الله وليّ الصابرين
الشهيد الرقيب : محمود السيد البقاش
همّ المقدم أحمد مالك بمغادرة منزل الحاج السيد البقاش ، وقبل أن يغادر وجه تساؤله لصاحب المنزل قائلاً (( مش عاوز حاجة من محمود ؟؟ )) وما إن طرقت العبارة مسامع الحاج سيد حتى أنسابت دموعه ، لم تثر العبارة أحزانه ، فهى لم تهدأ بعد ، كما أن زيارة المقدم أحمد مالك لهم كفيلة بأن تجعل محمود متواجداً بينهم ، فهو يرى ملامح محمود فى وجه قائده ، كما أن الحديث لا ينقطع عنه ، شجاعته ، أدبه الجم ، شهامته ، وامتزجت دموع الحاج سيد بالدهشة والحيرة ، ترى لم يردد المقدم أحمد مثل هذا السؤال ؟ يا الله إن هذه الكلمات نذير بأن القائد يشعر أنه على موعد ، يلتقى فيه محمود .
وضح على الحاج السيد الارتباك ، ورد بعبارات مقتضبة ، لم يتذكرها بعدها ، فقد كان وقع السؤال من الشدة والألم بما يجعله يحاول الرد .
هل يقول له أنه يريد منه شئ ؟؟ أم يجب بالنفى ؟؟ أنه يريد محمود بشخصه ولكن كيف عسى أن يفصح عن ذلك ، فإرادة الله فوق كل شئ ..
غادر المقدم أحمد مالك منزل الحاج سيد ، ولكن الأحزان لم تغادر ، فقد أصبحت جزء من المنزل ، الأسرة ، والحاج السيد نفسه .
جلس الحاج سيد فى غرفة الاستقبال ، وحيداً ، حزيناً ، تطوف أمامه الذكريات ، محمود ابنه ، النعش المتشح بعلم مصر ... الجنازة العسكرية ، كان أول ما بدر إلى ذاكرة الحاج سيد ، هو ذاك اليوم الذى واتته الأخبار بأن ابنه محمود ذو التسعة عشر ربيعاً قد صار شهيداً فى رحاب الله ..
راودته ذكريات ذلك اليوم الذى وهبه الله فيه ابنه محمود ، فى الخامس عشر من مايو عام 1995 ، فى قرية ميت أبو خالد بميت غمر ، بالدقهلية ، حيث امتلأت جدران المنزل ببكاء الطفل ، وصوته الرضيع المميز ، كان محمود مولودهما الأول ، وما هى إلا شهور حتى ملأت ضحكاته لوالده ووالدته أركان البيت ، لم يكن محمود مرهقاً فى تربيته ، فقد تميز منذ نعومة أظافره بالهدوء ، وتربى على طاعة والديه ، وحب جدته التى تسكن البيت معهم ، وقد أرهقها الدهر بعد أن قامت بتربية والده وعمه وحملت على عاتقها عبء كبير بعد وفاة الجد ، كان زوجها وقت وفاته فى عامه الثامن والعشرين ، وكانا ولديها فى أعمارهم السادسة ، و الثالثة ، رفضت كل من تقدموا للزواج بها ، وكرست حياتها لولديها ، والآن تعيش فى بيت ابنها السيد ، تحب أبنائه و يبادلونها ووالدتهم الحب والاحترام .
ولم يكن حال محمود فى المدرسة يختلف عنه فى البيت ، إذ جمع بين الأدب والتفوق ، وحاز على حب واحترام معلميه وأقرانه ..
(( الله وليّ الصابرين )) نقشها محمود على جدران منزلهم وكأنه يوجه رسالة ذات أمد مؤجل إلى أسرته ، بل إلى أسر الشهداء جميعاً ، الصبر يا أبت ، الصبر يا أماه ..
وكان الحياء إحدى شعب الإيمان من شيمه ، مرت السنوات وأصبح محمود فتى يانع ،يمضى فى دراسته وفى حياته بلا ضجيج ..
عادت الذاكرة بالحاج السيد إلى عام 2011 ، وبالتحديد إلى اليوم الذى فاجئه ولده محمود ، وصارحه برغبته فى أن يتطوع فى صفوف القوات المسلحة ، مصنع الرجال الأبطال ، ليتخرج صف ضابط ، تماماً كما كان والده وقدوته فى الحياة ، ولم يجد والده مفر من اعتماد الطريق الذى رسمه وخططه ولده لنفسه ، فقد صار محمود رجلاً يمكنه أن يحدد وجهته ، كما أن العمل فى صفوف الجيش المصرى ليس بغريب ولا جديد عليهم ، إنها مسيرة ممتدة .
لقد دار فى ذهن الحاج السيد أن محمود كان يرسم طريقه ومستقبله إلى عالم الأبطال ، إلا أن محمود كان يرسم طريقه إلى الشهادة وعالم الشهداء .
لقد تطوع أكبر أبنائه محمود فى سلاح الدفاع الجوى وتخرج ضمن الدفعة 146 صف ضابط ، وبدأ حياته العسكرية صف ضابط ، أمضى محمود سنواته الثلاث الأخيرة ، ما بين فرقة الصاعقة ، وتدريب الدفاع الجوى ، كان يواظب على عمله بمنتهى الدقة والجدية ، هكذا شهد قائده المقدم أحمد مالك ، بل إنه أكد أنه لم يردد أبداً أنه لا يعرف ، أو أنه لا يمكنه القيام بعمل ما ، فكان ينفذ كل ما يوكل إليه من قادته .. ولم يكن ليبرر أى خطأ ، فالخطأ غير مقبول بالنسبة له وكذلك التبرير .
يا الله لقد حظى محمود بحب قادته وزملائه ... زملائه ، قفز إلى ذهن الحاج السيد ، البطل محمد على ، نظر إلى صورة يقف فيها محمود وصديقه محمد ، وقد طوقت يد محمود اليمنى كتف صديقه محمد ، فى أخوة وود .. تساءل الحاج السيد ، ترى متى ألتقطت الصورة ؟ ما الحديث الذى دار بينهما قبل تلك اللحظة أو بعدها ؟ رمق الصورة بحنو وأنسكبت دمعة عليها ، داعياً لابنه بالرحمة ، وموجهاً الدعاء الثانى للبطل محمد ، داعياً له بالنصر والسلامة ..
أوحشتنا يا محمود .. أوحشنا صوتك يا بنى ، أدبك ، خجلك ، وكل شىء .. وسرعان ما ردد (( الله وليّ الصابرين .. الله وليّ الصابرين )) .
ورغماً عنه تعرج ذاكرته دوماً وذاكرة الحاجة أم محمود إلى يوم 26 يناير 2014 ، حينما استقل محمود حافلة الإجازات والمأموريات ، التابعة للقوات المسلحة ، وفى الطريق كانت أيادى الغدر والخسة بانتظاره ورفاقه ، ترصد لهم المجرمون ، يلثمون وجوههم القبيحة ، وأمتدت أياديهم القذرة ، تصب نيرانها على الحافلة ، عجزوا أن يواجهوا الأبطال فى ميدان القتال ، فحاولوا النيل منهم فى حافلة الإجازات ، فى الحافلة ، لفظ جسد محمود واثنان من رفاقه أنفاسهم الأخيرة ، بينما انطلقت أرواحهم فى حياة جديدة ، خالدة ، فموت البشرهو الموت ، إلا موت الشهيد .. إنه حياة ورزق ، كما أخبرنا المولى عزوجل .
دلفت الحاجة أم محمود عبر الباب ، رأت الدموع تنسكب من زوجها ، همت لتشاركه البكاء من ألم الفراق ، وما إن لمحها حتى مسح عينيه بيديه مجففاً عبراته ، سبقها قبل أن تبادر بالحديث والبكاء قائلاً : الله ولىّ الصابرين ..
تمت بحمد الله
9 مارس 2018
قصة قصيرة عن الشهيد الرقيب محمود السيد البقاش ، أسكنه الله الفردوس
المصدر : والد الشهيد ، الحاج السيد البقاش
كتبتها : أسماء محمود كاشف