Click to listen highlighted text! Powered By GSpeech
Get Adobe Flash player
مستمرين معاكم بإذن الله 2008-2024 **** #لان_لجيشنا_تاريخ_يستحق_أن_يروي **** ***** إنشروا تاريخنا وشاركونا في معركة الوعي **** تابعونا علي قناة اليوتيوب 1100+ فيديو حتي الان **** تابعونا علي صفحات التواصل الاجتماعي** أشتركوا معنا في رحلاتنا لمناطق حرب أكتوبر **** يرجي استخدام خانة البحث **** *** تابعونا علي تليجرام - انستجرام - تويتر

يوميات 200 يوم خلف خطوط العدو - الجزء الرابع والاخير

 

اليوم الثامن للتحرك في طريق العودة:

وفي صباح هذا اليوم وجدنا البدو يأتون لنا مهرولين ويستعجلوننا للتحرك لحلول الوقت المناسب الذي يجب عبور وادي سدر فيه حتى لا تكشفنا الدوريات الخاصة بالعدو وأعددنا أنفسنا للتحرك وسألناهم عن المياه أثناء الطريق فأجابوا بأن كل شيء متوفر في الطريق ولا خوف من ذلك وكانوا يحملون جربنديات وقالوا أن بها طعامهم والمياه وجهاز إشارة عاطل وقد تسلموه من عناصر استطلاع قواتنا لتوصيله غرب القناة للإصلاح أو استبداله بآخر صالح، وتحركنا مسرعين معهم نلاحقهم وكانوا ثلاثة شبان (راشد عبيد الله – عواد أبوفريج – سلمي سليم) وكان أكثرهم عقلاً وأكبرهم سنًا أشيب الشعر قليلاً ويتميز بالهدوء والرصانة ولكن يبدوا أنه أقلهم حسبًا ونسبًا وتحرك الجميع وكان هو في المقدمة وخطواته سريعة وكنت أتابع من أين سيبدأ اختراق هذه الجبال لأن ذلك هام جدًا حتى لو تركونا بعد ذلك فيمكن أن نأخذ شوطًا طويلاً متتبعين هذا الطريق (مدق أقدام صغير جدًا) وبدأ اختراق الجبال وأخذنا نعبر أجناب الجبال بعيدًا عن القمم وكان طريقًا صعبًا جدًا ولكنه أسهل بكثير من التحرك دون خبرة ومعرفة طرق هذه المنطقة وكنا نتجه شرقًا وغربًا وشمالاً متتبعين الطريق الذي كان يختفي أحيانًا ويظهر أحيانًا متحركين في جدية ونشاط وكنا أثناء التحرك مستعدين لأي اشتباك وخاصة في بداية التحرك ولكن سرعان ما اطمأننا للطريق وأخذنا نحاول مجاراة هؤلاء البدو بأحمالنا الثقيلة وكيف يتحرك هؤلاء بهذه السرعة رغم أن أحدهم مصاب بشلل أطفال قديم، وأخذت الجبال تتغير في ألوانها وأشكالها وارتفاعاتها وتحركنا طوال النهار وفي آخر راحة قبل أن نصل إلى وادي سدر صارحونا بأنهم كانوا يخشون ألا نستطيع السير معهم ومجاراتهم في التحرك مما قد يسبب تأخرنا في عبور الوادي في الوقت المناسب بعد آخر ضوء وبعد أن يطمئنوا من أن الوادي خاليًا في هذه المنطقة ويكون ذلك قبل آخر ضوء ليتمكنوا من معرفة وجود كمائن للعدو أم لا؟ ومكثنا في هذه المنطقة حتى الغروب، وتحرك أحدهم وذهب في اتجاه الوادي وعاد بعد فترة من الزمن وتحدث معنا ومع زملاءه للمشاورة بعض الوقت حتى حل الظلام.

وتحركنا إلى اتجاه الوادي ووجدنا الوادي أسفل الجبل واضحًا ولا يوجد به أي آثار حتى يستطيع العدو اكتشاف المتسللين وأوضح لنا البدو بضرورة التحرك خلفهم تمامًا مع عدم ترك أي آثار حيث سيطاردنا العدو بالطائرات الهليكوبتر عند اكتشافه للآثار نهارًا ووصفوا لنا كيفية التحرك عبرنا الوادي بهدوء تام وكان البدو ملتزمين تمامًا في هذه المنطقة الخطرة الحساسة بصورة جادة جدًا وكنا بالتالي أكثر التزامًا وتحركوا فوق الصخور عابرين الوادي وكنا خلفهم قدم محل قدم حتى وصلنا إلى الجانب الآخر من الوادي وكنا مستعدين تمامًا للاشتباك وكل منا يأخذ اتجاهًا للرمي في حالة حدوث أي كمين ضدنا، وبعد عبورنا الوادي الخطير وصلنا إلى مكان يشبه الفتحة بالجبل وتحركنا داخله صاعدين هذا الجانب خلف البدو وبعد قليل من الزمن عاد البدو لصخبهم وضحكهم وكأنهم انتهوا من اختبار بغيض، وكلما تحركنا داخل الجبال وعلى قممها كلما أحسسنا بالأمان أكثر وكلما تحركنا ساعة أحسسنا بأننا قربنا أكثر من أهلنا ويشجع بعضنا بعضًا وخاصة عبد الرؤوف الذي كان رجلاً حقيقيًا والذي كان يطمئننا دائمًا على نفسه وأنه دائمًا بخير وكانت السعادة بادية عليه حيث سيصل إلى زوجته التي تركها حاملاً ولا يعلم شيئًا عنها وكنا نقول له إذا كانت بنتًا فسمها فاطمة وإذا كان ولدًا فسمه علي فكان يضحك ضحكته التي كان يشوبها الخجل والتي تعودنا عليها ويقول إن شاء الله، وأمضينا بقية الليل في التحرك العنيف الذي شغلنا عما حولنا من أشكال ومناظر وأرض تختلف في الارتفاع والانخفاض وكانت المياه تنقص مع تحركنا ولكننا كنا مطمئنين لوجود البدو معنا ومعرفتهم الجيدة بالأرض والآبار في المنطقة ولم يحدث شيئًا خلال التحرك ليلاً غير مرور طائرة علينا مرتين أو ثلاث مرات وكنا نعتقد أنها في دورية روتينية، وأثناء التحرك بحث أحد البدو عن شيء حتى وجده وكان جركن مياه يخبئونه في مكان خفي وكان قد مُلئ من هذا المكان أثناء وجود مياه الأمطار ثم تُرك للاستخدام في مثل هذا الوقت وقد كان في وقته لنفاذ كمية المياه معنا تقريبًا، وواصلنا المسير وفجأة وجدت نفسي أصطدم بشيء حاد يصيبني في أنفي وأنزف دمًا واكتشفت أنه سلك شائك لأحد المزارع البدوية (والتي قام العدو بإخلاء البدو منها) وتوخينا الحذر بعد ذلك الحادث العارض ثم عاودنا السير طول الليل دون اكتراث.

اليوم التاسع للتحرك في طريق العودة:

وفي صباح اليوم التاسع كان التعب قد حل بنا فاسترحنا في أحد الأماكن وتناولنا إفطارنا ووجدنا البدو أكثر منا تعبًا بل أنهم اعترفوا لنا بأنهم لم يروا مثلنا جلدًا وقوة وأنهم اعتقدوا أننا لن نستطيع مواصلة السير معهم ولكن هم الذين تعبوا ووجدونا دائمًا نحثهم على المشي ومواصلة السير وضحكنا معهم وقلنا لهم إننا أصبحنا بدوًا، وبدأ راشد يشكو من آلام في قدمه ولكننا شجعناه على مواصلة المسير وطمأننا على نفسه وبعد الراحة تحركنا وكان النهار واضحًا وأثناء تحركنا ظهرت الطائرات الاستكشافية مرتين أيضًا وكنا نختفي عند سماع صوت الطائرة ونتحرك بعد مرورها وكنا نشك أحيانًا بأن العدو قد اكتشف آثارنا بالوادي ولم يكن هناك وقت للتفكير في مثل هذه الشكوك حيث أننا متحركين في وجهتنا ولن نتراجع عن ذلك مهما كانت الأسباب وتحركنا في جميع أنواع الأراضي وكانت هناك أشياء جميلة أثناء التحرك ورأينا آثار المزارع القديمة التي يحيطها أصحابها بالأسلاك وكذلك مخازن المياه المحفورة تحت الأرض والمغطاة بغطاء للاحتفاظ بالمياه لفترة طويلة وشربنا منها وتحركنا صاعدين هابطين ولكننا كنا نتحرك فوق سلسلة جبلية عالية.

وعند الظهيرة وصلنا إلى منطقة منخفضة نسبيًا ووجدنا مخزن مياه كبير جدًا وتعجبنا لوجود المياه به بهذه الكمية وحتى هذا الوقت من السنة لأن معظم هذه الأماكن قد جفت تقريبًا ولكننا وجدناه مليئًا بالمياه وكان منظره جميلاً وشعرنا بالرغبة في الاستحمام به كالعادة ولكنها كانت مجرد رغبة حيث نعلم أن هناك من الكائنات الحية التي تعتمد على مثل هذه التجمعات الناتجة عن المطر وشربنا وأكلنا ثم تحركنا مرة أخرى لعدة ساعات واختلفوا على الطريق ثم اتفقوا مرة ثانية وتحركنا ثم أبلغونا أننا بصدد النزول إلى السهل الساحلي في اتجاه عيون موسى وأحسسنا بشعورهم بالرهبة وأنهم بدأوا في الحذر مرة أخرى ولكننا لم نر شيئًا مريبًا وتحركنا معهم حتى وجدنا أنفسنا فجأة على حافة الجبل وأسفل الجبل رأينا معدات الحفر ورصف الطرق باللون الأصفر الذي يخص شركة عثمان أحمد عثمان (والتي استولى العدو على هذه المعدات بعد حرب 1967) وكان حجمها صغيرًا وظهرت وهي تمهد لرصف طريق أسفل الجبل مباشرة  وقال البدو إن ذلك الطريق يعد خصيصًا لمنع التسرب من هذا المكان وشعرت بحزنهم لذلك ورأينا خليج السويس على مسافة بعيدة جدًا وأشار البدو إلى الطريق الذي سنسلكه تقريبًا ولكنهم فقدوا الطريق الذي يؤدي إلى أسفل الجبل والذي يصعب جدًا النزول إلى السهل الساحلي دون سلوكه حيث أن هناك أماكن لا يمكن استعمالها لانحدارها الشديد وكنا جميعًا منبطحين ونحن نراقب أسفل الجبل وحاولنا أن نجد مكانًا آخر نختبئ فيه لأننا معرضون لاكتشاف أمرنا في حالة مرور أي طائرة للعدو ووجدنا أحد الخيران ونزلنا بها.

وقبل آخر ضوء اكتشف البدو مسرب (منزل حاد النزول) إلى أسفل السهل الساحلي بعد عدة محاولات وبدأنا في التحرك هابطين الجبل في حذر تام ونزلنا حتى وصلنا إلى نهاية الجبل وعبرنا المدق الجديد الذي كان يمهد استعدادًا لرصفه بالأسفلت وتحركنا في اتجاه المعدات التي لم يكن أحدًا بجوارها حيث كان الوقت بعد الغروب مباشرة وكانت الرؤية بدأت في الضعف، وبعد تحرك لمسافة ساعتين وجدنا أنفسنا نسير في مجرى سيل كبير أشبه بشارع منخفض بين كتفين عاليين مليء بأحجار كبيرة متفرقة وأشار البعض بالراحة في أحد الأماكن بالوادي وتحدثنا وعلا صوت البدو وضحكاتهم، وتحرك أكبرهم وقال سأقوم باستطلاع الطريق، لأن هذا الوادي يخترق طريق أسفلتي رئيسي، وعاود الجميع الحديث والضحك وبعد برهة من الزمن عاد الرجل مسرعًا مضطربًا وطلب من زملائه السكون وفزعنا جميعًا وأشار إلينا بالرجوع للخلف من حيث أتينا واستعددنا للقتال ولم نجد البدو بجوارنا وأخذنا نبحث عنهم حتى وجدناهم ولما سألناهم عن سبب انزعاجهم أبلغنا الرجل الأشيب بوجود عربتين مدرعتين للعدو تنصب كمينًا في تقاطع الوادي مع الطريق وكانت مخفاة في كتف الوادي ولا تظهر وعندما صعد على أحد أكتاف الوادي وجدها منتظرة لأي متسلل يعبر الطريق ويبدوا أنهم يعرفون هذا الطريق بأنه الطريق الذي يسلكه المتسللون ولذلك قام العدو بنصب عدة كمائن بمناطق مختلفة في هذا الاتجاه وأبلغناهم هل هناك طريق آخر يمكن أن نسلكه، فقالوا أن المسارب كثيرة ولكنها مفتوحة ولكن هناك مناطق يتحركون في اتجاهها يأملون أن تكون بعيدة عن كمائن العدو.

وقررنا التحرك في اتجاه الشمال الغربي حتى نتجنب هذه العربات وفعلاً وصلنا إلى مكان يصلح لعبور الطريق وبعد استطلاع الطريق قمنا بالعبور بحذر وهدوء وبعد عبورنا الطريق انطلقنا عدوًا في اتجاه تحركنا وكنا متعجلين الوصول وسألناهم عما بقي من التحرك بعد هذا التحرك الشاق الطويل فأجابوا أننا قربنا من خط حدود البوليس الدولي وكان ذلك قبل منتصف الليل وتحركنا حتى سمعنا صوت ينبعث من أحد الراديوهات داخل عربة مدرعة للعدو تحتل كمين في هذه المنطقة ولم نتكلم معًا وإنما انحرفنا جميعًا دون أي إشارة في اتجاه بعيد متلافيين مكان الصوت الذي كان يصدر من أحد الكمائن للعدو بهدوء وصمت وكأن شيئًا لم يحدث ودون أي تعليق وتابعنا السير بقوة لساعات أخرى حتى شممنا رائحة سولار عربات والتي تحتل أيضًا كمائن عشوائية على المناطق الفاصلة القريبة من قواتنا وأخذنا نبحث حولنا عن مكان هذه العربات وبعد فترة وجيزة سمعنا صوت محرك سيارة يدور وحددنا المكان وواصلنا سيرنا دون تعليق وكنا لا نشعر بأوزاننا وكانت خطواتنا سريعة متلاحقة وكنا نسرع بالرغم من شعورنا بالتعب الشديد وظهر في الأفق أنوارًا قويةً جدًا وسألنا البدو عن هذه الكشافات فأجابوا بأنها خاصة بالبوليس الدولي وهي منطقة محرمة على القوات المصرية والعدو في نفس الوقت وسألناهم وماذا لو اصطدمنا بهم قالوا سوف يعيدوننا إلى العدو مرة أخرى فضحكنا لأنه من المستحيل أن نعود للعدو مرة أخرى بعد كل ما حدث.

وأسرعنا حتى نعبر هذه الأضواء القوية وكانت بعيدة وأخذنا نجري بكل قوانا وكنا لا نحس بالتعب مع المجهود الكبير الذي بذلناه طوال الطريق إلا أننا كنا فقدنا الشعور بالتعب ورجانا البدو أن نبطئ الخطى ولكننا كنا نشجعهم على الانتهاء من هذه المسافة بأسرع ما يكون فيتخلفون ونحن نساعدهم وتحمسوا لحماسنا وشعروا بمشاعرنا وكانت علاقتنا بعد هذه الأيام القليلة أصبحت قوية واستجابوا لنا وتحركوا بكل ما يملكون من قوة وشعرنا بأننا نطير فوق الأرض جريًا وكان لا يؤخرنا إلا إذا تأخر أحد منا تعبًا وإرهاقًا يشجع بعضنا بعضًا ولا ننظر إلا في اتجاه عبور الضوء الذي كان يقف بيننا وبين أهلنا على الجانب الآخر وبدأنا نفكر في الموت خطأً بنيران قواتنا، حيث كنا نتحرك من اتجاه الشرق للغرب وهو اتجاه العدو ولكن الأمل يتغلب على كل  مخاوفنا وشعورنا بالخطر يزداد مع كل خطوة من خطواتنا وكل أحاسيسنا مرهفة ومستعدين تمامًا لأي موقف، ورغم سرعتنا ولهفتنا إلا أننا كنا منتظمين ولا يصدر عنا أي أصوات، وكان كلامنا همسًا، وكان البدو غير راضين عن تحركنا عدوًا حيث أصابهم التعب ومع حماسنا كانوا يجرون أحيانًا ويتحركون أحيانًا وكنا نهدئ السير عندما نشعر بتخلف أي فرد ونعدو عندما نشعر بأننا نستطيع أن نجري وكان الوقت يمر طويلاً وقد تحركنا طوال الليل وابتعدنا عن الأنوار ولكنها ما زالت تكشف الطريق أمامنا حيث أصبحت الأرض منبسطة أمامنا وقلت الهيئات والصخور والأرض من وراء الأنوار وكأن لا نهاية لها وكانت فرحتنا كبيرة ببدء عبورنا الأضواء التي كانت تغطي مساحة حوالي 10 كم عرضي وهي الفاصل الأخير بيننا وبين قواتنا.

ولم نتمالك أنفسنا ونحن نعبر هذه الأضواء من التعبير عما يجيش بصدورنا وكأننا أزحنا حملاً ثقيلاً من على صدورنا وابتهجنا بأصوات عالية وتعاطف البدو معنا وكانوا فرحين لفرحتنا وازدادت خطواتنا سرعة وثباتًا وكنا نضحك لأي سبب، وكنا واضحين ويرى كل منا الآخر بسبب الأضواء ونشعر أننا في عالم آخر وليس به أي كائن بشري فالأرض منبسطة على امتداد النظر في جميع الاتجاهات وكان مصدر الأضواء بعيدًا جدًا ولكنه كان قويًا جدًا واستمر سيرنا داخل هذه الأضواء أكثر من ساعة،  وبدأنا نتحدث عما سنفعله إذا قوبلنا بنيران قواتنا على الجانب الآخر وبدأنا نبحث عن الشيلان البيضاء للبدو واستعدادًا لرفعها لقواتنا حتى يعرفوا هويتنا، وكان قلقنا من أن نموت برصاص قواتنا بعد كل تلك الأهوال التي رأيناها لمدة أكثر من مائتي يوم خلف الخطوط وسألنا البدو عن وجهتنا فقالوا أنهم سيذهبون إلى مزرعة تخصهم وتخص بعض أقاربهم وبالقرب من الكرنتينا القديمة وهي على حدود قواتنا
الحالية وننتظر حتى يظهر النهار ويتم مقابلة شيخهم الذي ينتظرهم ليبلغوه بالمعلومات وكان كل ذلك لا يهمنا الآن، المهم هو سرعة إبلاغ أهلنا بأننا ما زلنا أحياء.

وبعد اجتيازنا الأضواء التي ليس لها حدود معينة أحسسنا أننا بعدنا عن الأضواء وكان لابد من المشي الحذر خوفًا من الألغام المنتشرة في المنطقة كما أبلغنا البدو وبدأنا نصطدم بأسوار السلك الشائك لتلك الألغام وأحيانًا تلتف وتطول حتى كنا نخشى أن نصبح داخلها دون أن ندري والبدو يعرفون الطريق جيدًا ويتحركون بعد أن يتشاوروا وأصبح الخوف ليس من قواتنا فقط بل أصبح من الوقوع في الألغام أيضًا وكنا نتحدث بصوت عال ومرتفع حتى تسمعنا قواتنا فلا نقع في كمين مفاجئ ومضينا في السير حتى أشار البدو إلى مكان المزرعة وكان بها بعض أشجار النخيل الصغيرة وبعض الأشجار الأخرى وكان الوقت حوالي الساعة الثالثة أو الرابعة صباحًا، وتوقفنا في أحد الأماكن بالمزرعة ولم يكن بها أي مبنى ولو عشة صغيرة نحتمي بها من البرد الذي شعرنا به بعد توقفنا وكنا لا نشعر بالتعب رغم تحركنا المتواصل لإحساسنا أننا وصلنا لبر الأمان، وتعجبنا من عدم وجود أي قوات لنا تعترضنا أو توقفنا بالرغم من الضوضاء التي أحدثناها، وقمنا بإشعال نار لتجهيز الشاي والطعام والتدفئة حيث كان البرد شديدًا في هذا الوقت ومما زاد إحساسنا بالبرد الشديد بعد توقفنا العرق الغزير وملابسنا المبللة به كأنها مبللة بالمياه ولكن إحساسنا بالبرد الشديد لم يؤثر على معنوياتنا المترفعة وأصبح الكلام بصوت مرتفع والضحكات من القلب ويقبل بعضنا بعضًا وذكرنا فضل الله علينا، وشكرنا تعاون البدو معنا، وبعد هذا المجهود الشاق حل علينا التعب والإجهاد وشعرنا أننا في حاجة لقسط من الراحة وقررنا النوم حتى نستريح ونستعيد نشاطنا في اليوم التالي.

اليوم العاشر للتحرك في طريق العودة:

عند الفجر قررنا أن نقوم بضرب بعض الطلقات لجذب الانتباه إلينا حتى تعلم عناصر قواتنا بوجودنا فيتحركون لأخذنا وخاصة وأن الوقت أصبح فجرًا والنهار على وشك الظهور وقمنا بضرب بعض الطلقات ولكن دون أي استجابة أو أي رد فعل وضربنا بعض الطلقات الأخرى وأحدثنا جلبة وأصواتًا عالية ولكن دون جدوى أيضًا، فانتظرنا حتى ظهر الصباح وتحركنا في اتجاه الكرانتينة ولم نجد أي أحد يعترضنا وعبرنا طريق أسفلتي، وخلال تحركنا وجدت بعض تحركات قواتنا على الطريق وسعدنا برؤية قواتنا وبشكل ساذج وقفنا لنصافح من نقابله من جنود وضباط ولكنهم كانوا ينظرون لنا بتعجب من مظهرنا وطريقتنا الغريبة في المصافحة وبسعادتنا الغير مبررة لهم وكذا ملابسنا وكأننا من كوكب آخر، حيث كانوا لا يشعرون بإحساسنا بالطمأنينة والسلام النفسي الذي فقدناه مدة سبعة أشهر تقريبًا، وأذكر أحد هؤلاء الضباط وكان ملازم يدعى حسن عبد ربه أوقفته وهو متحركًا في سيارة لوري وقمت بمصافحته وتعجب في بادئ الأمر وسألني من أنت ومن أين أتيت فأبلغته بأني النقيب مجدي شحاتة من الصاعقة ووصلت اليوم بحمد الله من خلف الخطوط ففهم الموقف، وبعد حوالي 10 سنوات عمل تحت قيادتي بالصاعقة وذكَّرني وقال لي هل تذكر الملازم الذي صافحته يوم عودتك من جنوب سيناء هو أنا يافندم ويومها قررت الالتحاق بالصاعقة.

وحوالي الساعة التاسعة صباحًا دخلنا الكرانتينا وكان بانتظارنا الشيخ سليمان وهو شيخ بدوي يبدو أنه من الأغنياء من مظهر ملبسه ووجود عربة بيجو 404 معه كذلك يبدو أنه ذو شأن يدل عليه كلامه وشخصيته واستقبلنا أحسن استقبال وكان معه بدوي آخر ودخلنا المبنى القديم وقدم لنا صحنًا كبيرًا به فتة عيش بسكر فأكلنا بنهم وشربنا الشاي وتحدثنا قليلًا وسألناه عن وجهتنا بعد ذلك وقلنا له إننا نريد أن نذهب لبيوتنا فورًا ليطمئن علينا أهلنا فطمأننا بأن كل شيء سيكون على ما يرام وحمدًا لله على سلامتنا وأنه أصبح كل شيء نريده سيتحقق بإذن الله، وأبلغنا بأننا يلزم أن نمر على مكتب مخابرات السويس لكتابة تقرير عما حدث لنا فوافقنا على أن يكون ذلك سريعًا، وركبنا السيارة متجهين إلى السويس على الطريق الأسفلتي.

وبدأت الحركة تدب في المنطقة وواصلنا التحرك مع الحاج سليمان وأخذ يوضح لنا أثناء الطريق الأماكن التي احتلتها قواتنا وكيف دمرت مواقع المدفعية الحصينة بعيون موسى وكيف قاتلت قواتنا بشرف وبسالة، وتحدث بوطنية وفخر ونحن ننظر حولنا للدبابات وعربات ومجنزرات العدو المدمرة في كل مكان، ووصلنا إلى منطقة المعبر حيث عبرنا القناة إلى مدينة السويس حوالي الساعة الواحدة بعد الظهر وتحدث لنا كيف قاومت عناصر الصاعقة والمدنيين بمدينة السويس ضد العدو بروح وطنية عظيمة وتلاحم شعبي لم يستطع العدو اختراقه، وكان لذلك وقع جميل في نفوسنا وكنا فخورين بذلك وشاهدنا داخل مدينة السويس مدى التخريب والدمار الذي حل بالمدينة في كل مكان ما من منزل أو مبنى إلا وأصيب أو دمر بطلقات العدو.

وكانت الحركة داخل المدينة كبيرة بالنسبة لنا لأن ما رأيناه خلال المدة السابقة لم يتعد أفرادًا معدودة والآن نرى وجوهًا كثيرة وملابس مختلفة، ووصلنا أخيرًا إلى مكتب مخابرات السويس ودخلنا وصدمنا لأول وهلة من فتور وبرود المعاملة الغير متوقع، هكذا تصورنا ولكن في الحقيقة كانت المقابلة عادية لأننا كنا نتوقع أن نقابل بالأحضان والترحاب في كل مكان، فوجدناهم يعطوننا بعض الأوراق ويطلبون منا كتابة تقرير عما حدث لنا، وكتبنا التقرير سريعًا جدًا وموجزًا وطلبنا سرعة تحركنا إلى القاهرة حتى نرى أهلنا ونستريح من عناء التعب ونتناول ما نشتهيه من الطعام بعد ما لاقيناه من مشقة طوال الفترة السابقة.

وحوالي الساعة الثانية بعد الظهر تحركنا إلى القاهرة وفي الطريق أبلغنا الحاج سليمان بأننا ربما نقابل شخصيات هامة في القاهرة وعلينا أن نذكر ما يقوم به البدو لمعاونة قواتنا خلف الخطوط وقلنا له أننا عندما نقول ذلك فإننا نقول الحقيقة، وباقترابنا من مدينة القاهرة أبلغنا بأنه عنده أوامر بتوصيلنا إلى جهاز الخدمة الخاصة للمحافظة على مظهرنا حتى مقابلة المشير أحمد إسماعيل أولاً ولكن يجب أن نبقى بالخدمة الخاصة لمدة غير معلومة حتى يسمح وقت المشير بالمقابلة، فاعترضت على ذلك وأبلغته بأنني لن أذهب إلا إذا مررنا على منزلي حتى يطمئن أهلي علي أنني ما زلت حيًا وقال لي بأنه سيتم تبليغهم بعد توصيلي ولكني أصررت على ذهابي بنفسي إليهم حتى ولو لخمس دقائق فأكد ذلك عبد الحميد للرجل ولم يمانع الرجل مع إصراري على أن يقوم أهلي بتبليغ أهل الزملاء جميعًا بعد ذلك وبالفعل توجه إلى المنطقة التي أسكن بها، وقد كنا معروفين في المنطقة بحسن المعاملة والخلق وصداقاتنا محدودة وكان الجيران بصفة عامة طيبين ولنا معزة واحترام خاص عندهم.

وتوقفت العربة أمام المنزل وكانت الساعة تجاوزت الرابعة مساءً وأشار عبد الحميد علي بأن يقوم بتخفيف صدمة لقائي بأهلي فجأة فيسبقني ويبلغهم بأنه رآني منذ فترة قريبة وأنني بخير وما زلت حيًا وذلك حتى لا يسبب دخولي ولقائي فجأة أي صدمة لأمي وأبي وأهلي وخاصة بعد طول هذه المدة من الغياب، وكانت فكرة حسنة ومقبولة وخاصة أن عبد الحميد معروفًا لأهلي كزميل نفس الوحدة، وصعد عبد الحميد إلى منزلي ولم أستطع البقاء لانتظار النتائج وصعدت خلفه بوقت قصير.

وجدت عبد الحميد يحاول إبلاغ والدتي بأنني ما زلت حيًا ووجدت والدتي في شكل غريب علي فقد كبرت عشرات السنين منذ تركتها ووجدتها تبكي وهي تتحدث مع عبد الحميد، وعندما رأتني لم تستطع السيطرة على نفسها وسقطت على الأرض تبكي ممسكة برجلي وحضرت شقيقتي بعد أن سمعت الجلبة وانفجرت هي الأخرى في الصراخ والبكاء بصورة لم أتوقعها ووجدتها تتعلق برجلي الأخرى باكية غير مصدقين يتحسسون جسدي ولا ينطقون، وخشيت عليهم ووجدت نفسي أتحدث معهم لأثنيهم عما يفعلون ولكنهم ظلوا كذلك لا يتحركون، ونظرت حولي فوجدت نفسي محاصرًا من الناس الذين أعرفهم والذين لا أعرفهم رجال ونساء وأطفال لم ينتظروا أحدًا يأذن لهم بالدخول، وجاءوا ينظرون إلي ويتأكدون من شكلي ويصافحونني وحدث ذلك في دقائق معدودة، كيف علم هؤلاء الناس بحضوري بالرغم من محاولة إخفاء شكلي بلبس عمامة البدو، كيف علم هذا الحشد الكبير الذي ملأ منزلنا بصورة لم يسبق لها مثيل؟ لقد كان شعور الناس شعورًا دافقًا وكأنني ابن أو أخ لكل منهم، لقد كان المشاعر مختلفة ولم أدر ماذا أقول، وحاولت التكلم مع والدتي التي كانت تبحلق في معاتبة دون كلام وممسكة بي بقوة وحاولت شرح الموقف لها بأنني يجب علي مغادرة المنزل وسوف أعود لها مرة أخرى، ولم يكن ذلك أمرًا سهلاً، وكأني سأذهب ولن أعود مرة أخرى وحاول عبد الحميد والبعض التوضيح لها وكررت ذلك مرة بالشدة ومرة باللين، وتركتني أخيرًا بعد أن تأكدت بأني ابنها وأنها الحقيقة وليس حلمًا، وسألت عن والدي وبقية أخوتي فعلمت أنهم بالمدارس ووالدي بالعمل، وأخيرًا  أبلغتهم بعودتي بعد يوم أو يومين وعليكم بإعداد أشهى الطعام، وتركت والدتي وشقيقتي بين الضحك والدموع وشققت طريقي على السلم بصعوبة ووجدت الناس من جميع الأجناس تجري في اتجاه منزلنا ويحاول كل واحد أن يصافحني ويتحسسني وكأنه يريد أن يطمئن على أن أعضاء جسدي ما زالت موجودة، وأدركت أن تدفق الناس بأعداد كبيرة قد يعوق خروجي من المنزل لو انتظرت دقائق قليلة فأسرعت بالخروج والجميع يجرون ورائي وفوجئت بحشود غير عادية أسفل المنزل وكانت تزداد والكل يحاول أن يكلمني وأشرت لهم وأنا أحاول الإسراع نحو العربة والحاج سليمان والزملاء يبتسمون، وتحركنا سريعًا إلى الخدمة الخاصة.

فترة تواجدي في الخدمة السرية:

وصلنا إلى مكتب الخدمة السرية حوالي الساعة السادسة مساءً وتم استقبالنا بواسطة الضباط وبدأ التعرف علينا ومناقشتنا لمدة بسيطة وطلبوا منا كتابة التقارير أيضًا والمحافظة على مظهرنا هذا الذي كنا عليه حتى نقابل السيد المشير وأبلغناهم أن هذا الشكل هو أفضل شكل لنا وأن ذلك لا يمت بصلة لما كنا عليه من شكل وضعف وملابس وغيرها أثناء وجودنا على أرض سيناء، وطلبوا البقاء على هذا الحال وضحكنا طبعًا على ذلك وطلبنا أن نأكل كباب وجلسنا في غرفة واحدة نتحدث ونتذكر ما حدث لنا خلال الفترة الماضية وكيف كتب الله لنا السلامة وطال انتظارنا للطعام وطلبناه أكثر من مرة وأخيرًا وصل الكباب وأكلنا كما لم نأكل من قبل، وواصلنا الحديث بسعادة غير مصدقين بأننا في أرضنا وقام العقيد مازن مشرف رحمه الله بزيارتنا وهو صعيدي تربطه صلة قرابة بعبد الحميد وهو ضابط نابغ بالمخابرات وكان عبد الحميد يحدثني عنه كثيرًا وأشاد الرجل بعبدالحميد وعلينا، وكانت المرة الأولى والأخيرة التي أراه حيث استشهد بعد ذلك في حادث طائرة الشهيد الوزير أحمد بدوي بسيوه، ولكنني منذ هذا الوقت وحتى استشهاده كنت أتابع تألقه وتقدمه في مجال المخابرات.

وفي صباح اليوم التالي توافد علينا الأهل والأقارب حيث إقامتنا الحالية بالخدمة الخاصة فحضر أعمامي وحضر والدي الذي ظل محتفظًا بروحه الفدائية الوطنية المعهودة والتي ظهرت بسؤاله لي أمام الجميع هل أحضرت سلاحك معك أم لا؟ فضحكت لأني وجدته ما زال يحتفظ بمعنوياته كما هي والتي كان يحاول أن يخفي بها ما فعلت به الأيام الماضية والتي كانت واضحة على عينيه وصحته العامة حتى أنه أيضًا كبر كثيرًا وكأنه ليس هذا الرجل الذي تركته منذ سبعة أشهر فهل يمكن أن تؤثر أحداث هذه الأيام كل هذا التأثير فيه بالرغم أنه يأكل ويشرب ويعيش وله ستة أبناء آخرين غيري، إنه لشيء عجيب!! إنني لم أشعر بتغير شكلي سوى نقص وزني وشحوبي وتساقط شعري رغم كل ما واجهته من أخطار وحرمان ولكن يبدو أن القلق النفسي الشديد الذي تعرض له أهلي أقوى بكثير من الأهوال والأخطار التي تعرضت لها.

وتابع والدي الحديث بسعادة وفخر وكنت ألمح في عينيه الشفقة علي من نحافتي ومظهري – وقال لي أنه كان متأكدًا من عودتي حتى أمس وأن ذلك كان إحساسًا عميقًا وأكيدًا وأنه اشترى منذ أسبوع بيجامة جديدة لي وأبلغ والدتي بذلك، وفعلاً عند حضوري للمنزل أعطتني والدتي هذه البيجامة وقالت لي والدك أحضرها لك من حوالي أسبوعين وقال لي هذه لمجدي لما يرجع واشترى لحمًا قبل وصولي بيوم واحد وطلب من والدتي إعدادها لأن مجدي سيأكل منها، وكان ذلك يسبب ضيقًا لوالدتي التي كانت ترى عودتي حلمًا فيعطيها كلام والدي الأمل ثم تعود إلى الواقع فلا تجد غير دموعها التي كانت تذرفها ليلاً وسرًا والتي كان يشعر بها والدي أحيانًا فيقوم بتأكيد كلامه لها بأني ما زلت حيًا وأنه يعرفني وأن إحساسه لن يخيب بالرغم من ما شعر به عندما زار وحدتي للسؤال عني فتهرب منه الجميع وحاول البعض التأكيد على أنه غير معروف عني أي أخبار، كذلك حاول البعض الآخر إخفاء ما عرف عن استشهادي وذلك بناءًا على شهود عيان رأوني أستشهد، ولكنهم لم يرغبوا أن يورطوا أنفسهم بكتابة ذلك، وقد سمع والدي بعض الزملاء يتحدثون مشفقين عليه بأن ذلك الرجل المسكين لا يريد أن يصدق أن ولده قد استشهد فنهرهم بشدة وقال لهم إن ولدي ما زال حيًا، كذلك ذهب إلى الرائد إبراهيم زيادة لسؤاله عن مصيري وآخر مرة رآني فيها، فأبلغه الرائد إبراهيم بعد أن أقسم بابنته وكأنه يتحدث عن شهيد بأنه لم ير مثل شجاعتي وأنني قمت بتنفيذ العملية بروح الأبطال ثم رآني أقاتل بعد ذلك عند مهاجمة اليهود لنا وأنتقل من مكان إلى مكان آخر ولم يرني بعد ذلك ولا يعرف عني شيئًا، فاستراح والدي لذلك وكان الرائد إبراهيم يعلم كيف كان الموقف وكان يتحدث عني وكأني شهيد ولكنه لم يستطع إبلاغ والدي لصعوبة ذلك الموقف واستبعاد وجودي حيًا ولكنه لم يشأ أن ينهي على الأمل عند والدي.

وبكي معظم أقاربي عند لقائي وكانوا لا يعرفون ماذا يقولون وينظرون إلي وهم غير مصدقين فقد حزنوا على استشهادي وتصور كل منهم أني قد استشهدت يقينًا فما هو ذلك الشعور الجديد لمقابلة ومواجهة العائد من الموت، كان الجميع يبكون عدا والدي كان متماسكًا كله كبرياء بالرغم من ضعفه الواضح ووزنه الذي نقص ما يزيد عن عشرة كيلوجرامات وكان يبدو وكأنه هو الذي عبر وقاتل ودمر العدو، وعاد والدي وبعض أقاربي مرة أخرى وقد أحضروا بعض الطعام والحلوى والجاتوه وكان معي جميع الزملاء أثناء زيارة أقاربي وأقاربهم وقد زال تمامًا الشعور بالخوف والقلق من نقص المياه والطعام وكنا جميعًا مع اختلاف رتبنا يسود بيننا روح المودة والاحترام المتبادل.

وانتظرنا يومًا آخر وحدث في هذا اليوم تصرفًا غريبًا لو حدث قبل وصولي لكان له أثر سيء للغاية على أهلي فقد حضر مندوبًا من الجيش إلى منزلنا لتسليم مكافأة الاستشهاد إلى أسرتي ولكنه عندما حضر وجد زينة وأنوارًا على المنزل فشعر أن تسليم المكافأة في هذه المناسبة سيسبب أثر سيء على العائلة ولكن عليه الالتزام بتسليم المكافأة اليوم حسب التعليمات الصادرة إليه، وأرسل في طلب والدي ونزل والدي له وطلب منه وبعد مقدمة طويلة والاعتذار بأن يقبل والدي الأمر الواقع وأن يكون مؤمنًا وأن يتسلم المكافأة الخاصة باستشهاده، وعندئذ ضحك والدي وأبلغه بأنه لابد من أن يشرب الشربات أولاً فانزعج الضابط الكبير كثيرًا لذلك وظن أن والدي قد مسه جنون ولكن والدي أسرع بإخباره بأني عدت سالمًا منذ يومين وبعد انتهاء الحرب بسبعة أشهر، ولم يصدق الرجل إلا بعد أن روى له جزءًا من القصة ورفض والدي تسلم المكافأة، وعاد السيد العقيد متعجبًا بعد أن طلب من والدي أن أمر عليه لرؤيتي ليس إلا، ولكنني لم أستطع ذلك لانتظامي في العمل بمدرسة الصاعقة بعد ذلك بعدة أيام وكان معي النقيب عبد الحميد الذي حدث نفس الشيء لأهله، والحمد لله أن ذلك حدث بعد عودتنا وإلا كانت عواقبه في علم الله.

وفي صباح اليوم الثالث من تواجدنا بالخدمة السرية وجدنا حركة غير طبيعية وطلب منا
التوجه إلى مكتب القائد المقدم/ يحيى شبايك، وتحدث معنا بعض الوقت وعجبنا لذلك الرجل الذي يعلم كل شيء عن البدو والقبائل وأماكنهم وأسمائهم وأسماء أبنائهم وكأنه بدوي منهم، وسعدنا به ووثقنا به وكان أول من تحدثنا معه عن اسم قبيلة علي وإخوانه، وأجاب بأنه يعلم مكانهم وولاءهم لمصر وحضر أحد ضباط الخدمة السرية والمكلف باصطحابنا إلى وزارة الحربية وكان معه ميكروباص خصص لهذا الغرض وهناك استقبلنا سكرتير الوزير ومعه اللواء عز الدين مختار وأدخلونا مكتب السيد الوزير فور وصولنا وكنا نتحرك كالآلات من رهبة الموقف ووجدنا أنفسنا أمام الوزير الذي كنا نراه في الجرائد ضخم الجسم – كبير السن ومعه الفريق حسني مبارك قائد القوات الجوية الذي كنا نعرفه جيدًا من روايات زملائنا بالكلية الجوية وتصافحنا وعانقنا السيد الوزير والفريق حسني مبارك بكل حنان وعطف أبوي وكان سعيدًا بنا وتحدث معنا وأبلغنا بأنه فخور بنا وأخذنا نقص عليه بعض ما حدث وموقف البدو معنا وأمر سيادته بالفحص الطبي الشامل علينا ووعدنا بلقاء آخر ليقدم فيه شهادة تقدير بخط يده لنا حتى تأتي فرصة لمكافأتنا مكافأة تليق بما فعلناه حيث لا نجمة سيناء ولا نجمة الشرف توفيكم حقكم (وعلمنا بعد ذلك بأنه صدرت تعليمات من رئاسة الجمهورية بإيقاف منح أي أوسمة أو أنواط بسبب بعض التظلمات والتذمر لاختلاف وجهات النظر للبعض عند توزيع الأنواط والنياشين) وذلك ما كنا لاحظناه بالفعل، وقد تم إعطاء تعليمات إلى قائد وحدات الصاعقة بترتيب مكافأة مؤقتة لنا لحين بحث أسلوب المكافأة التي تليق بنا وأعطى لنا الهدايا التذكارية (قطعة صوف للجنود، وساعة يد لي ولعبد الحميد)، وكنا سعداء جدًا بذلك لأننا لم نفكر في أكثر من ذلك بل كان أقصى ما كنا نحلم به هو مقابلة السيد الوزير وتقديره الشخصي لنا، والتقطت لنا الصور التذكارية ووعدنا بلقاء آخر، ثم قابل مجموعة البدو الذين ساعدونا في العودة بعدنا وقد رأيناهم في ثياب بدوية جميلة وتصافحنا وطلبت من الشيخ سليمان بأن يقوموا بزيارتي لتناول الطعام فقبل الرجل ووعدني وأوفى بوعده وأعددت لهم هو وجماعته وليمة كبيرة عرفانًا ببعض ما قاموا به  نحونا وكان ذلك أقل واجب أقوم به نحو هؤلاء الرجال، وظلت الصلة سنوات بعد ذلك وقلت مع الوقت والانشغال.

وبعد مقابلة السيد المشير توجهنا لمقابلة السيد قائد وحدات الصاعقة العميد/ نبيل شكري، الذي تحدث معنا ومنحنا أجازة عشرة أيام أو أقل على ما أذكر وقرر ضمنا إلى مدرسة الصاعقة لنصبح معلمين بالمدرسة وحدد لنا مكان تسليم السلاح.

وتحركنا في عربة ميكروباص إلى منزلي وفوجئت بحشد كبير من أهل المنطقة المجاملين يريدون تحيتي وحاولت أن يبقى الزملاء بالمنزل ولكنهم اعتذروا لرغبتهم الشديدة في رؤية أهلهم وذويهم أيضًا وتواعدنا على اللقاء وودعوني بالضحكات والإشفاق أيضًا على مصيري مع هذا الجمع الخفير ووجدت نفسي أتابعهم وهم يتركونني ونظري متجه إليهم حتى اختفوا عن بصري فهذه أول مرة نفترق فيها بعد هذا المشوار، ورفضت أن يحملني الناس على أكتافهم تعبيرًا عن فرحتهم وتقديرهم لما قمنا به وأحاطوا بي من كل جانب وكانت الزغاريد تعلوا أصواتها في كل مكان وخجلت من ذلك الاستقبال لطبيعتي العسكرية ولكنني أحسست أنه شعور جارف من القلب غير زائف بالنسبة لي، وكان كل من يلقاني سعيدًا فخورًا أن أكون ابن منطقته، وكان هناك من يبكي ويضحك في آن واحد، وعند صعودي إلى المنزل لم يكن هناك موضع لقدم وقابلت أخوتي وأحبائي وتعانقنا وقابلت والدتي وكانت سعيدة سعادة بالغة وعادت إليها نضارتها وضحكتها بعض الشيء والجميع يهنئها والسعادة تغمرها وأحسست أنها عادت مرة أخرى لشبابها وظلت الأفراح والزيارات عدة أيام لم تنقطع بل كنت أهرب أحيانًا حتى أنام وأستريح، وهكذا بدأ الهدوء يعود شيئًا فشيئًا حتى أصبح ما فعلناه وواجهناه بسيناء رواية أرويها وقصة أكتبها يصدقها البعض ويشك فيها البعض بالرغم أن الحقيقة لا يستطيع أحد أن يسجلها أو يصورها كما ينبغي مهما بلغت قدرته وبراعته في التعبير والوصف.

وبقي الآن بعض الأحداث والأجزاء التي تلت ذلك وكان منها حفل تسليم الشهادات والأوسمة والنياشين لجميع أبطال الصاعقة في عمليات حرب 1973م والتي قام بتسليمها المشير أحمد إسماعيل بمدرسة الصاعقة بعد عدة أشهر وقد اصطف الجميع وأخذ الجميع الأوسمة والنياشين وأخذت أنا وعبد الحميد شهادة تقدير وعند تسلمي الشهادة تحدث إلي السيد المشير مصافحًا يدي بيده، وكان ذلك في آخر أيامه رحمه الله وأبلغني عند مصافحته مرة أخرى بأن ما قمنا به لا يوفي حقنا أي وسام حتى لو كان نجمة سيناء أو الشرف، وإننا نستحق الكثير جدًا من الوطن ولكنه لم يستطع أن يصدق لنا على نجمة سيناء لاعتبارات ستعلمها بعد ذلك ولكني سأكافئكم بطريقة أخرى حتى أحصل لكم على وسامكم الذي تستحقونه وأشار إلى العميد نبيل شكري، لمكافئتنا بالسفر كانتداب لدولة الكويت كمكافأة مؤقتة، وقد حاولت رفض ذلك مفضلاً مكافأتي بنجمة سيناء أو نجمة الشرف ولكن السيد قائد المجموعة العميد/ كمال عطية أقنعني بقبول السفر إلى الكويت انتظارًا لمكافأتي التي وعدني بها السيد المشير بعد عودتي من السفر.

أما عن الأحداث التي وقعت لباقي عناصر الكتيبة 83 صاعقة التي علمنا بها بعد لقائنا مع الزملاء في الكتيبة بعد عودتهم من الأسر والتي ما يزال بعض أبطال هذه الأحداث على قيد الحياة حتى الآن فيمكن إيجازها في الآتي:

مجموعة وادي فيران:

كان ذلك على المحور الذي عملت به:

  • الطائرة التي أقلت النقيب محمد صليحة هبطت بالقرب من الشاطئ ووجد مستعمرة بترولية وعند دخوله إليها وجد بها عاملين وعائلاتهم في طريقهم لركوب سياراتهم فأشار لهم باستمرار التحرك ولم يصدقوا ما رأوه ولاذوا بالفرار وكان صليحة ترك جماعة ساترة ظهرها للجبل وتواجه منطقة شراتيب وفي مكان جيد، واحتل صليحة وباقي القوة الطريق الساحلي داخل المستعمرة البترولية في انتظار تحرك العدو ولكنه فوجئ بحصار العدو من خلفه بقوات كبيرة وأجبرته على الاستسلام بعد تحقيق بعض الخسائر وتحركت قوة العدو في اتجاه الجماعة الباقية ولكنهم فوجئوا بنيران كثيفة لم يستطيعوا مهاجمتهم وأجبروا العدو على اتخاذ ساتر والانبطاح أرضًا وحاول العدو استنزاف ذخيرة هذه الجماعة تحت قيادة الرقيب المجند البطل الذي اضطر للاستسلام تحت كثافة نيران العدو بجميع أنواعها وإجبار النقيب صليحة على طلب استسلامه.

  • الطائرة التي أقلت النقيب سمير سالم كانت منخفضة عند وصولها قبل المنطقة الجبلية ليلاً وكان هناك سلك ضغط عالٍ فاصطدمت به وهو على ارتفاع حوالي 15 متر واستشهد أحد أفرادها متعلقًا بالسلك الكهربائي وأصيب معظم من بها، وحاول النقيب سمير البعد عن مكان الطائرة حيث سيكشف وجودها عن مكانه وجمع الأفراد المصابين والسالمين وبمساعدة بعضهم صعد أحد الجبال القريبة، وفي النهار كان محاصرًا من الجنود الإسرائيليين من كل جانب وقام العدو بصف الجنود ووضع عصابة فوق أعين النقيب سمير وسمع النقيب سمير صوت طلقات نارية ثم قادوه إلى عربة حتى وصل إلى مكان الأسر، وعند سؤاله أجاب بعض الإجابات التي لم تعجب المحقق فقال له النقيب سمير اسأل من كانوا معي فقال له أنت تعلم أن من معك قد مات فسكت ولم يعلق واعتبر ذلك نوع من الضغط النفسي حتى يقوم بإبلاغهم عن كل شيء، وبعد عدة أيام قابل أحد الجنود الذين كانوا معه واسمه الحلفاوي النجار، وكان يعمل نجارًا وهو شاب من القلعة جميل الوجه أبيض البشرة أزرق العينين، وسعد النقيب سمير عندما رآه وكان كله ضمادات أثر إصابات وسأله سمير عن باقي الفصيلة فأبلغه الحلفاوي بتعجب ألم تعلم ماذا حدث لنا؟ فقال له لا، فقال: بعد أن قام العدو بتغطية عيناك قام برمي الرصاص علينا جميعًا ونحن واقفين فلم أشعر بنفسي إلا عندما أفقت ليلاً ونظرت حولي فوجدت جميع زملائي مستشهدين وأنا معهم وتحسست نفسي فوجدت خمسة طلقات في جميع أنحاء جسمي وجرح سطحي في وجهي وكان ذلك الجرح من أثر طلقة بالطبنجة في جميع رؤوس الشهداء ولكن طلقة الطبنجة أحدثت جرح سطحي بالنسبة لي، وقمت بالزحف حتى وصلت إلى الطائرة فأخذت آكل وأشرب منها حتى أتى رجال الصليب الأحمر وأنقذوني من الموت وكنت الجندي الوحيد الذي عاش من هذه الفصيلة.

  • وكانت الطائرة الخامسة في هذا الوادي تحت قيادة الملازم أول محمد الشربيني من المدفعية وكانت تعمل دعم للكتيبة بقوة ستة عشر فردًا من سرية الجراد بي ومعهم القواذف والذخيرة الثقيلة وقد أبر الطيار الطائرة في مكان بعيد جدًا عن منطقة العمل وقام الملازم أول بجهود جبارة للسيطرة على هؤلاء الجنود وضباط الصف الذين عاونوه كثيرًا، وقد حاول التقابل مع قوة الكتيبة ولكنه لم يتمكن رغم المحاولات العديدة التي بذلها وأثناء هذه المحاولات تقابل مع بعض البدو الذين عاونوهم وأخفوهم عن العدو حتى عاد بعد مضي حوالي خمسة أشهر في عربة نقل ومعه جميع الجنود بمعاونة البدو مغطيين ببعض من البضاعة، وقد عاد مصاب بحالة نفسية سيئة نتيجة الضغط النفسي للسيطرة على هؤلاء الأفراد ولمدة كبيرة حتى استعاد طبيعته (وكان حزينًا لعدم مكافأته وما زال حيًا يرزق) والحمد لله.

مجموعة وادي سدري:

  • لم تتمكن هذه المجموعة من العبور بالقوارب وذلك لمهاجمة العدو لها بالضفة الغربية لخليج السويس وكان قرار القيادة العامة تجهيز مجموعة أخرى لتنفيذ عمليات الإغارة بالنيران وقد كلفت سرية بقيادة النقيب/ عمرو منصور والملازم أول/ عبد العال ثابت وذلك بعبور خليج السويس بالقوارب وقد نفذت السرية مهمتها بنجاح.

مجموعة وادي بعبع:

  • تمكن النقيب عادل عبد الفتاح من الهبوط في وادي بعبع ونجح في تنفيذ كمين بالمدخل الشرقي للوادي ونجح في تدمير عربة نصف جنزير وتم مهاجمته بمجموعة معادية وقامت بأسره ومن معه، وبعد العودة من الأسر وأثناء توجهه إلى السويس في طريقه إلى بعبع للإبلاغ عن مكان الشهداء أصيبت السيارة التي يستقلها بلغم واستشهد رحمه الله وكان مثالاً للخلق والذكاء وخفة الدم ومن خيرة شباب مصر ولكنه القدر الذي حدده الله سبحانه وتعالى ليلقى ربه في اليوم والمكان المحدد له.

  • كما استشهد البطل سمير البهي وهو يقاوم العدو في منطقة قاعدة الدوريات ببسالة منقطعة النظير وكان ذلك بشهادة الدكتور الشعراوي الذي أبلى بلاءً حسنًا هو الآخر.

  • وقد أسر قائد الكتيبة ورئيس العمليات وقائد السرية واستشهد قائد أحد الطائرات التي أقلتهم عند تحذيره للجنود من مروحة الطائرة كما ذكرت من قبل، كذلك أسر النقيب مجدي يوسف رحمه لله والذي توفى بعد ذلك، وقد أسر معظم ضباط الكتيبة.

  • وبالنسبة للملازم أول سعيد فتح الله الذي تم دفعه بعد العمليات بعدة أيام بطائرة محملة ببعض المؤن وجهاز لاسلكي في عمق وادي بعبع ولكنه لم يستطع الوصول إلى أحد وقد أسر بعد عدة أيام من تواجده بأحد مغارات الفيروز، كذلك أسر النقيب عاطف سعودي من قيادة المجموعة بنفس الطريقة.

  • أما بالنسبة للرائد إبراهيم زيادة، فبعد أن تخلص من الاشتباك ومعه الدليل (عودة الحرامي) تحركوا في وادي فيران وتم مقابلة 3 أفراد أحدهم مصاب في رأسه وظلوا مختبئين مع أحد القبائل حتى استشهد الجندي الذي كان مصابًا في رأسه بعد شفائه تمامًا وذلك بعد أن سقط من ارتفاع عالٍ من الجبل أثناء إحضاره للمياه وعادت باقي القوة بعد حوالي خمسة أشهر.

  • بالنسبة للدليل (عودة الحرامي) تقابلت معه في القاهرة بعد ذلك واصطحبته لمنزلي وكان سعيدًا لرؤيتي حيث اعتقد أنني استشهدت وأخذ يسرد لي عما حدث بعد مواجهة العدو لنا وكيف استطاع التخلص مع الرائد إبراهيم زيادة والهرب بعد ذلك، وأخذ يحكي لوالدي عن تلك الأحداث وأشاد بي وبما قمت به وكان ذلك بالنسبة لوالدي شيء يفتخر به وجعله يزداد اعتزازًا بي حيث كنت لا أروي شيئًا بالتفصيل عن تلك الأحداث وغضب مني والدي لأني لم أروي له تدميرنا لعدد 2 أتوبيس للعدو وقتالنا ضد العدو ببسالة وكانت آخرة مرة رأيت فيها (عودة الحرامي).

بالنسبة للبدو:

  • قمنا بزيارة الحاج سليمان ومن حضروا معنا للقاهرة من البدو وأقمنا لهم عزومة كبيرة وكذلك عزمونا على أكلة بدوية باللحم في مصر الجديدة وكان معهم عضو مجلس الشعب السيد/"اليماني" في ذلك الوقت.

  • قمنا بزيارة عم علي بالقاهرة بمنطقة دير الملاك وكان مهاجرًا من السويس وسعدنا به ونقلنا له أخبار كل أقاربه.

  • عندما أخلى العدو منطقة أبورديس قام علي بزيارتنا في القاهرة بعد أن أرشده عمه عن العنوان وكان يومًا سعيدًا ثم أعاد الزيارة ومعه زوجته فاطمة وتبادلنا العزومات والزيارات وكان مازال عفيف النفس شهم الطباع.

  • توالت الزيارات من علي وصبحي وعليان.

  • قمت بزيارة المنطقة حوالي عام 1981م وزرت علي وطلبت منه زيارة المغارة التي عشنا فيها ما يقرب من ستة أشهر متواصلة، وبالفعل أحضر سيارة نقل ووصلني حتى الوادي وكان معنا ضابط صف من المخابرات، وصعدنا الجبل وكان ذلك نزهة جميلة بالنسبة لنا ورحلة شاقة جدًا ومرعبة لضابط الصف حتى أحسست بالحرج أمام علي، وبعد وصولنا وجدت المغارة المجاورة لنا قد انهارت وانسدت تقريبًا ووجدت المغارة الخاصة بنا كما هي ووجدت ملابسنا كما تركناها وكل شيء تقريبًا كما هو، وصليت لله شكرًا وعدت مرة أخرى.

  • أصيب حسين بعد ذلك في أحد عينيه ولم أراه بعد ذلك وكذلك لم أرى صبحي إلا عندما قمت بزيارتهم مرة ثانية وكانوا قد انتقلوا بالقرب من مدينة أبورديس.

  • وتزوج صبحي من أحد البدويات التي عاشت لفترة طويلة بالقاهرة، وكان طباعها تختلف عن الطبع البدوي ولكنه كان يحبها وأنجبا ومازال قيد الحياة والحمد لله ولكنه مصاب بفشل كلوي ويقوم بالغسيل من حين لآخر.

  • أما حميدة تزوجت من أحد أقاربها وما زالت أم حميدة كما هي، كذلك الشيخ بركات والد علي وأنجبت "ستيت" عدة أطفال وتزوج عليان أحد بنات أم حميدة وأنجب هو الآخر.

  • وظللنا نتزاور وكانت لفاطمة مكانة خاصة لما لها من سمات وعقل وصفات كثيرة، وزارتني ووالدتها في أحد الأيام عام 1989 وأخبرتني بأن فاطمة بها مرض في معدتها وقد حاولوا عند جميع الأطباء ولكنهم لم يصلوا إلى نتيجة بعد علاج دام حوالي سنة وأنهم عاجزون عن فعل أي شيء وأنهم صرفوا كل شيء دون نتيجة وهي تصر أن لا أعرف حتى لا أزعج نفسي وأتكلف أي مصاريف، وطلب مني علي وكذلك والدتها مكان يحقق لها العلاج والشفاء، ولكن كان الوقت قد تأخر كثيرًا، وقمت بعرض المشكلة على عدة أصدقاء وزملاء وكانت الإجابة ورد الفعل سريع من العقيد معتز الشرقاوي أحد أبطال الصاعقة السابقين وقام الرجل بالتدخل الشخصي لدى مدير مستشفى الهلال الأحمر الفلسطيني والذي كان يعمل فيه في ذلك الوقت، وقد تقرر علاج فاطمة بأقل تكاليف ممكنة (وكنت أتمنى أن تعالج فاطمة على نفقة القوات المسلحة وفي أحد مستشفياتها ولكن بأي صفة تعالج وإذا طلبت ذلك فكم من الوقت يسمح حتى يأتي التصديق بذلك).

  • وكانت فاطمة قد أصبحت في حالة صحية سيئة ودخلت المستشفى وهي نحيفة الجسم، وخضعت لفحص طبي شامل دقيق وتحت إشراف أطباء أساتذة وكانت النتيجة أنها حالة ميئوس منها حيث أنها تأخرت كثيرًا في استئصال ورم سرطاني بالمعدة، ولا يدري الأطباء كيف تحملت هذه السيدة كل هذه الآلام حتى الآن، وقرر الأطباء عمل عملية استئصال للمعدة ووضع كيس بلاستيك طبي بدلاً منها وذلك فقط لكسب الوقت.

  • ووافقنا ووافق زوجها وطلب كميات من الدم اشترك الجميع في شرائها وكان دور العقيد معتز كبيرًا جدًا في ذلك وكذلك بعض الأطباء الشبان الشرفاء أصدقائه في المساعدة المادية والمعنوية، وكان العقيد معتز يعمل ذلك بحماس ووطنية منقطعة النظير لما يعلمه عن دور هذه السيدة الوطنية، وكان يحاول أن يثبت لها ولزوجها ولأمها أن ما يقوم به ليس إلا أقل القليل للوفاء بما قدمته هذه السيدة ولما يجب أن يقدم لها في آخر أيامها، وكان الجميع يعلم بأن النهاية قريبة ولكن كان الأمل موجود، وتناوبنا الزيارة، وتم عمل العملية ولكن للأسف الشديد بعد أن قام الأستاذ الدكتور بفتح المنطقة التي سيتم عمل العملية بها وجد أن المرض اللعين قد انتشر ووصل إلى المريء وقارب الوصول إلى الفم فقام بإعادة الفتحة كما كانت ولم يستأصل أي شيء وأصبح الأمر بيد الله – وطلبت مني أن أنقلها منزلها وحاولنا إقناعها بأن وجودها بالمستشفى تحت الإشراف مع وجود المسكنات أفضل لها ولكنها أصرت على ذلك، وكان شكلها أصبح يشبه شكل سيدة في سن المائة عام حتى أصبح شكل والدتها وكأنها صغرى بناتها وكان ذلك شيئًا صعبًا علينا أن نجدها تتدهور بهذا الشكل دون أن نستطيع عمل شيء، وكان قضاء الله بعد ذلك بيومين وقمت أنا وعبد الحميد - الذي وصل في الوقت المناسب في أجازة من روسيا حيث كان يعمل ملحقًا حربيًا هناك في ذلك الوقت - بعمل جميع الإجراءات وقمنا بالصلاة عليها وتم نقل الجثمان إلى مدينة السويس حيث توجد مقابرهم وذهبت أنا وعبد الحميد وكان الجثمان وصل أول الليل، والقبر على الطريقة الإسلامية معد لاستقبال جثمانها الطاهر، وكانت المشاعل والكلوبات تضيء المقابر كأنها ليلة زفاف وكان الجميع مؤمن بقضاء الله وقدره وفي مشهد مهيب لدفنها فقد كانت محبوبة من جميع أهلها ومن يعرفها وتوارت تحت التراب رحمها الله ورحمنا جميعًا.

Share
Click to listen highlighted text! Powered By GSpeech