Click to listen highlighted text! Powered By GSpeech
Get Adobe Flash player
مستمرين معاكم بإذن الله 2008-2024 **** #لان_لجيشنا_تاريخ_يستحق_أن_يروي **** ***** إنشروا تاريخنا وشاركونا في معركة الوعي **** تابعونا علي قناة اليوتيوب 1100+ فيديو حتي الان **** تابعونا علي صفحات التواصل الاجتماعي** أشتركوا معنا في رحلاتنا لمناطق حرب أكتوبر **** يرجي استخدام خانة البحث **** *** تابعونا علي تليجرام - انستجرام - تويتر

ذكرياتي يوم العبور – العقيد اسامه الصادق

 

المكان / جبهة قناة السويس .. جزيرة البلاح شمال مدينة الإسماعيلية

الزمان / 6/10/1973

 

 

فى الثانية عشرة منتصف ليلة 6,5 أكتوبر أيقظني جندي الخدمة واخبرني بأن قائد ثان الكتيبة مستقلا لورى وينتظرك ، دهشت واتجهت له يتبعني النقيب حسن ؛ سبب الدهشة بأن ياتى لورى إلي جزيرة البلاح. فلا معدات ميكانيكية بالجزيرة لانها تحتاج معدية تعبر القناة وتحمل تلك المعدات الثقيلة كما ان تضاريس الجزيرة غير صالحة لسير المعدات ؛ اتجهت إليه حيث قابلني قائد ثان الكتيبة باش الوجه على غير عادته واخبرني: أسامه قوارب وحدتك موجودة باللوري ؛ أرجو إحضار الجنود لإنزالها على انها بطاطين حتى لا تخرج الاصوات ويتلقفها العدو ويعلمون بما ننوى ان نفعله ؛ شعرت باضطراب وظللت صامتا لثوان ، لقد صدق حدثي وما تنبأت به قبل ذلك ، قوارب يعنى حرب.

فى العادة تحصل كل سرية مشاه على عشرة قوارب للعبور على موجة واحدة ” اى عبور دفعة واحدة” اما بالنسبة لي فكان العدد اثنان وعشرون قارباً للعبور على ثلاث موجات كل موجة اثنان وعشرون قاربا اى ان عدد القوارب التى ستعبر فى منطقتي (ستة وستون قارباً ) وقد انضم إلينا منذ عدة أيام مائه جندي احتياط مهمتهم حمل الذخيرة لموقعنا المتقدم الى مسافة الموقع المختار الذي سوف احتله مع جنودي شرق القناة وعلى مسافة ستة كيلومترات. عُدت بذاكرتي الى الوراء أكثر من ستة سنوات .. الجنود الاحتياط الكسالى الخاملين .. كانوا كما رأيتهم فى سيناء .. الكروش المدفوعة لأعلى والسير ببطيء ويتعاملون معنا كأننا السبب فى استدعائهم وبتعالي كأنهم يعرفون ويعلمون أكثر منا لقد أصبحوا بعد المعركة السبب الرئيسي فى الخسائر الكبيرة التى حدثت فى حرب أكتوبر سواء للمقاتلين او بالنسبة لأنفسهم لان خسائرهم تحسب على وحداتنا.

لقد اعد المهندسون العسكريون فى السابق منذ عدة أشهر أماكن إيواء مغطاة تحت الأرض لعدد اثنان وعشرون قاربا فى هذا الموقع ، توجه الجنود بالقوارب الى تلك الأماكن ؛ سلمني قائد ثان الكتيبة تعليمات قائد الجيش الثانى “الله يعطيك الصحة والعافية يا سيادة اللواء سعد مأمون” الذي سطر وخطط لتلك التعليمات ؛ كما أشيد بهذا الإنسان البارع الذي فكر فى طبعها وتوزيعها على الوحدات فهو لا يقل براعة عنه ، لقد ُفقدت منى تلك التعليمات أثناء العمليات الحربية والإصابة التى لحقت بى ولكنى أتذكر بعض ما جاء فيها حيث نقل لي بعض أجزاء منها احد الجنود أثناء علاجي في مستشفي المعادي:

ـــــــــ

قيادة الجيش الثانى الميداني

مكتب القائد

بسم الله الرحمن الرحيم:

ان تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم وينصركم على القوم الكافرين”

صدق الله العظيم

الى شباب مصر الأوفياء .. الى رجالها المخلصين .. الى كل قائد وضابط وصف وجندي .. هذا هو اليوم الموعود .. يوم ان نزيل عن عاتقنا أمام شعبنا وأمام التاريخ عار هزيمة لحقت بنا دون دخولنا الحرب .. لقد أنهيتم استعدادكم لهذه الحرب بالتدريب والمعدات والأسلحة وتخطيط القيادة على أعلا مستوى.. ثقوا ان النصر حليفنا مع مراعاة الانضباط أثناء المعارك ولا داعي للتهليل بعد إصابة تحدث للعدو فى الدبابات والمدرعات لأنك بهذا تحدد للعدو مكانك وتعرض نفسك لان يقتلك كما أرجو الدقة فى التصويب والاحتراز من حقول الألغام وثقوا ان شعبكم خلفكم ينظر إليكم ولتكن هديتنا الكبرى الى أمنا مصر الحبيبة هى النصر على أعداء الله وأعدائنا هؤلاء هم الكفرة الإسرائيليين .. ومن يلقى الشهادة فهو عند الله حي ُيرزق لا يموت تصديقا لقول الله عز وجل:

ولا تحسبن الذين قتلوا فى سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون فرحين بما آتاهم الله من فضله “    صدق الله العظيم

فى نهاية كلمتي أرجو ان يفتح الضباط اى راديو معهم على إذاعة البرنامج العام قبل الثامنة بعشرة دقائق صباحا ثم يستمعوا الى دقات ضبط الساعة الثامنة من الإذاعة لضبط الساعة التى ستكون توقيتاتها متطابقة فى جميع أفرع القوات المسلحة لهذا اليوم بدون تأخير او تقديم ثوان لانها هامة ومصيرية فى تلك المعركة وفقكم الله وسدد خطاكم .

لواء أركان حرب / سعد مأمون

قائد الجيش الثانى الميداني

فى يوم الجمعة الموافق التاسع من رمضان ..

الخامس من أكتوبر عام 1973

ـــــــ

كانت تلك الرسالة التى وصلتني مع القوارب ، قرأتها وشعرت بان خلفنا رجال ساهرون يعملون ويفكرون فى كل شيء ، لم يغمض لي جفن فغدا سنعبر ؛ غدا اليوم الموعود ، لقد كنت افكر منذ انتقلنا الى جبهة القتال وانا أنظر الى الجهة الأخرى من صحراء سيناء متمنيا من الله ان يعطيني العمر والقوة وأن يأتى يوم كي أعبر إلى الشرق وألقى الشهادة هناك ، كانت تلك الأمنية تراودني وأقول لنفسي هل سيأتي هذا اليوم؟ كنت اعتقد اننى وعدد كبير نفكر فى هذا ولكنني ويا للعجب فقد اكتشفت ان هذه رغبة الجميع ، ولماذا يا للعجب وان رسولنا الكريم ميزنا عن سائر المسلمين بحديثه الشريف:

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم

“إذا فتح الله عليكم بمصر فاتخذوا منها جندا كثيفا فهم خير أجناد الأرض.. قيل لما يارسول الله .. قال لأنهم كنانة الله فى أرضه”

صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم

ويفسر أهل العلم والعلماء بان الكنانة هنا تعنى الجراب الذي يحمله المقاتل على ظهره ويضع به سهامه ، اى أن مصر والمصريين هم معقل الجيوش والمحاربين وليعيد التاريخ نفسه منذ “انتصار أحمس على الهكسوس وصلاح الدين الايوبى على الصليبيين فى معركة حطين والانتصار على التتار بقيادة المظفر قطز فى معركة عين جالوت. ثم فى العصر الحديث جولات وصولات محمد على وأبنائه حتى وصلوا لتهديد دولة الخلافة العثمانية”

معـركة العـبور

أوضح للسادة القراء موقع وحدتي ؛ أحتل المنطقة الابتدائية للهجوم فى جزيرة البلاح “جزيرة البلاح جزيرة صناعية ظهرت للوجود نتيجة حفر قناة السويس طولها يقارب الثمانية كيلومتر وهى رملية غير ممهدة ولا يصلح السير فيها اللوارى ولكن المعدات من الجنزير سواء دبابات أوعربات مدرعة يمكنها التحرك بها بسهولة ؛ من جهة الشرق والغرب تفريعتين لقناة السويس بعرض مائتي متر لكل فرع”.

الساعة السادسة إلا ربعا من صباح السادس من أكتوبر وصلت إلينا فتوى شيخ الأزهر بحتمية إفطار الجميع ومن يخالف تلك التعليمات يكون آثما ، طفت على الجنود لإقناعهم بالإفطار وكأن جميع الجنود قد أصابتهم قوة الإيمان رافضين هذا الأمر إذا كان لهم هذا الحق ، شربت الماء أمامهم موضحا أن الانتصار أهم من الصوم ، لأن الانتصار سيكون انتصاراً لجميع المسلمين على أعداء الله والإسلام كما أنه يمكننا أن نستعيض هذه الأيام بعد النصر بإذن الله ؛ مازلت أتابع إفطار جنودي واستمع إلى الراديو منذ الصباح وأغنية ام كلثوم الجميلة “يا صباح الخير يا لي معانا” وانا مازلت أطوف عليهم جميعا وعلى باقى الوحدات الملحقة على قواتي.

وصل عددنا الى ثلاثمائة وعشرة جندي وصف ووصل عدد الضباط إلى خمسة عشرة ضابطا ، تعلن ساعة جامعة القاهرة تمام الثامنة من صباح هذا اليوم السادس من أكتوبر العاشر من رمضان ؛ فى هذا اليوم زاد عدد دقات الساعة عن المعتاد كأنما حدث خلل بها ؛ ضبطت ساعتي والتي كان بها تأخير ثلاث دقائق ، طفت على الجميع ليضبطوا ساعاتهم وبعد أن تيقنت من ذلك وصلتني رسالة مكتوبة من قيادة الفرقة بأنه فى تمام العاشرة نبدأ بنفخ القوارب ، قارب بعد الآخر وعلى الجنود الآخرين التظاهر بالضحك والتحدث لعمل شوشرة على أصوات أدوات نفخ القوارب ، فعلنا هذا ؛ قاربا بعد آخر حتى أتممنا الاثنين وعشرين قارباً.

الساعة الثانية عشرة والنصف حضر سائق قائد الكتيبة”العريف مجند أبو الخير” ليخبرني بان القائد يطلبني فى مركز الملاحظة ؛ أرافقه وعبرنا القناة الخلفية “التفريعة الأخرى للقناة ويطلق عليها اسم تفريعة البلاح “وبالسيارة قطعنا أكثر من كيلو لأجد قائد الكتيبة في وضع الاستعداد فى مركز الملاحظة مبتسما ومرتفع الروح المعنوية وأسعدني هذا وقد يكون هذا الإحساس قد وصل إلىّ أيضا لأجد قائدي منشرح الصدر غير هياب للموقف ، صافحني سعيداً قائلاً: هذا يومك يا بطل أنت ورجالك الشجعان ، ناولني مظروف صغير وطلب منى قرأته بعد أن أصل إلى موقعي فى حضور الضباط وضباط الصف وابلغهم بمحتواه ، احتضنني مودعاً وتبعه كل ضباط القيادة من رئيس العمليات إلى ضابط الإشارة والأمن ، طلب منى إبلاغ تحيته إلى الجميع ؛ عاد بى السائق وانتظر معي حتى حضر القارب ليعيدني الى الجزيرة وهنا عانقني السائق داعيا الله أن يوفقني.

أقف وسط جنودي وضباطي بعد عودتي من لقاء القائد وهم يترقبون منى شيئاً جديداً ، البعض بدأت تخور قواه فقد أصبحت الأحلام حقيقة وأصبح من يفتعل البطولات يجدها قريبة منه قرابة أنفاسنا اللاهثة وهذا هو المحك الرئيسي قادما وليس لك بديل اما النصر أو الشهادة ، قرأت كلمات قائدي والتى لا تخرج عن سطرين بأننا جاهزون ومستعدون لمعركتنا القادمة وموعد عبورنا الساعة (1405) وهذا هو التوقيت العسكري ، اى الثانية وخمسة دقائق بعد الظهر وهذا التوقيت سيكون لحظة عبور القاذفات المصرية من سلاحنا الجوى.

***

استأذن القارئ بان أتطرق إلى معركة العبور رغم اننى فى مقدمة الكتاب نوهت اننى لا اكتب عن المعارك التى لا يتقبلها الجميع ولكن هذا اليوم وتلك المعركة هى شيء غير طبيعي سواء للعسكرية المصرية أو للنفس البشرية ولهذا فسوف أتحدث عنها فى فصل كامل نظراً للمهمة الخاصة التى أوكلت إلي وحدتي والتي تعتبر فى بنود فن القتال من أصعب المهام بكل المقاييس فهى تعتبر من المهام الانتحارية بدون أدنى شك ، أى شخص يخالف هذا الرأي يكون مخطئا وبعد أن يقرأ عنها سوف يكتشف حقيقة ما اقول كما أنها تتحدث عن بطولات للعشرات من الشهداء والمصابين فى فترة زمنية قصيرة وما تلا ذلك من نتائج باهرة للعمل العسكري فى مواجهة الفرقة 18 مشاه والتى تحتل جزءاً كبيراً من جبهة القتال كما كان بقطاعها مدينة القنطرة شرق والتى أدي سقوطها في أيدي قواتنا إلي إسعاد الأمة العربية وما جاورها من نقاط حصينة بلغت سبع نقاط من جملة نقاط العدو على جبهة القتال من خط بارليف.

***

تعدت الساعة الواحدة والنصف من بعد ظهر هذا اليوم الرائع فى تاريخ الشعب المصري والعربي ، لقد كان شيئا غريبا وملفتا للنظر ما يجرى على جبهة القتال خاصة فى الخط الامامى ، هذا الخط الذي لا يفصلك عن العدو سوى قناة السويس بمسافة مائتي متر على أقصى تقدير.

أتطرق لهذا الحدث ومن منى أحسن نفراً أن يكتب عن هذا ، يكتب عن ملحمة جنوده من الشهداء والجرحى والأبطال بدلا من الدمى التى يحضرها التليفزيون لتتحدث عن هذا العمل البطولي الرائع والكل يتغنى به ، أنا لا أتحدث عن بطولة شخصية فلم أدمر دبابة بيدي ولكن كان لي دوري القيادي والذى لا يقل أهمية عن ما قام به الرجال الأبطال.

لقد قرأتم مشاهداتى أثناء انسحابى فى معركة عام 67 ولم أتولى بطولة ولم نبدأ معركة ولكنها كانت مفروضة علينا باستثناء معركة الشهيد وليم ومعركة تدمير فنطاس الوقود لليهود فى آخر يوم انسحاب لنا ، لكن هنا فالوضع يختلف ، نحن المهاجمين ، نحن العابرون. “نحن مفرزة نطاق أمن الفرقة “والتى يعرفها من المتخصصين يعلمون انها المدفوعة للاشتباك مع العدو وبالتالي يكون العدو فى  أشد قوته ويستطيع بإمكانياته الكبيرة وخشيته على قواته الواقعة تحت نيران قواتنا من القتل والتدمير والأسر أن يقوم بكل ما يستطيع لأن يسحقهم ؛ إذاً فهم سوف يحصلون علي حموة الموس والصدمة الأولى لقوات العدو وهذا معروف لدى كل القيادات الكبرى فى أى جيش من جيوش العالم ، أنهم الفدائيين ورأس السهم المندفع أمام القوات ، هم التى تسير باقى القوات الرئيسية فى أثرهم ونصرهم هو مما لاشك فيه نصر لهم ولا قدر الله لو فشلوا فى مهمتهم فهذا معناه تكبيد قواتهم الرئيسية خسائر كبيرة أو فشل خطة الهجوم ولهذا سوف أتحدث عن هذا العمل.

***

جبهة القتال فى الأيام السابقة للحرب كأنها سوق كبيرة به الحركة والنشاط ، لو أعطيت مثلا لذلك: لقد كانت شبيهة بيوم من أيام شهر رمضان فى الساعات التى تسبق موعد الإفطار، فكل شيء يتحرك ويجرى هنا وهناك وهذا يعود لمنزله وذاك يستعد حاملا معه الطعام أو الفاكهة أو الكنافة ، كلٌ مشغول حسب تخصصه أو رغبته ،. فجأة قبل موعد انطلاق المدفع بعدة دقائق تسير فى الطرقات فلا تجد أثرا لحياة ؛ أين البشر؟ أين الآلاف والملايين التى كانت تملأ الشوارع والمواصلات حركة ونشاطا وتسابقا من أجل موعد هام؟ أنه موعد الإفطار أو موعد إطلاق مدفع رمضان ؛ أو قل مدافع الكبرياء التى ستنطلق على هؤلاء.

سكون تام فلا حركة وكل خلف سلاحه وإذا كان اى إنسان يريد معرفة ما يحدث لهؤلاء الرابضون فعيون يقظة وعقول تائهة وقلوب تنبض بقوة كأنها أصوات مدفعية ميدان ، الكل صامت ولا تعرف عن أفكار هؤلاء شيئا ولكن المؤكد أنهم يفكرون مثلى ومثل الآخرين فقد وصلنا إلى نقطة اللا عودة أى أن العد التنازلى قد بدأ ولن نخطأ خطأ عام سبعة وستون ثم فجأة نعود صامتين وإلغاء ما تم دفعه وهنا تكون القوات فى وضع خطير للغاية حيث أن جميع القوات قد تم حشدها بمسرح العمليات فإذا ُطلب منهم إغلاق معداتهم والعدو مازال مستعدا فسوف يضرب ويدمر للقوات المحتشدة فى مساحة ضيقة فتكون الخسارة كبيرة ولا تستطيع القيادة أن تطلب منهم العودة ثانية لوضع الاستعداد للحرب فهى تحتاج وقت طويل ، انها مثل الفرن الذى يحتاج إلى فترة إعداد حتى تصل درجة حرارته إلى الدرجة المناسبة لإعداد الخبز ولكن إذا قذفته بجردل ماء لإنطفىء فى الحال وإذا أردت إعادة إشعاله فتحتاج إلى فترة زمنية اكبر من الأولى حتى تزيل آثار المياه التى أتلفت الأرض والوقود الذى ابتل ، هذا ما حدث فى يوم السادس من أكتوبر ؛ فقد سبق السيف العزل.

قريبا منى المعاونون لى فى مركز القيادة ؛ هو مركز قيادة متقدم بكل الأحوال بالمسافة التى لا تقل عن ستة كيلومترات وبدون قوات صديقة على الأجناب أو فى الخلف ؛ كان الوضع شائك للقادة الذين دفعوا بى لهذا المكان ولتلك المهمة وهى بكل المقاييس مهمة خطيرة جداً لتنفيذ مثل تلك العمليات وهى ليست من أنواع المهام المظهرية والعنترية بل إنها فى صلب الدراسة للعمليات الهجومية ، معى فى مركز الملاحظة ثلاثة عمال أجهزة لا سلكى متوسط المدى لا يقل مداه عن خمسون كيلومتراً وثلاثة أجهزة اتصال لاسلكى قصير المدى مداه خمسة كيلومترات من نفس النوع المتواجد مع ضباط السرية والوحدات التى تعمل معى ثم عدد ثلاثة جهاز تليفون ميدانى للاتصال بقادة الوحدات الكبرى ، كانت الأجهزة والتليفونات المتواجدة معى تتصل بكل من قائد الفرقة وعمليات الفرقة وقائد اللواء ، كنت استمع لاتصالات قائد الكتيبة بقائد اللواء لأننا جميعا على شبكة واحده مع تواجد عنصر طبى معى “رقيب طبى” وحامل للقاذف الصاروخى المضاد للطيران المنخفض “ستريلا أو سام 7.

بلغ عدد المتواجدين معى عشرة من الجنود المثقفين المتعلمين كما يدير المقذوفات المضادة للدروع والمضادة للطائرات عدد من الضباط المهندسين أيضا ، تعدت الساعة الواحدة والنصف وانا فى حالة من اليقظة والانتباه وجنودى صامتين والحركة على جبهة القتال خاصة في موقعى تدفع على الرعب ، انه الانتظار القاتل ولا يريد عقرب الدقائق أن يتحرك ، كل فترة أشاهد ساعة يدى وأقول كل هذا فى ثلاث دقائق ؛ كان وقتا طويلاً علينا لقد كان الانتظار وما خلف الانتظار من أحداث وكل ينظر إلى الآخر ولسان حاله يتساءل: هل سيشاهد هذا الزميل مرة أخرى سواء نال هو الشهادة أو زميله؟ كان الجنود صامتون بل لا يتحركون وشعرت فى بعض الحالات أن بعض الجنود يرفع يديه تضرعا لله؟ ماذا يقول ويطلب من الخالق؟ لا أعلم واحتمال أنه يسأله النصر المبين واحتمال آخر بأن يساعده أثناء المعركة واحتمال ثالث بأن يحميه من نيران العدو ؛ كنا قد وصلنا إلى حالة من الروحانية العالية وقد أدى هذا إلى أن سرح البعض منا مع عائلته أو أحبائه وقد كنت منهم فلقد طار بى الفكر والخيال بعيدا ولم افكر فيه راغبا ؛ كنت أشعر فى بعض الأحوال بأن جسدى فارقته الأحاسيس والمشاعر وأصبح متبلداً ، لقد كان الموت قريباً منا بشكل ما ورائحته أقبلت من الشرق جهة الأعداء ، كنت أفكار كيف سأعبر بجنودى وبهذا العدد الكبير القناة بمفردنا دون قوات من حولنا؟ وكيف سأصل إلى المنطقة المحددة لى وطولها ما بين ستة إلى سبعة كيلومترات دون قوات مجاورة لى تساعدنى وقت الحاجة ، كيف سيحمل الجنود الإحتياط الذخائر والصواريخ لإيصالها إلينا والمعركة دائرة؟ المعركة سوف تكون بين المشاة العراة من أى درع حديدى وبين الدبابات والمدرعات الإسرائيلية ، كان الموقف عصيبا ولكن ما علىّ سوى التنفيذ فهناك القادة الكبار الذين يحسبون كل شيء ولديهم الخبرة والإمكانيات.

انظر إلى مياه القناة الرائعة والتى تخبرنا بأنه بعد دقائق سينقلب الحال بها وكأنها تطالبنا بأن نذهب لنستحم ونتمتع بها لا أن نعكرها بالقصف والدماء ، طار خيالى وانقلب اللون الفيروزى على الشاطىء الذى هو اخضر فاتح ، سكن تفكيري وكل ما انا فيه نظرات حالمة لمياه القناة وسعادة بالغة بذكرى الأحباء فى القاهرة والزقازيق ، هتف هاتف بداخلى ، لا تغضب أن الحرب قادمة وستعالج كل شىء وستبتعد عنهم إن آجلا أو…. افزعنى صوت الطائرات الهادر المفاجىء لنا جميعا وهتفت هذا هو “عاجلاً”.

وقفت ُمضطربا ؛ فقد كانت لحظة سكون وحلم وخيال لانتبه على هذا الصوت الجبار وانفجار الصواريخ والقنابل تتساقط امامى فى الشرق ، لقد عبرت الطائرات القناة من فوقنا مباشرة وهذه هى المرة الأولى التى نشاهد فيها قواتنا الجوية تعبر من فوقنا وتقصف العدو ؛ فدائما ما نشاهد طائرات العدو هى التى تقصف وتدمر وتقتل وطائراتنا عاجزة أن تفعل مثلها ، جاء اليوم ولنفعل بهم مثل ما فعلوا بنا طويلا ولا أعتقد أن ارتفاعها يزيد عن عشرين متراً ؛ كان واضحا الأرقام المكتوبة على بطن الطائرات ، انها الميج 21 .. هاجمت الطائرات أعماق سيناء ونحن نشاهد الانفجارات تتوالى وأعمدة الدخان تتصاعد دليلاً على إصابة الأهداف بدقة.

وقفت صائحاً: احملوا القوارب؛ كان ترتيب عبورنا يبدأ بعبور ثلاثة قوارب تحمل فصيلة مشاه بقيادة النقيب حسن وبعد وصولها للشاطىء الشرقى للقناة تتسلق الساتر الترابي وتحتله لتؤمن باقي القوة حتى نكون مؤمنين من تدخل القوات المعادية وتقضى على هذا العدد الضخم فى القناة ، أعيد الأمر .. ارفعوا القوارب .. حملوا القوارب بوهن أو ُقل أن أعصابهم وقواهم قد خارت ، لقد عذرتهم فما حدث فى الثوانى السابقة أربكنا جميعا وليس هذا خوفا أو جُبنا فمنذ ثلاث سنوات ونحن بدون قتال أو اشتباك ، حملت الفصيلة المحددة القوارب وانا أصرخ بهم ، تحركوا إلى الثغرات لعبور القناة ، شاهدتهم متحجرين مثل ما يشاهد الإنسان حماراً يستعصى على السير لعبور جدول مياه صغير حيث لا يعرف عمقه ولهذا يتردد ، أطلقت عدة دفعات من سلاحى قريبا منهم وقد أفاقهم هذا الصوت وتناثرت شظايا الرمال حولهم فاندفعوا وشعرت لحظتها بأنهم قد يعرقلون العبور والنقيب حسن متواجد معهم وانا اعلم مقدار تهوره أثناء ذلك.

بصوت آمر حاد : نقيب حسن ؛ سأعبر انا معهم وأنت تحضر مع باقى القوة أى بعد وصولنا إلى الشرق واحتلالنا الساتر الترابى ؛ تسلمت منه علم الجمهورية والذى زودتنا به قيادة الجيش لهذا الغرض ، الآن القوارب الثلاث فى المياه ويدفع كل قارب جندى ثم يقفز بداخله وانا أقف فى وسط أحد تلك القوارب ملوحا بعلم مصر أمام الجميع هادرا بصوت مرتفع ؛ والله زمان يا سلاحى ؛ أشير إلى جنودى هاتفين خلفى الله اكبر .. الله اكبر وابتعدت عن الضفة الغربية لقناة السويس وانا الذى شاهدتها منذ أكثر من ست سنوات فى آخر مرة ، شتان مابين التاريخين وأشاهد قواتنا الأخرى والتى ستعبر مع باقى القوات الساعة 1420 (أي الساعة الثانية والثلث بعد الظهر) أشاهد مركز ملاحظة قائد الكتيبة وهم يلوحون لنا مصفقين هاتفين الله اكبر وتبتعد الصورة أكثر فأكثر كلما اقتربت قواربنا من الضفة الشرقية للقناة.

القناة على الأجناب فارغة ليس بها قوارب سوانا ونحن الذين سنحصل على حموه الموس وقبل أن ابلغ الضفة الشرقية أشاهد باقى القوارب والقوة الرئيسية ومعهم حسن يحركون مجاديفهم سابحين خلفنا غير منفذين التعليمات كما أصدرتها لنا قيادة الفرقة وأصبحنا أكثر من ثلاثمائة ضابط وجندى بداخل المياه ولا توجد قوات خلفنا أوعن اليمين سوى موقع نمرة ستة والذى يبعد عشرة كيلومترات جنوبا فنحن بدون حماية ، دعوت الله ألا تكون وحدة من العدو متربصة بنا وتطلق نيرانها علينا فيقتل من يقتل ويغرق الباقى فى مياه القناة رغم أننا جميعا نرتدى جواكت النجاة.

الحمد لله ، قلتها حين وصلنا إلى الضفة الشرقية لقناة السويس ، هاهو الساتر الترابى أقف أسفله أشاهده مرتفعا بصورة لم أكن أتوقعها وأتذكر خطأ قرارى بأن طلبت من جنودى عدم حمل السلالم معهم من ضخامتها وإرباكها فى القوارب ، لقد اتخذت قرارا بأن يحمل جميع الجنود قواذف صاروخية للصواريخ المضادة للدبابات أكثر من المعتاد وقواذف إل ر ب ج بحيث تضاعفت معى كمية الذخيرة ، فأنا لا أضمن الجنود الاحتياط ؛ لقد أصبت بصدمة منهم عام 1967 وظلت تلك الصدمة معى كما أننى لا أثق فى أى إنسان أثناء المعركة بأن يمدنى بالذخيرة ، لقد عاهدت نفسى بأن أوفر لقواتى شيئين فى منتهى الأهمية أثناء المعركة ، الذخيرة والمياه وهما العقدتان اللتان ظلتا معى منذ حرب عام 1967 ، كان الجنود يحملون أوزانا تزيد عن خمسة وعشرين كيلو جرام وهى أوزان مرهقة لهم سواء لصعود الساتر الترابى دون سلالم أو السير لتلك المسافة سبعة كيلومترات حتى الوصول للهدف لكن ما باليد حيلة ، وكما يقول الناس اللى حسبته لقيته.

وقفت على السياج الحجرى المبطن للقناة افكر: هل من المعقول أن ننتظر عالقين هكذا ونرسل فى إحضار السلالم ، ستكون كارثة وسوف نتأخر وما العمل والمطلوب منا أن نتجه بسرعة لاحتلال مواقعنا وتجهيزها قبل أن تصل قوات العدو وتقابلنا ونحن سائرون وتقضى علينا برشاشاتها.

إذن فلا مجال ولا جدال إلا أن نصعد هذا المرتفع ، بسرعة تسلقته بين تكبيرات الجنود الذين يجدون خلفى ، وقفت اعلي الساتر ملوحا لقواتى بداخل الماء بعلم مصر الذى ألهب مشاعرهم ودفع بقواهم لأعلي درجاتها وهم فى منتصف القناة وهاهم يشاهدون قائدهم الرائد أسامة يقف فى الجهة الأخرى غير هياب ولا خائف ولم يحدث له مكروه فزادهم هذا اشتعالا وحماسا لكنى كنت لا احمل أثقالا كما تحملها القوة الرئيسية القادمة ، وقفت لأنظر ماذا هم فاعلون طالبا من الله العون والنجدة فى تلك المحنة التى خاننى فيها تقديرى لارتفاع الساتر الترابى مؤنبا نفسى بأنه كان يجب علىّ تنفيذ التعليمات ؛ فهم أعلم منى بهذا الارتفاع ولماذا احضروا السلالم إذن؟ كل قارب به سلم ، اثنان وعشرون قاربا بإثنان وعشرون سلما تركتهم الجهة الأخرى ، لقد كان تصرفا أحمق وخطأ فى حق قواتى وحق بلدى ، لم يمهلنى جنودى وانا اشاهدهم يتسلقون الساتر بمدافع الهاون ، كتلة واحدة ؛ أى والله ؛ المدفع الذى يحمله ثلاثة أفراد لكل فرد جزء يحمله الآن فرد واحد صاعداً به ارتفاع أكثر من عشرين مترا بزاوية صعود 60 درجة.

توالى صعود رجالى ؛ هاهو المدافع ب 10 ثم تليها المدافع الأثقل ب11 وانا انظر الجهة الأخرى بعيداً عنهم حتى لا أشاهد الجندى وزميله يحملون المدفع ويسقط بهم فى القناة ، وصل أحدهم بجوارى ولم اصدق أن المدفع الذى تجره سيارة لورى قد وصل بجوارى ولم املك سوى تقبيلهم لهذا المجهود وهم غير عابئين وكأن صحتهم حديد ولا نهجان ولا رهقان “قوة من عند الله” اكتمل عددنا فوق الساتر الترابى.

استعدوا كما سبق فى التدريب السابق ، توزعوا فصائل ووحدات ؛ هاهم أول من سيعمل ، المهندسون العسكريون الذين يقومون بتلغيم مرابض “حفر” دبابات الجيش الاسرائيلى خلف الساتر الترابى الذى تسلقناه منذ دقائق حتى إذا وصلت اى دبابة معادية تنفجر ولا تستطيع الاختباء وتكون هدفا سهلا لقواتنا.

أشاهد الرقيب مؤهلات عليا / محمد فتحى منصور رقيب الفصيلة الثامنة بالسرية والذى كان يعانى من مغص كلوى منذ الأمس وتوجه لطبيب الوحدة ولكنه عاد فى الصباح عندما بلغه خبر وصول القوارب ، أشاهده ممسكا بحفنة من رمال سيناء وبضحكته البريئة يحدث الرمال قائلا ” يخرب عقلك .. هوستينا .. نفسنا فيك مووت .. لكن متزعليش إحنا جينا لكِ .. اصرخ به: لا وقت للغرام مع الرمال!! .. ينظر إلىّ ونحن مازلنا سائرين لهدفنا وبنفس الابتسامة ثم يرفع يده لأعلى مخاطبا رب العزة قائلاً: خلاص يارب ؛ انا مش عايز من الدنيا حاجه ؛ لو مت دلوقتى حاكون مبسوط انى شفت ولمست أجمل حاجه فى حياتى .. أعيد تحذيري ثانية .. جرى إيه يا شاويش .. شوف شغلك .. يقبل على مسرعاً وقليل من الرمل بيده ويضع أصبعه فى فمه ويتذوق الرمل قائلاً: سكر والله يا فندم .. تركته على حاله لا تابع عملى ، شاهدت العديد من الجنود ينحنى الواحد منهم ويكبش بيده حفنة من الرمال ويضعها فى جيبه وهو يتلفت يمينا ويساراً كأنه يسرق شيء عزيز ، كانت المشاعر صادقة والروح عالية.

مازلنا نواصل التقدم فى اتجاه التبة الموعودة تبة الكــنتور المجاورة لمنطقة بير أبو عريضة ، أشاهدها تقترب منا أو نحن نقترب منها ، هى هدفنا ، ما زلنا نتقدم وبدا يحدث رد فعل من العدو بقصفات مدفعية على الساتر الذى كنا فوقه منذ دقائق ، لم نبالى وكأن شجاعة الدنيا بين أيدينا وانقلب حال التوتر الذى صاحب هجوم الطائرات إلى شجاعة وبسالة خاصة ما شاهده الآخرون من شجاعة وإقدام فى حمل الأسلحة والذخائر والصواريخ أثناء صعود الساتر ، أشرت إلى الفصيلة الأولى بأن تحتل موقعها القريب من قناة السويس وبالتالى تركوا تشكيل الهجوم لتنفيذ الأمر ، بعد نصف كيلومتر تقريبا أشرت إلى الضابط مهندس محمود المسئول عن القواذف الصاروخية المضادة للدبابات بان يترك بهذا المكان طاقم صواريخ “لوحة توجيه إليكترونى + أربعة قواذف صاروخية + 16 صاروخ إحتياط” ، أشرت إلى قائد الفصيلة الثانية بأن يحتل موقعا دفاعيا فى المنطقة التى كنا بها وهى تبعد أربعة كيلومتر عن قناة السويس ، توجه الضابط مع جنوده للتنفيذ بعدها بنصف كيلو أشرت إلى ضابط الصواريخ المضادة للدبابات بأن يترك طاقم صواريخ مثل السابق ، توجه للتنفيذ ، بعد مسافة كيلو ونصف الكيلومتر أشرت لقائد الفصيلة الثالثة باحتلال موقع دفاعى وتخير أماكن جنوده للضرب الجيد ثم أشرت إلى قائد فصيلة الصواريخ بترك الطاقم الأخير بهذه المنطقة وعليه ألا يقذف الدبابات المعادية بالصواريخ إلا بعد أن يشاهد أول دبابة تسير كطابور قد دمرت وهى قريبة من قناة السويس ، حددت مكان مركز قيادتى وقام عمال الإشارة سواء أجهزة تليفونية أو خطوط تليفون ميدانى بأعمالهم ، توجهت للخلف نصف كيلو وحددت لقائد سرية الهاون موقعه ثم طلبت من قائد سرية المدافع المضادة للدبابات أل ب10 وأل ب11 تحديد أماكن المدافع.

مازلنا نتقدم دون اى مجهود ، فكرت فى تلك السيمفونية الجميلة وكل يعزف واجبه ، لم يحدث صراخ ولا سباب للمخطئين ُموقنا بأن التدريب الجيد الذى تدربوا عليه منذ فترة وما يمتازون به من هدوء الأعصاب وما يمتلكونه من نواصى الأمور بأيديهم.

الحمد لله ، وصلنا التبة المحددة وبدأ كل فرد فى إعداد حفرة يختبئ فيها عن النيران المباشرة خاصة الرشاش النصف بوصة الموجود ببرج الدبابة الإسرائيلية فهو خطير وهالك للأفراد ، استعد الجميع للحفر والكل اتخذ موقعه كما تدرب سابقا.

كانت تعليماتى لقواتى بعدم فتح النيران على قوات العدو إلا بعد أن يشاهد المراقبون فى كل فصيلة تدمير الدبابة التى فى أول القول لأنهم لا يستطيعون التوجه إلى شاطيء القناة إلا بقول “طابور” لأن يمين التشكيل ملاحات لا تستطيع الدبابات أو ناقلات الجند المدرعة للمشاة السير بها فسوف تغرس الجنازير بها أما على جانبهم الأيسر فنحن محتلون أماكننا ولهذا لم يعد أمامهم سبيل لنجدة نقاطهم الحصينة إلا السير بهذا الوضع قول أو رتل مركبة خلف الأخرى ولا يستطيعون فتح تشكيلهم كما هو معروف فى تلك الأحوال ، كما أن فتح النيران مجرد اقترابهم سيحرم باقى الأسلحة المضادة للدبابات من استخدامها وخاصة المدفع “إل ر ب ج” ومدافع أل ب 10 وال ب 11 .. نظرا لقصر مدى مقذوفاتها ، كنت قد رتبت قواتى على هذا الأساس كما وضعت فى الجانب الأيسر لقواتى القريب من القناة لوحة الكترونية لتوجيه الصواريخ وبها أربعة قواذف مضادة للدروع وبجانبها القواذف الصغيرة ولنبدأ بالأصغر مسافة والتي لا تتعدى ثلاثمائة متر.

ابلغني قائد الفرقة بأن الاحتياطي المدرع الاسرائيلى تحرك فى اتجاهنا مؤكدا على حديثى السابق معه  “أسامة لا اقل من تدمير نصفهم على الأقل حتى تؤمن قواتنا شرهم أثناء العبور” أجيبه: حاضر يا فندم ؛ نقترب من المعركة التى قال عنها الوزير امامى .. فؤاد “يقصد العميد فؤاد قائد الفرقة التى انا أحد ضباطها” هكذا تضع لحم أمام الحديد ، بأقصى سرعة تقترب الوحدات المدرعة الإسرائيلية “الحــديد” غير عابئة بقواتى “اللــحم” إما انها لا ترانا أو أنها تستهين بالمشاة وكل ما فعلته أن أطلقت رشاشتها للتفتيش والإزعاج حتى تصل إلى النقاط القوية التى تحاول قواتنا احتلالها وانا استمع إلى نداءات القادة يبلغون قيادة الفرقة بالمعارك الطاحنة التى تدور فوق وأسفل النقاط القوية والبعض وصل إلى داخل النقاط القوية ومازالت مدفعيتنا تزمجر قاصفة أهدافا هنا وأهدافا هناك ، الطائرات الإسرائيلية هى الأخرى أشاهد بعضها يهوى فوق مياه القناة أو على أحد الأجناب واصبحت السماء تكسوها الدخان والانفجارات تصم الآذان كما تقوم قواتنا الجوية بمعارك وعمليات هجوم على قوات العدو تاركة السماء لقوات الدفاع الجوى.

عبرت الدبابات الإسرائيلية من امامى وعامل اللاسلكي يبلغ القيادات المختلفة على كل صغيرة وكبيرة ويأتى إلى صوت قائد الفرقة صارخا ؛ لماذا لم تشتبك حتى الآن؟ سيفلتون منك ولحظتها تنفجر أول دبابة للعدو وتتوقف الدبابات خلفها فلقد اغلق عليهم الطريق ، الدبابة التالية تحاول فتح الطريق بإزاحة الدبابة المشتعلة والتى دمرتها النيران سواء من القاذف أو من الانفجارات الداخلية لانفجار ذخيرتها ونشاهد الدبابة الأخيرة تنفجر.

هكذا تم حجز الدبابات والعربات المدرعة بداخل تلك المصيدة لقواتى ونجحت خطتى لجنودى والتى نفذوها ببراعة وانهالت القذائف عليهم ؛ حاولوا الإفلات منها بأى طريقة مما دفع بإحدى الدبابات الإسرائيلية للسير جانبا فغرزت فى الملاحات ، حاولت الخروج وكل مرة تحاول الخروج يزداد غرسها فتركها جنودها هربا للحاق بأى دبابة أخرى أو عربة مدرعة ، لقد كانت رشاشاتنا وبنادق المشاة لهم فأردتهم قتلى فى الحال ، اعتقد أن كل جندى منهم حصل على اكبر كمية من الرصاصات القاتلة ؛ بمدفع احدى الدبابات فتحوا ثغرة بقصف دباباتهم الأخيرة ولكن تلك الدبابة أصابها صاروخ آخر ودمرت فى الحال والانفجارات متتالية ومازالت تنفجر وعربة مدرعة يطالها القذف فتنفجر وتندفع منها الأجساد مشتعلة والبعض لم يمكنه الخروج والذى خرج وجد الأسلحة الصغيرة فى انتظاره  فيقتل فورا ، لم نُعد مكانا للجرحى أو الأسرى ، مهمتنا القتل فقط ، القتل فليس أمامنا وقت لجرحى أو أسرى ، ليست هذه مهمتنا إننا فى مهمة خاصة وهى التدمير لأكبر عدد من الدبابات.

حتي الآن تم تدمير ثلاث دبابات وعربتان مدرعتان ، لم أتدخل فى سير المعركة فكل المقاتلين يعلمون الواجب الملقي علي عاتقهم  وليسوا بانتظار تعليمات جديدة فكل شىء يسير حسب التعليمات والتدريب وحسب الموقف أمامهم ، أصبحت المعركة مفتوحة وكل من يجد الهدف فى مرمى سلاحه يقذفه فورا ، الوحدات المدرعة للعدو تعود للخلف بعد أن دمرت عربتان مدرعتان أخريان وفى نهاية انسحابهم دمرت دبابة فأصبح العدد رباعيا أربع دبابات وأربع عربات مدرعة ودبابة خارج العمل فى الملاحات.

اقترب من تحقيق الهدف الـ50% الذى وعدت به قائد الفرقة ؛ الساعة تقترب من الرابعة مساء ، أغارات علينا بعض الطائرات المنخفضة ولكن أحد صواريخ الكتف ” سام 7 ” للدفاع الجوى أصابت إحداها سقطت قريبة منا وقد لفحت الانفجارات والشظايا وجوهنا ، ابتعد الإسرائيليين ؛ هكذا مضى من الوقت الساعتين وأبطال تدمير النقاط القوية يحاولون بكل جهد جهيد تدمير اكبر عدد منهم وتلتقط قواتنا مكالمات الإسرائيليين اللاسلكية ويذيعها قائد الفرقة فى إرسال شبكته وجنود العدو في حالة من الصرع صارخين يستغيثون والرجل يعلق ؛ همتك معانا يا أسامه يا بطل أنت ورجالتك الجدعان ، اسمع نداء قائد اللواء برافو عليك يا بطل الله اكبر، يردد البعض من حوله النداء عدة مرات الله اكبر.

قصف شديد من مدفعية العدو على قواتى وبدأت الصرخات تسمع فى موقعى وآهات وآلام من المصابين والشهداء وقادة الوحدات يبلغونى بعدد من الشهداء وتوالى سقوط الضحايا وانا مازلت فى موقعى لا استطيع التحرك فنيران المدفعية شديدة وتركز بقصفنا بغلالات ثابتة وبطريقة الأرض المحروقة اى قتل كل شىء فى المنطقة ومالها من كثافة نيرانية واسمع قائد اللواء يستغيث بقائد الفرقة بفتح نيران المدفعية والرجل يطلب منه التمهل لان المدفعية ُتقصف الآن بطائرات العدو وانا أشاهد من موقعى استمرار تساقط  طائراتهم.

أربعون دقيقة كنت ألاحظ دانات المدفعية تنفجر تباعا حتى وصلت المسافات بين كل دانة وأخرى خمسة أمتار تقريبا وهذا يؤدى الى الهلاك ، الدانه التى تنفجر تحدث شظايا على خمسة عشر مترا على الأقل فى جميع الجهات كما أن بعض الدانات تسقط على الجندى مباشرة فتقذف به خارج حفرته صارخا وقد تمزق جسده إلى أشلاء ؛ عمت الموقع رائحة الموت ورائحة شواء الأجساد المحترقة والمتفحمة ومازال قائد اللواء يحاور قائد الفرقة ولكن كان هناك شيء ما قلل من تأثير مدفعيتنا على مدفعية العدو وزادت وحدات الدفاع الجوى من صواريخها وقد أدى هذا إلى انفراج للمدفعية وقذفت مدفعية العدو التى هدأت من قذفها علينا كما قذفت طوابير دباباتهم خاصة بعد أن وصلت بعض المعلومات بسقوط نقطتين من نقاط العدو فى ايدى قواتنا فحدث لهم هلع من جراء ذلك حيث أن النقاط متخمة بالجنود والأسلحة وسقوط نقطة يؤدى إلى انفراط عقد دفاعهم على القناة ويسهل سقوط الباقى وهذا أدى إلى ازدياد مشاعر الجنود للبسالة ، قائد الفرقة ورئيس عملياته يبلغوننى بأن الاحتياطي المدرع عاد مرة أخرى استعد له وقد تدعم بكتيبة دبابات “31 دبابة” عوضا عما خسره.

فى الهجوم التالى لم يتخذوا طريق المحور الشمالى المرصوف ولكنهم اتبعوا تكتيكا آخر وهو التسلل إلينا من بين الرمال التى نحتل فوقها ، أى من الحد الأيمن الذى يفصل الفرقة 18 والفرقة الثانية وهذا الفاصل يبلغ اتساعه عشرة كيلومترات ولا توجد به قوات ، أصبحت فريسة سهلة لهم فلا عون ولا جوار قريباً منى يساعدنى فى تلك الهجمات المتتالية ، غيرنا وأبدلنا اتجاه أسلحتنا فى اتجاههم وكان هجومهم على هيئة قوس مع نيران كثيفة تسبقهم وحدث ما حذر منه الوزير معركة اللحم مع الحديد خاصة لقرب نفاذ الذخيرة والصواريخ فجنود الاحتياط المكلفين بحمل الذخيرة لنا وأثناء سيرهم للمرة الأولى مجرد أن شاهدوا الدبابات قادمة القوا بما فى أيديهم وأسرعوا بالفرار عابرين القناة الى الجهة الغربية فأردتهم قوات الشرطة العسكرية قتلا برشاشاتهم ، هكذا حُرمنا من إمداد الذخيرة وأصبح الحصار خانقاً علينا خاصة دون ذخيرة وزيادة قوات العدو وما أصابنا من خسائر من قصف المدفعية المركز.

تدمرت دبابتين للعدو وأسرعت بعض الدبابات فى اتجاه القناة مع ترك فصيلة مشاه ميكانيكية ، شاهدتهم قادمين فى اتجاهي من جهة القناة أى الجهة العكسية وترجل عشرة منهم ومع أحدهم ميكرفون صغير متحدثاً: “قائد مصرى سلم نفسك فورا”. جنود الاتصالات يبلغون قيادة اللواء وقيادة الفرقة بالموقف واسمع قائد الفرقة صارخاً بى إذا أمكنك سحب قواتك فافعل ، أحدثه والجنود اليهود قادمين فى اتجاهى لأسرى لا يمكن هذا ، مجرد ترك الجنود لحفرهم سيهلك أكثر من نصفهم كما لن استطيع السيطرة عليهم ونعود لكارثة 67 يعيد قولة أمن الجنود البعض ينسحب والبعض الآخر يحميهم.

أصدرت أمرا إلى اقرب فصيلة لى بأخذ وثبة للخلف ولكن اليهود كانوا يتصنتون على الشبكة وتندفع الرشاشات النصف بوصة تحصد في جنودي فينكفئ الجميع أرضا البعض منهم هربا من النيران والآخرين لاستشهادهم ، ألغيت أمر قائد الفرقة الذى مازال صارخا بى لعدم تنفيذ الأمر وانا أحدثه انه من الصعوبة تنفيذ هذا وسوف يؤدى إلى هلاك الجنود واخبره باستشهاد سبعة جنود من اثني وعشرين كانوا يستعدون لذلك ، يطلب منى التمسك بموقعى ويخبر هيئة قيادته باننى ادري منهم بالموقف ، يعيد قائد اللواء صراخه واستغاثته بقائد الفرقة: يافندم “المفرزة “هالكة أرجوك إعمل علي إنقاذهم.

هذه هى الإجابة من قائد الفرقة وانا اسمعها على جهاز اللاسلكى ؛ يا أحمد يا عبده “قائد اللواء”. لقد نفذ الرجال ما أردته منهم بالضبط لقد تدمر نصف قوة العدو ومكثوا أكثر من ثلاث ساعات ، يسأله ماذا يعنى هذا؟ فيخبره سنحاول إنقاذهم ، خلينا نشوف الأهداف المتبقية والهامة ونشوف النقطة 51 اللى خلف أسامه لسه بتقاوم وانا خايف يفضلوا كده وخصوصا أن أسامه مش حنكلفه بحاجه ، خلاص زى ما قلت لك ؛ حنحاول المساعدة ، انتهى.

أغلق الاتصال مع قائد اللواء والرجل يشد من أزرى بأن أعمل علي تقليل الخسائر بقدر الامكان وانه سوف يدفع بسرية الخدمة لمساعدتى ، آه ؛ سرية الخدمة ستدفع لمساعدتى ؛ هؤلاء الجنود التعساء الذين يعملون فى الخدمة بقيادة اللواء كمراسلة سيحضرون هنا لتزداد الخسائر البشرية ، لم أشاهد من أطلق قذيفة”الـ ر ب ج” على احدى العربات المدرعة التى جاءت لأسرى فانفجرت والصراخ تعالى منها والدخان يغطيها ولم يخرج منها سوى فرد واحد اشتعلت به النيران فحصل على نصيبه من نيران الأسلحة الصغيرة ، لحظتها انكفأ الجنود الإسرائيليون المترجلون أرضا واحتموا بها والمسافة قليلة بيننا لا تتعدى ثلاثمائة متر.

اشاهدهم ويشاهدوننى بوضوح وقد أصبحت المسافة بيننا لا تتعدى الآن المائة متر ولكنهم يجدون فى أسرى ، أطلقت عليهم نيران سلاحى الشخصى وطلبت من الجنود الإشارة فعل ذلك فتركوا أجهزة الاتصالات لندافع عن أنفسنا بنيران أسلحتنا ضدهم ، شاهدت طاقم مدفع ماكينة يجره طاقمه المكون من ثلاثة أفراد قادما فى اتجاهي مسرعا ونيران العربة المدرعة الأخرى توجه لهم مدفعها الرشاش بدفعات فيتساقطون تباعا ولكن تبقى احدهم وانا صارخا فيه ، احتمى بالأرض ، بلاش تجرى ولكنه كان يرى ويشاهد نفسه فى الجنة ، لم ولن أرى مشهدا مثل هذا فى حياتى ، الشاب احمد همام أبن العشرين عاما والذي ألتحق بالقوات المسلحة بعد أن جند منذ ستة أشهر وحيد والديه على أربع بنات يجرى بمفرده ومعه المدفع خلفه وأشاهده وهو ينفض عن جسده الطلقات التى تخترقه وهى من النوع الكاشف لاننى كنت أشاهد الضؤ الفوسفورى المشتعل بجسده وافروله ثم انكفأ خلف مدفعه موجها جهة الجنود الإسرائيليين الذين نهضوا متقدمين فى اتجاهى ، لقد كانوا مصممين على أسرى بأى وسيلة ، ضغط على عتلة الضرب ليفرغ مائة طلقة بهم فيقضى على ثمانية منهم وهم يصرخون بهستيرية وتتكالب قوات العدو على الموقع وانا متأكد انها دقائق أو ثوان ونصبح هالكين فقد أصبحت المعركة كسر عظام بيننا وبينهم خاصة أنهم فشلوا فى الوصول إلى النقاط القوية والتى سقط أكثرها والإصابات بينهم كثيرة ومفجعة غير الأسرى والجرحى وإنصب حقدهم عليّ وعلي قواتي هؤلاء هم السبب وهم يريدون هذا القائد لأسره وإذلاله.

هؤلاء هم الأبطال الحقيقيين ، سلاح المهندسين الذى لغم مرابض الدبابات وأدى هذا الى خسائر جسيمة بينهم ثم قادوا عملية التصويب بالصواريخ المضادة للدبابات والتى كانت تساعدنى بعضا من وحداتهم انه العلم الحديث فى مجال الصواريخ.

*****

طلبت من الجنود الذين معى بمركز الملاحظة الحفر أكثر فقد ظهرت شراسة العدو وبأن تلك الوحدة تسببت فى ضياع النقاط الحصينة لهم وكبدتهم خسائر فادحة ولهذا أرادوا الانتقام ، كان هذا واضحا من تكالب الأسلحة ضدنا سواء المدفعية أو الطيران أو المدرعات ؛ ظهر هذا جليا لمحاولة أسرى وما يمثله هذا من نصر معنوى بأسر رتبة كبيرة مثلى فى الخطوط الأمامية وحصولهم على معلومات ، كان هذا اعتقادهم ، فشلت عملية الأسر بسبب شجاعة احد رجالي وهو الشهيد احمد همام.

بحق هذا الشهر الفضيل ” رمضان” سمعت كبسولة خروج مقذوف من دبابة وقلت لجنودى بمركز الملاحظة ارقدوا انها لنا ، لم أكمل بعد ، سمعت انفجار شديد وطقطقة فى الخوزة التي علي رأسي ودماء غزيرة مندفعة منها ، أيقنت اننى أصبت واننى الآن سوف أصبح شهيداً وانا اسمع أنات حولى وآهات وصراخ وتذكرت أشياء ثلاثة وهى:

تلاوة الشهادة وتلوتها فى سرى ولم اسمع صوتى ، الثانية ماذا سيحدث لأبى وأمى عندما يبلغهم نبأ استشهادي؟ والثالثة انه يوم ميلادى 6/10/1944 لقد أتممت تسعة وعشرون عاما ؛ بدأت الاصوات تخفت من حولى ولكنى سمعت وشعرت بأحد جنودى يدفعنى ويهزنى بقوة قائلا (قوم يافندم الدبابة جايه علينا حيفعصو …… آه) وسمعت طرقعة وطقطقة مثل أصوات بطيخ يسقط على البلاط ويحدث صوتا ويتهشم وشىء ثقيل الوزن على جسدى وكل ما حدث اننى سمعت نفسى أتأوه.

قبل حدوث هذا كانت الساعة قد جاوزت السادسة ، اعتقد أن الإصابة كانت مابين السادسة والنصف والسابعة مساء ، اسمع أصوات جنازير الدبابات فى موقعى ومازالت أصوات الصواريخ والأسلحة المضادة للدبابات اسمعها ولكنها اختفت ولم يكن شىء يعمل فى جسدى بعد التنفس سوى سمعى.

غبت عن الوعى ولم اشعر بشيء حتى السمع انتهى ولا اعلم المدة التى قضيتها هكذا وانا على هذا الحال ولا اعلم هل انا راقدا على احد أجنابى أو مدفون بوجهى فى الرمال لكننى شاهدت حلما أو قل رؤيا لان البعض يقول ان الحلم من عمل الشيطان. اى المسميات لا يهم ولكن سوف أروى ما شاهدته بعد أن أعاد الله إلى الحياة وحرمنى من أن أكون بجواره مع من سبقونى فى تلك اللحظات الإيمانية والإنسانية الرائعة.

أقف فى موقعى هذا وانا انظر إلى اعلي جهة السماء وأشاهد كائنات تلوح بأجنحة شفافة وليس جناحين ؛ عدة أجنحة وجوههم غير واضحة ؛ كما أن أجسادهم غير محددة ؛ يدورون فى موقعى والذى مازلت به أحارب العدو ولا اسمع أصوات انفجارات أو دخان القذائف ولكنى أشاهد شيئا دائريا مثل الاسطوانة الشفافة وعلى هيئة فقاعة الصابون اللامعة الخفيفة الشفافة وأشاهد وجه ؛ أتساءل : من هذا؟ إنه أحمد سباق عامل الإشارة ، أنادى عليه: إلى أين أحمد؟ ُعد ؛ ثم فقاعة أخرى ، هذا هو العريف محسن عامل الخطوط الذى معى أيضا فى مركز الملاحظة ؛ محسن ، أشير إليه الى أين أنت يا أمباشى الى أين تتجه وتتركنى؟  ُعد ؛ لا يعود ثم حامل الرشاش المتوسط والذى ألهبته نيران الرشاش النصف بوصة ، احمد همام ُعد ؛ إلى أين؟ ُعد لماذا تتركونى بمفردى؟ توالت الوجوه الهلامية الشفافة يحيط بها هذا الشكل الدائرى وعلى جانبى تلك الاسطوانة شيء مثل الجناحين اكبر من الأذن قليلاً مرفرفة وكلها وجوه بيضاء ناصعة فرحة وانا مازلت واقفا فى مكانى وكل دقيقة أو اقل ترتفع مثل تلك الوجوه اعرفها جميعا فهم كانوا معى فى مركز الملاحظة وانا مندهش لهؤلاء الجنود الذين تركونى وانا على هذا الحال وتلف الدائرة حولى بتلك الأشباه التى لها أجنحة كثيرة شفافة وبداخل تلك الدائرة تلك الوجوه حتى اكتمل عددهم العشرة وهنا وقفت صامتا ثم صارخا والله حرام تتركونى بمفردى بين هؤلاء الشياطين؟ لا أريد ان أبقى خذونى معكم ؛ وإذا بشخص خلفى يمسك كتفى برفق قائلاً: لا تحزن ؛ إن الله معك ؛ لم يحن موعدك ؛ اهدأ يا بنى ، انا وهؤلاء معك ، انظر إلى الخلف لأشاهد كوكبة من البشر وما هم ببشر ولكن هيئتهم تدل على ذلك أناس أو أشباه الناس كثيرة العدد بملابس بيضاء واغطية بيضاء على رؤوسهم ، آه انتم معى؟ يبتسم لى هذا الشكل ويجيبنى آه نحن معك لا بل نحن معكم جميعا ؛ ان الله لا ينسى عباده المؤمنين ؛ اشعر بفرحة ، لقد عوضنى الله عن هؤلاء الشـهداء ثم مازالت الدائرة تلف حولنا وينضم إليها آخرين ، آه ؛ انه مصطفى أبو عيده أحسن رامى “ر ب ج” فى اللواء والذى دمر بمفردة دبابتين وعربة مدرعة بمن فيها ، هذا هو الرقيب محمد فتحى رقيب الفصيلة الثانية وهذا مصطفى ابوجبل رقيب الفصيلة الثالثة. وآخر من هو؟ انه الرقيب عبد الحى رقيب الفصيلة الأولى ، لقد استشهد الثلاث رقباء فصائل عندى بالسرية ؛ أشاهد آخر من هو انه النقيب حسن ابراهيم قائد ثان السرية ، إلى أين يا حسن تتركنى هنا ، ُعد يا حسن سوف يسأل عنك قائد الكتيبة ، يعود إلى هذا الشخص الذى حدثنى قبل ذلك مرة ثانية قائلاً: لا تقل لهم عودوا ؛ هم لن يعودوا ، لقد سبقوك ونالوا ما يتمناه اى إنسان منكم يريد هذا الشرف الرفيع ، أنهم شهداء ولكن كما تراهم أحياء عند ربهم يرزقون!! نظرت إليه قائلا: شهداء!! ُدهشت وهنا اسمع نوعا من الزغاريد مثل الزغاريد الشامية أو السورية والتي أضفت على شعورى بالبهجة والراحة ثم داروا ثلاث دورات سريعة ومعهم العديد من الذين عبروا معى وطاروا إلى اعلي وانا أقف انظر إليهم أتابع طيرانهم إلى أن غابوا عنى.

سقطت على الأرض وانا اسقط هكذا إذ أشاهد هؤلاء القوم وهم يقاتلون ، لا استطيع أن اجزم ولكن هذا ما شاهدته أثناء سقطتى أرضا واسمع أنات اليهود وصراخهم وما هو معروف عنهم لحظة الخطرأاو الموت ورحت فى ظلام دامس.

فجأة شعرت بأن شيئا شديداً يؤلمنى ؛ أفقت فجأة فإذ بنيران شديدة اشد قسوة من نيران لحام الأكسجين واشد قوة واكبر مساحة واندفاعا وانا فى تلك اللحظة الفجائية وضعت يدى على وجهى وشعرت بشىء قاس شديد لا استطيع وصفه ولكننى اشتممت رائحة شواء لحم يكاد أن يحترق على النيران ؛ انقلبت رأسا على عقب من فوق التبة والنيران مازالت مشتعلة فى ظهرى ويداى مثل قطعة من البلاستيك وتدحرجت حتى استقر جسدى بعد أن اندفعت من فوق تلك التبة حوالى خمسين مترا وانا الآن نائم على جانبى الأيسر أشاهد ما حولى واسمع أصوات الانفجارات ورائحة شواء اللحم التى تزكم الأنوف كما كان المكان معبئا برائحة الدماء التى ُيشمها اى إنسان أثناء تواجده فى السلخانة أو عند الجزار بعد أن احضروا له عدة ذبائح من المجزر؛ رائحة تملأ المكان.

غابت الشمس فى السماء عن هذا اليوم الدامى الذى ُفقد فيه الآلاف من أبناء وشباب مصر حياتهم أو أعضاء  من أجسادهم وانا على هذا الحال ولا اعلم أين انا وماذا حدث وبدافع من الحياة جلست أتحسس جسدى واطمئن على اعضائى ، ايوه هذه قدم وتلك ذراعى وهاهى أنفى واذنى ولكن الرؤيا بسيطة ، حدث انفجار. آه لقد رأيت ، انه الليل والظلام ولا أرى إلا وميض وانفجارات ومازال الضوء الذى يتبع غروب الشمس واستطيع ان أميز منه موقعى وأشاهد ما يجرى حولى ، أشاهد دبابة إسرائيلية قادمة فى اتجاهى وانا عاجز هكذا وليس حولى احد واقتربت مني وكأنها ترغب فى دهسى ولهذا لم تفتح نيرانها علىّ وكشافها القوى مسلط الضوء فى وجهى ، انها إرادة الله حيث قصفها صاروخ مضاد للدبابات قريبا منى ، انفجرت الدبابة وطار برجها فى الهواء والنيران مشتعلة بها وتوقفت عن السير ثم توالت الانفجارات بداخلها وقذف الانفجار بأحدهم ليسقط امامى مباشرة مشتعلة به النيران صارخا طالبا مني النجدة ، أحاول مساعدته وانا جالس هكذا بأن اقذف عليه ببعض الرمال ولكن النيران كانت اشد قسوة وأسرع لهيبا وتأثيرا وانا أشاهده يصرخ صرخة قوية لافظا أنفاسه ومازال يحترق امامى بعد أن فقد حياته.

انظر إليه على ضوء اللهب المتصاعد منه ومن الدبابة ، انه ميجور ، اى رائد بالجيش الاسرائيلى ، لقد تقابل القائدان المصري الاسرائيلى وجها لوجه فى نهاية المعركة ، انا مصاب برأسي والحروق بينما هو فارق الحياة ، انظر إليه صارخاً: ليه عملتم فينا كده؟ ليه دبحتونا فى سينا ودهستم رجلتنا ومش رحمتوهم وهما راجعين بعد هزيمتنا؟ ليه؟ حرام والله حرام ، ناس قاعده فى المكاتب وتبعتكم وتبعتنا نموت بعضنا ، حرام .. حرام .. أسرع لى شخص لم أتبين من هو يحدثني متسائلاً: مين اللى بيصرخ؟ ثم اتجه إلى وجهى صارخا ..  آه .. مين سيادة الرائد .. مش قادر أشوفك .. ياه .. إيه ده .. خد ُحط الرباط الميدانى على الجرح .. ياه ؛ أنت يا فندم الدم نازل من راسك زى الحنفية ، تسائلت: مين؟ الواد مسُعد؟ اجابنى ايوه يا فندم إيه اللى حصل ده؟ سألته فين مركز الملاحظة؟ ودينى مركز الملاحظة ، صرخ فى قائلاً: مركز ملاحظة إيه؟ روح أتهبب عليك وعلى مركز الملاحظة ؛ أنت حتموت قبل ما توصل مركز الملاحظة.

تراجع الجندى بعد اندفاعه فى الحديث معى قائلاً: أفندم. سيبنى انا عايز أروح أشوف الناس اللى بتتألم ، أمد يدى خلف ظهرى فامسك بحذاء فاجذبه فيقول لى بتعمل إيه؟ ولكننى لم اجبه فكنت فى حالة ضيق منه وقد أنذرته مكتب ، صرخ مكتب .. طيب أجيلك فين ان نشاء الله؟ صمت فقد هزلت فإن رقيب طبى السرية يتهكم على شخصى ، اجذب الحذاء لأشاهد ساقا ونصف فخذ تركته خائفا وجلا سألته من هذا فأخبرني بأنه للضابط المهندس المسئول عن القذائف الصاروخية المضادة للدبابات ، انه للشهيد محمود ؛ آه محمود هذا الشاب المبتسم للحياة والذى كان آخر من شاهدته من الضباط قبل هجوم الإسرائيليين ، اطلب من مُسعد المعاونة للتوجه لمركز ملاحظتى ولكنه يتركنى فازحف قليلا وأسير خطوات وانا ممسك بيدى اليسرى المحترقة برباط الميدان واضعه على رأسي مكان اندفاع الدماء وبيدى اليمنى أحاول الوقوف واليدين التصقت بهما الرمال من اثر الحريق بهما فقد تهتك الجلد والطبقة اللحمية أسفله.

وصلت إلى مركز الملاحظة وانا أتبين أشخاصا لا يتحركون ، اقلب فيهم وانا لا استطيع فحصهم مما ألم بيدى وظهرى ، اكتشف الواحد تلو الاخر ، أنهم جنودى الذين رافقونى فى العبور وكانوا يتحدثون فى أجهزة الاتصالات سواء الخطية أو اللاسلكية ؛ بعضهم تعرفت عليه وآخرين لم أتعرف عليهم ولكنها هواية الإسرائيليين لدهس الأحياء والأموات بدباباتهم لم تنتهى ، لقد تهتك بعضهم حسب حظه ونصيبه من جنزير الدبابة فمن داست الدبابة فوق ظهره أو مؤخرته استطعت ان أتبين وجهه اما من داست على رأسه فلم أتعرف عليه لانها كانت أجزاء محطمة مابين الشعر والجلد والعظم.

أشاهد ماسورة سوداء ، آه انها ماسورة قاذف الطائرات انها مازالت ساخنة وكيف تحترق هكذا؟ انها لا تحترق إلا إذا احترق الصاروخ بداخلها وهذا ما اخبرنى به ُمسعد بعد أن عاد وشاهدنى على أضواء الانفجارات ؛ معلقاً: ايوه يا فندم ؛ الصاروخ انفجر فى مركز الملاحظة بعد ما قتل اليهود كل الموجودين فيه ، تعرف يا أفندم لو مش الصاروخ ده انفجر كان زمانك والعياز بالله زى دوول ويشير إلى زملائه ؛ اطلب منه الكف عن حديثه السىء واطلب منه العون لاخلائى للخلف ، كان رقيب طبي السرية مضطربا حيث قال: طيب خليها لبكره الصبح ، أصل الدبابات ماليه المنطقة بعد ما أتقفل المحور والطريق اللى بيمر من ورا النقط من تدميرنا لدباباتهم بعتوا جابوا دبابات تانيه ووحدات تانيه علشان المنطقة خطره ، سألته مين عرفك بكده؟ اخبرنى ماهو يا فندم الجهاز اللاسلكى شغال واللى كانوا شايلينه استشهدوا ، الحديد فضل يكلم وكنت بأسمعهم وانا مستخبى تحت النقالة وسامع اليهود وشفت اللى عملوه فى مركز الملاحظة ، والله إجرام.

لقد أصبحت عديم الفائدة ؛ لا استطيع ان أقود اى شىء فلا مخ سليم ولا صحة تقاوم كما أن أجهزة الاتصال الصغرى دمرت تحت جنازير الدبابات ولا استطيع السير فى هذا الظلام والذى لا يبدده سوى انفجارات المدفعية وصواريخ الدفاع الجوى ، المهم الآن أن أخلى نفسى ولكن إلي أين وكيف أسير؟ اهتديت على أضواء انفجارات المدفعية حيث كانت الجهة الغربية من القناة مشتعلة وميضا من إطلاق قذائفها على العدو ومازالت بقايا سريتى تقاوم مقاومة اليائس فالذخيرة المضادة للدبابات على وشك الانتهاء كذلك باقى أسلحة الرشاشات وقاربنا على الانتهاء والتصفية ولا أحد يعلم بحالنا فقد فقدوا الأمل فى بقائنا على قيد الحياة.

سرت المسافة التى تصل لأكثر من ستة كيلومترات وكنت أتعرقل فى شهداء أو مصابين والذى يستطيع السير معى كان يرافقنى واقتربت الساعة من التاسعة تقريبا حيث استطاع احد المصابين الذي فقد ذراعه الأيمن أن ينظر إلى ساعته يعلمنا بالوقت ، لقد كان الجندى رجب الذى يعمل على مدفع الماكينة فقد بترت ذراعه اليمنى من انفجار دانة دبابة قريبا منه ، طلب معاونتى فقد أنهكته الإصابة ، احتضنه جانبا وأسير به ويسقط منى متألما صارخا فانحنى أعاونه على النهوض وتندفع الدماء من رأسى.

سرنا حتى وصلنا إلى الساتر الترابى على القناة ومازالت تصفية النقطة بين جنود النقيب عصام وبقايا الإسرائيليين على أشدها واسمع صرخات الإسرائيليين المميتة مثل رجال (يصوتون) على متوفى انها صرخات لعينة مثلهم حزنا وكمداً على قتلاهم ، جلسنا نلتقط أنفاسنا بعد هذا المجهود.

نتيجة المعركة:

قوات العدو

1-    تدمير 8 دبابة وواحدة سليمة بالملاحات

2-    تدمير 7 عربة مدرعة

3-    عدد قتلاهم 51

4-    الجرحى لم نتمكن من حصرهم ولكن لا يقل عددهم عن 100 جريح

الهدف الكبر هو منع تلك القوات من معاونة النقاط القوية لصد هجوم من دخلوها ودمروها

المعركة التى طلب منا أن نستمر ساعتين صمودا تعدت السبع ساعات حتى حقق الله نصره عليهم

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قواتى:

1-              64 شهيد من الصف والجنود

2-              3 ضباط شهداء من بينهم النقيب حسن

3-              146جريح من الصف والجنود

4-              7 جرحى من الضباط وأنا أحدهم

5-              تنفيذ المهمة بما يفوق ما طلبته القيادة منى

Share
Click to listen highlighted text! Powered By GSpeech