Click to listen highlighted text! Powered By GSpeech
Get Adobe Flash player
مستمرين معاكم بإذن الله 2008-2024 **** #لان_لجيشنا_تاريخ_يستحق_أن_يروي **** ***** إنشروا تاريخنا وشاركونا في معركة الوعي **** تابعونا علي قناة اليوتيوب 1100+ فيديو حتي الان **** تابعونا علي صفحات التواصل الاجتماعي** أشتركوا معنا في رحلاتنا لمناطق حرب أكتوبر **** يرجي استخدام خانة البحث **** *** تابعونا علي تليجرام - انستجرام - تويتر

عقيد - مجدي شحاته - بطل الصاعقه- الجزء الاول

 

يوميات

200 يوم خلف خطوط العدو

 

قصة واقعية من ملحمة رجال الصاعقة في حرب
العاشر من رمضان

 

عايشها

نقيب/ مجدي أحمد شحاتة

 

 

بسم الله الرحمن الرحيم

"وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُون"

صدق الله العظيم

(آية 169، سورة آل عمران)

 


تعريف بكاتب هذه اليوميات

خلال تقديمها إلى إدارة الشئون المعنوية للقوات المسلحة عام 1989

-       عقيد أ.ح/ مجدي أحمد شحاتة.

-       من مواليد مدينة طنطا 30/11/1947م.

-       نشأت في أسرة وطنية وترعرعت على الوطنية منذ طفولتي فقد كنت أسمع الكثير عن بطولات جدي العقيد/ أحمد أفندي شعبان الذي حارب الإنجليز ضمن جيش عرابي والذي ثار مع الزعيم أحمد عرابي ضد الخديوي توفيق حتى تم نفيه.

وكان والدي شديد الحماس والوطنية حتى أنه لم يترك مناسبة وطنية إلا وشارك فيها فشارك في حرب الفدائيين ضد الإنجليز بقناة السويس بتهريب السلاح للفدائيين وتطوع في المقاومة الشعبية خلال حرب 1956م.

-       وقد وقعت أحداث حرب يونيو 1967م أثناء دراستي بالمرحلة الثانوية مما زادني إصرارًا على أن ألتحق بالكلية الحربية لأكون أحد المشاركين في معركة الكرامة وتحرير كل شبر في أرضنا الحبيبة.

-       وقد وفقني الله سبحانه وتعالى في الانضمام ضمن طلبة الكلية الحربية لأتخرج منها برتبة الملازم في نوفمبر 1969م.

-       ومما زادني شرفًا انضمامي لوحدات الصاعقة فور تخرجي وذلك بناء على رغبتي للانضمام لهذه القوات التي تمثل روح التضحية والفداء والمجد.

-       وقد شرفني الله بالاشتراك في حرب العاشر من رمضان وكنت برتبة النقيب ضمن مجموعة من رجال الصاعقة الأبطال الذين لقنوا العدو درسًا قاسيًا لن ينساه وكبدوه خسائر فادحة وسطروا بأرواحهم ودمائهم وجهدهم وعرقهم ملحمة البطولة والفداء والتي أحاول أن أسرد يومياتها بكل أمانة وبشيء من البساطة والإيجاز.

 

 

مقدمة

1-   ما زال هناك العديد من أسرار وبطولات حرب أكتوبر المجيدة والتي لم تنشر حتى الآن رغم ما تحمله من العديد من قصص البطولة والمواقف الإنسانية والتي تتجلى فيها شجاعة وبطولة جنود مصر وإيمانهم برسالتهم ودفاعًا عن وطنهم وجهادًا واستشهادًا في سبيل الله، وتحقق فيهم التوجيه النبوي الشريف الذي يقول فيه الرسول (صلى الله عليه وسلم): "إذا فتح الله عليكم مصر، فاتخذوا فيها جندًا كثيفًا، فذلك الجند خير أجناد أهل الأرض".

2-   وبناء على تكليف إدارة الشئون المعنوية للقوات المسلحة للقيادات والجيوش بتسجيل الأعمال البطولية خلال حرب أكتوبر 1973م لتكون مرجعًا ونبراسًا للخبرات المكتسبة والدروس المستفادة للأجيال القادمة، وليعلم أبناؤنا وأحفادنا كم فاضت من أرواح وسالت من دماء وبذل من جهد وعرق لاستعادة أرضنا الحبيبة في سيناء فيكون هذا حافزًا للحفاظ عليها والدفاع عنها بأرواحهم ودمائهم كما فعل آباؤهم، وأيضًا لإبراز أهمية العمل على استغلال ثروات وموارد أرض سيناء لتنميتها وتحقيق تواجدات ومجتمعات عمرانية وتنموية على كل جزء من أراضيها بما يحقق سدًا منيعًا ضد كل الطامعين في هذه الأرض الحبيبة، وقد كلفني السيد العميد أ.ح/ سمير محمود يوسف قائد وحدات الصاعقة بالقيام بهذا العمل إيمانًا منه بضرورة تسجيل خبرات حرب العاشر من رمضان واستخلاص الدروس المستفادة للعمليات الحربية.

3-   ولسهولة سرد هذه الأحداث فقد تناولتها في صورة يوميات تسجل سير عمليات وحدتي والتي تتضمن مرحلة العمليات الفعلية خلال الفترة من 6 أكتوبر 1973 وكذا مرحلة التعايش داخل سيناء خلف خطوط العدو كمرحلة إعداد للعودة الآمنة وبما لا يمَكِّن العدو من إحداث أي خسائر بنا أو أسر أي أفراد من قوتنا، ومهما بلغت من البراعة في التعبير والبلاغة فلن أستطيع وصف الأحداث الواقعية بما تضمنته من أعمال ومشاعر يعجز القلم عن وصفها.

4-   ولا يفوتني أن أتقدم بالشكر والتقدير إلى إدارة الشئون المعنوية للقوات المسلحة على إتاحة هذه الفرصة لمقاتلي حرب العاشر من رمضان لتسجيل أعمالهم، كما أقدم شكري إلى السيد العميد أ.ح/ سمير محمود يوسف، قائد وحدات الصاعقة السابق لإتاحة الفرصة لي لتسجيل هذه اليوميات.

5-   كما أنني أتقدم بإهداء هذه اليوميات إلى:

-        أرواح شهداء الكتيبة 83 صاعقة وكل شهداء عمليات حرب أكتوبر المجيدة... التي صعدت إلى ربها راضية وهي تدافع عن شرف وكرامة مصر غير منتظرة أدنى تقدير لها ولكنها طلبت الشهادة طمعًا بما وعدها به رب العزة من عظيم المنزلة والثواب.

-        أم الشهيد... التي قدمت فلذة كبدها لتعيش مصر مرفوعة الهامة والكرامة، ندعو لها بالصبر.

-        والد الشهيد... الذي علمه حب التضحية من أجل أن نسلم الأجيال القادمة رايتنا ناصعة البياض وأرضنا طاهرة.

-        أبناء وزوجة الشهيد... الذين استودعوه عند الله على أن يعوضهم خيرًا منه.

لتبقى مصر دائمًا مرفوعة الهامة والكرامة


 

التمهيد لعمليات العاشر من رمضان

بدأ الاستعداد لحرب الكرامة والتحرير وذلك بعد حرب يونيو 1967م مباشرة وعلى جميع مستويات القوات المسلحة ومختلف أجهزة الدولة، وقد عايشت كأحد شباب مصر هذه الفترة الحرجة العصيبة من عمر بلدنا الحبيبة حيث أصبح استرداد أرض مصر ومعها الكرامة هي شاغل كل مصري حر أصيل وقد رفع شعار لا صوت يعلو على صوت المعركة ويد تبني ويد تحمل السلاح، وكنت أحد أبناء هذا الشعب الذي تحمل مسئولية المواجهة والجهاد في سبيل الله ثم الوطن وكان ذلك منذ تخرجي من الكلية الحربية عام 1969 والتحاقي بوحدات الصاعقة التي تمنيت الالتحاق بها طوال فترة تواجدي بالكلية الحربية، بل يمكن أن يكون قبل التحاقي بالكلية الحربية وكان لذلك قصة غريبة فترة دراستي بالثانوية العامة وقبل حرب 67 وأثناء لقائي مع بعض أصدقائي بالمنطقة التي أسكن بها مر علينا أحد جنود الصاعقة بملابسه المموهة ووجدنا أنه ذلك الشاب الذي كنا نصفه بالاستهتار وعدم المبالاة وكنا نسخر منه ومن كلامه وصباغة شعره وبعد تبادل السلام تكلمنا معه وعلمنا أنه بعد تجنيده بالجيش حصل على فرقة الصاعقة وانضم للعمل ضمن قواتها وقد لاحظنا أنه تغير تمامًا شكلاً ومضمونًا وأصبح رجلاً بحق نفتخر أن يكون بيننا يمتلئ فخرًا واعتزازًا بانضمامه للقوات المسلحة وسلاح الصاعقة، وهنا أدركت فضل الصاعقة عليه وما أكسبته من رجولة وجدية وتحمل للمسئولية.

فترة حرب الاستنزاف:

تابعت أحداث حرب الاستنزاف أثناء تواجدي بالكلية الحربية مثل كل الشباب والمصريين والتي تصاعدت وتيرتها بعد حرب 67 مباشرة وتضمنت العديد من المعارك والبطولات وأبرزت بسالة وشجاعة الجندي المصري وأنه كان ضحية لهزيمة 67 وليس سبب لها، وكان أبرز هذه المعارك معركة رأس العش وبطولات المعارك الجوية وكذا تدمير المدمرة إيلات وتنفيذ العديد من عمليات العبور للإغارة وتنفيذ الكمائن على العدو، وكان من ضمن عمليات الاستنزاف البارزة والتي عايشتها بعد تخرجي من الكلية الحربية والتحاقي بقوات الصاعقة عملية السبت الحزين والتي تم فيها إحداث خسائر كبيرة بالعدو والحصول على أحد أفراده أسيرًا وكان بطلها الملازم عبد الحميد خليفة عبد الرحيم ومعه الملازم محمد التميمي وهما من دفعتي وكنت وزملائي نشعر بالفخر بأن هذين البطلين من دفعتنا - وسيكون رفيق الكفاح خلال أحداث هذه المهمة خلف خطوط العدو النقيب عبد الحميد خليفة والذي كنا على علاقة وطيدة منذ التحاقنا بالكلية الحربية واستمرت قبل وبعد انتهاء العمليات - وقد حققت هذه المعارك البطولية نتائج إيجابية كثيرة منها إعادة الثقة في قواتنا المسلحة وإحداث ارتباك في صفوف العدو لتكبده الخسائر، وكان تدريبًا عمليًا يتم الاستفادة من نتائجه ومنها رفع الروح المعنوية للقوات، ونتيجة لخسائر العدو الفادحة في هذه العمليات خلال حرب الاستنزاف فقد اضطر لقبول مبادرة روجرز لوقف إطلاق النيران، وقد استغلت قواتنا هذه الفترة للاستمرار في التدريب الجاد وصولاً لأرقى مستويات التدريب وكذا استكمال بناء حائط الصواريخ غرب قناة السويس الذي حقق خسائر كبيرة بطيران العدو وحرمها من الاقتراب من قناة السويس والتدخل في عمليات العبور لقواتنا لشرق القناة.

ولقد تخرجت برتبة الملازم من الكلية الحربية عام 1969 وكنت سعيدًا جدًا بتخرجي وبدء حياتي العملية ضمن ضباط القوات المسلحة ومما زاد من سعادتي تحقيق رغبتي بالانضمام لقوات الصاعقة وحصولي على فرقة الصاعقة الراقية والتي تدربنا فيها على تحمل كافة المشاق والعمل تحت أصعب الظروف وفي مختلف الأراضي والأجواء والاستعداد للتضحية والاستشهاد من أجل تحرير كل شبر من أرض مصرنا الحبيبة.

ولقد تعرفت على غدر وخسة العدو أثناء تواجدي بفرقة الصاعقة عندما قام العدو الغادر بقذف جوي لمدرسة الصاعقة وسقط الكثير من الشهداء والمصابين فكانت هذه اللحظات بمثابة تطعيم معركة ورغبة عارمة في مواجهة هذا العدو الغادر وتلقينه درسًا يكسر صلفه وغروره وتكرر مشاهدتي لطائرات العدو المنخفضة وهي في طريقها للإغارة على أبوزعبل وحلوان وكأنها كانت تتعمد إثارتنا.

وبعد حصولي على فرقة الصاعقة التحقت بأحد كتائب الصاعقة المتمركزة بالإسكندرية وبناء على طلبي نقلت إلى الكتيبة 83 صاعقة بالقصاصين لأكون ضمن قوات جبهة القتال حتى لا تفوتني فرصة وشرف الاشتراك في حرب التحرير.

وقد ترقيت إلى رتبة الملازم أول خلال فترة تمركز الكتيبة بمنطقة القصاصين بالإسماعيلية، ثم كلفت الكتيبة بمهمة تأمين ثورة الفاتح من سبتمبر بدولة ليبيا الشقيقة لمدة عام، وتم استدعاء الكتيبة من مأموريتها بدولة ليبيا قبل نهاية الموعد المحدد بثلاثة أشهر وانضممنا إلى مجموعة الصاعقة المتمركزة بالإسكندرية حيث بدأنا فورًا في التدريبات الشاقة بالتوازي مع الأعمال الإدارية لتجهيز منطقة تمركز الكتيبة.

ومما زاد من دهشتي تسريح الدفعة 64،65،66 مجندين وانضمام ضباط وجنود مستجدين للمجموعة وكنا ننفذ التدريب الروتيني العادي في ذلك الوقت مما يوحي بعدم قرب العمليات.

وفي شهر سبتمبر 1973 تلاحظ تكثيف التدريب لكافة الوحدات وفي نهاية هذا الشهر تم إعادة تمركز الكتيبة من الإسكندرية إلى منطقة الزعفرانة بالبحر الأحمر.

وكان الجميع يستعد ويتشوق لليوم الذي يسمع فيه وقت إعلان حرب الكرامة والتحرير بعد طول الانتظار حيث كانت أيام الهزيمة تمر كأنها سنين طويلة إلا أن الأمل بأخذ الثأر كان دائمًا قائمًا وأذكر على سبيل المثال في لقاء مع وزير الحربية الفريق/ أحمد إسماعيل مع كتيبتي (الكتيبة 83 صاعقة) أثناء تواجدنا بليبيا قبل الحرب بأشهر قليلة وقف النقيب رشاد عمران أحد قادة سرايا الكتيبة ليسأل الوزير بشجاعة عن موعد الأخذ بالثأر ولماذا لا نبدأ بعمليات استنزاف من جديد على طول الجبهة، وكانت إجابة الوزير له تحث على التريث وأن كل شيء مدروس وليس علينا إلا الاستعداد والتدريب وكان لإجابة الوزير معنى كبير لم نفهمه إلا بعد أشهر قليلة في يوم 6 أكتوبر 1973م.

وقد استمر التدريب بمنطقة الزعفرانة وأصبح التدريب متواصلاً وشاقًا وازدادت جرعة التدريب رغم بدء شهر رمضان المبارك وظروف الصيام والأحوال الجوية والإدارية الصعبة جدًا بالمنطقة حيث كان هناك شعور بأن هذا الانتقال يعني قرب العمليات الحربية وتحقيق الأمل الذي انتظرناه طويلاً.

وبإحساسنا كعسكريين بدأنا نشعر بقرب تحديد موعد العمليات وذلك عندما تطور الأمر باستدعاء الضباط وضباط الصف والجنود من الأجازات والفرق التعليمية وكان ذلك يتم بسرعة كبيرة حتى اكتملت قوة الكتيبة قبل العمليات بأسبوع وتم إيقاف الأجازات والمأموريات وأصبح الشعور والاحتمالات بقرب بداية العمليات الحربية يزداد يومًا بعد يوم حتى أصبحت شبه مؤكدة قبل القتال بيوم أو يومين وأصبح كل شيء واضح ومعلوم إلا ساعة بدء العمليات ومواجهة العدو لاسترداد الكرامة.

وفي يوم 4 أكتوبر كلفت للانضمام للعمل ضمن مجموعة استطلاع بقيادة قائد الكتيبة مقدم/ عبدالعزيز محمود إلى فنار الزعفرانة لاستطلاع الجانب الشرقي من خليج السويس ورصد أي أنشطة أو تحركات للعدو، وبمجرد وصولنا إلى فنار الزعفرانة صعدنا إليه وبدأنا الاستطلاع بنظارات الميدان ولم نرى شيئًا بالتحديد إلا جبال سيناء شامخة عالية وكأنها تنادينا بحق الكرامة المصرية أن نستردها مرة أخرى.

وانطلقت الأفكار تراود كل منا كيف سنحطم أسطورة الجندي الإسرائيلي الذي لا يقهر وغيرها من الدعاية والشعارات التي كان يطلقها العدو في كل مناسبة وكان الإصرار على تحرير الأرض والاستشهاد في سبيلها أقوى وأكبر من كل دعايات العدو وفي اليوم التالي للاستطلاع قام قائد الكتيبة بإصدار تعليمات القتال وهو ما يعني قرب تحديد ساعة الصفر، وتتلخص مهمة الكتيبة في عبور خليج السويس (2 سرية بالطائرات وسرية تعبر خليج السويس بالقوارب)، وذلك بهدف تنفيذ الكمائن والإغارات بجنوب سيناء ضد قوات العدو وإحداث أكبر خسائر به ومنعه من التقدم غربًا وشمالاً وحرمانه من التدخل في أعمال قتال الجيش الثالث الميداني وذلك بمناطق وادي بعبع، وادي سدري، وادي فيران، على أن تنفذ هذه المهام بالسرايا كالآتي:

1-   الكتيبة 83 صاعقة عدا 2 سرية (قيادة الكتيبة + السرية الثانية):

بقيادة قائد الكتيبة المقدم/ عبد العزيز محمود ومعه رئيس عمليات الكتيبة رائد/ رشاد عبد الفتاح (المنضم حديثًا للكتيبة) وقائد السرية الثانية نقيب/ محمد فتحي حسين، وتدعم بمدافع الهاون وأفراد القناصة والمهندسين العسكريين، ويتم إبرارها في سبع طائرات (خمس طائرات للرحلة الأولى وطائرتان للرحلة  الثانية) وذلك لتنفيذ أعمال الكمائن ضد العدو بمنطقة وادي بعبع وتنفيذ الإغارة على مطار أبورديس.

2-   السرية الأولى:

بقيادة النقيب صفوت ويتم إبرارها بالقوارب من مرسى ثلمت بالزعفرانة بمهمة تنفيذ أعمال الكمائن ضد قوات العدو بمنطقة وادي سدري جنوب شرق مدينة أبورديس.

3-   السرية الثالثة (وهي السرية التي أعمل ضمنها كقائد للرحلة الأولى):

ويتم إبرارها من خلال رحلتين بالطائرات:

الرحلة الأولى (طائرة المقدمة):

ويتم إبرارها في طائرة واحدة بقيادتي (نقيب/ مجدي شحاتة) كطائرة مقدمة وتتكون من 21 فرد ومعهم قائد الفصيلة المنضم حديثًا الملازم/ محمد عبد المنعم، بما فيهم الدليل البدوي، حيث أنني كنت أتولى قيادة فصيلة الهاون في ذلك الوقت، على أن يتم إبرار قوة هذه الطائرة بمنطقة وادي فيران بمهمة تأمين منطقة إبرار باقي قوة السرية الثالثة

الرحلة الثانية:

ويتم إبرارها بباقي قوة السرية الثالثة في (5) طائرات بعد طائرة المقدمة بـ 4-5 ساعة وبعد تجميع قوة السرية تتوجه إلى مناطق عملها بوادي فيران لتنفيذ أعمال الكمائن والإغارات ضد قوات ومعدات العدو وإحداث أكبر نسبة خسائر به ومنعه من التقدم غربًا وشمالاً لحرمانه من التدخل ضد أعمال الجيش الثالث الميداني.

 



أحداث يوم 6 أكتوبر 1973:

وفي صباح ذلك اليوم المجيد، التقى قائد المجموعة العقيد أ.ح/ كمال الدين عطية برجال الكتيبة في تشكيل سرايا القتال وألقى كلمة معنوية أعلن فيها اقتراب ساعة الكفاح والثأر مؤكدًا اقتراب ساعة الصفر. وقد كان خطيبًا لبقًا وكانت كلماته من القلب إلى القلب، أتذكر منها: "... جاءت الساعة التي ينتظرها جميع المصريين وتنتظرها أمك وأمي وأختك وأختي لاستعادة كرامة هذه الأمة ورفع رايتها عالية خفاقة فهيا يا رجال هذا الوطن استعيدوا أرضكم...".

البدء الفعلي لتنفيذ العمليات:

في ظهر يوم العاشر من رمضان تحركت الكتيبة إلى منطقة الإقلاع انتظارًا لوصول الطائرات الهليكوبتر وفي تمام الساعة الواحدة صدرت لنا الأوامر بالإفطار وتم توزيع وجبة ساخنة من الدجاج الرومي وهنا أدركنا أننا دخلنا فعلاً في العد التنازلي لساعة الصفر وقد صمم بعض الأفراد على استكمال الصيام حتى إذا كتب الله لهم الشهادة فإنهم يلاقوا الله تعالى صائمين وقد حاول قائد الكتيبة إقناعنا بأننا في جهاد وهذا يبيح الإفطار بناء على فتوى الأزهر وحتى يتمكن الفرد من تحمل مشاق القتال، ثم سرعان ما جاءتنا أخبار قيام قواتنا الجوية بتنفيذ الضربة الجوية ضد مواقع وحشود العدو في سيناء وبدء التمهيد النيراني للمدفعية ونجاح قواتنا في اقتحام قناة السويس والوصول للضفة الشرقية للقناة.

وازداد حماسنا بوصول الطائرات الستة المخصصة لنقل عدد 2 سرية من الكتيبة (والتي سيتم إبرارها على مرحلتين) داخل سيناء وتحققت آمالنا بقدوم يوم الثأر والتحرير، وسألني بعض الجنود "حقيقي يافندم سنعبر ولن يلغوا الطلعة" وكان ذلك وهم فرحون غير مصدقين.

وفي تمام الساعة الثانية والنصف بعد الظهر توجهت ومعي قوة الطائرة الأولى (21 فرد) للصعود إلى الطائرة والتي أطلقوا عليها اسم الطائرة الانتحارية وقبل صعودي للطائرة وأثناء قيامي بالتلقين النهائي للأفراد وتأكيد المهام ورفع روحهم المعنوية اقترب مني مقدم طويل وعرفني بنفسه (مقدم/ رجائي عطية) من قوة الخدمة الخاصة وكان معه دليل من البدو والذي سيصاحبني في الطائرة لإرشادي لمنطقة المهمة ويدعى/ عودة الحرامي (حيث خططت القوات المسلحة للاستعانة ببعض رجال بدو سيناء الموثوق بولائهم للعمل كأدلاء للتغلب على مشكلة عدم إلمام الضباط الجدد بالطرق والوديان والمعالم الطبيعية بسيناء وذلك بعد احتلال العدو لها منذ عام 1967م)، وقد قام المقدم/ رجائي عطية بتأكيد بعض النقاط الخاصة بالعدو في عجالة وقد حذرني من التعامل مع البدو والاعتماد عليهم (وقد تعجبت من ذلك حيث يحذرنا من البدو ويدعمنا ببدوي ليكون دليلاً لنا)، وأخيرًا تمنى لنا التوفيق وودعنا، وقد تقابلنا بعد ذلك بخمس سنوات حيث عملت تحت قيادته بإحدى وحدات الصاعقة الخاصة.

وفي تمام الساعة الثالثة بعد الظهر تم تحميل الطائرة بالأفراد والمعدات والتعرف على الطيار ومساعده وأحسست بسعادة عندما رأيت الطيار هادئ الأعصاب رابط الجأش وكنت أعتقد أنني سأقوم بتشجيعهم فوجدناهم واثقين في أنفسهم ولا يقلون عن رجال الصاعقة شجاعة وترجل قائد الطائرة وعدت معه أثناء ركوب الأفراد وطلب مني أن أقوم بوضع مجموعة مشاعل على شكل حرف T بالإنجليزية وذلك بغرض إرشاد باقي الطائرات في الرحلة الثانية لمنطقة الإنزال التي ستبر بها الطائرة الأولى حيث سيكون الوقت ليلاً عند عودة الطائرات لهذه المنطقة مرة أخرى ورسم لي شكل المشاعل بالنسبة للريح ومكان الإبرار وأوضح لنا مكان الإبرار على خريطة وصعدنا بالطائرة وجلس الدليل بالقرب منه وأخذ كل واحد مكانه وكان مكاني آخر كرسي بالطائرة من الخلف حيث كان الباب الخلفي منزوع من مكانه لتسهيل إخلاء الطائرة من الأفراد والمعدات.

كانت لحظة إقلاع الطائرة في اتجاه خط سيرها من اللحظات التي لا تنسى حيث كانت صيحات الله أكبر تدوي وتملأ كل الأرض والفضاء ورأيت الكتيبة بكاملها تلوح لنا مودعين ومتمنين لنا التوفيق وكانت لحظة مؤثرة توحدت فيها المشاعر وكان الوداع كأنه الوداع الأخير، ورأيت عيون الزملاء تودعني بالحب والأمل وكل ما عرفته من المعاني النبيلة وكنت دائمًا مبتسمًا مشجعًا للجميع وتحركت الطائرة والكل يلوح لنا وتابعنا الكتيبة خلفنا والجميع يلوح لنا حتى اختفت عن أنظارنا ومررنا على وحدات في طريقنا خرجوا من ملاجئهم تحت الأرض لتحيتنا عندما سمعوا أصوات الطائرة وكانت تحيتهم بحماس بالغ حتى أنهم كانوا يتابعون الطائرة عدوًا، وكان يجلس بجواري الرقيب مجند زكريا نصرالله رقيب فصيلة القناصة وكان ممسكًا بذراعي خوفًا من سقوطي من الطائرة ولكني طمأنته وأخذ الجنود يكبرون الله أكبر في حماس، وظهرت مياه خليج السويس وأشرت للأفراد لرؤية الخليج وقمت وأخذت أصدر بعض التعليمات ومنها مراقبة طائرات العدو والإبلاغ عند رؤيتها.

وعند الاقتراب من الشاطئ الشرقي للخليج ازداد الصياح والتكبير وتقدمت إلى كابينة الطيار لمتابعة خط السير وكان يطير على ارتفاع منخفض متفاديًا الجبال وظهر مبنى صغير في منطقة مفترق طرق فيران/الطور/أبورديس بالقرب من منطقة الإبرار وخرج منه فرد بدوي ليرى الطائرة وعلمنا من الدليل أن المبنى هو بريمة مياه (طلمبة مياه) ثم انخفض الطيار في أحد الوديان الفرعية وفي الساعة الرابعة عصرًا بدأ إبرار حمولة الطائرة بسرعة وقبل أن تلمس الطائرة الأرض كنت أول من نزل من الطائرة وتابعني باقي القوة، وأشرت للأفراد إلى اتجاه تحركهم على أحد أجناب الوادي ووجدت المساعد الفني للطيار يشير إلى المشاعل التي نسيها الأفراد من فرط الحماس فصعدت مرة أخرى وأخذت في إنزال المشاعل ومعي المساعد وكان ذلك في لحظات قليلة وأشار قائد الطائرة ومساعد الطيار لي مودعًا ومتمنيًا لي التوفيق وحلقت الطائرة عائدة وبالرغم من هذه اللحظات القليلة التي تعاملت فيها مع قائد الطائرة إلا أنني أحسست برابطة قوية متبادلة معه وتمنيت أن أراه مرة أخرى، ولكني للأسف حتى الآن لم أقابله أو قد تقابلنا ولم يتعرف أحدنا على الآخر.

وعلى الفور تم استطلاع المنطقة بالنظر وخاصة المناطق التي تصلح لاقتراب العدو أو احتلاله لها، وبصفة عامة وجدت المنطقة خالية وكانت تلك اللحظات أصعب اللحظات وأخطرها وأضعفها بالنسبة لنا حيث يلزم سرعة اتخاذ إجراءات تأمين الأفراد والسيطرة عليهم لارتباك بعضهم وتجمعهم في جانب الوادي وتقدمت إليهم وأصدرت أوامري بصوت مرتفع وحازم لاتخاذ مواقعهم واحتلال المنطقة على شكل دفاع دائري ثم قمت بالمرور وتوزيع المهام ورفع الروح المعنوية للأفراد مما بث الثقة بأنفسهم وقمت بتحديد الأفراد المكلفين برص المشاعل وإضاءتها وتأمين منطقة الإبرار للرحلة الثانية وكانت هذه المجموعة تحت قيادة الملازم محمد عبد المنعم، وشكلت دورية بباقي الأفراد للتوجه إلى منطقة الكمين واستطلاعها وأبلغت الملازم محمد عبد المنعم بأنني سأرسل له الدليل بعد إرشادنا على منطقة العمل ومعه الرقيب راضي (رحمه الله) حتى يقوم بإرشاد باقي قوة الطائرة في الرحلة الثانية إلى المكان الذي سنقوم باحتلاله على الطريق الإسفلتي أبورديس/الطور وودعت هذه المجموعة بعد التأكد من تفهم الضابط لمهامه.

وقد تقدمت مع الدورية إلى منطقة الهدف ببطء وحرص في البداية لتحقيق المراقبة والملاحظة المستمرة تجنبًا لمفاجأة العدو لنا وكذلك بسبب ثقل الأحمال والشدة القتالية، وقد لاحظنا تواجد آثار جنازير دبابات واضحة وكثيرة على الأرض وقد بدأ الليل يحل وضعفت الرؤية وأمرت بإيقاف الدورية وتقدمت في اتجاه الآثار، وأثناء مراقبتي للمنطقة في الظلام بجهاز الرؤية الليلي سمعت صوت طلق ناري من منطقة تواجد الدورية فعدت بسرعة إلى مكان الدورية وعلمت أن أحد الجنود المستجدين أطلق رصاصة بطريق الخطأ ووجدته في حالة معنوية سيئة فاطمأننت عليه وطمأنته وطلبت منه أن يكون أكثر ثباتًا وحمدت الله على أنه لم يصاب أو يصيب أحد زملاءه وقد أكدت هذه الطلقة عدم تواجد عدو في المنطقة المحيطة واستمرت الدورية في مواصلة السير في اتجاه الطريق وكانت الثقة تزداد مع مرور الوقت وأبلغني الدليل بوصولنا للمنطقة التي يمر بها الطريق وسألته أين الطريق فأشار بأنه أمامي وأن هناك أعمدة كهرباء على الطريق وقمت بتشغيل جهاز الرؤية الليلي ووجدت بالفعل أعمدة الكهرباء والطريق أمامي على بعد حوالي مائتي متر.

وتم انتخاب واحتلال منطقة الكمين بالقرب من الطريق وتوزيع الأفراد ولم تظهر أي بوادر لتحرك العدو على الطريق وكانت المنطقة خالية تمامًا وأصدرت أوامري للدليل وعدد (2) جندي للتحرك إلى منطقة الإبرار لتحقيق الاتصال بباقي قوة السرية فور وصولها واصطحابها إلى منطقة الكمين ثم قمت باستطلاع المنطقة بأجهزة الرؤية الليلية وأخذت في تعديل مواقع الأفراد للأفضل وأثناء انتظارنا وبعد عدة ساعات سمعنا صوت طائراتنا وشاهدنا ثلاث طائرات تطير على ارتفاع منخفض ولكن ليس في اتجاه واحد ومرت إحداهم فوقنا وأبلغني كل من كان بالقرب مني عن وصول الطائرات ومعرفتهم لطائراتنا وتعبيرًا لا شعوريًا عن فرحتهم بقرب لقائهم بزملائهم على أرض سيناء.

وكان من المنتظر أن تصل باقي القوة إلى منطقة الإبرار حوالي الساعة العاشرة مساء يوم 6 أكتوبر وتتحرك بعد تقابلها مع الدليل وقوة التأمين لتصل إلى منطقة الكمين على طريق فيران حوالي الساعة الواحدة من صباح يوم 7 أكتوبر وكان الجميع مواجهين للطريق مستعدين لتنفيذ الكمين في حال ظهور عناصر للعدو يمكن التعامل معهم وكذلك مستعدين لاستقبال باقي قوة السرية مع الدليل ومر منتصف الليل ولم نرصد أي تحرك للعدو وكذلك لم تصل باقي قوة السرية.

أحداث يوم 7 أكتوبر 1973:

وفي الساعات الأولى ليوم 7 أكتوبر ومع بداية ظهور أول ضوء وجدت أن الجانب الآخر من الطريق يحقق سيطرة أكثر وأنسب لموقع الكمين فأصدرت أوامري بتعديل المكان إلى الجانب الآخر من الطريق وفي منطقة مرتفعة ومسيطرة على الطريق ومشرفة بالنظر على منطقة خط سير باقي قوة السرية لرؤيتها أثناء وصولها إلى المنطقة التي حددت للتقابل والتي كانت على مرمى بصرنا.

وتابعت باستمرار استطلاع الطريق بدقة وكان طريقًا جيدًا ويمر به أبراج سلك كهربائي عالية وخط تليفون وخط مواسير مياه. ومن اتساع الطريق ولون الإسفلت وضح أنه طريق هام ورئيسي ولكن أين العدو؟ لقد سألنا أنفسنا في بداية الأمر ثم بدأ السؤال يوجه لي ثم أصبح السؤال في شكل لوم ويحمل معنى أن القادة خططوا لنا أن نحارب في مكان ليس به عدو وطبعًا كانت إجابتي ألا تستعجلوا فتحركات العدو مرتبطة بتوقيتات لا نعلمها وقد يكون أحس العدو بوصولنا فأوقف تحركاته وكنت أعلم سبب إلحاحهم على لقاء العدو وذلك بسبب تدفق الأخبار من جهاز الراديو الترانزستور من استمرار تفوق قواتنا ونجاحها في عبور قناة السويس وتحقيق الانتصارات بتوفيق من الله.

ولقد كانت رغبة صادقة من كل جندي في هذا الوقت أن يشارك في لحظات النصر وازدادت ثقة الأفراد في أنفسهم بمرور الساعات وزاد التآلف بين الجميع وتشاركنا في الطعام والشراب وتعارفنا أكثر فقد كان معنا المستجد والمستدعى والملحق.

ومرت الساعات ولم تظهر باقي القوة وأخذت الشكوك في الدليل تزداد وأصبح شغلي الشاغل أن أعرف ماذا حدث لباقي زملائنا وأثناء هذا الانتظار سمعنا صوت طائرة مراقبة للعدو "سوبر بايركب" على ارتفاع عال فأصدرت أوامري بثبات الأفراد بالقرب من السواتر والاختفاء حتى تمر الطائرة، ومرت الطائرة وعدنا إلى أماكننا وعند الظهيرة تسلقت أحد الجبال المشرفة على المكان وكان معي الجندي/ سيد عبد الستار من المهندسين وهو جندي مستدعى من الاحتياط وكان رحمه الله – رجلاً شجاعًا بسيطًا على خلق وأخذ في الطريق إلى القمة يشكو لي من المرض الذي أصاب عينه وجعله يرى بصعوبة الآن ولكنه لم يشأ أن يتخلف عن الاستدعاء وأداء الواجب وقد اكتسب خبرة كبيرة في أعمال المهندسين العسكريين حيث كان مجندًا منذ عام 1964 وكان رحمه الله روحه مرحة رغم صعوبة الواقع الذي كنا نعيشه في تلك السنين – وعندما صعدنا إلى قمة الجبل لم نرى شيئًا غير خزانات البترول على مسافة بعيدة والشاطئ خلفها والطريق الممتد والجبال العالية الخالية من أي حركة وحياة.

وأثناء استطلاعي للمنطقة لاحظت وجود بعض الجمال المتجمعة بجوار ماسورة للمياه موازية للطريق وهناك بعض المياه المتسربة من الماسورة وقد طمأنني وأسعدني جدًا وجود المياه وذلك لاستعواض المياه التي يستهلكها الأفراد بسبب حرارة الجو والمجهود المبذول نتيجة التحرك بالشدة الكاملة.

وكان أكبر شاغل لي هو مصير باقي قوة السرية وأين ذهب أفراد الطائرات التي رأيتها بعيني وقد ازداد قلقي لعدم وصول أفراد السرية مما دفعني لاتخاذ قرار التحرك في اتجاه منطقة الإبرار قبل آخر ضوء في محاولة للبحث عن باقي أفراد السرية ولم أحمل معي غير السلاح والذخيرة وزمزمية مياه واحدة حتى أكون خفيف الحركة وأعطيت الرقيب/ زكريا نصرالله أوامري بالاختفاء التام وتأمين المنطقة حتى العودة واصطحبت أحد الجنود معي وقمنا بعبور الطريق وفي طريق العودة لاحظت حركة وصوت خافت ينادي (محمد) فاستدرت مستعدًا بالسلاح وتحركت في اتجاه الصوت وقد ساورني شك من أن يكون كمينًا للعدو وفي حذر شديد تقدمت تحت ساتر الأرض ولكني وجدت الملازم أول احتياط/ أحمد الخرجاوي من قوة الرحلة الثانية وكان إنسانًا على خلق وشجاعة غير عادية وقد عرفته قبل الحرب بحولي شهرين حيث كان أحد ضباط سرية الصواريخ أرض أرض المجاورة للكتيبة وكنت أذهب أحيانًا للقاء النقيب/ صفي قائد السرية دفعتي وكنت أقابله هناك وكان خفيف الظل والروح يتمتع بشخصية جذابة وقابلني أحمد الخرجاوي بالدموع والأحضان وهو يقول "حضرة اليوزباشي مجدي افتكرناك استشهدت إنت فين"، وطبعًا تعجبت وأجبته بغضب "إنتم اللي فين يا خرجاوي وإيه اللي حصل" أنا أرسلت لكم الدليل ومعه فرد وتركت لكم الضابط محمد ومعه أفراد لتأمين منطقة الإبرار فماذا حدث؟ هل وصلكم الدليل؟.

فأخبرني أن الدليل وصل فعلاً وأنه معه الآن وهو الذي أرشده إلى هذا المكان، ثم أبلغني أنه أقلع في نفس الطائرة التي أبرتنا بعد عودتها وقال له الطيار "النقيب مجدي نزل هنا مكان المشاعل وكله تمام وسلامي لمجدي" وأبرني مع قوة الصواريخ أرض أرض وكان المفروض أن تهبط باقي الطائرات في هذا المكان لأنه كان واضحًا وسهلاً ولكني لم أجد أحدًا غير مجموعة تأمين منطقة الإبرار التي تركتها، وكانت حمولة الطائرة أربعة عشر فردًا وعشرة صواريخ مسمار وقاذفين وفرد دفاع جوي ومعه قاذف م ط (استرلا) واحد وكان هذا السلاح في ذلك الوقت من الأسرار التي لا يعلم أحد شيئًا عنها غير مستخدمي السلاح وبسؤالي عن إمكانيات السلاح علمت منه أنه يعمل أزواجًا (2 قاذف معًا)، ثم أبلغني الخرجاوي بأنه انتظر مدة طويلة أملاً في وصول طائرات أخرى ولكن لم تظهر أي طائرة وجمع الأفراد وتحرك بالصواريخ وكانت ثقيلة جدًا مما سبب بطء شديد في الحركة فقام بدفنها في أحد الأماكن وتحرك بالقاذف وصاروخ واحد حتى يلحق بنا قبل أول ضوء ولكنه وصل متأخرًا ولم يجدنا في المكان المحدد ووجد أن المكان مكشوفًا وقام الدليل بإرشاده إلى
مكان مستتر بالقرب من هذه المنطقة وسألته عن الأفراد فقال لي تمام وموجودين وسأستدعيهم لك فقلت له لا سوف نذهب نحن لهم وذهبت إلى الأفراد في مكان مخفي جيدًا وقوبلنا بعاصفة من العناق والقبلات ممن يعرفني ومن لا يعرفني ووجدت عودة الدليل وقد نجح في أول اختبار له وتحركنا إلى مكان فصيلتي واستقبل الأخوة الزملاء زملاءهم استقبالاً طيبًا حارًا وكان الليل قد حل ولكن القمر كان بدرًا مضيئًا.

كان لابد من إحضار الصواريخ المدفونة بالقرب من منطقة الإبرار أثناء الليل وذلك لعدم وجود أي تحركات بالمنطقة وقررت إحضار الصواريخ وتجميع كل شيء وكان عندي أمل في لقاء باقي قوة السرية وبمرور الوقت اكتسبت ثقة كبيرة في المكان وأحسست أني أعرفه جيدًا وأنه لم يعد غريبًا علي كأول ليلة وأصبحت ورجالي على استعداد لملاقاة العدو في هذا المكان.

وأصدرت أوامري لقوة الطائرة التي كان يقلها الخرجاوي بالراحة بعد تعيين أفراد الخدمة، وقمت بقيادة قوة الطائرة الأولى ومعي الدليل في اتجاه المنطقة المدفون بها الصواريخ ووصلنا إلى مكان الصواريخ واستخرجناها وكانت ملفوفة بأضلاع الهايك وقمنا برحلة العودة التي كانت شاقة للغاية بسبب ثقل الصواريخ وتم وصولنا بعد عناء شديد إلى منطقة التجمع عند الفجر.

كانت الروح المعنوية حتى ذلك الوقت مرتفعة وتزداد بمرور الوقت ثقة الأفراد في المكان والتعود عليه وكانت تقلقني ثلاثة مشاكل حتى هذه اللحظة:

أولها مشكلة تحقيق اتصال بقواتنا لإبلاغ الموقف حتى الآن حيث لم يكن معنا جهاز لاسلكي بعيد المدى يحقق الاتصال اللاسلكي بقيادة المجموعة غرب خليج السويس ولم يكن معنا سوى أجهزة ياباني قصيرة المدى لم تحقق أي اتصال بباقي فصائل السرية والتي أبرت بالمنطقة، وثانيها بدء نفاذ التعيين والمياه والمشكلة الثالثة عدم ملائمة المكان المتواجدين فيه وضرورة اختيار مكان آخر كقاعدة دوريات، وهي مكان متوسط لمنطقة العمل مخفي ومستور يحقق إخفاء القوة المنفذة للكمائن والإغارات وكذا إخفاء المعدات والذخائر والمهمات مما يحقق لنا التحرك بحرية وخفة عند تنفيذ الكمائن حيث كان المكان الذي نحتله بالقرب من الطريق لا يتوافر فيه شروط قاعدة الدوريات وخاصة مع تكثيف العدو لعمليات الاستطلاع الجوي بواسطة طائراته المقاتلة والهليكوبتر وطائرات الاستطلاع التي لم تنقطع طوال الليل والنهار بصفة منتظمة.

أحداث يوم 8 أكتوبر 1973:

بوصولنا إلى منطقة الكمين قبل الفجر تم تجميع الصواريخ مع باقي المعدات والذخيرة وتم التتميم عليها وتمويهها وأخذ الأفراد قسطًا من الراحة بعد عناء ليلة كاملة وفي الصباح صعدت أنا والملازم أول أحمد الخرجاوي أحد الجبال العالية والمشرفة على المنطقة ومعنا نظارات الميدان وشرحت له المكان ونحن في محاولة للبحث عن أي عناصر لقواتنا ولم ينقطع أملنا في ملاقاة باقي القوة.

قمت بتوضيح قراري للضابط الخرجاوي بالنية في تنفيذ الكمين المؤكد حدوثه إن شاء الله في توقيت واحد مع ضرب منطقة خزانات البترول (الإغارة بالنيران) وضرب قوة العدو المتحركة في حالة كبر حجمها بالصواريخ وكذلك منع أي تدخل لقواته، وقد تفهم الضابط الخرجاوي قراري وقمت بإعطائه الأوامر بإعداد البيانات الابتدائية لقصف الخزانات والمنطقة المتواجدة على الشاطئ وكانت في مرمى الصواريخ وحددت له مكان الرمي على الجانب الآخر من الطريق وقد تم مراجعة ذلك على الخريطة، وكان (رحمه الله) ضابطًا شجاعًا ومنضبطًا يتعجل الاشتباك ودائمًا يقول لي "حاتشوف الصواريخ حتعمل إيه يا افندم دي حتعجبك جدًا"، وكان بشوشًا متفائلاً.

وأثناء استطلاعي للمكان مع الخرجاوي ظهر أتوبيس على الطريق وتابعناه بالنظارات الميدانية وكان خاليًا من الركاب ولكنه كان إشارة لبدء استخدام الطريق وعدنا إلى مكان تواجد الأفراد وكان الوقت ظهرًا وازدادت عدد الطائرات الهليكوبتر وطائرات الاستطلاع للعدو في المنطقة وأبلغني الضابط محمد عبد المنعم عن تحرك الأتوبيس.

وكان تفكيري لا ينقطع عن أسلوب حل المشاكل السابقة وفي حدود الإمكانيات المتاحة وكان أهمها اختيار منطقة تتخذ كقاعدة للدوريات، وبمناقشة الدليل أفاد بأنه يوجد مكان يكفي لإخفاء القوة والأسلحة والمعدات يصلح كقاعدة دوريات وعلى مسافة متوسطة من منطقة العمل وكان هذا حل للمشكلة الثانية.

أعطيت الأوامر بتجميع المياه الباقية في عدد من الجراكن وتجميع جميع الجراكن والزمازم الفارغة ليتم ملؤها من مكان تسريب المياه من المواسير وكانت المياه هامة جدًا لأني أحسست بانخفاض الروح المعنوية للأفراد كلما نقصت المياه.

أما بالنسبة لتوفير جهاز لاسلكي بعيد المدى لتحقيق الاتصال بقواتنا على الشاطئ الآخر فقد كان الأمل في مقابلة باقي عناصر السرية التي كنت متأكدًا من أنهم ما زالوا بالمنطقة ولكنهم في أماكن أخرى ويحاولون الاتصال بنا ولقاءنا.

مما سبق قررت التحرك آخر ضوء بالقوة بالكامل إلى قاعدة الدوريات الجديدة على الجانب الآخر من الطريق للوصول إليها عند منتصف الليل للاستعداد لتنفيذ الكمين والإغارة بالنيران مع أول ضوء يوم 9 أكتوبر.

وقد تم تنفيذ الآتي:

تجميع المياه القليلة المتبقية واختيار عشرة أفراد لحمل الجراكن والزمازم وخمسة أفراد كقوة حماية في حالة حدوث أي موقف طارئ (2 قاذف مضاد للدبابات ر ب ج – 2 رشاش – 2 بندقية) وتم التحرك إلى مكان المياه الذي كان على مسافة أبعد مما قدرت من على قمة الجبل ولكني كنت متأكدًا من تواجده، وعند وصولنا لم يكن هناك الجمال التي رأيتها أول مرة وكنت أضع عليها أملاً في أن تكون غذائنا يومًا ما في حالة عدم وصول أي إمداد ولكني كنت متوقعًا عودتها مرة أخرى للمنطقة للشرب، وأخذ الأفراد يشربون ويملأون الجراكن والزمازم وهم فرحين، وأثناء ذلك سمعنا صوت تحرك عربات جيب مسرعة في تلصص وبدون إضاءة في اتجاه مدينة أبورديس وكانت مفاجأة في وقت غير مناسب وتحركت في اتجاه المجموعة الساترة ورأيت عربتان جيب تتسللان في الظلام وأبلغني أحد رماة سلاح ر ب ج وكان من الجنود القدامى عن استعداده لضرب أحد العربتان حيث كانا صيدًا سهلاً لنا ولكني لم أرغب في فقد مفاجأتي للعدو والإعلان عن وجود عناصر للصاعقة في المنطقة بتدمير هذه القوة الصغيرة حيث كنت أرغب في تنفيذ عمل كبير مؤثر ومفاجئ ضد العدو ثم أقوم بالاختفاء لمعاودة مفاجأة العدو مرة أخرى وكان لسيطرة العدو الجوية على المنطقة يجعلني أشعر بأهمية الضربة الأولى لي حيث ستكون رادعة للعدو وعدنا نحمل المياه إلى باقي القوة ولما وصلنا وأبلغني الخرجاوي عن العربات التي مرت وأنه لم يشتبك معهم بناء على قراري الذي أبلغته له بأننا سنشتبك مع القوة المؤثرة للعدو وفي نفس التوقيت نضرب جزءًا كبيرًا من الصواريخ الجراد (ب) لتدمير مستودعات البترول حتى لا يستفيد منها العدو والتخلص من عبء حملها المقيد للحركة. وقد ازداد الأفراد ثقة بعد حصولهم على المياه التي كانت مقياسًا للروح المعنوية في مثل هذه المناطق.

وبعد فترة قصيرة من الراحة أصدرت أوامري بالتحرك إلى المنطقة الجديدة وكانت حركتنا بطيئة جدًا نظرًا للأحمال الثقيلة التي يحملها الأفراد وكانت أخطر مرحلة بالنسبة لنا هي عبور الطريق بالحمولات الثقيلة بالرغم من وجود مجموعة تأمين ونتيجة الجهد المبذول وإرهاق القوات كانت بعض المهمات تسقط من بعض الأفراد وكنت أقوم بجمعها وإعادة توزيعها، وبعد عبورنا الطريق أخفينا الصواريخ في أحد الخيران القريبة من المنطقة التي سيتم الضرب منها وحملنا القاذف وصاروخ واحد واستمرينا في السير.

أحداث يوم 9 أكتوبر 1973:

 تم الوصول إلى قاعدة الدوريات بعد أول ضوء منهكي القوى بعد عناء وجهد لا يوصف وقد أحسست أنني قسوت على الرجال لبذل مزيد من الجهد حتى نصل قبل أول ضوء، وبالرغم من ذلك فقد تأخرنا في الوصول حتى الساعة التاسعة وكانت أخطر فترة مرت علينا حتى وصلنا إلى قاعدة الدوريات بجبل وتر.

بعد التتميم وتعيين أفراد للخدمة، أعطيت راحة لباقي الأفراد على أن يستعد الجميع للانتقال إلى مكان الكمين قبل آخر ضوء حيث توقعت أن يتم تحرك العدو على الطريق بشكل رئيسي بعد أن اطمأن من عدم وجود أي تهديد بالمنطقة.

وبعد كل هذه التحركات بالمنطقة كنت قلقًا على مصير باقي السرية والطائرات التي رأيتها بعيني وأين هم الآن فالمنطقة خالية منهم ومن العدو تقريبًا، ظل هذا السؤال يحيرني مدة 7 أشهر حتى عدت إلى الوطن وعلمت أشياءً كثيرة بعد ذلك.

قمت بجمع الضباط وأعطيت المهام للضابط الخرجاوي لتنفيذ مهمة الإغارة بالنيران من منطقة مرتفعة على الطريق وذلك في توقيت اشتباكنا مع أول قول للعدو يمر على الطريق وكانت هناك رؤية متبادلة بين مكان الكمين وقوة الجراد (ب) وكان القرار بسيط وواضح.

أثار الضابط محمد عبد المنعم مشكلة عدم وجود اتصال بيننا وبين قادة المجموعة لإبلاغ الموقف وتلقي الأوامر وقد كنت مقتنعًا بضرورة وجود جهاز لاسلكي وقد فكرت في دفع الضابط محمد عبدالمنعم ومعه الدليل والرقيب راضي وفرد آخر إلى السرية الأولى والتي تعمل على مسافة حوالي
25 كم بوادي سدرى بعد أن تأكدت من معرفة الدليل لمكانها وقمت بشرح الطريق ومكان السرية لإبلاغهم عن الموقف في وادي فيران وعن قراري تنفيذ كمين وإغارة بالنيران على منطقة رأس شراتيب وخزانات البترول وعليهم إبلاغ القيادة أو دعمنا بجهاز لاسلكي آخر يتم إحضاره وقمت بمراجعة كل الترتيبات مع الضابط الخرجاوي من توقيت التحرك وعدد الصواريخ المطلوب ضربها وتوقيت الضرب ونوعه والتصرف في حالة أي موقف وظهور أعداد كبيرة من عناصر العدو وكذا إشارة الانتهاء من الاشتباك.

وقد ازدادت رغبة الأفراد للقتال بازدياد ثقتهم بأنفسهم بالتحرك في المنطقة ومعرفة الطرق والمسالك مما أعطى لهم دفعة كبيرة ورغبة للقتال وكذلك كان لموقع قاعدة الدوريات الجديدة أثر كبير في رفع معنويات الأفراد لإحساسهم بما تحققه هذه القاعدة من إخفاء يمنع اكتشاف طائرات العدو لنا والتي كانت تمثل أكبر تهديد، وللتخلص من المهمات الثقيلة التي كانت تمثل عبئًا ثقيلاً في الحركة واختيار هذا المكان أكد خبرة الدليل عودة ومعرفته الجيدة للمنطقة وأهمية تواجد دليل للإرشاد في مثل هذه المناطق وكانت قاعدة الدوريات لا تختلف عن المناطق المحيطة في الشكل العام فهي جبل صغير ولكن له مدخل طبيعي مستتر يؤدي إلى مغارة ترتفع لأعلى وتنتهي بسقف مفتوح وكان شكلها غريبًا جدًا وكان مناسبًا للراحة والاختفاء والانطلاق منه للعمل ضد العدو.

وبعد مرور ثلاثة أيام خططت للاعتماد على نفسي وقوة الأفراد الموجودين معي بعد أن فقدت الأمل في لقاء أي عناصر للسرية أو أفراد باقي الطائرات الخمس وكانت أجهزة الراديو الترانزستور هي الوسيلة الوحيدة التي نتابع بها الأحداث وموقف قواتنا وكنا نتابع هل سقطت مدينة أبورديس في يد اللواء الأول مشاة كما كان مخططًا أم لا وقد سألني بعض الأفراد وماذا بعد الكمين والعمل بالمنطقة يا أفندم وليس معنا طعام بالإضافة إلى الذخيرة التي سيتم استهلاكها، فكانت إجابتي إنشاء الله يكون اللواء الأول وصل إلى مدينة أبورديس لنقوم باستعواض الذخيرة والطعام لاستكمال المهام.

بعد دفع الملازم محمد ومعه (2) جندي والدليل للتوجه إلى السرية الأولى بوادي سدري لحل مشكلة الاتصال اللاسلكي وذلك لإحضار جهاز لاسلكي أو قيام السرية الأولى بإبلاغ المجموعة بموقفنا وقراري بالاستعداد لتنفيذ الكمائن، تم تحديد بعض النقاط مع الخرجاوي مثل توقيت التحرك الساعة الرابعة على أن يتحرك الخرجاوي بأفراده لأخذ الصواريخ من مكانها ورفعهم إلى المنطقة المحددة للضرب، وتتخذ باقي القوة أوضاع الكمين قبل الغروب بحوالي ساعة وهي الساعة التي يتوقف فيها تقريبًا تحركات العدو الجوية وتم ترتيب كل الإجراءات لتنفيذ الكمين اعتبارًا من آخر ضوء، وقد اكتملت لدي جميع العناصر التي تحقق نجاح قراري من حيث اختيار أنسب منطقة كقاعدة للدوريات كذا ثقتي في اختيار أنسب موقع لتنفيذ الكمين وذلك بعد استطلاع ودراسة الأرض والطرق المحيطة واحتمالات تحرك العدو، وكذا نجاحي في التحفيز المستمر للأفراد ورفع معنوياتهم لأقصى درجة ممكنة بتوفير المياه وتعليمات بترشيد استهلاك الطعام، وكان الخرجاوي دائمًا يقول "بس المهم العدو يمر بقوة كبيرة علشان ندمرها لأن مش معقول نصوم ونفطر على بصلة" وكان متحمسًا جدًا ومتعجلاً لقاء العدو.

لم أستطع مقاومة النوم من شدة الإرهاق البدني والذهني والعصبي وكانت الساعة العاشرة صباحًا تقريبًا وقلت للخرجاوي أمامنا يوم شاق ولازم نأخذ راحتنا لأننا ممكن نسهر طول الليل والحمد لله هذا المكان آمن وسأنام ساعتين وبعدين تنام أنت ساعتين ثم نجهز أنفسنا للتحرك فقال حاضر يافندم وتركني وذهب لفصيلته لإعطائهم المهمة ورحت في نوم عميق.

استيقظت على أصوات عالية وعند استفساري وجدت الرقيب راضي ومعه الرقيب أول العجوز وهو من قيادة السرية وسررت جدًا أننا عثرنا على أفراد من السرية وتمنيت أن يكون معهم جهاز لاسلكي واستفسرت منهما عن الموقف فعلمت من العجوز أنه تم إبرارهم أمس فقط قبل آخر ضوء تحت قيادة النقيب/ رضوان قائد السرية ومعهم رئيس الشئون الإدارية للكتيبة الرائد إبراهيم زيادة في طائرة خاصة أمس وبأوامر من المشير أحمد إسماعيل وزير الحربية وأنهم كانوا يعتقدون أن كل أفراد الطائرات التي تم إبرارهم في المنطقة أبيدت، فانتظروا في أماكنهم طوال الوقت حتى لاحظوا المجموعة المدفوعة إلى وادي سدري (الملازم محمد والدليل) أثناء سيرها، وعندما سألته عن مكان حمولة الطائرة وأين النقيب رضوان قائد السرية أبلغني أنهم قادمون مع الدليل وأنه يحتاج لأفراد لنقل التعيين والذخيرة وبعض المواد الطبية من منطقة الإبرار إلى هنا وقبل أن يذهب الأفراد وصل النقيب رضوان قائد السرية ومعه رئيس شئون إدارية الكتيبة إبراهيم زيادة وفرد لاسلكي وفرد حية وفرد رشاش وفرد بندقية ومعهم ذخيرة وتعيين ومياه ومعدات طبية كاملة تصلح لإجراء عمليات جراحية وهذا كل ما كنت أتمناه.

وكان لقاءًا حارًا وكانوا غير مصدقين أننا ما زلنا أحياء وموجودين بالمنطقة وسعدوا جدًا وازدادوا ثقة بوجودنا بالمنطقة وجلسنا نتحدث وكأننا افترقنا منذ شهور طويلة سألتهم عن موقف باقي السرايا وعلمت أن السرية الأولى التي كان مفروضًا أن تبر بحرًا بالقوارب لم تتمكن من الإبحار لمهاجمة العدو للسرية في مكان تحميلها ولم تحدث خسائر كبيرة والحمد لله والسرية التي تعمل في وادي بعبع (منطقة أبورديس) فهي تبدو ناجحة وهم على اتصال بقواتنا، وأننا الوحيدون الغير معروف أخبارنا وقد أمر المشير بتجهيز إمداد لنا ويتم دفعه بواسطة قائد السرية ومعه رئيس شون إدارية الكتيبة - اللذان لم يتمكنا من ركوب الطائرة يوم 6 أكتوبر - بتوصيل ذلك الإمداد وتحقيق الاتصال بقواتنا، وعند إبرارهم في منطقة تبعد حوالي 10 كم شمال الطريق وعلى مسافة حوالي 5 كم من قاعدة الدوريات وأنهم لم يشعروا بوجود أحد بالمنطقة قاموا بدفن التعيين والمياه والذخيرة في أقرب مكان لمنطقة الإبرار وفي اليوم الثاني شاهدوا المجموعة المدفوعة إلى وادي سدري واستتروا في بادئ الأمر حتى تحققوا منهم وتم اللقاء.

قمت بدوري بشرح مُسَيَّر الأيام السابقة وكان لكلامي أثر كبير في اكتسابهم ثقة كبيرة بالمنطقة بعد ملاحظتي حرصهم الشديد في الحركة وهو شيء طبيعي في بداية العمل وسعد النقيب رضوان من سماع ذلك كذلك الرائد إبراهيم زيادة وأبلغتهم بقراري بأن كل شيء معد في تنفيذ الكمين اليوم فطلب مني النقيب رضوان الانتظار حتى يتم رؤية الطريق والمنطقة حيث أثار شرحي لهم الرغبة لرؤية ما سمعوه وكان في اعتقادهم شيء صعب وخيالي وقمت بالفعل واصطحبتهم إلى مكان الكمين على الطريق وكان ذلك قبل آخر ضوء بحوالي 30 دقيقة ومررت على مكان الصواريخ وشاهدوها ثم عبرنا الطريق وشاهدوا أول مكان يتم احتلاله وحددت لهم أفضل مكان للكمين ومكان مرابض نيران الصواريخ الجراد (ب) وشرحت لهم فكرة قراري في تنفيذ الكمين في توقيت واحد مع ضرب الخزانات، وكان القمر بدرًا وكل شيء واضحًا وزادت ثقتهم بالمكان بعد أن شاهدوا على الطبيعة ما تحدثت عنه وكانت الروح المعنوية للأفراد وحماسهم مفاجأة لهم، وعندما سألني قائد السرية بأن الطريق خال ولا يبدو عليه حركة فأبلغته بأنه من المتوقع أن يستخدم في أي وقت الآن نتيجة استطلاع العدو للمنطقة بالطائرات والعربات أمس وعمومًا نحن جاهزين، فوافق على القرار ولكن الرائد إبراهيم اقترح عدم استخدام الصواريخ الجراد (ب) في الهجوم وحاولت إقناعه بضرورة استغلالها في إحداث أكبر خسائر بالعدو ومفاجئته والتخلص من عبء حملها وإجهاد الأفراد وقد لا تتيح لنا الظروف استخدامها بعد ذلك وخاصة أن العدو ما زال يسيطر على المنطقة وأصررت على قراري ولكن تدخل قائد السرية وحاول إقناعي رغم عدم اقتناعه الذي شعرت به ولكنه كان إرضاء لفكرة الرائد إبراهيم والذي كانت أفكاره بعد ذلك غير ملائمة لما عايشته على الطبيعة خلال تواجدي بالمنطقة.

عدت مرة أخرى إلى قاعدة الدوريات وتركتهم على الطريق بعد أن اعتذرا عن العودة معي، وقد أوصاني إبراهيم زيادة بتعيين 5-6 أفراد لحماية قاعدة الدوريات وتم نقاش آخر عن عدم جدوى ترك هذا العدد الكبير حيث لا يوجد حتى أشباح بالمنطقة ويجب استغلال القوة النيرانية لهؤلاء الأفراد، وأصر هو والنقيب رضوان مع عدم اقتناعي وإصراره الذي لا معنى له، وقمت باختيار الأفراد الذين سينفذون الكمين وكنت مضطرًا لترك بعض الأفراد لحماية قاعدة الدوريات وبعض أفراد سلاح الجراد (ب) ولكني فوجئت بالروح القتالية العالية وأصالة الجندي المصري والرغبة الشديدة لنيل شرف قتال العدو وكانت لحظة مؤثرة لا أستطيع وصفها وبكى الأفراد الذين تقرر بقاؤهم في قاعدة الدوريات وكلهم يرجوني أن يكونوا معنا للقتال وقد تذكرت لحظة وصولنا أول يوم والارتباك والرهبة التي كان الأفراد عليها والثقة والإقدام التي تملأهم اليوم فقمت بتهدئتهم وأقنعتهم بأن هناك عمليات أخرى سنقوم بها وأن واجبهم هنا لا يقل أبدًا عن واجب زملائهم وعليهم بإعداد الطعام والاستعداد لاستقبال زملائهم واقتنعوا على مضض وكانوا ثلاث أفراد وتحركت إلى الطريق ووجدنا النقيب رضوان والرائد إبراهيم ينتظروننا والهدوء يخيم على الطريق كالعادة وأخذنا أماكننا على الطريق وأخذنا نتحدث عن قلة الحركة على الطريق والسكون الذي يخيم على المنطقة بعد أن حددت أماكن الأفراد والتأكد من وجود كل فرد خلف ساتر واستعدادهم التام وأخذنا نتبادل الحديث الطريف مع الأفراد.

وأثناء ذلك سمعنا أصوات عربات كثيرة وإنارة عالية ولم نستطع التحقق من العربات القادمة ولكننا أخذنا أماكننا وتوسطت أول مجموعة في اتجاه تقدم العربات وكان الرائد إبراهيم في اليمين مع بعض الأفراد والنقيب رضوان للخلف قليلاً على أرض مرتفعة ومعه رشاش خفيف وكان الحديث بيننا ما زال يدور مع استعداد الجميع للاشتباك لتدمير العدو وقال لي الرائد إبراهيم ده قول (رتل عربات عسكرية) طويل قوي يا مجدي ويصعب الاشتباك معه فأجبته أنه إذا كان كذلك فيمكن الاشتباك مع النصف الخلفي من القول ورد النقيب رضوان لا داعي لذلك ثم قال لي الرائد إبراهيم زيادة لا تشتبك يا مجدي لأنهم ممكن يدهسونا وتردد بين الاشتباك من عدمه وكان الاتفاق مع قوة الكمين بأن إشارة الاشتباك هي إطلاقي لنيران بندقيتي مع ترديدي لكلمة الله أكبر حيث كنت القائد المنفذ.

وأثناء انشغالنا بقدوم القول مرت عربة جيب مسرعة وهي عربة تأمين القول وكانت مطفأة الأنوار ولم نلحظها إلا وهي تمر أمامنا وكان القول يقترب شيئًا فشيئًا بأنوار شديدة ودوي هائل وظهر القول قريبًا منا وظهرت سيارتان أتوبيس في مقدمة القول مضاءة من الداخل وبدأت المعالم تتضح شيًا فشيئًا وأصوات الموسيقى تعلو وضحكاتهم تجلجل من داخل الأتوبيسات وقدرت الموقف ووجدت أنها فرصة ثمينة لتدمير هذه القوة من أفراد العدو الذي بدأت تتضح داخل الأتوبيسات المضيئة، ولم أفكر كثيرًا في باقي القول وسمعت صوت النقيب رضوان "انتظر يا مجدي" تلاه صوت الرائد إبراهيم "بلاش تشتبك يا مجدي"، وأبلغتهم أنها فرصة ثمينة وأحسست بأن الأفراد من حولي على أهبة الاستعداد ومنتظرين أولى طلقات بندقيتي ومع كلمة الله أكبر كانت طلقاتي المصوبة على الأفراد داخل الأتوبيس الأول تخترق الأتوبيس وأجسامهم وكان الأفراد في قمة التحفز حيث انطلقت دانات القاذف الصاروخي ر ب ج والطلقات تلاحق نيراني بأعلى معدل وبمفاجأة للعدو لن ينساها الدهر لمن كتبت له الحياة وانقلبت الموسيقى إلى عويل وصراخ ما زال يدوي في أذني ومن لم يمت بالرصاص والشظايا فإنه مات رعبًا وخوفًا ولن ينسى تلك اللحظة وقمت بتغيير خزنة الذخيرة التي كنت قد أعددتها من قبل بطريقة الصاعقة في أقل من لحظة لأنهي الخزنة الثانية ثم الثالثة
بأعلى معدل وكان الجميع على أعلى مستوى من القتال والشراسة وكنت أشاهد أجزاء كبيرة جدًا تتطاير من الأتوبيسات وكانت الأتوبيسات ما زالت مسرعة وقلت سرعتها باندفاعها وانقلبت الأضواء إلى ظلام واستمر الصياح والعويل والأنين يصدر من الأتوبيسات وجريت خلف أحد الأتوبيسات بقنبلة 43 (مضادة للدروع) لأقذفها عليه ولم أشعر إلا بصوت الرائد إبراهيم يناديني كفاية يا مجدي أما باقي عربات القول فقد أطفأت أنوارها وأسرعت بالهروب من حيث أتى في سرعة عالية وقد كنا متوقعين أن يستمر تقدم العدو مع استمرار اشتباكنا ومهاجمتنا ثم نقوم بالانسحاب تحت ستر المجموعة الساترة على الجانب الآخر وكان ذلك طبقًا للتخطيط ولكن فوجئنا بانسحاب وهروب باقي القول دون الاشتباك معنا وحاولت المجموعة الساترة ومجموعة الكمين الاشتباك مع مؤخرة القول المنسحب رغم بعد المسافة، وساد هدوء تام بعد هذا الاشتباك وبقي صوت القول الهارب في ظلام ورعب ويبدو أن شدة المفاجأة ضاعفت من قوتنا وتأثيرنا على العدو لأن القول كان به عربات مدرعة بكامل تسليحها كما شاهدتها في اليوم الثاني ولكنها لم تقاوم وفضلت الانسحاب، وهنا فكرت في مصير باقي السرية التي لم تصل ولو كانت انضمت إلينا لكنت خططت لتشكيل مجموعة قطع تتعامل وتدمر باقي قوة القوة أثناء انسحابها وهروبها.

وبانسحاب وهروب العدو تهلل الجميع وضحكنا وكبرنا وسعدنا سعادة بالغة لما أصاب العدو من خسائر وكذلك ذعر ورعب ومفاجأة، وتعانقنا وكل ذلك في ثوان معدودة وبدأت أستعلم عن الخسائر، ولم يكن هناك أي خسائر إلا حرقًا أصاب أحد الجنود الشجعان رحمه الله في ظهره من نيران ر ب ج عندما أصاب أحد زملائه الأتوبيس بطلقة ر ب ج وأعاد التعمير وأخذ اتجاه الأتوبيس بعد أن تحرك ومن الحماس لم يشعر أن الغازات واللهب الخارج من ر ب ج ستؤثر على زميله ثم اتخذت قراري بسرعة تجميع الأفراد وإخلاء منطقة الكمين والتوجه إلى قاعدة الدوريات حتى نتجنب أي رد فعل قوي للعدو بهذه المنطقة وحملنا سلاح المصاب وساعدناه وعدنا مرة أخرى في اتجاه قاعدة الدوريات وفي نشوة الانتصار انحرفت عن الطريق ولكن سرعان ما عدت للطريق الصحيح لنجد باقي الزملاء في استقبالنا مهللين فرحين بعودتنا وأخذ باقي الجنود يصفون لهم حالة العدو والذعر والخوف الذي سيطر عليه وأحضرنا الأدوية والمعدات الطبية الكثيرة ولكن للأسف لم نجد مرهمًا للحروق وأعطيناه مسكنًا، وبعد أن عينت أفراد الخدمة نام الجميع سعداء وكانت صورة تنفيذ الكمين تتحرك أمامي وتطن في أذني وتملأني فخرًا واعتزازًا وأملاً في المزيد من العمليات وكنت متأكدًا من أن ذلك هو شعور الجميع.

كان لنجاحنا في تنفيذ هذه العملية أثر هام بعد ذلك ودروس مستفادة حيث حقق ذلك النجاح الثقة لأبطال الصاعقة وكسر حاجز الخوف من العدو وكذلك الرغبة الشديدة لباقي الأفراد لإثبات قدرتهم على القتال والمشاركة في شرف القتال وكنت ألمس ذلك جيدًا فقد توافرت الشروط الهامة للاستمرار في القتال وهي: مهارة وكفاءة قواتنا في قتال العدو واكتشاف مدى جبنه رغم قدراتهم القتالية العالية بما لديهم من تفوق في السلاح والمعدات والمدرعات ونجاح الرجال في تحقيق المفاجأة والحفاظ على المبادأة والتعرف على الأرض وتوفر الطعام والمياه والروح المعنوية العالية ومشاعر الحب العميق بين الجميع التي تولدت من تعاطف الأفراد معًا لشعورهم بوحدة المصير.

وقد علمت بعد عودتي من تأكد قواتنا بتدمير عدد 2 أتوبيس محملين بالطيارين والفنيين من سلاح الجو الإسرائيلي وذلك عن طريق سلاح الحرب الإلكترونية بالتقاطهم إشارة تفيد ذلك في نفس المنطقة.

أحداث يوم 10 أكتوبر 1973:

في صباح ذلك اليوم أبلغ أحد المراقبين على قمة الجبل الذي نتخذه قاعدة دوريات بوجود أفراد وعربات ومعدات بأعداد كبيرة على الطريق تتقدمهم دبابات دقاقة اعتقادًا منهم بأننا قمنا برص ألغام على الطريق وكان ذلك تحت ستر وحماية طائرات مقاتلة وهليكوبتر وبدأ الأفراد إعداد أنفسهم وتجهيز أسلحتهم لمواجهة أي موقف.

وقرر الرائد إبراهيم والنقيب رضوان التحرك من هذا المكان وأبلغته أن الوقت متأخر للتحرك لأن طائرات العدو منتشرة الآن في كل مكان والتحرك نهارًا بهذه الأحمال يحمل درجة خطورة ويعرضنا لنيران العدو – وقاما بإقناعي بالتحرك كالعادة وكان قرارًا خاطئًا من وجهة نظري لأنه سيكشف القوة في وقت مبكر في حين استمرارنا في هذا المكان المخفي سيؤخر اكتشاف العدو لنا مما يمكننا من استغلال الوقت حتى حلول الظلام، الذي لا يجيد العدو القتال فيه ويتجنبه.

فأصدرت الأوامر للأفراد بالتحرك من داخل الجبل في اتجاه قمته على أن يكون التحرك على الأرض المرتفعة لتحقيق الاختفاء في حالة استطلاع العدو بطائراته وتحركنا في اتجاه الشمال وكان في المقدمة عودة الدليل والنقيب رضوان والرائد إبراهيم وأنا ثم باقي القوة وكان الضابط الخرجاوي في المؤخرة والضابط محمد في المنتصف، وكان التحرك بطيئًا جدًا ومرهقًا كما توقعت لأن صعود الجبل بهذه الأحمال صعب وخطير للغاية لدرجة أن تحركنا لمسافة مائة متر استغرق حوالي ساعة وقد أحسست بتعب النقيب رضوان الذي أبلغني بإعطاء راحة للأفراد للإفطار وكنا قد أخلينا مكاننا المستتر وأصبحنا في أماكن مكشوفة بدرجة أكبر.

وبعد تناول الإفطار وأثناء شرب الشاي فوجئنا بصوت طائرة تمر فوقنا ثم أعادت الطائرة الكرة مرة أخرى وقد أصابت الدليل بالربكة وكانت الطائرة هليكوبتر بل 205 بزحافات وحجمها كبير وبابها اليمين مفتوح وهناك أفراد بها نراهم بوضوح وكنت ما زلت ممسكًا بكوز الشاي والذي كان له مذاق خاص لن أنساه في حياتي وفي المرة الثانية كان الواضح أن العدو قد اكتشف مكاننا وبدأت طائرتان تحومان فوق الموقع وبعد مشاورات مع الرائد إبراهيم والنقيب رضوان استدعيت أحد أفراد القاذف المضاد للطائرات وسألته عن إمكانية ضرب مثل هذه الطائرات فأجاب أنه يمكن ضربها وكانت فرصة لنا لضرب طائرات العدو المحملة بقواته وجلست بجوار الفرد وقلت له عندما تكون جاهز اضرب وقام بالضرب والجميع في انتظار النتيجة وانطلق الصاروخ بسرعة كبيرة ومر من خلف الطائرة إلى الفضاء الشاسع وكان الرائد إبراهيم والدليل والنقيب رضوان على جانب وكنت مع الجندي حامل القاذف المضاد للطائرات على الجانب الآخر وكنت أرى كل شيء أمامي حيث كانت الطائرة بحجمها الكبير تحوم حول الجبل والأفراد يطلون منها وتوقعت أن تبتعد الطائرات بعد التعرض لهم بنيران القاذف م ط ولكن استمرت طائرات العدو في الالتفاف حول المكان وكنت قد أبلغت بعدم إصابة الطائرة وأبلغني النقيب رضوان عن إمكانية ضرب صاروخ آخر وحاول الفرد مرة أخرى بعد أن أكد لي الجندي بأن كل شيء تمام وأن هناك صفارة وإشارة ضوئية من القاذف تؤكد صحة التصويب، ولكن مر الصاروخ بسرعة فائقة بجوار الطائرة وكانت مفاجأة لنا عدم إصابة الطائرة مرة أخرى وفقدنا الثقة في هذا السلاح والذي لو قدر له وأصاب أحد الطائرات لتغير الموقف تمامًا لصالحنا في التو واللحظة ولأجبر العدو على التخلي عن المكان وزاد من الروح المعنوية للأفراد.

وفوجئنا بمبادرة العدو بإطلاق النيران من الطائرة لأول مرة بسلاح رشاش ثقيل ½ بوصة يطلقه فرد شبه مدلى من الطائرة وتقوم الطائرتان بالالتفاف حولنا تستر كل منهما الأخرى وبعد قليل ظهرت طائرة ثالثة وظلت الطائرات الثلاثة تحوم فوق المنطقة وتقوم بإطلاق النار وكنت قد انتقلت إلى الجانب الآخر الأكثر وعورة ولم أجد الرائد إبراهيم زيادة والدليل عودة ووجدت النقيب رضوان يحاول تفادي نيران الطائرات وكانت المنطقة على هيئة مصاطب ووجدت أنه مكان مكشوف إلى حد ما وقلت له المكان الأعلى أنسب لنا وصعدت فعلاً وانتظرته ولكنه لم يستطع التسلق فعدت له ومددت له يدي لمساعدته وحاول الصعود ولكن افترقنا تحت تأثير نيران العدو وحاولت مرة أخرى ولكنه لم يستطع ويأس وأشار لي بأنه سيبقى في مكانه، وتفرقنا مرة أخرى مع نيران العدو وناديت عليه بصوت عال وبإصرار لحمله وحاول مرة أخرى وحاولت باستماتة ولكنه لم يستطع ولم أستطع، وفكرت في النزول وحمله وإحضار الشدة الثقيلة خاصتي ولكن نيران العدو المركزة ضدنا لم تعطنا الفرصة، وكان ذلك أثناء مهاجمة الطائرات بالنيران لأي شخص يظهر من الخيران والمخابئ وكانت مفاجأة لي أسلوب مهاجمة العدو لنا بهذه الطريقة وظل لمدة طويلة يحوم بالطائرات الثلاثة التي كانت ظاهرة وكانت هناك طائرات أخرى غير ظاهرة نسمع أصواتها تحت مظلة الطائرات المقاتلة وكانت تطير مُشَكِّلَة رأس مثلث وكانت أحيانًا تختفي طائرة خلف الجبل وتظل الطائرتان تدور حول المكان وظننت أن العدو يحاول حصارنا في هذا المكان إلى أن يضربنا بقنابل الطائرات المقاتلة أو القاذفة ويكفي قنبلة واحدة وزنها خمسمائة رطل أو ألف رطل للقضاء على جميع الأفراد في هذا المخروط الجبلي المغلق وأثناء استتاري ومراقبتي للطائرات وتفادي الطلقات ومحاولتي إقناع النقيب رضوان للصعود سمعت صوت الرقيب أول العجوز ينادي بأعلى صوته على النقيب رضوان ويسأله ماذا يفعلون فناديته وأعطيت أوامري للجميع بأن يأخذ الأفراد السلاح والشدة الخفيفة ويخلوا المكان فورًا مستغلين السواتر الأرضية لتأمين ارتدادهم إلى مكان تشوين المياه والتعيين، وكنت على أمل أن ينجح أكبر عدد من الأفراد في إخلاء هذا المكان فورًا للتخلص من هذا الحصار والارتداد إلى مكان تشوين المياه والتعيين بأقل خسائر ممكنة في ظروف تفوق العدو في الأفراد والتسليح وتدعيم الطيران لهم.

وبعد لحظات قليلة سمعت أصوات جنزير المركبات المدرعة وبعدها بقليل بدأت أصوات مدافع هذه المجنزرات تصب وابل نيرانها داخل الجبل وكنت أحس بأن الجبل ينهار فوقنا وفي نفس التوقيت تقريبًا ظهر جنود العدو على المناطق المرتفعة المسيطرة على الموقع ومعهم مدافع خفيفة وبذلك اكتملت صورة تدخل العدو وخطته للقضاء على عناصر الصاعقة في المنطقة وعلى العكس فقد كان لظهور أفراد العدو أكبر الأثر في إثارة حماس الأفراد والذي أزال مفاجأة هجوم الطائرات ومركبات العدو المجنزرة وكأنهم غير موجودين وأصبحت الرغبة في مواجهة الجندي الإسرائيلي هي ما أراده الجميع، ودون أي أوامر وفي وقت واحد تقريبًا أخذت عناصرنا تبادل العدو إطلاق النار والذي تكبد خسائر لم يكن يتوقعها فبدأت عناصره في الاختفاء خلف المناطق المرتفعة وبمعاونة الطائرات قام العدو بالضرب على الصخور المقابلة لتنهار على أفراد الصاعقة في المخروط (الخور) الجبلي وظللنا نتبادل إطلاق النار مع أي فرد يظهر للعدو وكان قتالاً شرسًا رغم أنه لا وجه للمقارنة بين عناصر قواتنا والعدو الذي تفوق في العدد والمعدات والطائرات بالإضافة لحصاره لقوة صغيرة لن تجد أمامها خيارًا مهما طال القتال غير الاستشهاد فكان القتال شرسًا على غير ما توقع العدو حيث كان يتوقع استسلامنا أمام المفاجأة والكثرة العددية الكبيرة وطائراته ومدرعاته، بل تراجع العدو أمام الخسائر الكبيرة التي مني بها نتيجة كثافة نيران أبطال الصاعقة، وقد خشيت أن تكون تلك الخسائر التي مني بها العدو محدودة أو خيال تهيأ لي نتيجة الموقف ولكنه كان حقيقة وصلتني بعد ذلك بشهور من أحد البدو عن قصة يتناولها البدو عندما سمع أحدهم حديث بين 2 جنود إسرائيليين حول خسائرهم في منطقة جبل وتر التي لم يكن يتوقعونها بالمنطقة وذلك أثناء قيامهم بإرشاد أفراد الصليب الأحمر عن أماكن الشهداء المصريين بالمنطقة.

وكان العدو في البداية يظهر الشجاعة والثقة والغرور فوق القمم وعندما أحس بتأثير نيراننا وبإصرار قواتنا على القتال قام بالاختفاء وضرب الصخور لتنهار على المقاتلين وحاول العدو لعدة مرات اقتحام المكان وفوجئ بمقاومة شديدة وخسائر أكبر وظل أبطال مصر يقاومون العدو لمدة ساعات نفذت الذخيرة خلالها وقبل آخر ضوء حيث تكاثفت الأتربة ودخان البارود وتعالت أصوات المصابين والمقاتلين وبدأت أصوات نيراننا المكثفة القوية تقل شيئًا فشيئًا مع نفاذ الذخيرة وكان الموقف عصيبًا ونفذت ذخيرتي التي كنت أحاول أن أسيطر عليها أطول وقت ممكن وكان معي بالشدة كمية من الذخيرة وبمحاولتي النزول للشدة التي كانت بالقرب من النقيب رضوان وأثناء تحركي حاصرتني نيران العدو الذي بدأ يسيطر على المكان فجريت وعدلت مكاني ولكني وجدت مجرى سيل أمامي ولم أستطع أن أقف تحت نيران العدو ووجدت نفسي أسقط من هذا المكان العالي الذي يبلغ خمسة أمتار تقريبًا ولولا أني كنت بالقرب من الجدار ونزلت في منطقة رملية ناعمة لكان موتي أكيدًا، ووجدت نفسي بعد ذلك في منطقة على جانب آخر من الجبل وكلها مجاري سيول على شكل مصاطب بفاصل كبير ولم أستطع الصعود أو النزول وشعرت بيأس شديد مع خفوت صوت الطلقات وبدأت أسمع مكبرات الصوت للعدو تأمر قواتنا بالاستسلام بلكنة عربية وعادت لذاكرتي ذكريات حرب 1967 التي لم أحضرها ولكنني سمعت مثل تلك المواقف وحزنت حزنًا شديدًا ولم أدر ماذا أفعل وأحسست بالعدو يقوم بتفتيش المنطقة ويضرب طلقات تفتيش في كل مكان وقمت بالاستتار في أحد مجاري السيول وبعد فترة قصيرة وعندما نظرت لأعلى رأيت أرجل جندي إسرائيلي مكان نزولي وتوقعت أنه سيقوم برمي قنبلة يدوية للتفتيش أو بعض الطلقات ولكنه لم يتصور أن يكون أحد في هذا المكان العميق، حيث كنت أعلم أنهم يبحثون عني لأنني أقرب نيران لهم وتوقعت أن يكون أحدهم أو الطائرة حددت مكان سقوطي بهذه المنطقة.

وبعد ذلك بقليل حل الليل وأحسست بالعدو يأخذ أماكنه في الجبل كله وكان على الصخرة التي فوقي طاقم رشاش وسمعت صوت تعميرهم مدفع الماكينة كما سمعت أصوات أفراد العدو أسفل مني في الاتجاه الآخر من الجبل وهذا يعني احتلالهم للجبل من جميع الاتجاهات وكان استمرارهم ليلاً على غير أسلوب العدو كما قال لي الدليل، مما يؤكد استمرار تواجد عناصر لنا داخل الجبل، ثم ساد المكان صمت تام حتى كدت أشك أن هناك أفرادًا للعدو وقد فكرت في استغلال الظلام وإخلاء المنطقة ولكني فوجئت بطلقات نارية وطلقات ر ب ج في اتجاهي وكانت سريعة وكثيفة وقام العدو بالرد عليها وسررت جدًا أن هناك من الأفراد من استطاع أن يفلت من الحصار ويقوم بالإغارة على مكان العدو وكانت لهذه الإغارة بالنيران أثر بالغ في رفع معنوياتي كذلك حددت لي نيران مدافع الماكينة للعدو وأصواتها والمكان الذي يتمركزون فيه وقمت بمشاهدة المجموعة التي أسفل مكاني بحوالي 5- 7 متر ووجدتهم حوالي 5 أفراد على مصطبة ومعهم مدفع نصف بوصة وكانوا يتصلون باللاسلكي للإبلاغ عن الموقف وطلب الطيران وهم منزعجون، وبعد فترة قصيرة وصلت طائرات هليكوبتر وقامت بالطواف حول المكان وبسبب الظلام الدامس بالجبل عادت من حيث أتت بعد أن دارت عدة مرات حول المكان وانتظرت حتى عاد السكون وقررت التحرك من المكان لأن في الصباح سيكون هناك بالتأكيد تفتيش دقيق لقاعدة الدوريات، وأخذت أتحسس طريق تحركي بحذر ولكن صوت تساقط بعض الصخور من أثر تحركي أثار الذعر في العدو وأخذ يطلق النيران في كل اتجاه دون تمييز ولم يكن هناك أي بديل أمامي غير الاستمرار في التقدم لإخلاء هذه المنطقة وتحركت بصعوبة بالغة لشدة وعورة الأرض وتعلقي بين قواطع عمودية للجبل تصل إلى مسافة بعيدة لا أراها وجبل لا نهاية له من الارتفاع والطرق المسدودة.

وسرعان ما جاءت الطائرة الهليكوبتر ولحقتها طائرتان مقاتلة للعدو لتضيء المكان بالمشاعل وتجعلها ظهرًا لتبحث مرة أخرى ليلاً وطبعًا كنت أعرف مقدمًا أنها ستأتي وانتظرت دون حركة لبعض الوقت حتى ابتعدت نهائيًا وقمت بتسلق الجبل الذي يشبه الجدار الأملس وكدت أن أسقط من هذه الارتفاعات، ولكنني تمسكت بصعوبة بالغة وكانت البندقية تعوق حركتي وتخل من توازني وكانت فارغة من الطلقات وقررت عدة مرات أن أتركها وأواصل التحرك ولكني عدلت عن قراري في كل مرة أملاً في حصولي على ذخيرة ومواصلة القتال مرة أخرى مع عناصر الصاعقة بالمنطقة وواصلت السير البطيء جدًا طوال الليل حتى بدأ ظهور النهار ولم أكن قد تحركت أكثر من خمسمائة متر وكنت أحاول صعود الجبل فأجد موانع وسدود وكذلك عندما كنت أريد النزول وكل ما كنت أريده هو البعد عن هذه المنطقة، وقبل أول ضوء من نهار يوم 11 أكتوبر استطعت أن أجد طريقي للنزول من الجبل بصعوبة بالغة.


 

أحداث يوم 11 أكتوبر 1973:

استمريت في السير، وعلى ضوء النهار وجدت مكان مستتر من أرض رملية وطفلية فقمت باستطلاع المكان وكان في نفس محيط الجبل ولكن على الجانب الشمالي منه، وظهر الصباح ومرت الطائرات الهليكوبتر في كل مكان وكانت تبحث بتركيز شديد في منطقة الجبل وكنت قد تركت الخوذة بجوار الشدة في بداية القتال ولم يبقى معي غير البندقية والطاقية الصوف التي ألبسها تحت الخوذة، وكنت أشعر بعطش شديد من أثر دخان البارود والتراب وأشعر بإحباط لما أصابنا ولكني كنت على أمل مقابلة بعض الجنود والأفراد الذين تمكنوا من التسرب أو بعض المجموعات التي أحست بقتالنا في المنطقة بعد هذه الموقعة والدليل على ذلك المجموعة التي هاجمت العدو الليلة الماضية.

وأثناء تفكيري وفي هذا الصمت لمحت ثعبانًا صحراويًا سامًا يزحف بجوار رجلي وينظر لي متعجبًا وأخذ كل منا ينظر للآخر متحفزًا وتذكرت فرقة الصاعقة وكيف تعلمنا صيد الثعابين وشيها وأكلها وكان طعم معظمها سيئًا ومقززًا للغاية، وتحرك الثعبان بعيدًا عني في بطء شديد وكنت متحفزًا له إذا حاول مهاجمتي ثم اختفى في مكان بعيد وأصبح الثعبان عدوًا آخر ممكن أن يهاجمني في أي وقت وعلى غرة وقلت لنفسي كان يجب أن أقتله ولكن يوجد كثير غيره، ورأيت بعض النمل والحشرات الصغيرة كنت أنظر إليها وهي تتحرك ولم أرغب في قتلها وأصبحت أفكر في القتل والموت والحياة وكيف كنت قريبًا من الموت بل كان فوقي وتحتي وأمامي وخلفي ماذا لو أصابتني طلقة من الطائرة أو قنبلة من العدو وجعلتني شهيدًا ولماذا أجل الله قضاءه؟ وهل سيكون قريبًا؟ في أحد الأماكن هنا أم تكتب لي النجاة وأعود لأهلي وماذا يكون طعم النجاة، وكان أملي في تجميع أي قوة ومهاجمة العدو مرات أخرى وكنت أتساءل: ما مصير قواتنا؟ وما مصير اللواء الذي كان يجب أن يقابلنا في أبورديس بعد ثلاثة أيام من القتال؟ وما مصير باقي سرايا الكتيبة؟ كان تفكيري لا يتوقف وكنت أقرأ بعض آيات القرآن التي أحفظها.

كان الشعور بالعطش يزداد والصمت يخيم على المكان لا يقطعه غير صوت الطائرة الهليوكوبتر تمر للبحث في المنطقة بدقة وعلى ارتفاع منخفض وتخيلتها تبغي رفع كل صخرة بالمنطقة للبحث عن أي جندي وكان هذا يعطي أملاً أن هناك أفرادًا استطاعوا الإفلات من حصار العدو وهو أمر ليس غريبًا على رجال الصاعقة التي أحد مبادئها (أصب واهرب) ويعني اضرب العدو فجأة ولا تبقى مكانك لقلة إمكانياتك وعدم قدرتك على التمسك بالأرض بل اظهر له مرة أخرى في مكان آخر وقم بضربه وإصابته وتحقيق الخسائر فيه وعد للهروب، وتمنيت مقابلة أفراد القوة وتخيلت استمرار محاربة العدو بقوة وحزم أكبر حيث ظهر العدو على حقيقته وليس الجندي الذي لا يقهر، وظللت في ذلك الموقع أقرأ القرآن وأراقب حولي علِّي أجد أحد الزملاء وأنتظر مرور الطائرات ويزداد بي العطش، وقررت التحرك عند حلول الظلام في اتجاه الطريق مرة أخرى لأبحث عن المياه وهو أهم شيء ثم أقوم بالبحث عن باقي الزملاء وحل الظلام فعلاً وهدأت الطائرات الهليكوبتر والمقاتلات بعد يوم بحث طويل.

تحركت بعيدًا عن الجبل في اتجاه بعض التباب لتجنب اكتشاف العدو لي من الجبل الذي يمكن أن يكون ما زال يحتله وتحركت في اتجاه الطريق الإسفلتي ومعي البندقية الفارغة والتي ما زلت متمسكًا بها على أمل أن أجد ذخيرة في منطقة التشوين وقد غيرت اتجاهي من طريق لم أسلكه من قبل ووصلت إلى مواسير المياه التي سبق وملأت منها المياه للفصيلة ووصلت بالفعل إلى الطريق وتحركت مع المواسير في اتجاه المكان الذي به فتحة بالماسورة ومررت على منطقة الكمين ورأيت بقايا الأتوبيسات المدمرة وهي أجزاء كبيرة من أجسام الأتوبيسات وتذكرت ما حدث وتحركت بين الجبل وبين المواسير خشية وجود أي كمين.

وصلت لمكان المياه وكان معروفًا لوجود بعض الحشائش التي نمت على أثر تسرب المياه ولكنني فوجئت بعدم وجود أي أثر للمياه وذلك بعد إصلاح العدو للماسورة وعدم تسريب أي شيء منها وظللت أبحث عن أي كمية مياه بالمنطقة دون جدوى وزاد يأسي وأثناء بحثي في المنطقة سمعت أصوات عربات فاختفيت خلف المواسير على بعد حوالي 5 أمتار من الطريق وسمعت أصواتًا كثيرة تماثل أصوات مرور العربات التي نصبنا لها الكمين ليلة أمس وبالفعل شاهدت عربة حرس وتأمين تمر ببطء وأنوارها مطفأة ثم مر قول مكون من سبعة عشر عربة وفي وسطها الأتوبيسات وكان القول هذه المرة مظلمًا ولا يصدر عنه أي أصوات وكان الفرق كبير بالنسبة لي عن المرة السابقة حيث أن أمامي هدف ثمين يمكن بأقل قوة التعامل معه وإحداث خسائر فادحة بقواته ولكنني كنت بمفردي ولا أحمل أي ذخائر للاشتباك وتمنيت أن يكون معي بعض الألغام لوضعها على الطريق لبث الرعب الذي كان كفيلاً بأن يقضي عليهم بعد أن أثر الخوف والرعب على خطواتهم كما كان واضحًا من تحركهم ونظرت للعربات التي كانت في متناول أي سلاح وظهر لي نقاط ضعف العدو وإمكانية تسلل قواتنا إليه دون اكتشافها بسهولة وضربه في أي وقت وكان يمكنني ببعض الطلقات القليلة من هذا المكان أن أبث الرعب فيهم (فأين مناعة العدو والأساطير التي كان ينشرها على أنه الجندي الذي لا يقهر).

مر القول وعاد السكون والشعور بالعطش القاتل فقمت بالتحرك على الطريق بحثًا عن المياه في أي مكان وفي البراميل الموجودة على الطريق ولكني لم أجد، ولم أستسلم وحاولت حتى وجدت برميلاً به مياه كانت قذرة للغاية وكنت أحس بذلك من طعمها وبقاياها في يدي ولكن كانت إنقاذ لي وشربت دون أي تفكير في تلوثها، وبعد ذلك استرحت قليلاً وقمت على ضوء القمر أبحث عن المكان الذي تم تجمع الأفراد فيه على الطريق والذي أمضينا به يومين وكان عندي أمل أن أجد بعض الزملاء أو بقايا طعام أو ذخيرة أو مهمات أو أجد الراديو الترانزستور الذي فقدناه في هذا المكان.

تأكدت أن المنطقة خالية من العدو عدا طائراته التي تمر من الحين إلى الحين وفي هذه الليلة قام العدو باستعراض لقواته الجوية بطائرات مقاتلة قامت باستعراض ليلي مع استخدام فوانيس الإضاءة، وقمت باستغلال القمر في البحث عن أي مخلفات ولكني لم أجد غير زمزمية مياه فارغة فأخذتها ونمت على الصخر ولبست الطاقية وكأنها بطانية واستعملت الزمزمية الفارغة كوسادة أسفل رأسي ونمت نومًا عميقًا.

أحداث يوم 12 أكتوبر 1973:

استيقظت قبل الفجر من أثر البرد الشديد في عظامي وأثر الأرض الصخرية على جسدي وقمت بحركات تسخين وإحماء وتدليك جسدي وحملت السلاح والزمزمية وعدت مرة أخرى إلى الجانب الآخر من الطريق وتحركت في اتجاه الصواريخ المدفونة ووجدتها كما هي وعليها بعض أضلاع الهايك فأخذت أحد الأضلاع.

استمررت في التحرك في اتجاه جبل وتر (قاعدة الدوريات القديمة) ووصلت بجوارها وقمت بمتابعة أثر أقدام الأفراد الذين قدموا إلينا من طائرة الإمداد وكان أثر أقدامهم واضحًا حينًا وغير واضحًا أحيانًا أخرى وكنت أسابق الزمن قبل وصول طائرات التفتيش وخاصة في الأماكن الغير وعرة (صخرية) والتي يمكن اكتشافها وظهور الأثر فيها بسهولة أكثر وكان أثر حذاء الرائد إبراهيم زيادة واضحًا فقد كان يلبس حذاءً خاصًا به وله رسمة واضحة على الأرض باسم زلط، وأثناء تتبعي للأثر الذي كان كثيرًا ما أفقده وكان تتبع الأثر لي مسألة حياة أو موت فهناك يمكن أن أجد بعض الأفراد والذخيرة والتعيين والمياه وفي الطريق لمكان التشوين والمكان الذي أخفى فيه النقيب رضوان والرائد إبراهيم الذخيرة والتعيين وجدت أثر أقدام النقيب إبراهيم زيادة متحركًا في اتجاه مكان التشوين وفرحت جدًا لأن ذلك يعني أنه عاد مرة أخرى إلى منطقة التشوين وذلك يعني أنه ما زال حيًا وتوقعت مقابلته في هذا المكان وكنت أتابع الأثر بدقة وحرص وتركيز شديد لأنه الأمل بالنسبة لي وأحسست بأهمية تتبع الأثر الذي تتعلق أمالي كلها به وكنت في نفس الوقت أتابع وصول الطائرات وأدقق السمع وظهرت أولى طائرات العدو حوالي الساعة السابعة صباحًا لتقوم بالبحث والتفتيش وبدأت أعرف وأحدد مواعيد دوريات التفتيش من الساعة السابعة صباحًا وقبل الغروب بساعة وكنت أتحرك بحذر شديد حيث تظهر طائرات العدو بصورة مفاجئة من خلف
الجبال التي كانت تقلل من سماع أصواتها وكان العدو يتحرك بالطائرات بين الجبال وحولها وفي الوديان بمهارة وعلى ارتفاعات منخفضة.

قررت التحرك نهارًا بالرغم من خطورة ذلك لإحساسي بقرب تواجدي لبعض الأفراد الذين تمكنوا من إخلاء الموقع أثناء القتال مثل الرائد إبراهيم وغيرهم وقد بدأت بالفعل ظهور طائرات العدو وكنت أقوم بالتحرك من مكان إلى مكان آخر مع اختيار الأماكن المستورة والتي يمكن الاختفاء فيها وذلك بعد ابتعاد الطائرة وهكذا ظللت أتحرك متتبعًا الأثر الذي كان يتجه إلى منطقة التشوين وكنت أسرع بالجري عندما أجد الأثر واضحًا وأدقق حتى أكاد أتوقف عندما يختفي الأثر، واختلفت الأرض بعد ذلك وظهر وادي متسع من الأرض الطفيلية ينتشر به بعض الهيئات الصغيرة ووجدت الآثار تعبر الاتجاه الآخر من الوادي وكانت المنطقة مكشوفة ولكن تغلبت رغبتي في معرفة مكان التشوين لإحساسي بالجوع والعطش وعدم الأمان لعدم وجود ذخيرة معي وكذلك أملي مقابلة أحد من الزملاء مع حرصي للاختفاء من طيران العدو الذي أحسست أنه يبحث عني شخصيًا.

وأسفل أحد تجمعات الصخور وسط الوادي وجدت أثر الرائد إبراهيم وبعض فوارغ الطلقات المتناثرة على الأرض وقد حزنت لذلك لتوقعي مهاجمة الطائرات له هنا وأسره أو استشهاده في هذا المكان ونسيت كل شيء وظللت أبحث عن أي أثر للرائد إبراهيم في المنطقة ولكني للأسف لم أجد له أي أثر مما أكد لي أنه إما استشهد أو تم أسره وجلست تحت هذه الصخرة أقرأ له الفاتحة واسترحت قليلاً وعدت مرة أخرى لتتبع أثر الإفراد الذي فقدته.

وتابعت الأثر بعد ذلك لمسافة قصيرة ووجدت نفسي أعبر الوادي في منطقة مكشوفة تمامًا، ثم أصل لمجرى سيل صغير وحوله آثار كثيرة وصناديق ذخيرة هاون يظهر جزء منه وقمت بإزاحة الأتربة من على بعض الصناديق ووجدتها صناديق طلقات هاون ودانات ر ب ج وجراكن مياه كبيرة وتعيين وعلب عصير وكانت بكمية كبيرة وفرحت لوجود هذه الكمية من الطعام والمياه والعصائر بعد فترة جوع وعطش وإرهاق، وكان المكان سيئًا وظاهرًا ويمكن اكتشاف أي فرد فيه ولكني لم أكن على استعداد لحمل المياه والطعام والتحرك فاكتفيت بتجهيز المكان وحفر مكان لي وإخفائه واسترخيت تمامًا بعد أكل كمية كبيرة من البلوبيف وشرب العصائر والمياه وأخذت أجهز الشاي بكمية كبيرة أيضًا وأصبحت لا أفكر في مشاكل الطعام والمياه ولكن ظلت مشكلة الذخيرة قائمة حيث لم أجد أي ذخيرة للبندقية التي أحملها وكذلك لم أجد أي أثر لأي أفراد وتوقعت أن يكون الأفراد في مكان قريب أكثر أمنا وأنهم سيأتون ليلاً للتزود بالمياه والطعام حيث لا يصلح هذا المكان للاختفاء، وكنت دائم التفكير ولا يقطع تفكيري غير طائرات العدو التي تبحث عن أفراد الصاعقة وكانت غير منتظمة أحيانًا ومتلاحقة وأحيانًا تأتي بعد مدة طويلة لا تزيد عن ساعتين.

كان الجو حارًا نهارًا وباردًا ليلاً ولكن الشعور بالبرودة والسخونة كان شيئًا ثانويًا بجانب الشعور بالمصير المجهول وبفقد الحياة فجأة دون أن أملك حق الدفاع عن نفسي بطلقة واحدة فكنت أحيانًا أفكر ماذا أفعل إذا اكتشف العدو مكاني، ولماذا هذا اليأس بعد نشوة النصر والقتال وإرهاب العدو؟ وأصبح شعوري بعدم وجود ذخيرة معي إحساس بنقص شيء هام وحيوي للإبقاء على حياتي وكرامتي في آنٍ واحد. وظللت منتظرًا طوال الليلة ولكن لم يأت أحد حتى غلبني النوم.

أحداث يوم 13 أكتوبر 1973:

استيقظت قبل أول ضوء على إحساس بالبرد القارص وقمت ببعض حركات التدفئة اللاشعورية وتدليك المفاصل وتناولت إفطاري وشربت العصير والشاي وملأت الزمزمية بالمياه وحملت بعض المأكولات في ضلع الهايك (الخيمة).

كان يملأني الأمل بالعثور على أي من الزملاء ولذلك تابعت التحرك مرة أخرى صباح يوم 13 أكتوبر 1973 بطريقة أسرع وأسهل إلى منطقة الطريق للبحث عن أي أفراد من السرية التي كنت متأكدًا من تواجدهم بالمنطقة بدليل المجموعة التي نفذت الإغارة ليلاً على العدو الموجود في جبل وتر وهو شيء مؤكد لأني كنت معرضًا للإصابة بطلقات قواتنا كذلك هناك آثار كثيرة مع آثار الرائد إبراهيم زيادة فربما نجح بعض الأفراد في التخلص من قاعدة الدوريات قبل حصارها، كذلك ما زالت هناك 2 فصيلة كاملة تحت قيادة النقيب سمير سالم والنقيب صليحة ولم أعلم أي شيء عنهم ولذلك قررت التحرك في كل المنطقة في التوقيتات التي يقل فيها نشاط طيران العدو وكنت قد تأكدت من عدم تحرك العدو وتواجده في داخل المنطقة الجبلية إلا في حالة الضرورة.

كان طريق العودة أقل صعوبة وكنت أراقب الجبال حولي والأثر في المنطقة أملاً في اكتشاف أي مجموعة بالمنطقة وفي الطريق كنت أصعد على القمم المرتفعة وأنادي بصوت عالٍ على صليحة
وسمير سالم، لعل أحدًا يجيبني ولكن لا مجيب وظللت أتحرك في اتجاه الطريق متخذًا طرقًا أخرى حتى وصلت إلى الطريق وعبرته للمنطقة التي كنت اتخذتها أول قاعدة للدوريات وأخذت أبحث في المنطقة عن أي بقايا للأفراد يصلح استخدامها كذلك عن الراديو الترانزستور الذي فقدناه وكنت في حاجة شديدة لمعرفة أخبار قواتنا، وبحثت في كل مكان وبدقة وكانت بقايا المعلبات منتشرة ووجدت بينها 7 طلقات للبندقية وجركن مياه صغير فارغ وبذلك أصبح معي بندقية آلية + 7 طلقات + ضلع هايك وزمزمية وجركن صغير + طاقية صوف + مصحف صغير ومشط ألمونيوم وبضع جنيهات وفرحت جدًا بالطلقات والجركن الفارغ الذي يمكن أن أحمل به مياه مدة أطول وكذلك الطلقات السبعة التي أحسست بالأمان من تواجدهم معي.

كان أول شيء قمت به بعد الانتهاء من البحث في كل مكان عن الراديو وعن وجود أي شيء آخر بالمنطقة هو تنظيف البندقية وإعدادها للاستخدام وتنظيف الطلقات وقد استخدمت أوراق علب التعيين ومنديل اليد وبالطبع لم تكن نظافة بالطريقة المثالية المهم أن أجعل البندقية صالحة للاستخدام وحاولت التحرك في المنطقة ولكنني لم أجد شيئًا فالمنطقة خالية تمامًا من أي أفراد أو تحركات.

وأثناء بحثي في المنطقة تحركت في اتجاه جنوب الجبل باحثًا في المنطقة عن أي أثر لأي فرد وأثناء بحثي عثرت على مكان يصلح للمبيت وكان على شكل مبنى ريفي دون سقف وكان شكله غريبًا في مثل هذا المكان وكانت أرضه ناعمة وجدرانه منهارة وكان واضح أنه غير مبني وأنه من صنع الطبيعة وأحسست بأن هذا المكان سيكون أدفأ وأفضل، وبالفعل أعددت المكان للمبيت وحل الليل والظلام وأحسست بحركة حولي ولكن دون أي ضوضاء وأحسست بخيال كمن يرى ضوءًا وينطفئ هذا الضوء فجأة وجلست منزعجًا ووجدت تلك الخيالات، ولم أستطع التأكد أو التفكير وجمعت حاجياتي وتحركت مسرعًا من هذا المكان وكان أول مرة أفكر في الخوف والأشباح والأرواح ورغم أني كنت لا أعتقد كثيرًا في ذلك لكن ذلك الإحساس بالخوف الذي لم أشعر به طوال المدة السابقة جعلني أترك المكان منزعجًا وأقترب من الطريق وكنت أضحك متعجبًا من هذا الموقف، وسرعان ما ظهر القمر واخترت مكانًا يصلح للمبيت ونمت نومًا عميقًا من أثر المجهود المبذول طوال النهار.

أحداث يوم 14 أكتوبر 1973:

استيقظت قبل الفجر كالعادة متأثرًا بالبرد الشديد وآلام العظام والظهر وقبل التحرك قررت ترك علبة بلوبيف وباكو بسكوت وعلبة عصير وبعض الشاي والسكر وأقراص الوقود لعل أن يجدها أحد أو أعود إليها في وقت آخر، وتحركت إلى منطقة التشوين لأن المياه قاربت على الانتهاء وقد قررت أن لا أتحرك إلا ومعي كمية من المياه وأغير الطريق خلال خط سيري أملاً أن أقابل أي فرد من قواتنا وخلال تحركي قررت المرور على قاعدة الدوريات لأخذ البطانية والزنط الخاص بي لإحساسي الشديد بالبرد ليلاً وكذلك لأخذ أحد الشرابات الموجودة بالشدة المليئة بالذخيرة على أن يكون ذلك قبل آخر ضوء لاحتمال وجود أي كمين للعدو في المنطقة وتحركت إلى منطقة تشوين التعيين، وأكلت وشربت الشاي وبدأت دوريات طيران العدو في المنطقة ولكنني لاحظت أن  نشاط طيران العدو بدأ يقل بالمنطقة.

وقبل آخر ضوء بساعة تحركت إلى مكان قاعدة الدوريات وصعدت الجبل من أحد جوانبه وكان صعب الصعود وأحسست أني سلكت طريقًا خاطئًا ولكني قررت الصعود حتى نهايته أملاً في أن أجد أي آثار للأفراد ولاحظت وجود نسر كبير على الجانب الآخر من الجبل وعند صعودي وظهوري رأيت عدة نسور تطير وتصعد الجبل حيث فوجئت بمنظر الشهداء المهيب أسفل الجبل كل واحد في مكانه وقد تفحمت الجثث الطاهرة من أثر الشمس وكل منهم في مكانه ولم أستطع تكرار رؤية هذا المنظر
ولا أستطيع وصف مشاعري في ذلك الوقت العصيب ولم تمر علي لحظة في حياتي أصعب من تلك اللحظة حتى حينما كان العدو فوقي وتحتي وحولي وخانتني شجاعتي أول مرة وظللت عدة دقائق على تلك القمة أقرأ القرآن وأحوال استعادة هدوئي وأحسست بقيمة القرآن وقلة ما أحفظ منه في تلك اللحظة وكنت أتمنى أن أبكي ولكني لم أستطع كانت صدمة شديدة لا أستطيع تحملها بمفردي ولكن لابد من التحرك وفكرت في النزول إلى قاعدة الدوريات للبحث عن أي ذخائر وبطانية ولكنني بعد قليل من التفكير أقنعت نفسي أنه قد يكون العدو جهز هذه الأشياء بأشراك خداعية ولغم المنطقة، وتحركت بعيدً عن المنطقة إلى مكان تشوين الطعام لأقضي ليلة من أصعب الليالي على النفس في حياتي.

أحداث يوم 15 أكتوبر 1973:

تحركت مبكرًا إلى اتجاه الطريق وكنت قد ملأت الجركن والزمزمية وأخذت بعض التعيين والمياه ووصلت إلى الطريق وعبرته وأخذت أجوب المنطقة بحثًا عن أي فرد ولكن باءت محاولاتي بالفشل وبدأت أشعر باليأس، وأثناء تنظيف بندقيتي سمعت صوت طلقات قريبة فقمت بتركيب البندقية بسرعة وأخذت طلقة في الماسورة وصعدت ونظرت في اتجاه صوت الطلقات فوجدت عدد من أفراد العدو ومعهم عربة نصف جنزير مترجلين على الأرض ويصوبون على هدف في اتجاه الجبل الذي أقف عليه وكانت فرصة بالنسبة لي حيث أن عدد العدو أربع أفراد فقط ولو أن هناك أحد في العربة فيمكن التعامل معه عند نزوله وبدأت النزول إلى الجبل لأخذ مكان أفضل لأني إذا ظهرت في هذه المكان سيكون ظاهرًا لهم ويمكنهم مبادلتي بالنيران فأفضل شيء ضربهم من الجنب وأقرب ما يكون لضمان إصابتهم وكنت أثناء التحرك أتذكر الكمين وصراخ العدو وهروب عرباته كذلك كنت أثناء التحرك أفكر ماذا لو كذبت أحد الطلقات معي أو كان هناك رمال داخلية قد تؤثر في عمل البندقية (آه لو كان معي فرد واحد فقط)، وأثناء نزولي في مجاري السيل توقفت الطلقات وصعدت لأرى ما حدث فلم أجد العربة فقد تحركت وبها الأفراد وقد يكون أحدهم لمحني أثناء نزولي فقرروا الهروب من المنطقة.

في هذه اللحظة فكرت في التحرك إلى قائد الكتيبة في وادي بعبع بمنطقة أبورديس وأخذ فردين بندقية واثنين ر ب ج وجهاز إشارة والعودة إلى المنطقة لتدمير هذه العربة والأفراد وكان هناك احتمال وجود عربتين أخرتين كما كان معلوم لنا من المقدم رجائي عطية قبل بدء العمليات وهذه مهمة سهلة وبالتالي يمكننا السيطرة على المنطقة وكان كل ما يشغل بالي هو السيطرة على المنطقة التي أتمكن فيها من مراقبة أي تحركات للعدو وأصبحت أعرف كل مكان بها وشجعني على ذلك وجود التعيين والمياه وبعد تدمير العدو في المنطقة ستكون تحت السيطرة ويمكن الاختفاء بظهور الطائرات الهليكوبتر والتحرك بسهولة مع وجود عدد قليل من الأفراد.

ظللت هذه الليلة أتذكر كلام قائد الكتيبة مع رئيس العمليات عن مكان وادي بعبع ووصف المنطقة وكان ذلك قبل العمليات وكنت متخيلاً أن وصولي للمنطقة لن يستغرق أكثر من يوم وأنه بناءً على كلام الدليل السابق أن وادي سدري قريب من هنا وبعده وادي بعبع وبوصف البدو أنه قريب وكنت سعيدًا لهذا القرار بعد أن يئست من مقابلة أي فرد في المنطقة وكنت حتى الآن لا أقوم بالمبيت في مكان واحد أكثر من يوم وكنت دائم الحركة وكان لذلك المجهود تأثير كبير في نومي دون إحساس كبير بالصخور القاسية التي أنام عليها.

أحداث يوم 16 أكتوبر 1973:

استيقظت في الصباح الباكر ليوم 16 أكتوبر 1973 وتحركت في اتجاه منطقة التشوين وكالعادة صعدت إلى القمم العالية أحاول البحث قبل مغادرة المكان عن أي فرد من السرية وناديت ولكن دون جدوى ومررت مرة أخرى على مكان الصواريخ فوجدتها كما هي وكنت أحاول العثور على أي آثار جديدة ولكنها كانت كلها قديمة وتأكدت أني بمفردي في المنطقة ووصلت إلى مكان التعيين وأمضيت النهار بالمنطقة أختفي بمرور الطائرات وأتناول الطعام والشاي وأفكر فيما حدث ولكني كنت متماسكًا ومسيطرًا على نفسي ومازالت روحي المعنوية عالية وعندي الثقة والأمل في الله سبحانه وتعالي وكنت فخورًا بنفسي وبما حققناه رغم ما حدث لنا وكان عندي أمل لتعويض الخسائر والانتقام من العدو بعد أن أعود ببعض الأفراد من قيادة الكتيبة وشجعني على ذلك كلام الزملاء إبراهيم زيادة ورضوان عن نجاح قيادة الكتيبة والسرية الثانية في منطقة وادي بعبع.

قمت بتجهيز بعض علب الطعام والعصير والبلوبيف وملأت الجركن والزمزمية بالمياه وجهزت بعض الطعام للإفطار والشاي والعصير وقمت بإخفاء أي معالم ظاهرة وردم كل شيء وحاولت التصنت لسماع صوت أي فرد قد يأتي ولكنه كان صمتًا رهيبًا لم يقطعه غير أزيز إحدى طائرات العدو المقاتلة التي قامت ببعض الألعاب البهلوانية ليلاً على ارتفاع عال ثم رمت بعض الفوانيس وعادت مرة أخرى وكان هذه الليلة آخر أمل في أن أجد أي فرد وبالتالي لابد من التحرك إلى قيادة الكتيبة.

أحداث يوم 17 أكتوبر 1973:

صحوت فجر يوم 17 أكتوبر 1973 بسبب البرد القارس ليلاً وأعددت الطعام والشاي وشربت كثيرًا ونظرت إلى المكان نظرة وداع مؤقتة وكلي يقين في نجاحي ووصولي إلى قيادة الكتيبة والعودة ببعض الأفراد لهذا المكان وكنت أنظر للشواهد المحيطة بي حتى يسهل التعرف وتحديد المكان عند عودتي وقمت بربط احتياجاتي على شكل لفة داخل ضلع الهايك وأخذت سلاحي وقرأت الفاتحة وتمنيت من الله أن يوفقني وتحركت في اتجاه الشمال وقد تدربنا في فرقة الصاعقة على تحديد اتجاه الشمال نهارًا باستخدام الخريطة والتعرف على الهيئات وليلاً بواسطة النجوم بالتعرف على النجم القطبي وتحديد اتجاه الشمال حيث لم يكن معي بوصلة.

تحركت حوالي ساعتين وكنت أميل إلى اتجاه الشمال الغربي الذي يؤدي إلى اتجاه البحر لأني كنت أخشى أن أنحرف داخل جبال سيناء وأتعرض لأن أضل الطريق ولا أستطيع العودة، وبدأت الطائرات في التحليق وكنت أتحرك لمسافة ما ثم أنتظر في مكان مخفي حتى تمر الطائرة ثم أواصل التحرك وكان الطريق شاقًا وقررت التأكد من مكاني بالنسبة للخليج وصعدت ميل جبلي متوسط في اتجاه الشمال الغربي حتى نهايته ونظرت إلى أسفل وكان مفاجأة لي وجودي على هذا الارتفاع الكبير القريب من الشاطئ الشرقي لخليج السويس وكأني في طائرة تحلق فوق المكان وحاولت الاستفادة من كل شيء لتحديد مكاني ولاحظت وجود مرسى صغير على البحر وبعض المراكب الصغيرة وطريق على الساحل وبعض هيئات منتشرة بين الساحل والجبل الذي أراقب منه وكنت قد علمت أثناء التحضير للمعركة أن هناك مرسى النزازات بين وادي سدري ورأس شراتيب وغرب جبل النزازات وهذا يعني أني قريب من وادي سدري، كان مكاني مكشوفًا لأي طائرة تنفذ الاستطلاع بالمنطقة وتحركت بعد أن تأكدت أني في اتجاه خط السير الصحيح والأرض تتغير بأشكال مختلفة منها الوعر والسهل والوديان والتباب وكان الاستطلاع الذي تقوم به الطائرات كثيفًا في هذا اليوم وأثناء استراحتي في أحد الأماكن العجيبة المنظر والشكل وجدت بعض الأكياس الفارغة وبعض الأوراق القديمة المكتوبة بالعبرية وعليها رسوم توضيحية لإقامة معسكر وكيفية نصب الخيام وعلب عصائر ولبن فارغة ويبدوا أنها لفريق من الكشافة صغيري السن، وتأملت ذلك وأعجبت بأسلوب العدو في إعداد الشباب في مثل هذه المناطق الصعبة وترغيبهم في حب المغامرة في مثل هذه المناطق التي يكون التدريب فيها لأغراض كثيرة منها الترفيه وحب المغامرة ومعرفة الأرض ودراستها وأسلوب التعايش في الخلاء وغيرها من الفوائد النفسية والتدريبية وتمنيت أن أرى ذلك في شبابنا الصغير حيث يعتبر هذا بداية للتأهيل لحياة عسكرية مستقبلية.

واصلت التحرك وبدأت الشمس في المغيب فأسرعت في مشقة حتى أقطع أطول مسافة وفقدت كثيرًا من المياه نتيجة العرق الغزير مما اضطرني لشرب كمية كبيرة من المياه، وقد استمريت في التحرك حتى حل الليل ووصلت إلى منطقة مرتفعة وعثرت على مكان يصلح للمبيت وكنت قد أنهكت تمامًا فقمت بفتح علبة بلوبيف وأكلتها واستغرقت في النوم.

أحداث يوم 18 أكتوبر 1973:

لم أشعر بنفسي إلا عندما استيقظت فجرًا وعندي إحساس بعطش شديد من أثر البلوبيف فشربت حتى أن الزمزمية قاربت على الانتهاء وتحركت في اتجاه هدفي مستغلاً الساعات الباقية للوصول
إلى وادي سدري قبل وصول طائرات استطلاع العدو وكانت المياه الباقية في الزمزمية هي آخر ما معي من مياه التي كنت أحاول الحفاظ عليها وأصبحت أفكر في الحصول على المياه أولاً وقبل كل شيء.

واصلت السير مع أول ضوء وبعد ساعات من السير الأقرب إلى الجري وصلت إلى وادي سدري ووجدته كما وصفه لي عودة الدليل ووجدت بريمة مياه كما قال عودة وتحركت في اتجاه البريمة ولم أجد أحدًا في المنطقة وتحركت في اتجاه أحد البراميل القريبة من البريمة ولكني لم أجد به مياه ووجدته مليء بالسولار ولاحظت خطورة تواجدي بهذه المنطقة في ذلك الوقت وقررت الانتظار حتى آخر ضوء والبحث عن المياه حتى ولو بمهاجمة المبنى والهرب تحت ستر الليل.

قمت باختيار مجرى سيل صغير بالقرب من الوادي الواسع واسترحت في هذه المكان وبعد مرور وقت قصير سمعت صوت عربة متحركة وظل الصوت يقترب من مكاني حتى صار قريبًا جدًا، وفجأة توقفت العربة تمامًا أمام مكاني وشعرت بقرب لحظات القتال وتعجبت كيف علم العدو مكاني بهذه السرعة وتوقف عنده تمامًا وكان ذلك في لحظات قليلة وسمعت صوت أبواب العربة تقفل وكانت قريبة جدًا مني وقدرت حمولة العربة بحوالي خمس أفراد وقررت الاشتباك المفاجئ معهم مما يعطيني فرصة القضاء عليهم وتحفزت وتلوت الشهادة ونظرت من خلف بعض الحشائش مصوبًا سلاحي ولكني فوجئت باثنين من البدو يتحدثان عن قواتنا القريبة وأن عناصر استطلاع قواتنا قريبة جدًا من المنطقة والدليل آثارها وأحسست بفرحة غامرة لسماع كلام هؤلاء البدو الوطنيين الحماسي عن قواتنا وهدأت بعد شعوري بالانفعال والتحفز لقتال العدو وظللت مكاني بعد أن اختفيت خشية أن يروني واطمأنت لوجود بدو بالمنطقة ولكنني آثرت ألا أظهر لهم خشية أن يبلغوا عن مكاني.

قام البدو بركوب العربة وأداروا المحرك ولكنهم أبطلوا المحرك مرة أخرى بعد لحظات ونزلوا يدققون في آثار أقدامي وهم يتناقشون بأن فرد الاستطلاع قريب من المنطقة وأن هذه الآثار حديثة ويحتمل أنه محتاج إلى أي شيء وكنت أتابع حديثهم وتقدم أحدهم متتبعًا لأثرى وكان لابد من الظهور شاهرًا سلاحي تجاههم وقد انزعجوا من رؤيتي تمامًا وقام أحدهم بالتحدث معي بالعبرية وهو يشير لي كأنه يسألني هل أحتاج مياهًا فتحدثت باللغة العربية لأول مرة منذ مدة طويلة وخرجت الكلمات بصعوبة وأحسست بسعادة كبيرة لعثوري على أحد أتحدث معه بعد طول صمت وأحسست بسعادتهم عند رؤيتي وسماع لغتي العربية وأشاروا لغلام معهم في كابينة العربة أن يحضر ماء وأحضر الولد إبريق ماء فشربت كمية كبيرة منه وأعطيتهم الجركن والزمزمية لملئها وأبلغتهم أنني أحد عناصر الاستطلاع وأن قواتنا بالمنطقة، وقالوا إننا منصورين بإذن الله ويبدو أن الرجل شخص مهم ومعه رجل كبير السن طويل القامة والغلام وسألتهم عن موقف قواتنا على القناة فأبلغوني أن الموقف عظيم وسعدت لسماع ذلك جدًا وسألوني عن وجهتي فأبلغتهم أنني أريد أن أصل إلى وادي بعبع أولاً، وأبلغوني أن ذلك مغامرة كبيرة من هذا المكان والطريق مليء بالعدو ولابد من وجود من يدلني على الطريق ولكن يمكنهم استضافتي لأي وقت حتى يتضح الموقف العام للقتال ولكني شكرتهم على كرمهم وأبلغتهم ضرورة تحقيق اتصالي بقواتنا وكرروا مرة ثانية استعدادهم لاستضافتي وإخفائي حتى نهاية العمليات مع تأكيد وطنيتهم وانتظارهم لانتصارنا وعودة سيادتنا على سيناء، وكان صدق حديثهم ظاهرًا وجليًا ولكني أكدت لهم مع شكري ضرورة التحرك إلى وادي بعبع وأريد معرفة الاتجاه الصحيح فقط وكرروا صعوبة ذلك ولابد من دليل يعلم المنطقة وأماكن العدو والألغام المنتشرة بالمنطقة وسيعودون في وقت لاحق لأخذي إلى قريتهم حتى يحل الظلام ويتم نقلي إلى وادي بعبع بالطرق التي يعلموها، وشكرتهم على كرمهم واتفقت معهم على ذلك وطلبوا مني التحرك من هذا المكان المكشوف إلى مكان أكثر أمنًا داخل الوادي وودعوني على أمل لقاء قريب.

وبعد  قليل جمعت حاجياتي للتحرك من هذا المكان ولكني فوجئت بدفعة نيران نصف بوصة فوق رأسي تمامًا فور صعودي إلى مكان مرتفع ونزلت بسرعة إلى مكان منخفض لأتقي النيران وتحركت إلى داخل الوادي بسرعة وعلى أحد أجنابه وكان المكان مكشوفًا ولكنه كان منخفضًا مما يحيل بيني وبين النيران وأخذت أعدوا بسرعة بعيدًا عن مصدر النيران وبعد فترة قررت عبور الوادي إلى الناحية الأخرى التي أتيت منها مما يعطيني فرصة الاختفاء لأنها كانت أكثر وعورة، ولكن أثناء عبوري الوادي المفتوح فوجئت بصوت طائرة هليكوبتر قريبة جدًا وتسمرت في مكاني في منتصف الوادي بجوار بعض الحشائش البرية وتلوت الشهادة وتوقعت دفعة رشاش نصف بوصة تنطلق في أي لحظة وأحسست رغم وجود البندقية معي بعدم جدواها مع هذه الطائرة المسلحة بالرشاش الثقيل وكانت الطائرة قريبة جدًا من الأرض ورأيتها ورأيت من بداخلها وأنا نائم على ظهري أنظر للسماء ورأيتها تمر فوقي تمامًا وتوقعت عودتها مرة أخرى لمهاجمتي واستعددت لقتال ميئوس منه وتابعت الطائرة ودرست الموقف ووجدت صعوبة للوصول إلى أحد جانبي الوادي ولكن الطائرة ذهبت إلى داخل الوادي ببطء شديد وكانت تتأرجح يمينًا وشمالاً وبعد فترة أحسست أنها بذلك لم تراني ولكنها من طريقة البحث أعتقد أنها كانت تبحث عني بأجناب الوادي كما هو مفروض ولم يخطر بفكر من بها بأني في قلب الوادي المفتوح.

وبعد ذلك تحركت سريعًا داخل الوادي حتى وصلت إلى أحد الجبال الصغيرة الوعرة المطلة على الوادي بالجانب الذي كنت به وصعدت الجبل وكان به صخورًا كبيرة وتحتها حفر يمكن إخفاء أكثر من سرية فيه وكان أول شيء رأيته أرنبًا بريًا يجري مسرعًا في هذا الجبل في اتجاه جحره وطبعًا لم أفكر في الإمساك به لأني رأيته يجري بسرعة كبيرة، وأحسست بالأمان في هذه المنطقة وسرعان ما عادت الطائرة مرة أخرى إلى الوادي وكررت المرور وأنا أنظر إليها من مكاني في أمان تام ومع مرور الطائرة عائدة سمعت أصوات عربات تدخل الوادي ورأيت عدة عربات زيل روسية الصنع (وهي من العربات التي استولى عليها العدو بعد حرب يونيو 67) تتحرك في اتجاه الوادي وكانت حركتها سريعة وكانوا يعتقدون بأني بالوادي، ثم عادت العربات بعد حوالي ساعة وعاد الهدوء مرة أخرى ثم ظهرت عربة البدو بعد
عدة ساعات وحاولوا التعرف على مكاني ولما عجزوا تحركوا مرة أخرى وكان المدق الممهد في الوادي بعيدًا عن مكاني ثم توقفوا أمامي على بعد كبير وأشرت لهم وناديت ولكنهم لم يروني ولم يسمعوني واستمروا في طريقهم وحزنت في بادئ الأمر من فقد هذه الوسيلة لنقلي إلى وادي بعبع ولكن حمدت الله على كل حال، وقررت التحرك بمفردي عند آخر ضوء وأثناء انتظاري مفكرًا شاهدت ثعبانًا كبيرًا يتحرك بعيدًا في هدوء تام ويبدوا أني كنت بالقرب من جحره وكنت أشعر بأن الجبل مليء بالحيوانات حولي.

وقبل آخر ضوء بدأت التحرك في اتجاه الشمال الغربي مختصرًا الطريق في اتجاه الميل الغربي للجبل وفي اتجاه وادي بعبع وكانت الأرض وعرة ويصعب التحرك عليها صعودًا أو نزولاً ولكن بعد فترة طويلة من التحرك وجدت نفسي على الميول الغربية للجبال وأمامي أرض مفتوحة حتى أنوار مدينة أبورديس ومطار أبورديس وكانت المدينة والمطار واضحين ليلاً كما وصفهما قائد الكتيبة وكان ذلك في حديث مع رئيس عمليات الكتيبة عندما كانا يتذكران فرقة الصاعقة التي حصلا عليها قبل عمليات 1967 وكان نهاية الفرقة يتم تنفيذها في هذه المنطقة وقد وصفا المنطقة ووادي بعبع بصورة حديث عابر وكنت حاضرًا الحديث ولم أكن أتخيل أبدًا أهمية هذا الحديث إلا عندما وجدت نفسي أحاول أن أتذكره وتابعت النظر للمطار من مكان على أحد الميول الغربية للحائط الجبلي فرأيت إحدى الطائرات الهليكوبتر التي هبطت على مسافة بعيدة وتستعد لإطفاء المحرك، وسيطرت على فكري فكرة التحرك للوصول إلى إحدى الطائرات الهليكوبتر والمبيت داخلها ومهاجمة أفراد الطاقم صباحًا وأخذهم إلى الجانب الآخر من الخليج بعد اختطاف الطائرة وأخذت أفكر في احتمالات هذه الفكرة وكيفية تنفيذها وكان ذلك من أثر هذه الرحلة الشاقة والتي أحسست خلالها صعوبة تنفيذ حلم العودة مرة أخرى إلى وادي فيران لطول المسافة وصعوبتها.

بعد طول تفكير قررت محاولة الاتصال بقواتنا أولاً فإذا لم أستطع أنفذ الخطة الخيالية لاختطاف الطائرة وهذا أسهل بكثير مما أواجهه من خطر الجوع والعطش وتهديد العدو الدائم لي وكان تنفيذها شيء لا يؤرقني بالمرة ولكن كان القرار الأنسب هو محاولة الاتصال بقواتنا وخاصة أني قاربت من الوصول إلى وادي بعبع وهو هدفي وأمنيتي وتحركت وأنا أبحث في كل ممر في الجبل تشكل واديًا وهو عمل شاق للغاية أن أبحث عن وادي داخل جبل ممتد شمالاً وكله مجاري سيول ووديان فرعية وكنت عندما أرى واديًا كنت أتابعه فإذا وجدته صغيرًا وليس به المواصفات التي حددها قائد الكتيبة بوجود طريق أسفلتي في بدايته وبعض معدات رصف الطرق القديمة وهو وادي يصل إلى محاجر المنجنيز بأم بجمة.

وأثناء راحتي فقدت الطاقية الصوف والتي كانت شيء هام لي في التدفئة ليلاً وبحثت عنها فلم أجدها ولم أحاول العودة للبحث عنها بالرغم من قلقي أن يجدها العدو الذي كنت متأكدًا من أنه يلاحقني لأن الوقت كان ليلاً ومن الصعب أن أجدها بالإضافة إلى رغبتي في الوصول إلى وادي بعبع في أقل وقت وخاصة ليلاً ليتسنى لي البحث عن السرية وقيادة الكتيبة بحرية أكثر مع بداية اليوم وقبل رحلات البحث الجوي التي يقوم بها العدو، وكنت قد استهلكت كمية كبيرة من المياه أثناء التحرك بسبب العرق الغزير والمجهود الذي يفوق الخيال والذي ساعدني فيه الشباب وما أتمتع به من لياقة بدنية عالية بالإضافة إلى إصراري الشديد على لقاء قواتنا والتي كنت متفائلاً أن أجدها، ومررت على وديان كثيرة ومجاري سيول ومداخل وكنت أدقق كل مكان لاحتمال أن يكون هو الوادي المطلوب وظللت على هذا الحال طوال الليل شعرت خلال ذلك البحث بالأمل واليأس عشرات المرات، وظللت أفكر فيما تحمله الساعات القادمة والأيام القادمة وماذا لو لم أتمكن من لقاء قواتنا فالعدو يبحث عني في كل مكان ويتتبع آثار أقدامي ولا أحمل ذخيرة تكفي لتنفيذ أي مهام أو الدفاع عن النفس خاصة أن خبرتي في قتال العدو قد أكدت لي أن العدو يهاجم بقوات كبيرة لتحقيق تفوق كبير مما لا يحقق أي فرصة لقتال متكافئ وماذا لو كتب الله لي الشهادة في هذا المكان ومن سيبلغ أهلي بذلك، وإن لم يكتشف العدو مكاني فماذا أفعل لو نفذت كمية الماء والطعام التي معي. إن الشعور بالوحدة وقلة الإمكانيات في هذا المكان جعلني أواصل السير طوال هذه الليلة.

أحداث يوم 19 أكتوبر 1973:

بدأ ضوء النهار يظهر وفي بداية هذا اليوم ومبكرًا عثرت على الوادي الصحيح أخيرًا، وكان كما وصفه قائد الكتيبة بالضبط وسعدت جدًا لنجاحي في الوصول إلى هدفي وعاد إلي الأمل في مقابلة الزملاء ودخلت الوادي والصمت الرهيب حولي وناديت ولا مجيب لعدة مرات ووجدت نفسي محتاجًا للراحة ثم أواصل البحث بعد ذلك واخترت أحد الجحور في مدخل الوادي وكانت الأرض ناعمة ونمت نومًا عميقًا وكأني أخذت مخدر شديد المفعول ولم يكن يزعجني إلا تلك الطائرات التي كانت تحدث جلبة حولي وفوقي وكأنها حلم وكابوس ثقيل أو ذباب يقلقني من النوم وكنت قد تعودت على صوت الطائرات التي تحلق بصفة مستمرة ولكنها هذه المرة كانت أكثر وبتركيز أشد، وعلمت بعد ذلك أن هذه الطائرات كانت تبحث عني خصيصًا بالمنطقة حيث كان العدو يتابعني من اليوم السابق.

استيقظت قبل المغرب بحوالي ساعة بعد أن أخذت قسطًا من الراحة وعاودت نشاطي ولم يبق معي إلا جرعة ماء كنت أحتفظ بها وتحركت في اتجاه مخرج الوادي مرة أخرى لأبحث في بعض البراميل أو المعدات المنتشرة عن المياه ولكنني لم أجد أي آثار للمياه وكان ذلك أمر يدعو لليأس وأثناء تحركي عائدًا إلى داخل الوادي متطلعًا لما هو حولي آملاً أن أجد من يستجيب لندائي وكان السكون يخيم على المنطقة ولاحظت أثناء تحركي آثار حذائين للعدو ذات نقوش غليظة كبيرة الحجم وتابعت هذه الآثار فوجدتها تتابع آثار حذائي أثناء دخولي الوادي أول مرة وكان ذلك صدمة لي وكان أثر حذائي
واضحًا على الأرض وآثارهم واضحة خلفي بالقدم وأحسست بخطأ جسيم وتابعت أثري وآثارهم حتى تحركت على الإسفلت لبضع خطوات قليلة وبعدها فقدت أثري وآثارهم وتابعت التحرك إلى داخل الوادي على الإسفلت ووجدت أن الطريق يتجه إلى جهة اليسار ويعود مرة أخرى إلى داخل الوادي وعدت إلى الإسفلت وفي نهايته نظرت لأبحث عن أثري لأجده على بعد خطوات قليلة من الطريق في اتجاه الوادي الفرعي الصغير الذي كنت نائمًا داخله وزاد إيماني بالله وشعوري بضعفي وبقدرة الله سبحانه وتعالى لأني كنت هالكًا لا محالة ولو نظر أحدهم إلى جهة اليمين لوجد آثاري واضحة ولولا صخرة صغيرة أبعدت آثار حذائي لمسافة قلية لصحوت على طلقات العدو في رأسي وعلمت سبب الجلبة والطيران فوقي أثناء نومي ويبدوا أن المنطقة كانت مشتعلة وكنت أغط في نوم عميق بحفظ الله سبحانه وتعالى والحمد لله.

بدأت التحرك إلى داخل الوادي مع حلول الظلام ووجدت أحد البراميل ولم أجد به ماء وكنت قررت أن أكون أكثر حذرًا بعد ذلك وحاولت مرة أخرى في برميل آخر وكنت أحس أن الوادي به مياه وشجر بدليل آثار العربات والماعز والبراميل وحل الليل وكان حالك الظلام وجلست في يأس تام أفكر فيما أنا فيه فها هو وادي بعبع خالٍ من أي قوات لنا والعدو مسيطر عليه وقواتنا لا أثر لها ولماذا تركت المياه والأكل بكميات كبيرة تكفيني شهورًا طويلة لأموت هنا عطشًا دون أن يشعر بي أحد وقررت الاحتفاظ برشفة الماء الباقية لشربها قبل الشهادة.

وأثناء جلوسي أفكر في أمري هذا سمعت صوتًا خافتا لاصطدام جراكن بلاستيك وتيقظت من أفكاري وتأكدت أنه صوت مجموعة من قواتنا تتحرك لتملأ الجراكن بالمياه وهم الذين يتحركون في هذا الظلام في سرية وناديت بصوت فيه ثقة (عبد الحميد) وكان هذا الاسم بالذات لضابط دفعتي تحدثت عنه في مقدمة هذه اليوميات وكان من هذه السرية التي كنا نسميها سرية الصعايدة وكان هو صعيدي وفي السرية منذ تخرجه وكان معروفًا لكل السرية بالطبع سواء مستجدين أو قدامى ولم أسمع أي إجابة لندائي فتخيلت أنه هذيان وعدت لراحتي ولكن مركزًا لسماع أي صوت وفعلاً سمعت الصوت مرة أخرى بعد فترة وجيزة وكررت النداء بصوت أعلى ولم أسمع أي رد، وأثناء جلوسي متحفزًا وجدت شيئًا يظهر فجأة أمامي يلبس جلبابًا أبيضًا وكان يمشي دون أي صوت فشهرت سلاحي في وجهه فقال منزعجًا بلهجة بدوية سريعة (أنا مع الجماعة) وقلت له أي جماعة؟ قال: المصريين هناك وأشار للخلف فأشرت له بالتحرك وتحركت خلفه شاهرًا سلاحي مستعدًا لأي موقف وكانت المفاجأة لي أن أجد عبد الحميد فعلاً والرقيب سيد علي والجندي محمد عبد الرحمن والجندي المصاب عبد الرؤوف جمعة كُرَيم ووقف الجميع يحملقون في وجهي غير مصدقين ووقف عبد الحميد يشد جفون عينيه السفلى في حركة لا إرادية ليؤكد ما يراه بصورة جادة جدًا وهو يقول "مش معقول مجدي شحاتة مش ممكن" وتعانقنا أصدق عناق وكانت القبلات وتأثر الجميع وكان أكثرنا تأثرًا البدوي وزميله الذي كان موجودًا مع باقي الجماعة وكانت في أذهاننا عشرات الأسئلة كل منا يريد أن يسألها للآخر، ولم يستطع الرقيب سيد ومحمد عبد الرحمن إخفاء سوء الموقف وصعوبته، وسألتهم عن أخبار المياه فأبلغني عبد الحميد بأنهم في طريقهم لإحضار المياه وكان معهم جراكن كبيرة وشكلها غير مألوف ويبدو أنها تخص البدو وقال لي إن البدو سيمدونهم ببعض الطعام والمياه ورحبت بالجميع في موقف مؤثر ظهرت آثاره لاحقًا، كان هذا اللقاء يشبه المعجزة أو هو معجزة بكل المقاييس في هذا المكان والزمان ولكنه أعطى دفعة معنوية كبيرة لنا جميعًا وأملاً جديدًا.

وسرنا حوالي نصف ساعة ثم توقفنا بجوار بعض العشش المهجورة ومقطورة مياه في واد فرعي صغير يسمى وادي السمرا، وكان مجتمعًا صغيرًا مهجورًا وأحسست أن المكان مليء بالحياة والأسرار، وبدأ البدو في إشعال النيران وإحضار دقيق وبلح ومياه وبدأوا في إعداد الخبز وأعدوا كمية كبيرة أكلنا بعضها واحتفظنا بالبعض الآخر وسألناهم عن بعض المعلبات وأعطونا بعض ما عندهم وشاهدنا جوال به خبزًا عفنًا فسألناهم عنه فقالوا إنه أكل الماعز وهو من مخلفات اليهود وخجلنا أن نطلبه منهم وأخذنا كمية من الدقيق والسكر والشاي وسألناهم عن كيفية معرفة الأخبار قالوا بالراديو وأحسوا أننا نريد راديو فأعطانا أحد البدو ويدعى صبحي الراديو الخاص به وبعض الحجارة القديمة وفرحنا بالراديو جدًا وحاولنا إعطاءهم أي مقابل فرفضوا بشدة وتمنوا لنا السلامة والانتصار في مهمتنا التي شرحها لهم عبد الحميد ولضمان ولائهم أبلغهم بسيطرة قواتنا على المنطقة وكانوا يعلمون خلاف ذلك لحقيقة سيطرة العدو على المنطقة الذي قام بإهانتهم وتفتيش بيوتهم بحثًا عن آثاري وعن مكاني ولم أعلم عن ذلك شيئًا إلا عندما أخبرنا أحدهم ويدعى علي بركات – والذي كان له وزميله دورًا بارزًا بعد ذلك - أن اليهود سألوا عن أثر أحد الأفراد وعن مسئوليتهم في إخفائه وأبلغهم البدو أنهم لم يروا أحدًا ولكنهم بسؤالي عن الطريق الذي سلكته فأبلغتهم بخط سيري وبما حدث وعلموا أنني الذي يبحث عنه العدو وأن عدم عثورهم علي وأسري يعتبر معجزة.

وعلمنا بعد ذلك أن علي وصبحي قررا معاونتنا بكل الطرق مهما كلفهم ذلك بعد رؤية لقائي بالزملاء وقد تعاطف البدو معنا تمامًا وكان لقاؤنا قد رفع الروح المعنوية لنا جميعًا وكان أقلنا تأثرًا هو الجندي المصاب عبد الرؤوف جمعة كريم الذي أصيب إصابة شديدة غائرة دخلت من فخذه وخرجتا من المثانة فتركت جرحين غائرين بجسده وجعلته لا يتبول بطريقة طبيعية وكان ضعيفًا جدًا على خلاف ما عرفته عنه فقد نزف كثيرًا جدًا وظهر عليه شبح الموت وكان منظره مروع ولكن ليس هناك مجال للتراخي فكان يسير وهو حزين جدًا لأنه لا يحمل سلاحه ورجاني بشدة وصدق أن أريحه وأقتله من شدة خجله أن يكون عبئًا علينا ورفضت كلامه بشدة وقلت له مشجعًا أنك سوف تشفى وتصبح أحسن منا إن شاء الله وربما أنت ترجع وتتركنا هنا ولا داعي لهذا الكلام وتماسك يا بطل. وكأني كنت آخر أمل له في أن أخلصه من ذلك العذاب ووجدته أكثر حزنًا ولكنني أخذت أشجعه ورويت له بعض ما حدث لي بما يجعله يؤمن بالله وعونه لنا وطلبت منه التحمل والصبر إلى أن يحين الشفاء بإذن الله، وكان مثالاً للجندي المصري الوطني والروح الوطنية خلال حرب أكتوبر ومهما كتبت فلن أستطيع وصف أصالة وشجاعة هذا الرجل.

وعرض علينا البدو تدبير مكان مأمون داخل الجبل ومعاونتنا ولكننا رفضنا وأكدوا عرضهم مرة أخرى وأصررنا على الرفض على أمل أن تصل قواتنا (اللواء الأول) إلى منطقة أبورديس. وكان حديث الإخوة البدو وديًا للغاية وأخويًا ولكن كان يبدو عليهم الحذر والخوف منا.

وأثناء حديثنا ظهرت فجأة أنوار عربة قادمة من خارج الوادي إلى داخله واقترب صوتها وأنوارها وكانت مفاجأة غير سارة لنا وأحدثت ارتباكًا للجميع وكان البدو أكثرنا ارتباكًا لأنهم كانوا يخشون من وشاية بعض البدو للعدو ضدهم فكانوا حريصين ألا يظهروا معنا بأي حال من الأحوال وكنت أقلهم ارتباكًا لصعوبة احتمال دخول العدو مثل هذا الوادي بعربة واحدة ليلاً وتوارى الجميع بسرعة ومرت العربة بسلام ونحن نتساءل هل رآنا أحد من ركاب العربة أم لا؟، وجلسنا فترة قليلة وسألهم عبد الحميد عن طريق معين ودلوه على أوله ويسمى جبل نمرة (2)، وقال لهم عبد الحميد إن هذا هو الطريق المؤدي إلى قواتنا ووافقوه وهم يعلمون أنه ليس لنا قوات هنا ولكنه كان جادًا بطريقة لا تقبل النقاش، وفي هذه الأثناء مال إلى أذني الرقيب سيد علي وأبلغني أن هناك مخبئًا جيدًا في هذا الاتجاه يمكننا الاختفاء فيه بعيدًا عن الطيران.

بدأنا السير في الوادي الفرعي الضيق وبعدنا عن البدو قليلاً وبدأنا في سؤال كل منا الآخر أثناء السير وكان عبد الحميد يكرر دائمًا أنه غير مصدق أنني معهم وكان سعيدًا جدًا لرؤيتي وكذلك باقي الأخوة الزملاء وكانت الأحمال ثقيلة وجلسنا نستريح في مفترق وديان صغيرة وكانت هناك بعض الشجيرات التي لفتت نظري، وواصلنا طريقنا وراء سيد علي حيث أبلغني عبد الحميد أن سيد يعرف المكان جيدًا وتحركنا ببطء شديد ومرت علينا أماكن جيدة جدًا يمكن الاختفاء بها، وقلت لعبد الحميد هذه الأماكن جيدة ولكنه قال إن هناك مكان أفضل بكثير وتحركنا طوال الليل وكنا في أوقات الراحة نتبادل الحديث ثم نواصل التحرك حتى أول ضوء يوم 20 أكتوبر.

أحداث يوم 20 أكتوبر 1973م:

بدأ أول ضوء يظهر وما زلنا نبحث عن هذا المكان ومعنا ذلك المسكين المصاب وبينما نجلس للراحة منهكين رأيت الشجيرات التي بدأنا السير من عندها وأبلغتهم أننا نلف حول أنفسنا وأكد عبد الحميد أننا في الطريق الصحيح وأن ذلك المكان يشابه فقط المكان الذي بدأنا منه التحرك ولكنني أكدت له بآثارنا ومكان جلوسنا وتأكد من ذلك وكانت بعض الضحكات الهستيرية ولكن كان يجب أن نجد مكانًا بسرعة قبل ظهور النهار وعودة الطائرات للبحث عنا بعد تأكدها من وجود شخص ما زال يتحرك بالمنطقة، وبحثنا بسرعة في المنطقة فوجدنا مكانًا قريبًا يصلح إلى حد ما لإيوائنا وأنزلنا أحمالنا وفتحنا الراديو لنسمع الأخبار وكانت متضاربة من إذاعة القاهرة ولندن
وإسرائيل، وسمعنا أغنية وردة الجزائرية "وأنا على الربابة باغني مملكش غير غنوة أمل بتقول تعيشي يا مصر.. تعيشي يا مصر"، وبعثت فينا الأمل وأنه ما زال هناك قتال ولم يحدث ما حدث في 1967م.

بعد أن اطمأننا على الأخبار نمنا نومًا عميقًا واستيقظنا لنسمع الراديو والأخبار وقد اتفقنا في بداية الأمر أن نقتصد في الطعام والمياه حتى يستمر أطول فترة ممكنة وتصل قواتنا ويتم الاتصال بها وكان الراديو للأخبار فقط أو أغنية معنوية وطنية وبدأ كل منا يحكي ما حدث له ورويت ما حدث لنا في المنطقة التي عملت بها وكان لحكايتي أثر جيد في رفع معنويات الأخوة، وأبلغتهم عن وجود كمية كبيرة من الأكل والمياه في المنطقة ويمكننا الذهاب إليها بعد مسيرة يومين ولكن طبعًا كنا على أمل وصول قواتنا إلى أبورديس كما هو مخطط.

علمت من عبد الحميد بأنه تم نزول خمس طائرات تحمل قيادة الكتيبة والسرية الثانية وعناصر الدعم والمعاونة وقد تم إنزال هذه المجموعة الكبيرة على مرأى ومسمع العدو في مدينة أبورديس وفي المنطقة القريبة من الجبل وعلى السهل الساحلي وأمر قائد الكتيبة بتشكيل دورية واحدة وكانت دورية كبيرة، وأقلعت جميع الطائرات عدا طائرة واحدة غرست بمقدمتها وكانت المروحة ما زالت تدور ونزل قائد الطائرة يحذر أفراد الصاعقة من المروحة لأن الطائرة كانت مائلة وصار يصيح المروحة خذ بالك من المروحة حتى فاجأته المروحة وأطاحت برأس ذلك الطيار البطل الذي استشهد في سبيل الله وأثناء تأمين وتحذير زملائه وأكدت لي بطولة هذا الطيار أصالة الطيار المصري ورجولته وتفاعله وتعاونه مع أبطال الصاعقة الذين تعرف عليهم لساعات قليلة قبل تنفيذ هذه المهمة.

ووصلت القوة إلى مكان قاعدة الدورية (وكان مكانًا غير مؤمن وغير مناسب كقاعدة دوريات كما رأيته بعد ذلك) وتم انتشار القوة بالمكان ودفع كمين إلى وادي بعبع تحت قيادة م.أ عادل عبد الفتاح نجم ومعه مجموعة من الجنود وضباط الصف المنتقاة وتم دفع بعض الدوريات داخل الوادي وكان عبد الحميد منهم وخلال اليوم الثاني اشتبك عادل عبد الفتاح مع عربتين مدرعتين أصاب إحداهما وهربت الأخرى، وثاني يوم عاد العدو بطائراته الهليكوبتر والعربات المدرعة وقام بالاشتباك مع عناصر قواتنا بصورة مشابهة للصورة التي هاجم العدو بها عناصر وادي فيران واستشهد الكثير وأسر الكثير ولا يعلم شيئًا عن عادل عبد الفتاح وجميع الأفراد إلا أنه سمع قائد الكتيبة ينادي على الأفراد لتسليم أنفسهم بعد أن أسره العدو وأجبره على ذلك وخاصة قائد السرية النقيب/ محمد فتحي حسين والذي تمكن بسريته من قتال العدو بشجاعة وبسالة وتكبيده خسائر فادحة قبل أن يجبر على الاستسلام، وواصل عبد الحميد حديثه بأنه استطاع تفادي طلقات العدو التي تركزت عليه في منطقة محصورة (وبينها لي عندما وصلنا هذا المكان بعد ذلك) وقال إنه استطاع دخول خور فوجد فيه حوالي ثمانية أفراد غيره من بينهم أبو الحمايد وهو من بلده وعبد الرؤوف ومحمد عبد الرحمن وآخرين ولاذوا بالصمت حتى ترك العدو المكان.

وتحركوا بعد ذلك إلى منطقة سكنية مهجورة ووجدوا بعض التعيين والمياه وواصلوا تحركهم شمالاً في اتجاه قواتنا ولكنهم وقعوا في كمين أصيب على أثره عبد الرؤوف وأسر الباقون واستطاع
عبد الحميد وسيد محمد علي ومحمد عبد الرحمن التخلص من الكمين بشكل بطولي والعودة مرة أخرى ومعهم عبد الرؤوف المصاب وحاولوا البحث عن الطعام والشراب، ثم عادوا إلى المنطقة التي تم مهاجمة العدو لهما بها للاستفادة بما تركه الشهداء من الطعام والمياه التي معهم وكذلك الأسرى وأثناء بحثهم عثروا على البدويان صبحي وعلي يبحثان هما الآخران عن أي شيء في الشدد وفي بقايا ملابس الأسرى يصلح لأخذه والاستفادة به، وعند ذلك ظهر لهم عبد الحميد وقال لهم إننا مصريين مثلكم ونريد بعض المياه والطعام وتحرك معه البدو على مضض حتى تقابلنا وكان هذا اختصار ما حدث لعبد الحميد والمجموعة التي كانت معه (التفاصيل طويلة يسردها هؤلاء الأبطال خلال هذه المدة).

كنا نفكر في الأحداث التي واجهناها ونسأل أنفسنا هل سيكتب لنا أن نرى أهلنا مرة أخرى أم ماذا يخبئ لنا القدر؟ وتابعنا الأحداث بالراديو على جميع القنوات المتاحة وأحسسنا وقتها بثقة في إذاعتنا ولكننا كنا نريد أن نعرف كل شيء وخاصة أن الكلام حول الثغرة كان كثيرًا ومر اليوم بين الحديث وسماع الإذاعة، وطلعات العدو الاستطلاعية في كل مكان ووقت بصورة مكثفة  جدًا.

أحداث يوم 21 أكتوبر 1973م:

تابعنا الأحداث بالراديو وسمعنا أخبار مباحثات وقف إطلاق النار وكانت أخبارًا غير سارة بالنسبة لنا حيث يعني ذلك ثبات وبقاء أوضاع قوات كلا الجانبين (المصري والإسرائيلي) للخطوط التي وصلت إليها وعدم وصول قواتنا إلى أبورديس وبالتالي استمرار تواجدنا في المنطقة ومعنا عبد الرؤوف المصاب وهذه الكمية المحدودة من الطعام والمياه، ولكن أخبار القتال الدائر في كل مكان كان يعطينا الأمل أن تصل قواتنا خلال الفترة القادمة وقبل الاتفاق على التنفيذ الفعلي لوقف إطلاق النيران وخاصة أننا لم نكن نعلم تمامًا أين وصلت حتى الآن على خليج السويس لأن الأخبار لم توضح بالضبط الخطوط التي وصلت قواتنا إليها وكنا نأمل أن تكون قريبة منا.

شاهدنا في هذا اليوم تحرك فردين على مدق (درب) قريب من مكاننا ولذنا بالصمت وزادنا هذا الموقف حرصًا وكنا بدون بطاطين وتمزق حذائي من المشي وأصبح يعيقني جدًا في الحركة وعلمت من عبد الحميد أن ملابس وأحذية الأسرى ما زالت موجودة في أماكنها في منطقة الاشتباك وهي قريبة من هنا ويمكننا أخذ احتياجاتنا في أي فرصة بعد أن يهدأ العدو ويوقف دورياته الجوية التي ما زالت على أشدها أو يقللها.

كان الطعام يتناقص شيئًا فشيئًا ولكننا كنا نأكل ونشرب أقل القليل لنحافظ على الطعام والمياه أطول فترة ممكنة، وخاصة بعد سماعنا أخبار وقف إطلاق النار وإعطاء فرصة للطرفين للتفاوض وكان هناك فرق كبير بين حرب أكتوبر 73 وحرب يونيو 67 وكان ذلك بشهادة العدو ومن لهجته التي تظهر أنه أمام ند عنيد استطاع أن يبدد الحلم الزائف عن القوة التي لا تقهر وجعل العدو يفقد الثقة بنفسه وهو ما كنا نشعر به جميعًا بعد مواجهة العدو وهذا في رأيي من أهم نجاحات وإنجازات حرب أكتوبر وهو كشف حقيقة العدو في أول مواجهة حقيقية أمام بطولة الجندي المصري وأنه ليس الذي كنا نتصوره ويصور نفسه قبل الحرب، وبالرغم من إذاعة العدو للصور الصوتية لأسرانا وسمعنا بعض الزملاء من الكتيبة ولكن كنا نعلم أن موقف العدو ضعيف وأن الضربة كانت قاصمة.

أحداث يوم 22 أكتوبر 1973م:

مر ذلك اليوم مثل باقي الأيام نتابع فيه الأحداث بالراديو ونأكل ونشرب الشاي مستخدمين أقراص الوقود الجاف ونتابع أصوات الطائرات أثناء الاستطلاع وقد خططنا لنكون قوة تستطيع الدفاع عن نفسها بتحقيق أفضل استغلال للأرض إذا قام العدو بمهاجمتنا وخاصة بعد أن علمنا أسلوبه في مهاجمة الأفراد وعدم قدرته على المواجهة المباشرة وتعرضه لأي خطر وخاصة مع أفراد مثلنا لم يعد الموت يرهبهم بعد أن اعتادوا عليه ولكن كان أكبر همنا أن نستشهد أي لابد من فعل الكثير إذا هاجمنا العدو فلا سبيل أمامنا غير الاستشهاد، أي الدفاع حتى الموت.

أحداث يوم 23 أكتوبر 1973م:

كانت دوريات الطيران أقل في هذا اليوم وبدأ الطعام يتناقص وكذلك المياه واتفقنا على الذهاب إلى منطقة القتال لأخذ حذاء آخر غير الذي معي وبعض الذخيرة والطعام والمياه وبعض البطاطين لأن الجو أصبح باردًا ليلاً وأي شيء نستطيع الاستفادة منه وأعددنا أنفسنا للتحرك وتركنا عبد الرؤوف المصاب ومعه محمد عبد الرحمن وتقدم الرقيب سيد محمد علي في اتجاه المنطقة.

وصلنا إلى منطقة القتال بعد تحركنا بحوالي ساعة أو أكثر وكان يخيم على المكان هيبة الموت ورأيت الشهداء كل في مكانه وكانت الشمس قد غيرت لونهم وملامحهم ولم تكن لهم أية رائحة وكان الهدوء يسيطر على المكان وقرأنا الفاتحة على أرواحهم وتحركنا نتفقد المنطقة، وبين لي عبد الحميد أماكن تواجد قواتنا، وأماكن تواجد عناصر العدو، وأماكن إنزال طائرات العدو لعناصره على المناطق الحاكمة، وأماكن الطلقات التي أطلقت عليه وتفاداها، والمكان الذي اختبأ فيه هو وباقي الجنود أثناء تفتيش العدو للمنطقة، ومكان قائد السرية، ومكان قائد الكتيبة، وطريقه أثناء عودته لاستدعاء باقي الأفراد، وكنت أتساءل عن مكان النقيب سمير البهي عرفان قائد فصيلة الإشارة وأحد الرجال الأبطال وأشار إلى مكانه وأبلغني أنه كان مع الدكتور محمد شعراوي طبيب الكتيبة في هذه المنطقة والذي انضم للخدمة بالكتيبة في منطقة القصاصين وكان مثال يحتذى به في الخلق والانضباط وعلى الرغم من كونه طبيب كان يتمتع بشجاعة وروح قتالية عالية وحضر مع الكتيبة مأمورية تأمين ثورة الفاتح من سبتمبر بدولة ليبيا وكان من ضمن أفراد مجموعة وادي بعبع الذين تم أسرهم، وقد تبادلنا الزيارة بعد عودتي وتقابلت معه في الإسكندرية بعد حوالي 8 سنوات وأخبرني قصة استشهاد النقيب سمير البهي وكيف أصابه العدو غدرًا في ظهره أثناء تجهيزه قنبلة يدوية لمهاجمة العدو وقد أوضح لي أيضًا كيف حاصر العدو الكتيبة في منطقة وادي بعبع وفاجأها بالمدرعات والقوات من جميع الجهات وبالطائرات الهليكوبتر التي أنزلت أفراد على قمم الجبال لاستكمال الحصار وكيف كانت هناك مقاومات متفرقة ولكن مفاجأة العدو لقواتنا وإحكام حصارها وتفوقه في القوات والمعدات لم تعطي لعناصر الصاعقة فرصة تنظيم الدفاع الجيد وبالرغم من ذلك اشتبكت قواتنا وقاتلت ببسالة حتى أسر قائد الكتيبة ورئيس العمليات وعدد من الضباط والأفراد ولم نجد شيئًا غير بعض الجثث في أماكن متفرقة ولم يكن في الإمكان معرفة لمن هذه الجثث وكنا طوال مائتي يوم خلف الخطوط نتوقع مقابلة سمير البهي في أي منطقة بسيناء ولم نتوقع استشهاد هذا البطل العملاق، كان رحمه الله من رجال المنيا وكان وطنيًا لأبعد الحدود.

كنت عندما أسمع بعض الأغاني الوطنية قبل عمليات أكتوبر 73 أبكي سرًا تأثرًا لحال مصر وما وصلنا إليه، وكان سمير البهي يبكي جهرًا؛ لذلك كنت أعتبره أشجع مني وأقدر على مواجهة الناس، أما أنا فلم أجد نفسي إلا في ميدان القتال متحملاً المسئولية وكنت متأكدًا من بطولة سمير البهي التي ظهرت جلية على مسرح قاعدة عقبة بن نافع بالجمهورية العربية الليبية قبل عودتنا من مأمورية تأمين الثورة الليبية والتي كان مخطط لها أن تنتهي في شهر أكتوبر 1973 ولكن صدرت الأوامر بتغيير الكتيبة والعودة إلى مصر مع بداية شهر يوليو 1973م، وفي بداية حفل ترفيهي صعد سمير المسرح وبدأ في إلقاء خطبة وطنية قوبلت بفتور في البداية من كثير من الحاضرين، ولكن سرعان ما تغير الإحساس وألهبت الكلمات الناس وتأثر الجميع من إلقاء وصدق كلمات الشهيد التي كانت نابعة من القلب لتصل إلى كل القلوب، وكنت أتمنى أن تسجل تلك الكلمات التي لم أسمع ولن أسمع أصدق وأعظم منها، رحمه الله وأدخله فسيح جناته.

واصلنا التحرك في المنطقة وبدأنا البحث عن احتياجاتنا وبدأنا في تقليب الشدد ووجدنا أشياء كنا في حاجة إليها مثل ميكروكروم وشاش وقطن وملاعق وشوك وسكاكين وبعض الأطباق وخيط وإبره وصابون وكبريت وبعض الطعام وأقراص الوقود الجاف وذخائر ولكن لم يكن هناك أي أسلحة ووجدنا أيضًا بطاطين وأخذنا خمس بطاطين بمعدل كل واحد بطانية وبحثت في المنطقة حتى وجدت منطقة بها أفرولات وأحذية خاصة بالأسرى وأخذت أحد الأحذية التي لم تكن مقاسي ولكنها كانت أفضل من التي معي ووجدنا بعض الحجارة الجافة الخاصة بالراديو وبعض القنابل اليدوية ونظارة ميدان وبعض الجراكن الصغيرة الفارغة وكانت كلها أشياء هامة ومفيدة ولكننا أخذنا منها ما يمكن حمله لأننا لم نتصور أن تطول مدة بقائنا في جنوب سيناء.

وبعد أن حملنا احتياجاتنا وفي طريق العودة وبالقرب من المنطقة وجدنا أحد البدو يجلس القرفصاء بصورة تجعلنا لا نراه وهي جلسة شهيرة للبدو للترقب وكان شكله يبعث على الشك ويبدو أنه ليس من المنطقة، ولم نسترح لشكله ولكننا تحدثنا معه وقرأ عبد الحميد معه الفاتحة وتحركنا في اتجاه آخر غير المفروض أن نتجه فيه للتمويه والخداع لأننا شكينا في هذا الرجل ثم قمنا بعد ذلك بتعديل اتجاه السير إلى الاتجاه الصحيح لمكان إقامتنا.

سعد الجميع بالأشياء التي أحضرناها وقمنا بتطهير جرح عبد الرؤوف واستخدمنا البطاطين في تلك الليلة وكانت أول مرة أستخدمها منذ مدة طويلة وتابعنا الأحداث من الراديو بعد أن اطمأننا لموقف البطاريات ووضح لنا قرار إيقاف إطلاق النار وتأكدنا من عملية الثغرة التي كانت غير واضحة حتى الآن وبدأنا نعلم أن قواتنا وصلت حتى عيون موسى على خليج السويس كذلك تابعنا موقف القوات السورية على الجولان والتي كانت مخيبة للآمال.

أحداث يوم 24 أكتوبر 1973م:

بدأت المياه والتعيين في النقصان وكان لابد من العودة مرة أخرى لتوفير المياه وبعض التعيين المتيسر وذلك حتى يتضح الموقف وجلسنا طوال النهار نتابع الأحداث بالراديو أحيانًا ونتبادل الحديث أحيانًا أخرى حتى قبل آخر ضوء بحوالي ساعة ثم تحركنا عدا عبد الرؤوف ومحمد عبد الرحمن إلى منطقة الأكشاك ولكننا لم نستطع الوصول إلى تلك المنطقة وخيم الظلام على المنطقة فعدنا إلى مكاننا، وقللنا كمية الطعام والمياه حتى نستطيع مواجهة الموقف إذا عجزنا عن استعواض الطعام والمياه.

أحداث يوم 25 أكتوبر 1973م:

كان ذلك يوم العيد على ما أذكر وتمنينا جميعًا أن نكون في العيد الكبير مع أهلنا بإذن الله، وكانت أمنيات فيها كثير من الشك ولكنها كانت صادقة ومن القلب وكنا نسمع الأغاني الوطنية والأخبار التي أكدت لنا في النهاية أن الجيش المصري بخير والحمد لله.

قررنا التحرك مبكرين إلى مكان أكشاك البدو للبحث عنهم وفعلاً وصلنا إلى المكان وكان يختفي وراء تبة ووجدنا الأكشاك مقفولة بقفل ففتحناها لأننا كنا نعلم مكان المفتاح وأخذنا شوال البقسماط المعفن وبعض الدقيق والسكر و3 علب معلبات وحلة قديمة وأخذنا المياه وتركنا جنيهات قليلة كانت معنا وأغلقنا الأكشاك وتحركنا عائدين بأحمالنا فرحين بالطعام والمياه آملين أن تكون آخر مرة.

وصلنا إلى الزملاء وكانت فرحة كبيرة بعودتنا بالطعام والمياه واقترحت عليهم بمناسبة العيد عمل عصيدة بالدقيق والماء والسكر وعملها السيد علي ولكنها كانت كرات ظاهرها عجين وباطنها دقيق نيئ ولكننا أكلناها ولعقنا أصابعنا وحمدنا الله وقال لي عبد الحميد أن عون الله كان معنا دائمًا وأخذنا نتذكر المواقف الصعبة التي واجهناها وكيف نجانا الله من الموت المحقق أكثر من مرة وبفضله تعالى سخر لنا هؤلاء البدو لمعاونتنا وتعاهدنا على أن نصلي شكرًا لله وعرفانًا بفضله.

أحداث بقية أيام شهر أكتوبر 1973م:

تشابهت الأحداث خلال هذه الفترة في هذا المكان من سيطرة جوية للعدو تزداد أيامًا وتقل أيامًا أخرى وكنا نأكل البقسماط المعفن وكانت جافة جدًا ولكنها كانت لا بأس بها بالنسبة لنا وكنا نضحك أحيانًا على مصير الماعز عندما لا تجد البقسماط الخاص بها، وفي أحد هذه الأيام فتحنا علبة شطة نأكلها مع البقسماط وكانت حامية بصورة لم أر مثلها من قبل ولكن كان لابد من أكلها وعلمنا بعد ذلك من البدو أن ملعقة صغيرة منها كانت كفيلة لجعل حلة كاملة حارة جدًا ولكننا كنا في حاجة إلى شيء نأكله مع البقسماط وطبعًا أصبنا جميعًا بحرقان شديد ولكنه كان شيئًا عارضًا وبسيطًا.

كنا قد بدأنا نمل المكان الذي كان خطرًا وكنت قد تعودت على التحرك وأحسست أن وجودنا هنا لمدة طويلة فيه خطر علينا لاحتمال وشاية أي بدوي ضدنا وأخذ الطعام يتناقص خلال هذه الفترة وانتهى جوال البقسماط وبدأنا في عمل العصيدة بالدقيق ولابد من إعادة التفكير في موقفنا بعد أن طال بقاؤنا في المنطقة واحتمال استمرار تواجدنا حتى يتم الفصل بين القوات وسيطرة قواتنا على المنطقة التي كنا نتوقع أن تتم في خلال شهر أو اثنين وهي مدة كبيرة لابد فيها من الاعتماد على مصدر للإعاشة.

ليس أمامنا غير البدويين علي وصبحي اللذين حددا لنا مكان خيامهم القريبة من العشش الخاصة بهم والتي علمنا أن العشش مكان شتوي والخيام هي المنزل الصيفي لهم، ولكننا كنا نفكر كيف سنواجههم بعد أن أخبرناهم أننا مسيطرون على المنطقة وتركنا ذلك للظروف وقررنا أن نقابلهم ونوضح لهم احتياجنا لبعض الطعام والمياه.

 


 

Share
Click to listen highlighted text! Powered By GSpeech