Click to listen highlighted text! Powered By GSpeech
Get Adobe Flash player
مستمرين معاكم بإذن الله 2008-2024 **** #لان_لجيشنا_تاريخ_يستحق_أن_يروي **** ***** إنشروا تاريخنا وشاركونا في معركة الوعي **** تابعونا علي قناة اليوتيوب 1100+ فيديو حتي الان **** تابعونا علي صفحات التواصل الاجتماعي** أشتركوا معنا في رحلاتنا لمناطق حرب أكتوبر **** يرجي استخدام خانة البحث **** *** تابعونا علي تليجرام - انستجرام - تويتر

عقيد - مجدي شحاته - بطل الصاعقه- الجزء الثالث

بسم الله الرحمن الرحيم

المقدمة:

اتخذت المجموعة 73 مؤرخين ميثاقا منذ نشأتها، وهو ألا تسجل أو تؤرخ لحدث بعد 14 يناير 1974 وهو الموعد الرسمي لنهاية حرب أكتوبر المجيدة، في تلك القصة الرائعة والغريبة، نخالف ميثاقنا ونستمر في التأريخ بعد 14 يناير، لأن أحداث القصة لم تنتهي إلا في أبريل 1974 عند عودة النقيب مجدي شحاتة من مهمته خلف خطوط العدو، إن القصة في السطور التالية تحمل دروسا وعبر لحياة رجل قاتل الإسرائيليين في سبيل مصر، ثم قاتل الظروف والطبيعة والمناخ والأهم من ذلك حارب الجوع والعطش لكي يعود برجاله إلى بر الأمان، عاد وهو لم يترك سلاحه للعدو، عاد بعد أن أدى مهمته المباشرة في حرب أكتوبر وكان مصدر قوة – بدون أن يدري – في مباحثات الكيلو 101 مع الإسرائيليين.

قصة اللواء مجدي شحاتة تعلمنا أن حب الوطن شيء كبير وحب الحياة ومواجهة الصعاب وتخطيها أمر لابد منه، وأن اليأس إحساس يجب طرده من العقول والقلوب مهما كانت الظروف ومهما كانت التحديات.

سيجد القارئ أن المجموعة 73 عندما سجلت تاريخ بطولة اللواء مجدي شحاتة وأثناء السرد قد كتبت جملة تكررت عدة مرات وهي على لسان البطل (وقد علمت بعد ذلك) لأن الكثير والكثير من الأحداث ونتائج الأحداث لم يعلمها البطل إلا بعد عودته من خلف خطوط العدو بعد مائتي يوم من مراوغة قوات العدو ومحاولات البقاء حيا بما تبقى من قواته.


الطريق إلى حرب أكتوبر:

ولدت في طنطا، جدي عمل مدرسًا وكان شخصية جادة جدًا، شخصية جدي الجادة جعلته ينتقل بين عدد من المحافظات للعمل في شتى أنواع المدارس، حتى وصلت بصحبة والدي وعائلتي إلى القاهرة في توقيت يتزامن مع قيام الثورة، وكان والدي وطنيًا جدًا أو بمعنى أدق كان متطرف الوطنية فتطوع في الحرس الوطني للمساعدة في المقاومة الشعبية، فبدأت أشب على الدنيا وأنا أرى السلاح في منزلنا بشكل طبيعي، ودعم ذلك حديث جدي عن مقاومة المحتل وأفعال أعماله الوطنية مع الفدائيين ضد الإنجليز، وهكذا نشأت في بيت وعائلة وطنية دعمها المد الثوري وحالة الثورة في الوطن خلال تلك الفترة وتررعت في هذا الجو حتى فوجئت بنتائج حرب 1967 وصدمتنا الهزيمة صدمة قاسية وكنت وقتها في الثانوية العامة، وفور انتهاء الامتحانات تقدمت بلا تفكير للكلية الحربية، ووصلت للاختبار النهائي في كشف الهيئة ولم يقدر لي الله القبول في الكلية الحربية وتقدمت للكلية المدنية مرغما عني وفي حالة نفسية سيئة تم قبولي في كلية التربية الرياضية لأنها أقرب لميولي لوجود اثنين من أولاد أعمامي بنفس الكلية، حتى جاء لي صديق يخبرني بأن الكلية الحربية تطلب دفعة استثنائية، فتقدمت سرًا للدفعة الاستثنائية وتم قبولي بعد أن اجتزت كل الاختبارات بنجاح، وبعد قبولي أخبرت والدي وأنا أخشى عدم موافقته، ولكنه سعد جدًا لذلك وباركه.

فور انخراطي للكلية الحربية ظهر تفوقي رغم أني لم أكن متفوقًا دراسيًا عامة في الثانوية العامة، ولكن رغم اهتمامي العام بالدراسة والتدريب العملي وجدت نفسي في ترتيب متقدم من الدفعة، وكانت هذه أول ملاحظة لي في الحياة العسكرية وهي بقدر عطائك بقدر تفوقك وكان ذلك بميزان حساس جدًا وبالفعل كان الترم الدراسي الذي أجتهد فيه أجد نفسي متفوقًا، وعند إحساسي بالتفوق وبالتالي الكسل والاستهتار في ترم آخر أجد نفسي متأخرًا بقدر استهتاري، وكنت أرى زملائي في دفعتي والدفعات السابقة مقياس لهذا التفوق وحتى لو كان الفرق بسيطًا. كيف كان يدار هذا التقييم مع هذا الكم الهائل من الطلبة قبل اختراع الكمبيوتر (الحاسب الآلي)، كان ذلك يدل على إدارة فائقة النجاح وضمير حي كان المجتمع العسكري يتمتع به، وكذلك المجتمع الخارجي، فكانت الرشوة والمحسوبية لا تجد محل لها بالقطر المصري إلا في أضيق الحدود وكان ذلك من العار والعيب الكبير. ونتذكر في ذلك الوقت أن أبناء قادة كبار كانوا زملاء لنا في الوحدات المقاتلة دون أي تمييز ملحوظ كابن اللواء عبد المنعم واصل واللواء الجمل وشقيق رئيس الجمهورية الشهيد عاطف السادات الذي كنت صديقًا له وكان له محبة خاصة لشخصيته الرائعة وليس لأنه شقيق الرئيس. لكنها كانت فتره قاسية وعنيفة جدا داخل الكلية الحربية فالتدريبات متواصلة طوال اليوم وجزء كبير من الليل، فكان الوطن يستعد لحرب قادمة.

وأذكر أنه خلال أول زيارة لي لقريتي بالملابس العسكرية، استقبلني جدي بترحاب وعطف شديد لم أعهده منه من قبل، فقد كان معروفًا عنه الجدية وكانت تلك آخر مرة أقابله وعلمت بعد ذلك أنه كان يدعو لي في صلاته بشكل خاص أثار استغراب جدتي، رحمهما الله.

ومرت بي الأيام وخلال عامي الثاني شاهدت زملائي في السنة النهائية يذهبون إلى فرقة الصاعقة بالكلية ويعودون شخصيات وأشكال مختلفة تمامًا مما أثار استغرابي عما حدث لهم خلال فرقة الصاعقة، ووجدت المدرسين في الكلية يتعاملون مع ضباط الصاعقة باحترام زائد، مما دفعني للرغبة في العمل بقوات الصاعقة فور تخرجي من الكلية الحربية ضمن ضباط الدفعة التي تخرجت آخر عام 1969، وتم ذلك بالفعل نتيجة درجات اللياقة البدنية العالية والترتيب المتقدم، وهناك كانت الحياة مختلفة تماما والتدريبات العنيفة مختلفة وكنت أمضي التدريبات بجدية وأعاون زملائي على تأدية التدريبات، لكن تركيزي الأساسي في التدرب للقتال على الجبهة.

وخلال أيامي الأولى في مدرسة الصاعقة وبينما كنت في مدرج مدرسة الصاعقة في محاضرات نظرية، وقعت غارة جوية إسرائيلية على مقر المدرسة وعلمنا بعد ذلك أن الجاسوس فاروق الفقي لم يخبر إسرائيل فقط بموقع مدرجات مدرسة الصاعقة فقط لكنه أخبرهم بموعد وجود أكبر عدد من الضباط القدامى وضباط الصف والجنود في مناطق تجمعهم وتدريبهم داخل مباني المدرسة لكي يتم الإغارة عليها والانتقام من قوات الصاعقة المصرية التي ظهر تأثير عملياتها ضد العدو الإسرائيلي غرب القناة.

عندما بدأت الغارة كنت قد غادرت المبنى بلحظات أنا ومجموعة من الزملاء سمعت صوت انفجار شديد جدًا علمت بعده أنه كان قنبلة ألف رطل على مكان تجمع أتوبيسات ضباط الصاعقة وكان صوتا رهيبا رغم أن انفجارها يبعد عنا حوالي 400 متر، تلى ذلك قنبلة انفجرت بجوار مبنى قيادة الصاعقة وتحمل المبنى الموجة الانفجارية وظل صامدًا، أما القنبلة الثالثة فقد أصابت عددًا من الأكشاك الخاصة بالشئون الإدارية والمالية لوحدات الصاعقة، كنت لحظتها أجري تجاه تلك الأكشاك وشاهدت الانفجار أمام عيني، وشاهدت أجزاء كثيرة من هذه الأكشاك مع أشلاء الجنود والضباط ترتفع في الهواء وكأنه مشهد سينمائي بالتصوير البطيء، وأصيب اثنان من زملائي كانا بجواري من الشظايا المتناثرة، فبدأت بالركض في الاتجاه المعاكس باتجاه أشجار الزيتون، أحاول التقاط أنفاسي واستيعاب ما الذي يحدث، وكان منظرًا مهولاً، فالكثير من المصابين والشهداء ملقون على الأرض وسط طرق مدرسة الصاعقة والدماء والشظايا اختلطت بالدخان الأسود والنيران.

وبعد ثوان انتهت الغارة وبدأنا في تجميع المصابين لنقلهم للعلاج، ومن المواقف الطريفة وسط هذه الكم من الهلع فقد أصيب أحد أصدقائي بشظية في منطقة القلب مباشرة ولولا ستر الله لمات في الحال إلا أن بضعة جنيهات هي أول مرتب حصل عليه ووضعهم في جيبه الأعلى قد منعوا الشظية من الاستمرار في طريقها وانشق المرتب إلى نصفين وتركت جرح سطحي. كانت تلك الغارة بالمثابة لي تطعيم المعركة، فلأول مرة أرى انفجارات قريبة ودماء ومصابين وأصوات طائرات فانتوم، مما أعطى لنا أول تطعيم معركة ضد قنابل الطائرات القريبة. ويبدو أن الفانتوم كانت تتربص بفرقتنا، فقد مرت فوقنا مرة أثناء تحركنا بالعربات المكشوفة في طريقنا إلى دورية تدريب وعلى ارتفاع منخفض جدًا صم الأذان، وكان يمكن للطيار أن يقتل سرية كاملة تتحرك في عربات مكشوفة لو أطلق عدة طلقات على عرباتنا، لكنه من الواضح أنه لم يلحظ وجودنا واستمر في طريقه تجاه شمال القاهرة، وكانت غارة أبوزعبل المرة الثالثة عند حلوان فوق الجبل، لكن تلك المرة كانت الفانتوم تحتنا ونحن نسير على الجبل فوقها بينما تشق الطائرات طريقها وسط الوديان تجاه القاهرة بهدف إحباط الروح المعنوية للشعب المصري.

خلال فترة الفرقة في مدرسة الصاعقة كنا نتابع العمليات الانتحارية التي تقوم بها قوات الصاعقة خلف خطوط العدو، وكنا نستمع إلى تلك الروايات على شكل حكايات يرويها الضباط، وأذكر بكل خير الملازم أول فتحي عبد الله أحد أبطال عملية رأس العش والذي انتقل للعمل بالمدرسة في إنشاص، والذي روى لنا تفاصيل تلك المعركة عدة مرات. وكنا نتدرب على مبادئ عمل الصاعقة ومبادئ الاشتباك المتلاحم ويومًا بعد يوم تتحول تلك التدريبات إلى الدماء التي تضخ في جسدنا، فقد أصبحت مدربا على تنفيذ تلك التدريبات بدون تفكير وفي أسرع رد فعل. فالصاعقة تبني شخصًا وتبرز الإمكانيات الغير معروفة له وتعزز ثقته في نفسه بشكل كبير، فالثقة والتدريب هي أساس فرد الصاعقة، فمن منا كان يتخيل أن يسير طابور سير لمدة ثلاثين أو أربعين كيلو مترًا في أقصى الظروف؟، لكننا أيقنا أننا يمكننا تنفيذ ذلك طالما وجدنا داخلنا الثقة بالنفس بشكل كبير أو شيء آخر كان تسلل داخلنا وهو ما يعرف بـ(روح الصاعقة).

وبعد فترة من التدريبات العنيفة تخرجنا من مدرسة الصاعقة، وكان يومًا سيئًا جدًا على وبكيت لأول مرة في حياتي، فقد صُدمت عندما تم توزيعي على كتيبة مقرها بالإسكندرية، فقد كانت كل آمالي هي التوجه للجبهة والعبور للمشاركة في حفر الاستنزاف، لكن ماذا أفعل في كتيبة بالإسكندرية؟. صاغرًا للأوامر العسكرية، نفذت النقل إلى الكتيبة 257 بالإسكندرية ضمن عدد كبير من الكتائب التي يتم تشكيلها حديثًا ضمن مجموعات تحت الإنشاء بهدف تضخيم حجم قوات الصاعقة، لكن بعد فترة تم حل تلك المجموعات بعد أن ثبت أن تضخيم قوات الصاعقة يأتي على حساب الكفاءة والتدريب، فتم العودة إلى التشكيل القديم لقوات الصاعقة.

وخلال فترة تواجدي بالكتيبة 257 صاعقة كان التدريب عنيفًا جدًا، فالهدف تشكيل كتائب من البداية وسط نقص في الامكانيات – حيث أن مجموعة الصاعقة وهي عدة كتائب كان لديها سيارة واحدة فقط للقيام بكل مهام الكتيبة من الشئون الإدارية والإعاشة. ولتوضيح مدى النقص الذي كنا نعانيه من الضباط مثلاً، فقد استلمت قيادة سرية صاعقة في الوقت الذي من المفترض أن أبدأ بقيادة فصيلة لفترة ثم أتلقى دورة قادة سرايا للترقي، لكن لم يكن لدينا ضباط لسد العجز في هذا العدد الكبير من الكتائب الجديدة، لكن بعد فترة وصل عدد من الضباط فعدت إلى مكاني الطبيعي كقائد فصيلة.

بعد الفترة تم اختياري للحصول على فرقة دراسية بالقاهرة، وكانت أول مرة منذ تخرجي أترك الكتيبة لمدة طويلة، وبعد وصولي القاهرة بعدة أيام سافرت كتيبتي إلى ليبيا لتأمين مجلس قيادة الثورة الليبية.

وبعد انتهاء الفرقة الدراسية عدت إلى معسكرات الصاعقة بإنشاص لمعرفة وحدتي الجديدة وطلبت أن يتم تعييني في وحدة على الجبهة، وبالفعل تم تعييني في الكتيبة 83 صاعقة، كانت الكتيبة 83 صاعقة مشهورة بتنفيذ عمليات عبور كثيرة منها الكمين المشترك مع وحدة مشاة مصرية شرق القناة والتي اسمتها إسرائيل عملية السبت الحزين لما تكبدت فيه من خسائر بالإضافة إلى أسر أحد أفراد المظلات الإسرائيلية، وكان من أبطال تلك العملية صديق عمري عبد الحميد خليفة، وكان تدريب الكتيبة عاليًا ومعنويات أفرادها عالية، وكان وقتها قائد الكتيبة هو عبد العزيز محمود وتمركزت الكتيبة في منطقة صحراوية بمنطقة القصاصين.

ومضت الأيام في التدريب العنيف بلا كلل أو ملل، وكان الضباط الأقدم لنا خير عون في اجتياز تلك الأيام وأذكر منهم بكل خير رشاد عمران وكان من أوائل من عادوا إلى سيناء بعد النكسة ومعه البطل سمير زيتون وكانوا يعملون على نقل المعلومات إلى القيادة عما يجري في سيناء، وأعطوا القيادة معلومات مهمة جدًا، وكانت خبراتهم في الكتيبة خير عون لي في اكتساب خبراتهم. وكانت الأيام والأسابيع تمر عادية علينا وفي عقلنا شيء واحد هو أننا سنحارب يومًا وأننا نستعد لحرب إن آجلاً أو عاجلاً.

وفي عام 1972 صدرت لنا الأوامر بالسفر إلى ليبيا للعمل في طرابلس بمهمة حماية مجلس قيادة الثورة، فوجدنا عالمًا غريبًا من الرفاهية والأكل والشرب بالإضافة إلى اهتمام من السلطات الليبية على أعلى مستوى. وبدأنا نعمل خطة لتأمين سواحل قاعدة عقبة بن نافع وتدريب الليبيين بالإضافة للتدريب التقليدي لقواتنا، وكانت فترة جيدة أخرجتنا من حالة الانتظار لساعة الحرب. وفي عام 1973 زارنا الفريق أحمد اسماعيل وزير الحربية وقتها قبل أن يترقى لرتبة المشير، واجتمع معنا وألقى خطبة حماسية معتادة من تلك الزيارات وأذكر هنا سؤال من رشاد عمران عن موعد الحرب ورد الفريق أحمد اسماعيل رد دبلوماسي، وطمأنا القائد العام بأن مصر لن تسكت ولن تستمر في حالة اللاسلم واللاحرب.

ترقيت إلى نقيب في يوليو 1973 وفي نفس التوقيت صدرت الأوامر لنا بالعودة إلى مصر وتم وضعنا ضمن تشكيل المجموعة 139 قتال والتي كان قائدها العقيد كمال عطية وتتمركز في الإسكندرية. وفور وصولنا إلى مصر وجدنا أن الاستعدادات مختلفة والتوتر ظاهر لكن لا أحد يتحدث وكانت فترة خروج رديف لأول مرة وتأخر لوجودنا بليبيا، كذلك تم ضم ضباط جدد وملازمين وخروج بعض الضباط. وكان التدريب وقتها تحت الأعين الفاحصة لكل القادة والاهتمام زائد بالتدريب والرماية وتعرفنا على ضباط سرايا صواريخ الجراد والهاون وباقي ضباط كتائب المجموعة، وتوطدت العلاقة بيننا جدًا.

وقبل نهاية سبتمبر – صدر لنا الأمر الإنذاري بالتحرك إلى المنطقة التبادلية قرب خليج السويس وكانت منطقة غريبة مناخيًا – فخلال يوم واحد ترى الفصول الأربعة وكانت المعيشة هناك غير آدمية بالمرة كمعسكر للصاعقة، لكننا تعودنا على الحياة الشاقة.


 

حرب أكتوبر – ومئتي يوم في قلب العدو.

وصلنا المنطقة التبادلية مع حلول شهر رمضان بعد حوالي أسبوع من التحرك بالقطارات والسيارات، وكالعادة عدنا إلى التدريب وإعادة التنظيم بعد وصول جنود جدد ورحيل الرديف فلا شاغل لنا إلا التدريب ووصل أفراد الاحتياط المسرحين من الخدمة وكانت التحركات ووصول الاحتياط إشارات لا جدال فيها أننا مقبلون على عمليات – لكن متى وأين وما هي المهمة؟ لا ندري أي شيء. بعد يومين قمنا باستطلاع الشاطئ الشرقي لخليج السويس من فنار الزعفرانة ونحن لا ندري ماذا نستطلع على الجانب الآخر حيث الجبال ممتدة على الجانب الآخر البعيد حوالي 40 كم.

كانت أول إشارة عن مهمتنا القادمة عندما أبلغنا رئيس عمليات المجموعة - رحمه الله - بأننا متجهون إلى منطقة تسمى وادي بعبع بالقرب من وادي فيران لتنظيم كمائن لدوريات العدو. وبدأ الضباط القدامي في تذكر جغرافيا تلك المنطقة من واقع خبراتهم قبل النكسة، وبدأ قائد الكتيبة ورئيس العمليات يروون ذكرياتهم خلال فرقة الصاعقة في هذه المناطق وكنت محظوظًا أن أحضر هذا الحديث مع بعض الضباط بالمصادفة وكانت هذه المصادفة هامة لي جدًا بعد ذلك الوقت.

في صباح السادس من أكتوبر بدأنا ترتيب المهمات طبقا لطائرات الهليكوبتر المتوافرة وكانت ست طائرات. وصدرت الأوامر كالآتي: يتم عبور 3 سرايا لتنفيذ كمائن وإغارات على 3 مناطق (منطقة وادي بعبع وأبورديس بقوة سرية + قيادة ك بعدد 7 طائرات على 2 رحلة "5+2"، سرية تعبر بزوارق الزودياك إلى وادي سدرة، وسرية تعبر بمنطقة وادي فيران بعدد 5 طائرات على 2 رحلة "1+4"). وكان اختياري أن أكون في الطائرة الأولى (الانتحارية) تجاه وادي فيران ومعي فصيلة صاعقة، وكان معي ملازم من السرية اسمه محمد عبد المنعم. وبعد دقائق ظهر رائد طويل القامة وأقبل تجاهي، وعرف نفسه أنه الرائد أحمد رجائي عطية – وكان معه شخص بدوي عرفني عليه بأن اسمه عوده الحرامي – وأخبرني أن عوده هو دليلي في سيناء (وقد عملت مع الرائد أحمد رجائي عطية في وقت لاحق وعلمت أنه كان أحد أبطال المجموعة 39 قتال).

كانت مهمة مجموعتي غير محددة، إنما قيل لنا أن هناك قوات إسرائيلية في جنوب سيناء قد تتحرك لنجدة القوات الإسرائيلية في جبهة قناة السويس ومن الممكن لنا أن نتعرض لها ونهاجمها، وأنه خلال يومين أو ثلاثة أيام سيصل اللواء الأول الميكانيكي المتجهة لاحتلال أبو رديس وسننضم إليه. كان عدم تحديد المهمة لي غير ذي معني في هذا الوقت وهذا الحماس، فالمهم أن تبدأ الحرب وينتهي الانتظار ونبدأ في القتال والأخذ بثأر مصر كلها غير ذلك لم يكن لي بالأهمية بمكان.

وعند موعد الغذاء عرفنا أن الحرب بدأت من الراديو، وكانت المعنويات عالية وتناطح السماء بشكل لا يصدق لكن كان خوفنا هو إلغاء العملية في أي وقت رغم أننا نعلم يقينًا أننا أبعد قوة في جنوب سيناء وبأسلحة محدودة وإمدادات محدودة ومهمة غير واضحة – وأعتقد أن الجميع مثلي كان يعلم أنها عملية انتحارية لا عودة منها وبالرغم من ذلك كانت المعنويات في قمتها.

تعرفت على الطيار الذي سيقلنا إلى مكان الهبوط وبدأنا في تنظيم التعاون بيننا، وطلب مني وضع عدد من المشاعل بطريقة معينة في مكان الهبوط لوجود أربع طائرات أخرى ستأتي لنا خلال الليل. فور دوران مراوح الطائرة حوالي الساعة الثالثة عصر السادس من أكتوبر، ومع أقلاع الطائرة الأولى اشتعلت أرض المعسكر بالحماس والتكبير والهتاف لنا – فنحن أول طائرة تتجه إلى سيناء من الكتيبة والجميع يكبر ويهلل وكان مشهدًا لن أنساه ما حييت.

خلال مرور الطائرة في اتجاه الخليج كان الجنود يخرجون من الملاجئ تحت الأرض ويحيونا ونحن نتجه إلى سيناء، ومهما وصفت فلا كلمات توصف الشعور الذي شعرت به داخل الطائرة ونحن نتجه إلى سيناء. على ارتفاع منخفض جدًا – طرنا فوق خليج السويس، وشاهدت الساحل يقترب واختلط صوت المحركات بتكبيرات وغناء الرجال فور رؤيتهم لساحل سيناء. وبعد حوار سريع مع الطيار لاختيار مكان الهبوط المناسب – هبط الطيار في مدخل وادي فيران، وهبطنا بسرعة وبدأت في وضع المشاعل كما طلب مني الطيار، واطمأنت على جميع الرجال، وكان بعض الرجال رغم حماستهم العالية يشعرون بالقلق فبدأت في الصياح في الرجال لإيقاظهم من قلقهم – ثوان واختفى القلق من الجميع وبدأنا في تنفيذ تعليمات دورية القتال وبدأ عوده الحرامي قيادتنا في الطريق الجبلي.

قبل مغادرتنا مكان الهبوط اخترت ثلاثة من الجنود للبقاء لإشعال المشاعل للطائرات القادمة ليلاً فور سماعهم صوت الطائرات يقترب، وتحركنا لمدة طويلة وقرب المغرب وجدنا آثار جنازير دبابات كثيرة على الرمال دليل على وجود عدد كبير من الدبابات بالقرب منا في مكان ما، فأعطيت أوامر هامسة وصارمة بالرقود واتخاذ مواقع دفاع، حتى نستطلع الطريق امامنا.

اصطحبت أحد الجنود وتقدمنا لاستطلاع الطريق أمامنا – ما هي إلا خمس خطوات إلا ورج الجبل صوت طلقة نار من خلفي فنظرت مذعورًا عما حدث، فإذا بأحد الجنود قد أطلق طلقة بطريق الخطأ من فرط التوتر، فصمتنا لفترة حولنا فلم نجد أي رد فعل – دليل على عدم وجود قوات إسرائيلية حولنا، فأمرت المجموعة بالوقوف واستكمال المسير مع الحذر التام. كان قراري الداخلي هو عمل قاعدة لمجموعتي وعمل استطلاع لمعرفة مكاني استعدادا لوصول باقي السرية في الطائرات الأربع القادمة ليلا ثم نقرر بعدها ما هو القرار، وكان معنا أجهزة لاسلكية فاشلة ذات مدى محدود وأجهزة رؤية ليلية ثقيلة الوزن لكنها تؤدي الغرض، وكان الوحيد الذي لديه معلومات هو البدوي عوده الحرامي.

بعد حلول الليل وجدنا أننا نعبر طريقًا رئيسيًا معدًا جيدًا، وبجواره أسلاك كهرباء وتليفونات مما يدل على أنه محور مهم، فقررت عمل كمين في تلك المنطقة، وأرسلت البدوي معه أحد الجنود لاصطحاب القوة القادمة مع الطائرات ليلاً. وخلال الليل لم نسمع صوت أي عربة على أي مسافة وكان الهدوء قاتلاً وبعد مدة سمعنا صوت طائرات فهلل الجميع فرحًا، فبقية القوة في طريقها لنا – مرت ساعات طويلة وقارب ضوء الفجر على الظهور، ولم تصل بقية السرية، لكنني فوجئت مع ضوء النهار بأن مكان الكمين الذي اخترته غير جيد تكتيكيًا، ووضح لي مكان آخر أفضل، فبدأت في تعديل الكمين في المكان الأفضل وأنا أشعر بالقلق على عدم وصول بقية السرية. بدأ القلق يزيد فالبدوي عوده الحرامي لم يعد وبقية السرية لم تصل، وصعدت على قمة جبل وبدأت أمسح المنطقة بالنظارة المعظمة لكني لم أجد شيئًا، فقررت العودة ومعي عدد من الجنود إلى منطقة الإبرار للوقوف على حقيقة ما حدث. وأثناء طريق عودتي سمعت صوتًا خلف أحد الجبال، وكأن أحد ينده باسم محمد – شعرت بالقلق، واحتطت وبدأت أتقدم مرة أخرى تجاه مصدر الصوت بحذر بالغ، فوجدت أحمد الخرجاوي أحد قادة سرية صواريخ الجراد – ب- ومعه البدوي ورجالي الذين تركتهم في منطقة الإبرار، وعندما سألته عما حدث فأخبرني بأن حمولة الصواريخ كانت ثقيلة جدًا وأنه أجهد تماما من السير ومن معه من الرجال ووجد أن ضوء النهار بدأ في الظهور فدفن صناديق الصواريخ واستتر خلف تلك الجبال، خاصة وأنه لا يدري أين باقي قوة السرية وسألته عما حدث لباقي السرية؟ فأجاب بأنه لا يعرف شيئا.

  • لاحقًا علمت أن طائرة الخرجاوي والتي كان يطير بها نفس الطيار الذي أوصلني، قد وصلت لمنطقة الإبرار واهتدى إلى المشاعل التي أضاءها الجنود وأن الطيار كان يرسل لي التحية مع الخرجاوي.

  • أما الطائرات الأخرى فمنهم طائرتين هبطتا في مناطق مختلفة تمامًا عن بعض، أحد تلك الطائرات كان بها صديقي الضابط صليحة – هبطت الطائرة على مسافة كبيرة مني في منطقة خاطئة وبدون جهاز لاسلكي، فقام بعمل كمين على أحد الطرق واستطاع أن يوقف عدد من المدنيين الإسرائيليين لكنه تركهم يمرون وسط نظرات الدهشة من راكبي تلك السيارات.

  • بعدها بفترة أمكن للإسرائيلين تحديد مكان الكمين وبدأوا في مهاجمته وفي كل مرة – ينجح المصريون في صد الهجوم وتكبيدهم خسائر- وتوالت الاشتباكات حتى نفذت ذخيرة فصيلة الصاعقة المصرية ومعها المياه والطعام ولم يكن لديهم بد من الاستسلام بعد قتال ضاري لمدة عدة أيام كبدوا فيها الإسرائيلين خسائر كبيرة.

  • أما الطائرة الثالثة فقد هبطت بشكل خاطئ نتيجة وعورة الأرض ومالت المروحة الرئيسية فهرع الطيار لتنبيه رجال الصاعقة ليأخذوا حذرهم من المروحة، فأطاحت المروحة برأسه على الفور، ودخل المساعد إلى كابينة الطائرة، ولغم الطائرة لتدمير جهاز الإرسال، وترك الطائرة تنفجر واستكمل هو مع القوة التي ارتدت إلى الشمال تجاه القوات المصرية.

  • والطائرة الرابعة كان بها زميلي سمير سالم، ارتطمت بأسلاك الضغط العالي لارتفاع الطيران المنخفض مما أدى إلى سقوط الطائرة وتحطمها وإصابه كل من فيها إلا جندي واحد استشهد وهو ممسك بأحد أسلاك الضغط العالي وظل جسده معلقا على تلك الأسلاك لمدة طويلة بعد تلك الحادثة وتناقل بدو سيناء قصة هذا الشهيد المعلق على أسلاك الكهرباء العالية. أما بقية ركاب الطائرة فكانوا مصابين جميعا بإصابات مختلفه أعظمها كسور وكدمات لكنهم تحركوا أعلى الجبل مستندين على بعض طمعًا في الحماية، وسرعان ما وصلت القوات الإسرائيلية بكثافة وحاصرتهم بالهليكوبترات والعربات المدرعة وأسرت المجموعة كلها بما فيها زميلي سمير قائد المجموعة الذي قاموا بإغماض عينيه وسمع أصوات إطلاق نار كثيف حوله، وفي المعسكر بدأوا استجوابه عن مهمته وأجاب عليهم لكنهم لم يصدقوه وطلبوا معلومات عن مكان بقية قوات الصاعقة، فأجابهم بأن يسألوا جنوده عن صحة المعلومات فأبلغه الإسرائيليين بأنهم قتلوا كل الجنود فور أسرهم، فظن أنهم يلعبون بأعصابه فقط لكي ينهار ويعترف. بعد يومين يقابل سمير أحد جنوده في الأسر ويجده يلف رأسه برباط ضاغط، فسأله عما به وأين بقية الجنود، فإذا بالجندي يصف له أن الإسرائيليين فتحوا النيران على جميع الجنود بما فيهم هو، وأصيب بعدة طلقات في بطنه ولكنه كان ما زال على قيد الحياة، فمر ضابط إسرائيلي على كل جندي ملقي على الأرض وعاجله بطلقة في رأسه لتأكيد موته – أما هذا الجندي سعيد الحظ فقد أصيب بجرح سطحي فقط فقد الوعي على أثره، وعندما انصرف الإسرائيليين – معتقدين أنهم قتلوا الجميع – استيقظ وزحف هذا الجندي فوق جثث زملائه إلى موقع حطام الهليكوبتر مرة أخرى بحثًا عن ماء يشربه وهناك وجده الصليب الأحمر واصطحبوه إلى المستشفى للعلاج وهكذا لم تستطع إسرائيل أن تقتله.

كان من المفترض أن تكون أجهزة اللاسلكي مع طائرة قائد السرية التي من المفترض أن تصل لنا ليلة السادس من أكتوبر.

أخذت الخرجاوي وجماعته وعدت إلى منطقة الكمين مما رفع الروح المعنوية للرجال بشكل غير طبيعي ووصلت قوتي إلى حوالي أربعين جنديًا وضابطًا شملت أسلحة هاون خفيفة وآر بي جي وفرد أستريلا مضاد للطائرات بالإضافة إلى جنود صواريخ الجراد ب – تحت قيادة الخرجاوي. وكان الصمت على الطريق الرئيسي الذي نصبنا على الكمين دليل نجاح لنا بدون أن نطلق طلقة – فالعدو لم يحرك عربة أو دبابة تجاه جبهة القناة خلال يومين من القتال – خوفًا أو ارتباكًا لا أعرف – لكننا لم نسمح لعربة بالمرور على الطريق لمدة تصل إلى 36 ساعة حتي الآن.

في اليوم الثالث 8 أكتوبر:

صعدت إلى قمه احد الجبال ومعي الخرجاوي وأكتشفت خط انابيب مياه يمر بالقرب منا، وأن البدو يستفيدون من تسرب المياه من هذا الخط، وكان ذلك شيئا ممتازا في هذا التوقيت ان نحدد مصدر للمياه.

في صباح اليوم استطعنا ان نجمع الصواريخ جراد التي دفنها الخرجاوي وأصبحت معنا لاستخدامها ضد اي هدف، وكانت المفاجأه ان الصواريخ بدون مفجر – فالمفجرات تأتي مع طائرة أخرى ولم تأتي لكني تعاملت مع الموقف الطارئ واستطعنا ان نجهز تلك الصواريخ بأستخدام مفجرات الهاون التي لدينا وكان هذا احد الدروس المستفاده لنا في الحرب – فلدينا سلاح ويجب استخدامه

ولاول مرة نسمع صوت سياره على الافق، فأخذنا مواقع القتال، وكانت سياره بيجو للبدو، فتركناها تمر وبعد فتره طويله مر اتوبيس سياحي وتوقف بالصدفه في منطقة الكمين وبه فردين او ثلاثه فقط، وكنت وقتها في أعلي الجبل مع الخرجاوي فلم يتم الاشتباك معها.

في هذا اليوم كان الطيران الاسرائيلي قد زاد كثافه، فنصحني البدوي بالتحرك لمسافه في الشمال لعمل قاعده لنا في احد الوديان البعيده عن الطائرات لكي تكون قاعده نعود لها بعد الكمين خاصه وان حركه السير بدأت في الازدياد فوافقت على ذلك وبدأنا في ملئ كل ما يمكننا من مياه لنقلها للقاعده التي اختارها البدوي، وخلال عمليه ملئ المياه وبينما الكمين به أفراد ار بي جي للحمايه – فوجئ الجميع بمرور عربتي جيب اسرائيليتين بسرعه الصاروخ وبدون اي اضاءه تماما مما افسد علينا التنبؤ بقدومهم والتعامل معهم.

تحركنا إلى القاعده وعبرنا الطريق سريعا، ووجدنا ان حموله الصواريخ جراد تعيق تحركنا على الجبال، فقمنا بدفنها في مكان قريب من الطريق لاستخدامها لاحقا بدلا من حملها إلى القاعده والعوده بها لمكان الكمين مرة أخرى

كان الطريق طويل والبدوي يتحرك بكل خفه ورشاقه ونحن نحمل احمال كبيره جدا وقرب الفجر وصلنا للمكان الذي رشحه البدوي لنا، وكان التذمر قد بدأ ينمو وسط الرجال المتشوقه للقتال وكنت ارد عليهم بأن المعركه قادمه لا محاله ويلزمنا الصبر.

كنت موقنا تماما من اننا سننفذ عمليه ضد العدو في هذا اليوم نظرا لبدء تزايد حركه المرور على الطريق مقارنه بأول يوم وهذا يعني ان الاسرائيليين بدأوا يشعروا بالامان تجاه الطريق، حدثني ضابط الهاون محمد عبد المنعم بأننا معزولين تماما لاسلكيا عن قيادتنا واقترح ان يتحرك تجاه القوه الرئيسيه للكتيبه في وادي بعبع في الشمال ويحصل منهم على جهاز لاسلكي نعرف منه الاوامر ونبلغ اخبارنا للقياده، وجدتها فكره جيده في هذا الوقت، وأمرته بالتحرك مع البدوي وجنديين، وسألت البدوي عن المسافه فأخبرني بأن المسافه قريبه – وكانت اجابه البدوي تعني ان السير مسافه لا تقل عن ثلاثه ايام – وأخبرت عبد المنعم بما اعتزم القيام به من كمين للعدو صباح اليوم التالي، ونمت لاول مرة منذ ثلاثه ايام.

أستيقظت بعد ساعات وكان الليل لا يزال يلف المكان على هرج ومرج وسط الجنود، فقد عاد محمد عبد المنعم ومعه النقيب رضوان قائد السرية والنقيب ابراهيم زياده المسئول عن الشئون الاداريه ومعهم لاسلكي وطعام – وكان وصولهم للمنطقة قد تم خلال اليوم التالي لوصولنا ومعهم ذخيره وطلقات ار بي جي.

أخبرني النقيب رضوان بأن السرية التي كان مخطط عبورها بلنشات الزودياك قد تم ضربها بعد لحظات من مغادرتها الشاطئ بواسطه لنش دبور اسرائيلي كان كامنا وسط مراكب صيد على الضفه الشرقيه للخليج، وأخبرني انه قد تم ابرارهم في الشمال منا، وتم لقاءهم صدفه بالضابط محمد عبد المنعم المتجه إلى الشمال لاحضار جهاز لاسلكي.

علمت منهم ان اعمال الصاعقة في أبو رديس تسير بشكل ممتاز - ووادي سدره يعاني بعض المصاعب لكن الرجال تقاتل هناك، فأصطحبتهم لارض الكمين بدأت على الفور في اعطاء قادتي صورة عامه عما أخطط له بصفتي القائد الميداني للمجموعة، وسألني النقيب زياده عن الخطوه القادمه فأخبرته بفكره الكمين وسأستخدم صواريخ جراد ب على الفور لاتخلص من حمولتها والاستفاده منها، ودار نقاش مع النقيب رضوان والنقيب زياده خلص إلى رفض فكره استخدام الصواريخ وتأجيلها لوقت اخر فعدت لاصطحب الرجال مرة أخرى معي لنصب الكمين ولاداره اول معركه ضد العدو


 

الكمين

عدت إلى رجالي واصطحبتهم إلى أرض الكمين تاركا عدد من الجنود لحمايه القاعده – وهنا حدثت مشكله كبيره، فالرجال ترفض البقاء في القاعده وبكي كل من اخترتهم للبقاء فالكل يريد القتال ولا احد يريد ان يتخلف، لكن في النهايه الاوامر هي الاوامر – وأمرت عدد من الجنود بالبقاء تحت قياده الخرجاوي.

وعدت إلى ارض الكمين ونصبت الكمين وأختار النقيب رضوان ان يرتكز برشاش نصف بوصه في منطقة مشرفه على الطريق لكي يكون مركز ضرب نيران مركز لنا، ووضعت الرجال، حفرنا الحفر التي سنحارب منها، وبدأنا في الحوار والضحك بين الجنود وسط هدوء تام من حولنا – فقد كان موقعنا يتيح لنا رؤيه كبيره للطريق من الاتجاهين وكنا سنسمع أي سياره تقترب بمده كافيه لنستعد.

بعد فتره سمعنا ضوضاء كبيره جدا، ضوضاء تنبئ بموكب كبير في الطريق، وبينما كل حواسنا تتابع اقتراب الموكب، وجدنا سياره عسكريه تمر بسرعه كبيره وبدون اضاءه وكان من الواضح انها للتأمين، لكنها لم تكتشف موقعنا.

بدأ الموكب يقترب وكان صوت الموسيقي الراقصه واصوات الضحك تتعالي في ارجاء الصحراء وتصطدم بالجبال وتتضاعف مع الصدي، وابلغت الجميع ان كلمه السر هي الله اكبر – فور ان اقولها يبدأ الجميع في الضرب، وكان على يميني النقيب ابراهيم زياده قلقا من الموكب الكبير.

مع اقتراب الموكب رصدنا اثنان من الاتوبيسات العاديه يصدح منها الموسيقي والضحكات وخلفهم عدد من العربات المدرعه وعربات الجيب – علمت بعد ذلك أنه كان اتوبيسا يحمل عددا من الطيارين والملاحين متجهه من الشمال إلى جنوب سيناء –

فور ان دخل الموكب داخل الكمين صحت بأعلي صوت – الله أكبر – وبدأ على الفور اطلاق نار كثيف وطلقات أر بي جي انهالت على الاتوبيسات – وتحول صوت الضحك فجأه إلى صوت صويت نساء بشكل غير طبيعي

((ملاحظه من المجموعة 73 مؤرخين – اجمع العديد من ضباط الصاعقة والمشاه والمظلات الذين حاربوا وجها لوجه مع الجنود الاسرائيليين – ان الجندي الاسرائيلي الخائف يصدر اصوات عويل وصويت كأصوات النساء بالضبط ونحن لا نعرف سبب ذلك – الا ان تكرار تلك الملاحظه من عدد كبير من الأبطال يجعلنا نتسأل عن تلك الظاهره الغير معروفه))

بعد ثوان قليله تحولت الاتوبيسات إلى عربات نقل مكشوفه السطح من تأثير انفجارات طلقات الار بي جي وطلقات النار، وتحول انتباهنا إلى بقيه الموكب والمتوقع انها عربات مدرعه – الا ان العربات المدرعه توقفت خارج منطقة الكمين وأطفأت الانوار وبدأت في العوده للخلف بدقه متناهيه تدل على التدريب.

أستمر الاتوبيسات في التحرك بالقصور الذاتي خارج الطريق وهي تحترق حتي توقفت خارج الطريق بعد مسافه منا وكان يمكن الاستمرار خلف الاتوبيسات لكننا فضلنا الارتدادر بسرعه إلى منطقة القاعده خوفا من اي تدخل جوي او مدفعي متوقع من العدو، وخاصه وان خسائرنا انحصرت فقط في اصابه جندي من لهب صاروخ أر بي جي، ولم نكن نريد المجازفه بالبقاء في ارض المعركه أكثر من ذلك.

عدنا إلى القاعده سريعا واغلقت عيني على احلي اصوات من الممكن أن اسمعها في حياتي، فالرجال حولي تضحك وهي تعيد وصف المعركه مرارا وتكرار وكل بطل يروي ماذا فعل، ولا أعتقد ان هناك معنويات في سيناء كانت أعلي من معنوياتنا في تلك الليله.

في اليوم التالي أفادت نقاط الحراسه والاستطلاع حول قاعده الدوريه بوجود زحام وعربات عسكريه كثيره في منطقة الكمين الذي قمنا به، مع وجود وحدات اسرائيليه لتطهير الالغام في منطقة الكمين.

بعد دقائق لاحظنا كثافه الطيران المعادي فوقنا – كنا قد تعودنا على وجود الطيران المعادي في سماء المنطقة منذ اليوم الأول لكننا لاحظنا كثافه الطائرات المروحيه وطائرات البايبركاب الصغيره التي تقوم بعمل حلقات دائريه لاستطلاع المنطقة حول منطقة الكمين.


 

معركه الجبل

أمرنا النقيب ابراهيم زياده بالتحرك لمنطقة أخرى، فأخبرته بأن موقعنا جيد جدا ومخفي عن أعين العدو، وتدخل النقيب رضوان وأصر على التحرك لموقع أخر، وكانت الساعه قد قاربت على الحاديه عشر ظهرا، وبدأنا في صعود الجبل حتي رصدتنا الطائرات الاسرائيليه على طرف الجبل.

فور رصدنا، أمرت فرد الدفاع الجوي الوحيد المتاح لدينا بالضرب على الطائرات الهليكوبتر التي رصدتنا، فأطلق الصاروخ الأول، فاخطأ الهدف وعلي الفور فتحت الطائرة نيرانها من مدفع رشاش نصف بوصه على جانب الطائرة تم وضعه في الطائرة بناء على الخبره الامريكيه في فيتنام، وبدأت النيران تنهمر علينا، فأطلقنا صاروخ استريلا أخر وأيضأ اخطأ الهدف بسبب سيل الطلقات المنهمره علينا.

كان تحركنا من موقعنا الآمن وفي وضح النهار خطأ كبيرا أدي إلى رصدنا.

أمرت الرجال بالعوده إلى قاعده الدوريات والنزول مرة أخرى، لكن كان الوقت قد فات، فقبل نزولنا إلى اسفل الجبل، كانت العربات المدرعه قد وصلت لاسفل الجبل، في الوقت الذي ظهرت طائرات مقاتله في سماء المنطقة

وأصبحنا محاصرين على الجبل، لا يسعنا الصعود او الهبوط وسط النيران المنهمره علينا بلا توقف، وخاصه ان مدي اسلحتنا لا يمكنه التعامل مع طائرات العدو او عرباته المدرعه المتحصنه خلف ثنيات الجبال.

بعد فتره من الاشتباك، بدأت طائرات العدو الهليكوبتر في ابرار عناصر مظلات إسرائيليه فوق الجبل، وكنت أري الطائرات تقترب في طابور من ثلاث طائرات، وتقترب الطائرة من قمه الجبل وتفرغ ما في جوفها من جنود على قمه الجبل، وسرعان ما بدأت النيران تُضرب علينا من قمه الجبل.

كان الموقع صعبا، لكن رجالنا كانت روحهم المعنويه عاليه جدا، فبدأوا يردوا على نيران قوات المظلات التي تظهر لنا من اعلي الجبل، ونشبت معركه حاميه الوطيس، أدت إلى حدوث خسائر في قوات المظلات الاسرائيليه دفعتهم للارتداد إلى قمه الجبل، وفي نفس الوقت وقعت وسط جنودي خسائر لم استطع حصرها او التحقق منها، فقد اتخذ كل واحد منا أقرب ساتر له وبدأ يتعامل مع الموقف.

أرتدت قوات المظلات الاسرائيليه وتحول الضرب علينا بالمدافع من الارض، لتمهيد الطريق لقوات المظلات لكي تتقدم مرة أخرى وتعالي الغبار الخانق من الانفجارات المتواليه وسقوط الاحجار علينا من الجبل، لكننا كنا نشد ازر بعضنا البعض ببعض العبارات المشجعه.

مره أخرى تقدمت قوات المظلات واستطعنا ردها مرة أخرى وتكبيدها خسائر عاليه كما علمت بعد ذلك من البدو،

استمر القتال طوال اليوم بدون هواده بين أشتباكات بين الصاعقة وبين قوات العدو أعلي الجبل، لكننا لم نتمكن من التعامل مع عربات العدو المدرعه أسفل الجبل.

مع مرور ساعات اليوم الطويله، قلت القوه النيرانيه لوحدتي بسبب نفاذ الذخائر وبسبب أستشهاد العديد من الرجال ، واستطاع النقيب زياده أن يتخلص من الاشتباك وأصطحب معه الدليل ونزل من الجبل، كل ما كان يدور في عقلي أن لحظه موتي وموت رجالي قد حانت، وقررت الا أموت بمفردي، فعندما أموت يجب أن أكون قد قتلت أكبر عدد من جنود العدو.

خلال الاشتباك استطعت التحرك خلف صخره افضل في الحمايه فوجدت على مسافه مني النقيب رضوان قائد السرية وكان مصابا، فحاولت ان اسحبه فوجدته منهكا جدا، حاولت مرة ومره أخرى حتي أخبرني بأن اتركه لمصيره وانجو بنفسي.

كان كل ما تبقي معي هو خزينه رصاص فقط، وقررت ان احاول النزول وتجميع ما تبقي من رجالي لتجميع قوه النيران مرة أخرى تجاه هدف محدد، وكلما تحركت لاسفل وجدت الضرب شديد، واثناء تحركي وسط الطلقات المتطايره حولي في كل اتجاه، تعثرت في مجري سيل مطر قديم ووجدت نفسي اقع في كهف من ارتفاع حوالي ثلاثه أمتار.

وقتها سمعت صوت ميكروفونات العدو تتحدث بلغه عربيه واضحة بأن نستسلم وان لا جدوي من القتال، لكن رجالي ردوا بنيرانها على مصدر الصوت، ومع استمرار المعركه خلال أخر ساعات النهار، قل الضرب من قواتي، وبدأت اصوات رشاشات الكلاشنكوف التي نعرفها تماما، تقل الواحد تلو الاخر وبدأت اسمع من مخبائي أصوات الجنود الاسرائيليين في مواقع رجالي، فعلمت ان المعركه قد أنتهت، وبدأت اسمع طلقات مسدسات فرديه، فتيقنت ان الجنود الاسرائيليين يقتلون المصابين بطلقه في الرأس كعادتهم دائما وكان من ضمن الذين تم قتلهم هو النقيب رضوان قائد السرية المصاب

كان كل تفكيري في تلك اللحظه هو الخروج من الكهف تجاه قاعده دوريات قواتي لاتقابل مع جنودي الذين استطاعوا الارتداد من تلك المعركه لتنظيم عملنا واعاده ملئ الذخيره التي نفذت لدي تماما. ومتر تلو متر وفي ظلمه الليل بدأت النزول وأنا لا أكاد اري امامي الطريق، لكن كل تفكيري كان منحصر في الوصول لقاعده الدوريات والانضمام لرجالي، وكانت خطوره مقتلي عبر سقوطي من فوق اي حافه من حواف الجبل امرا واردا

قبل ان اهم بالتحرك، وجدت رأس جندي اسرائيلي تدخل من فتحه الكهف في الاعلي من الموقع الذي وقعت فيه، ونظر للحظات وانصرف، ولو انه القي بقنبله يدويه لكان مصيري الموت حتما.

كنت استمع لصوت الجنود الاسرائيليين واضحا حولي، وكان ضوء النهار قد قارب على المغيب، فالمعركه استمرت من الحاديه عشر ظهرا حتي السادسه مساءا.

وكنت متأكدا أن الجنود الاسرائيليين من المستحيل أن يظلوا على الجبل حتي الليل، فجبنهم يمنعهم من الاستمرار في هذا الموقف والذي من الممكن أن يشكل عليهم خطوره.

بعد دقائق سمعت صوت مميز لرشاشات كلاشينكوف (حوالي 3 او 4 رشاشات) تطلق نيران متقطعه تجاه الجبل، فتيقنت ان عددا من جنودي مازال يقاتل، وتبع ذلك طلقه أر بي جي انفجرت على سفح الجبل، لم تكن نيران قويه لكنها أرعبت الجنود الاسرائيليين، وبعد عشر دقائق عادت المروحيات الاسرائيليه تمشط المنطقة، وانسحبت القوات الاسرائيليه – (وحتي الان في عام 2013 – لم أعرف من هي المجموعة المصريه التي أطلقت النيران تجاه القوات الاسرائيليه) بدأت اتحرك مرة أخرى تجاه أسفل الجبل ببطء شديد وحذر أشد، فقد استخدمت كل ما معي من ذخيره، لكن غريزه القتال دفعتني إلى الانضمام لرجالي لمواصله القتال.

فور تحركي سقطت عده احجار من جراء موضع قدمي، فعاد اطلاق النار الاسرائيلي من أسفل الجبل تجاه كل واجهه الجبل، فهم لم يستطيعوا تحديد مكاني بدقه حتي الان، فأستمررت في التحرك خطوه بخطوه، تجاه الاسفل وكل فتره تطلق القوات الاسرائيليه دفعه رشاشات تجاه الجبل عسي ان يصيبوا من ظل حيا

ومتر تلو متر وفي ظلمه الليل بدأت النزول وأنا لا أكاد اري امامي الطريق، لكن كل تفكيري كان منحصر في الوصول لقاعده الدوريات والانضمام لرجالي، وكانت خطوره مقتلي عبر سقوطي من فوق اي حافه من حواف الجبل امرا واردا


 

التيه في صحراء سيناء

وصلت لاسفل الجبل مع فجر اليوم التالي الحادي عشر من أكتوبر 1973 – بعد أن امضيت الليل كله هابطا من الجبل، وارتميت في أول مكان وجدته مرهقا بشده ولدي شعور قاتل بالعطش.

وما أن ارتميت على الارض منهكا حتي وجدت أمامي ثعبانا كبيرا ينظر، ونظرت له كما ينظر لي وسط اجهاد تما وعدم قدره على التحرك، أستمرت نظراتنا المتبادله ثوان حتي أنصرف الثعبان مشفقا على حالي.

رغم إجهادي التام ونومي المتقطع، كنت اسمع أصوات طائرات العدو لا تتوقف عن الدوران حول الجبل بحثا عن رجال الصاعقة المصريين، كل ما جال بخاطري وقتها أنني قد نفذت المطلوب مني في أشغال جزء كبير من قوات العدو وسحبها بعيدا عن معارك جبهه قناة السويس.

مر النهار على منهكا وأنا استجمع قواي بالتدريج، وما أن شعرت بعوده قدرتي على الحركه بدأت أفكر في أول حاجات الانسان الطبيعي للبقاء على قيد الحياه وهي الماء، تحركت نحو خط المياه الذي رصدناه من عده أيام وملئنا منه احتياجاتنا قرب منطقة الكمين، لكن فور وصولي وجدت أن الاسرائيليين قد قطعوا المياه عن الخط وعبثا حاولت البحث عن نقطه واحده من المياه اروي بها ظمئي فلم اجد شيئا، وكان تصرف عسكري أسرائيلي سليم جدا لمنع رجال قوات الصاعقة عن مصادر المياه.

بعد ساعات من البحث وجدت برميلا به عده قطرات من المياه الممتزجه مع الصدأ المتراكم منذ سنوات وكانت لي كمياه المحاياه بالنسبه لي، وكان الليل قد حل، وجلست التقط انفاسي واستمتع بعده قطرات المياه على شفاي.

وانا في هذا السلام والهدوء والصمت، فوجئت برتل عسكري أسرائيلي يتحرك امامي على الطريق على مسافه مائه متر مني، لكن الاسرائيلين تعلموا الدرس فالرتل يتحرك بسرعه كبيره وسط اظلام تام ومطبقا كل شروط التحرك الامن، ولو نظر اي جندي اسرائيلي خارج الطريق لوجدني ومعي بندقيتي الفارغه اجلس منهك القوي كفريسه سهله للاسر.

بعد مرور الرتل الاسرائيلي عدت على نفس خط تحرك قوتي في يوم القتال الثاني بحثا عن اي مخلفات من مخلفات جنودي قد تساعدني على البقاء حيا، فمر الليل بدون جدوي ونمت داخل احد الكهوف وسط درجه حراره منخفضه جدا وقرب الفجر تحركت على أثر جنودي بحثا عن أي أثار قد ترشدني إلى أي قوات صاعقة في المنطقة، وكانت كثافه طيران طائرات العدو في المنطقة تدل على أن هناك بحث مكثف عن جنود الصاعقة المصريه، وكان جدول الطيران الاسرائيلي منظم من أول ضوء وحتي قبل أخر ضوء، مما اعطاني القدره على التحرك ليلا بحريه وحد من حركتي خلال الصباح، توصلت إلى أثر أفراد الصاعقة الذين وصلوا دعما لنا وكان بينهم ابراهيم زياده الذي كان يرتدي نعل مميز لحذائه الميداني جعلني استطيع تمييز أثر قدمه وتتبعه تجاه منطقة الهبوط التي وصلوا بها، ووجدت أن أثره يتحرك في اتجاه القاعده وأثر أخر له في الاتجاه المعاكس مما زاد من أملي بأنه مازال حيا ونزل من الجبل حيا، كانت فتره بحثي خلف الاثر لا تتعدي ساعه فقط وهي الساعه التي يتوقف فيها الطيران الاسرائيلي قبل اخر ضوء وحتي الاظلام التام واختفاء اي أثار في ظلمه الليل.

وبعد يومين كاملين من تتبع الاثر وبدون مياه او طعام والموت يحوم حولي في كل ثانيه، وصلت إلى النقطه التي هبط فيها النقيب زياده والنقيب رضوان وقاموا فيها بدفن كميه كبيره من المياه والطعام والذخائر المضاده للدبابات، لكني لم اجد ذخائر رشاشات صغيره لكني كنت كمن وجد كنزا يوم 13 أكتوبر.

بعد أشباع حاجتي من الطعام والماء سقطت من التعب لأنام في مكاني وقد نما الامل داخلي بصورة أكبر في لقاء أحد المجموعات العامله في تلك المنطقة.

في اليوم التالي بدأت التحرك لاختيار مكان أفضل لاختبائي في الجبل وأخذت كما من الماء والطعام ووضعته في أحد الكهوف وعدت في اليوم التالي إلى نفس مكان تجميع الطعام والذخيره عسي ان اتقابل مع احد أفراد الصاعقة الذي تتبع الاثر هو أيضا، فلم أجد اثرا لاحد، فعدت إلى مكان الاختباء الذي اخترته ومعي طعام وماء أكثر ليكون قاعدتي الخاصه في حاله اكتشاف موقع التعيينات المخبأه.

قمت بالتحرك في كافه مناطق عمليات المجموعة وفي كل مكان قد يكون فيه رجالي في تلك المنطقة طوال يومين وعثرت بالمصادفه على سته طلقات من الواضح انها سقطت من احد الجنود، لكنها كانت بالنسبه لي كنزا أخرا، فبعد الاطمئنان لوجود ماء وطعام، أصبح معي الان ما يمكنني من الدفاع عن نفسي ولو على استحياء.

واستمررت في التحرك خلال اليوم التالي بحثا عن اثار ابراهيم زياده بعلامه نعل حذائه المميزه وكانت الاثار تتوقف في منطقة معينه، فتوقعت انه قد تم أسره بواسطه طائرة هليكوبتر.

في تلك الفتره سمعت أصوات اطلاق نار على الطريق الساحلي، فوجدت سياره نصف جنزير والجنود بها تطلق نيران على الصخور في تدريب رمايه، فقررت استغلال الطلقات الست التي لدي في قتل الجنود الثلاثه.

فور ان بدأت التحرك إلى اسفل الجبل لاطلاق النار عليهم من موقع مميز، لكنهم انصروا سريعا فربما رصدوني او بالمصادفه انصرفوا، فلجأت إلى اطلال احد المباني المهدمه وكان عباره عن غرفه بدون سقف، فنمت داخلها مرهقا بعد أجهاد البحث عن أثار زملائي، وكان نومي مضربا فعقلي الباطن لم يتوقف عن التساؤلات عن موقف قواتنا، فهل نحقق انتصارات أم هي نكسه أخرى؟ أين اللواء المستقل المفترض وصوله إلى أبو رديس ثاني أيام القتال وتذكرت مشاهد الكمين الناجح وانفعالات رجالي بفرحه الكمين والوجوه المبتسمه السعيده التي فارقت الحياه في اليوم التالي في معركه الجبل.

قررت التحرك إلى الجبل الذي دارت عليه معركه وحدتي الاخيره مع قوات المظلات الاسرائيليه، فلابد من وجود ذخائر موجوده هناك وكنت اطمع في العثور على راديو ترانزستور كان مع احد الجنود لكي اعرف اخر الاخبار عن الحرب، وكنت اطمع في الوصول إلى مكان شده القتال الخاصه بي وبها معطف قتال يقي برد الصحراء وكنت قد تركت الشده اثناء القتال على الجبل.

اخترت طريقا اخر للصعود للجبل خوفا من وجود الغام او شراك خداعيه تركها الاسرائيليون لتنفجر في اي شخص يقترب من مكان الشهداء، ظللت اصعد الجبل من الطريق الذي اخترته لاجد نفسي على قمه الجبل، وفي الاسفل منظر لم ولن أنساه ما حييت، فجنودي الذين أعرفهم جيدا، ملقون شهداء على الارض في نفس وضعيه القتال التي أستشهدوا عليها.

كان منظرا بشعا لم استطع ان استمر في النظر ولم أمتلك الجرأه في الاقتراب من زملائي الشهداء، فقد قررت أن احتفظ بذكراهم الجميله كما هي ليله الكمين بعد نجاح الكمين وتعبيراتهم السعيده وأصوات ضحكهم ونكاتهم.

فنزلت الجبل وقد بدأ اليأس يتسرب إلى عقلي، فلم اعبأ بالبحث عن شده القتال او المعطف الواقي من البرد او الذخيره، فكان شعوري سيئا جدا وحزني لا يمكن وصفه على زملائي، واثناء نزولي قرأت كل ما احفظه من القرأن على أرواح زملائي

اليوم التالي قررت التحرك شمالا تجاه السرية الأخرى التي تم أبرارها في منطقة وادي بعبع، لكي أبلغ القياده بموقف سريتي، وأصطحب بضعه جنود وذخائر لكي أعود لمنطقة عمل سريتي لاستكمال مهمتي.

وأثناء سيري كنت اقوم بالنداء بصوت عال جدا نظرا لاطمئناني على عدم وجود قوات اسرائيليه في تلك المنطقة المعزوله والغير مؤهله لسير المركبات، وكنت أسير ساعتين بعد أول ضوء وساعتين قبل أخر ضوء للوقايه من طيران العدو الذي لم يتوقف عن مسح المنطقة بحثا عن قوات الصاعقة المصريه.

بعد يومين من السير شمالا، وأثناء نزولي من أحد الجبال التي كنت أستطلع من فوقها صحه مساري وما سوف يقابلني في السير خلال اليوم التالي، وجدت ورقه طائرة تصطدم بي، وكان شيئا نادرا ان تجد اوراقا طائرة في تلك المنطقة المعزوله، وجدت أنها ورقه بها تعليمات بالاسرائيلي لاطفال الكشافه الاسرائيليين عن كيفيه التعايش والحياه وسط الجبال، وأيقنت أننا أمام عدو مثقف يعرف كيف يدرس لاطفاله التعايش وسط أرضه الجبليه وكيفيه التعايش وهو ما كان المفترض ان تقوم به مصر بعد حرب 73.

أستمررت في سيري للشمال ثلاث أيام قطعت خلالها حوالي 40 كيلو متر ووصلت بعدها لوادي سدره، ومررت الوادي وتعرفت عليه من مبني ماكينه المياه المعروفه لنا ولم أجد بالمكان أي شخص على مسافه كبيره أو مياه.

وصعدت إلى احد الجبال واخترت مكانا مميزا للمبيت كما تعودت أن أقوم كل صباح، وأثناء وجودي وجدت سياره نصف نقل مدنيه تتوقف على الطريق وينزل منها عدد من البدو وبدأوا يقتصوا أثري الواضح على الطريق،وسمعت أصواتهم من مخبأي انهم يتحدثون عني كفرد استطلاع مصري ثم انطلقوا بالسياره، وبعد فتره عادت السياره مرة أخرى وتوقفت السياره أمامي وبدأوا في الصعود إلى الجبل خلفي، فخرجت لهم شاهرا سلاحي ووسط مفاجئتهم لي بدأت اتكلم معاهم على أني فرد من قوه كبيره تعمل في المنطقة ومن خلال حواري شعرت تجاههم بالأمان فرحت أسألهم عن الطريق إلى الشمال للوصول بقواتي (الغير ظاهره لهم) إلى بقيه القوات، فبدأوا في أسداء النصح لي بتجنب السير قرب الطريق الموازي لخليج السويس لوجود كمائن من قوات العدو، وعرفت منهم ان موقف قواتنا في جبهه قناة السويس ممتاز وان قواتنا تبلي بلاءا حسنا، وطلبوا أصطحابي إلى قريتهم، لكني رفضت معتزرا عن عدم ترك قواتي (الغير ظاهره لهم) فطلبوا مني الانتظار يوما لحين عودتهم مرة أخرى واصطحابي إلى الشمال، فأعطوني ماءا وتركوني، وعلي الفور نزلت من الجبل واخترت مكانا أخرا لكي لا يتم رصدي لو صدق سوء نيتهم

وما أن تحركت الا وأنطلق تجاهي وابل من طلقات الرشاش نصف بوصه، فأختفيت وسط صخور الجبل، وما هي الا دقائق الا وظهرت طائرة هليكوبتر على ارتفاع منخفض فوق رأسي لكنها بفضل الله لم تراني.

أبتعدت عن منطقة بحث الطائرة الهليكوبتر وانا لا ادري مصدر نيران الرشاش النصف بوصه وأتخذت ساترا في جبل قريب، وكان قريبا مني عددا من الارانب فأيقنت أنني قد أقتربت من مظاهر الحياه.

ظللت أنتظر عوده البدو بسيارتهم يوما كاملا، أثناء انتظاري وجدت رتلا من عربات زيل المصريه تتحرك على الطريق بسرعه رهيبه وقد تم دهانها باللون الاسرائيلي فعلمت انها من مخلفات نكسه يونيو 67، ثم توقفت السيارات لثوان وواصلت تحركها.

كانت كل الاحداث الاتي أمر بها تمر على عقلي مرور الكرام، فقد وضعت هدفا لي، الا وهو الوصول للسرية في الشمال ثم العوده للقتال مرة أخرى، لذلك لم تؤثر أي من الاحداث التي مرت بي على توازني النفسي لكنها كانت تزيدني اصرار في مواصله القتال.

بعد ساعات عادت السياره المدنيه وبها البدو تبحث عني في مكاني الأول وبعد أن أطمأننت انهم بمفردهم، كان مكاني بعيدا عن مكاني الأول فلم يروني او يرصدوا اشارتي لهم وأبتعدوا عني، فواصلت سيري وسط الجبال متجها للشمال، وبعد ساعات من السير وسط الجبل وجدت نفسي في منطقة تشرف على مطار عسكري في منطقة ابو رديس به طائرات هليكوبتر وكانت قريبه مني جدا، ففكرت في أنني ميت لا محاله، فالمخاطره بالنسبه لي قد تعني الحياه، ففكرت في الاختباء داخل احد الطائرات ليلا وفور دخول الطيارين بها في الصباح انقض عليهم وأأمرهم بالطيران تجاه القوات المصريه، كانت فكره شخص يأس لا يقيس المخاطره بحسابات من لديه خيارات متعدده، فكان أمامي إما تنفيذ تلك الفكره او الاستمرار في السير تجاه الشمال تجاه سرية الشمال في وادي بعبع.

فقررت الاستمرار في اتجاه الشمال تجاه وادي بعبع، ووسط مناطق جبليه وطرق مسدوده ووديان تنتهي إلى قمم لا طريق بعدها فأنزل مرة أخرى، حتي قارب الفجر على الظهور لاري أمامي وادي بعبع كما وصفه لنا قائد الكتيبه قبل تنفيذ العمليات بالضبط، كانت العلامه المميزه هي عربه رصف طرق من مخلفات الاداره المصريه للمنطقة ويعلوها الصدأ الشديد، فأخترت منطقة أمنه وأرتميت بجسدي منهكا وأني احس بقمه التعب الذي في الدنيا، ونمت نوما غير عاديا، فكلما استيقظ أجد طائرات العدو في السماء، فأقع في النوم مرة أخرى لاستيقظ على صوت الطائرات مرة أخرى وهكذا حتي أستيقظت قرب المغرب وقد أستجمعت قوتي ولا ينقصني سوي الماء، فهبطت إلى عربه رصف الطريق أبحث عن أي مياه قد تكون متجمعه على سطحها الصدأ من ندي الصباح او داخل الرادياتير بها فلم أجد

وأثناء عودتي من العربه إلى مخبأي وجدت أثار غريبه تسير على نفس أثاري خطوه بخطوه، فتيقنت أن هناك قوات اسرائيليه قد رصدتني وان نهايتي قد شارفت أما الموت أو الاسر.

لولا لطف الله بي لكان لقصتي وجه أخر، ففي أثناء نزولي لعربه الرصف، قمت بالعبور فوق عده احجار، تلك الخطوات على الاحجار جعلت أثري يختفي لعده امتار لكنه أستمر بعد مسافه، لكن الاسرائيليين السائرين خلفي ضلوا افتقاء أثري بسبب الاحجار وظهرت خطواتهم تبتعد عني، ولولا ذلك لايقظوني من النوم للاسر، وعلي ذلك عرفت سبب وجود نشاط جوي أسرائيلي شديد فوق رأسي أثناء نومي.

كان أملي بوجود قوات مصريه بالوادي قد تلاشي فور وصولي للوادي، فلو كان هناك قوات مصريه لرصدتني فور دخولي بالاضافه لعدم وجود أثار أي معارك.

غيرت مكان أختبائي خلف عده اشجار داخل الوادي، وبدأ اليأس يزيد في نفسي بدرجه كبيره، وبدأت احاول أن اقنع نفسي بعدم جدوي ما أقوم به.

وكنت أحتفظ برشفه مياه، أرشفها وأنا اتلو الشهاده قبل موتي، لكني كنت موقن بأن الموت هو مصيري

النجده تحتاج إلى نجده.

واثناء جلوسي خلف الاشجار بالوادي أعد الثوان المتبقيه من حياتي، سمعت صوت مميز جدا، أنه صوت أصطدام جراكن المياه ببعضها البعض، كيف لمرء ان يخطأ هذا الصوت الوحيد في الصحراء الصامته ليلا.

وكان الاحتمال الوحيد انها قوات مصريه، فالبدو لا يسيرون الا بسيارتهم، والاسرائيليين من المستحيل دخولهم الجبال ليلا وعلي الاقدام، فقمت بالنداء (عبد الحميد) وتردد صدي صوتي في الجبل.

كنت أقوم بالنداء على الملازم أول عبد الحميد خليفه احد ضباط السرية التي تم أبرارها في المنطقة وكنت اعرفه جيدا وجميع ضباط وأفراد السرية يعرفونه لانه بتلك السرية منذ تخرجه.

فوجدت خمس أشباح تتوقف وتتخذ اوضاع قتال، وتساءل أفرادها فيما بينهم عن هذا الصوت وقال احد الجنود أنه صوت حضره الضابط مجدي، فرد عليه عبد الحميد، متسائلا عما يفعل الضابط مجدي في هذا المكان ومنطقة عمليات سريته في الجنوب بمسافه كبير، وأستمر عبد الحميد ومن معه في السير مرة أخرى واهمين أنفسهم بأن ما سمعوه هو خداع صوتي

فقمت بالنداء مرة أخرى وبأعلي صوت (عبد الحميد) فأيقن الجميع بأن ما يسمعونه ليس وهما وأن هناك من يعرفهم وسط صخور الجبال، وجدت شخصا يقترب مني بملابس بدويه وبجلبيه بيضاء ناصعه عرفت ان اسمه بركات، وكنت خائر القوي ولا استطيع تمييز اذا كان شخصا ام شبحا.

قمت برفع السلاح في وجهه وتحركت تجاهه فأصطحبني تجاه المجموعة التي معه وهو يرفع يديه في السماء، فوجدت عبد الحميد وقع فغر فاه من الدهشه وهرع الجميع ناحيتي وأحتضوني بكل سعاده وحب وكانوا عباره عن ضابط واثنان من الجنود ومعهم اثنان من البدو يقومون بأخراجهم تجاه الطريق لكي يبعدوهم عن تلك المنطقة خوفا على اهلهم من تنكيل الجيش الاسرائيلي بهم لو عرف انهم ساعدوا قوات صاعقة مصريه.

كان مع الملازم عبد الحميد الجنود محمد عبد الرحمن وسيد على والجندي عبد الرؤوف جمعه والذي كان مصابا بدفعه رشاش في أسفل ظهره وخرجت الطلقات من المثانه تاركا جرحا غائرا، وكان بالكاد يستطيع المشي وهو ينزف من جرحه، وهو جندي مصري يشرف العسكريه المصريه في مثابرته وقوته وتحمله.

وبعد دقائق من اللقاء وجدت عبد الرؤوف يختلي بي ويطلب مني طلب غريبا جدا، فقد طلب مني أن اقتله، فأندهشت جدا من طلبه، فأستكمل كلامه، أنه اصبح عبء على رفاقه وأنه يتوسل لي أن أقتله لاريح زملائه من عبئه، فرفضت الفكره وحاولت رفع معنوياته بأن جرحه ليس خطرا وانه سيكون أفضل من ذي قبل، وأن يبعد الافكار السوداء تلك عن عقله.

أخذنا البدو إلى احد الاكشاك المصنوعه من الصاج، وبدأوا في اعداد طعام بدوي لنا، وعلمت المعركه التي دارت مع السرية وأن ظروفهم كانت أسوأ من ظروفي، فقد هاجمهم اليهود من اليوم التالي بضراوه شديده جوا وبرا في معركه غير متكافئه حيث تم محاصرتهم واستطاعوا الارتداد لمكان اخر حيث دارت معركه أخرى قضت على جزء أخر من السرية أسرت جزء من المصابين وأستطاع عبد الحميد ومعه ثلاث جنود التخلص من المعركه ونجوا من الوقوع في الاسر.

واصبح الواقع ان النجده التي كنت ابحث عنها اصبحت تحتاج إلى نجده، وأصبحنا سته أفراد صاعقة في وسط جبال سيناء نبحث عن وسيله للبقاء على قيد الحياه والعوده إلى قواتنا لو أمكن

كان البدو كرماء جدا معنا فأعطونا راديو ترانزستور وعده قطع من الخبر البدوي وحصلت على ذخيره كافيه من مجموعة عبد الحميد، واصبح لدينا الماء والطعام والذخيره، وبدأنا نتحرك إلى منطقة أخرى أمنه أقترحها الشاويش سيد علي، وبدأنا التحرك ليله كامله وسط جبال ووديان وقرب الفجر وجدنا أنفسنا أننا قد عدنا إلى المنطقة التي كنا بها قبل تحركنا، فقد درنا دوره كامله خلال الليل وعدنا إلى نفس المنطقة التي كنا بها.

قضينا الليه في مكان أمن قريب، وعرفنا من الراديو ان قواتنا مازالت في عيون موسي ولا تتقدم تجاه ابو رديس كما خطط من قبل وسمعنا حوارات بعض زملائنا الاسري من الاذاعه الاسرائيليه في محاوله من الاذاعه الاسرائيليه في خفض روحنا المعنويه و كنا نستخدم الراديو باقتصاد تام للمحافظه على طاقه البطاريات المتاحه معنا والتي اعطانا لها البدوي الشهم.

((ملاحظه من المجموعة 73 مؤرخين بخصوص خطه اللواء الأول ميكانيكي – خططت القياده العامه للواء الأول الميكانيكي التحرك صباح 8 أكتوبر تجاه رأس سدر وبعدها إلى أبو رديس لاحتلالها على مسافه مائه وستون كيلو متر من رأس جسر الفرقه 19 مشاه وبدون غطاء جوي او دفاع جوي، وخلال التفيذ تأخر التنفيذ ليوم 10 أكتوبر واستطاع اللواء التقدم مسافه 5 كيلو طهر خلالها نقطه العدو الحصينه في عيون موسي واحتلها، لكنه لم يتسطع التقدم أكثر من ذلك بسبب الهجمات الجويه الاسرائيليه العنيفه التي كبدته خسائر كبيره في الدبابات والعربات ومساء 10 اكتوبر تم الغاء مهمة تقدم اللواء إلى ابو رديس وتم وضع ما تبقي من اللواء تحت قياده الفرقه 19 مشاه))

ست أشهر وسط الصحراء

مر علينا أسبوع في تلك المنطقة وبدأ الطعام في النفاذ، لكننا قمنا بعده دوريات لاستطلاع المنطقة حولنا، وشاهدت اثار معركه سرية الصاعقة، وحصلنا على ذخيره أضافيه وكان موقفنا ثابت لا يتغير منه سوي نقص الطعام والمياه المستمر خاصه بعد ان علمنا ان قواتنا على مسافه لا تقل عن مائه وخمسون كيلو متر تحتاج إلى ما لا يقل عن عشره ايام من التحرك المستتر ليلا فقط.

وفي أحد الايام التاليه رصدنا عدد من البدو الذين شاهدونا فغيرنا مكاننا فورا، وكان موقف الطعام والماء قد شارف على النفاذ، فبدأنا رحله البحث عن طعام وماء، وكان حاله الجندي عبد الرؤوف سيئه والجرح ملوث وكان يتبول من جرحه وكنا نتناوب حمله أثناء السير وتكرر طلبه لي بأن أقتله ونهرته عن هذا الكلام.

عدنا إلى الكشك الصاج، ووجدنا شوالا به فضلات طعام ظهر العفن عليها وكانت مخزنه كطعام للحيوانات وعلبه سمن بلدي وكميه من الدقيق وماءا وعدنا إلى مكاننا بعد ان تركنا اموالا مقابل ما اخذناه

ومر أسبوع أخر وتحركنا إلى أعلي الجبل وخلال تلك الفتره كنا نتابع الاذاعه على فترات ونعرف ما يدور في القتال والثغره ثم وقف اطلاق النار.

كان هدفنا هو البقاء أحياء ثم الوصول إلى قواتنا، وبدأنا نراقب جماعه من البدو لفتره وندرس تحركاتهم لمعرفه اذا كان لهم اتصال مع القوات الاسرائيليه، وعندما أطمائنا لموقف تلك الجماعه بدأنا نظهر أنفسنا لهم لرغبتنا في فتح اتصال معهم للعوده إلى قواتنا

في تلك الفترات كلها كان الجرح المصاب به عبد الرؤوف جمعه قد بدأ في التحسن بشكل لم نكن نتوقعه، وبدأ النزيف في الانحسار رغم تأكدنا التام من وفاته في أي يوم نظرا للنزيف المصاحب لفتحه دخول وخروج الطلقات.

تعرفنا على جماعه البدو، وفي البدايه لم يكونوا مصدقين من أننا مصريين ومازلنا خلف خطوط العدو وبعيدا عن قواتنا كل تلك الفتره، في اليوم التالي جاءنا عدد من البدو أكبر سنا وأكثر خبره ووافقوا على مطلبنا بالتحرك إلى قرب قواتنا، وكان خوف البدو منا أكبر من خوفنا منهم، فوجودنا بالقرب منهم يعرضهم لتنكيل والقتل من القوات الاسرائيليه في حال اكتشفت وجودنا.

تحركنا خلف البدو تجاه الشمال، فأخذونا إلى مغاره في اعلي جبل تكفي لكتيبه صاعقة، وكان موقع المغاره يشرف على أبو رديس بشكل كامل ويرصد كل حركه في المنطقة لدرجه انها تكشف الجانب المصري من خليج السويس وكانت تصلح كنقطه انطلاق لدوريات قتال.

ثم بعد عده أيام اخذونا إلى مغاره أخرى في الشمال أكثر امنا، وخلال تلك الفتره توطدت العلاقات مع البدو وزاد الاطمئنان أكثر بيننا، فكلنا مصريين وهدفنا تحرير أرضنا، وكان تحسن موقف الماء والطعام نسبيا رافعا لروحنا المعنويه، ورغم ان الطعام والماء لم يكن يشبع اي منا في أي وقت لكن ما كان لدينا كان كافيا لبقاءنا أحياء

بعد عده أيام تحركنا في منطقة وعره جدا داخل الجبال لفتره، حتي وصلنا لمنطقة بها عده مغارات كبيره جدا وسط الجبال، وتركنا البدو مع قدر ضئيل من الماء وقدر من الدقيق وعلبه كبريت وتركونا على وعد باللقاء خلال عده أيام

في تلك الفتره بدأنا في التحرك لاستطلاع المنطقة حول المغاره لمعرفه موقعنا ودراسه كيفيه الدفاع عن مكاننا في حال الهجوم علينا، وقررنا الصوم والصلاه للتقرب أكثر إلى الله وأيضا للتقليل من استهلاك الطعام والماء، وكان البدو يقومون بزيارات دوريه كل بضعه ايام ويعطونا ما تيسر لهم من ماء ودقيق لعمل الخبر البدوي.

وفي أحد الايام حضرت الينا احدي نساء البدو وتدعي فاطمه وكانت سيده فاضله وذات عقل راجح ورأي مسموع وسط جماعتها، وأخبرتنا بأن رجال القبيله قد توجهوا إلى العمل في أيلات لكسب مصدر للرزق وأعطتنا قدرا ضئيلا من الماء والدقيق مما استطاعوا حمله للصعود إلى الجبل وتركتنا وغادرت بعد دقائق.

كنا في منطقة جبليه وعره جدا، فكل ما نراه امامنا عباره عن جبال، واكتشفنا ان قمه الجبل الذي نختبئ به عباره عن ارض مسطحه مستويه تصلح كملعب لكره القدم، وكنا نتحرك للبحث عن ماء وطعام لعدم اعتمادنا على البدو بصورة كامله فلاي سبب قد يتوقف البدو عن زيارتنا وامدادنا، وبعد عده أيام حضر الينا رجال البدو وسألنا عن مكان أقرب بئر ماء فأخبرونا بوجود بئر صغير على مسافه صغيره منا، وتلك المسافه في تقدير البدو عباره عن سير يوم او يوم ونصف على أقل تقدير وعبثا حاولت الوصول إلى مكان الماء الذي أشار اليه البدو، وخلال أسبوع تقريبا حاولت مرتين او ثلاث مرات الوصول لتلك البئر بلا جدوي، وبعد فتره عاد رجال البدو لنا وأخبرتهم بفشلي في الوصول لهذا البئر، فوصفوا لنا المكان بدقه أكثر، ونصحونا بعدم التحرك بالاحذيه العسكريه التي تترك علامات واضحة في الرمال، واعطونا صندل بدوي للسير به خاصه وان كل احذيتنا قد بلت من كثره التحرك،

كان رجال البدو يخبرونا كل فتره عن القبض على احد رجال الصاعقة في المنطقة، واذكر خبر أسر جندي اسمه سعيد وقتله في مكان أسره، وكان تحرك طائرات العدو الهليكوبتر دائما فوق رأسنا بحثا عن رجال الصاعقة

وعدت في اليوم التالي بحثا عن تلك البئر الخفيه ووجدتها، وظهر انها عباره عن حفره صغيره في رمال الصحراء بجوار احد حواف الجبل، وبها قدر ضئيل من الماء ينبعث من تحت الارض من بئر جوفيه، وكلما أخذنا منها ماء أنبعث قدرا اخر، ولو بالغنا في اخذ الماء لخلت الحفره من الماء ونضطر للانتظار بجوارها حتي يتجمع قدرا اخرا من الماء.

ولاول مرة منذ شهرين نستحم، وكان ذلك فاصلا من المرح لنا، فلم نكن نعلم ان اجسامنا قد أضحت سوداء من رمال المنجنيز التي تملئ جبال سيناء، ويوما فيوم تراكمت ذرات رمال المنجنير على اجسادنا لتحولنا إلى اللون الاسود، وبعد دقائق عاد لوننا الطبيعي إلى اجسادنا وسط ضحكات الجميع مما حالنا.

وخلال تلك الفتره الممتده بدأ البدو في تعليمنا كيفيه جمع الملح الصلب من المتجمع على شكل عروق في الجبل وجمع العشب لعمل الخبز البدوي من الماء والدقيق، ونصحونا بالاستفاده من ماء المطر المتجمع في حاله لو السماء أمطرت.

وكان يومنا عباره عن وجبه واحده وقت الافطار من الصيام وهي نفس وجبه السحور، وكان قمه المتعه لنا هي كوب الشاي الساخن الذي تنتاوله أخر الليل في علبه طعام محفوظ خاليه من نوع – قها –

أذكر هنا انني كنت اعاني من ضعف المناعه تجاه البرد، وكنت احتاج دائما لعلاج مكثف وراحه لمقاومه البرد، لكن رغم درجه الحراره المنخفضه دائما ليلا في الصحراء وخاصه أننا في شهر ديسمبر 73 تقريبا، الا أنني لم أصاب بالبرد أو حتي الرشح خلال تلك الفتره، وهو ما كان غريبا جدا، لكنها قدره الله التي تجلت معنا كل يوم وكل ساعه في محنتنا خلف خطوط العدو.

وفي أحد الايام خرج زميلي عبد الحميد خليفه لجمع العشب على قمه الجبل، وبعد لحظات سمعت صوت طائرة هليكوبتر أعلي الجبل وكانت قريبه بشكل غريب وغير معهود علينا، فعرفت ان عبد الحميد قد تم أسره بكل تأكيد، فحملت سلاحه وجهزته للضرب وخرجت فورا لنجدته، الا انني وجدته عائدا يضحك وأخبرني انه فور سماعه للطائرة وضع العشب على رأسه وانبطح على الارض فلم تستطع الطائرة رصده وسط العشب رغم ارتفاعها المنخفض.

وفي أحد الايام سمعنا من اذاعه ايران أن القوات المصريه والاسرائيليه تقيم مباراه لكره القدم في منطقة فصل القوات، كان هذا الخبر عنيفا علينا وعلي الجنود معنا، فقواتنا تلعب الكره مع الاسرائيليين والحرب انتهت ونحن هنا نعاني كل صعوبات الحياه على أمل العوده أحياء، وقد علمت بعد ذلك ان هذا الخبر الاذاعي عار تماما عن الصحه، ووجدت ان الجنود قد تأثرت نفسيا بالسلب فكان يجب التصرف سريعا.

وفي الزياره التاليه للبدو لنا، سألت عن امكانيه الهرب عن طريق السعوديه عبر عبور مضيق تيران والوصول للاراضي السعوديه فمهما كان، الحدود السعوديه كانت اقرب لنا من القوات المصريه، وكان التحسن العجيب لحاله عبد الرؤوف جمعه الصحيه دافعا لنا للتحرك سريعا خاصه بعد أنتهاء الشهر الثالث لنا خلف خطوط العدو.

وقد علمت بعد ذلك – أن الكومسيون الطبي الذي أمر به المشير احمد اسماعيل للوقوف على حاله عبد الرؤوف جمعه قد أكد استحاله شفاءه بدون تدخل جراحي وأن ذرات المنجنير المتطايره من صحراء سيناء قد قامت بتطهير ومعالجه الجرح بشكل غريب وأن حالته اصبحت طبيعيه.

 

كان يجب ان نبدأ التحرك سريعا تجاه قواتنا تحت أي ظرف، فمهمتي قد أديتها على أكمل وجه، فالقوات الاسرائيليه مازالت على علم بوجود قوات صاعقة خلف الخطوط وهذه المعلومه تكلفها مبالغ طائله من طلعات طيران مكثفه بالبحث عنا، وتكلفها قوات متمركزه في مناطق غير مؤثره على القوات المصريه وأسرائيل مجبره على توزيع قوات كثيره في اماكن اثار اقدامنا للبحث عنا.

كان خبر وقف اطلاق النار وما تلاه من فصل للقوات بعد توقيع اتفاقيه الكيلو 101 سببا لنا في عدم محاوله رص ما معنا من الغام او القيام بأي كمين لعربات العدو، فمعركه منا قد تسبب انهيار اتفاق فصل القوات، أو انفجار لغم في عربه للبدو، قد يسيئ لعلاقتنا معهم ونخسر تعاطفهم ومساعدتهم.

وكثيرا ما سمعنا صوت اطلاق طلقات نار على مسافه كبيره، وعندما نتوجه نحو مصدر الصوت نجد أنه كان هناك عربه اسرائيليه وقد لازت بالفرار، لكننا نرصد فوارغ الطلقات في تلك المنطقة، فربما كانوا يقومون بتدريب على اطلاق النار.

وقررنا التحرك للشمال تجاه قواتنا، وكان تقدير المسافه انها لا تقل عن مائه وثمانون كيلو متر على الاقل لو تم السير كخط مستقيم لكنها اكثر من ذلك بسبب السير من خلال الجبال فكان لابد من معاونه البدو لنا.

كان قد مر علينا حوالي أربعه أشهر، وطلبت من أحد البدو التحرك للشمال، فرجانا احد الرجال ان نتنظر لحين عودتهم من ايلات حيث يتيسر لهم قدر من المال والوقت لمساعدتنا وأخبرونا بأنهم لن يتأخروا أكثر من ثلاث أسابيع على الاكثر.

مر شهر وأسبوع وعاد الينا البدو الأبطال لمساعدتنا في التحرك تجاه قواتنا، لكن خلال فتره تواجد رجال البدو في أيلات للعمل كانت نسائهم البطلات تقوم بزيارتنا ومعها الدقيق والخبز وفي اوقات نادره بطاريات للراديو مما يتوفر لهم، وخلال تلك الفتره كان اهم حدث لنا هو ان نساء البدو اعطونا خمس بيضات لاكلها بالخبر البدوي، وأقسم انني لم اتذوق في حياتي ما هو أطعم من تلك البيضه، وهو حدثا عاديا لمن يقرأ تلك السطور لكنه كان بالنسبه لي حدثا مهما لا انساه رغم مرور كل تلك الفتره العصيبه من حياتي

وبدأنا رحله السير إلى الشمال بعد ان قام رجال البدو بعده ترتيبات لتأمينا، من تلك الترتيبات اعطونا ملابس رجال صاعقة تم أسرهم في تلك المنطقة مع بدايه الحرب بناء على طلبنا، لان ملابسنا قد أصبحت مترهله وغير صالحه لاي شئ، واعطونا أحذيه عسكريه فعدنا مرة أخرى قوه صاعقة بملابسها المميزه، لاننا اصررنا على العوده بملابس الصاعقة وبسلاحنا الشخصي كقوه أدت مهمتها وعادت إلى قواعدها، ورفضنا فكره ارتداء ملابس البدو والتنكر بها خلال الطريق.

وحلقنا ذقننا التي طالت بشكل بشع وذبحوا لنا جديا لكي تقوينا لحمه ودهنه في مسيرتنا الطويله وبدأنا مسيره الرجوع إلى الشمال وسط دعوات نساء البدو.

كان من ضمن ترتيبات البدو هي أصلاح عربه عسكريه مصريه – من بقايا النكسه – لكي نستقلها وسط وديان الجبال لابعد مسافه ممكنه عن مكاننا ولـ أأمن مكان يمكن التحرك به بالسيارات، وقتها كان احساسي واعجابي بهؤلاء البدو ووطنيتهم ودورهم معنا في عنان السماء، فهم لم يبخلوا علينا بشئ مما لديهم وخاصه لترتيبات أمن تحركنا تجاة الشمال – تجاه الموت أو الاسر أو النجاة.

اتخذت السياره طريقا صعبا وسط الجبال ووسط وديان لا نعرفها ولا نراها وسط الجبال، وكان البدو معنا يعرفون اماكن الكمائن الاسرائيليه الثابته واماكن وتوقيتات الدوريات، لذلك كان طريقهم وسط تلك المخاطر صعبا لكنه مدروس جيدا.

وتوقفت السياره وودعنا البدو وداعا حارا جدا عند اخر نقطه يمكن للسياره السير عليها، وكان ذلك في أحد ليال أخر مارس 1974وبدأنا السير تجاه الشمال بجوار الطريق، وكانت الحركه على الطريق ميته تماما، وكنا نسير ليلا ونرتاح نهارا، وفي الليله التاليه وجدنا بدوا متجمعين في منطقة جبليه، فأخذنا منهم ماء ونمنا بجوارهم وطمأناهم إلى أننا لن نضرهم وسط نظرات الرعب والاندهاش من الجنود المصريين خلف خطوط العدو بعد انتهاء الحرب بسته أشهر.

كانت معنوياتنا في القمه، فكل خطوه تقربنا من الوطن، وحتي المخاطر الموجوده في حسابتنا الا اننا نسير تجاه منازلنا، فكان سيرنا هو سير مجموعة صاعقة في دوريه قتال، ويتم تنفيذ كل التعليمات المنصوص عليها في كتب الصاعقة والتي تدربنا عليها قديما.

في الليله التاليه وجدنا كوخا من الصاج وبه أمرأه متوسطه السن، وقصصنا عليها قصتنا بأختصار بعد أن لمسنا الامان منها، وعلي الفور قامت المرأه بأعداد صحن أكل كبير وعميق يكفي لعشرين فرد على الاقل من أكله تسمي لدي البدو - المفروكه – وهي من الخبر المعجون بالماء والسكر، وانهالنا على الصحن وفي ثوان كان الصحن خاليا، وعادت المرأه لتجد الصحن خاليا فتبسمت وايقنت أن قصتنا حقيقيه، فلا يمكن لخمسه أفراد ان ينهوا هذا الصحن من الطعام الا لو كانوا يعانون من الجوع لاشهر وأن قصتهم حقيقيه.

وبدأت بأحساس الام تطئمن على حالنا وتسأل عما نريد، وكان طلبنا الوحيد هو العوده للشمال، فأرشدتنا إلى افضل طريق بعيد عن أعين الاسرائيليين وأخبرتنا أن الطريق في الشمال خطر لوجود دوريات كثيفه

أستكملنا طريقنا تجاه الشمال لعده ليال، وفي أحد الليالي رصدنا كوخا من الصاج وبداخله سيده عرفنا ان اسمها سلمي – وطلبنا الراحه بجوار الكوخ الخاص بها وحول النار للتدفئه، ورحبت السيده وأطمئنت لنا وأخبرتنا بأن الاسرائيليين قتلوا والدها واخوها خلال الاحتلال وعرضت تقديم أي مساعده تستطيع تقديمها.

وأستمررنا في السير لعده ليال أخرى حتي وصلنا لمنطقة مفتوحه من الصحراء وخلفها بمسافه حائط صلب من الجبال لا يوجد اي وديان بها، وكان طرف الجبل تجاه البحر كمين اسرائيلي واضح في الصباح، فبدأنا نبحث عن ممر وسط الجبل ليوم كامل

حتي ظهر لنا سلمان ذلك البدوي الاسمر الطويل يرتدي الجلباب الابيض، ووجدنا سلمان يخبرنا بأنه يبحث عنا وانه قد افتقي اثارنا لمده ليله كامله، وعرفنا أنه عرف من زوجته ان هناك مصريين تائهين بالمنطقة، وانه يبحث عنا لأن معه جنود مصريين أخرىن من الاستطلاع ومعهم اجهزه لاسلكي في طريقهم إلى مصر في نفس الوقت.

فكان ذلك خبرا غير قابل للتصديق في حينه فهل هو حلم؟ ام كمين أسرائيلي؟ وعلمنا منه أن امام المجموعة المصريه الأخرى حوالي خمسه أيام لكي ينهوا ما حضروا من اجله ثم يبدأوا طريق عودتهم وأنه يمكن لنا العوده معهم كمجموعة واحده، واتفقنا على انتظاره بمكان محدد لحين أحضار القوه الأخرى.

فور مغادره سلمان غيرنا موقعنا لموقع اخر تحسبا لوجود كمين من الاسرائيليين وخوفا من ان يكون سلمان عميلا للقوات الاسرائيليه ومدسوس علينا لاسرنا.

كان احساسنا مختلط بين السعاده والترقب والحذر، وقبل مرور يوم واحد وجدنا مجموعة تبحث عنا في مكاننا القديم الذي أخبرنا به سلمان، وبعد ان تيقنا بأن تلك المجموعة غير متبوعه بأي قوات اسرائيليه، تقدمنا تجاههم، فوجدنا أنهم من قوات الأستطلاع المصريه المدفوعه خلف خطوط العدو، وكان معهم البطل البدوي – راشد – وكان لدي راشد معرفه كامله بقوات الصاعقة خلف الخطوط واماكنهم واسماء بعض الجنود والضباط الذين تم ابرارهم وساعدهم راشد في العوده لخطوط قواتنا، فكان ذلك بمثابه الفرج لنا مما كنا فيه، فجلسنا لمده نتحدث ونتسامر ونتداول الاخبار المشتركه، وأخبرنا رجال الاستطلاع بأنهم في حاجه إلى يومين إلى ثلاثه ايام لانهاء بعض الاعمال وبعدها سيكونون معنا في طريق العوده.

في اليوم الثالث عاد الرجال ومعهم راشد بعد أن انهوا مهمتهم وبدأنا التحرك مرة أخرى إلى الشمال، وسط حذر من الجميع وأعين يقظه تحركت خطواتنا الواحده تلو الأخرى.

الكيلومترات الاخيره

اتخذ راشد طريقه وسط ممرات الجبال الغير مرئيه لنا، وأمضينا ليله كامله في المسير حتي وصلنا إلى وادي سدر وأمرنا راشد بالمرور الواحد تلو الأخرى بشرط ان كل فرد يخطو على خطوه الذي سبقه بحيث لا تظهر الا اثار اقدام فرد واحد مع الحذر التام والسرعه أيضا لمرور الوادي والوصول للجبل الاخر.

وبعد فتره مرهقه نفسيا من التحرك وسط الوادي المفتوح وصلنا للجانب الاخر منه ورغم ان المسافه تعتبر قليله الا ان التوتر من رصدنا في الصحراء المفتوحه او افتقاء اثارنا جعلتنا نحس ان المسافه طويله جدا.

في الليله التاليه واثناء سيرنا فوجئنا بسلك شائك يقطع الطريق ومن خلفه مزرعه لاحد البدو، فأمضينا الليله بتلك المزرعه وأستمررنا في سيرنا، وأستكملنا مسيرنا حتي وجدنا بئر للماء بعد عده ليال وكان الماء قد نفذ لدينا منذ ليليتين تقريبا، حتي وصلنا إلى جبل، وصعدناه لنجد امامنا على الافق منطقة عيون موسي حيث القوات المصريه، وأسفل الجبل منا تماما يقوم الاسرائيليين بعمل طريق أسفلتي لتحرك القوات الاسرائيليه للمناوره، فبدأ الرجال معي في الانفعال والشتم، فالاسرائيليين يقومون بأنشاء طريق جديد خير دليل على عدم نيتهم في ترك سيناء بعد الحرب، وكانت معدات رصف الطرق مازالت أسفل الجبل.

هبطنا الجبل خلف راشد وعبرنا الطريق وسرنا في مجري للامطار لمده طويله حتي قارب ضوء النهار على الاختفاء، وكنا ننوي الاقتراب من قواتنا المصريه في تلك الليله أو النهار التالي، فأرتحنا قليلا داخل مجري السيل، وخرج راشد لاستطلاع المنطقة، وعاد مسرعا وأخبرنا بوجود كمين اسرائيلي على مسافه خمسون مترا منا، وان العربه المدرعه الاسرائيليه تقطع الطريق الذي كنا ننوي التحرك خلاله.

فتحركنا خلف هذا الكمين من مسافه أمنه، وأستمررنا في التحرك لمسافه طويله حتي شممنا رائحه جاز مما يعني وجود سيارات اسرائيليه، وبالفعل بعد التحقق والتقدم ببطء، وجدنا عربات اسرائيليه كامنه خلف احد التباب، فمررنا بها أيضا على مسافه، وبعد فتره من التحرك وجدنا كمينا أخرا، ولكنه كمينا صاخبا، فأفراد الكمين - اولاد الحلال – قاموا بفتح الرايو الترانزستور على اعلي صوت مما مكننا من سماع صوتهم من مسافه كبيره وتجنب الاقتراب منهم.

وعلمنا من راشد ان هناك حواجز للقوات الدوليه الفاصله بين القوات المصريه والاسرائيليه في تلك المنطقة وأن القوات الدوليه لو قبضت علينا سيكون مصيرنا هو الاسر مع القوات الاسرائيليه.

كانت معنوياتنا في القمه خاصه وأن الخطوط المصريه على مسافه قريبه حوالي عشره كيلو مترات، فبدأنا في التحرك بحرص وسط تلك الحواجز ثم بدأنا في الجري المنتظم والسريع لعبور تلك المنطقة واضواء القوات المصريه المتواجده تقترب منا، كنا نجري في منتهي السعاده واللياقه البدنيه وكأننا في تدريب صاعقة وكلنا بحالتنا البدنيه المرتفعه.

كان خوفنا الان هو أن تقوم القوات المصريه بفتح النيران علينا، لكننا واصلنا الجري المنتظم، وأستمررنا في الجري حتي دخلنا داخل الخطوط المصريه لكننا لم نري أحدا، ولم يوقفنا أحد يسأل عنا فأستمررنا بالجري اعتقادا أننا لم ندخل الخطوط المصريه حتي وجدنا مزرعه أخبرنا راشد بالراحه داخلها تلك الليله، وكنا نقوم بالنداء بصوت عال ونحن نبحث عن قواتنا وفي الصباح التالي اطلقنا عده طلقات لعل وعسي ي ينتبه أحد لنا، وسألت في دهشه، واجابني راشد مقسما بالله اننا داخل الخطوط المصريه

اليوم المائتين

تحركنا اليوم التالي صباحا تجاه الكرنتينه (ميناء الحجر الصحي للحجاج المصريين المقابل له على الجانب الاخر مدينه السويس- وقد قام ابراهيم الرفاعي والمجموعة 39 قتال بهجوم ناجح لتفجير المرسي اثناء حرب الاستنزاف واستشهد في تلك المعركه البطل عصام الدالي) واثناء سيرنا في الصباح بدأنا نري الجنود المصريين يتحركون على مسافه وكنا نحييهم ويردوا التحيه العاديه وأستوقفت أول سياره وجدتها قريبه مني وكان بها ضابط مشاه – الملازم أدهم عبد ربه وسألني عن هويتي وأخبرته وسط نظرات الدهشه منه وعدم التصديق (وتمر السنوات لاقابل نفس الضابط الذي أخبرني أنه بسبب لقائي معه فقد طلب الانضمام لقوات الصاعقة وظل بها حتي رتبه اللواء)

وصلنا إلى احد مباني الكرنتينه ووجدنا الشيخ سلمان في انتظارنا حيث استقبلنا استقبال الفاتحين، وأخبرنا بأن دورنا معروف للقياده في القاهره وأن مصر كلها فخوره بما قمنا، لم أكن اعرف هل حواره هو حوار معلب لرفع المعنويات أم هو كلام حقيقي فلم نكن نعرف حقيقه الدور الذي قمنا به وتأثيره على سير الاحداث لانقطاع الاتصال مع قيادتنا طوال أشهر ستة.

قام الرجل بوضع اصناف طعام امامنا من الفته واللحم والماء، وكنا في سعاده لا تعادلها سعاده مع عدم تصديق بأننا أخيرا قد وصلنا للقوات المصريه واصبحنا في الوطن، وأخبرنا الرجل بأننا سنتحرك تجاه السويس ومنها إلى القاهره بسياره.


مفاجأت في القاهره

أصطحبنا الرجل في سياره تجاه السويس وعبرنا على احد جسور القوات المسلحه إلى مكتب مخابرات السويس الذين بدأوا في استجوابنا، وطلبوا منا كتابه تقرير مفصل عما دار، وعلي مضض بدأنا كتابه التقرير، فهذا ليس وقت كتابه التقارير، فبعدمعاناه 200 يوم أخر شئ نريد ان نقوم به هو كتابه تقرير، حتي وصل اتصال هاتفي بأستدعائنا إلى مكتب المشير أحمد اسماعيل وزير الحربيه فورا.

تم أصطحابنا إلى القاهره إلى احد مقرات المخابرات الحربيه، لكنني أصررت على المرور على منزلي اولا لمده خمس دقائق لرؤيه والدتي.

نصحني عبد الحميد بأن يصعد هو اولا لتخفيف الصدمه عن والدتي فهو صديقي ويعرف انفعالات والدتي جيدا، وبالفعل صعد عبد الحميد وأخبرها بأنني سليم معاف وانني معه في السياره وهي لا تصدق كلامه، وبعد دقائق لم استطع الانتظار وصعدت لارتمي في أحضان والدتي التي لم تكن مصدقه أنني قد عدت من الحرب بعد سته أشهر من بدأها وكانت والدتي قد كبرت في العمر عشرون عاما من الحزن على عدم عودتي وبصعوبه بالغه انتزعت نفسي من احضان والدتي وشقيقتي وعندما خرجت من العماره وجدت حشودا هائله حول السياره – العشرات من جيراننا (لا اعرف كيف استطاعوا معرفه عودتي في تلك الدقائق القليله) الكل يهنئ ويبارك ويعرض الانتظار لاحضار الشربات ومنهم من يسأل عن أبنه الذي لم يعود وأخر يسأل عن شقيقه، كان مشهدا أعجز عن وصفه وبصعوبه تحركت السياره إلى أحد مقار المخابرات، حيث تم تسلمينا ملابس جديده للقاء المشير أحمد اسماعيل وأصررنا على ان نذهب للمقابله بسلاحنا الشخصي.

في نفس ليله وصولي القاهره توجه اثنان من ضباط أداره المشاه لتبليغ والدي بأنني أستشهدت في القتال او مفقود وعلي أساسه سيقومون بتسليمه معاشي ومكافأه وشهاده تقدير، وكان والدي قد اقام الزينه والاضواء على واجهه العماره احتفالا بعودتي وحضر العشرات من الجيران للتهنئه، فأحس الضباط بالحرج من ابلاغ والدي بأستشهادي واخذوه بعيدا عن الاحتفال الذي ظنوا انه احتفال بعرس او خطوبه ما.

وفي الشارع حاولوا اخباره بطريقه لطيفه مهذبه بها الكثير من الاطراء على دوري في الحرب وبطولتي - التي لا يعرفونها - وبعد فتره من المحاوره واللف والدوران أخبروه بالخبر، فضحك والدي وأخبرهم انني عدت صباح اليوم، فظنوا ان الصدمه من وقع الخبر قد صورت له شيئا وعبثا تجادل الثلاثه في فرض رأيهم لفتره، وفي النهايه أخبرهم والدي ان هذه الزينه هي احتفالا بعودتي صباح اليوم وأن بأمكانهم سؤال المخابرات الحربيه وقياده قوات الصاعقة عن مكاني، فأنصرف الضابطين محرجين وغير مصدقين لهذه الصدفه العجيبه، وتخيلوا فرضا لو انهم زاروا والدي في يوم سابق – لكنها رحمه الله بوالدي الذين كان من الممكن ان يصابا بصدمه عمرهما من هذا الخبر

كان المشير أحمد اسماعيل لديه اجتماعات مكثفه، فتأجل الاجتماع لمده يومين ظللنا خلالها في مقر المخابرات نأكل ونشرب كل ما تمنيناه في المائتين يوم السابقين.

وخلال الاحاديث العابره مع ضباط المخابرات وجدنا ان رجال المخابرات تعرف كل من ساعدنا بالاسم من رجال البدو وشيوخ القبائل الذين لم نقابلهم لكننا سمعنا عنهم ووجدوا ان قصتنا تفوق كل ما سمعوه عن دعم البدو للقوات المسلحه ووصفوا لنا كم المخاطره التي تحملها البدو لايوائنا طوال تلك الفتره.

واستقبلنا المشير احمد اسماعيل استقبالا عظيما في مكتبه واعطي كل منا هديه رمزيه وأخبرنا بأنه سيقوم بكتابه شهاده تقدير لكن منا بخط يده تقديرا لدورنا طوال تلك المده خلف خطوط العدو، وصادف تواجد الفريق طيار محمد حسني مبارك في تلك الزياره، وأصر المشير احمد اسماعيل على التقاط صورتذاكريه لنا معه تكريما لدورنا.

ووعدنا المشير بنجمه الشرف ونجمه سيناء تقديرا لدورنا في العمليات (وهو ما لم يحدث حتي الان – لظروف مرض ووفاه المشير أحمد اسماعيل بعدها) وكرر المشير جمله ((أنتوا متعرفوش انتوا عملتوا أيه للبلد)) وكانت تلك الجمله مسار حوار طويل بعد اللقاء مع المشير مع رجال المخابرات الحربيه، فقد كنت ارغب في معرفه حقيقه دوري في الحرب وما أديته للوطن

فأخبرني رجال المخابرات أن وجودنا خلف خطوط العدو قد اصاب الاسرائيليين بالرعب، خلافا لقتل عدد كبير من الطيارين والملاحيين في الكمين وقتل عدد كبير اخر من المظليين في معركه الجبل، فقد كان الاسرائيليين على علم تام بوجود أفراد صاعقة في جنوب سيناء، وكانوا يفتقون اثارهم التي تظهر على فترات، لكنهم كانوا مرعوبين من أي أعمال قتال قد تقومون بها، هذا الرعب جعل في أحد بنود أتفاقيه فض الاشتباك في يناير 1974 والتي أصر الاسرائيلين على وجوده هو بند – التزام مصر بسحب قوات الصاعقة في جنوب سيناء، وكان رد مصر هي ان مصر لن تسحب تلك القوات وكانت نقطه قوه في المباحثات المصريه هو جهل اسرائيل بحجم وعدد القوات خلف الخطوط في جنوب سيناء

وعند عودتي إلى قوات الصاعقة وجدت رد فعل اصدقائي وزملائي مختلف عما توقعته، فالجميع غير مصدق من عودتي وهناك من أقسم أنه رأني استشهد أمامه خاصه ممن تم أسرهم في معركه الجبل، وهناك من تأكد من عدم عودتي لذلك كان الاستقبال مليئا بالدموع الحاره على عودتي وهي دموع فرح بلا شك ممتزجه بالصدمه من رؤيه رجل أيقن الجميع أنه قد أستشهد.

عند اعاده احداث مئتي يوم قتال بعد ما يقرب من أربعه عقود من نهايتها، فأن تلك التجربه لابد وأن تكون قدوه لشباب مصر الحالي، فقد كنا نحارب ونتحرك في ظروف أسوأ ما تكون من ظروف المعيشه، فالمياه تستخدم بأقل قدر لو وجدت، ولا اذكر يوما خلال المائتي يوم أنني احسست بالشبع، لكن الاحساس بالجوع الدائم كان صديقي الدائم وكان صمودنا وتحركنا والمحافظه على القياده مع الجنود والاصرار على الحياه والامل في غد أفضل هو دافعنا للوصول إلى قواتنا.

ظلت خلف خطوط العدو مائتني يوم، كان اجمالي قوتي بعد وصول الدعم يوم 7 أكتوبر 1973- حوالي خمس وأربعون جنديا، أستشهد منهم في معركه الجبل حوالي خمس وعشرون جنديا، وأسر خمس عشر جندي، هاجمت قوات العدو وأستطعت تكبيده حوالي سبعون فردا في القوات الجويه الاسرائيليه ما بين ضابط وطيار وملاح وجندي طبقا لبلاغ القوات الاسرائيليه للقوات الدوليه بعد الحرب، قتلت وحدي عدد غير معروف من قوات المظلات في معركه الجبل حتي نفذت ذخيرتنا.

أستطعت التعايش والحياه في ظروف غير أدميه من حيث النقص الدائم في الطعام والمياه وتغلبت على كل تلك الصعاب لاني جندي صاعقة مصري مدرب على القتال والتعايش واقسمت الا اترك سلاحي قط حتي اذوق الموت.

Share
Click to listen highlighted text! Powered By GSpeech