ويمنحها بعض الكتب التى ألفها علها تستفيد منها وتتعرف إلى العالم الذى دخلته .

كتاب .. يا الله تذكر انها آخر مرة قرأت كتاباً كاملا كان منذ 4 سنوات لا بل 5  .. لا تذكر وهو يمنحها كتبا ثلاثة دفعة واحدة ،،  قدمت الشكر وتناولت الكتب عكفت على قراءة الأول ، أكل هذه الحقائق غابت عن عقلها ! ؟  شموخ وصلابة وثقة وتحدى للمخاطر وهى وملايين غيرها لم يشعروا بهم يوما ما . ومن تلك اللحظة لم يعد الخروج من هذا المكان يهمها بقدر ما أصبحت تريد أن تتجول فى أركانه وتتعرف إلي سكانه ..

توطدت معرفتها بالشهيد الرفاعى وتوطد أيضاً لديها الأعتزاز به وأخذت على عاتقها ان توصل قصته بطولته إلى من تعرفهم ..  وأصبح لديها من الشجاعة ما يجعلها تكمل الجولة فى المكان دون إرهاق الرجلين  .

تجولت فى الردهة الفسيحة والتى زخرت بالكثير من صور الشهداء والقصص التى دونت عنهم .. انتهت الردهة إلى باب آخر يؤدى إلى الصحراء القاحلة حيث ضوء الشمس الحارقة .. لا شىء سوى الرمال والشمس وفجأة لاح أمامها  أشخاص يتحركون ..هناك من يطاردهم  ظلت تتابعهم ببصرها وترقب .. أخيراً لقد أمسك بأحدهم

اقتربت منه ، إنه هو بزيه العسكرى وشموخه يمسك أحدهم وينهال عليه ضرباً .. إنه هو أمير الشهداء  ، ترى لم يضربه ومن هذا الشخص ؟؟ لكنها لم تجرؤ على السؤال ، كانت نظرته الصارمة توحى بأن شيئاً ما غير سار يلوح فى الأفق .. وسرعان ما تلاشى من أمامها .. وقفت هى تحدق النظر فى المكان ، هل ما رأته حق أم أنذلك ضرب من الخيال ،، هل زاغت عيناها مثلاً .. أم أنه بالفعل كان أمام عينيها !

أحرقها لهيب الشمس وقررت الدخول والأستراحة فى ظل الردهة الفسيحة وفجأة اندفع الباب الزجاجى على صوت بكاء ونحيب ... يا الله ما الذى يحدث ؟؟ توجهت إلى الباب فاذ بنعوش اتشحت بعلم مصر تندفع عبره ..  ألهذا كان يطاردهم ؟؟ كان يعرف بإجرامهم ويطاردهم .. وظلت ترقب الجثامين  وهى فى اتجاهها إلى مقابر الشهداء  حتى غابت عن ناظرها . وعلا صوتها وهو تقول " ترى متى نتوقف عن تشييع الجثامين .. إلى متى ؟؟ أتاها صوت من خلفها  يهدىء من روعها ويقول لها أن ما تطلبه مستحيل فلا يمكن ان يتوقف تشييع الشهداء ، فوطننا مستهدف ليس من اليوم ولكن من آلاف السنين ومطمع للغزاة والمجرمين وغيرهم والذين حتما سيجدوا من يقف لهم إذا تصدوا لهم ومنعوهم اصبحوا أبطالاً ذادوا عن ارضهم وإن استشهدوا فهم ربحوا .. ربحوا ، وما دمت دخلت إلى هذا العالم ستشاهدين كل يوم جثمان شهيد أو اثنان .. لقد شيعنا رفاقنا من قبل لكن دون صراخ ، وارينا الحزن فى أنفسنا ووعدنا أرواحهم بالثأر لهم .. تحجرت دموعنا فلا وقت لها وعلينا أن نحارب ونثأر ونسترد الكرامة وكل شىء ..

 جفت الدموع على وجنتيها وهى تنظر إلى صورة أمير الشهداء متحدثة إليه ، رأيتك أمسكت أحدهم وأعرف أن حقهم لن يضيع  مهما طال  أمد مطاردتهم ..

وصل إلى مسامعها صوت يتحدث فيما يبدو إلى جموع  ، تتبعت مصدر الصوت  إلى حجرة واسعة امتلأت بالحضور إنه حفل  توقيع كتاب أعدته مجموعة المؤرخين .. وتلك هى حجرة اللقاءات  ، بالكاد لحقت بمقعد فى الصف الأخير  وانصتت بآذان صاغية .

 انتهى اللقاء  وعادت إلى الردهة  الفسيحة الزاخرة بالصور والقصص .. توقفت أمام القصة المدونة ، الفارس الذى هزم الموت .. بدأت قراءتها وكأنها تلهتم سطورها فهى فى اشد الحاجة لمعرفة النهاية .. اقتربت .. حانت .. علا صياحها مرددة اسم البطل الشهيد   "حيدر .. حيدر " .. ودموعها المنسابة تأبى أن تنحبس ، لطالما اعتقدت أن الطيارين لا يموتون ويضربون من أرتفاعات عالية وحسب .. تراءت أمامها صورة أم حيدر تبكى ولديها فى أنين خافت من مرضها توفيق ..حيدر .. أين أنتما .. ؟؟ كانت عيناها تبدو  وكأنها أقامت عزاء جديد .. تتمنى أن ترى صورتيهما لكن غير ملحقة بالقصة .. ولا هى فى ردهة الشهداء

فجأة يتردد على أذنها أزيز الطائرات وصوت القصف ..  تخرج إلى حيث الباب الغربى  محاولة  تقصى الخبر  .. حيدر يطير .. هى طلعات حيدر .. نعم هى هى طلعاته ،وها هو يقصف مواقع العدو .. لقد غادرت الطائرة سريعاً  عادت إلى الردهة  وسرعان ما لاحت لها على الجدران صورة ثلاثتهم توفيق وحيدر ومحمد لكن محمد لا يشبه الكاتب صديقهم بأى شكل تراه من هو ؟؟ وسرعان ما تتلاشى الصور من أمامها ..

وعلى مقربة منها ترى الكاتب المقاتل صديقهما جالساً  ،، تتردد فى إخباره بما شاهدت ..هل يصدقها ؟؟ أم يعتبر أنه يحادث فتاة مجنونة .. تتردد فى كل خطوة تخطوها نحوه ، تخطو وتعود حتى تقرر أن تستجمع شجاعتها وتخبره .. لتفاجىء بسروره وتفهمه وشعوره أن دم صديقه لم يذهب هدراً  .. تستجمع شجاعتها مرة اخرى لتسأله أن احتفظ بصورة لهما .. لكن الإجابة تأتى بالنفى .. ورغم عدم اقتناعها لكنها علمت أن وراء هذا النفى حزن دفين  على رفاق درب .واكتفت بما أرهقته به وما استقطعته من وقته .

غادرت الردهة إلى حيث الحديقة التى ازدانت بأجمل أنواع الزهور  .. تلك التى قابلت فيها الشهيد الأخير فى حرب 73 ..  توجهت إليها عازمة أن تقطف بعض الزهور تزين بها قبر الشهيد حيدر  وبينما هى منهمكة فى عملها  فى الحديقة نفسها  شاهدت شخص ما يرتدى زى ابيض .. لالا  عباءة بيضاء واسعة من الحرير لا يبدو أنها رأت مثلها من قبل .. وقفت على مسافة منه ترقبه وتنظر إليه  دون أن تنبس ببنت شفة .. يا الله على الهيبة والوقار  .. إنه هو شهيد الدفاع الجوى شهيد البشارة ، الشهيد أحمد حسن   .. نعم هو من قرأت عنه فى مواكب الشهداء  .. هو بعينه ،،  تذكرت قوله تعالى  " ولباسهم فيها حرير " .. ظلت تحدق النظر فيه دون أن تتحرك خطوة أخرى وكأن قدميها التصقتا بالأرض حتى تلاشى من امامها  .

لكن رؤياها شهيد البشارة لم ينسها هدفها الأول تزيين قبر الشهيد حيدر ،، توجهت إلى مقابر الشهداء وبدأت تبحث عن قبر شهيدها ، سرعان ما لاح أمامها شخص ما يقف هناك .. اقتربت شيئاً فشىء ،، إنه هو المقاتل صديق الشهيد ،، يبدو وهو يقرأ له .. تراه وقف يقرأ فقط أم يحدثه ؟؟ هنا قررت ألا تقطع علي الصديقين جلستهما وألا تثير الإزعاج فعادت من حيث أتت ..

عادت إلى الردهة حزينة كيف لم تستطع ان تتفوه إلي شهيد البشارة  ولو بكلمة شكر على ذوده عن الوطن ؟ وكيف لم تحقق هدفها وتزين قبر حيدر بعد أن قطفت الأزهار ؟؟ ولكن شىء ما تردد بداخلها كان الرحيل من أمام قبره خيارك أنت ولم يجبرك أحد على ذلك .. كل شىء بمشيئة الله 

 عادت إلى الردهة ثانية  ، لكن ثمة شخص جديد  يقف فيها .. سيدة بيضاء ملائكية الملامح  تقف فيها ،، تتبادلان التعارف ، لتفاجىء بأنها ابنة الشهيد الذى رأته للتو فى الحديقة .. تتداخل فى نفسها الصراعات  وتحادث نفسها :  هل ابلغها اننى للتو رأيته ؟وكيف تصدقنى وهى للتو تعرفنى ولا تعرف إلا اسمى .. لكن شيئاً غريبا يحدث فهى لا تدر كيف نطقت فجأة بأنها رأته وأنها لا تعرف اذا كانت ستصدقها أم لا  .. لكنها صدمها تفهم ابنة الشهيد فليست المرة الأولى أن  يخبرها أحد ٌ ما أنه رأى والدها . توطدت الصداقة بينهما واصبحت تبوح لها بما تراه فى هذا المكان وساعدتها صديقتها فى فهم الكثير من الأمور الغامضة وفك طلاسم المكان ..

أمسكت صديقتها بيدها وتوجهت بها إلى لوحة كبيرة أزدانت بصور الشهداء وقالت لها : هذا أبى .. وهذا فلان وهذا فلان ...قاطعتها قائلة : وأين صورة حيدر .. حيدر ؟ لنبحث .. تبادلتا النظر إلى اللوحة اعلاها واسلفها يمينها ويسارها .. لكن لا شىء .. وفجأة  برز من ورائهم شخص ما يبدو أنه عملاق اذ يفوقهما طولا لم تر منه إلا كم ردائه الأسود وهو يشير إليها فى إتجاه بعيد شىء ما مردداً : صورة حيدر هناك !!

لم تجرؤ لحظتها  على الألتفات خلفها أو حتى محاولة النظر إليه أو الأستفهام منه على أى شىء فقط توجهت حيث أشار  تناولت يدها جريدة قديمة وضعت على إحدى صفحاتها صورة حيدر .. كانت صورة صغيرة غير واضحة لكن شىء أفضل من لاشىء ..

وفجأة اختفت الصورة من يدها وتعالى صوت صديقتها : لا تقلقى الصورة ستصل إلينا قريباً بإذن الله .

سارت خطوات محدودة إلى ركن الكتاب ، توجهت إلى كاتب القصة قاطعة تفكيره وأنشغاله بالكتابة مرددة .. " أنا وجدت صورة حيدر ،، شخص ما اشار  لى على مكانها  وأمسكتها بيدي ، لكنها  فجأة اختفت "  .. رمقها بنظرة تغلفها الحزن قائلاً  " هم الآن فى الجنة نسأل الله أن يلحقنا بهم " .. انصرفت من الركن باتجاه الردهة تبكى وتلقى باللوم على نفسها كيف لها أنها لم تراع مشاعر الناس ، ولم تتفهم حزنه  على رفيقه بل رفقائه  وقررت ألا تحاول البوح إليه بما تراه ثانية ..

 عادت إلى  صديقتها الواقفة بجوار  والدها .. وما إن نظرت حولها حتى وجدت شخص آخر يقف عند اللوحة المجاورة يصحبه بعض الأشخاص الذين يثنون على علمه ومعرفته بالقوات الجوية وأبطالها ، فى حين أنه لم يكن منتبهاً لهم بالقدر الكافى كان يطيل النظر إلى اللوحة التى يقف أمامها .. يقف فى حالة شرود ، رغماً عنها ترددت عبارة صديقه فى اذنها ورأت فى وجوده بادرة أمل  وإن كان منذ ثوان معدوم  ..  بادرته بالسلام متابعة القول : آسف لإزعاجكم ، هل يمكن ان أجد معكم صورة للشهيدين  حيدر وتوفيق دبوس.. ؟؟ جاء الرد سريعا وعلى غير المتوقع .. نعم معى واحدة للشهيد حيدر فقط . وكأن سعادة الدنيا تبدت على ملامحها  ..حقا : أين ؟؟ فى ألبوم صور والدى ..

ناولها البوم الصور تتفحصه لكنها للأسف لم تتعرف إليه من لهفتها على ألتقاط الصورة  ..عادت إليه مخبرة إياه أنها لم تتعرف إليه فى الصور .. تناول الألبوم واشار إلى الصورة  قائلا  الأول إلى اليمين .وقبل أن ينصرف بادرته متسائلة إن كان بالصورة  شهداء آخرين .فكانت الإجابة : والدى ..

  ألتقت عيناها بالفارس حيدر  للمرة الأولى .. تراه هذا هو الذى ينظر إليها ويجلس ممدداً قدميه ؟؟ أم هذا .. مهلاً لقد قال إنه الأول إلى اليمين لم يقل يمينها أم يمين الصورة .. يا الله لقد أصبحت غاية الخجل منه .. وفى هذه الأثناء وبينما تنتابها الحيرة أيهم هو هذا أم ذاك مر إلى جوارها بطل آخر .. إنه الأسطورة تعرفت إليه فى هذا العالم الجديد وقررت أن تتطفل عليه وتسأله ، تقدمت نحوه محيية إياه وطالبة العون فى التعرف على حيدر ، كان إحساسها يشير إلى أنه الأول إلى يمينها ذلك الذى يجلس ممددا قدميه .. وعلى الفور كانت إجابته على يمينك أنت .. وبالرغم من أن إجابته كانت واضحة لكنها أرادت أن تستزد من التوضيح والتأكد مرددة : الذى يجلس ممدد الرجلين .. قال  : نعم .شكرته وانصرفت وقد شعرت ثانية بسعادة الدنيا تتبدى على وجهها .. ها هو الفارس ينظر إليها وإلى الآخرين وكأنه يعرف أنها النظرة الوحيدة التى سيطل بها عليهم .

عادت إلى صديقتها وهى فى أوج سرورها .. فتلك الصورة للفارس صارت بيدها وجاءت إليها كما وعدتها .

وعلى جدران الردهة التفتت إلى شىء ما كتب كما لو يبدو بالدم ، اقتربت بفضولها الذى يأبى أن يترك شاردة او واردة فى هذه الساحة إلا وتعرف إليها ،، كانت تبدو اشبه بطفل ضل الطريق إلى منزله فظل يجوب شتى الأنحاء يميناً ويساراً بحثاً عنه .. توقفت أمام تلك الكلمات المدونة تقرأها فى تروى وتشعر كما لو بدا أمامها مسطرها مقاتلاً فذاً قوياً ،، انتابتها القشعريرة فور قراءة اسم المقاتل .. كان مدنياً ،طالباً بالجامعة  ، أختار أن يبتعد طريقه عن حياة الترف أو أن يلقى عبء الدفاع عن وطنه على جيشه فقط ،، كانت الكلمات التى خطها المقاتل الطالب بدمه  : " اسرت يوم 16 نوفمبر 1956 إذ أغمى على قرب القنال متأثراً بجروحى التى أصابنى بها الإسرائيليون قرب العريش . اخذنى الفرنسيون إلى بور سعيد للأستجواب ثم إلى بور فؤاد إلى هنا فى 23 نوفمبر 1956 . جواد حسنى قائد فدائي كتيبة كلية الحقوق جامعة القاهرة "..  أى أريج يمكن أن يعطر هذه الساحة التى زخرت بخيرة الشهداء ،، وأى كلمات يمكن أن تسطر لتعبر عن صمودهم وزهدهم فى حياة لا يلقون لها بالاً ..

ساحة الشهداء .. دائما تعج بالزوار من ذويهم أو رفاقهم ،ولكن ثمة زوار جدد دلفوا عبر الباب الزجاجى ، إنهم أطفال ثلاثة  أتوا إلى المكان مع معلمهم فى رحلة مدرسية ..وكأنها تعرفهم توجهت إليهم مصطحبة إياهم وقائلة : " تعالوا هؤلاء الأبطال سيفرحون كثيراً برؤياكم وهم بانتظاركم  " .. أصطحبتهم فى جولة فى جنبات الممر ،حتى إذا ما وصلوا إلى حجرة اللقاءات ، شعرت بشىء غريب يحدث .. الأبطال تركوا ركنهم واصطفوا فى حجرة اللقاءات أمام  صورة كبير لأمير شهداء أكتوبر .. يبدو أنهم ينتظرون شخصاً ما مهم ، لحظات وقفت فيها مع الأطفال بانتظار أن ينكسر الصمت الذى يغلف أركان الحجرة .. ترى من الزائر ؟؟ أهو بطل صديق ؟ أم مقدم برامج .. قطع تفكيرها دخول الشخص المنتظر من قبلهم فما إن عبر باب الحجرة إلى الداخل حتى امتدت إياديهم جميعا فى وقت واحد لمصافحته وتحيته .. يبدو أنهم يمتنون له كثيرا تراه من هذا ؟ لحظات وبدا له وجه الزائر .. نعم تعرفه ، لقد دأب على تدوين قصص بطولاتهم وأعاد ورفاقه إحياء هذه البطولات بعد أن كاد يقتلها الإهمال .

غادرت والأطفال الحجرة فلا وقت للتطفل على الآخرين أو لقطع لحظاتهم السعيدة . ودعت الأطفال الزوار فقد حان وقت مغادرتهم وقبيل مغادرتهم نظر أحدهم إلى صورة أمير الشهداء مؤدياً التحية العسكرية له .

حرك مجىء الأطفال الزائرين  ومغادرتهم فى عيونها صورة أطفال  مدرسة بحر البقر  .. وكأنهم جاءوا لزيارة أقرانهم الشهداء الذين لم يكن لهم أى صلة بالحرب ولكن العدو الذى لا يعرف الرحمة اراد أن ينتزع آهات وأنين أهليهم  ليكونوا شوكة فى ظهر الجيش ويخف من وطأته على المواقع التى يحتلها تحت ضغط الشعب ... لكن العدو فوجىء بالصمود وأضاف لقائمة الشهداء الأطفال .. إلى جانب مئات العمال والفلاحين الذين خاطبتهم الشهادة أثناء أداء عملهم فى حائط الصواريخ ..

ظن العدو أنه يلقن الشعب درساً بوحشيته وقتله المدنيين لكنه فى الحقيقة أهداهم الشهادة وتسبب فى أن تدون كل فئة فى المجتمع اسمها فى لوحة شرف الشهداء .. فقط هو يحرص على حياته الشخصية  لكنهم فى المقابل حرصوا على حياة مصر حتى وإن كانت أرواحهم الثمن .. وبالمثل أضاف لنفسه فى سجل جرائمه القذره جريمة جديدة أو ليست بجديدة لطالما قامت أركان دولته على دماء الأبرياء  ..

 

تمنت لو تمكن الكثيرين من الأطفال من زيارة هذا العالم الجميل بيد أنها تعرف العراقيل والتصورات الخاطئة وتذكرت يوم أن اقترحت إحدى  صديقاتها التوجه برحلة مدرسية إلى المتحف الحربى قال لها المختص أن الطفل بحاجة إلى رحلة ترفيهية  فى حديقة يرى أزهارها أو ارجوحة يتمتع بركوبها أما المتاحف وخلافه فهى  لا تسعده إطلاقاً ، وقتها قررت أن تلتزم الصمت  أرجوحة وحديقة تقارن بالتاريخ والهوية بأى معايير يحكمون على الأمور! ؟ .

وبينما هى تفكر فى الواجب والواقع وشتان بينهما وقع على أذنها صوت يحدثها . قائلا : إذا سمحت نبحث عن شهيد ثالث هلا بحثتى معنا ؟؟ من أنت ؟ وعمن تبحث ؟؟

ابحث عن شهيد ثالث أكرر أيمكنك المساعدة ؟

حسنا ً ، وجابت فى الحجرات الملحقة بالردهة .. لا أحد هنا ولا هنا .. ولكن  فى الحجرة الثالثة تراءى أمامها مكتب يجلس حوله الشهيدين حيدر ومحمد  ومجموعتهم كما هم فى صورتهم  .. ترى أثمة شهيد ثالث بينهم ؟؟ ربما  .. لا .. لا تعرف ، وما هى إلا لحظات وكانت الغرفة خالية .. ولم تجد من سألها المساعدة .

ألتقت صديقتها التى لم تعد تفارقها حتى أنها تشعر كثيراً بالحيرة فى هذا العالم دون مساعدتها ، سألتها أين كانت .. وكان الرد : كنت ابحث عن شهيد ثالث  ،واستمرت فى سرد ما حدث .

أطبق القلق والحيرة علي تفكيرها  .. كان التفكير فى العودة إلى صاحب الصورة وسؤاله ثانية هو ما جال بخاطرها ، لكن أثناها عن ذلك أن تثير احزان أسر الشهداء ..

وبجوار صور الشهداء لفت أنتباهها بطل ٌ مسن يقوم بالصاق صور جديدة لرفاقه الشهداء .. مدوناً عليها الاسم وتاريخ الاستشهاد .. انتظرت حتى تمام مهمته وتوجهت تتفحص صورهم ، تردد أمام عينيها اسم " الشهيد عبد المنعم النحراوى "  .. لقد قرأت اسمه مدوناً فى صورة الشهيد حيدر ، نعم الملامح متشابهة إلى حد كبير  . وهنا كان أمر لا مفر منه العودة إلى صاحب الصورة .. والسؤال عن الشهيد عبد المنعم النحراوى ، كانت إجابته أنه فعلاً ضمن ابطال الصورة وأنه استشهد باليمن بعد نكسة 67 بأيام أثناء الإقلاع ...

تذكرت حينما سألته إذا كان بالصورة شهداء آخرين بخلاف الشهيد حيدر وكانت إجابته .. والدى .. أيعقل أن يكون الشهيد عبد المنعم يذكرنا بوجوده فى صحبة رفاقه .. ولم لا وقد قال الله جل وعلا " بل أحياءٌ ولكن لا تشعرون " ..

 توجهت إلى ركن الكتاب ، حيث تسطر الكتب والقصص عن بطولاتهم  ، أصبحت ترى بطولاتهم فى قراءتها كزهور يانعة بيد ان لكل زهرة رحيقها المتميز عما سواها .. تطرق عقلها إلى تاريخ الأستشهاد 18 أكتوبر 1973 ، 19 أكتوبر 1973 ، 24 أكتوبر 1973 ،.. وفجأة دوى فى أذنها عبارة مسئول الإدارة  وهو يتحدث بكل تعجب ودهشة قائلا ً : ندوة عن حرب أكتوبر يوم 15 أكتوبر !!!!  ..

وبينما هى مستغرقة فى قراءتها وتفكيرها فى الواقع المرير الذى طغت فيه الماديات على المعنويات وصار لقب بطل يناله من لا يستحق ودون عناء . فى حين توارى أهل البطولات معتبرين أنهم أدوا واجبهم فحسب !  فى تلك الأثناء سمعت صوت حركة فى الردهة وهمهمة غير مفهومة .اتجهت إلى حيث مصدر الصوت .. الشهيد محمد كريدى جالساً على مقعد من حوله أشخاص يتحركون تسمع كلمات طيار .. ملاح .. مدفعجى  ولكنها لا تفهم ما يدور هو يجلس والكل يتحرك من حوله .. كان راضياً بموقعه مطمئناً فيه حسبما تراه ..  فكرت ان تقترب ، لكن هل أخذت الإذن .. فى تلك اللحظات التى فكرت فيها فى الأقتراب لم تعد تراهم .. ترى أين ذهبوا وأين كانوا ؟ لا تعرف لكنها أيقنت أنه شهيد أختار الشهادة فى حين كانت الشهادة تختارهم كما قال رفيق دربه .لقد نال الحسنيين معا حارب وانتصر واستشهد فى معركته من أجل غنقاذ أرواح الأبرياء ، مصداقاً لقوله تعالى " مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا " .. صدق الله العظيم

عادت إلى ألبوم صوره تشاهد ما بقى من ذكراهم .. يا الله وكأنها تقرأ التاريخ وتراه معاً ، من اليمن إلى أكتوبر ومابعدها ، أكل هذه الرفقة من الشهداء بصحبته ..صحبهم هو أم أختاروا هم صحبته . !

توجهت إلى ركن القراء حيث لاقت صديقتها والتى أهدتها رواية قالت لها انها زاخرة بالشهداء والبطولات .. وما أن انفردت بالهدية حتى وجدت نفسها تلتقى جميع المشاعر والآلام فى وقت واحد وتتنقل من حالة إلى أخرى ، تشعر بالدوار من جراء ما تقرأه ، تغمض عيناً وتصر أن تقرأ بالأخرى ، لا تريد أن تبرحه .. ح الضابط أول ما توصل مصر بالسلامة اقرأ لى الفاتحة عند أم هاشم .. لا يكد هذا الشهيد تغادر صورته مخيلتها ترى ما اسمه ؟ أيعقل أنه فى وقت يسعى الجميع للأنسحاب ليعدوا للمواجهة التالية أن يرفض فرصة النجاة ، لم يفكر فى شبابه ومحبوبته التى تنتظره أو والدته .. ربما لو فكر قليلاً لما قرر أن يبقى فى موقعه حتى آخر رمق  ..

سيطرت الصحراء ومعاناة أبطالها وما حظيت به من جثامين شهداء على تفكيرها .. وشعرت بحنين عينيها إليها ففى تلك الصحراء الآم والأحزان والأفراح الممزوجة ايضاً بالأحزان ! توجهت إلى نهاية الردهة ودلفت عبر الباب المؤدى إلى الصحراء .. لكن شخصاً ما كان بانتظارها هناك ، سيدة ترتدى زى اسود غالبا كما يرتدى فى الصعيد  تسير فيها ، وشخص آخر .. شاب وسيم يبدو فى مقتبل عمره اضطجع على هذه الرمال الحارقة  ، كان ينزف الدماء وهى تنظر إليه لا تدرى كيف تساعده أو بم تساعده؟ ومن هو ؟كيف لا تبعد ناظريها وهى التى تتألم من منظر الدماء ؟ من أين أتت بالقوة التى تدفعها للنظر إليه دون أن تنبس ببنت شفة وكأنها بكماء .. لا تعرف ما تقول ولا كيف ستقول ،، لكنه رغم وضعه ونزيفه كانت له من القوة أن يقول " اسمى الشهيد ناجى رفعت " ... ناجى رفعت ! وسرعان ما وجدت نفسها وحيدة فى المكان .. كيف  ؟ لقد رأته منذ لحظات وردد عليها اسمه  !..

عادت إلى الردهة وهى تتساءل تراه هو الجندى مريد السيدة زينب أم هو شخص آخر ؟ ولم عليها ان تفترض بوجود شهيد بهذا الاسم  أو ليس من الممكن أن يكون خيال .. أو سراب ، عادت وهى بحال غير الذى خرجت إلى الصحراء فيه .. تتوجه إلى ركن اسر الشهداء باحثة عن صديقتها عسى أن تقدم لها المساعدة ، تتوجه صديقتها إلى مؤلف الرواية وبطلها سائلة إياه إنعاش ذاكرته باسم البطل الذى رفض الأنسحاب .. لكن كلتيهما تبحثان عن اسم بعد قرابة 45 عاماً صادفه مرة واحدة وسط اهوال لا تنسى فكان الوصول إليه ضرباً من الخيال . لكن كلتيهما لم تقطعا الأمل وطرحتا السؤال على كل من يقابلهما من أبطال .. أخيراً أجاب الأسطورة بمعرفته به اذ كان يسبق بدفعة واحدة أثناء الدراسة .. دفعة واحدة إذن هو دفعة المقاتل المؤرخ . مر من الوقت ما يكفى لتنسف قرارها فبعد محاولات يائسة لمعرفة المزيد اضطرت للتوجه إليه .. لتلقى الترحيب باستفسارها وكيف أن الشهيد كان من الشخصيات العظيمة الفاضلة  .

لم تتوقف دموعها حينما عثرت على صورته فى صورة أشبه ببلاط الشهداء ، لكنه بلاط شهداء مصريين ، وكان عينها أصابها الزيغ فلا تصدق أنه بوسامته نفسه الشهيد الذى ردد اسمه على مسامعها " اسمى الشهيد ناجى رفعت " هدأت صديقتها من روعها وقالت لها ، هو شهيد عند الله كفى بذلك مكانة . لاداعى للبكاء انظرى للشمس وأرسلى ابتسامتك للشهيد ناجى ..

وتوجها سوياً إلى حجرة اللقاءات ،، ترددت كلمات المتحدث فى اذنها يقول " الشهيد عبد المنعم رياض .. رمز البطولة ،خصصت الدولة يوم 9 مارس يوم للشهيد احتفاء بذكراه ،، لم يترك خلفه أسرة لأنه لم يتزوج ابداً ،،  لم يتزوج إلا القضية المصرية  " .. وهنا شهقت وهى توجه حديث هامس إلى صديقتها .. عبد المنعم رياض لم يتزوج .. لم يترك زوجة ولا ابناء !! هزت صديقتها رأسها مبدية التصديق على ما تردد ،، وسرعان ما بدأت عقلها ينشغل بما سمعته  .. ترى كيف كانوا يفكرون ، ايعقل فى سن استشهاده وهو أعلى رتبة عسكرية استشهدت فى جيشنا  أن يكون غادر الدنيا اعزب !! 50 عاماً لم يفكر فى نفسه أو حظه من الدنيا ، كانت مصر شغله الشاغل .. من أين جاءوا ؟؟ وكيف عاشوا ؟؟وكيف كانت أهدافهم بهذا السمو الذى بات عملة نادرة فى وقتنا هذا .

 

 انتهى اللقاء  ومن ثم  توجهت إلى الحديقة  ولكنها سرعان ما غيرت مسارها  عادت إلى الردهة وحركتها الدائمة  .. المؤرخين يسطرون حكايات الأبطال ويوثقونها ، اسر الشهداء  لا يبرحون المكان ، الأبطال يعقدون اللقاءات  لتذكير المحبين برفاقهم  وبطولاتهم حتى لا تدخل فى طى النسيان  بعد أن بدأت تخرج للتو  من طى الكتمان  ،، كانت الردهة  تزخر بالحركة من كل اتجاه  وفى كل اتجاه  ..  وصلت إلى نهايتها فى اتجاهها إلى حيث مقابرهم - مقابر الشهداء -  حيث مثواهم الأخير أو الأفتراضى  ، كانت تنظر إلى الأرض والسماء نظرة تختلف تماماً عن نظرتها قبل الدخول إلى هذا العالم فلم تعد الأرض هى الأرض ولا السماء هى نفسها السماء شعرت بشموخ وقوة وصلابة تسرى فيهما  .. وجهت بصرها صوب السماء ..هنا خاض النسور الذهبية معاركهم ، تردد فى اذنها صدى أصواتهم المتداخلة وهم  يقولون  : الأشتباك الجوى يا قاتل يا قاتل   ، ..  سيناء علشان ترجع لازم ناس تموت   ، أعاهدك بأن نكون من المنتصرين ..، . دور الطيارة بسرعة  ، .. قبل ما تضرب الطيارة اللى أمامك بص وراك   ،  .. أنا هضرب بجسم طيارتى هوك يهودى ، أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله   ، قل لى الحقيقة الطيارة موتت حد  ..  ،  أنتم رفعتم رأسى ورأس مصر يا أبطال .. ،  يا أخوانا انا مصرى مصرى  .. ،،    الله أكبر وتحيا مصر .. ،   الصواريخ وقعت فى حجر الرجل .. ،  أنا ساستشهد وأنت هتعيش الرسول عليه الصلاة والسلام جاءنى وقال لى موعدك الليلة معى فى الجنة  ..  ،  هانى   مش مفقود هانى استشهد يا أفندم   .. ،   أنت مكانى يا محمد وتخصم تمن الموتور اللى اتحرق على  الواد السواق   ..  ،  أنا اللى هاطلع يعنى أنا   ... ودينى ما أنا سايبه  ..  ، هتسيب القبانى وهمام لوحدهم ؟؟ أرجع ساعدهم  ،   الحرب أصدق مدرسة لتعليم الحرب  .. ومحافظاً على سلاحى لا اتركه قط حتى أذوق الموت .. والله على ما أقول شهيد   ...

خفضت بصرها إلى الأرض وكأنها تنطق بكلمات أبطالها  :  لا أحنى رأسى فوق أرضى   ،   اضرب يا عويس ..اضرب يا وحش   ،السلاح بالرجال وليس الرجال بالسلاح  ،..  مفيش حد من ولاد ... دول يرمى رصاصة ويريحنا .. اتق الله يجعل لك مخرجاً يا محمد   ،  ..واحنا هنستنى لما أنت تكبر  ده لو اسرائيل فضلت على كده سنتين أكرم لنا ندفن نفسنا أحياء  .. ، اضرب يا عبد العال .. اضرب يا بيومى   ،  أنا جندى المشاة سيد المعارك وكل المعارك   ،  هى جت لحد هنا وطلبت  ،  عرفت معنى أنك متردش على لمدة ساعة   ،   يا نعيش سوا يا نموت سوا   .. كفنونى بعلم مصر   ،  اللهم ارزقنى الشهادة .. مستعجل على إيه يا فتحى    ،  ح الضابط لما توصل مصر بالسلامة اقرأ لى الفاتحة عند أم هاشم   ،  أنت كده بتحط لحم أمام حديد يا فؤاد ..  ،   قل لى يا أفندم .. احنا بنصلى وهم لا ..احنا بنقرأ القرآن وهم لا .. احنا بنصوم وهم لا   ..يعنى احنا مؤمنين وهم كفرة ليه ربنا مخليهم يضربونا كده .. عايز تعرف ليه يا أفندى علشان هم بيشوفوا شغلهم كويس وسيادتك قاعد تعيط  ...  ،   البقاء لله يا ابنى قائدك استشهد  ،،  اهنئك أنت وقعت طيارة اسرائيلى وأنقذت طيار مصرى  ،   أنا إن عشت لست أعدم قوتاً وإذا مت لست أعدم قبراً ،،   وما رميت اذ رميت ولكن الله رمى   ... ومحافظاً على سلاحى لا اتركه قط حتى أذوق الموت .. والله على ما أقول شهيد   ...

وتعالت اصوات ذويهم مختلطة  بدموعهم : بقى كده يا محمد تبقى عارف ان حيدر نقل مقاتلات ومتقولش ،، محدش كان يتزعل عليه بالشكل ده زى بابا  ،  أرجع يا احمد سيعيش من بعدك الخونة واللصوص وعديمى الأخلاق  ..مصر كلها تحتاج إليك  أرجع   ،  انا مسمعتش صوت محمد من اكتر من عشر أيام، اكيد جرى له حاجة.. ،   بكرى اخويا انا حاسة أن سليمان استشهد .. مع السلامة يا أحمد داعية لك فى كل سجود يا ابنى  ...

 

 

 مضت إليها  فى خطى بطيئة  ولسان حالها يقول :  عذراً شهيدى أن تأخرت عليك  ،، عذراً شهيدى فقد تشوهت معانى البطولة واختزلت فى صد ضربة جزاء  وأصبح هدفاً يحيى النفوس الموات ! ،عذراً شهيدى تغيرت المعايير وطغت الماديات وتناسى الملايين تضحياتكم على امتداد السنوات أو بالأصح لم يجدوا من يذكرهم ، عذراً شهيدى اعتقد الكثيرين أن الشهادة تكون فى ميدان القتال وحسب وتناسوا أن الشهيد من يذود عن أرضه أو أهله أو ماله أو دمه .. عذراً شهيدى اعتقد البعض أن تخليد ذكراكم فى ميدان أو شارع يسمى باسمكم دون حتى إضافة كلمة الشهيد ، أو فى مدرسة تحمل اسمكم ويتخرج تلاميذها دون أن يعرفوا ببطولتكم أو ما صنعتموه من أجل وطننا  ، فلا اغلب المارة عرفوكم ولا التلاميذ اقتدوا بكم .. عذراً شهيدى افتقدنا البصيرة والرؤية بأن غرس الأنتماء إلى مصرنا يبدأ بكم ومنكم ..

عذراً شهيدى وقفنا نشاهد وحسب كل من حاول أن يذكر بكم وبتضحياتكم وقفنا نشاهده يجابه وحده أو وحدهم ونحن لا نملك إلا الدعاء ، عذراً شهيدى فقد أصبح قدوة الفتيان شخصيات لم تكد أو تتعب إلا لنفسها وحسب فى حين أنكم لاقيتم العناء فى شتى صوره من أجل الأجيال القادمة وحتى لا ترث هزيمة أو عبئاً ،فقط كان تفكيركم أن تنتصروا لهم وللوطن ، عذراً شهيدى قدمتم الكثير ولم نقدم لكم شىء ، عذراً شهيدى  اعتقد البعض أن معركتكم كانت ليوم واحد متناسياً أنها المعارك مستمرة لا تنقطع  وأن العدو يرتدى ألف ثوب ويأتى أيضاً من شتى الطرق  .

عذراً .. عذراً .. عذراً  .... شهيدى

قد تخلو القبور من أجسادهم .. ولكنها حتماً تحتضنها الأرض أو البحار  ،قد تخلو المناهج من اسمائهم .. ولكن التاريخ حتماً لا ينسى من صنعه  ، قد تخلو الميادين من صورهم .. لكنهم يعيشون فى قلب الوطن ..

 

وصلت إلى مقابر  الشهداء وهى تتلو بصوت خافت  آيات الله تعالى " ولا تقولوا لمن يقتل فى سبيل الله أموات بل أحياء ولكن لا تشعرون  "  ولا تحسبن الذين قتلوا فى سبيل الله أمواتاً بل أحياء عندر بهم يرزقون فرحين بما آتهم  الله من فضله ويستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم ألا خوف عليهم ولا هم يحزنون ، يستبشرون بنعمة من الله وفضل وأن الله لا يضيع أجر المؤمنين " ...

" وأشرقت الأرض بنور ربها ووضع الكتاب وجيء بالنبيين والشهداء وقضي بينهم بالحق وهم لا يظلمون "

صدق الله العظيم

 

 

تمت بحمد الله

15 مارس 2014

اسماء محمود كاشف

 

 

 

 

 

 

Share
Click to listen highlighted text! Powered By GSpeech