Click to listen highlighted text! Powered By GSpeech
Get Adobe Flash player
مستمرين معاكم بإذن الله 2008-2024 **** #لان_لجيشنا_تاريخ_يستحق_أن_يروي **** ***** إنشروا تاريخنا وشاركونا في معركة الوعي **** تابعونا علي قناة اليوتيوب 1100+ فيديو حتي الان **** تابعونا علي صفحات التواصل الاجتماعي** أشتركوا معنا في رحلاتنا لمناطق حرب أكتوبر **** يرجي استخدام خانة البحث **** *** تابعونا علي تليجرام - انستجرام - تويتر

النقيب/ محمد محمد عبد القادر-سلاح المدفعيه

 

 

 

من مذكراتي عن حرب أكتوبر 73
--------------------------------
النقيب/ محمد محمد عبد القادر ـ

قائد السرية الأولى / الكتيبة 803 مدفعية متوسطة عيار 155 مم]

قطاع العبور : شمال الاسماعيلية / جنوب كوبرى الفردان / منطقة العبور رقم 23 / القوارب رقم 1،2


الباب الأول :الاعداد للحرب
===============
فى الثامن والعشرين من سبتمبر 1973 كانت الكتيبة قد إستقر بها المقام في الاسماعيلية، فاحتلت مرابض النيران مواقعا كنا قد جهزناها من قبل غرب ترعة الاسماعيلية ، وعادت المنطقة الادارية إلى مدرسة مهجورة كنا قد أعددناها لهذا الغرض من قبل ، وتجمعت عناصر الاستطلاع فى مبنى قديم على الطريق الموازي للقناة ،وخلف السواتر الترابية العالية والتى أنشأتها وحدات المهندسين العسكريين، وذلك لحين إحتلال مراكز الملاحظات والتى قيل أنها سرية فى الوقت الحالى .

وبدأنا نشعر بحركة غريبة وإهتمام غير عادي ونشاط غير معهود . فجاءنا رئيس تسليح الجيش الثانى الميدانى وهو برتبة عميد ومعه طاقم إصلاح للكشف على الحالة الفنية للمدافع وإصلاحها، ومنحنا تأشيرة بموجبها نستلم كل ما لنا من أسلحة ومعدات فنية بورش الجيش الثانى فورا ودون إبطاء.
وفى اليوم التالى أخذت خطط العمليات تتوالى على الكتيبة وأخذنا فى حلها وتجهيز بياناتها وظللنا يومين متصلين دون نوم أو أي قسط من الراحة فى إعداد بيانات الأهداف .

كان مقررا لى مسبقا أن أحضر إمتحان الترقي إلى رتبة الرائد يوم 3 أكتوبر فى قيادة قطاع بورسعيد ، وتوجهت فى الميعاد المحدد إلى حيث لجنة الامتحان ، وهناك أبلغت بأنه قد ألغى او تأجل إلى أجل غير مسمى. وكان هذا بمثابة تأكيد جديد بأننا مقبلون على مرحلة حاسمة . مقبلون على حرب حقيقية ، طالما إنتظرناها، واشتقنا إليها .

بعد ظهر الثالث من أكتوبر دعينا- جميع القادة حتى مستوى قائد سرية إلى مؤتمر مع قائد الفرقة الثانية مشاة – والتى نعمل فى قطاعها – الذى استقبلنا وتبدو على وجهه علامات الاهتمام والتفكير العميق ، وأخذ يتبسط معنا فى الحديث ، ثم تطور الحديث إلى الروح المعنوية للجنود ومسئولية القادة فى الحفاظ عليها عالية ، وتطرق فى حديثه إلى السرية والأمن ، ومدى أهميتهما .

ثم انهى إلينا الخبر الذي كنا مؤهلين تماما لسماعه ، وهو قرب بدء حرب التحرير. ولما سئل عن ميعاد البدء ، أجاب تستطيعون أن تعتبروها قد بدأت فعلا ، فلنا الان أفراد من المهندسين العسكريين داخل سيناء، وفى مياه القناة.

فى اليوم نفسه تم نزول دفعة أجازات من الجنود والتى كانت موقوفة في الفترة الماضية وإشاعة ذلك بحيث وصل الخبر إلى الجميع، وتم عودة الضباط والجنود ليلا دون أى إعلان عن ذلك ، وكان هذا من باب الخداع.

فنزول الأجازات لايمكن إلا أن يكون مؤشرا إلى أن الأوضاع هادئة.

فى المساء وصلت خطط عمليات اللواء المشاة والذي سنعاونه بالنيران ، فعكفنا أنا وزملائي على دراستها بمنتهى الدقة.

في صباح الرابع من أكتوبر بدأت عملية إيصال المعلومات التى وصلت إلينا إلى الجنود ، بصورة تحمل كثيرا من التشويق ، ومثيرة لفضول الجنود ، وتم تهيئة ذهنهم لاستقبال الخبر ، ولما زادت تساؤلاتهم هل نحن بصدد حرب أم مشروع تكتيكي كما كان قد أذيع- عمدا- ولما سألتهم أي الحالين يتمنون ، كان ردهم جميعا "الحرب".فأخبرتهم بأنها هى الحرب ، وساعات ويكون بعدها عبور القناة. هؤلاء الجنود الذين أتيتهم لمحاولة رفع معنوياتهم ، فإذا هم من يرفعون معنوياتى.

كانت تلك لحظات رائعة فى حياتى كضابط بالقوات المسلحة ، ما أروعها من لحظات تلك التى تحس فيها أن كل جنودك هم أبناء وأخوة لك ، بل هم نفسك ، بل هم أعز عليك من نفسك ، وتتمنى أنه إن كان هناك من سيذهب شهيدا ، فليكن أنت على ألا يصاب أحدهم بسوء.

واحتويتهم كلهم في عيني وقلبي ، وصافحتهم واحدا واحدا ، وتمنيت لهم التوفيق ، وأوصيتهم بأن يضربوا بكل شدة بل بكل قسوة وشراسة ، وودعتهم على أمل اللقاء فى سيناء.

( ذلك أن الجنود بموقع النيران لن يكونوا على إتصال مباشر معي إذ مكانى فى مراكز الملاحظات على بعد حوالي 5 كيلومترات أمام القوات ، وكل إتصالى بهم تليفونيا ، أو لاسلكيا لاصدار أوامر إطلاق النيران لهم للتنفيذ).

في المساء ، أخذنا في تدارس خطط العمليات مع قائد الكتيبة " الرائد/ محمد جميل عبد السلام " ، وبعد إطمئناننا إلى تفهم كل صغيرة وكبيرة فى الخطط ، حاولنا النوم قليلا مع بقاء أحدنا مستيقظا بالتناوب ، وفي خلال تلك الليلة لم تنقطع التحركات طوال الليل ، من مدرعات ، ومعدات عبور ، ووحدات دفاع جوي ، ووحدات مهندسين عسكريين. وكلها تتجه إلى خلف الساتر الترابي ، وكل منها لها خطة تنفذها وحفر سبق إعدادها من قبل ، تنزل فيها وتتمركز بها. وفى تلك الليلة أيضا أزيلت الألغام من أمام قواتنا ، كما قامت وحدات المهندسين العسكريين فى هدوء بإزالة الألغام التى وضعها العدو أمام قواته شرق القناة. كما تم قفل مواسير النابالم الشهيرة التي وضعها العدو الاسرائيلي لإشعال القناة لو حاول الجيش المصري عبور القناة. أقفلت بسدادات كان قد تم تصنيعها مسبقا بناء على قياسات أخذت لها بواسطة الضفادع البشرية فى وقت سابق .
وفى تلك الليلة أيضا أبلغ قائد الكتيبة ، قائد اللواء الرابع مشاة والذى كنا فى معاونته ، بتمام إستعداد الكتيبة لتنفيذ مهامها.

فى صباح يوم الخامس من أكتوبر ، قمت بتوضيح المهمة لأفراد الاستطلاع المتواجدين معى بمركز ملاحظة الكتيبة وتأكدت من تفهمهم جميعا لها، ووزعت عليهم القنابل اليدوية ،وذكرتهم كيف ومتى يتم إستخدامها. وعملت لهم تجربة لإرتداء الجاكت المصنوع خصيصا للعابرين بالقوارب ، (ذلك الاختراع العبقري والذي يحتوي على كل ما يحتاج الجندي العابر في قارب من ذخيرة وسلاح ومهمات وتعيينات وكشافات ليلية وأدوات حفر)، حتى تعبر القوات الرئيسية من على الكباري فى حالة نجاح العبور.ثم تم عمل بروفة لارتداء مهمات الوقاية من الأسلحة الكيماوية ، وكان الكل متفهم لواجباته ولدوره بصورة تدعو للفخر ، وتنبئ أن التدريب على مدار السنوات السابقة لم يذهب هباء.

ثم جاءت الأوامر بالراحة الاجبارية للجميع ، حتى ينالوا أكبر قسط من الراحة . وكان هذا إيذانا بإقتراب موعد الهجوم.

الباب الثانى:حرب السادس من أكتوبر / العاشر من رمضان


أمضينا نهار الخامس من أكتوبر فى محاولة الاسترخاء ، كما كانت الأوامر ، ولكن يكون من الكذب أن أقول أن الراحة قد عرفت الطريق إلينا جميعا. فقد كانت الأعصاب مشدودة والقلق والترقب هما سيدا الموقف، وكنت لاأفتأ أقلب الخرائط بين يدى وأسترجع معلوماتى فى
إدارة نيران المدافع، وأستوثق من أرقام القوارب المخصصة لى وأفراد مركز ملا حظتى ، وكذا رقم المعبر ورقم الرحلة .

ولما وجدت انه لافائدة من محاولة الاسترخاء ، جلست بين جنودى أداعبهم ، ونتسامر فى موضوعات بعيدة كل البعد عن المعركة.

ثم أخذت أجرى جردا لأمتعتي الشخصية ووثائقي الخاصة بي ، والخاصة بخطط عمليات قديمة . فأحرقت كل شئ يخصني عدا سجادة صلاة كانت أمى قد أهدتها لى فور عودتها من رحلة حج.
وانقضى نهار الخامس من أكتوبر ، وحل المساء ، وفى هذه الليلة أمكننى أن أنام بعد طول أرق.
بزغ فجر السادس من أكتوبر ، واستيقظت مع خيوط الفجر الأولى وتوجهت إلى شاطئ القناة ، لأراقب إي شىء غير عادى ، فلم أجد ، ومن ثم شرعت فى العودة إلى المعسكر ، والذى يبعد عن الشاطئ بما لايزيد عن خمسمائة متر. ولاحت منى نظرة إلى خلف الساتر الترابي ، فوجدت نشاطا لأفراد سلاح المهندسين العسكريين ، ويقومون بنفخ القوارب المطاطية بهمة ونشاط شديدين. فأيقنت أن هذا هو اليوم الموعود. وأسرعت فأيقظت قائد الكتيبة ، وأبلغته بما رأيت، وكنا حتى هذه اللحظة لم نخطر رسميا بتوقيت بدء العبور – لدواعي السرية والأمن والذين كان لهما الاعتبار الأول-


فى الثانية عشرة ظهرا وصلتني ورقة صغيرة مدون بها " سعت س ". واعتقد أنه على أن أوضح لمن ليس عسكريا معنى" سعت س" . هى مصطلح يوضح اللحظة التى تبدأ فيها أول موجة من موجات العبور بالقوارب مغادرة الشاطئ الغربي للقناة.ويسبقها قصف بالمدفعية والطيران والصواريخ بأنواعها لمدة 53 دقيقة فيما يسمى بالتمهيد النيراني.


فور وصول سعت س ، إصطحبت جنودى " مركز ملاحظة واستطلاع الكتيبة" ، وتوجهنا سيرا على الأقدام إلى نقطة العبور المخصصة لنا ، وكانت" المعبر رقم 23 " جنوب كوبرى الفردان،وكانت تبعد عن مكاننا بحوالى كيلومترين، قطعناهما فى حوالى 25 دقيقة ، مرتدين جاكتات العبور – وفى الحقيقة فان هذا الجاكت كان يربو وزنه على العشرين كيلو جراما ، بالنظر إلى ما هو محمل به من معدات حفر وتعيينات قتال جافة للاستخدام لمدة ثلاثة أيام ، وأدوات إضاءة وذخيرة ومياه وأمتعة خاصة- هذا بالاضافة إلى ما يحمله كل منا طبقا لوظيفته ( أجهزة لاسلكية لجندى الاشارة/ أدوات مراقبة لجندى الاستطلاع...، بالاضافة إلى التسليح الشخصي لكل منا.
كل هذا لم يكن له أى تأثير فى مواجهة الروح المعنوية العالية للأفراد والضباط.

وصلنا إلى مكان العبور المخصص لنا ، حيث لاحظت جنودا يسبحون فى القناة كما هى العادة كل يوم ، وغيرهم جالسون على قمة التبة الصناعية يتبادلون النكات ويمصون القصب أيضا كما هى عادتهم كل يوم . فذلك كان من ضمن خطة خداع العدو كما علمنا فيما بعد . إذ كان الجو العام لايوحي بأنه هناك حربا ستندلع بعد دقائق . فقد كان جنود العدو المراقبين على الضفة الشرقية يرصدون.


بدء العمليات


فى الواحدة وخمسة وأربعون دقيقة ، خلعت علامات الرتب من فوق كتفي ، ودفنتها تحتى فى الرمال ، ولم أكد أنتهي من هذا ، حتى سمعنا فى الجو هديرا لم نسمع مثله قط ، ومرت فى لمح البصر من فوقنا أسراب الطائرات من جميع الطرازات والأحجام ، ودوى صوت اول مدفع ، إنقلبت بعده الجبهة إلى جحيم من النيران تصبه المدفعية على الشاطئ الشرقى للقناة وفى عمق سيناء ، ولمن سمع صوت الرعد أقول أن ما سمعته يفوق صوت الرعد بكثير.ومع كل طلقة كنت تسمع من الجنود الرابضين على شاطئ القناة الغربى التكبير والتهليل .

وكانت صيحة الله أكبر هي الصوت الوحيد المسموع إلى جانب أصوات الطائرات والمدافع.
بدأت الموجة الأولى بالعبور بالقوارب ، وكانت مخصصة لجنود وضباط المهندسين العسكريين ، للتأكد من عدم وجود أى ألغام تعوق تقدم القوات شرق القناة.كألغام أو غيرها.


عادت القوارب فارغة لتعبر الموجة الثانية والتى كنت وجنودى من ضمنها ، فركبنا القاربين المخصصين لنا فى سرعة غير عادية ، وبرغم أن المدة الزمنية المخصصة للوصول للشاطئ الآخرسبعة دقائق ونصف، فقد وصلنا فى حوالى خمس دقائق.وكنت قد أقسمت أن أكون أول من تطأ قدمه أرض سيناء . ، ولما وصل القارب الآخر قبلنا – وكان يقوده الملازم أول / ماهر مصطفى الشاذلي- وهو فيما بعد صار أستاذ دكتور بمركز البحوث الزراعية ـ قفزت إلى الماء وسرت حوالى المتر لأبر بالقسم.هنا لم أتمكن من منع دمعة إنحدرت من عيني رغما عني . وأظن أن هذا كان شأن الكثيرين منا.

الحلـقـــــة الثالثة
==========
توالى نزول الجنود من القوارب على الضفة الشرقية للقناة ، ثم شرعنا فى صعود الساتر الترابى الهائل ، والذى يبلغ إرتفاعه ما يزيد على ثمانية عشر مترا ، وبزاوية ميل تصل إلى إلى 70 درجة . وصدقونى ، لست أدرى كيف أمكننا تسلق ذلك الحائط الضخم ، ولكن الحقيقة الثابتة أننا تسلقناه فعلا , وبدون أى وسائل مساعدة ، وبكامل معداتنا وأسلحتنا الشخصية . وفى أعلى الساتر التقيت بقائد السرية الثانية(النقيب / أحمد مصطفى ) وجنوده . والعجيب انه حتى هذه اللحظة لم يكن قد أُطلِق علينا طلقة واحدة من ناحية العدو، كما لم نصادف جندي إسرائيلى واحد . كانت مجموعات الموجة الأولى للعبور تسير أمامنا بحوالى خمسمائة متر ( وهى تعادل فارق الزمن بيننا فى العبور) . وفجأة سمعنا هدير محركات دبابات تدور فجأة، ثم خرجت أمامنا دبابة من حفرة فى الأمام وإلى اليمين قليلا ، وكأن قائدها قد أصيب بالذعر لما وجد القوات على مقربة منه، فأخذ يطلق رشاش الدبابة فى جنون على الجنود المتقدمين ، الذين فوجئوا ، وأخذوا على غرة ، بينما أخذت الدبابة تجرى فى اتجاه مقاطع لاتجاه تقدمنا ، فأحدث إصابات فى جنود الموجة الولى ، وتساقط بعضهم ، ثم غير إتجاهه تجاهنا والرشاش لايكف عن إطلاق نيرانه. رقدنا على الأرض فى محاولة لتجنب الاصابة قدر المستطاع ، وإستعدادا لدخوله فى مرمى السلاح المضاد للدبابات الوحيد معنا وهو سلاح (الآر.بى . جى). وفجأة أدركتنا عناية الله ، إذ غير قائد الدبابة إتجاهه وسار فى مسار مواز للقناة ، غير أنه لم يبتعد أكثر من مائة متر إلا وعاجله صاروخ مضاد للدبابات منطلق من الضفة الغربية للقناة ، حيث توجد أغلب القوات ، وكان عناصر الاستطلاع ترقب ما يحدث ، فانفجرت الدبابة وتحولت إلى كرة ملتهبة من النيران ، وكانت دبابة أخرى آتية من الاتجاه المضاد ، ما لبثت أن نالت نفس المصير بفعل صاروخ ثان

ودعونى هنا أثنى على التدريب الراقى الرائع الذى ناله أفراد المقذوفات الموجهة المضادة للدبابات ، حيث كانت الاصابة للدبابة تتم من الصاروخ الأول طوال مراحل المعركه


نهضنا ، وبدأنا فى التقدم ، غير أن المشاكل بدأت تواجهنا ، فقد بدأ العريف/ بكر موافى (جندى الاشارة وحامل جهاز الاسلكى) يشعر بالاعياء ، نتيجة لضعف عام بصحته أصلا علاوة على ثقل وزن جهاز اللاسلكى والذى كان يزيد على الثلاثين كيلوجراما.

فظللت أستحثه على المواصلة ، إلا أنه قد بلغ به التعب مبلغا ، فحملت عنه بطاريات الجهاز اللاسلكى ، بينما حمل الملازم أول / ماهر الشاذلى ( قائد فصيلة ادارة النيران) عنه الجهاز.


مع بدء دخول ظلام الليلة الأولى ، كان علينا إيجاد مكان نحفر فيه حفرا "برميلية" ننزل فيها للاختفاء ، واتقاء لشظايا مدفعية متوقع حدوثها.


ووجدت ضالتى مع مجموعة من جنود المشاة كانت قد تمركزت فى منطقة ، وبدأت تحفر لنفسها ، فأمرت جنودى بالحفر والتواجد معهم ، لاسيما أن ذلك سيوفر لنا – كمركز ملاحظة مدفعية- عنصر الحماية من المدرعات حيث كانت معهم أسلحتهم المعدة لذلك وأهمها المدفع(ب11)وهو مخصص للتعامل مع الدبابات .


بعد تمام الحفر ، وكان الليل قد ارخى سدوله . بدأت مدفعية العدو فى إطلاق النيران بكثافة على كل المواجهة ، وكان قائد الكتيبة قد منحنى سلطة الاشتباك بكامل مدافع الكتيبة إذا استدعى الأمر – حيث لم يكن هو ومركز ملاحظة الكتيبة قد عبروا بعد طبقا للجدول المحدد.


قمت برصد بطارية المدفعية حيث حددت إتجاهها بالبوصلة ، كما قمت بقياس مسافتها التقريبية بساعة يدى، مستخدما قانون أن سرعة الصوت تساوى ثلاثمائة وثلاثة وثلاثون مترا فى الثانية. وباحدى طرق إدارة النيران التى سبق أن تعلمناها وتسمى – إدارة النيران بنقص الامكانيات – حيث لاتتوفر الوسائل الدقيقة لادارة النيران ، وبفضل الله تعالى ، قمت بالتعامل مع البطارية وأطلقت قصفة نيران ، صححتها تصحيحا مناسبا بنفس الطريقة وأطلقت قصفة أخرى ، وكم كانت سعادتنا جميعا ونحن نراها تتوهج ، ونسمع أصوات إنفجارات الذخيرة بها.

وكم كان توفيق الله مصاحبا لنا،وكم كان لهذا أثر كبير على الروح المعنوية لنا جميعا.


فى حوالى التاسعة مساءا ،وصلت الدبابات الاسرائيلية ، وكانت محركاتها تهدر أثناء قدومها من بعيد ، وكنا نسمعها بوضوح ، وثقة منهم بأنفسهم فقد كانوا يضيئون البواعث ( الكشافات) بحثا عن الجنود والوحدات التى عبرت تمهيدا لابادتها ، رغم ان ذلك يكشف مكانهم بسهولة وبالتالى يسهل إصابتها، إلا أنهم لم يبالوا بهذا وظنوا أنهم منتصرون لامحالة ، وأستهانوا بقدراتنا ، وظنوا أنها صورة مكررة لما حدث فى عام 1967.


وما لبثت الدبابات أن سُلِط عليها جحيما من النيران ، جعل بعضها يفر شرقا ، والبعض الآخر على إطفاء الكشافات، والاقتراب بهدوء.
إقتربت من مكاننا مجموعة من خمس دبابات ، أمكننا تمييزها بشئ من الصعوبة ليلا ، مع بدء ظهور القمر. وأخذت فى الاقتراب حتى ظننا أنهم يعرفون مكاننا . ووقفت الدبابات على بعد حوالى خمسين مترا ، بينما تقدمت إحداهم ، حتى كان الفاصل بينى فى حفرتى ، وبينها حوالى المترين.
كان الجميع قد صمت تماما ، وبقى فى حفرته دون حراك ، وترجل أحد جنود الدبابة ، وركل شيئا بقدمه ، وتكلم بالعربية قائلا " جاى تاخد بتارك يامصري" .قالها بنوع من السخرية ، وسمعها جميعنا. أما ما ركله فقد تبين لنا فيما بعد أنها كانت جثة أحد الشهداء ، وصعد إلى دبابته مرة أخرى ، وأدير المحرك ، وبدأت الدبابة فى الابتعاد ، فى اللحظة التى بدأ فيها "معروف" ، أحد جنود المشاة العاملين على المدفع المضاد للدبابات(ب11) فى تعمير طلقة فى مدفعه، ولم تبتعد الدبابة مائة متر إلا وأطلق طلقته ، فصارت الدبابة كتلة من النيران. ولم ينتظر معروف ليرى نتيجة عمله ، بل سارع بتعمير المدفع ، وأطلق طلقة أخرى أصاب بها احدى الدبابات الأربع الأخرى والتى كانت قد بدأت فى الفرار، واستمرت فرقعة الذخيرة بها حوالى 4 ساعات بعد أن تفحم كل من فيها.وفرت باقى الدبابات شرقا تسابق الريح.


أمضينا الليلة الأولى متيقظين تماما مستعدين لكل الاحتمالات ، فغدر ذلك العدو معروف ، وأساليبه في الالتفاف والتطويق مفهومة تماما ، من كثرة تدريسها لنا فى الدورات التعليمية ، والمحاضرات ، واللقاءات. لذا فقد أحبطت جميع محاولاته للالتفاف من الخلف ، وحتى المرة الوحيدة فى تلك الليلة التي تمكنت فيها ثلاث دبابات من الالتفاف خلفنا ، تم توجيه مواسير المدافع المضادة للدبابات وبثلاث قذائف فقط تحولت إلى كتل ملتهبة من الحديد المصهور.


إنقضت تلك الليلة ، ومع بزوغ فجر اليوم التالى السابع من أكتوبر ، بدأت الطائرات الاسرائيلية تهاجمنا فى موجات متتالية وبأعداد كبيرة ، وكان هذا متوقعا ومعمولا حسابه ، وتصدت لها وسائل الدفاع الجوى خاصة صواريخ " سام2 ، سام3" ، فكنا نشاهد الصاروخ وهو يتعقب الطائرة إلى أن يصل إليها وتنفجر أمامنا.


تمكن قائد الكتيبة من الوصول إلى مكانى بعد عبوره القناة ، واشتدت هجمات الطيران علينا ، وكان يلقى بحمولته على بعد أمتار منا ، فتهتز الأرض كلها بنا وتنهار الحفر التى نحتمي داخلها لكون الأرض رملية غير متماسكة ، فنشرع من جديد فى عمل حفر غيرها تقينا شظايا قنابل الطائرات خاصة الزمنية منها وهذا ما كنا مدربين عليه وجنودنا قبل بداية الحرب.


تناقصت بعض المعلبات الغذائية ، وبدأ بعضنا يشعر بالجوع، وسرعان ما ذهب الجندى / سامى نصر سليمان من أفراد الاستطلاع إلى الدبابات الاسراءيلية المدمرة ، وعاد منها ببعض علب المربى والجبن الأمريكى ، والمخللات. فأكلنا واستعدنا حيويتنا ومعنوياتنا برغم إستمرار القصف الجوي علينا.


عبرت مدافع الكتيبة تحت إشراف رئيس عمليات الكتيبة الرائد/ حسين عسل ، وطبقا للتخطيط كان يتحتم على قائد الكتيبة ، وانا معه ومركز الملاحظة بالانضمام إلى مركز قيادة قائد اللواء 117 مشاة ميكانيكي ، والذي كان قد عبر القناة لتوه بعد أن أنشئت الكباري.

وبتوقيع مكانه بالاحداثيات على الخريطة تبين أنه خلفنا بحالى ثلاثة كيلومترات ، بما يعنى أننا لن نستطيع مراقبة الأهداف ، وضربها فى حالة إنضمامنا إليه ، لذا طلب منه قائد الكتيبة أن نظل بمكاننا ، وندير النيران على الأهداف فى مواجهة اللواء.

إلا أنه أصر على عودتنا للخلف للانضمام له . ولما كانت الأوامر والقيادة لقائد المشاة ، فقد تعين علينا إخلاء مركز الملاحظة والعودة إلى الخلف. ، وأثناء التحرك رصدتنا عناصر إستطلاع العدو ،فإنهالت علينا قذائف المدفعية ، ولكن بفضل الله أولا ، وطرق الاخفاء والتمويه ثانيا أمكننا أن نصل إلى مركز قيادة اللواء 117 مشاه ميكانيكى وما أن وصلنا عنده إلا وقد سقطت دانات المدفعية من عيار 175مم ورقدنا على الأرض إتقاء للشظايا .

ولما توقف الضرب رفعت رأسي فوجدت أن إحدى عجلات السيارة الخاصة بمركز ملاحظتى قد أصيبت ولم أجد السائق فقمت بادارة السيارة وإبعادها قليلا . وما كدت أن أصل إلى حفرتى مرة أخرى إلا وشاهدت طائرتين من طراز فانتوم قادمتين ، وتطلقان صاروخين .

وكنت أنا والملازم أول محمد رسلان والرقيب البرعى نصر البرعى يرقد كل منا فى حفرة تبعد عن الآخر حوالى مترين مشكلين ما يمكن أن يسمى رؤوس مثلث.
سقط الصاروخ الأول وأعقبه الثانى على بعد لايزيد عن عشرة أمتار، وأنفجروا . لم نر شيئا وأظلمت الدنيا لمدة حوالى 20 ثانية ، وبعد إنقشاع الغبار صحت مناديا على الملازم أول رسلان فرد على ثم ناديت على الرقيب / البرعى نصر البرعى رد على بما يفيد أنهما بخير .

ولاحت منى نظرة إلى السيارتين ، فوجدت أن إطاراتهما قد دمرت تماما.لم تمر ثوان إلا وقد جاءت طائرتان وأطلقتا صاروخين آخرين . صحت " الصواريخ دى جاية لنا يارسلان" ومالبث أحدهما أن سقط فى المثلث الذي تقع حفرنا الثلاثة على رؤوسه.ولم أشعر بنصفى الأسفل ، وقد أصبحت الدنيا ظلاما . وبعد إنقش الغبار ، صحت : يارسلان ، سمعته يتأوه ، صحت يابرعي ، ولم أسمع ردا منه.

أما سبب عدم شعورى بنصفى الأسفل فقد وجدت أن الحفرة قد إنهارت على واننى لم أصب. حفرت حولى إلى أن أزلت الرمال . وزحفت إلى حفرة الملازم اول / رسلان فوجدت ظهره قد إمتلأ ثقوبا من شظايا الصاروخ ، وإصطبغ الأوفرول بالدم. وكان من المعتاد أنه بعد أى قصف جوي تمر سيارات الاسعاف لتقديم المعاونة الطبية .

فأركبته إحدي هذه السيارات ، وتوجهت إلى حفرة الرقيب / البرعي فكان قد توفاه الله. دفنته بمعاونة العريف / فيصل فيصل السيد ، من أفراد الاستطلاع. فى نفس مكانه وبنفس ملابسه .
تطور القتال وتقدمنا إلى مواقع جديدة ، على عمق ثمانية كيلومترات، وصارت الأمور روتينية ، فالاشتباكات لاتتوقف لحظة واحدة ، حتى إعتدناها ، وصارت واجبا يوميا.

وتشبثت مجموعة من الدبابات الاسرائيلية ومعها مجموعة من المدافع ذاتية الحركة بمنطقة عالية تشرف على ما حولها ، وهو مانسميه عسكريا" هيئة حاكمة" لذا يمكنهم أن يتحكموا من أعلى في المنطقة المنخفضة المحيطة ولذا فقد توقفت القوات أمام هذه المقاومة القوية وفى الساعة الواحدة صباح يوم الثالث عشر من أكوبر صدرت الأوامر بتكوين " مفرزة إقتناص دبابات" تتحرك مستغلة الظلام وتدور حول الدبابات التى تعطل الهجوم ، وتدمرها من الخلف أثناء الليل.


وكان تكوين تلك المفرزة من سرية مشاة ، ومعها أساحة مضادة للدبابات ، وصواريخ " مقذوفات موجهة مضادة للدبابات ، ومركز ملاحظة مدفعية لادارة النيران إن لزم الأمر.

وتم إختيارى لأكون قائد سرية المدفعية المشاركة فى المفرزة. ومن المتعارف عليه أنه عندما تكون هناك قوات مشتركة من عدة أسلحة يكون قائد المشاة هو القائد للقوات حتى وإن كان أحدث من غيره. تحركت المفرزة فى هدوء سيرا على الأقدام وإستمرت فى التحرك حوالى ساعة ونصف ونحن نفترب من العدو فى هدوء ، ثم تحركنا يمينا مع توجيه البوصلة ، وتم الالتفاف حول قوات العدو ، ونظرا لاستخدامنا لأجهزة الرؤية الليلة تم التعرف على الدبابات ونحن خلفها تماما . وقد طلبت من قائد المشاه" وكان نقيبا إسمه/( جلال الغول) أن نتوقف ونصوب أسلحتنا ونبدأ تنفيذ المهمة ، إلا أنه كان له رأى آخر وإستمر فى السير ، وللأسف فقدنا الاتجاه ، وكان الفجر على وشك البزوغ.
لما رأيت من قائد السرية المشاة إرتباكا ، فقد طلبت من الجنود البقاء فى أماكنهم ومسابقة الزمن فى حفر حفر برميلية يختفون داخلها قبل طلوع الفجر . إذ لم نكن نعرف بعد أن فقدنا الاتجاه إن كنا مازلنا بين قوات العدو أو عدنا إلى الخلف . وكانت خيوط الفجر تطاردنا .


بدأ النهار فى الطلوع، وسمعنا أصوات قريبة تتحدث العبرية خلف أرض مرتفعة، وعلمنا أننا نرقد على ميل هذه التبة ، وعلى الميل الآخر الجنود الاسرائيليين.
صعد احد أفراد الاستطلاع بحذر إلى اعلى التبة ، ولكنه ما لبث أن تدحرج نازلا بعد أن أطلقت عليه دفعة رشاش، فعلمنا بأنهم يعلمون مكاننا.وبعد قليل بدأوا فى إطلاق الهاونات علينا . أما لماذا مدافع الهاون ، فلأنها ذات خط مرور عالى ومنحنى حتى يمكن أن يتخطى القمة التى نرقد وراءها.

تسلقت المرتفع بحذر ومعي جنديان من الاستطلاع ، والنقيب/ جلال الغول قائد السرية المشاة ، وصعد معنا العريف" سيد" وهو حامل وناشنجى صواريخ المقذوفات الموجهة المضادة للدبابات وإسمها الكودى" فهد".

رأيت 4 دبابات متجمعة ، ورأيت الجنود الاسرائيليين يتحركون بحرية بين الدبابات . شاهد هذا معى العريف" سيد" وفى ثوان قام بنصب جهاز التوجيه الخاص بقاعدة الصواريخ. وثبت الصاروخ الأول من خلف كودية حشيش، وأطلقه فدمر دبابة ، وإنفجرت ، وإثار هذا الرعب والفزع بين جنود العدو ، وبدأوا فى ركوب الدبابات للانطلاق بها ، فى الوقت الذى قام فيه " العريف سيد"بتجهيز الصاروخ الثانى ، وإطلاقه فدمر دبابة ثانية ، ثم ثالثة ثم عربة صواريخ ، وبهذا إنتهت الصواريخ التى بحوزته وهكذا كانت نسبة الاصابة 100% . ونزلنا بسرعة إلى الحفر . وقلت له بالحرف" إن شاء الله سأبلغ قائد وحدتك ليكافئك" . وما ان إنتهيت من كلمتى ، حتى سقطت دانة هاون ، فى مباشرة فى حفرة العريف "سيد" ، فمزقته تمزيقا ، ونال مكافأة لم يكن قائده بقادر على أن يمنحها إياه. تلك هى الشهادة.


وهكذا عدنا إلى غرب القناة وكانت أول مرة لى أمر فيها من فوق الكبارى التى أنشأها سلاح المهندسين العسكريين على صفحة القناة.

أحسست فى الحقيقة وانا أعبر القناة عائدا من سيناء بأحاسيس كثيرة تعتمل فى نفسي لاأستطيع ان أصفها ، ولكن كان ملخصها تلك الدمعة التى إنحدرت من عينى حاملة الكثير من المعاني ومعبرة عن الكثير من الأحاسيس.

تحركت الكتيبة بعد عبور الكوبرى فى الطريق الموازى للقناة ، وإن لم تكن تلك المرة الأولى بالطبع التى نتحرك فيها على هذا الطريق الذي يبعد عن القناة بضعة أمتار ، إلا انها هى المرة الأولى التى نتحرك فيها على هذا الطريق آمنين تماما دونما خوف أو حذر ، إذ أن معظم هذا الطريق مكشوف تماما للضفة الشرقية ، ولتلك الحصون التي عرفت بخط بارليف،

والآن وقد أزيلت تلك القلاع بأيادينا فقد حق لنا أن نسير دونما خوف أو حذر ، فعلى الضفة الشرقية للقناة قوات لنا تماما كما هو موجود على الضفة الغربية.

في الثغــــــــــــــــــرة

ما أن عدنا إلى غرب القناة ، حتى بدأنا مرحلة جديدة من المعارك ، لحصر قوات العدو التى كانت قد تسللت إلى غرب القناة من منطقة الدفرسوار، وحاولت الانتشار جنوبا لمهاجمة مدينة الاسماعيلية.
كلفت الكتيبة ضمن قوات أخرى من المشاة والمدرعات ، وبعض وحدات المدفعية بواجب الدفاع من جهة معسكر الجلاء شمال الاسماعيلية، تحسبا لمحاولة العدو التحرك إلى أجناب طريق الاسماعيلية القاهرة ، وهو مالم يحدث على الاطلاق ، ولم يكن مسموحا ان يحدث.


اتخذنا اوضاعنا الدفاعية ، ولما كان قرار وقف إطلاق النار مازال ساريا ، فاننى لا أذكر اننا قد إشتبكنا مع قوات العدو خلال الأيام العشرة التالية . وأذكر أن تلك ألأيام العشرة قد حققت لى أمنية غالية عندى ، ففي ظل الهدوء الناتج عن إيقاف إطلاق النار أمكننى أن أستمتع بالجو الريفي الجميل ، والذى كنت أتمنى أن أعيشه ولو بضع ساعات.فقد كانت المواقع فى حديقة برتقال ، يليها حقل لنبات الفول السودانى ، وكان ميعاد إثمار كلاهما . ولما كان الملازم أول / ماهر الشاذلي فلاح أصلا من قرية تسمى " دناصور" بمركز الشهداء / محاظة المنوفية . فقد أخذ على عاتقه جمع الفول السودانى ، وتحميصه فى الفرن الريفى بالأرض التى نحتلها ، وذلك بعد أن تركها لنا الفلاح صاحبها ، وانتقل إلى بيت أخر بعيدا باعتبار هذه منطقة عمليات حربية محتملة. ولم ينس قبل أن يغادر أرضه أن يصرح لنا باخذ مانريد منها . فعشنا تلك الأيام على الفول السودانى المحمص والبرتقال ، وكيزان الذرة المشوى.وفى الصباح يأتينا اللبن الحليب من الفلاح صاحب الأرض .
مضت الحياة خلال تلك الفترة روتينية ، حيث يتم تغيير أفراد الملاحظة كل 4ساعات وأتلقى تقريرا عن تحركات قوات العدو أمامنا.إلا انها وإن كانت رتيبة إلا أننا كنا فى حاجة إلى هذه الرتابة بعد ذلك الأتون المستعر فى سيناء.

تقرر إنتقالنا إلى منطقة أخرى " أبو عطوة" جنوب شرق الاسماعيلية تشرف أكثر على قوات العدو المتمركزة فى تلك المنطقة ، إستعدادا للتعامل معها إن أخلت بقواعد وقف القتال. ولأول مرة تكون إقامتنا فى منازل مواطنين مهجرين ، بها ماء ومضاءة بالكهرباء ،وإيضا نتيجة الأوامر الصارمة لم تحدث إشتباكات مع العدو ، حيث أيضا إلتزم تماما بقرار وقف إطلاق النار ، وكيف لا ، وهو لايريد أن يفتح جحيما على نفسه بعدأن تم محاصرة قواته بكثير من القوات المصرية.

هناك ملاحظة جديرة بالتسجيل والاحترام ، ذلك هو دور قوات الصاعقة المصرية ، والتى كانت تجاورنا فى منطقة أبو عطوة . فهذه القوات ربما فقط الوحيدة التى لم يكن لها علاقة بقرار وقف إطلاق النار . حيث كنا نشاهدهم يوميا ليلا وهم يتجهزون بالأسلحة الخفيفة الفعالة ، والقنابل اليدوية . ثم يختفون بين الأشجار ، ولا ندري إلى أين يتجهون؟ إلا أننا نراهم فى فجر اليوم التالى عائدون ، وهم يحملون رؤوسا لجنود إسرائيليين إقتطفوها ليلا فى هدوء . والطريف ان كل منهم كان يتباهى أمامنا بعدد الرؤوس التى يحملها. كمعيار لمدى كفاءته.


أثناء تواجدنا فى منطقة أبو عطوة ، وكان قد مر علينا منذ بدء الحرب خمسون يوما كاملة ، ولأول مرة منذ بدء الحرب يعم الهدوء ، وبدأ الحديث عن مساع سياسية ، المر الذي جعلنا نتجه بعقولنا وقلوبنا إلى هؤلاء الذين يبعدون عنا بأجسادهم مئات الكيلومترات ، ويقتربون منا بقلوبهم لبضع سنتيمترات . وأقصد أهلينا. ولول مرة بدا الحديث خافتا حول إمكانية نزول كل ضابط منا ولو ليلة واحدة يطمئن فيها اهله، ثم يعود لينزل غيره وهكذا.


وفى الحقيقة ، وإن كانت تلك فكرة الرائد/ محمد جميل قائد الكتيبة ، إلا أنه الوحيد الذي لم يحصل على تلك الليلة ، ضاربا بذلك المثل والقدوة.

وبدأ التنفيذ ، وإتفق على أن أحصل أنا على ليلتين لبعد محل سكنى- مدينة الاسكندرية عن الاسماعيلية- بما يعادل ضعف المسافة للقاهرة.

حان ميعاد نزولى ، وليلتها لم أنم، فقد تضاربت المشاعر والأحاسيس . وما ان بدأ ضوء الفجر فى الظهور حتى إستيقظت ، وارتديت أوفرول كنت قد أعددته خصيصا لهذه المناسبة ، ووضعت مسدسى فى جنبي ،واستقبليت العربة إلى موقف التاكسى ، وكانت تلك لحظات إنعدام وزن ، أتحرك فيها مسلوب الارادة ، ما أن وصلت للقاهرة حتى بادرت باحتلال مقعد فى السيارة الأجرة للاسكندرية ، وصلت الاسكندرية ، وفضلت السير على الأقدام وصولا للمنزل ، فقد كان هناك شعور غريب يدعونى لذلك لما وجدت نظرات الاعجاب والاكبار فى عيون كل من رآنى فى الطريق . ومنهم من يسلم على ومنهم من يتمنى لى السلامة ، ولا أكون مبالغا إذا قلت أننى إستعذبت ذلك وجعلت أسير بزهز وخيلاء منحتنى إياها تلك النظرات.


وإخيرا وصلت إلى المنزل ، وكم كنت أشفق من لحظة لقائى الولى مع من سيفتح الباب ، ورغم شدة شوقى لأمى إلا أننى تمنيت لو لا تكون هي من يفتح لى . ولكن تأتى الرياح بما لاتشتهي السفن . فما ان رننت جرس الباب ، حتى فتحته امي ، وما ان رأتني حتى أخذت تبكى وتضحك فى آن واحـــد ولســـانها ينطق كلمـــة واحــــدة إبنــــي....إبنــــــى. [تمت]

عميد / محمــــد محمـــــد عبدالقـــادر

 

شكــــــــــر واجــــــــب

 


أشكر كل من تفضل بإسعادى بقراءة مذكراتى أو التعليق عليها أو الاحتفاظ بنسخة منها، وما هى إلا جهد متواضع أردت ألا أكون انانيا ، وأن أطلع عليه كل من يهمه الأمر ويهتم بحرب أكتوبر المجيدة فقد ظلت حبيسة الأدراج ما يزيد عن أربعين عاما .

المصدر صفحه سياده العميد علي الفيس بوك

https://www.facebook.com/mohamed.a.kader.10

Share
Click to listen highlighted text! Powered By GSpeech