Click to listen highlighted text! Powered By GSpeech
Get Adobe Flash player
مستمرين معاكم بإذن الله 2008-2024 **** #لان_لجيشنا_تاريخ_يستحق_أن_يروي **** ***** إنشروا تاريخنا وشاركونا في معركة الوعي **** تابعونا علي قناة اليوتيوب 1100+ فيديو حتي الان **** تابعونا علي صفحات التواصل الاجتماعي** أشتركوا معنا في رحلاتنا لمناطق حرب أكتوبر **** يرجي استخدام خانة البحث **** *** تابعونا علي تليجرام - انستجرام - تويتر

اللواء احمد رجائي - الجزء الثاني

إهــداء

هذه خطوات ونواصى فى حياتى.

أى عمرى كله.

فلمن أهديها .. بعد أن كانت وجهتى فى كل فعل إلى الله وحده.

أى نذرتها من قبل قرباناً إليه .. عسى أن يتقبلها منى. وهو وحده الشهيد العليم بما فى الصدور .. وليس من دونه ملتحدا.

                                           أحمد رجائى عطية

                                         القاهرة فى:1/7/2009

 

منظمة سيناء

فى أعقاب رجوع عبد الناصر عن التنحى وحادثة المشير (عامر) – أنشئت القوات الخاصة بقيادة (سعد الشاذلى) بعد انضمام كل من قوات المظلات وقوات الصاعقة تحت قيادة واحدة .. وكانت قوات الصاعقة تنفرد بأنها تضم ضباطًا من كافة الأسلحة وقد تم حجزهم لكفاءتهم أثناء فرق الصاعقة المتعاقبة .. فصدر قرار بأن يرجع كل ضابط إلى سلاحه عدا ضباط المشاة .. ومن يرغب فعليه أن يكتب طلباً لتحويله إلى سلاح المشاة.

بعض الضباط فضلوا الرجوع إلى أسلحتهم .. ورغم اعتزازى بالصاعقة .. لكنى أيضا كنت فخورًا بسلاحى وهو سلاح المدفعية لأنه السلاح الذى علمنى أصول العسكرية وكرامتها .. واعتقد أننا كضباط مدفعية بسلاح الصاعقة وكنا أكثر من عشرين ضابطًا قد أضفنا الكثير من تقاليد سلاح المدفعية إلى وحدات الصاعقة .. وكان اعتراضى على التحول إلى سلاح المشاة .. قيمتى كمقاتل ليس المهم أن أحمل شارة الصاعقة وهو النسر أو شارة المدفعية وهى الشرابنل .. وبالتالى كانت مجادلتى فى أن أخدم بالصاعقة وأنا أحمل الشرابنل .. ولكن الأوامر العسكرية هى الأوامر. فتم نقلى إلى مدفعية المظلات ضمن القوات الخاصة المُشكلة حديثا بقيادة اللواء (سعد الشاذلى) – وكان على أن ارتدى برية المظلات (القرمزى) بدلا من باريه الصاعقة الزيتى ذو الخط الأحمر وللمرة الثانية ارفض. وقد أخذ هذا الموضوع شهور قليلة كنت أثناءها دائما أطلب مقابلة اللواء (سعد الشاذلى) .. وفى كل مرة أقول له إننا كضباط صاعقـة يجب أن نقوم بعمليات خلف الخطوط .. وكان صبورا على كثيرًا ولكنه كان يرفض كلامى ويقول مش وقته .. ومش عايز بلبلة – ولكنـه رأى أخـيرا أن يتخلص منى بأن أصـدر خطـابًا بنقـلى من القوات الخاصة إلى الكلية الحربية كمعلم.       

لكن ما حدث خلال هذه الأشهر أمر آخر وتزامن نقلى إلى الكلية الحربية مع توقيت اللواء (محمد صادق) لإلحاقى بالمخابرات الحربية للعمل الخاص خلف الخطوط كان لذلك قصة أحب أن أرويها.

كنت كمعظم الضباط وخاصة ضباط الصاعقة الرافضين للسكينة دون العمل الإيجابى ضد العدو. ولكنى قد أكون أكثر إيجابية .. أو أكثر شرودا عن الخط الطبيعى لكى أصل إلى ما فى داخلى .. وهو العمل الفورى ضد العدو.

كنت فى أثناء ذلك أتابع الصحفى وجيه أبو ذكرى بجريدة الإخبار .. وكان دائم الكتابة عن المنظمات الفلسطينية ونشاطهم ضد العدو – وفى أحد الأيام توجهت إلى جريدة الأخبار .. وسألت عن (وجيه أبو ذكرى) .. وقادنى أحد السعاة إلى مكتبه وكان فى صالة كبيرة بها عدة مكاتب يجلس خلفها الصحفيون. وكان يجلس حول مكتبه .. الصحفى (محمد يوسف) والصحفى (حامد زيدان) وفتاة هى الصحفية المشهورة حاليا باسم (صافى) وهى (صافيناز كاظم) وكانت ترتدى فستانًا أسود ذات شعر مسترسل بدون تصفيف .. وعرفـت فيما بعد أنها رغم مرور شهور طويلة إلا أنها ترتدى السـواد حتى نأخذ بثأرنا من العدو. المهم .. بعد أن سـلمت على الجميع وعرفت نفسى .. ورحبوا بى خاصة أنى قـدمت نفسـى كضابط .. ومن هنا بدأت أسئلة كثيرة.

وبعد فترة ليست بالوجيزة انتقلت إلى جانب وجيه وقلت له أنا عـايزك فى كلمة .. فانسحب الجالسون فى هدوء .. قلت لـ(وجيه) بصوت خافت .. من كتاباتك عن المنظمات الفلسطينية شعرت أن لك علاقة كويسة بهم .. ونحن مجموعة من الضباط لم نتمكن من الانضمام لفتح وإحنا فى الأردن .. فهل من الممكن أن تعرفنى بأحد هذه المنظمات للانضمام إليهم والقتال ضمن صفوفهم .. وأنت شايف إن هنا فى مصر رافضين على أساس أننا فى مرحلة استعداد .. فنظر إلى (وجيه) وقال .. فى اللحظة دى بس حسيت أن ولاد مصر لسه بخير ووافق على الذهاب معى إلى منظمة فلسطينية موجودة فى شارع شامبليون وسط البلد وتواعدنا فى اليوم التالى ومررت عليه فى بيته بمصر الجديدة والذى كان يقطنه آنذاك .. وكان يسكن قريبـاً منى – وتوجهنـا للمنظمة وقابلنا المناضـل (أحمد جبريل) وكان معه اثنان من الفلسطينيين. عرفتهم بنفسى وعرضت عليهم الأمر بأنى ومعى عدد كبير من الضباط .. ووجدت أغرب رد لم أكن أتوقعه .. حيث قال أحد الجالسين بالنص (والله يا أخى .. هذا ما وقت للمؤامرات .. طيب وليش ما تعملوا زينا منظمة وتحاربوا فى سيناء) .. ظنا منه أننا مدسوسون من قبل المخابرات عليهم .. فوجئت أنا و(وجيه) بهذا الرد .. وتركنا المجلس – وعند عودتنا ورغم غضبنا وخيبة أملنا .. قررنا ونحن عائدون فى الطريق وأنا أقود سيارتى إلى مصر الجديدة – أن نقوم بتكوين منظمة.

وفى أثناء عودتنا .. ومع حماس الشباب الذين لم يتجاوزوا الثلاثين عامًا .. والفكر الثورى الذى يجمعنا .. وقلوبنا المعجونة بالكره للإسرائيليين والرغبة فى استرداد الكرامة – اتفقنا على أن نسمى المنظمة منظمة سيناء العربية.

وبدأت الاتصال بالضباط وبعض الصف ضباط الراغبين فى الانضمام إلى المنظمة وكان هذا يتطلب السرية والحذر فى من اتصل به .. وكنت أضم من يريد الانضمام على فترات وبحذر شديد .. وقد تمكنت من تجميع عدد من الضباط والصف ضباط لا بأس به – وكان لابد من الاتصال ببدو سيناء وبالذات بدو جنوب سيناء .. والتى أعرف دروبها جيدًا ومسالكها .. كما أنها منطقة جبلية يسهل الاختفاء بها والتعايش وسط كهوفها وجبالها – وأحضرت الخرائط لأحدد أماكن التمركز .. وفى ميدان الضاهر بالقاهرة حيث كنيسة سانت كاترين وهى المقر لكنيسة دير سانت كاترين بجنوب سيناء .. حيث هناك قهوة بلدى بجانبها وكانت مقرًا لبدو جنوب سيناء وخاصة قبيلة الجبالية والتى تسكن منطقة سـانت كاترين بجنوب سـيناء حيث جبال موسى وجبل المناجاة وجبـل كاترين وقصر عبـاس وغيرها من الجبال التى تصـل ارتفاعها إلى آلفين وثلاثة آلاف متر وهى جبال وعرة.

كما استغللت صلتى بأحد جنود السجن الحربى وكان بلدياتى .. وبدأت بالاتصال بضباط الصاعقة المسجونين بالسجن الحربى فى قضية المشير عامر .. وبالأخص زميلى (مختار الفار) وعرضت على الضباط عن طريق مختار خطة لتمكنهم من الهرب ووضعت خطة لذلك على أساس أن معظمهم من خبراء منطقة جنوب سيناء أمثال الرائد (سعيد عثمان) و(مختار) .. وبالتأكيد أن منهم من سيرغب فى الانضمام للمنظمة – ولكن مختار أبلغنى بعدم الرغبة فى الهروب خوفا على من المغامرة فى حالة هروبهم وبالطبع لم أبلغ أحدًا منهم عن المنظمة. كما اتصلت بشاب وتعرفت عليه وتحمس للفكرة .. وكان يعمل موظفًا بمحافظة سيناء فى العلاقات العامة والتى كان مقرها حلميه الزيتون وكان يدعى (سعيد) .. وقد سهل لى الاتصال بمجموعة من شباب بدو سيناء والموجودين سواء بالقاهرة أو بلبيس بالشرقية. كل هذه التحركات كان يرافقنى فى تنظيمها زميلى والذى جمعنا الحماس وهو (وجيه أبو ذكرى) وفى بعض الأحيان كان ينضم إلينـا صحفى آخـر بأخبار اليوم اسمه (حامد زيدان) .. وكانت كل مقابلاتنا .. إما بالقهوة بالضاهر أو كازينو بشارع رمسيس أسمه كازينو مصر والسودان .. بجوار ضريح (أحمـد ماهـر) بالعباسية .. وقد تم بناء مستشفى حاليا مكانه. وكان الاتفاق بينى وبين وجيه على أنه سيتولى وهو فى القاهرة مؤازرتنا عندما نستقر بجنوب سيناء إعلاميا وماديا حيث اتفقنا على بيع كل منا سيارته لتمويل هذه العملية بصفة مبدئية. وفى الخطوات الأخيرة وعندما اتصلت ببعض المشايخ وخاصة شيخ قبيلة المزينة ويدعى الشيخ (بريك) والشيخ (المغبش) عن طريق ابنه (عيد المغبش) والذى كان بالقاهرة فى فترة وجيزة والشيخ (سليمان مدخل) شيخ قبيلة العليقات – وجدت إن الجميع أشار على بضرورة الاتصال بشيخ مشايخ سيناء وهو الشيخ (عيد أبو جرير) والموجود بجزيرة (الطحاوية) بجوار مدينة (الحسنية) بفاقوس شرقية وكان ذلك هو النظام القبلى لسيناء عبارة عن مشايخ ويعلو عليهم شيخ المشايخ .. وهؤلاء يشكلون الرموز .. الذى للأسف أفسده النظام الأمنى مؤخرا عندما تولت الشرطة الأمن بسيناء فى العقد الأخير من القرن العشرين.

تحركت أنا و(وجيه) وصحبت معى صديقى ببلدتى الأستاذ (أحمد واكـد) وهو صديق الطفولة .. لما له دراية بمنطقـة الحسنيـه للذهاب إلى مقابلة الشيخ (عيد أبو جرير).

وعندما وصلنا إلى المنطقة التى يقطن بها الشيخ (عيد) .. وهى منطقة صحراوية بجانب بلدة الحسينة .. وكانت عبارة عن مضرب خيام وبها بيت الشيخ وهو الوحيد المبنى بالطوب اللبن ومسقف بالخشب والجريد وكان بجانبه مقعد عربى عبارة عن مسطبة طويلة حوالى 20 متر عليها بطول المصطبة مظلة بالخشب والجريد (جريد النخل) وكان بطول المصطبة يجلس عليها البدو .. والشيخ عيد يجلس فى الصدارة على مصطبة صغيرة متصلة بالمصطبة الأصلية .. وهذه المنطقة يؤمها كل البدو والنازحين من سيناء سواء بصفة متصلة أو مؤقتة.

جلسنا فى آخر المصطبة وكان الجالسون يتحركون واحدًا تلو الأخر فى اتجاه الشيخ عيد .. ويتكلم معه عن مشكلته .. فيضع يده على رأس الشـاكى ويقرأ بعض الآيات أو يضع مسبحته فى الشـاى ويشـرب الضيف الشاى .. وغيره من أمور التبرك مع الشيخ.

وبعد أن تكلم مع اثنين أو ثلاثة .. وجدت الشيخ قد قام وسار فى اتجاهنا .. حيث كنا نحن الأفندية الوحيدين ثم أشار إلينا لكى نتبعه إلى مكان بعيد قليلاً – وارتكز على الأرض وقمت أنا ووجيه بتقليده فى الارتكاز .. وقال طلباتكم – فسردت له كافة التفاصيل وما ننوى عمله وعن اسم المنظمة .. ونظر لى نظرة طويلة وكأنه كان يقرأ أشياء كثيرة .. أو كأنه يمارس فراسته البدوية فى كلامى .. ثم قال .. فى لواء وطنى وشجاع أسمه محمد صادق أعرض عليه الكلام .. وأكيد سوف يأخذ الكلام ده موضع جاد ويساعدكم .. فقلت له وقد أصابنى خيبة أمل .. أنت تعلم أن اللواء (محمد صادق) ده هو مدير المخابرات الحربية – فقال أنا عارف .. وعارف وطنيته كويس – ثم عاود الصمت والتفرس فى وجهى مره أخرى ليقرأ انفعالاتى غير مرحبة بكلامه .. حيث قلت له ده ممكن لو عرف يقبض علينا – فقال مش ضرورى تقوله على كل حاجة ثم عاود وقال .. شوف يابنى لو رفض صدقنى حكون قبل منكم ومعاكم فى سيناء ثم وقفنا وحضننى وهو يردد .. حكون قبل منكم وتعانقنا وفى مشهد حماسى غير مألوف وضعنا يدنا فى يد بعض وحاول كل منا أن يقبل يد الآخر. لكنى لا أعلم لماذا تحمست بعدها لما قاله .. وأخذت الموضوع كأنه إلهام إلهى أوحى به الله له .. قد يكون تأثيرًا لما شاهدته منه فى المجلس مع البدو. وفى أثناء عودتنا تشاورت أنا ووجيه فيما سنفعله .. وقررنا أن نقوم بهذه المغامرة غير محسوبة .. وكان لها احتمالان لا ثالث لهما – وهى إما أن يتبنى اللواء (صادق) هذا العمل وأما أن يتم القبض علينا وإيداعنا فى السجن .. فقررنا أن أقوم بالذهاب للواء (صادق) لمقابلته بإدارة المخابرات الحربية.

 

المخابرات الحربية

فى اليوم التالى توجهت إلى إدارة المخابرات الحربية بشارع الثـورة بمصر الجـديدة .. وتوجهـت إلى مكتب اللواء (محمد صادق) .. ودخلت إلى مكتب سكرتيره وهو المقدم (محمد قناوى) .. وكان المكتب يعج بضباط برتب كبيرة ومدنيين .. كلهم فى انتظار مقابلة اللواء صادق. وقلت للمقدم (قناوى) مدعيا أن اللواء (صادق) طالبنى وأنا حضرت حسب الميعاد وذلك بعد أن قدمت له نفسى وإنى من ضباط الصاعقة برتبة نقيب .. والغريب أنه لم يكتب اسمى فى ورقة كالعادة لتقديمها للواء (صادق) .. بل دخل مباشرة وأخبر اللواء (صادق) والذى قال لى المقدم (قناوى) مشاورًا أن أدخل – وكان ذلك دون انتظار دورى فى الدخول.

أديت التحية للواء (صادق) .. وبعد أن فردت الخريطة التى كانت معى لجنوب سيناء – وشرحت له خطة العمل فى سيناء خلف خطوط العدو متحفظًا على ذكر أى أسماء ممن تتكون منهم المنظمة سواء عسكرى أو مدنى – إلا أننى ذكرت أن معظم ضباط الصاعقة اللى فى السجن الحربى هم أكفأ الناس بمعرفة جبال سيناء – وهنا قاطعنى بحده وقال خليك فى نفسك .. فأكملت له الشرح .. ونظر إلى وقال كويس إنك حضرت بنفسك وتشرح لى الكلام ده .. بدل ما كان حينقبض عليك ثم أسرد تعرف تدخل جنوب سيناء وتكتشف لنا فين المطار اللى بتطلع منه طائرات الميراج اللى بتهدد طائراتنا الميج 17 اللى موجودة فى مطار (الغردقة) .. لأن المعلومات أن مطار شرم الشيخ بتاعنا ومطار (الطور) لا يعملان .. وعلى فكرة فى اثنين ضباط دخلوا قبل منك ووقعوا فى الأسر .. وهو الملازم أول (بهجت خضير) والملازم أول (رأفت جمعه) – فقلت له ما فيش غير ثلاث أماكن تصلح أنها تكون مطارات وهى (سهل الراحة) بمنطقة (كاترين) و(رأس نصرانى) وهى شمال شرم الشيخ بحوالى 20 كم ومنطقة (وادى نبق) شمال رأس نصرانى .. فقال المعلومات المؤكدة أنه لا يوجد مطار بمنطقة كاترين وبشكل عفوى أخرجت من جيبى علبه سجائرى من النوع الصغير (البوكس) وكانت تحمل عشر سجائر وكان بها سجارتين أو ثلاثة وضعتهم فى جيبى وفردت العلبة وتناولت قلم من المكتب ورسمت جنوب سيناء فى شكل مثلث .. وقلت له ممكن يا فندم أخرج من الغردقة ثم اتجه بحرًا إلى منطقة (رأس جاره) بسيناء ثم الدخول فى وادى (تعالبى) ثم إلى جبل (الجعيدة الكبير) والذى يطل على منطقة (رأس نصرانى) لرصد المطار وتصويره إن وجد – وإن لم أجده  فسوف أتحرك إلى (وادى نبق) لاستطلاع المنطقة. تناول منى اللواء (صادق) ما كتبته وكان وقتها قد ترك المكتب وجلس أمامى على الكرسى وبيننا ترابيزة صغيرة وأمسك بقلم أحمر وأشر تأشيرة غريبة على نفس الورقة (همجى .. تصدق) ووقع عليها. ثم استمر فى الكلام .. على فكرة اللواء (الشاذلى) أصدر أمر بنقلك من الصاعقة إلى الكلية الحربية .. استلم الجواب وتيجى هنا علشان تلتحق على المخابرات الحربية. ثم اتصل تليفونيا بمكتب مخابرات السويس وكان قائده العقيد (بشير) وكان يشرف على الغردقة حيث إنه لا يوجد مكتب للمخابرات بالغردقة حتى الآن .. وأخبره أنى سوف أحضر له وعلى المكتب أن يتولى دفعى لاستطلاع منطقة رأس نصرانى .. ثم التفت لى وقال بعد ما ترجع نبقى نشوف موضوع منظمة سيناء. فأديت التحية وسلم على باليد .. وقال على فكرة (وجيه) بتاعك ده (ويقصد زميلى وجيه أبو ذكرى) أنا حبعته يشتغل فى الكويت بدل ما أقبض عليه – وهنا تأكدت أن جميع تحركاتنا كانت مرصودة .. وهنا تذكـرت كلامه فى أول المقابلة (كويس أنك جيت برجليك .. بدل ما أقبض عليك) .. وهنا عرفت سر دخولى مكتبه فى غير دورى.

وخرجت من مكتبه وأنا لا أصدق نفسى وأحسست أنى وضعت قدمى على أول طريق لتحقيق أحلامى .. وهو العمل ضد العدو خلف خطوطه وفى العمق وتذكرت كلام الشيخ عيد أبو جرير .. وهنا أيقنت أنه فعلا كلام رجل ملهم .. وأخبرت (وجيه) بما تم بينى وبين اللواء (صادق) وتوجهت فى اليوم التالى إلى قيادة الصاعقة .. حيث تسلمت بعد عدة أيام خطاب نقلى إلى الكلية الحربية – فتوجهت به إلى المخابرات الحربية وتم إلحاقى بالمخابرات الحربية فرع الخدمة الخاصة.

قدمت نفسى إلى العقيد فائق صادق رئيس فرع الخدمة الخاصة .. وبعد عدة أيام توجهت إلى مكتب مخابرات السويس حيث قابلت العقيد فاروق بشير قائد المكتب والرائد (يحيى شبايك) وهو أحدى أعضاء المكتب والمسئول عن التشغيل ودفع المأموريات خلف الخطوط إلا أنى وجدت منهم تخوفًا من دفعى خلف الخطوط حاليا .. وذلك نتيجة أنهم لم يوفقوا فى مأموريتين سابقتين إلى جنوب سيناء حيث تم أسر الضابطين وهما الملازم أول (بهجت خضير) والملازم أول (رأفت جمعة) .. واللذين تم استبدالهما بأحد الأسرى الإسرائيليين المحتجزين بمصر. وطلبوا منى أن أرجع إليهم بعد أسبوع .. وفعلا رجعت إلى القاهرة لأخبر اللواء (صادق) بذلك – ولكنى فوجئت بعد عدة أيام بأن العقيد فائق استدعانى إلى مكتبه وكان يجلس عنده رائد يدعى (عاشور) .. وكان أمامهم خريطة لتلقينى بمأمورية فى شمال سيناء .. وكانت عبارة عن التحرك بين مضيقى (متلا) و(الجدى) والهدف هو أن أتمم على أعمال مجموعاتنا المزروعة خلف خطوط العدو .. وشعرت وقتها بضحالة الهدف والفكرة والتخطيط – وكان عندى الشجاعة الكافية للرفض وإبداء الرأى وهو أني أريد أن أعمل عمل إيجابيًا .. لا أن أقوم بدور وسيط أو دور المفتش على أعمال سلبية خلف الخطوط .. وقد اعتبرته تفكيرًا غريبًا لرجل مخابرات.

توجهت بعد أسبوع إلى مكتب مخابرات السويس .. ليخبرنى العقيد فاروق بشير أن الوقت حاليا غير مناسب وعلى أن أرتد إلى القاهرة .. وأنه سوف يخبرنى فى الوقت المناسب.

فخرجت من مكتب السويس .. وقد قررت أن اتجه إلى الغردقة – حيث كنت على علم أن بالغردقة بعض المهجرين من جنوب سيناء .. وقد قررت أن أجند مندوبًا وأتولى بنفسى التخطيط والتحضير للعملية.

فبدأت مشوارى ظهرًا وكان معى الشاويش (محمد عبده موسى) وهو أحد أفراد الصاعقة المشهور له بالوطنية والجرأة وكنت قد طلبت أن يلحق معى من الصاعقة على أساس أن يخرج معى لعملية الاستطلاع أو أن أدفعه لكى يستطلع مطار (الطور) – وأتذكر حتى الآن رقم السيارة الجيب الروسى التى كنت أتحرك بها وهى (527 ملاكى السويس) وكان سائقها شاويش يدعى (جرجس) – وكان طريق السويس الغـردقة ردئ السفلتة ومكسر فى معظم المناطق .. ووصلنا إلى الغردقة ليلاً بعد أن هاجمتنا الطائرات الإسرائيلية أكثر من مرة وكنا نتفاداها بالمراوغة فى الصحراء المنتشرة طوال الطريق. وهناك التقيت ببعض البدو والذين سبق لى معرفتهم أيام خدمتى بمنطقة جنوب سيناء عندما كنت معلمًا بجناح الجبال بالصاعقة وفرحت عندما أخـبرونى أن قائدًا مكتب مخابرات الحـدود هو المقدم (محمود فهمى) .. لمعرفتى الوطيدة به .. أيام خدمتى بجنوب سيناء وكان قائد لنفس المكتب بجنوب سيناء – وقد رحب بى وساعدنى فى تجهيز الدليل الذى سوف يرافقنى .. وكذلك مركب الصيد الذى سيقوم بعملية الإبرار والالتقاط بعد تنفيذ المهمة – وكان لا ينقصنى إلا التصديق على الخطة من اللواء (محمد صادق) فسافرت فى اليوم التالى إلى القاهرة وقابلت اللواء (محمد صادق) .. وأطلعته على التخطيط فـرحب بتعاون المقدم (محمود فهمى) وصدق على أن تتم العمليـة عن طريقـه مـادام مكتب مخابرات السويس يؤجل بدء العمـل فى هذه المأمورية.

 


 

استطلاع منطقة رأس نصرانى

(العملية رجائى1)

العملية رجائى: سُميت بذلك عندما عدت من المأمورية من قبل اللواء (صادق) حيث كانت العملية (رجائى2) هى استطلاع مطار الطور والتى قام بها الرقيب (محمد عبده) .. والتى قمت بالتخطيط لها وتجهيزها ودفعه إلى منطقة الطور. كان علىّ أن أدبر المبلغ الذى سوف أجهز به إداريات الدورية وهى عبارة عن المأكولات المطلوبة واللبس البدوى حيث قمت بشراء جلباب وأخذت جاكت قديم من أخى الأكبر (سـيد) واشتريت صندل من النوع الذى يرتديه البدو .. وكذلك مبلغًا مناسبًا سوف أعطيه للدليل لإعطائه لأهله للإنفاق منه خلال فترة المهمة وكان فى حدود خمسة وعشرين جنيهاً وكذلك عشرين جنيهًا أخرى لمركب الصيد عن ليلة الإسقاط وليلة الالتقاط – فقابلت شقيق صديقى المقرب لى وهو الرائد (عادل فؤاد) قائد مكتب بورسعيد والذى شارك فى إزعاج العدو بعدد هائل من العمليات الخاصة خلف الخطوط تجاوزت المائة عملية سواء من خلال مكتبه ببورسعيد أو مكتب مخابرات القنطرة التابع له وكان قائد مكتب القنطرة النقيب (مدحت مرسى) .. لقد كانوا أبطالا قاموا بأروع العمليات التى أوجعت العدو الإسرائيلى .. ولكن التاريخ نسيهم .. ولكن الله لن ينساهم.

شرحت للرائد عادل الأمر فصرف لى مبلغ ستين جنيهًا فحجزت مبلغ 40 جنيهًا لكل من الدليل والمركب الذى سيقلنا وفصلت جلباب بيج سادة بمبلغ جنيه ونصف وصندل بخمسين قرشاً واشـتريت معلبـات من سـردين وتونـة ودقيق بمبلغ 6 جنيهات ولم أنسَ برطمان السمن البلدى والذى أحضرته من منزلى .. والذى أوصانى به البدوى (الدليل) وكذلك الدقيق والذى قام بصنع فطيرة منها أثناء الدورية على الحجر والتى كانت القطمة منها تشبعنا لعدة ساعات.

وقد تبقى معى اثنى عشر جنيهًا حيث قابلت الرائد عادل بعد عودتى لأرد له الباقى والذى أخبرنى أنه لا يمكن ردهم للخزنة مرة ثانية – الأمر الذى صار يؤرقنى لمدة طويلة وشعورى أنى مدين للجيش بهذا المبلغ لقد كنا فى هذا الجيل من العفة - وإن كنت صرفتهم .. بل أضفت عليهم من جيبى الخاص لخروج الدورية الثانية (رجائى2) وهى استطلاع مطار الطور.

سير العملية: فى إحدى ليالى الشتاء القارس عام 1968 تحركت من الغردقة وبصحبتى الدليل العربى (سليمان أبو سالم) والذى تعدى سن الخمسـين بفـترة وذلك فى أحد مراكب الصيد المتواجـدة بالغردقـة وكان ريس المركب شاب اسمه (حسين عايد) ومعه ميكانيكى للقارب – وقد قام بتجهيز المركب لهذه الرحلة رئيس شركة المصايد بالغردقة اسمه الأستاذ (محمد عوض) وهو بورسعيدى الأصل ومن العائلات التى هجرت من بلادها بسبب الحرب .. وقد كان له دور فيما بعد فى المشاركة فى الخدمة الوطنية للدوريات التى قامت من الغردقة وتوطدت الصداقة بعد ذلك بيننا عندما خدمت بعد عدة سنوات بمكتب مخابرات الغردقة وقد لمست خدماته الجليلة للوطن والمساهمة للأعمال الحربية .. وقد تولى فيما بعد رئيس مجلس مدينة الغردقة ثم رئيس مجلس محلى البحر الأحمر لما تمتع به من شعبية بين أهل الغردقة. تحركنـا من منطقة نائية من شمال مدينة الغردقة مباشـرة وتسمى منطقة جبل أبو شعر (وهى الجونة الآن) بمركب الصيد إلى الجانب الشرقى لخليج السويس حيث تم إنزالنا بمنطقة (رأس جارة) وهى جنـوب مدينة الطور بحوالى 40 كم تقريبا .. حيث توقف قارب الصيد قبل الشاطئ بحوالي 200 متر ونزلنا فى قارب صغير يسمى فيما بينهم (الدنجى) حيث رسى بنا على الشاطئ ثم رد بالدنجى مرة أخرى لقارب الصيد.

ولم أنسَ فى حياتى لحظة وصولى إلى الشاطئ .. وعندما رقدنا لاستطلاع الأرض أمامنا حيث لمست يدى رمال سيناء .. ووجـدت نفسى أضع يدى والعالق فيها من الرمال على صـدرى من خلال الجلباب ثم أدلك صدرى ورقبتى بتلك الرمال وبعد مسافة حوالى 1 كم وجدنا طريق الطور شرم الشيخ فعبرناه بطريقة معينة لكى نخفى أى أثر لأقدامنا .. وتحركنا إلى أن وصلنا إلى مدخل وادى تعالبى عند الفجر تقريبا .. وبحث الدليل الذى معى على مغارة بجانب بئر مياه كان على علم بها ومكثنا بتلك المغارة النهار كاملاً .. حيث كان مقررًا أن نسير ليلا ونختبئ بالنهار وكان على مقربة من المغارة مضيق (طريق رملى) .. كنا قد عبرناه بطريقة تخفى أثر أقدامنا .. واتجاه السير – وفعلا عندما مرت داورية مكونه من عدد أثنين عربة جيب لاقتفاء أى أثر للأقدام .. وتوقفت فترة متشككة فى أن أحد قد مر من هنا .. ولكنها لم تهتدى لشىء .. وحمدنا الله أن طريقة عبورنا للمضيق كانت موفقة .. وكنت قد أعطيت قائد لنش الصيد (حسـين عايد) دوباره .. وقلت له مع بداية كل نهار تعقد الدوبارة عقـدة وفى العقدة التاسعة تحضر ليلا لالتقـاطنا من نفـس المكان عند منطقة (رأس جارة) .. حيث قدرت لخط السير أربعة أيام ذهاب وأربعة عـودة ويوم احتياطى.

وفى الليلة الثانيـة تحركنـا من وادى (تعالبى) إلى وادى (العاط الغربى) حيث أختبأنا طوال النهار .. وفى الليلة الثالثة تحركنا من وادى (العاط الغربى) إلى وادى (العاط الشرقى) من خلال نقب العاط (والنقب عبارة عن مكان خانق بين الجبلين) ولكن ما أن عبرنا نقب العاط ودخلنا فى وادى العاط الشرقى .. فوجئنا بخيمة على الجانب الأيسر وتبعد عن المدق بحوالى عشرة أمتار .. بجانبها أربعة جنود إسرائيليين حول راكية نار وبقرب المدق بخطوات جنديين يتحدثان مع بعضهما – وكنت أسير فى الأمام والشيخ سليمان خلفى مباشرة وكان القمر فى ليلة 14 وساطعاً .. فأستمريت فى السير بنفس الثبات .. ورغم الظلام إلا أننى أكاد المح بياض أعينهم .. وبنفس الثبات ألقيت السلام (شالوم) .. ولم يرد أحد منهم ولم التفت إليهم بعد أن عبرتهم .. ولكن فى خلال الخطوات حتي صرت بحزاهم .. كنت قد أخرجت من جيب الجاكتة قنبلة يدوية كنت قد احتفظت بها عند تجهيزى حيث أنى أرفض فكرة الأسر وكنت أنوى أن أنزع التيلة لتنفجر فينا جميعاً فى حالة حدوث أى مشكلة .. ولكن مر الأمر بسلام واستمرينا فى السير عبر الوادى إلى نهايته ووصلنا نهاية منطقة جبال (العاط الغربى) وهى منطقة مرتفعة تطل من بعد علي خليج العقبة وكان المفروض أن نستمر فى السير إلى جبل الجعيدة والذى يطل على خليج (العاط) حيث منطقة (رأس نصرانى) .. والتى من المفروض أن نستطلع منها هل كان هناك مطار من عدمه. إلا أن الدليل أخبرنى أن المسافة طويلة وأن النهار سيطلع علينا ونحن فى أرض مكشوفة فمكثنا فى منطقة جبل (لعاط الغربى) على قمة جبل مرتفع داخل إحدى الخيران .. وعند طلوع النهار بعد ساعتين اكتشفت أن جبل (الجعيدة) قريب منا على مسافة مسيرة ساعة .. أى كان من الممكن الوصول إليه أثناء الليل لتنفيذ المهمة .. وهنا أحسست أن الدليل يخشى الاقتراب أكثر من ذلك .. والذى أكد لى ذلك أنه عندما تبادلنا كالعادة النوم والحراسة .. اكتشفت أنه فى أثناء حراسته ونومى أنه قد أفرغ المياه التى كانت معنا حتى أضطر للتصوير والاستطلاع من بعيد .. حيث أن مكوث يوم آخر سوف يعرضنا للعطش ثلاثة أيام بدون مياه .. وكانت إمكانيات الكاميرا التى معى لا تسمح بذلك والتصوير من هذا البعد .. وقد رأيت من هذه المسافة أن منطقة رأس نصرانى والمحيطة بخليج العاط بها مبانى مما يدل على أن هناك مطارًا .. خاصة بعد أن شاهدت إقلاع وهبوط طائرات مقاتلة من هذه المنطقة وهنا قررت أن أقطع هذه المسافة المفتوحة إلي جبل (الجعيدة) فى عز النهار وكان قرارى هذا فى الساعة الواحدة ظهرًا .. وكانت المسافة حوالى 5 كم .. أى ممكن قطعها فى ساعة زمن .. ورفض الدليل هذه المخاطرة فذهبت وحدى حيث وصلت جبل الجعيدة فى الساعة الثانية والنصف لأراقب حركة المطار من بعد حوالى 1 كم تقريبًا .. وبدأت فى تصوير المطار وعمل بانوراما كاملة له وتصوير حركة هبوط وإقلاع الطائرات .. وفى وقت المغيب صـورت

 


سيارة مكروباص تحمل أفرادًا وتخرج بهم خارج المطار فى اتجاه شرم الشيخ والتى كانت تبعد حوالى 20 كم من المطار وعندما حل الليل عدت إلى مكان الدليل والذى قابلنى عند العودة فى منتصف الطريق بالصدفة .. حيث كان يسير على آثار أقدامى وكان على أن أواصل السير فى نفس الليلة للعودة عند نقطة البداية والتى تركناها منذ أربعة أيام .. وفى نفس الوقت يجب قطع العودة فى يومين بدلا من أربعة على الأكثر وذلك لعدم وجود نقطة مياه معنا – وبالتالى يجب السير نهارًا مجازفاً بعنصر الأمن .. كذلك قررت تغيير خط السير حيث تعرضنا لخيمة الحراسة الإسرائيلية عند نقب العاط .. كل هذه القرارات اتخذتها بعد نجاحى فى تصوير مطار رأس نصرانى بثلاثة أفلام والفيلم 36 صورة.

وفى أول ليلة للعودة لم أعتمد على الدليل وبدأت السير بالاتجاه العام باستخدام النجوم والجبال متجنبا الوديان .. ومن المعلوم أن السير فى الجبال ليلا فيه صعوبة ومجازفة – ومع بداية ظهور أول ضوء أخذنا راحة فى أحد المغارات لكى نعاود السير فى النهار .. ولكننا استيقظنا على صوت طائرة هليكوبتر تجوب الجبال وهنا أيقنت تماما أن الإسرائيليين شعروا بوجودنا وأنهم يبحثون عن أى تحركات بالمنطقة. وعندما هدأت حركة الهليكوبتر بدأنا فى السير نهارًا عبر الجبال وفى الاتجاه العام لأول مغارة كنا قد مكثنا بها والتي بها بئر مياه .. وعندما كنا نسمع صوت الطائرة الهليكوبتر كنا نعاود الاختفاء بين الصخور – واستمر الحال على هذا المنوال طول النهار وأكملنا السير ليلاً إلى أن وصلنا إلى وادى تعالبى حيث المغارة الأولى وكان علينا أن نظل بها يومين بدون حراك حتى يأتى اليوم التاسع وهو يوم الالتقاط مع لنش الصيد.

لقد كان نشاط الهليوكبتر المعادى على أشده .. لدرجة أنه فى أحدى المرات وقفت الهليوكبتر محلقة على ارتفاع موازى للمغارة التى نختبأ بها .. ولكنها لم ترانا لأن الظلمة داخل المغارة تمنع الرؤية.

وقـد مـر اليومين فى انتظـار ميعاد اللنش بين القلق والملل .. لدرجـة أنه تربت صداقه بينى وبين بعض الفـئران الجبليـة الحمـراء .. فقـد كانت فى آخر يوم تأخـذ الطعـام من يدى مباشرة.

ومع العقدة التاسعة للدوبارة .. أى اليـوم التاسع هبطنا من الجبل ليلا إلى الأرض المكشوفة ولمسـافة 27 كم حيث منطقة (رأس جاره) المطلة على خليج السويس .. وعندما اقتربنا من المنطقة رأينا اللنش وكانت المفاجأة حيث شاهدت تجمع ما يقرب 12 – 15 فردًا قبالة اللنش وسمعت أصواتًا عالية .. فانتظرت فى مكانى وبدأت فى الاقتراب مستخدما كوديى الحشائش .. علاوة على أن طبيعة الأرض فى هذه المنطقة قرب الساحل بها مرتفع طولى رملى يشبه الجدار .. إلى أن وصلت لمسافة قريبة جدًا من هذا التجمع محاولا سماع أصواتهم لمعرفة هل هم بدو أم إسرائيليين .. فسمعت أن كل المتكلمين من البدو .. وكان صوتهم العالى فى محاولة لتوضيح ريس اللنش (حسين عايد) أنهم بدون أى عدو معهم .. وهناك ظهرت لهم وقابلونى بالأعناق وقال لى أحدهم أنا كنت عارف أنك موجود فى سيناء وذلك من أثر القدم اللى تركته على الرمال عند نزولى فى الذهاب .. وأنه يعلم أثر قدمى جيدًا أيام أن كنت شبه مقيم فى جنوب سيناء وقت أن كنت معلمًا بالمدرسة بجناح الجبال وكنا نتدرب فى جنوب سيناء .. المهم أنى طمأنت (حسين عايد) وأمرتـه بإرسـال الدنجي لكى نستقله إلى اللنش.

وعندما غادرنا الشاطئ وبعد ساعة تقريبا شاهدت مركب إسرائيلى عن بعد وكانت زاوية ظهور القمر على سطح المياه تساعد على إظهار المركب الإسرائيلى ..  فأمرت (حسين عايد) بإبطال موتور اللنش لعلمى أن حركة الموتور تجعلنا مكشوفين علي رادار مركب العدو .. وفعلا ضل العدو الطريق إلينا.

وبعد أن اطمأننت لذلك عاودنا التحرك فى اتجاه الغردقة .. وهنا أحب أن أذكر أن قائد اللنش (حسين عايد) أراد أن نتجه إلى جزر أبو طويلة القريبة من البر الغربى لخليج السويس .. وهى قريبة من جبل الزيت وذلك بعد أن ضل العدو طريقة إلينا .. وذلك لقربها والاختباء ضمن مراكب الصيد المصرية المنتشرة هناك – ولكنى رفضت بشدة .. ووصلت إلى استخدام العنف معه .. وفى صباح وصولنا للغردقة جاءت إشارة إلى مكتب مخابرات الحدود أن العدو هاجم الصيادين فى جزر أبو طويلة وأسر بعد الأفراد المشتبه فيهم – وهنا حمدنا الله وأيقنت أن العدو كان فى ترصد لنا منذ أن قابلت العدو الإسرائيلى فوق الجبال عند نقب العاط .. وذلك بعد تحركات هيلوكبتر العدو ومراكب حراسته فى خليج السويس.

وفى نفس اليوم تحركت بالعربة الجيب رقم 527 ملاكى السويس إلى القاهرة حيث إدارة المخابرات الحربية – وهناك تم تحميض الأفلام التي قمت بتصويرها وكتبت تقريرى والذى قدمته للواء (محمد صادق) والذى أرسلنى بالتقرير إلى رئيس فرع المعلومات المقدم جمال بركات .. حيث شرحت له كل شىء .. وتحدد تماما أن العدو نقل مطاره إلى منطقة رأس نصـرانى بدلا من مطار شرم الشيخ الذى سبق أن استولى عليه .. ويشـرف هذا المطار على خليج العاط والذى استبدلوه باسم خليج نعمـة .. وهذه قصة أخرى أحب أن أسـردها .. حتى يعلم المسـئولون مدى ما ننساق إليه من أخطاء أدبية وقومية .. وعسى أن تصحح الأجيال القادمة هذا الخطأ.

 

خليج العاط (نعمة)

    كما ذكرت من قبل أن خط سير المهمة إلى مطار رأس نصرانى كان من منطقة رأس جارة على خليج السويس إلى وادى العاط الغربى ثم نقب العاط إلى وادى العاط الغربى .. إلى أن ينتهى عند خليج العاط بخليج العقبة واسم العاط يقال أنه نسبة إلى العاطى وهو الله .. وفى قول آخر نسبة إلى قبيلة بنى عطية الموجودة على الجهة المقابلة على الشاطئ السعودى بمدنية تبوك وهى أحد القبائل العربية الكبيرة.

إلا أن الإسرائيليين غيروا اسم العاط باسم نعمة .. ونعمة هذه لها قصة .. وهى أن بنى إسرائيل بقيـادة (بن نون) وبعد وفاة سيدنا موسى .. قادهم (بن نون) إلى أرض الميعاد .. وكان العاصمة فى ذلك الوقت هى بلدة أريحا .. فضربوا خيامهم حول المدينة لرعى الأغنام وممارسة بعض الحرف مثل أى قبائل غجرية موجودة بجانب المدن – فأرسلوا بعضًا من نسائهم وكان أشهرهم سيدتين على جانب كبير من الجمال وهم رحاب ونعمة .. وقد أنشأو حانة فى بلدة أريحا يقام فيها السهر والرقص وشرب الخمر.

وقد أصبح سادة أهل أريحا وقادتهم من الحكام والمحاربين من زبائن هذه الحانة – وبعد فترة وفى مناسبة لأحد الأعياد أقاموا بالحانة حفلاً كبيرًا .. وسهر فيها هؤلاء القادة الفلسطينيين من أهل أريحا حتى الثمالة وهم فى حالة سكر ومجون مع هؤلاء الغوانى الإسرائيليات .. اللاتى أمعنوا فى مجونهن .. حتى فقد هؤلاء القادة السيطرة على أنفسهم.

وفى الفجر هجم قوم إسرائيل على الحانة وقاموا بقتل كل من فيها واستيقظ أهل المدينة ليجدوا أن بنى إسرائيل استولوا على البلدة .. ومن هذا التاريخ يمجد بنى إسرائيل هاتين السيدتين وغيرهن بإطلاق أسمائهم على المستعمرات والأماكن .. فقد سميت مستعمرة باسم رحابوت ومستعمرة باسم نعمـاتيات – وقد بدلوا اسم خليج العاط باسم خـليج نعمة ونحن بجهالة مازلنا نشـاركهم .. وصدق قول الشـاعر: (يا أمة ضحكت من جهلها الأمم).  تماماً عندما سـميت أسـماء الشركات التى أقامها مصـريون مثل مصانع ياسين للزجاج وشركات عبـود للملاحـة وطلعت حرب وبدلنـاها باسـم مصانع النصر للزجاج وشـركة النصر للملاحـة .. وغـيره .. وغـيره. وفى نفس الوقت تركنا اسم (بنزيون) أى (أبناء صهيون) على المتاجر والمحلات من الإسكندرية حتى أسوان .. ومن المعروف أننا نحارب الصهيونية.

أننا لم نكتفى بأن إسرائيل أطلقت اسم هذه المرسى على قطعة غالية من ارض الوطـن .. بل أطلقنـاه نحن على أماكن أخرى سياحية .. وفى إعلامنـا .. ووصـل الأمر بأنه تم أخراج فيلم لهذا الاسم.   

 

مطار الطور

     من المخطط أن يتم استطلاع فاعلية مطار الطور .. وهو أحد المطارات المصرية القديمة .. ولكن كان علينا أن نتأكد من درجة استعداده من قبل إسرائيل – وبذلك يكون تم تغطية القوة الجوية المؤثرة فى منطقة جنوب سيناء.

بعد أسبوع من العودة من مهمة استطلاع رأس نصرانى – رجعت إلى منطقة الغردقة وعن طريق مكتب مخابرات الغردقة والذى أنشئ فى خلال هذه الفترة الوجيزة تم التجهيز لهذه المأمورية والتى تولت التخطيط لها وقد اخترت أحد أبنائى بالصاعقة وهو الرقيب (محمد عبده موسى) لهذه المهمة وهو من الأفراد القـلائل الذين قابلتهم ويتمتعون بالذكاء والشجاعة والحماس والمبادرة فى آن واحد. وقمت بتلقينه خط سير الدورية والأماكن المحيطة بمطار الطور حتى يتمكن من أداء الاستطلاع بشكل وافٍ.

وتم دفعه من منطقة شمال الغردقة وهي منطقة الجمشة فى لنش الصيد الذى كان يقوده (محمد المبروك) المشهور بلقب (المجرم) ومعه دليل من قبيلة (المزينة) ويدعى سالم بريك وهو ابن شيخ (قبيلة المزينة). وكان المخطط أن يرسو اللنش قبالة قرية الصيادين جنوب مدينة الطور والتى أعلم أن الإسرائيليين قد دمروها وهجروا من فيها .. ثم التحرك ليلا إلى منطقة الجبانات والاختباء فيها وهى على بعد عدة كيلومترات من القرية .. وقضاء طوال النهار فى الجبانة لتصوير المطار .. ثم الانتقال ليلا إلى منطقة (الكرنتينا) حيث يتم الاختفاء فى مواسير المجارى المهجورة بمنطقة (الكرنتينة) وقضاء نهار كامل ليتم التصوير للمطار ورصد التحركات .. على أن يرجع فى الليلة الثالثة إلى منطقة قرية الصيادين ليتم التقاطه والعودة إلى منطقة الجمشة بخليج السويس. وقد تمت المأمورية بنجاح واستقبلته لأعد تقرير بما شاهده وما ظهر بالصور – وثبت أن المطار لا يستخدم كمطار حربى ولكنه يستغل كمنطقة إدارية وأن ما يهبط بالمطار هو طائرات النقل للتشوينات بالمنطقة بالإداريات اللازمة لمنطقة جنوب سيناء .. حيث ثبت أن مدينة الطور هى مركز للشئون الإدارية لمنطقة جنوب سيناء .. ابتـداء من رأس سدر حتى شرم الشيخ وأن بها قاعدة إدارية كبيـرة .. وقد تم تسليم التقرير إلى فرع المعلومات بعد أن عرضته على اللواء (محمد صادق) مدير المخابرات.

وقد ساعدت هاتين المأموريتين على إعادة نشاطى بالاتصال ببدو سيناء ومعرفتهم عن قرب .. وكذلك ببعض من أصحاب لنشات الصيد .. وقد أفادنى هذا كثيرًا فيما بعد فى المأموريات التى قمت بها فى جنوب سيناء وخاصة عندما خدمت بمكتب مخابرات الغردقة عام 1971 – وكذلك فى الأعمال الحربية على جنوب سيناء فى معركة أكتوبر 1973 حيث قمت أثناء خدمتى بمكتب مخابرات الغردقة بحوالى 24 عملية خلف الخطوط فى الفترة بعد إيقاف النيران عام 1970 – كما قمت بإعداد وتدريب مجموعة من البدو تقدر بحوالى 13 فرد من الشباب .. وتم تدريبهم على الاستطلاع والمراقبة والتصوير وزرع الألغام والضرب بالصواريخ .. وقد قامت هذه المجموعة بأعمال سيتم ذكرها فيما بعد.


 

الناصية الخامسة

فى هذه الناصية تجمع كل ما اكتسبته منذ نعومة أظافرى حتى هذه الناصية من معارف وثقافات ومبادئ من الدين والدنيا .. لكى أضعه وأعمل به فى سبيل الله والوطن .. لقد نذرت كل ما أقوم به قربانًا إلى الله .. راجيا أن يتقبله منى.

فإنى لم أسعى إلى نياشين .. كنت قد حصلت عليها .. فإن أى نيشان حصلت عليه كنت ألقى به فى أرضية دولاب ملابسى .. خوفا أن تقلل من نصيبى عند الله.

كما أنى لم أسعى إلى ترقية حيث ترقيتى إلى رتبة المقدم وكنت لم أمكث برتبة الرائد أكثر من ثمانية أشهر – علما بأن من ترقى فى معـارك الاستنزاف لم يتجاوز عددهم أربعة من الضـابط طـوال معـارك الاسـتنزاف من 67 إلى 73 وكنت أحدهم.

حقيقة واحد كنت أعيشها .. وهو أنى كنت أتمنى الشهادة فى سبيل الله والوطن.

وكانت اسعد أوقاتى فى أى عملية حربية تبدأ فى الصباح عند مغادرتى المنزل وعند عودتى إليه – فبرغم أنى لا اذكر شىء لأى أحد عن العملية التى سوف أقوم بها .. إلا أنى ألاحظ أن أمى وزوجتى وأحيانا جدتى عندما تتواجد فى بعض الأحيان معنا .. وكأنهم فى داخل مشاعرهم أنه ذاهب إلى عملية ما .. حيث كنت أجد فى أعينهم لمعان الفخر والاعتزاز بى .. وليس القلق أو الخوف .. وكانت جدتى تخصنى بدعاء (الله يخفى عين العدو عنك) .. رغم أنها لا تردده فى أى يوم آخر – أما السعادة الثانية عندما أعود للمنزل فى أى وقت من الليل أو النهار .. لأجد أمى فى صالة مدخل المـنزل وهـى جالسـة فى الظـلام تسـتمع إلى الراديو لأى أخبـار من محطة (B.B.C البريطانية) والتى لا تحرك ساكنا عند دخولى لتقول (حمد الله على السلامة) بنغمه لا تفارق أذنى حتى الآن .. وفى نفس اللحظة تخرج زوجتى من غرفتها لأستقبالى .. رغم السكون الذى يحيط بالمنزل حتى عند دخولى إليه.

فى هذه الناصية اذكر ظروف أنشاء ومعارك المجموعة 39 قتال التابعة لفرع العمليات الخاصة بالمخابرات الحربية حيث كان المقدم (إبراهيم الرفاعى) رئيس فرع العمليات الخاصة وكنت أنا منذ إنشاءها إلى إيقاف النيران عام 70 قائد لهذه المجموعة (وهى سريه من ثلاث فصائل صاعقة + فصيلة قوارب من الصاعقة البحرية) .. وفى نفس الوقت كنت رئيس لقسم الاستطلاع والتدريب بالفرع وكان الرائد (عصام الدالى) رئيس فرع العمليات.

أن الفخر لأفراد هذه المجموعة أنهم الرواد فى العمل الخاص خلف خطوط العدو .. وكان هذا يتمناه كل ضابط وجندى بالقوات المسلحة .. ولكن الله خصنا بهذا العمل الريادى .. ويجب ألا ننسى أن أفراد ووحدات كثيرة سواء من الصاعقة أو الجيوش قامت بنفس أعمالنا فيما بعد وبنفس الكفاءة.

أننى اذكر فى كتابى هذا كأحد القيادات لهذه المجموعة وأوضح للتاريخ وللأجيال خلاصة أعمال هذه المجموعة والتى كانت أعمـال عظيمـة من كمـها ومضمـونها بقيادة المقدم (إبراهيم الرفاعى) رئيس فرع العمليات الخاصة والذى بث روح التعاون والشجاعة والفدائية فى أفراد الفرع والمجموعة 39 قتال – لأن هناك من زايد على أعمال المجموعة فى تصريحات إعلامية أو كتب أصدروها .. فمنهم من يقول خمسون عملية وأخر سبعون آخرون يقولوا مائة وخمسة عملية .. وذلك مما يسئ لمصداقية أعمال المجموعة .. بل أن هناك صحفى قد رافقنا فى عمليتيـن أو ثلاثة وأصـدر كتابا مؤخرًا .. لا أعلم من أين أتى بهذه العمليات .. ووصل الأمر بأن أحد الضباط الصغار فى ذلك الوقـت .. من هو يذكر أن تجربة قارب جديد على شواطئنـا فى البحر الأحمر .. على أنها عملية حربية.

والأدهى .. أنه عندما كرم الفريق أول (محمد صادق) وزير الحربية آنذاك أحد الضباط .. بأن أرسله ملحق حربى باليمن .. فقد ذكر فى كتاب له .. أن أعمال القوات البحرية فى أثناء معركة 73 والتى كانت تأمين وأعمال سلبية أمام المرور البحرى الإسرائيلي .. على أنها من أعماله وكأنها امتداد لأعمال المجموعة 39 قتال .. كيف !!.

 

فكرة المجموعة 39 قتال

     فى أعقاب معركة 1967 والتى كانت آخر معركة فيها هى معركة رأس العش والتى تحالفت فيها كل قوى الجيش الإسرائيلى من مدفعية وطائرات ودبابات ومشاه لكى تزحزح هذه الفصيلة والتى كان قوامها ثلاثين فردًا بقيادة ضابط برتبة ملازم .. حديث التخرج ومعه رقيب اسمه (حسنى سلامة) متمرس ووطنى لكى تحتل هذا المكان الذى يفتح أمامها الطريق إلى مدينة (بور فؤاد) – ولكنها لم تتمكن من ذلك .. بل منيت بخسائر جعلها لا تفكر فى إعادة الكرة مرة أخرى وهنا ظهر معدن الجندى المصرى عندما صدر له أمر بالصمود فى المعركة بعد أن كانت الأوامر السابقة كلها انسحاب – والغريب أن نفس الموقف حدث فى معركة 1973 فى موقع على القناة يسمى موقع كبريت وهى آخر معركة بمعـارك 1973 .. إذ هاجمت قوة مصرية الموقع الإسرائيلى بكبريت والذى استولت عليه فى أربعة ساعات .. وعندما حاصرت القوات الإسرائيلية هذا الموقـع وعزلته عن القوة الرئيسية وهو الجيش الثالث واستمر حصـاره لمدة 62 يومًا حتى ميعاد إيقاف النيران واستخدمت إسرائيل كافة قواتها فى محاولة لاسـترداد الموقع .. لكنها لم تتمكن من ذلك وكان قائد الموقع اسمه المقدم (إبراهيم عبد التواب) والذى قام بصد هجمات العدو .. برغم قلة الذخيرة والمياه والذى كان يعتمد على تحليه مياه البحر بالطرق البدائية وقلة الطعام والذى كان يشترك أكثر من خمسة جنود فى علبة طعام محفوظة ولنا أن نعلم أن هذه القوة المصرية كانت تتكون مما يقرب من 180 ضابط وصف ضباط وجندى وقد واجهت إمكانيات الجيش الإسرائيلى فى معركة تحدٍ .. ورغم أن قائد هـذه الكتيبة قد استشهد قبل إيقاف النيران بساعة واحدة إلا أن الموقع لم يستسلم وظل صامدًا.

ونرجع إلى الموقف على الجبهة المصرية والذى كان فى حالة إعادة بناء قوته من جديد وتجهيز مواقعه الدفاعية غرب القناة ومع إيقاف النيران .. واستفزازات العدو المستمرة من العدو الإسرائيلى .. مثل الشتائم والألفاظ المعايرة .. والإتيان بحركات لا أخلاقيـة بين المجندين والمجندات الإسرائيليين – فقد ظل الجنود المصريون يجهزون مواقعهم الدفاعية على طول خط القناة بالشاطئ الغربى وقد كانت حالة الغليان على أشدها بين أفـراد القـوات المسلحة المصرية .. وعلى استعداد للقيام بأى عمل ضد العدو .. إلا أن الأوامر العسكرية تمنع ذلك .. ومع هذا كان أى أمر باستطلاع العدو يستغله المنفذ فى عمـل إيجابى – فلا ننسى اللواء (مدكـور أبو العز) قائد القوات الجويـة حـين ذاك .. عندما أخذ أمرًا باستطلاع المضايق (متلا والجدى) بالطائرات وهى على بعد حوالى 60 كم من القناة .. فقد حول هذا الأمر إلى ضرب مواقع العدو بضربة جوية مركزه جعلت الجنود الإسرائيليين يفرون من مواقعهم إلى الحدود عند غزة والعريش ظنا منهم أن القوات المصرية ستقوم بالهجوم المضاد .. وكان ذلك بعد معركة 67 ولم يمر عليها شهرين. وكذلك القوات البحرية عندما خرج عدد 2 لنش طوربيد لاستطلاع قطعة بحرية إسرائيلية كبيرة وهى المدمرة إيلات والتى قد اخترقت المياه الإقليمية .. إلا أن قائد أحد اللنشات قام بتدميرها وكان عليها طلبة الكلية البحرية الإسرائيلية وكانت كارثة بالنسبة للعدو.

أما بالنسبة للقوات البرية والتى كانت مشغولة بتجهيز مواقعها الدفاعية على الضفة الغربية للقناة بدءًا من الكيلو 10 رأس العش ببور فؤاد إلى منطقة الكاب والتينة والقنطرة غرب وهى منطقة تسمى باسم (رقبة الوزة) إلى الإسماعيلية ثم جنوبا بمنطقة البحيرات المرة (الصغرى والكبرى) والتى تبعد عنها مسافة بيننا وبين العدو فى أعرض مكان 14 كم ثم جبل مريم وبحيرة كبريت حتي جنوبا بالسويس حيث موقع بور توفيـق وهى مسافة تشكل جبهة مع العدو فى حدود 200 كم.

وقد كان الدور الرئيسى للقوات الاستعداد، إلا أن أعمال الاستطلاع كانت تقـوم بها المخابرات الحربية من خلال مكاتبها بواسطة البدو – وقام فرع الاستطلاع من خلال الرائد (عصام الدالى) والذى كان وافدًا من بعثة بموسكو فى أعمال الاستطلاع .. فقد قام بزرع نقط استطلاع على المحاور الرئيسية فى عمق العدو وكان يرسل لكل نقطة استطلاع ضابط .. يمكث لمدة شهر ومعه جهاز لاسلكى لإرسال المعلومات أول بأول – كما قام المقدم (إبراهيم الرفاعى) والذى كان بفرع الاستطلاع أيضا بعملية فدائية لنسف الذخيرة التى جمعها العدو من قواتنا بعد الانسحاب. وقد استغلت مكاتب المخابرات البدو خاصة مكتب بور سعيد والقنطرة فى زرع ألغام مضادة للمركبات بصفة دورية – وكذلك قام المقدم (الرفاعى) بصفة دورية بزرع ألغام على طول الجبهة – وكان كل من يقوم بزرع لغم يبقى فى حالة قلق إلى أن يصطاد اللغم فريسته من مركبه أو دبابة ومهما طال الوقت فإن اللغم سيؤدى واجبه فى وقت ما .. مما شكل إزعاجًا شديدًا للعدو .. حتى أننا كنا نطلق على اللغـم اسم الابن البار حيث كان معدل خسائر العدو من 2– 3 مركبة أو دبابة أسبوعيا وهو يشكل خسـائر جسيمة للعدو وخاصة أن ما بين عام 67 إلى معركة 73 ما يقرب أكثر من 300 أسبوع.

وإذا حسبنا خسائر العدو من جراء التلغيم والشراك الخداعية نجدها مساوية تقريبا لخسائرنا فى معـركة 73 – وهنا تظهر عظمة معارك الاستنزاف. وقد بدأ العدو فى تسيير دقاقة يوميا فى كل صباح علي طول الجبهة فى أكثر من مكان وذلك لتفجير الألغام وتأمين الطرق .. إلا أننا لم نترك الدقاقات فى حالها ووضعنا لها كمية من الألغام  وأحب هنا إن اذكر تفاصيل هذه العملية فى باب عمليات التلغيم.

 

فكرة المجموعة 39 قتال

     مع حرارة صيف عام 1969 وفى شهر أغسطس بالتحديد .. وفى قرار مفاجئ – صدرت الأوامر من اللواء (صادق) مدير المخابرات الحربية إلى المقدم (إبراهيم الرفاعى) بفرع الاستطلاع بالقيام بعمل إيجابى ضد العدو وبالملابس العسكرية .. وهذا يعنى الإعلان رسميا عن خرق لإيقاف النيران الصادر من الأمم المتحدة .. وهذا يشمل ضمنيا رسالة للعدو الصهيونى أن مصر قادرة على التصدى .. ورسالة أيضا لأبناء الوطن والشعب المصرى بأننا قبلنا التحدى. وفى هذا الوقت لم يكن قد صدر تشكيل للمجموعة 39 قتال – ولكن كان هناك بعض أفراد من الصاعقة البحرية ليشكلوا فصيلة تقريبا معظمهم صف ضباط بقيادة النقيب (إسلام توفـيق) والمـلازم (ماجد ناشد) – كما كان هناك رائد طبيب (عالى نصر) وكان ملحقًا على فرع الاستطلاع حيث ألحقه اللواء (صادق) لخلافات بينه وبين زملائه فى الصاعقة البحرية بالإسكندرية نتيجة وشايه قام بها على أحد زملائه بالصاعقة البحرية.


وكان النقيب (عصام الدالى) يتولى قسم الاستطلاع خلف الخطوط بفرع الاستطلاع وكنت أنا بفرع الخدمة الخاصة.

وهنا شعر المقدم (إبراهيم الرفاعى) بأهمية العملية وحساسيتها فاتصل بى الرائد (عصام الدالى) .. وكنا نحن الثلاثة من قوات الصاعقة الوحيدين الموجودين بإدارة المخابرات الحربية – وأبلغنا بالمهمة وببحث المعلومات المتوفرة عن أماكن دوريات العدو الراكبة وتوقيتاتها .. فقد وقع الاختيار على منطقة جبل مريم المطلة على قناة السويس لعدة أسباب.

أولاً .. لضيق عرض قناة السويس فى هذه المنطقة.

ثانياً .. وجـود بحيرة صغيرة أسفل جبل مريم غرب القناة ولها قناة صغيرة تفتح على قناة السويس .. مما يسهل التجهيز فى قوارب فى منطقـة مستورة ثم الاندفاع للعبور عبر قناة السويس إلى البر الشرقى.

ثالثا .. وجـود فنطاس مياه غرب القناة يسهل الاستطلاع ووضع رشاشـات ثقيلة تقوم بستر القوات عند الانسحاب والمساعدة بالنيران. 

 

أردت أن اذكر هذا التمهيد لأسجل أن حتى هذا التاريخ وهو 16 أغسطس 69 لم تنشأ حتى هذه اللحظة المجموعة 39 .. ولكنها تشكلت عقب هذه العملية باسم فرع العمليات الخاصة بالمخابرات الحربية والتى تبعها تكوين المجموعة 39 قتال ورغم وجود المقدم (إبراهيم الرفاعى) والنقيب (عصام الدالى) وأنا فى إدارة المخابرات إلا أننا لم نجتمع من قبل فى أى عملية وكان كل منا يعمل منفردًا.

 

عملية جبل مريم

تقرر أن تشكل المجموعة فى ثلاث مجموعات اقتحام وكل مجموعة ثلاثة من الصف ضابط وضابط .. الأولى بقيادة ضابط بحرى (إسلام توفيق) والثانية بقيادة (عصام الدالى) والثالثة بقيادة ضابط بحرى ماجد ناشد والمجموعة الرابعة هى المجموعة الساترة بقيادتى ومجموعة القيادة والذى يقودها (إبراهيم الرفاعى) – وكان معظم الصف ضابط من الصاعقة البحرية – والخطة أن تقـوم المجموعة الأولى بإيقاف وتدمير العربة الأولى والثانيـة لاقتحـام العربة الثانية وإحضار الأسرى والثالثة لقطع الطـريق عن أى تدخل خارجى.

كانت هناك بحيرة صغيرة خلف جبل مريم – وجبل مريم هذا جنوب الإسماعيلية بعده كيلومترات – وهذا البحيرة تم فيها تجهيز قارب مطاط بدون موتور وتم ربط حبل طويل .. قام فرد من الصاعقة البحرية بالتعدية للشاطئ الآخر ومعه طرف الحبل .. ثم تم جذب الحبل حيث القارب وهو محمل بالأفراد إلى البر الشرقى.

تم اتخاذ الموقع على البر الشرقى للقناة .. وفى حوالى الثانية والنصف مساءً بدأت دورية العدو المكونة من 2 عربة جيب فى الاقتراب من الجنوب للشمال .. وكان على المجموعة بقيادة (إسلام توفيق) التعامل مع السيارة الأولى، والثانية يتعامل معها (عصام الدالى) .. ولسبب ما لم يوفق (إسلام) فى التعامل مع العربة الجيب الأولى فى الوقت المناسب مما اضطرنى كمجموعة ساترة ومجموعة القيادة بقيادة (إبراهيم الرفاعى) بالتعامل معها من بعد .. وذلك عندما أتت السيارة الثانية أمام (عصام) وبدأ يتعامل معها بالنيران وطوقها واحضر أسير وهو الوحيد الذى بقى على قيد الحياة – وتم رجوع المجموعة بنفس طريقة الذهاب .. وأخذ (إبراهيم الرفاعى) الأسير بسرعة إلى المستشفى لعلاجه .. ولكنه مات متأثرًا بجراحه ولأول مره تعلن مصر أن قوة كوماندوز تعبر القناة وتدمر دورية للعدو وتأسر فردًا من الإسرائيليين وذلك سواء فى الإذاعة أو التليفزيون أو الجرائد .. وبهذه العملية شعرنا بارتفاع المعنويات سواء بين الجيش أو الشعب – وكانت فرحتنا نحن أفراد أبناء القوات المسلحة أننا لأول مرة نقوم بعمل ونحن بزينا العسكرى خلف خطوط العدو.

وفى اليوم التالى صدرت أوامر بتشكيل المجموعة 39 قتال وذلك بإنشاء فرع جديد بالمخابرات الحربية باسم (فرع العمليات الخاصة) ورئيـس الفرع المقدم (إبراهيم الرفاعى) وبه قسمان .. قسم العمليات برئاسة الرائد (عصام الدالى) وقسم التدريب والاستطلاع يرأسـه النقيب (أحمد رجائى عطيه) يتبعها سرية صاعقة مدعمة بفصيلة صاعقة بحرية وكانت هذه المجموعة أو السرية المدعمة بقيادتى بجانب أنى رئيس فرع التدريب والاستطلاع بالمجموعة وكانت فصيلة الصاعقة البحرية هى وحـدة القـوارب التى من صـلب تنظيم السرية بقيـادة (إسلام توفيق) ومعه ملازم (ناشد) وملازم (وسام حافظ) – وقد انضم للفرع رائد بحرى طبيب (عالى نصر) ولم يكن ضمن التنظيم إلا أنه كان مرافقـا لـ(إبراهيم) فى معظم العمليات حيث كان يقود القارب مع (إبراهيم) .. وكان شجاعا وله أعمال فردية مميزة .. فقد اشترك فى إحضار ثلاثة صواريخ من الجبهة والتى ذكرتها قبل ذلك .. كما أنه كان يتميز بأعصاب هادئة جدًا وقد أفاد المجموعة فى عملياتها التى تتميز بالأعمال الدقيقة فى تجهيز الأشراك الخداعية وكمائن الألغام المركبة .. لما يتميز به من أعصاب هادئة وشجاعة.

أما باقى ضباط المجموعة كانوا قادة الفصائل التى تكونت منهم المجموعة هم ملازم أول(محسن طه) وملازم أول(محى نوح) وملازم أول(رفعت الزعفرانى) وملازم أول(مجدى عبد الحميد) وملازم أول(وئام سالم) وكانوا ضباطًا يتميزون بالشجاعة النادرة وحسن التصرف وقد ظهر ذلك جليا طوال العمليات اللاحقة. ومع أن هؤلاء جميعا قد تجمعوا لأول مرة إلا أن رباط تجمعهم هو الشعور أنه لهم الحظ فى اختيارهم لمواجهة العدو مبكرًا بعد طول انتظار .. لأن كافة أفراد القوات المسلحة كانوا يتمنون ذلك وأن تعطيهم قيادتهم هذه الفرصة .. وقد أعطى ذلك نوع الفخر للأفراد.

تم الاستقرار فى منطقة حلمية الزيتون .. وكنا دائما نعمل ليلا ونهارًا فى التدريب المستمر وأعمال الاستطلاع والتخطيط لأى عملية تطلب منا وفى أى مكان سواء بسيناء أو داخل إسرائيل. وكنت أنا و(عصام) لصفتينا من رؤساء للاستطلاع والعمليـات

قد قمنا بتجهـيز عدة عمليـات بأدق التفاصيل وجاهزة للتنفيذ فى أى وقـت وذلك بعد عرضها على رئيـس الفـرع (إبراهيم الرفاعى) .. والذى بشخصيته المحبوبة تمكن من ربط الأشخاص بعضهم البعض فى أقل وقت.

إلا أنه فى طوال تواجد المجموعة كان اللواء (صادق) سواء أكان مديرًا للمخابرات أو رئيس أركان القوات المسلحة أو وزيرًا للحربية كانت الأوامر تصدر منه شخصيًا للمجموعة .. وإن كان فى بعض الأحيان يختار فردًا منا سواء (إبراهيم) أو (عصام) أو أنا ليكلفه بمأمورية خاصة دون علم الآخرين مثل ما حدث عندما كلف (عصام) بضرب إيلات بالصواريخ ردًا على عملية إسرائيل عندما ضربت مدرسة بحر البقر أو عندما كلف (إبراهيم) بضرب مصنع (سودوم)  بالنقب ردًا على عملية ضرب إسرائيل لمصنع (أبو زعبل) أو عنـدما كلفنى بالاتصال بالعدو بالقتـال لمعرفـة نواياه عنـدما قام العدو بالإنزال فى منطقـة الزعفرانة.

وهكذا كان ميلاد المجموعة 39 قتال من خلال فرع العلميات الخاصة فى أوائل عام 1969 .. ومن هنا فإنى أعتبر أن اللواء (محمد أحمد صادق) مدير للمخابرات الحربية والاستطلاع هو من أشجع القادة العسكريين حيث تحمل المسئولية الأدبية بإنشاء وحدة قتال ليس مهمتها استطلاع فقط بل والقتال لرفع معنويات الجيش والنيل من  معنويات العدو .. وهذا ما لم يقدم عليه أى قيادة تشكيل قتالى أو حتى الوحدات الخاصة من الصاعقة أو المظلات والذى كان قائدهم فى هذا الوقت اللواء (سعد الشاذلى) – وإن كانوا قد لحقوا بعد ذلك بعمليات قتاليه ضد العدو وكانت فى منتهى الروعة من الأداء .. مما يدل على كفاءة المقاتل المصرى – فلن ننسى عملية الهجوم على بور توفيق بكتيبة صاعقة وكان يقودها النقيب (أحمد شوقى الحفنى) وما سجلته من روائع فى فن القتـال.

وكذلك كما حدث فى عملية (رقبة الوزة) حيث قامت وحدة من الصاعقة بعمل عدة كمائن فى يوم واحد حيث أوقعوا خسائر فادحة بالعدو وكان يوم سبت فسماه اليهود بالسبت الحزين وكان ذلك بمنطقة الكاب والتينة وهى بين مدينة الإسماعيلية وبورسعيد .. وعشرات العمليات قامت بها الجيوش المصرية الميدانيـة وكانت كلها ناجحة وأوجعت العـدو سـواء فى سيناء أو إسرائيل.

لقد كانت الأعمال القتالية التى قامت بها المخابرات الحربية من خلال أعمال مكاتب المخابرات الحربية وخصوصا مكتب بور سعيد بقيـادة الرائد (عـادل فـؤاد) ومكتب القنطرة بقيادة النقيب (مدحت مرسى).

وكذا الأعمال القتالية الخاصة خلف الخطوط أيضا للجيوش الميدانية (الجيش الثانى والثالث) .. والأعمال القتالية لوحدات الصاعقة – هذا علاوة على أعمال القوات البحرية والتى كانت موجعـة مثل ضرب المدمرة إيلات والضفادع البشرية فى ميناء إيلات كما شاركت القوات الجوية سواء بهجمة اللواء(مدكور أبو العز) على المواقع أو أعمال الهليكوبتر المساعدة للأعمال الخاصة والاعتراضات الشجاعة لطائرات العدو والتى أسقطت العديد من طائراتهم.

قد كانت معظم هذه المعارك بشكل رسمى ما بين 1969 إلى منتصف عام 1970 حيث تم إيقاف النيران بناء على طلب إسرائيل والتى وصلت فى بعض الأشهر بعشرات المعـارك ..

والتى كانت كلها معارك ناجحة وحققت أهدافها وفى المقابل فشلت كل محاولة إسرائيلية للقيام بعمل خاص عدا ضربها لبعض الأهداف المدنية بالطائرات مثل مصنع أبو زعبل أو مدرسة بحر البقر أو العملية الاستعراضية للنزول بمنطقة الزعفرانة أو عملية الرادار برأس غارب وهى مناطق نائية لم تقدم عليها إلا بعد سيطرتها الجوية.

لقد جعلت معارك الاستنزاف هذه .. وزير الخارجية الأمريكى يتحرك فى جولة مكوكية بين مصر وإسرائيل .. حتى وافقت مصر على إيقاف النيران لمدة ثلاثة أشهر – وأعتقد أن عبد الناصر وافق على ذلك رغم نجاح معارك الاستنزاف فى تحقيق غرضها وذلك لضرورة إدخال الصواريخ المضادة للطائرات إلى الجبهة استعدادًا للمعركة الفاصلة وذلك بما سمى عملية حائط الصواريخ .. والتى تم تحريكها من الإسكندرية إلى طول قناة السويس فى أروع عملية خداع .. أشرف عليها مدير المخابرات الحربية بنفسه وقتئذٍ وهو اللواء (مصطفى محرز) حيث تولى اللواء (صـادق) رئاسـة أركان القوات المسلحة فى ذاك الوقت.

لقد وجدت إسرائيل نفسها عاجـزة عن مجاراة مصر فى معارك الاستنزاف ولو كانت الجبهة السـورية فى الجولان قامت بنفس الشىء لاختـلف الأمر .. إلا أنها حتى الآن ونحن فى عام 2008 وأنا أكتب مذكراتى هذه لم تلقى حتى بحجر على العدو – وكذلك الجبهة الأردنية .. ولا أقول الملك (حسين) حيث أن اتجاهه معروف ولكن ألوم منظمة التحرير الفلسطينية والتى كانت تسيطر على الجبهة هناك وفى إمكانها أن تطول مدن إسرائيل الكبيرة .. عدا بعض العمليات البسيطة .. والتى لا تصل إلى درجة الكفاح المسلح.

ولكنى أرجع إلى أعمال (المجموعة 39 قتال) والتى كان لها شـرف الريادة فى معـارك الاستـنزاف بفضـل اللواء (محمد صادق) وجاءت من بعدها أعمال باقى الوحدات المصرية والتى سجلت أروع العمليات العسكرية .. مما يثبت أن المقاتل المصرى خير جند الأرض.

 


 

أعمال المجموعة 39 قتال

لقد نُسب إلى المجموعة الأعمال التى تمت قبل الإعلان عن تشكيلها .. حيث قام بها نفس الأفراد باسم المخابرات الحربية وتحت القيادة المباشرة للواء (محمد صادق) .. ثم توالت عشرات العمليات ما بين الهجوم على المواقع الحصينة للعدو والكمائن وأعمال ضرب الصواريخ وأعمال التلغيم والتى برعت فيها المجموعة .. حيث تحققت أكبر الخسائر فى العدو بأقل الإمكانيات وسأذكر أهم الأعمال .. بعد عملية كمين جبل مريم والإعلان الرسمى عن المجموعة 39 قتال (فرع العمليات الخاصة) والتى أطلق عليها فى الجـرائد (قوات الكوماندوز المصرية) .. كثفت المجموعة أعمالها بين الاستطلاع والقتال .. فزادت أعمال تلغيم المدقات وكمائن النيران سواء على الطرق الممهدة أو الغير الممهدة وذلك على كافة خطوط المواجهة وفى العمق – وكذلك ضرب مواقع العدو بالصواريخ وخاصة منطقة الطور ومطاره .. وموقع عيون موسى تل سلام والذى كان له تأثير على مدينة السويس. إلا أن هناك عمليات بارزة فى تاريخ المجموعة وكان لأهميتها أنها ردت على مواقف معينة أو لردع العدو .. وسأذكر أهم العمليات العسكرية.

عملية لسان التمساح الأولى يوم 19/4/1969

كان لاستشهاد الفريق عبد المنعم رياض رئيس أركان حرب القوات المسلحة يوم 9/3/69 أثرا سيئاً على معنويات الجيش والشعب. فأصدر جمال عبد الناصر أوامره بالرد على هذه العملية .. وبما يرفع معنويات الجيش والشعب.

وعلى أثر ذلك أصدر اللواء (محمد صادق) مدير المخابرات أوامره للمقدم (إبراهيم الرفاعى) بالقيام بالعمل المناسب لذلك – واجتمع (إبراهيم) بى و(بعصام الدالى) بفرع العمليات حيث تم الاستقرار على مهاجمة الموقع الذى خرجت منه دانه الهاون والتى أصابت الشهيد (عبد المنعم رياض) وتدميره تدميرًا شاملاً .. وبدأنا أعمال الاستطلاع للموقع .. وإنشاء ماكيت (نموذج) للموقع والتدريب على مهاجمته وقد وقع ذلك على كاهلى .. يكون (عصام) كان بمأمورية خارج القطر المصرى على الجبهة الأردنية .. وتم تحفيظ كل فرد واجباته عملياً .. ولم أشعر بقيمة التدريب إلا عندما هاجمنا الموقع .. فقد كان أداء الأفراد وكأنها فرقة موسيقية تعزف سيمفونية .. فى أداء وتنسـيق رائعين .. وكان الجميع لا يعرف الهـدف إلا قبل التنفيذ بساعات وعند الاستطلاع النهائى للهـدف من مبنى الإرشاد بالإسماعيلية.

وكانت القوة عبارة عن:

(1) مجموعة قيادة وساتره بقيادة (إبراهيم الرفاعى).

(1) مجموعة قطع وعزل بقيادة (محسن طه).

(4) مجموعة الهجوم بقيادة (أحمد رجائى عطية) + 7 فرد ومعه الضباط (محى نوح + 8 فرد، وئام سالم + 8 فرد، حنفى معوض + 8 فرد).

(1) مجموعة نقل بحرى بقيادة نقيب طبيب بحرى (عـالى  نصر).

وكانت كل مجموعة تشكل من (8) صف ضابط وجندى وهناك عناصر من مدفعية الميدان الموجودة بالبر الغربى تكون تحت الطلب أو الاشـتراك فى التغطية وقت الانسحاب من الموقع وكنت مكلف بإدارة النيران لكونى ضابط مدفعية.

بدأت العملية بالتجمع فى رصيف الإصلاح البحرى بالإسماعيلية والواقع على بحيرة التمساح والذى يبعد عن موقع لسان التمساح بالبر الشرقى بثلاث كيلومتر وهو عرض بحيرة التمساح فى هذه المنطقة.
وفى التاسعة مساءً بدأت تنطلق الأفراد فى القوارب المطاط إلى البر الشرقى على مسافة 150 متر جنوب الموقع .. وذلك ليرسو مجموعة القطع على البر ليتقدم التشكيل إلى مكان القطع وعزل الموقع من أى نجدة – ثم من بعده مجموعة القيادة لتتمركز قبل الموقع بمسافة 50 متر – ويليها الأربع مجموعات الخاصة بالاقتحام لتتجه كل مجموعة إلى الدشمة المكلف باقتحامها والتعامل معها .. وكانت خطة التعامل أن تقسم كل مجموعة اقتحام إلى قسمين كل قسم 4 أفراد لتقوم إحداهما بإلقاء قنابل الدخان والغاز المسيل للدموع وينتظر القسم الآخر فى المقابل الآخر للدشمة لمهاجمة الأفراد بالبنادق والقنابل اليدوية.

وقد كان العدو كالفئران المذعورة داخل الدشمة .. وقد أبيد جميع أفراد العدو إما بالطلقات أو السلاح الأبيض .. وأذكر فى أحد المواقف أن أصيب مساعد أول (محمود الجيزى) بطلق نارى فى أسفل ظهره فأمرته بالانسحاب إلى منطقة الالتقاط .. واستمرت المعـركة .. ولكنى وجدته بعد ذلك يقاتل بجانبى وهو مصاب واسـتمر فى المعركة .. حتى نهايتها .. رغم أن الطلق النارى أصابه فى الآلية من الخلف .. لتخترق فخذه وتخرج من الأمام.

لقد كانت الصعوبة بعد ذلك أن تقنع المقاتلين بالانسحاب بعد أن سيطروا على الموقع وحصلوا على عدة أسلحة خاصة بالعدو .. كما قام الملازم (محسن) قائد مجموعة القطع بالتعامل مع دبابات العدو والتى حضرت لنجدة الموقع فدمر الدبابات وقتل الأفـراد المصاحبة لهذه الدبابات. ولقد بدأنا الانسحاب إلى منطقة القـوارب تحت ستر نيران المجموعـة الساترة بقيادة (إبراهيم الرفاعى) .. كذلك تحت ستر نيران مدفعيتنا والتى أمنت عودتنا وألحقت هى الأخرى خسائر بالعدو .. وركبنا القوارب وبدأنا العودة.

لقد كان عنف تعاملنا مع أفراد العدو حتى أنه لم يبق أى منهم لكى نحضـره أسـيرًا .. وعادت القوات كاملة دون أى خسـائر إلا المسـاعد أول (الجيزى) والملازم أول (محى الدين خليل نوح) والذى أصيب كل منهم ببعض الشظايا .. وتم علاجهم فـور عودتنا واستكمل علاجهم بمستشفى القوات المسلحة بالمعادى .. والذى قام الزعيم (جمال عبد الناصر) بزيارتهم بالمستشفى.

لقد كان لهذه العملية أثر كبير فى رفع معنـويات الجيش والشعب وخاصـة أنها كانت انتقـامًا لاستشـهاد الفـريق (عبد المنعم رياض) .. وإن كانت كرمز للانتقام لشهدائنا جميعا .. وقد كسرت هذه العملية أسطورة المقاتل اليهودى السوبر .. وعرف عنه أنه أقل من العادى.

وأحب أن أنوه إلى أن هذا الهجوم كان أول أمر هجوم لقوات مصرية بعد عشرين عامًا .. حيث كان آخر أمر هجوم لقوة مصرية كان عام 48 على التبه 68 بمنطقة بئر سبع حيث دمروا العدو فى هذه الموقعة أيضا واستولت القوات المصرية على بئر سبع ولكن للأسف جاءت الهدنة ومن ثم الأوامر بالانسحاب من بئر سبع.

وهنا تظهر بسالة الجندى المصرى عندما يأخذ الأمر بالهجوم أو الصمود ضد العدو .. ولكن للأسف كانت كل الأوامر فى 67 بالانسحاب ولم يأخذ الجندى المصرى فرصته.

عند العودة إلى الضفة الغربية كان هناك مجموعة من قادة القوات المسلحة وخاصة قيادات الجيش الثانى اذكر منهم العميد (أحمد بدوى) والعميد (محمد أبو غزالة) واللذين أصبحا كلا منهم فيما بعد وزير الحربية.

ولا انسى مشاعرهم الفياضة بالفخر تجاهنا .. حيث كانوا يسألوننا عن العدو وهم يتحسسون ظهورنا وأكتفانا بأيدهم .. ولا تعلم هل هذا بمثابة عناق عن بعد لجنود مصريين .. أم أنهم يتأكدوا أننا مازلنا أحياء بعد معركة مع العدو الذى لا يقهر .. أم ليتأكدوا أننا من دم ولحم مثلهم .. رغم أنها يعرفوننا جيدًا ومعظمنا من تلاميذهم.

عملية لسان التمساح الثانية يوم 7/7/1969

بعد عدة عمليات (للمجموعة 39 قتال) على الجبهة وفى العمق – وبعد عدة شهور .. تقرر الهجوم على نفس الموقع وهو موقع لسان التمساح – ومن المعلوم أن العملية الخاصة لا تكرر فى نفس المكان .. ولكن أردنا أن نقوم بذلك ولكن بتغيير فى الأسلوب .. لقد كانت العملية الأولى الاعتماد على المفاجأة .. ولكن فى الثانية تم التخطيط لها على أن يتم التمهيد بالنيران والهجوم تحت ستر نيران المدفعية .. وأن تكون مجموعات الاقتحام بمصاحبة العربات البرمائية (بردم) والتى كانت ستقل كل مجموعة اقتحام حتى الدشمة المكلف بالهجوم عليها.

وكان الغرض من ذلك هو إجراء بروفـة وتدريب حى على أسلوب اقتحام النقط القوية للعدو فى الهجوم الشامل وخاصة أنه تم تجهيز مواقع العدو بشكل مخالف يصعب معه اقتحام هذه المواقع وكان لابد من إجراء هذه العملية للتخطيط للمعركة القادمة والفاصلة .. ولكن للأسف صدرت الأوامر فى آخر لحظة وقبل بدء العملية مباشرة بعدم استخدام العربات (البرمائية) والتى كانت عنصرًا أساسياً فى الهجوم وبالفعل ..

بدأنا فى تنفيذ العملية بدون هذه المركبات .. وبنفس التشكيل والأفراد تقريبا بدأنا العملية تحت سترالتمهيد النيرانى والذى كنت أقوم بتوجيه النيران لكونى ضابط مدفعية .. وكانت غلالة النيران التى نتقدم تحت سترها بمسافة 50 متر وهى مسافة خطرة ما لم تستخدم بمهارة وحكمة إلى أن وصلنـا إلى الموقع وبدأنا عملية الهجوم والاشتباك بالنيران والسـلاح الأبيض فى قتال عنيف .. ونجحنـا فى تدمـير معظـم الموقع وأفـراده وقد استشهد منا 8 شهداء 4 ضمن مجموعات الاقتحام و4 من المجموعة الساترة أثناء تغطية الانسحاب.

لقد كان الموقع فى العمليـة الأولى بدون أسلاك كثيفة أو ألغام محيطة بالموقع وفى العملية الثانية فقد ذادت عملية التحصين ونشر الألغام التى تحت السيطرة والتى أصبت أنا شخصيا منها إصابات شديدة ولكنى صممت على الاقتحام للموقع إلى نهاية العملية .. وقد أستشهد الفردان اللذان كان أحدهما عن يمينى والثانى عن يسارى.

لقد أثبتت هذه العملية إمكانية اقتحام هذه النقط القوية رغم تحصينها .. وقد كانت خسائر العدو من ضربات المدفعية المصرية القوية سواء على الموقع أو مواقع أخرى مجاور مثل موقع نمرة 6 .. وكذلك الخسائر الكبيرة للعدو فى قوة النجدة التى اندفعت لنجدة الموقع والتى وقعت فى الكمين الذى نُصب لها من مجموعة القطع بقيادة الملازم أول(محسن طه) لقد كانت الفلسفة أو الحكمة من هذه العملية .. هى استطلاع بالقتال لمواقع العدو بعد أن تحصنت بالأسلاك الشائكة والألغام وصارت بما يشبه القنفد ( ولذلك سميت بالمواقع المقنفدة) – وليس الغرض منها تدمير الموقع كعنصر أساسى وقد أفاد ذلك فيما بعد عملية الهجوم التى قامت بها وحدات الصاعقة بواسطة كتيبة بقيادة النقيب (أحمد شوقى) وبعض الضباط اذكر منهم الملازم (زغلول) والملازم (ممدوح) وقد نجحت هذه القوة مستفيدة من معلوماتنا فى تجنب أى مقاومة واجهتهم .. وتمكنت من تدمير موقع بور توفيق المواجه لمدينة السويس والسيطرة عليه لعدة ساعات.

لقد كانت عملية لسان التمساح الثانية وعملية بور توفيق هما اللتان تم التخطيط بناءًا عليهما لاقتحام كافة المواقع الإسرائيلية (المقنفدة) فى معركة 6 أكتوبر والتى تم التدريب على اقتحامها بناء على المعلومات من هاتين العمليتين.

وهنا أقول ما أروع المخطط المصرى والذى مهد بالاستطلاع القتالى والتدريب والتخطيط .. لكى تقع كافة النقط القوية للعدو على الضفة الشرقية لقناة السويس فى يوم 6 أكتوبر فى عدة ساعات .. وهذه المواقع التى اعتقد العالم قبل العدو أنها لن تنهار أبدًا.

ولكن عندما احتل الجنود المصريون هذه المواقع .. لم تتمكن أى قوه إسرائيلية من إعادة احتلال أى موقع .. حتى موقع كبريت والذى كان منعزلاً .. فإنه صمد شهرين كاملين دون الوقوع فى يد العدو الإسرائيلى .. وهنا يظهر الفرق بين الجندى المصرى والجندى الإسرائيلى.

 

إيلات .. المنسية

     لقد تمت أكثر من معركة باسم إيلات – فهناك معركة إيلات البحرية والتى دمر فيها لنشات الطوربيد المصرية المدمرة إيلات الإسرائيلية .. عندما دخلت المياه الإقليمية المصرية .. أمام بور سعيد.

والمعركة الثانية هى عملية الضفادع البشرية داخل ميناء إيلات والتى قام رجال الضفادع البشرية المصريين بتدمير عدة سفن إسرائيلية داخل ميناء إيلات وهى سفينة بيت شيفع وبات يام الإسرائيليتين – وهى الأكثر شهرة حيث تم عمل فيلم سينمائى يجسد هذه العملية.

أما المعركة الثالثة والتى باسم إيلات هى المعركة التى قام بها الشهيد الرائد (عصام الدالى) فى ربيع عام 1969 ابريل نفس توقيت عملية لسان التمساح الأولى وهى من أكثر العمليات التى حققت خسائر للعدو .. ولذلك أسميتها (إيلات .. المنسية) .. لأنها لم تذكر كثيرًا .. فى وسائل الإعلام .. رغم أنها أكثر العمليات التى حققت الخسائر للعدو. 

لقد كلف اللواء (محمد صادق) الرائد (عصام الدالى) شخصيا بهذه المهمة رغم أنه كان ضمن المجموعة 39 وصدر إليه الأمر التالى .. تذهب فى مهمة إلى الأردن ..  وهناك ستقابل المقدم (إبراهيم الدخاخنى) قائد مكتب مخابرتنا فى الأردن وسوف يعطيك ثلاثة صواريخ .. وسوف تقوم بضرب ميناء إيلات العسكرى – ولكن عليك الحذر أن يقع أى صاروخ على الميناء المدنى أو مدينة إيلات.

وقد قابلته بعد عودته من مكتب اللواء (صادق) .. والمفروض أن من يأخذ مهمة منفردا لا يذكرها لأحد .. ولكننا كنا نتبادل الأسرار .. فقلت له ماذا ستعمل بعد أن ذكر كلمة حذارى أن يقع صاروخ على الميناء المدنى أو مدينة إيلات فرد بسخرية – "أنا حضرب المدينة طبعا (إيلات) .. أنت ناسى أنهم لسه ضاربين لنا مدرسة بحر البقر بالطائرات وعلى كام هدف فى الصعيد" .. استمر فى كلامه .. أن لم نكن نحن من يصعد معارك الاستنزاف .. فمن الذى سيصعدها .. كان هذا فكر وعقيدة الشباب المصرى حينذاك – وكانت الثقة بالنفس وتحمل المسئولية والقرار من الطبائع التى عودنا عليها قادتنا.

ذهب (عصام الدالى) إلى الأردن على الطائرة المدنية مصر للطيران باللبس المدنى واستلم الصواريخ الثلاثة .. من المقدم (إبراهيم الدخاخنى) ولكنه فى نفس الوقت اتصل عن طريق مكتب المخابرات العامة بالمصريين الذين يعملون مع منظمة فتح .. وطلب منهم أكبر عدد من الصواريخ .. وقد وفروا له مطلبه من الصورايخ .. رغم أن ذلك خارج نطاق واجباتهم .. ولكن كان هذا هو شباب مصر فى هذه الآونة .. وفعلا أحضروا له ثلاثين صاروخًا وتم نقلهم بواسطة منظمة فتح إلى ميناء العقبة فى الجبال المطلة عليها .. وقام بتجهيز الصواريخ .. ووجه الثلاثة وثلاثين صاروخ إلى مدينة إيلات .. وأطلقهم دفعة واحدة فى اتجاه البلدة وقد اعترفت إسرائيل فى جرائدها الرسمية بأن الخسائر 94 قتيل وأكثر من 400 جريح .. وأعتقد أن الخسائر كانت أضعاف ذلك العدد لما تعود عليه العدو من إخفاء خسائره.

وقد كانت الإصابات دقيقة لأن (عصام الدالى) فى الأصل كان ضابطًا مدفعية قادرًا على توجيه النيران بمهارة.

وأذكر هذه العملية بالذات .. لأننى أعتبر أن هذه العملية قطعت اليد الطولى لإسرائيل والتى كانت تتباهى أنها تطول أى هدف فى العمق – ولكننا أثبتنا أن لنا أيضا يدًا طولى وقادرة على ضرب أهداف فى العمق الإسرائيلى – حيث تلى ذلك ضرب مصنع النحاس (بتمناع) ومصنع (سدوم) بصحراء النقب .. بالصواريخ بواسطة المجموعة 39 قتال أو بواسطة المصريين الذين يعملون مع منظمة فتح فى ذلك الوقـت أمثال النقيب (على عثمان) والنقيب (عبد الله الشرقاوى) مما جعل إسرائيل تفكر ألف مرة فى ضرب أى هدف مدنى داخل مصر مع الفارق أنهم كانوا يضربون أهدافهم بالطائرات .. ولكننا كنا نعانى ونغامر حتى نصل لأهدافنا فى عمق إسرائيل.

 

عملية الكرنتينه

وبذكرى الرائد (عصام الدالى) .. أحب أن أتذكر العملية التى استشهد فيها الرائد (عصام الدالى) ذلك البطل الذى باستشهاده فقدت المجموعة بطل بمعنى الكلمة .. مصرى حتى النخاع .. شهم .. وبقيادته لقسم العمليات فى فرع العمليات الخاصة فقد كان المايسترو والمخطط لكل  العلميات التى قامت بها المجموعة .. ذو فكر مستنير ورؤية بعيدة.

وبناء على المعلومات سواء التى كنا نقوم باستطلاعها أو المعلومات عن طريق فرع المعلومات بإدارة المخابرات .. كان يضع لكل هدف أكثر من عملية وكل عملية مخططة على الورق بها معلومات عن العدو – تشكيل القوة المنفذة وأسلحتها خط سير العملية – الخسائر المتوقعة فى قوات العدو.

وقد كان الهدف الذى استشهد فى هذه العملية من الأهداف الثمينة وقد تم وضع لهذا الهدف أكثر الذى عملية .. وكان هو منطقة الكرنتينه  وهى تقع فى خليج السويس فى المنطقة المواجهة للعين السخنة.

بعد أن أمضيت أنا و(عصـام) فرقة القاذف الصـاروخى (جراد .. ب) حوالى أسبوعين .. ذهبنا إلى المجموعة .. فرع العلميات الخاصة صباح يوم السبت التالى لانتهاء الفرقة مباشرة .. لنجد أن المجموعة تعد العدة للقيام بعملية ضد العدو.

وعندما جلسنا مع المقدم (إبراهيم) .. أخبرنا أن هذه العملية فى منطقة الكرنتينا .. وفى الوهلة الأولى فرحنا وقلت له .. كويس أن القيادة وافقت على تنفيذ هذه العملية وطبعا حنستخدم ونجرب القنبلة (حسام) المضادة للذبابات (هذه القنبلة اخترعها مهندس مصرى بالمصانع الحربية واسمه (حسام)).

فقال (إبراهيم) .. أحنا المرة دى حنكتفى بنسف السقالة الخاصة بالكرنتينه .. وتصوير هذه العملية بشكل إعلامى .. يعنى حاجة كده بسيطة لرفع المعنويات .. لأن الجبهة بثقالها مادة ساكنة – ولكنى اعترضت بشدة لأن ذلك يفقد عنصر المفاجأة فى المستقبل إذا تم التنفيذ كما هو مخطط لها .. ويبدوا أن اعتراضى أخذ شكل حاد .. فأخذني (عصام) من مكتب (إبراهيم الرفاعى) .. ليجلس بمكتبى ونحن فى حالة غضب من ذلك الأسـلوب فى تنفيذ العملية .. فقال لى عصام خليك أنت وأنا سـوف أقنع (إبراهيم) بالعـدول عن العمليـة .. ولكن بعد دقـائق وجدت أصوات عاليـة من (عصام) اعـتراضا على العملية .. فقمت أنا بنفس الدور لاسـمية خارج الفرقة وهو فى حالة غضب.

لم تفلح فى إثناء (إبراهيم) عن قراره .. فخرجنا فى نفس اليوم مع القوة المنفذة ولا أنسى كلمة (عصام) .. إحنا حنشترك معاهم .. علشان نكون مع رجالتنا. وفعلاً ذهبنا إلى منطقة العين السخنة عند جبل الجلالة وعدنا خليج السويس فى أربعة قوارب  وكنت أنا قارب الاستطلاع والتأمين ثم قارب (عصام) ومعه معـدات النسف والقارب الثالث لـ (إبراهيم الرفاعى) ومعه معـدات التصوير والقـارب الرابع بقيـادة النقيب (حنفى معوض).

وبعد أن قمت بتأمين منطقة السقالة الموجودة فى الكرنتينا .. تقدم (عصام) وقام بعملية إعداد السقالة للنسف وكان قارب (إبراهيم) وقارب (حنفى) يقومون بتأمين العمل من الأجناب .. وبعد أتمام تجهيز السقالة للنسف .. انسحبت كافة القوارب الأربعة إلى المياه على بعد 500 م من السقالة.

وفى الزمن المحدد لعمل العبوات الناسفة لم تعمل .. وكان ذلك نتيجة بعض الرطوبة التى تصيب الأفلام الزمنية المجهز بها – ولكن (إبراهيم) تشكك فى ذلك الأمر وتركنا للعودة إلى السقالة .. وقد حاولت أنا و (عصام) والعميد (مصطفى) الذى كان بالقاعدة على الضفة الشرقية للخليج بأن نعيده إلى مكانه عن طريق الأجهزة اللاسلكية .. ولكن أعتلى السقالة وهى مجهزة للنسف وأشعل جهاز إشعال .. مما أثار انتباه العدو .. والذى بادر بإطلاق الرشاشات نصف موجه فى اتجاه السقالة .. وبمجرد أن قذف (إبراهيم) نفسه فى المياه .. بدأت السقالة تشتعل بفعل العبوات الناسفة.

وكنا نحن الثلاث قوارب نقف فى مكاننا على بعد 500 م من السقالة .. ولكن المنظر الذى شاهدناه أوحى بأن هناك مكروه قد أصاب المقدم (إبراهيم) .. فأندفع الرائد (عصام الدالى) فى اتجاه السقالة لإنقاذ (إبراهيم) .. حسب ما شاهدناه.

وكانت مياه البحر ساكنة كصحائف الفضة بعد ترك القمر ضوءه عليه .. وكان اندفاع الرائد (عصام الدالى) بالقارب قد ترك خط أبيض من الأمواج فى وسط هذا السكون .. مما نبه العدو على اتجاهنا .. فبدأ فى إطلاق قذائف من الدانات من دبابات فى اتجاهنا والتى كانت تمر حولنا بكثافة عاليه .. وقد أصابت واحدة منها الرائد (عصام الدالى) والمساعد الذى كان يجاوره .. واستشهد فور الإصابة.

واسـتمرينا حـوالى نصف ساعة نقوم وننادى على الرائد (عصام الدالى) باللاسلكي ولكننا لم نعثر عليـه .. ليخبرنا العميد (مصطفى كمال) والموجود بالقاعدة أن قـارب الرائد (عصام الدالى) قد وصل إلى الشط .. وأخبرنا أنه مصاب .. ولكن عنـدما عدنا إلى القاعدة التى خرجنا منها .. أنبأنا بالحقيقة .. أنه استشهد.


 

موقع الهوك

أو عملية شرق البحيرات المرة

جلبت معلومات الاستطلاع لمؤخرة العدو والتى كانت منتشرة فى سيناء بواسطة ضباط مصريين .. كانت هذه المجموعات قد قام (عصام الدالى) بنشرها فى فترة خدمته بفرع الاستطلاع .. ثم تولى أحد الضباط هذه المهمة من بعده .. وبعد أن انتقل (عصام الدالى) للمجموعة 39 قتال (فرع العمليات الخاصة).

وذلك أن هناك عملية إنشاء دشمة كبيرة على الطريق الأوسط أمام منطقة الدفرسوار وكان الاعتقاد فى حينها أنها دشمة للطائرات ولكن كبر حجمها صار الاعتقاد أنها لأكثر من طائرة – وبعد ذلك جاءت معلومات أنه تم إدخال جسم كبير معدنى .. ولم يتمكن فرع البحوث بإدارة المخابرات الحربية تفسير هوية هذا الجسم المعدنى والذى تم تصويره بالصور الأرضية .. ولذلك تقرر أن يتم تصويره جـويا .. وكان المطلوب أن يتم فتح ثغرة فى الدفاع الجوى لكى تتمكن طائرة استطلاع بالقيام بالتصوير الجوى .. وفعلا صدرت الأوامر للمجموعة 39 قتال .. بهذه المهمة – وقد كلفت بهذه المهمة .. فتم تصنيع لونشر صواريخ مكون من 16 صاروخ 130 مم بالمصانع الحربية وقمت بتركيب جهاز تنشين على اللونشر وتم معايرته وأحب أن اذكر هنا نموذج مشرف من أبناء مصر .. حيث ذهبت إلى إحدى المصانع الحربية وكان يرأسه مهندس اسمه (فهمى) وقابلت فى الصباح شباب المهندسين بالمصنع وطلبت تصنيع لونشر الصواريخ بمواصفات معينة وأمهلونى عدة أيام – ولكن فى نفس اليوم ليلا فى حوالى الثالثة صباحا .. أتصل بى المهندس (فهمى) بالمنزل ليخبرنى أن القاذف جاهز للتجربة .. وفعلا ذهبنا فى فجر نفس اليوم لتجربة القاذف فى منطقة جبل حمزة بطريق مصر – إسكندرية الصحراوى.

وقد تحدد أن يتم تنفيذ العملية من خلال البحيرات المرة الكبرى .. وخرجت الدورية من قطاع الجيش الثانى رغم أن الهدف أمام قطاع الجيش الثالث. وقد كانت هذه العملية لها ظروف وملابسات غريبة ولكنها انتهت بنجاح كبير لم يكن متوقعًا.

ففى 25 مارس 1970 خرجنا فى قاربين مطاطين الأول به لونشر الصواريخ بعد أن تم تثبيته بالحبال على القارب وكنت أنا و(محمد عبده موسى) بالقارب الأول .. والثانى به مجموعة الحماية وكان به (إبراهيم الرفاعى) ومجموعة الحماية بقيادة أحد الضباط والصحفى (عبده) مباشر وقد قمت بتجهيز القارب الذى يحمل اللونشر حيث وضعت اللونشر على طبلية خشب مربعة ومثبت فيها بمسامير قلاووظ ثم قمت بتثبيت الطبلية بالحبال فى القارب وقد قام بحمل الطبليه مركب عليها الونشر أكثر من ثمانية أفراد .. كذلك قمت كضابط مدفعية بربط كافة البيانات اللازمة لضرب الهدف على آلة التنشين مستخدما النجم القطبى والمسافة من الخريطة وهى طريقة معلومة لدى المدفعية وتسمى بطريقة (نقص الإمكانيات).

وبدأنا العبور عبر البحيرة المرة لمسافة 14 كم فى القاربين .. ولكن عندما وصلت لمنتصف البحيرة تذكرت كيف سيتم إنزال اللونشر من على القارب .. وما سيصاحب ذلك قد يؤثر على أدوات التنشين والتى تم ربط كافة البيانات من مسافة واتجاه عليها فقررت أن اندفع بسرعة عالية إلى أن يتم رسوا القارب المطاط على الشاطئ وقد تم ذلك فعلا .. ثم أفرغت القارب من الهواء حتى يكون اللونشر ثابتاً على الأرض وكذلك وضعنا رمالاً مبللة بالمياه على كامل القارب حتى لا يتأثر بالنيران التى تخرج من خلف الصواريخ ثم قمت بتوجيه الصواريخ على الهدف المحدد وهو موقع صواريخ الهوك مستعينا بالنجم القطبى وتم ضـرب الستة عشر صاروخًا فى اتجاه موقع الهوك – وبدأنا فى نفخ القـارب بسـرعة عاليـة وأنزلنا القوارب فى البحيرة لنبدأ العودة.

وقبل أن نغادر المنطقة شاهدنا السنة اللهب تتعالى من موقع الهوك .. ويبدو أنها كانت ضربة موفقة حيث ظلت النيران تشتعل وينفجر الموقع لمدة أكثر من ساعتين .. حيث إن صاروخًا أصاب مكان تخزين صواريخ الهوك. وقد كتب عنها عبده مباشر الصحفى بالأهرام فى اليوم التالى – والذى رافقنا فى هذه العملية أن قوات الكوماندوز تدمر موقع هوك تحت عنوان قال تعالى: (فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللّهَ رَمَى وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاء حَسَناً إِنَّ اللّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) سورة الأنفال الآية (17).

ومع صباح فجر اليوم التالى خرجت طائرة استطلاع مصرية من خلال الثغرة التى حدثت فى نظام الدفاع الجوى للعدو – لالتقاط صور للموقع الذى يبعد 40 كم عن القناة واتضح أنه كوبرى معدنى .. معد لأى هجوم إسرائيلى غرب القناة. وهو فعلا نفس الكوبرى الذى عبرت به القوات الإسرائيلية فى عملية الثغرة فى معركة 73 ولكن حتى الآن لا أعلم لماذا لم يخطط لضرب هذا الهدف فى طلعات القوات الجوية فى معركة 73 ولا أعلم لماذا لم تنفذ الضربة الجوية الثانية والذى كان مخططًا لها ما بين الساعة الرابعة والنصف أثناء إنزال قوات الصاعقة بواسطة الطائرات الهليكوبتر.

أعمال الضرب بالصواريخ

     لقد كانت أشهر عمليات الضرب بالصواريخ هى عملية ضرب مدينة إيلات والتى قطعت اليد الطولى لإسرائيل .. ومن بعدها تم حماية الأهداف المدنية المصرية من أن تتطاول عليها إسرائيل والعملية الثانية هى ضرب موقع الهوك أمام الجيش الثالث والتى قمت بها وأخذت إسرائيل درسًا .. أن أهدافها فى العمق فى متناول أيدينا.

وهناك أهداف كثيرة ضُرِبٌت بالصواريخ أوجعت إسرائيل فقد تم ضرب مطار الطور والذى كان يستخدم كقاعدة إدارية أكثر من مرة وهو يبعد عن القاهرة حوالى 300 كم .. مما أفقد قوات العدو الكثير من المعدات والتشوينات الإدارية.

كما تم ضرب موقع كبريت المطل على بحيرة كبريت من جـزيرة صغيرة فى وسط البحيرة بصواريخ (فاب) وهى من النوع الذى تتسلح به طائرات الهليكوبتر وكانت هذه العملية من النوع العمليات المزدوجة حيث تم ترك أشراك خداعية حول قواعد الصواريخ والتى توجه إليها العدو بعد أن انطلقت الصواريخ منها .. مما أوقع العدو فى حقل أشراك خداعية .. سببت له خسائر كبيرة – وقد كان مهندس هذه العملية الرائــد طبيب (عالى نصر) الذى نفذها ببراعة – ورغم أنه طبيب إلا أننى كنت أسميه المهندس لما يتحلى به من براعة فى أعمال الأشراك الخداعية .. وصبره وثباته عند تجهيزه لمثل هذه العمليات .. وكان هناك موقع للعدو عبارة عن مدافع 155 وهى ثقيلة العيار ولها مدى طويل وكانت متمركزة فى دشم مسلحة ولها أبواب فولاذية وهى فى منطقة تسمى تل سلام بعيون موسى جنوب شرق خليج السويس – وكانت هذه المدافع دائمة الضرب على مدينة السويس من حين لآخر. 

ولكننا كمجموعة 39 قتال كنا نعبر خليج السويس ونقذفها بالصواريخ وقد تم ذلك مرات عديدة مما جعل العدو يعيد التفكير أكثر من مرة فى استخدامها ضد مدينة السويس.

لقد كنا وقتها لا نشعر بقيمة هذه العمليات ومدى تأثيرها على ماديات ومعنويات العدو .. ولكنى أحسست بعظمتها عندما شاهدت مدى تأثيرها عندما استخدمها حزب الله فى حربه الأخيرة بلبنان أو فى مدى تأثيرها عندما استخدمها الفلسطينيين بقطاع غزة ضد مستعمرات العدو داخل إسرائيل.

علما بأن الخسائر التى كنا نحققها ضد العدو كانت أضعافًا مضاعفة بالنسبة لما حققها حزب الله أو قطاع غزة سواء حماس أو الأجنحة العسكرية للمنظمات الفلسطينية.



الناصية السادسة

لقد كانت هذه الناصية غنية بالثقة بالنفس .. حيث انفصلت عن المجموعة 39 قتال بعد أن تم الموافقة على إيقاف النيران بين مصر وإسرائيل لأعمل بمكتب مخابرات الغردقة .. والتى أمدنى مدير المخابرات آن ذاك اللواء (مصطفى محرز) بخمس قوارب مطاط لأكون مجموعة من بدو سيناء وأبناء الغردقة .. وقد تم تنفيذ عشرات العمليات سواء استطلاع أو أعمال رص الألغام وضرب الصواريخ وكلها أعمال دون مواجهه مباشرة مع العدو وذلك باسم منظمة سيناء العربية وفى ظل إيقاف النيران .. وبقدر ما اكتسبته فى هذه الفترة من الثقة بالنفس .. بقدر ما أعطيت سواء فى الأعمال الحربية أو الأعمال المخابراتية بينى وبين نظيرى فى الجبهة المعادية حيث كان حساب المكسب كثيرا جدًا عن أى خسارة.

واعتز بهذه الفترة وكنت برتبة رائد أن أستدعى لأشارك كبار المخططين بفرع العمليات للقوات المسلحة لوضع الخطة للاستيلاء على جنوب سيناء فى الخطة جرانيت .. والتى أفسدها فيما بعد التعديل الذى إضافة اللواء (سعد الشاذلى) للتنفيذ فى معركة 73 .. والذى سحب كافة القوات المشاركة سواء المشاة أو المظلات من التخطيط والتنفيذ وترك وحدات الصاعقة وحدها .. وبعد أن بدل أماكن إنزالها فى جنوب سيناء .. مما عرضها للمخاطر .. بل للهلاك.

أن الصقل والثقة فى النفس فى هذه الفترة جعلنى بعد أن حللت موقف ما بعد معركة 73 وفى فترة إيقاف النيران .. بأن اشتبك فى عملية ضد العدو .. دون الرجوع للقيادة .. خوفا من ضياع الوقت أو الفرصة ثم أبلغ القيادة العامة .. والتى عدلت وضع القوات بناء على تحليلي للموقف.

أما بالنسبة للمجموعة 39 قتال والتى كنت قد تركتها فى أوائل عام 1970 بعد إيقاف النيران بيننا وبين العدو .. فإنها لم تقم بأى عمليات خلال هذه الفترة حتى اشتركت فى معركة 73 بضرب خزانات البترول فى أبو رويس بواسطة الطائرات الهليوكبتر وذلك بإلقاء براميل النابل من الطائرات على الهدف .. وفى أثناء عملية الثغرة التى قام بها العدو غرب القناة .. كُلفت المجموعة 39 قتال باستطلاع قتالى مع العدو لتحديد أماكنه .. ولكن للأسف استشهد البطل (إبراهيم الرفاعى) .. لترجع المجموعة إلى معسكرها بالحلمية بالقاهرة .. ولم يتم تكليف الوحدة بمهام أخرى لعدم وجود قيادة لها .. وللخلافات التى دبت بين بعض الأفراد وهو بمعسكرهم بحلمية الزيتون.

 

عمليات التلغيم

أو الابن البار

     هذا اللقب كنا دائما نطلقه على اللغم .. لأننا كنا عندما نزرع اللغم فى الطرق الترابيه والمدقات – كنا واثقين بأنه سيأتى بالخير .. ضد العدو. فقد تمر مركبة أو دبابة بجانب اللغم مرة أو أكثر .. ولكن فى لحظة ما .. فى يوم ما ستمر عجلة المركبة أو جنزير الدبابة على اللغم .. وتأتى بأكلها – لذلك كنا نسمى اللغم بلقب الابن البار .. وقد وصلت الحرفية فى استخدام الألغام بأننا وصلنا إلى استخدامه على الطرق الأسفلتيه بدون أن تكتشف. وكنا لا نستخدم اللغم منفردًا – بل كنا نستخدم كلمة (نِخَاويه) .. أى نضع معه أخ .. وغالبا ما يكون هذا الأخ .. لغم أو أكثر .. أو دانه مدفع من العيار الثقيل .. أو شوال (أمونال) وهى مادة شديدة الانفجار – لأن اللغم منفردًا قد يقتل أو يجرح من فى المركبة أو الدبابة أما إذا خاويته فإنه يدمر المركبة أو الدبابة بمن فيها جميعاً، وكان يعز علينـا أن يكتشف العـدو لغم ويؤمنه وينزعه من مكانه .. لذلك قـررنا تدمـير الدبابة التى تكتشـف الألغام وتدمرها ..


وكانت تسمى بالدبابة الدقاقة – والدقاقة عبارة عن دبابة مُرَكْب عليها من الأمام زراعين بينهم اسطوانة بها عدة سلاسل وفى آخر كل سلسلة كرة حديد فى حالة دواران دائم .. فتطرق هذه الكرة أى لغم مدفون فى المدقات أو الطرق الغير ممهدة .. فينفجر اللغم فى الهواء .. حيث أن الزراعين على بعد 2 متر من جسم الدبابة .. وفعلا تم عمل كمين لهذه الدقاقة أمام قطاع الجيش الثالث شمال مدينة السويس بحوالى 40 كم.

حيث أوصلنا لغم بفتيل متفجر ينتهى عند بطن الدبابة بتحبيشه متفجرات من العيار الثقيل عبارة عن 2 لغم وشوال أمونال ودانه مدفعية .. ولك أن تتخيل شدة هذه العبوة عندما انفجرت فى الدبابة .. بان طار برج الدبابة لمسافة 240 متر من المدق بالضفة الشرقية للقناة إلى الشط الغربى ليستقر عند قواتنا وكان متابعتنا لهذا الانفجار وطيران البرج فى الهواء إلى أن استقر بيننا فرحة كبيرة. ومن بعد هذه العملية لم يفكر العدو فى استخدام أى دقاقة لتطهير الطرق من الألغام .. وبذلك حافظنـا على ابننا البار فى النجاح ومن أعز عمليات زرع الألغام لدينا الكمين الذى تم عند منطقة رأس ملعب بجنوب سيناء .. حيث قامت المجموعة 39 باختيار هذه المنطقة لتواجد أكثر من مدق وطريق فى هذه المنطقة وقد تم تلغيم الطريق الرئيسى .. وعلى مسافات متبادلة تم زرع ألغام على الطرق الموازية وكذلك زرع أشراك خداعية لاصطياد الأفراد التى قد تنتشر بعد انفجار الألغام – ولكى نجذب انتباه العدو لهذه المنطقة فقد تم استخدام لونشرات صواريخ وضرب إحدى الأهداف المجاورة للمنطقة .. بمدينة الطور .. وكذلك تم وضع أشراك خداعية فى اللونشرات لتنفجر فى العدو فى حالة حضورهم لمعاينة مكان انطلاق الصواريخ وقد كانت خسائر العدو ما بين قتيل وجريح بالعشرات ودمرت ما يقرب من 7 مركبات وعربات جيب .. حيث كانت الإشراك الخداعية منتهية بدانات مدفعية حولت المنطقة لجحيمًا على كل من فيها على فترات متباعدة.

 لقد تكررت مثل هذه العمليات طوال فترة ما بين 67-70  حتى فى فترة إيقاف النيران ما بين منتصف عام 70 حتى عام 73 سواء على طول جبهة قناة السويس أو فى العمق بمنطقة جنوب سيناء حيث لا مواجهة مباشرة مع العدو رغم إيقاف النيران .. ولكنها كانت ضربات موجعة تستنزف قواته.

وما بين استغلال الضرب بالصواريخ مع عمل كمين بالألغام والإشراك الخداعية – كان هناك أيضا عملية كمين بالألغام باستخدام الهيلكوبتر. وكانت هذه العملية فى المنطقة الواقعة على طريق شرم الشيخ – الطور وكان الجديد فى هذه العملية أن العمل ليس على طريق ترابى بل على طريق أسـفلتى .. لا يشك العدو ولو لحظة أن يتم التلغيم على طريق أسفلت.

فقد جاءتنا المعلومات أن قوات العدو الموجودة بمدينة الطور .. تذهب فى نهاية الأسبوع لمقابلة ذويهم فى شرم الشيخ لقضاء عطلة نهاية الأسبوع – فتم التخطيط لاصطياد أحد هذه الحافلات بواسطة التلغيم.

ففى أحد الليالى المقمرة تحركنا عصرا بواسطة الهليوكبتر إلى مدينة الغردقة .. وعندما حل الليل تحركنا إلى منطقة جبل أبو شعر وهى شمال الغردقة .. قرية (الجونة الآن).

وكان قائد الطائرة النقيب (جلال النادى) وهو من أشجع وأكفأ الطيارين وله أعمال مشهودة سواء قبل ذلك أو أثناء معركة 73 .. وكان مساعده ملازم طيار (أحمد الدسوقى) .. وكالعادة كان مجلسى فى الطائرة  بين (جلال النادى) ومساعده مكان ملاح الطائرة .. وذلك لمقدرتى على الملاحة الجوية وتوجيه الطائرة إلى الهدف .. وفى داخل الطائرة جلس قائد العملية المقدم (إبراهيم الرفاعى) والملازم (محسـن طه) ومعه 6 صف ضابط بغرض القيـام كمجموعة سـاترة أثناء العمل .. علاوة على 2 صف ضابط أحدهم الرقيب أول (محمد عبده) وكانوا مسئولين على التحفظ على معدات التلغيم .. والتى أعدت بعناية وقمت بتدريبهم على العمل عليها مرارا .. وأتذكر أننى أصبت أثناء التدريب على الإعداد لهذه التجهيزات لدقتها وحساسيتها الفائقة .. إلا أن الإصابة كانت بسيطة فى منطقة الصدر .. حيث كنا نتدرب بعبوات مخففة.

وأقلعت الطائرة على ارتفاع 2 إلى 3 متر فوق خليج السويس حتى لا تكتشف من رادارات العدو .. وقد  كان البحر هادئاً جدًا فى هذا اليوم لدرجة أنه كان يشبه وكأنه قماش حرير لونه فضى بعد أن ترك القمر ضوءه عليه – وزاد المنظر جمالا لقرب طيران الطائرة من المياه .. وجعل الهواء المندفع من مروحة الطائرة يداعب سطح المياه .. فيقلق هذا الهدوء سطح المياه باهتزازات دائرية حول مسار الطائرة .. ولم أسرح فى هذا المنظر الجميل كثيرا .. لأوجه (جلال النادى) إلى منطقة العمل على طريق الإسفلت وهى منطقة رأس الجارة والتى تبعد حوالى 50 كم جنوب الطور.

وكانت تعليماتى لـ (جلال) بأن يهبط بكامل العجل على الإسفلت حتى لا تترك الطائرة أى أثر .. قد يكتشفه العدو فيفسد ما قمنا به. وما أن هبطت الطائرة وانتشرت مجموعة الحماية .. وأخذت مجموعة الإعداد إلى الخلف بعيدا عن  الطائرة .. وبدأت فى إعداد الكمين فى الرمال بجانب الإسفلت مباشرة وكانت عبارة عن دانه مدفعية 122 مم وشوال أمونال .. وكان هذا متصلاً بشرك على بعد متر من الطريق بواسطة سلك متصل بدائرة كهربائية تم تثبيتها بالإسفلت بعد أن تم عمل مجرى لها بالسونكى – وتم تمويه كل هذا العمل سواء بالكودى (الحشائش) المنتشرة بالصحراء أو بالزفت السايح والذى أحضرناه معنا فى زمزميه مياه – وبمجرد الانتهاء من العمل أعطيت تمام لـ (إبراهيم الرفاعى) والذى قام بسحب المجموعة الساترة وركبنا الطائرة .. وعدنا أدرجنا عبر خليج السويس على ارتفاع منخفض إلى الغردقة ثم القاهرة .. مستمتعا ثانية بمداعبة الهواء الناتج عن مروحة الطائرة بسطح مياه خليج السويس الهادئ فى ظل ضوء القمر. وقد كانت هذه (التحبيشة) أبنًا بارًا فعلا .. فقد جاءتنا الأخبار من الاستطلاع اللاسلكى أن الكمين قد اصطاد حافلة محملة بالجنود كانت متجه من الطور إلى شرم الشيخ وبعد يومين جاء مندوبنا من الداخل ومعه صورة توضح مستوى التدمير الذى أحدثه الكمين وفى الصورة يظهر أتوبيس وقد دمـر تمامـا ومن شدة الانفجار صار الأتوبيس على شكل حرف (U).

ويبدو أن (جلال النادى) عندما تحرك للإقلاع بالطائرة لم يتمكن مع حمولة الطائرة بالإقلاع عموديا .. مما اضطره للسير بضع مترات للصعود .. فتركت عجلة الطائرة اليمنى أثرًا على الرمال .. والحمد لله أن العدو لم يكتشف ذلك قبل أن يأتى الكمين بثماره .. بل أكتشف ذلك بعد نجاح الكمين – وقد تم القبض على ابن شيخ قبيلة المنطقة ويدعى (عيد المغبش) .. وحوكم محكمة عسكرية بإسرائيل وصدر ضده حكم بالسجن سبع سنوات .. لأنه كان يملك عربة (بيك أب) ماركة فورد نصف نقل .. وكان مركب عليها كوتش السيارة به نفس نقوش كاوتش الطائرة معتقدين أن له يدًا بالعملية.

وقد أفـادنى هذا الحادث فائدة كبيرة عندما توليت بعد عدة أشهر العمل فى مكتب مخابرات الغردقة .. سأرويها فى قصة لاحقة بهذا الكتـاب باسم اللعب على المكشوف والتى تمكنت من خلالها الإفـراج عن (عيد المغبش) مما أكسبنى ثقة أهل بدو جنوب سيناء.

لقد كانت هذه بعضًا .. أو أهم عمليات رص الألغام والتى طورناها إلى عمل كمائن بالألغام والأشراك الخداعية مع مزجها بأعمال الضرب بالصواريخ واستخدام الهيلوكبتر .. علاوة على أعمال التلغيم العادية والتى أوجعت العدو واستنزفته بجانب الأعمال القتالية الأخرى .. وكانت أعمال التلغيم هذه والتى احترفتها أيضا القوات المرابطة على طول جبهة قناة السويس وكذلك مكاتب المخابرات بالجبهة بواسطة بدو سيناء وخاصة مكتب مخابرات بورسعيد والقنطرة بقيـادة الرائد (عادل فؤاد) والنقيب (مدحت مرسى) واللذان كان لهما أعمال مجيدة فى هذا المجال سواء التلغيم أو الضرب بالصواريخ للمواقع المهمة بواسطة بدو سيناء .. والتى أسخنت موقف معارك الاستنزاف وأحب أن اذكر هنا إحصائية لمن يستهين بمعارك الاستنزاف .. فإنه إذا كان ما بين 67 ، 73 أكثر من 300 أسبوع وأنه لا يمر أسبوع إلا وهناك فى المتوسط عدد (2) عمل إيجابى لعمليات زرع الألغام والأشراك الخداعية .. فأننا نجد أن خسـائر العدو لا تقل عن 600 مركبة ودبابة محملة بالجنود.

وأعتقد أن ذلك وحـده يضاهى ما قد خسرناه فى معركة 67 .. علاوة على الكم الهائل من جنود القوات الإسرائيلية .. هذا علاوة على انخفاض الروح المعنوية للعدو نتيجة ذلك .. لعدم شعورهم بالأمان فى أى تحرك سواء على المدقات أو الإسفلت والطرق الممهدة.

أعتقد أنه لو تم ذلك فى الجولان أو الضفة الغربية لما فكرت إسرائيل فى الاستمرار بهذه المناطق المضيافة حتى الآن.

إن روجرز المبعوث الأمريكى والذى تحرك بين مصر وإسرائيل مكوكيا .. لمحاولة لإيقاف النيران والسعى إلى التهدئة .. إلا نتيجة لهذه المعارك الاستنزافية التى لحقت بالعدو. 

Share
Click to listen highlighted text! Powered By GSpeech