خواطرمن حرب أكتوبركماعايشتها
بيد البطل المهندس – محمود عبد السميع شديد
للتعمق في كلمات البطل يرجي مشاهدة وثائقي رائع | بمشاهد نادرة لا تعرض |
كيف صمدت السويس والجيش الثالث في الحصار " فيلم صمود " | أضغط للمشاهدة
أكثر من خمسون عاماً ، هي عدد السنوات التي مضت من عمري منذ أن شاركت في حرب أكتوبر المجيدة. أتكلم عن حرب العزه والكرامه ، حرب السادس من أكتوبر ، أو العاشر من رمضان ، أو حرب يوم كيبور أو يوم الغفران كما تسميه اسرائيل. في هذه السطور ، لن أتطرق لتفاصيل وأحداث وخفايا الحرب ، فهذه التفاصيل والأحداث قد تكفل بها التاريخ وسجلها بحروف من ذهب في سجلاته ، انما هي مجرد خواطر ومشاهد وحشد من الذكريات التي مازالت محفوره في أعماق الذاكره كأنها حدثت بالأمس القريب. أعلم تماما أن الذاكره مثل شبكه كثيره الثقوب يتسرب منها الكثير ، وذاكرتي بالتأكيد تسرب منها الكثير والكثير من الأحداث والمشاهد وأبت واستعصت ذكريات الحرب والحصار أن تتسرب وبقيت حيه في الذاكره حتي يومنا هذا. الانسان منا لا يختار ما يتذكره بل الذكريات هي التي تفرض نفسها وقتما تشاء. رغم الحاح شديد من الابناء وبعض الزملاء ، فقد ترددت طويلا طويلا قبل أن أمسك بالقلم وأبدأ في تدوين هذه المشاهد وأجسدها حيه علي الورق ، ولا أخفي سرا أنني حاولت أن أفعل هذا أكثر من مره وكنت أتوقف في منتصف الطريق ، ربما لأن بعض هذه الذكريات عندما استعيدها ، حتي بيني وبين نفسي ، تثير في النفس الكثير من الشجن وتسبب الكثير من الألم كأنها جروح عميقه تأبي أن تندمل رغم مرور كل هذه السنوات. أزعم أنه قبل أن أخوض تجربه أيام الحرب في سيناء ثم أيام الحصار الصعبه في مدينه السويس ، كانت حياتي قبل خوض هذه التجربه الثريه لا تخلو من مطبات وعواصف وتجارب قاسيه ، إلا أنني أستطيع أن أجزم أن كل هذه العواصف والتجارب تبدو كأنها 'لا شئ' إذا قورنت بما تعرضت له أثناء الحرب وأثناء الحصار. دعك من تجربه الحرب في حد ذاتها وفيها ما فيها من قسوه ودمار ورعب ، وكيف كان طيران العدو يمطرنا ليل نهار بأطنان من القنابل والصواريخ ، ومدفعيته بعيده المدي تقصفنا من بعيد بعشوائيه وبدون سابق انذار وكانت رغم عشوائيتها كأنها تنتقي ضحاياها. دعك من اننا كنا ننطق الشهادتين عشرات المرات في اليوم الواحد ، دعك من معاناه الجوع والعطش وقت الحصار وكيف كانت تمضي أيام طوال دون طعام أو شراب. دعك من ذلك كله ، إنما ليس هناك ماهو أصعب من أن تفقد صديقا ، أو حتي شهيدا لا تعرفه ، وهو في أحضانك أو بالقرب منك ، أو أن تلقنه الشهادتين قبل أن تصعد روحه الطاهره الي بارئها ، أو أن توسده التراب وتدعو له بالرحمه وتتمني من الله أن يكون هناك من يعتني بك أيضا عندما يحين الأجل. ليس هناك ما هو اصعب من صرخات جندي مصاب أو أنين جريح مازالت صداها تتردد في أذني حتي اليوم. ليس هناك ما هو أصعب من منظر عشرات الجثث من حولك ولا تملك لهم إلا أن تدعو لهم بالرحمه وأنت تعلم أنهم ليسوا بحاجه الي دعاء فهم في مقعد صدق عند مليك مقتدر. تعرضت لهذه المواقف مرات ومرات وما زالت تعيش في داخلي وتمر امام ناظري كأنها مشاهد حيه أعيشها الآن. ومع ذلك كانت أيام الحرب وأيام الحصار لا تخلو من ذكريات جميله ولحظات مضيئه وضحكات وتلاحم ومشاعر دافئه جمعت بيننا جنوداً وضباطاً رغم كل الظروف الصعبه التي كنا نمر بها. كنت أناقش بعضا من هذه الخواطر مع صديق عزيز ، وهو كاتب وأديب محترم ، وأقنعني أنه من حق الشباب والجيل الجديد أن يتعرف علي بطولات الجندي المصري والملاحم والتضحيات التي عايشتها وكنت شاهد عيان عليها ، وأستطيع أن أوكد أن ماتحقق في أكتوبر ٧٣ معجزه بكل المقاييس واستطاع الجندي المصري أن يثبت أنه خير أجناد الأرض ويحقق المستحيل وهو يخوض الحرب وشعاره الموت أو الشهاده. استطاع الجندي المصري الذي ذاق مراره النكسه في ١٩٦٧ ، دون أن يخوض حربا ، أن يعبر فوق الهزيمه وأن يحرز النصر الذي أدهش العالم. اقتنعت برأي صديقي الكاتب والأديب فهذا أقل ما يمكن عمله لهؤلاء الأبطال. وقلت في نفسي أن هذه قد تكون أيضا فرصه لاستلهام روح أكتوبر و إحياء قيم نبيله وخصال حميده كدنا نفتقدها هذه الأيام مثل التضحيه والفداء والصمود والانتماء والعزه والكرامه ، ومن هنا كان قراري أن أبدأ من فوري بالكتابه.
انا المهندس محمود عبد السميع تخرجت من كليه الهندسه جامعه القاهره قسم البترول في يونيو ١٩٧٢. التحقت كجندي بالقوات المسلحه في اغسطس من نفس السنه ، وجاء توزيعي علي سلاح يسمي 'اداره المياه' وكان تابعاً قبلها لسلاح المهندسين. ثم بعد ذلك تم توزيعنا علي الكتائب ، حيث وزعت علي الكتيبه ك ٨٠ مد خطوط مياه الموجوده في قريه ابو النمرس محافظه الجيزه وكانت وقتها ماتزال تحت الإنشاء. تمت ترقيتي الي رتبه عريف في يناير ١٩٧٣ ثم كانت الترفيه الثانيه الي رتبه رقيب عقب حرب اكتوبر المجيدة والعوده من الحصار في مارس ١٩٧٤ ، الي أن أنهيت خدمتي في يونيو ١٩٧٥ بعد قرابه الثلاث سنوات أمضيتها في القوات المسلحه التي أعتبرها بحق مصنعاً للرجال. وهذه قصتي ...
المشهد الأول المكان: الكتيبه ك ٨٠ مد خطوط مياه والتي تقع في قريه أبو النمرس بالجيزه.
الزمان: ليله السابع عشر من أكتوبر ١٩٧٣ الموافق الحادي والعشرين من رمضان
اتذكر جيدا أحداث هذه الليله. كنا نضع اللمسات الأخيره قبل أن نتوجه للجبهه في الصباح الباكر مع أول ضوء. كان من المهم المرور علي الجنود والتأكد من جاهزيتهم وأنهم قد حملوا معهم كل المهمات والمعدات والأسلحه التي نحتاجها لإنجاز المهمه ، بالإضافه الي أغراضهم الشخصيه وأقنعه الغاز. لم يكونوا في حاجه الي من يشد أزرهم أو يشحذ عزيمتهم فقد كانت روحهم المعنويه تلامس السماء ، وكنا جميعا كذلك. كنا جميعا نتحرق شوقا لنيل شرف المشاركه في الحرب ونحلم باللحظه التي تطأ أقدامنا ارض الفيروز ، أرض سيناء الحبيبه ، كمن يتهيأ للقاء المحبوبه في لقاء طال انتظاره. بعد تدريبات شاقه استمرت شهورا طويله ، استطعنا خلالها ، بعبقريه وذكاء الجندي المصري ، أن نطور ونبتكر تفاصيل كثيره في اسلوب وطريقه مد خط المياه، وكان ذلك مثار إعجاب ودهشه الخبير الروسي الذي لم يصدق كيف وصل المصريين الي هذا المعدل الزمني غير المسبوق. كان الجميع، ضباطا وجنودا ، علي أهبه الإستعداد لتنفيذ المهمه. كانت التعليمات التي صدرت من القياده إلي كتيبتنا الكتيبه ( ك ٨٠) هي أن نقوم بتوفير المياه اللازمه لأفراد الجيش الثالث بواسطه خط مواسير ٦ بوصه يمتد من قناه السويس إلي مسافه ١٦٠٠ متر حتي يتصل بالخط الموجود هناك. كانت هناك تعليمات مماثله قد صدرت إلي كتيبه أخري (ك ٧٩) القيام بمهمه مماثله في الجيش الثاني وكانت تستخدم خط مواسير ٤ بوصه علي ما أتذكر. كانت سريتي السريه الثانيه (س ٢) بقياده الضابط ملازم أول مهندس محمود رفعت هي المنوط بها تنفيذ العمليه. وكلمه حق يجب أن تقال في حق هذا الرجل ، الذي تربطني به صداقه جميله أعتز بها حتي الان ، أن إختياره كقائد لهذه المهمه كان بالفعل إختيارا صادف أهله فهو رجل صاحب رؤيه وإراده وهمه ويتمتع بكل صفات القياده التي تحتاجها مثل هذه المهمه. عدت الي خيمتي في السريه حوالي منتصف الليل عسي أن أنال قسطا من النوم قبل التحرك فجرا صوب سيناء الحبيبه ، وكيف يأتي النوم في ليله شديده الخصوصيه كهذه الليله ، وتذكرت أنني لم أتناول وجبه السحور بعد. تناولنا وجبه خفيفه مع قليل من التمر ونحن نتجاذب اطراف الحديث ولم نتطرق الي ما عساه ينتظرنا في الأيام القادمه.
المشهد الثاني: في الطريق الي الجبهه
الزمان: يوم الأربعاء الموافق السابع عشر من أكتوبر ١٩٧٣
. لم نتمكن من التحرك مع أول ضوء كما كان مخططا ربما لاستكمال بعض الإجراءات والتنسيق مع القياده العسكريه في الجبهه والتأكد من ماهيه الجهه التي سوف. نلتحق بها عندما نصل الي هناك سواء كانت فرقه أو لواء أو حتي كتيبه. يحضرني الآن مشهد لن أنساه ونحن نتهيأ لمغادره الكتيبه فقد استوقفتنا عند البوابه واحده من الفلاحات اللاتي كن يأتين من وقت لآخر ليجمعن التمر – البلح- من أشجار النخيل الذي كان يملأ ارض الكتيبه. كانت السيده تحمل كيسا من التمر وتهديه الي المقدم قائد الكتيبه كهديه منها الي افراد المجموعه. لن أنسي ما حييت دعاء هذه السيده لنا وهي تقول 'ربنا ينصركم وترجعوا بالسلامه'. ياله من دعاء جميل صادر من أم طيبه وبسيطه وقد جاء في وقته تماما. نسيت أن أقول أن الكتيبه ك ٨٠ كانت مقامه علي مساحه واسعه من الأرض الزراعيه وكنا نسمح للفلاحين بالدخول والعنايه بالنخل وجمع محصول البلح كلما أرادوا. المهم ، تحرك بنا القول العسكري ، وهو تعبير عسكري يعني مجموعه المركبات العسكريه التي تتحرك في طابور واحد، حوالي التاسعه صباحا ، يتقدمه سياره جيب يستقلها قائد الكتيبه المقدم أ.ي ، يليها سياره لوري نصر بها الضابط محمود رفعت ، قائد المهمه ، يجلس بجانب السائق حسن الونش ، وفي الخلف معظم صف الجنود، وأنا منهم، وكذلك بعض الجنود. وإن لم تخني الذاكره ، فقد كانت السياره اللوري الثالثه في القول يستقلها الضابط أحمد الباز مع باقي الافراد والجنود. كان القول يضم أيضا ثمان سيارات لوري ( زل ) تحمل المواسير اللازمه لمد خط المياه ، وباقي الأدوات مثل حلقات المطاط والركائز الخشبيه التي نحتاجها لربط كل ماسورة بأخري، وفي مؤخره القول كان هناك اللوري الذي يحمل بعض الخيام وباقي مهمات الإعاشة وكذلك صناديق الذخيره. كان سلاحنا الشخصي في هذا الوقت عباره عن بندقيه طراز 'حكيم' 54 نصف آليه من انتاج المصانع الحربيه واذكر أنها كانت ثقيله إلي حد ما ولها قوه ارتداد عنيفه بعض الشئ ، إلا أنها كانت دقيقه الي حد كبير. * ملحوظه: لم نصطحب معنا المعدات الثقيله مثل طلمبات المياه وضواغط الهواء والفلاتر اللازمه لتنقيه الماء ، علي وعد أن يقوم الجيش الثالث بتوفير هذه المعدات. أتذكر وقتها أن القول كان يتحرك بسرعه معقوله إلا أنه بدا لي وقتها أنه يتحرك ببطء شديد كأني كنت أريد أن أقفز فوق الزمن ، كانت رأسي تزدحم بعشرات من الأفكار والخواطر ، وتنتابني مشاعر كثيره متباينه يمتزج فيها الشعور بالفخر والشموخ وربما بعض القلق ، إلا أنني أستطيع أن أجزم أن الطمأنينه كانت تغمرني طوال الطريق. كنت أرسم في ذهني وأضع أكثر من سيناريو لمشهد العبور الذي كان حتي وقت قريب حلما من أحلام يقظتي. انطلق بنا القول مخترقا شوارع الجيزه ثم شوارع القاهره حتي وصلنا الي أول طريق القاهره - السويس بعد الظهر بقليل. لفت نظري أن الطريق كان يبدو هادئا رغم كثره المركبات العسكرية التي كانت معظمها تتحرك في طريقها الي السويس وكأنها ترافقنا في موكب عرس شديد الخصوصيه. كان الهدوء الذي يسيطر علي الطريق لا يدل ابدا أننا في حاله حرب وأن هناك اشتباكات عنيفه تجري في الجانب الآخر من القناه بيننا وبين العدو الإسرائيلي. أتذكر أننا مررنا بنقطتي تفتيش للشرطه العسكريه ولم يستغرق ذلك سوق قليل من الوقت وكانوا يدعون لنا بالتوفيق والعوده بالسلامه. لم يستمر هذا الهدوء طويلا ، إذ فوجئنا بطيران العدو يغير علينا في غاره جويه لم تستغرق سوي بضع دقائق فقد أجبرته عناصر دفاعنا الجوي أن يعود سريعا من حيث جاء طلبا للسلامه. ها قد دخلنا سريعا في أجواء الحرب إذن وكأن هذه الغاره القصيره كانت بمثابه بروفه لما قد نواجهه أثناء تنفيذ المهمه التي جئنا من أجلها. سادت حاله من الخوف والتوتر بين الجنود ، فهذه اول مره يتعرضون فيها لمثل هذا الموقف ، وهرول الجميع وهم يقفزون من السيارات بسرعه رغم ثقل 'شده القتال' التي يحملها كل منا علي ظهره . إنتشرنا في الصحراء علي جانبي الطريق بحثا عن مكان نحتمي فيه حتي عادت الطائرات الاسرائيليه من حيث أتت بدون خسائر بيننا والحمد لله. الشعور بالخوف شيء طبيعي في مثل هذا الموقف ، وان تفاوتت حدته من شخص لآخر. قليلون منا ، من يستطيع أن يسيطر علي هذا الشعور ، لكن هذا لا يعني أنه لا يخاف فالخوف غريزه فطريه أودعها المولي سبحانه في الانسان ومعظم الكائنات الحيه ، فعندما يخاف الإنسان فإنه يحاول الهروب أو الإختباء تجنبا لما قد يهدده من أخطار. أما إذا تمكن الخوف من صاحبه وتحول الي فزع ورعب فإن رد الفعل قد يتطور الي حاله من الهستريا وربما تصل لحد الجمود. وبالرجوع إلي التعريف العسكري للجندي وعلاقته بفكره الخوف نجد أن هناك صراعا دائما بين الإثنين ينتصر فيه أحدهما علي الآخر ، إما أن ينتصر الجندي علي خوفه ويمضي قدما وإما أن يحدث العكس وهذا ما لايجب أن يحدث كثيرا في وقت الحرب. ربما يعتمد ذلك في المقام الأول علي الطبيعه الشخصيه للجندي ونشأته وخبراته الحياتيه قبل الاندماج في تجربه الحرب. أطلت قليلا في الحديث عن علاقه الجندي بفكره الخوف لأنها فعلا تستحق. وأتوقف هنا قليلا حتي أذكر القارئ أن هذه المجموعه من الرجال جاءت لأداء مهمه محدده وهي توصيل المياه لجنودنا في سيناء في ظروف غايه في الصعوبه ، سواء من حيث طبيعه الأرض وأجواء الحرب ، ومن الظلم ان نصنفهم انهم 'مجموعه قتاليه'. أشهد أنهم أثبتوا عكس ذلك تماما بما أظهروه من شجاعه وبساله وصمود أثناء الحرب وأثناء الحصار بما يجعلهم بحق مقاتلين بجداره. سيظل الجندي المصري ، أيا كان تخصصه ، خير اجناد الأرض. عاد الجميع إلي السيارات وواصل القول السير حتي وصلنا الي مكان العبور أمام معسكر الشلوفه قبل المغرب بقليل. قمنا بسرعه ، قبل أن يحل الظلام ، بتجهيز الخيام التي نحتاجها للمبيت وتشمل خيام الإيواء والتموين والاسلحه. تناهي إلي أسماعنا أذان المغرب بأتي من أحد المساجد في إحدي القري القريبه ينبهنا أنه قد حان الوقت لتناول وجبه الإفطار. كنا جميعا صائمين حتي أن إميل حليم ، الجندي المسيحي الوحيد في المجموعه ، كان يشاركنا الصوم وكنا سعداء به. تناول كل منا الوجبه الجافه الخاصه به في جو يسوده المرح ويشوبه بعض القلق. كانت الوجبه الجافه التي تصرف لنا تتكون عاده من قطعه من الجبن المطبوخ وبعض قطع البسكويت وما تيسر من الطعام المحفوظ من المعلبات مثل الفول المدمس او البلوبيف ، وفي اعتقادي انها وجبه مشبعه وتحتوي علي العناصر الغذائية التي يحتاجها الجندي في وقت الحرب. كان علينا أن نخلد للنوم مبكرا فهناك الكثير مما يجب علينا إنجازه في الصباح ولكن كيف ننام والحلم الكبير أوشك أن يتحقق ، حلم العبور إلي أرض الفيروز ، سيناء الحبيبه التي أصبحت علي مرمي حجر.
المشهد الثالث :ليله العبور الزمان:
ليله الخميس الموافق الثامن عشر من أكتوبر ١٩٧٣
مازالت أجواء هذه الليله حاضره في ذهني حتي اليوم. كانت أصوات الاشتباكات والانفجارات تصل الينا ، ونحن نصلي العشاء ثم الفجرفي جماعه و ندعو الله أن يحفظ جنودنا البواسل ويسدد رميهم ،فما هي الا ساعات قليله وننضم الي جانبهم وننال بعضا من هذا الشرف. أتذكر أننا في هذه الليلة قمنا بتوزيع الخدمات والحراسه ('النبطشيه' بالتعريف العسكري) علي أن يتناوب إثنان من الجنود الحراسه كل ساعتين حتي يتثني للجميع أن ينال قسطا من الراحه. كنت أنا والضابط محمود رفعت - نمر علي الجنود لنتأكد للمره الأخيره من جاهزيتهم ونزيل عنهم أي شعور بالقلق أو الخوف. طبقا للمفهوم العسكري ، فإن حاله الاستعداد والجاهزية القتاليه تتدرج من 'الحاله العاديه' في وقت السلم ، ثم 'الجاهزية العاليه' وفيها يتم الاستعداد النهائي للمهمه القتاليه ، ثم أخيرا 'حاله الجاهزيه الكامله' وهي الحاله التي نعيشها الآن ونحن في انتظار ساعة الصفر. عقب صلاه الفجر مباشره ، كان الجميع علي أهبه الاستعداد وفي انتظار الاشاره لبدء العبور. كأني الآن وبعد كل هذه السنوات ،كأني مازلت أستمع الي الضابط محمود رفعت وهو يصدر أوامره الي رقيب أول (باش شاويش) أحمد حامد بتجهيز الطابور ، ثم كأني مازلت استمع الي الباش شاويش احمد حامد وهو ينادي بصوت منخفض ، عكس ما تعودناه منه ، 'الكل يجمع'. وفي أقل من دقيقه كان الجميع قد اصطف أمام العربات التي كانت مستعده للانطلاق.
المشهد الرابع: العبور الخميس الموافق الثامن عشر من أكتوبر ١٩٧٣
كان الجميع في قمه النشاط وهم يأخذون أماكنهم في عربات الزل ، وعندما اكتمل الركب بدأ السائقون في اداره المحركات وما هي الي لحظات حتي كنا في طريقنا نحو القناه. هاهو الحلم الكبير علي وشك أن يتحقق. كانت الساعة تقترب من السابعة صباحا ونحن نعبر مجري القناه فوق الكوبري الذي أقامه سلاح المهندسين قبل بدء العبور.أستطيع أن أجزم الآن وبعد كل هذه السنوات ، أن هذه اللحظات كانت من أسعد اللحظات التي عشتها في حياتي كلها.لحظات انتظرتها طويلا وها هي الآن تتحقق. هذا الكوبري الذي نسير فوقه الآن لم يكن مجرد كوبري يأخذنا الي أرض الفيروز ، بل كان يمثل لي الكثير وقتها. هانحن نعبر الهزيمه بعد ست سنوات عجاف مرت علينا كالدهر. إن لم تخني الذاكره ، كان هذا الكوبري هو الكوبري رقم ٤٦ الذي أقامه سلاح المهندسين ضمن الكباري التي أقيمت في نطاقي الجيش الثاني والجيش الثالث مابين كباري خفيفه وثقيله لإتمام العبور العظيم. هنا أقف قليلا لأوجه التحيه الي سلاح المهندسين الذي نجح في إقامه هذه الكباري في وقت قياسي تحت نيران مدفعيه وطيران العدو. عمل خارق بكل المقاييس. أتذكر اننا ، قبل أن تقوم الحرب ، كنا نمر علي احدي كتائب سلاح المهندسين قرب أبو النمرس وهم يتدربون علي انشاء هذه الكباري علي احد مصارف النيل ، باستخدام البراطيم بطريقه احترافيه تثير الاعجاب. كانت هذه اللقطه ، ومثلها لقطات أخري كثيره ، تحيي فينا الأمل بأننا بلا شك قادمون. لم يستغرق العبور طويلا وكنت أتعجب كيف أننا لم نشعر بأي اهتزازات أو مطبات أثناء العبوركأننا نجتاز أحد كباري القاهره. كنا نقول أن عبورنا هذا هو عبور خمس نجوم '’five star ولا يمكن أن يقارن بعبور الموجات الاولي عندما عبرت القناه خمس فرق مشاه مستخدمين حوالي ألف قارب اقتحام مطاطي ، وتمكنوا من اجتياز انابيب النابالم تحت القناه ، والتي نجح أبطال الضفادع البشريه في تعطيلها قبل العبور. أسعدني الحظ عندما التقيت بأحد هؤلاء الأبطال من جنود المشاه الذين نالوا شرف العبور مع أول موجه وقال لي 'لحظات العبور كانت أفضل ماحدث لي في حياتي كلها ، كنا قد تدربنا علي استخدام القوارب المطاطيه مئات المرات قبل الحرب حتي بدا لي أثناء العبور أننا ننفذ أحد هذه التدريبات ، الفرق الوحيد هو صوت مدفعيتنا الثقيله وهي تدوي فوقنا وتمنحنا ثقه لا حدود لها وذلك الحماس الذي الذي كان يتقد بداخلنا . كلما أتذكرهذه اللحظات يقشعر جسدي حتي بعد مرور كل هذه السنوات فصوت الجنود مازال يرن في أذني وهم يهتفون " الله أكبر" في نفس واحد ، تلك الصيحه التي زلزلت الأرض من تحت أقدام العدو'. ملحوظه: كان وقت العبور مدروسا بدقه حتي لا تعيق حركه المد والجزر وسرعه التيار تقدم القوارب المطاطيه أو تغير اتجاهها. في هذه الفتره القصيره ، كنت أتطلع إلي الساتر الترابي أمامي ويتملكني شعور بالفخر والإعتزاز بقواتنا المسلحه وكيف استطاعت إسقاط هذا المانع الحصين ، خط بارليف ، في أقل من ست ساعات وسطرت ملحمه اسطوريه يتحدث عنها العالم حتي اليوم. وللأسف فإن البعض يخلط بين الساتر الترابي وخط بارليف. ولهؤلاء نقول أن الساتر الترابي هو جزء من خط بارليف الذي أنشأته إسرائيل عقب هزيمه ١٩٦٧ علي امتداد قناه السويس ، ويصل ارتفاعه الي ٣٠ مترا وبزاويه انحدار تصل الي ٤٥ درجه ، ويمكنه تحمل القصف بأنواع مختلف من الأسلحة الثقيلة. أما خط بارليف نفسه فهومجموعه من النقاط الخرسانيه الحصينة (حوالي ٣٠ نقطه حصينه) خلف الساتر الترابي ، وكل نقطه تشمل دشم للرشاشات وأسلحه مضادة للدبابات وحتي المدافع المضادة للطائرات (م ط) ، الي جانب مرابض الدبابات والمدفعية وملاجئ للأفراد. ويحضرني الآن ماقاله موشي ديان وزير الحرب الإسرائيلي وقتها 'المصريين يحتاجون سلاح المهندسين الأمريكي وسلاح المهندسين الروسي مجتمعين حتي يجتازوا الساتر الترابي وحده' - منتهي الصلف والغرور.حتي أن كبير الخبراء الروس قال ذات مره قبل رحيله من مصر قبل الحرب 'أنكم أيها المصريين تحتاجون لقنبله ذريه لفتح ثغره في هذا الساتر الترابي'. كلاهما ، موشي ديان والخبير الروسي، أساء تقدير قيمه العقل المصري وقدرته علي الإبداع والإبتكار. وها هو اللواء باقي زكي يوسف ياقوت يفاجئ الجميع بفكرته العبقريه باستخدام مضخات ذات قوه ضغط عاليه لفتح ثغرات في الساتر الترابي. وافقت القياده العسكريه علي هذه الفكره المبتكره بالاجماع ، وتم تجربه أكثر من نوع من المضخات القويه لهذا الغرض ، وتم إجراء أكثر من ٣٠٠ تجربه ميدانيه علي ساتر ترابي أقيم لهذا الغرض في جزيره البلاح بالاسماعيلية ، يماثل تماما الساتر الموجود علي الصفه الشرقيه للقناه. وكما أن الشئ بالشئ يذكر ، أتذكر الآن ، وقبل الحرب بعده أشهر ، الرائد مهندس محمد عبدالله قائد عمليات الكتيبه ك ٨٠ عندما كان يطلب مني أن أتردد علي المكتبه الموجوده بكليه الهندسه جامعة القاهره وأوافيه بأحدث ماينشر في المجلات والأبحاث العلميه عن أنواع التربيه الرملية والجديد في صناعه المضخات فائقه القوه لتجريف الرمال. وقتها ، أفهمني الرائد محمد عبد المنعم أنه يريد هذه المعلومات حتي يستخدمها في رساله الماجستير التي يستعد لها ، وكنت سعيدا أنني أساعده خاصه أنه كانت تربطني علاقه جيده بأمين المكتبه منذ أن كنت طالبا في الكليه. فهمت بعدها أن هذه المعلومات كان سلاح المهندسين قد طلبها من الكتيبه استعدادا للحرب ، ولم يفصح لي الرائد محمد عبد المنعم هذا الأمر الا بعد العوده من الحصار. منتهي الحرفيه والتخطيط السليم. هانحن نقترب أكثر وأكثر من الشاطئ الشرقي للقناه وأنا أحاول أن أملأ عيني من هذه البانوراما الحيه التي أراها من حولي. مجري القناه والساحل الترابي والتحركات الدائبة التي يقوم بها افراد قواتنا المسلحه هنا وهناك في تناغم وسلاسه ، صوره رائعه تستحق أن تحتفظ بها الذاكره حتي نهايه العمر. ها نحن وقد وصنا الي نهايه الكوبري وبدأ القول العسكري يتحرك فوق أرض سيناء الحبيبه ، وقبل أن نمر عبر الثغره التي فتحتها سلاح المهندسين كما ذكرت من قبل ، نظرت مره أخري الي الساتر الترابي ، وعن قرب هذه المره ، و أقول لنفسي كم أنت رائع وعظيم أيها الجندي المصري. كيف استطعت أن تتسلق هذا الساتر الترابي الذي يرتفع بما يعادل سبع أو عشر طوابق ويميل بزاويه تصل أحيانا الي ٨٠ مترا ، ورماله متحركه لا تصلح للمشي ، فما بالك بالتسلق، كل هذا وأنت صائم في نهار رمضان وتحمل فوق ظهرك شده القتال ومدفعك وذخيرتك أو السلم الخشبي الذي سيستخدمه زملاؤك في الصعود من بعدك.إنها إرادتك الحديديه وإيمانك الراسخ بأنك مشروع شهيد هي التي جعلتك أيها البطل تستحق ماقاله فيك خير الأنام 'بأنك خير أجناد الأرض وأنك في رباط حتي تقوم الساعه'.
المشهد الخامس: اليوم الأول في سيناء
الخميس الموافق الثامن عشر من أكتوبر ١٩٧٣
كانت عقارب الساعه تشير الي الثامنه والنصف صباحا عندما وطأت قدماي أرض سيناء الحبيبه لأول مره. لحظه خالده في حياتي كلها. كان أول ما فعلناه ، وبدون اتفاق ، أن سجد الجميع لله شكرا أن جعلنا نعيش هذه اللحظه الفارقه ، والتي كانت حتي وقت قريب حلما نعيشه ليل نهار. وأيضا وبدون أي اتفاق مسبق ، انطلقت الحناجر بالهتاف ' الله أكبر' ‘الله أكبر'. وقتها فقط شعرت بقشعريره تسري في جسدي وكأنها تمدني بشحنات من القوه والعزه والفخار والتحدي. إحساس رائع مازلت أسترجعه وأشعر به كلما تذكرت هذه اللحظات التي يصعب أن تتكرر في حياه الفرد. وسريعا سريعا بدأنا في تنفيذ المهمه التي جئنا من أجلها فلم نكن نملك رفاهيه إضاعه أي وقت. تفحصنا المكان بسرعه حتي نعرف من أين نبدأ ، و كخطه أوليه ، قمنا برسم كروكي حاولنا فيه أن نحدد المسار الأنسب لخط المياه الذي نحن بصدد مده بدايه من مجري القناه مرورا بالساحل الترابي ، صعودا ونزولا ، قبل أن يمتد الخط عبر صحراء سيناء الي وجهته الاخيره حتي يتصل بخط المياه الذي أنشأه الجيش الثالث. وحتي نضمن تدفق المياه في الخط بطريقه سليمه وبدون أي معوقات ، كان لابد من اجراء بعض الحسابات اللازمه والتي تعتمد علي تطبيق القوانين الهيدروليكية hydraulics المطلوبه والتي تأخذ في الاعتبار عوامل مهمه مثل قطر المواسير وطول الخط ونوعيه المياه الي آخر هذه المعطيات التي تدخل في المعادلات التي نستخدمها. ملحوظه مهمه: هذا الموقف يؤكد أن القرار الذي اتخذ بتجنيد المؤهلات العليا ، خاصه المهندسين ، كأفراد وجنود وضباط ، كان قرارا صائبا للتعامل مع مثل هذه المواقف. في هذه الأثناء ، كان الجنود منهمكين في انزال المؤن والمهمات والمخل (جمع مخله) ووضعها في المكان الذي اخترناه بعنايه لهذا الغرض. وهنا أتذكر الجندي 'إبراهيم صابر' الذي اصطحبنا معنا كفرد أمن ليكون مسؤلا عن المهمات ، والذي كان لي معه موقفا مهما سوف أذكره فيما بعد. • مضت قرابه الساعتين منذ أن وطأت أقدامنا ارض سيناء، وطوال هذه الفتره ، لم يكن هناك مايشير الي أننا في حاله حرب. باستثناء مشاهدتنا لطائرتين من طائرات العدو تصدت لها صواريخنا وعناصر دفاعنا الجو وأجبرتها علي العوده من حيث أتت ، كانت الأمور هادئه تماما وكأننا نستعد لأداء أحد التدريبات قبل الذهاب الي الجبهه. كنا نسابق الزمن لإنهاء ماجئنا من أجله ونعلم تماما أهميه توصيل المياه الي قواتنا التي تقاتل بضراوة علي بعد كيلومترات من موقعنا. أتذكر تماما كيف بدأنا العمل ، وكيف كان الجميع في حاله استثنائية من النشاط والحماس والجديه رغم أننا كنا جميعا صائمين. كانت المشكله الأكبر التي واجهتنا في البدايه هي طبيعه المكان وطبوغرافيه الأرض خاصه عند بدايه الخط وصولا الي أعلي الساتر الترابي الذي يبلغ ارتفاعه حوالي ثلاثون مترا وبزاويه ميل تصل أحيانا الي خمس واربعون درجه. كل ذلك لم يزدنا الا إصرارا وتصميما علي إنجاز المهمه كأفضل ما يكون. كنا نقول لبعضنا البعض ، أنه إذا كان الجندي المصري الذي استطاع أن يعبر القناه ويتسلق الساتر الترابي وهو يحمل فوق ظهره شده القتال ومدفعه وذخيرته ، تحت وطأه نيران العدو ، فنحن أيضا نستطيع أن نواجه كل التحديات والصعاب التي تواجهنا بمزيد من الإصرار والاراده حتي ننجز هذه المهمه الشاقه كأفضل ما يكون. وبفضل الله وسواعد الرجال وذكاء الجندي المصري ، استطعنا أن نمد المواسير من مجري القناه الي قمه الساتر الترابي ثم نزولا الي السفح إلي أن حل الظلام وكان من الصعب ان نستمر في العمل. في هذه الأثناء ، ومن فرط الحماس ، رفضنا جميعا أن نتناول وجبه الإفطار حتي ننتهي من توصيل آخر ماسورة عند أسفل الساتر الترابي الي مثيلتها التي أرسيناها علي أرض سيناء. نسيت أن أقول أن العدو قد قصف معسكر الشلوفه مما تسبب في اشتعال النيران في اجزاء من المعسكر وكان ضوء تلك النيران كافياً لأن تنير المكان من حوانا ، مما جعل الضابط رفعت يقرر أن نستمر في العمل الي اطول وقت ممكن. كان ذلك ، في رأيي، هو الجزء الأصعب من المهمه ، أو هذا ما كنت أتصوره في ذلك الوقت قبل أن نواجه متغيرات كثيره فيما بعد لم تكن في الحسبان.
المشهد السادس: اليوم الثاني في سيناء
الجمعه الموافق التاسع عشر من أكتوبر ١٩٧٣
بدأنا نعتاد قليلا علي أجواء الحرب. لم نعد نحتاج أن نتوقف عن العمل عند حدوث غاره جويه ، بل بالعكس ، كان منظر الطائرات الإسرائيليه وهي تلوذ بالفرار أمام عناصر دفاعنا الجوي ، أو نري إحداها تسقط محترفه عندما يصيبها أحد صواريخنا المصريه ، كان ذلك المشهد يملأنا حماسا وسعاده وثقه ، لنستمر في العمل بمزيد من الإصرار والتحدي. لم يكن يزعجنا ، ولا أقول يخيفنا ، سوي القذائف العشوائية التي تنطلق من المدفع الاسرائيلي هاوتزر 205 مم (علي ما أتذكر) وكنا نسميه أبو جاموس. كان لهذا المدفع قدره تدميريه كبيره ، كما شاهدناها بأعيننا كلما سقطت إحدي هذه القذائف بالقرب منا.
أتذكر أننا أنجزنا الكثير من العمل في هذا اليوم بالتحديد. كنا نسابق الزمن ونتحدي أنفسنا ، وبالفعل وصلنا الي معدل غير مسبوق في هذا اليوم. مره أخري ، أري أنه من الانصاف أن أعطي هذه المجموعه من الرجال حقهم الذي يستحقونه بلا جدال ، ليس في هذا اليوم فقط ، انما طوال أيام الحرب وما تلاها من أيام الحصار. كانت لدي قناعه شديده بصلابه وبراعه هذه المجموعه وقدرتهم علي انجاز المهمه التي اسندت اليهم علي الوجه الأكمل ، فقد عشنا معا وتدربنا سويا علي مدي شهور طويله ، إلا أن ما رأيته منهم من عزيمه وإصرار وحب للوطن فاق كل توقعاتي.
كان من الضروري أن نقوم بإخفاء خط المياه حتي لا يرصده طيران العدو ، ولذلك كان علينا أن نحفر الأرض ونقوم بإرساء المواسير في العمق المحفور بعد وصلها بعضها ببعض عن طريق الحلقات المطاطيه ( الفلانشات ). لم تكن الحفر سهلا علي الاطلاق وأخذ منا الكثير من الوقت والجهد. كما ذكرت من قبل ، كان قطر المواسير التي نستخدمها هو ٦ بوصه ، ولذك كان علينا أن نحفر الارض بعمق ٢٠ سم علي الأقل حتي نستطيع إرساء المواسير بداخله. كانت عمليه الحفر هذه في غايه الصعوبه ، خاصه إذا علمنا أن تربه سيناء ، وإن كانت رمليه في الأساس ، إلا أنها كانت شديده القسوه وكأننا نحفر في الصخر ، وللأسف لم يكن معنا من الادوات التي نستخدمها سوي بعض 'الإزم' و 'الكواريك' ، وفأس وجاروف واحد علي ما أتذكر ، مما زاد الأمر صعوبه.
تتوالي التحديات ، ومع كل تحد جديد كنا نزداد اصرارا وتصميما علي إنجاز ما جئنا من أجله. من التحديات التي واجهتنا والتي ارهقتنا وأخذت منا الكثير من الوقت والجهد ، أن خط المياه كان لابد أن يمر عبر طريق أسفلتي وكان لابد أن نحفر الاسفلت حتي ينثني لنا ارساء المواسير حتي لا تعيق حركه المركبات علي الطريق.
كان عرض الطريق حوالي ٣ متر وأذكر أن هذه العمليه استغرقت منا حوالي خمس ساعات كامله وكنا نتناوب علي الحفر حتي حل الظلام وكنا في شدة الارهاق والتعب.
مازلت أتذكر ذلك الضابط المصري الذي مر علينا فوق دبابته وكان برتبه رائد وسألنا منذ متي وأنتم تعملون علي إنشاء خط المياه هذا؟ ، وقلنا له أن هذا هو اليوم الثاني لنا ، وما زلت اذكر كلماته وهو يقول لنا 'شدوا حيلكم يارجاله ،العدو لن يصبر عليكم طويلا ، توقعوا أن بقصفكم الطيران في أي وقت'. وهذا بالضبط ماحدث.
المشهد السابع: اليوم الثالث في سيناء
يوم السبت الموافق العشرون من اكتوبر ١٩٧٣
كان علينا أن نبدأ العمل ، كما تعودنا ، مبكرا مع أول ضوء ، كان يغمرنا شعور رائع بالرضا عمًا أنجزناه في اليومين السابقين ، وسادت بيننا حاله من الحماس والإستنفار لاستكمال منظومه النجاح والتحدي التي بدأناها.
. أتذكر أنني لم أحظ إلا بسويعات قليله من النوم قبل أن يوقظني الجندي المعين للحراسه (الخدمه) لتناول وجبه السحور. بعدها قمنا نحن صف الضباط والرقيب أول أحمد حامد والضابط محمود رفعت بالمرور علي الأفراد ومراجعه ماتم تنفيذه ، والتأكد أن كل الأدوات اللازمه للمرحله التاليه ، موجوده في أماكنها وبحاله جيده.
تم تشكيل مجموعات العمل كما فعلنا بالأمس ، كل مجموعه مكونه من أربعه افراد من بينهم فرد لديه مهاره وصل المواسير بعضها ببعض عن طريق الحلقات المطاطيه (الفلانشات). كان هذا الفرد هو أهم فرد في كل مجموعه حيث كانت هذه العمليه تتطلب موهبه ومهاره خاصه لا تتوافر في الجميع.
كان الجميع علي قلب رجل واحد. الكل يريد أن يترك بصمه في هذه الملحمه ، لا فرق بين جندي وصف ضابط ، حتي الضابط رفعت كان يشارك في العمل ويساعد في الحفر. كنا نتابع التقدم الذي نحرزه في مد خط المواسير كأننا نتابع طفل وليد طال انتظاره ونراه ينمو امامنا كل ساعه.
باستثناء قذائف 'أبو جاموس' التي كانت تسقط بالقرب منا وبوتيرة أسرع في هذا اليوم ، والحمد لله دون أن تحدث خسائر بيننا.
المشهد الثامن: اليوم الرابع في سيناء
الاحد الموافق الحادي والعشرين من أكتوبر ١٩٧٣
كنا في نهايه كل يوم ، نراجع الجدول الزمني المعد مسبقا لهذه المهمه ، ونقارنه مع ما تم إنجازه علي الأرض ، لنعرف أين نقف قبل أن نواصل التقدم. كنا فخورين بما أنجزناه وهذا المعدل الزمني غير المسبوق الذي وصلنا اليه مما جعلنا نتوقع أن يصل خط المياه الي نهايته قبل الموعد المحدد . إنما أبت الرياح أن تأتي بما تشتهي السفن.
أقول أنه إذا كانت حرب أكتوبر المجيدة قد بدأت في السادس من أكتوبر ، فإننا لم نشعر فعليا أننا في أتون الحرب إلا في هذا اليوم (الحادي والعشرين من أكتوبر) . لم تشهد الأيام الثلاثه الماضيه إلا بعض المناوشات من طيران العدو سرعان ما تنتهي إما بفرار الطائرات أو بسقوط احداها بصواريخ سام المصريه.
لأول مره منذ أن وطأت أقدامنا أرض سيناء ، نري طائرات العدو تتجرأ علينا في غارات بدأت أولا علي موجات متباعده علي استحياء ثم بوتيره أسرع في نهايه اليوم. لم نتعود في الايام السابقه أن نري أحد صواريخنا ينطلق ولا يصيب هدفه أو علي الاقل يجبره علي الفرار. في هذا اليوم كان آخر صاروخ مصري شهدناه وهو يسقط بعيدا عن الهدف دون أن يصيبه.
وقتها لم نكن نعرف بالضبط مالذي حدث حتي يتغير المشهد الذي عشناه في الايام الثلاث السابقه. عرفنا فيما بعد بعضا مما حدث ، فقد اكتشفنا أن هناك سببان رئيسيان تسببا في تغيير الأوضاع علي أرض المعركه ، أولها أن أمريكا دخلت الحرب وقررت أن تلقي بكل ثقلها الي جانب إسرائيل لدرجه أنه منذ الثامن من أكتوبر ، أقامت جسرا جويا بينها وبين إسرائيل فيما عرف فيما بعد بعمليه 'عشب من النيكل' (Nickel Grass Operation) ، وهي أكبر عمليه إمداد جوي عرفتها الحروب حيث قام سلاح النقل الجوي الامريكي بشحن عشرات الأطنان من الأسلحة الثقيلة والدبابات والمدفعيه والذخيرة وأجهزه تشويش ذات تقنيه عاليه. كانت طائرات الشحن تهبط في مطار اللد ومطار العريش بمعدل كل ١٥ دقيقه تقريبا.
كانت ثغره الدفرسوار هي ثاني أهم الأسباب التي غيرت الأوضاع علي الجبهه ، وهذه ربما أتكلم عنها بشئ من التفصيل في موضع آخر ، مكتفيا برأي المحللين العسكريين الذين قاموا بشرح الملابسات التي أحاطت بهذا الموضوع.
أعود الي سير العمل وأقول أنه للأسف لم ننجز الكثير في هذا اليوم. في البدايه كان القصف بعيدا عنا الي حد ما ، وكنا فقط نضطر الي ان نتوقف عن العمل حتي تنتهي الغاره ويتوقف القصف. ومع تتابع الغارات وزياده كثافه القصف، وسقوط بعض القنابل علي مقربه منا ، سادت حاله من الخوف والهلع بين العديد من الجنود وهم يتعرضون لأول مره في حياتهم لمثل هذه التجربه.
كان هدير الطائرات والصواريخ يصم الآذن ، وصوت الانفجارات وصوت القنابل وهي ترتطم بالأرض يجعلها تهتز تحت الاقدام. الدخان والغبار يلفنا جميعا فلا نكاد نري شيئا.
بانوراما من الرعب جديده تماما علينا ، والأصعب أنه لا مكان هناك ممكن أن نحتمي به ، فنحن في صحراء مكشوفه إلا من بعض الملاجئ الصغيره التي أقامتها إسرائيل قبل الحرب ، وحتي هذه الملاجئ كانت بعيده شيئا ما عن موقع العمل.
لم نكن حتي نملك الوقت لحفر الحفر البرميليه التي تدربنا عليها لنختبئ فيها (سميت بالحفره البرميليه لأنها تشبه البرميل وكنا نستخدم سونكي البندقيه في حفرها وكانت تكفي فردا واحدا ).
أثناء القصف كان البعض يركض هنا وهناك ، والبعض قرر ان يستقر في مكانه جالسا في وضع القرفصاء واضعا رأسه بين ركبتيه أو منبطحا علي الارض.
كانت هذه اول مره تجرؤ فيها طائرات العدو علي التحليق علي ارتفاع منخفض الي حد ما وهي تحاول أن تتفادي ضربات مدفعيتنا المضادة للطائرات (م ط) ، قبل أن تلقي بحمولتها من القنابل علي أرض المعركه.
(هنا يجب أن أشيد بما شاهدناه بأعيننا فيما بعد من بطولات سطرها أفراد المدفعيه المضادة للطائرات. هؤلاء الأبطال كانوا هدفا مباشرا لطيران العدو الذي كان يحلق فوق رؤسهم ويرميهم بأطنان من القنابل ، ومع ذلك أظهروا من الصمود والفدائية ما تعجز عنه الكلمات. كنا نراقبهم من بعيد أثناء القصف وهم يتصدون لطائرات العدو ويمطرونها بوابل من الدانات حتي تكاد يخيل للناظر اليهم أن مواسير المدافع تكاد أن تنصهر) .
أخذنا بعض الوقت حتي نفيق من وقع هذه الصدمه. (قرأت فيما بعد أن ماحدث لنا في هذا اليوم يسمي ب 'صدمه القصف' وهو مصطلح عسكري يستخدم لتصنيف أنماط سلوكيه مختلفه عند التعرض للقصف)
بعد انتهاء الغاره ، أخذنا نتفقد بعضنا البعض والحمد لله لم تكن هناك خسائر بشريه أو إصابات في مجموعتنا وعلمنا أن أفراد المجموعه الأخري قد هرعوا الي أحد الملاجئ القريبه ، وكنا ندعو الله أن يكونوا سالمين حتي يحين الوقت ونطمئن عليهم.
وسط هذه الاجواء الصعبه ، كان همنا الاكبر وشغلنا الشاغل أن لا يتضرر خط المياه بأي شكل من الاشكال، فبغض النظر. عن المشقه والمجهود الذي بذل فيه حتي الآن ، كان هذا الخط يمثل لنا الكثيروالكثير
كل معاني التضحيه والإصرار والتحدي ، والابتكار ، تجسدت في هذا الخط ، وكنا نعلم جيدا مدي أهميه توصيل المياه الي جنودنا في الخطوط الاماميه.
المشهد التاسع: اليوم الخامس في سيناء
الإثنين الموافق الثاني والعشرين من أكتوبر ١٩٧٣
بدأنا اليوم مبكرا كالعاده قبل أول ضوء ، بعد ليله سادها التوتر والقلق وأصوات الاشتباكات التي لم تنقطع طول الليل. كان شغلنا الشاغل أن نطمئن علي سلامه خط المياه الذي قارب علي الانتهاء وكذلك الاطمئنان علي سلامه الافراد في المجموعه الاخري.
لم نستطع الانتظار حتي بزوغ الفجر ، كان الظلام مازال يلف المكان وكنا نتحرك بحرص حتي لا نلفت انظار العدو. إختار الضابط محمود رفعت ثلاثه أفراد يقودهم العريف 'كُريم' (بضم الكاف وتشديد الياء) ، ليذهبوا الي الملجأ الذي توقعنا وجود باقي الافراد هناك والاطمئنان عليهم ، كما اختار خمسه آخرون من أصحاب المهاره ، وأنا معهم ، لتتفقد خط المياه ونتأكد من سلامته قبل أن نقرر خطوتنا القادمه. أخذنا معنا بعض الأدوات القليله تحسبا لإصلاح أي عطل قد لحق بخط المياه.
طوال الطريق ، كنا ندعو الله ونبتهل أن يكون الخط سليما ولم يصب بسوء ، وكانت فرحتنا لا توصف عندما وصلنا الي بدايه الخط أسفل الساتر الترابي ، وكان كل شئ علي مايرام. كان علينا أن نعود أدراجنا سريعا وننضم الي باقي المجموعه ونخبرهم أن خط المياه لم يتضرر من غارات الطيران التي شنها العدو بالأمس.
كان أول ما فعلناه بعد أن وصلنا والتقينا مع باقي المجموعه أن نتفقد المكان في ضوء النهار ، لنري اذا كان هناك خسائر ماديه لم نكتشفها في ظلام الليل أثناء الغاره و الحمد لله كانت كل المهمات والمعدات سليمه.
أتذكر الآن كيف أننا وقفنا وكل منا يمسك بيد الآخر وأقسمنا أن نبذل كل ما نستطيع من جهد وعرق من أجل إنجاز المهمه التي جئنا من أجلها تحت أي ظروف حتي لو اضطررنا للعمل ليلا ً أو تحت القصف.
وبدأنا في العمل ، وكأن كل معاني التصميم والعزم والاراده والتحدي تجسدت في هؤلاء الجنود. كنا كلما انتهينا من ربط ماسورة بأخري نزداد حماسا وتصميماً أننا لابد أن ننجح. انتصف النهار ولم يقم العدو بأي غاره باتجاهنا ، حتي مدفعهم العملاق 'أبو جاموس' كان هادئاً وديعاً ولم يصوب نحونا أي قذيفه كما تعودنا منه في الايام السابقه. كان الهدوء يخيم علي المكان وكأنه كان الهدوء الذي يسبق العاصفه.
لم نكد نبدأ في العمل ، حتي انشقت السماء فجأة عن طائره اسرائليه فوجئنا بها من فوقنا تزمجر بصوت يصم الآذان قبل أن تعود من حيث أتت. كانت هذه أول مره نشاهد فيها احدى طائرات العدو علي هذا الارتفاع المنخفض وتعجبنا أنها عادت بحمولتها من القنابل دون أن تلقيها.
وسريعا ، ونحن مازلنا في دهشه مما حدث ، صاح أحد الجنود 'أنا سامع صوت طياره' ، وقبل أن يكمل كلامه ، فوجئنا بطائرات العدو تغير علينا في موجات متتاليه وعلي إرتفاعات منخفضه كأنهم تأكدوا أن لا خطر عليهم من أنظمه دفاعاتنا الأرضيه التي كانت تحرمهم حتي من مجرد الاقتراب من ارض المعركه.
كانت الطائرات تحلق فوق رؤسنا حتي أننا كنا أحيانا نشاهد الطيار بوضوح ، لاحظنا أيضا أن بعض طائرات العدو كان مرسوما عليها أشكالا وصورا مثل صوره شيطان وصوره سمكة القرش لاضفاء المزيد من الخوف بين جنودنا.
عندما خلت لهم الساحه ، بدأ العدو يغير من تكتيكه أثناء القصف في محاوله لإحداث المزيد من الخسائر في صفوفنا والتأثير علي الروح المعنويه بين جنودنا. كان الطيار الاسرائيلي ينقض بطائرته فجأه بدون إحداث صوت في الوقت الذي يلقي بحمولته من القنابل قبل أن يرتفع مره أخري محدثا صوتا يصم الآذان.
كنت أتساءل بيني وبين نفسي فبل أن أخوض هذه التجربه، ماذا ياتري قد ينتاب الجندي عندما يتعرض للقصف. يحضرني الآن كيف كان الواحد منا يطير في الهواء من شده الانفجارات كما كنا نشاهد في افلام السينما. إحساس صعب عندما لا تلامس قدماك الأرض وتفقد السيطره علي جسدك ولا تدري ما قد يحدث لك عندما ترتطم بالأرض.
أتذكر الآن في إحدي الغارات وكنت أنا والضابط محمود رفعت نحاول النجاه من القنابل التي كنا نشعر أن العدو كان يلقيها بغل وغطرسه كأنه ينتقم مما أصابه من خسائر منذ بدايه الحرب. كنا نركض أنا والضابط رفعت ونحاول أن نأخذ مسارات متعرجة لأن العدو ،
ومن فرط ثقته بنفسه ، بدأ في استخدام الرشاشات (طلقات الفيكرز علي ما أظن) . إنبطحتا علي الأرض ونحن نتمتم بالشهادتين عندما أرتطمت إحدي الشظايا بالخوذه التي يرتديها الضابط رفعت وكادت تحدث بها ثقباً من فرط سرعتها و قوه الارتطام. أتذكر أيضا أنه خلع الخوذه من فوق رأسه وهو يقول 'شايف يا شديد الشظيه عملت ايه في الخوذه'. قلت له 'الحمد لله وحمدلله علي سلامتك'.
كان هذا اليوم حافلا بالأحداث ومازالت أحداثه محفوره بالذاكره. ضمن ما يحضرني من أحداث هذا اليوم أثناء تعرضنا لإحدي الغارات ، وكنت مستترا خلف واحده من التباب القليلة التي كانت حولنا ، وكان الدخان الكثيف من جراء القصف يملأ المكان ، وإذا بالجندي 'إبراهيم صابر' يظهر في وسط الدخان ويجري نحوي وهو يصرخ 'الحقني يا باشمهندس أنا مصاب'. لم أفكر لحظه قبل أن أتخذ قراري بالجري نحوه ومحاوله إنقاذه مهما كلفني الأمر. وصلت إليه وكان الدم يغطي الأفرول الذي يرتديه ، و كان يرتعد من شده الخوف ، وربما الألم ، وبسرعه حملته فوق ظهري ، ومن حسن الحظ أنه كان خفيف الوزن. كنت أحاول أن أهدئ من روعه وأنا أقول له ' ما تخافش يا إبراهيم الإصابه خفيفه' ، وللأمانه ، لم أكن وقتها متأكدا من حجم الاصابه التي تعرض لها.
كان إبراهيم يتمتم وكأنه يهذي 'المخل (جمع مخله) كلها انضربت يا باشمهندس' وكنت أقول له 'مش مهم يا إبراهيم المهم سلامتك'.
وحتي هذه اللحظه كان الخيار الوحيد المتاح أمامي ، أن نختبئ في مكان آمن حتي يخف القصف إلا أنني في نفس الوقت ، كنت أخشي أن يطول بنا الوقت وتسوء حاله إبراهيم خاصه مع استمرار النزيف.
أتذكر جيدا أن القصف توقف لبضع دقائق كانت كافيه أن أتخذ قراري بالنهوض من الحفره التي نختبئ فيها ومواصله الجري ربما نجد من يمكنه المساعده. تمكنت من قطع مسافه لا بأس بها وأنا أحمله علي ظهري ، قبل أن يعاود العدو القصف من جديد. كانت الارض تهتز تحت أقدامنا والشظايا تتناثر من حولنا ، وللحظة أيقنت أنها النهايه , ورفعت عيني الي السماء وأنا أتمتم 'يارب' ، وبدأت في ترديد الشهادتين وكان إبراهيم يرددها معي.
لا أدري وقتها كيف تذكرت قول المولي سبحانه وتعالي:
'… مستهم البأساء والضراء وزلزلوا حتي يقول الرسول ومن معه متي نصر الله، ألا إن نصر الله قريب'
ووجدت نفسي وأنا في هذا الموقف الصعب اتمتم بلا وعي 'وأخري تحبونها نصر من الله وفتح قريب وبشر المؤمنين' ، ويغمرني شعور عجيب بالسكينه مازلت استحضره بيني وبين نفسي حتي هذه اللحظه التي ادون فيها هذه المشاهد.
وفجأة تتنزل رحمات المولي عز وجل , لأجد أمامي وسط الدخان والغبار الذي يملأ المكان ، جنديا يعرض المساعده قائلا ' يا وحش ، فيه نقطه طبيبه قريبه من هنا ، أنا جاي معاك'. لا أدري كم من الوقت مضي الي أن وصلنا إلي النقطه الطبيه التي دلنا عليه هذا الجندي الشهم. لم تكن نقطه طبيه بالمعني المفهوم ، انما كانت مجرد ضابط طبيب ومعه جندي يساعده كممرض ومعهم بعض الاسعافات الأولية ، وكانوا يتنقلون هنا وهناك في أنحاء الجبهه يقدمون الخدمه الطبيه كلما أمكن. وهنا يجب أن أحيي هؤلاء الأبطال الذين تحملوا الكثير من الصعاب وأنقذوا الكثير من المصابين.
أخبرني الطبيب أن إبراهيم نزف الكثير من الدماء وحالته تستوجب أن ينقل إلي اقرب مستشفي ميداني ، وأنني سوف أتركه معهم حتي يتصل بأقرب عربه إسعاف ميدانيه لتنقله الي هناك. أمضيت بعض الوقت وأنا أحاول أن أطمئن ابراهيم وأنه في أيدً أمينه وأنه سوف يعود سالما الي بيته إن شاء الله. لم يكن أمامي خيار سوي أن أتركه معهم وأعود أدراجي من حيث أتيت ، وأنا أتمني الا أضل طريقي في العوده. في طريق العوده لم أتوقف عن شكر الله أن كتب لنا النجاه في هذه الموقف الصعب خاصه أن الطريق كان آمنا الي حد كبير ولم تكن هناك أي طلعات لطيران العدو حتي وصلت لمكان التجمع الذي اتفقنا عليه. لم ألتق بإبراهيم بعدها إلا عندما عدنا الي الكتيبه بعد قرابه اربعه أشهر قضيتها في مدينه السويس وقت الحصار ، والحمد لله كان قد شفي تماماً من جرحه وإن كانت دماؤه لا تزال تغطي الأفرول الذي كنت أرتديه.
المشهد العاشر: اليوم السادس في سيناء
الثلاثاء الموافق الثالث والعشرين من أكتوبر ١٩٧٣
قبل أن تستطرد معي ، عزيزي القارئ ، في قراءه هذا المشهد ، أعتقد أنه من الأمانة أن أطلعك ، أنا كاتب هذه السطور ، علي سر احتفظت به لنفسي طيله المشاهد السابقه. من المهم أن تعرف ، عزيزي القارئ ، أنني هممت مرات ومرات أن أدون هذه المشاهد محاولا أن أجسدها حيه علي الورق ، وفي كل مره أستعيد فيها ذكريات هذا المشهد بالذات ، أجدني غير قادر علي الاستمرار في الكتابه ، يتمرد القلم بين يدي وتموت الكلمات قبل أن تولد ، ربما لأن بعض ھذه الذكريات عندما أستعيدها تثير في نفسي الكثير والكثير من الشجن والحزن وتسبب الكثير من الألم ، وكأنها جروح عميقه تأبي أن تندمل رغم مرور كل هذه السنوات. يحضرني هنا
قول ديستويفسكي 'ان الذكريات المؤلمه تطعن القلب مره ، ثم يبقي الجرح نازفا الي الأبد' ،
ويبدو أن ذلك ما حدث معي ، ولذلك إذا جاز لي أن أضع عنوانا لهذا المشهد ، لا أجد أنسب من 'يوم الحزن' ، وأعتقد أنك سوف تشاركني الرأي بعد أن تطالع هذا بنفسك.
كان هذا اليوم من أصعب الأيام التي مرت علينا في سيناء. لا أتحدث هنا عن شراسه هجمات العدو في هذا اليوم ولا أطنان القنابل التي كانت تلقيها فوق رؤوسنا طائرات الفانتوم والميراج والسكاي هوك ؛ انما أتحدث عن خسائرنا في هذا اليوم. .
في هذا اليوم سقط منا أول شهيد ، الجندي عادل عقل غيث ،رحمه الله عليه ، ليعم الحزن الجميع ، وتسود بين الجنود حاله من الإرتباك والتوجس مما عسي أن يحدث في الايام القادمه.
وكأن المصائب لا تأتي فرادي، كان علينا أن نواجه موقفا من أصعب المواقف التي مرت بنا منذ بدايه الحرب. قبل أن ينتصف النهار. كثف العدو غاراته علي مواقعنا وكأنه يريد أن يعوض خسائره في الأيام السابقه ليتحول المكان الي مايشبه الجحيم. احاول الآن أن أستعيد هذه اللحظات العصيبه ؛ وكيف كانت مشاعري تتأرجح بين انتظار الموت والأمل في النجاه.
ويأتيني من بعيد صوت أحد جنودنا وكان قريبا من خط المياه , كان يصيح ويصرخ بشكل هيستيري 'الخط انضرب .. الخط انضرب'. في البدايه رفض عقلي أن يصدّق ماسمعت. أي خط هذا الذي تم ضربه؟ يستحيل أن يكون هذا الخط هو خط المياه الذي كدنا ننتهي من انجازه في ظل ظروف غايه في الصعوبه! هل ممكن أن يكون هذا الخط هو نفسه خط المياه الذي استغرق منا شهور عديده ونحن نتدرب علي تمديده قبل الحرب!
لم استغرق طويلا وأنا أحاول انكار ما سمعت ، ووجدت نفسي أنطلق من مكاني نحو موقع الخط ، وسط الدخان والشظايا التي تتطاير في كل مكان ، وهناك كانت تنتظرني واحده من أشد الصدمات التي واجهتها طوال حياتي. كان خط المياه يتعرض لهجمات شرسه من طيران العدو ، وكانت المواسير الضخمه تطير في الهواء امامي وأنا لا أكاد اصدق ما أري.
وينفجر بداخلي احساس مرير بالعجز والإحباط ، بركان من الحزن والغضب ، وحنق وكراهيه شديده لهذا العدو ، ورغبه أشد أن يمتد بي العمر حتي أنتقم.
لا أدري كم من الوقت مر علي وأنا واقف في مكاني كأن الزمن قد توقف. ماذا بعد؟ تدمير الخط يعني ببساطه أن المهمه التي جئنا من أجلها قد فشلت ، وأن هذا الخط الذي كان يمثل لنا الكثير من معاني الصمود والإصرار والتحدي والابتكار ، قد تم تدميره ، وضاع الحلم الذي طالما حلمنا به في توصيل المياه الي جنودنا في الخطوط الاماميه ، ولكن قدر الله وما شاء فعل.
عندما هدأت غارات العدو قليلا ، التقيت مع باقي الأفراد وكان يخيم علينا السكون والذهول ، وكان الضابط محمود رفعت اول من استعاد رباطه جأشه ، وأرسل بعض الأفراد ليتفقدوا المهمات التي كان يحرسها الجندي إبراهيم صابر ، وكانت تعليمات الضابط رفعت أن يجمعوا ماتبقي من هذه المهمات. عاد الأفراد بعد فتره قصيره وهم يحملون بعض صناديق الذخيرة وعدد من البطاطين (ربما بطانيتين او ثلاثه علي ما أتذكر ) ، أما عن الأفرولات والملابس الداخليه فقد احترقت بالكامل ، ولم نكن وقتها نعلم أننا سوف نمضي أياما طوال بما علينا من ملابس.
حل الظلام ولم يكن هناك مانفعله سوي اللجوء الي احد الملاجئ القريبه التي شيدها العدو في المنطقه ، استقر الرأي علي هذا القرار ، ليس فقط لنحمي أنفسنا من غارات طيران العدو التي توقعنا أن تشتد مع حلول الظلام ، إنما أيضا لننال قسطا من الراحه خاصه أنه ليس هناك ما نفعله بعد تدمير خط المياه.
وصلنا الي واحد من الملاجئ التي كان العدو قد شيدها أسفل الساتر الترابي ، وكان بداخله عدد من الجنود من وحدات أخري ، ولم يكن المكان يتسع لنا جميعا ، فاتفقنا أن ننفصل الي مجموعتين وتذهب مجموعه الي ملجأ آخر مجاور.
لم تتوقف غارات العدو كما توقعنا ، وكان الملجأ يرتج من شده القصف وكنت المح علامات الخوف والرعب علي وجوه معظم الأفراد. وكان لابد أن نقيم حراسه (خدمه ) علي مدخل الملجأ تحسبا لأي جديد ، خاصه ونحن لا ندري ماذا يحدث في الضفه الاخري من القناه ، خاصه وأصوات إشتباكات متقطعه تصلنا من هناك. استقر الرأي أن يقوم فردين معا بالخدمه ويتم تغييرهم كل ساعتين وكان دوري علي ما أتذكر من الثانيه صباحا وحتي الرابعه. واقترحت علي صديقي المهندس سعيد الصيرفي أن يكون معي في الخدمه ، (نسيت أن أذكر أن صديقي المهندس سعيد الصيرفي كان معنا في هذه المهمه وكنا نطلق عليه سعيد برونسون لأنه كان يشبه الممثل المعروف شارلز برونسون )
لم يغمض لنا جفن في هذه الليله ،كان البعض يلهج بالدعاء والبعض كان يتمتم بالشهادتين والبعض الآخر كان صامتا ومستغرقا في أفكاره وتأملاته.
ويشاء القدر ألا تنقضي هذه الليله قبل أن أمر بواقعه مازالت أحداثها محفوره في ذاكرتي حتي اليوم. كانت الساعه تقترب من الثانيه صباحا وتهيأت أنا وسعيد لنأخذ دورنا في الخدمه ، وعندما توجهنا نحو مدخل الملجأ ، تسارعت وتيره القصف وكان الملجأ يهتز بنا كأننا نتعرض لزلزال شديد ومع ذلك مضينا قدما نحو مدخل الملجأ وأخذنا موقعنا خارج مدخل الملجأ. توقعت أن يكون المكان شديد الظلام كما تعودنا في الليالي السابقه ، إلا أنني فوجئت بأضواء تغمر المكان وكانت هذه أول مره أشاهد فيها القنابل المضيئة والكشافات التي تسقطها طائرات العدو لتحيل الليل الي نهار.
مضت الساعه الأولي من الخدمه ولم نتبادل كلمه واحده أنا وسعيد ، كنا مشغولين تماما بمراقبه المكان حولنا ونحاول قدر ما نستطيع أن نكون في قمه اليقظه والانتباه ، ومع ذلك كنا نتمتم بالشهادتين من وقت لآخر لأننا شعرنا أن الموت صار قريبا أكثر من أي وقت مضي.
جذبت سعيد من يده ونحن نتراجع نحو مدخل الملجأ وأسندت ظهري الي جدار الملجأ واغمضت عيني وأنا أدعو الله أن تمر هذه المحنه بسلام. وكأن المولي سبحانه قد سمع دعائي ، فقد لاحظت أن القصف وأصوات الإنفجارات صارت أخف كثيرا عما كانت عليه ، وحمدت الله كثيرا أن مرت الغاره بسلام.
اتذكر جيداً أنه في هذه اللحظات الفارقه، لمحت رجلا أشبه بالشبح يقترب منا ببطء وحرص رافعا يديه الي أعلي، اندفعت نحوه وأنا أطلب منه أن يقول كلمه سر الليل التي كانت تتغير كل ليله. قالها الرجل بوضوح ولاحظت أول ما لاحظت أنه كان في منتهي الإعياء والإجهاد. عرفني بنفسه قائلا 'ملازم أول درويش كتيبه ؟؟
وكان معه فردين من كتيبته وكانت تبدوا عليهم علامات الإعياء والتعب. وأكمل الضابط درويش كلامه قائلاً 'العساكر دي لم يذوقوا طعاماً منذ يومين'. تأثرت جدا لحال هؤلاء الجنود خاصه وأنا أعلم انه لايوجد أي طعام لدينا في الملجأ.
توقعت أن يكون هناك بعض الوجبات الجافه متبقيه في الملجأ الآخر ولم يكن هناك مفر أن يذهب أحد منا الي هناك وإحضار ولو وجبه واحده لهؤلاء الجنود. دلفت بسرعه الي داخل الملجأ وكان التعب والخوف يبدو واضحاً علي الجميع ولذلك عقدت العزم أن أذهب بنفسي لإتمام هذه المهمه وكلفت أحد افراد المجموعه أن يحل محلي في الخدمه حتي أعود. أخبرت سعيد بنيتي في الذهاب الي الملجأ الآخر علي أمل أن أعود قبل الفجر ، ولم أكن أعلم وقتها أنني لن أراه مره أخري إلا في القاهره بعد فك الحصار (ولذلك قصه أخري سوف تأتي في المشهد التالي ) .
كان الظلام دامسا وكان علي ان اعتمد علي تقديري الشخصي حتي اسلك الاتجاه الصحيح. استعنت بالله وبدأت السير بخطوه سريعه نسبيا وكان في اعتقادي أنني سوف أصل هناك في غضون عشر دقائق وربما أقل. مضي بعض الوقت ولم يكن هناك ما يشير أنني أقترب من الملجأ، وبدأ القلق يتسرب الي نفسي خاصه أن العدو بدأ قصف المنطقه من جديد وان كانت الانفجارات بعيده نسبيا ، مما جعلني أعيد التفكير في كيفيه انجاز هذه المهمه ؛ هل انتظر حتي اول ضوء لأتأكد من الاتجاه الصحيح ام اعود أدراجي وأحاول مره أخري أثناء النهار.
لم أفكر طويلا ، فقد كان منظر الجنديين وحاله الإرهاق التي كانوا عليها لايفارق خيالي ، وصممت أن أمضي قدما وأن أعود لهم بالوجبة مهما تطلب الأمر. ومره ثانيه وربما ثالثه أو رابعه ، يأتي الحل من المولي سبحانه لأسمع من يناديني من بعيد 'يا باشمهندس خليك مكانك ما تتحركش أنا جاي لك'. لقد كان صوت الجندي عبد المنعم القلبني وكان في نوبه الحراسه امام الملجأ. اعتقد انه استطاع أن يراني لأنه يقف هناك منذ فتره وكان يستطيع أن يري المنطقه حوله ويميز اي شخص يقترب. تسمرت في مكاني حتي وصل عبد المنعم وأخذ بيدي حتي وصلنا الي الملجأ.
كان عبد المنعم يسألني بصوت خافت 'ازاي دخلت هناك'. عرفت فيما بعد ماذا حدث ، لقد دخلت دون أن أدري في حقل ألغام صغير أمام الملجأ ، مع أن الحقل كان محاطاً بالسلك الشائك. لم أعرف كيف حدث ذلك إلا في طريقي عودتي وبعد أن أخذت واحده من الوجبات الجافه القليله المتبقيه ، وكان ضوء النهار بدأ ينير المكان ، ورأيت آثار أقدامي في وسط حقل الألغام حيث كانت هناك فجوه في السلك الشائك دخلت من خلالها دون ان ادري. كانت سجده الشكر للمولي سبحانه هي أول مافعلته بعد النجاه من هذه الواقعه التي كانت كفيله بإنهاء حياتي او علي الأقل اصابه جسيمه اعيش بها بقيه عمري.
عند رجوعي الي الملجأ قدمت علبه الوجبه الي الضابط درويش والجنديين وجلست أتابعهم وهم يأكلون بنهم وبحرص حتي يتركوا شيئا لباقي الأفراد الذين امتنعوا أيضا عن مشاركتهم في الأكل مع تأكدي أنهم أيضا يعانون من الجوع. كانت لحظة من أسعد لحظات حياتي وانا أشاهد هذا المشهد الذي تجلت فيه كل معاني الإيثار والحب.
المشهد الحادي عشر. اليوم السابع في سيناء
الأربعاء الموافق الرابع والعشرين من أكتوبر ١٩٧٣
هذا المشهد والذي يليه ربما يختلف عن المشاهد السابقه في أنه مجموعه من الذكريات التي ربما لا يربطها تسلسل زمني ، انما مازالت حاضره وبقوه في الذاكره.إنها أقرب ما تكون الي أحلام النقاهه التي كتبها نجيب محفوظ في آخر أيامه.
انتظرت حتي هدأ القصف وأخذت أفراد المجموعه الذين كانوا معي في الملجأ لتنضم الي باقي الأفراد في نقاط تجمع كنا اتفقنا ان نتقابل عندها إذا افترقنا عن بعض لسبب أو لآخر. فوجئنا بغاره جويه مما اضطرنا الي اللجوء الي ملجأ صغير في وسط الصحراء حتي تنتهي الغاره. كان الملجأ صغيراً لدرجه أنه كان علينا أن ننحني قليلاً حتي لا نرتطم بسقف الملجأ ، وجدنا بعض الجنود من وحدات أخري داخل الملجأ وكنت اتعجب من اتساع المكان لهذا العدد من الأفراد. هدأ القصف قليلا وقبل أن نتهيأ لمغادرة المكان ، فوجئت بالجندي أحمد يدخل علينا منهاراً وهو يقول 'المهندس سعيد اتصاب يا باشمهندس'. لا شعوريا ، انتفضت من مكاني مهرولاً وقبل ان أصل الي مخرج الملجأ فوجئت بمعظم من كانوا معي يمنعونني بقوه لا تخلو من العنف حتي لا أخرج من الملجأ.
لم يكن ذلك لمجرد خوفهم علي من ان أتعرض للخطر ، بل ايضا خوفاً علي انفسهم حتي لا ترصدنا طائرات العدو ويعلموا ان هناك المزيد من الافراد داخل الملجأ. انها غريزه البقاء علي ما أعتقد.
ويمضي قطار الذكريات ، سريعاً مره بطيئاً مره ، وهنا أقفز الي مشهد آخر مازالت الذاكره تحتفظ بتفاصيله كامله. أنا الآن فوق الساتر الترابي قبل الغروب بقليل. لا أذكر تماما لماذا ذهبت الي هناك ، هل كانت محاوله للبحث عن 'سعيد' أم لسبب آخر لا أتذكره.
من وقت لآخر كنت أرهف السمع وأجول ببصري في السماء تحسبا لأي غارات مفاجئه للعدو كما تعودنا في الفتره الأخيره ، وكما توقعت ، لمحت طائره معاديه من بعيد وخمنت انها قد تكون بعيده بعض الشيئ لأنني لم اسمعها إلا وهي فوق رأسي تزمجر بصوت يصم الآذان. ارتميت علي الأرض وأنا أتمتم بالشهاده. ابتعدت الطائره وتعجبت أنها ابتعدت دون أن تلقي أي قنابل. هل كان هدفها مجرد الترويع والتخويف ، أم كان هدفها استكشاف المنطقه عن قرب ، أم كانت مقدمه لغارات مكثفه ومتتاليه ، وهذا ماحدث تماماً.
لم تمض سوي دقائق معدوده حتي امتلأت السماء بطائرات العدو ، تمكنت في هذه الدقائق أن أجد مكاناً احتمي فيه من هذه الجحيم. كان ذلك مجرد مزغل صغير في باطن الساتر الترابي يتسع لاثنين او ثلاثه علي أحسن تقدير. والمزغل هو إصطلاح عسكري يطلق علي كوه في السور الدفاعي أو الحصن تطلق منه النيران علي من يهاجم الحصن. وجدت في المزغل مجموعه من الجنود ، ربما اربعه او خمسه لا أتذكر ، سحبوني للداخل ، وانحشرنا جميعا في هذا المكانً الضيق.
كان الظلام قد بدأ يخيم علي المكان إلا أن ذلك لم يمنع الطائرات المغيرة من انجاز ماجاءت من أجله ، فقد بدأت في إلقاء الفوانيس والقنابل المضيئه ليتحول ظلام الليل الي نهار ثم تبدأ في قصف مكثف وعنيف لم أشهده من قبل. لم يقتصر القصف علي القنابل التي سقط بعضها في مياه القناه ، بل كانوا أيضا يستخدمون الرشاشات حيث كانت المقذوفات تنغرس حولنا في الرمال بعد أن تحولت الي مايشبه الطمي بفعل مياه القناه التي كانت تصل الينا من حين لآخر.
لن أنسي ما حييت صرخات هذا الجندي الجريح الذي سقط في مياه القناه ونحن لا نملك له إلا الدعاء ، إما أن ينجو بمعجزة أو يعجل الله سبحانه له بالشهاده.
وهل أنسي ما حدث لأحد الأفراد الموجودين معي في المزغل حيث انهار تماماً من شده الخوف والرعب وكنا نحاول تهدئته ونجعله يردد الشهاده مثلما نفعل نحن.
وهنا لا أدري تماماً ما حدث ، فقد توقف إحساسي بالزمان والمكان وما يحيطني من أهوال ، ودخلت في سبات عميق لم أفق منه ألا عندما بدأ ضوء النهار يتسلل داخل المزغل ولم أجد حولي أحد. تحسست أطرافي ولساني يلهج بالحمد والشكر للمولي سبحانه وكانت سجده الشكر أو ماقمت به قبل أن أغادر المزغل. هنا فقط أدركت المعني الحقيقي للايه الكريمه 'إذ يغشيكم النعاس أمنه منه ….' . ربي ما أعظمك وما أكرمك
والآن وأنا أستعيد هذه اللحظات الصعبه قفزت الي. ذهني بعض كلمات كنت قرأتها للكاتب الكبير عبد الوهاب مطاوع 'إن الإنسان يواجه في حياته أحياناً لحظات عصيبة تكون بمثابة لحظة التنوير التي تُزيل عن عينيه الغشاوة، وتكشف له ما لم يكن يعلم من حقائق الحياة.. وسعداء الحظ هم من يصادفون هذه اللحظة قبل فوات الأوان'.
المشهد الثاني عشر. اليوم الثامن في سيناء
الخميس الموافق الخامس والعشرين من أكتوبر ١٩٧٣
تشاورنا فيما بيننا لنقرر ماذا نحن فاعلون ؟ هل نبقي في سيناء نتعرض لكل أنواع القصف ليل نهار دون أن يكون لنا أي دور ، أم نغادر سيناء ونحن حتي لا نعلم ماذا يجري علي لشاطئ الآخر من القناه. واستقر الرأي أن نغادر سيناء تجنباً للمزيد من الخسائر.
بدأنا نلملم مابقي معنا من أغراض ولم يكن معنا إلا القليل بعد أن دمرت كل المهمات والمخل ( جمع مخله) التي كانت معنا. علي ما أتذكر كان كل ماتبقي معنا عباره عن صندوقين أو ثلاثه من الذخيرة التي لم يتح لنا حني أن نستخدمها ( وهي الذخيرة الخاصه ببنادق حكيم) ، وبطانيتين في حاله يرثي لها وربما كانت هناك أشياء أخري لا أتذكرها الآن.
نحن الآن نتأهب لمغادره المكان. كنت أتمني أن نغادر سيناء وهي في حال أفضل ، إنما قدر الله وما شاء فعل.
وكان السؤال هو كيف ننتقل الي الضفه الأخري من القناه. كنا نعرف أن هناك معديه (عباره) تنقل الجنود والمهمات بين ضفتي القناه وعرفنا أن موقعها يبعد عنا بمسافه ليست بالقليله وكان علينا أن نجد وسيله نقل حتي تصل إليها. مرت علينا سياره نقل (زل) وطلبنا من السائق أن يأخذنا معه الي المعديه فرفض خوفاً من قائده إذا علم بالأمر. كدنا أن نتشاجر معه ونركب عنوه إلا أننا تراجعنا عن ذلك لينطلق بالسياره مبتعداً عن المكان. وما هي إلا لحظات ، ولم يكن قد ابتعد عنا أكثر من مائة متر ، إلا ونسمع صوت إنفجار رهيب لنكتشف أن السياره التي كنا علي وشك أن نركبها قد أصابتها قذيفه مباشره لتطير في الهواء مشتعله ونحن نتابعها في ذهول ورعب. ماذا لو كنا تمسكنا بالصعود الي السياره رغما عن السائق ، إنها لحظات قصيره وتفاصيل صغيره تفصل الحياه عن الموت ، وقبل كل شئ 'لكل أجل كناب'.
أخذنا بعض الوقت لنخرج من حاله الذهول والوجوم التي أصابتنا جميعاً ؛ بعدها قررنا أن نقطع المسافه إلي المعديه سيراً علي الأقدام رغم حاله الإجهاد والتعب الذي كنا عليه. قطعنا مسافه ليست بالقصيره قبل أن تتوقف بجانبنا سياره لوري أخري لتحملنا إلي المعديه. لا أتذكر تماماً هل تطوع السائق من نفسه أن يوصلنا إلي هناك بعد أن لاحظ مانحن عليه من إعياء ، أم أن أحدنا قد طلب منه ذلك. ترددنا قليلا قبل أن نركب السياره وكان السائق يستحثنا أن نسرع قبل أن تنتبه الينا طائرات العدو. انطلقت بنا السياره بشئ من الحذر في البدايه ثم بسرعه معقوله بعد أن اطمأن السائق أن الطريق آمن إلي حد ما خاصهً أنه ، ومن حسن الحظ ، أن الضباب كان يملأ سماء سيناء في هذا الصباح وهو ، كما أعتقد لم يكن جواً مثالياً لطيران العدو.
لن أنسي ما حييت هذه الرحله القصيره التي إستغرقتها السياره للوصول الي المعديه. كانت بالنسبه لي فتره تأمل مازالت حاضره في الذاكره بكل ما فيها من مشاعر وأفكار وحزن وقلق وحيره.
اليك عزيزي القارئ بعض ما كان يدور في ذهني وقتها وأنا أطالع ما نمر به علي جانبي الطريق. كنت أتألم بشده ونحن نمر علي بعض الأفراد وهم يقومون بدفن شهيد ربما حتي لا يعرفونه ، أو جندي مصاب يحاول زملاؤه أن يعتنوا به ويخففوا عنه. عرفت فيما بعد أن هناك مجموعات كانت مهمتها دفن الشهداء وجمع مامعهم من متعلقات أو تجميع جثامين الشهداء في أماكن مخصصه لهذا الغرض قبل أن يتسلمها ذويهم. هؤلاء الأفراد الذين لم تسلط عليهم الأضواء بما يستحقونه ، لهم كل التحيه والشكر فقد كانوا يؤدون هذه المهمه النبيله في ظروف غايه في الصعوبه.
لا أتذكر كم استغرقت هذه الرحله القصيره ، إنما أتذكر تماماً أننا لم نتبادل سوي كلمات قليله طوال هذه الرحله. كان كل منا غارقاً في أفكاره وتأملاته ، ربما كان حال الجميع مثل حالي ؛ أستعيد مامر بي من أحداث خلال هذه الأيام الثمانيه في سيناء ، وما عساه ينتظرنا في الايام القادمه. كان شريط الاحداث يمر أمامي بسرعه ، وكنت اتوقف كثيرا عند المرات العديده التي نجاني المولي سبحانه فيها ، إما من موت محقق أو اصابه جسيمه تلازمني بقيه عمري.
وفجأه وبدون مقدمات ، وبينما أنا مستغرق في تأملاتي واجترار ذكريات الأحداث التي عشتها منذ أن وطأت قدمي أرض الفيروز ، يقفز إلي ذهني تساؤل مازلت أعيشه حتي اللحظه ؛ 'ماذا لو مت الآن؟ . لم تكن فكره الموت نفسها هي ما تشغلني ، فالموت حق وقد عاينته اكثر من مره في الايام السابقه ، بل ماكان يخيفني ، بل يرعبني ، أن تصيبني مصيبه الموت وانا في حاله مثل التي أنا فيها الآن وها أنا أعرض نفسي علي الآيه الكريمه من سوره الأنفال 'ومن يولهم يومئذ دبره إلا متحرفاً لقتال أو متحيزاً الي فئه فقد باء بغضب من الله ومأواه جهنم وبئس المصير'.
وأجدني أحاور نفسي كما تعودت : إلي أي من الفريقين أنتمي ! ، هل أنا الآن في طريقي للإنضمام الي فئه ، أياً كانت هذه الفئه ، أم أنا ( أي نحن( ننتظر أوامر جديده لنبدأ مهمه جديده في موقع آخر وبذلك اكون متحرفاً لقتال ! ، أم لا هذا ولا ذاك ، إنما أنا (أو نحن) نغادر سيناء ولا ندري شيئا عن خطوتنا القادمه ، ودعوت الله ألا أكون ممن يولي دبره للعدو حتي لا أكون ممن باء بغضب من الله والعياذ بالله.
وأفقت من تأملاتي علي صوت السائق يخبرنا أننا وصلنا الي المعديه وأن علينا النزول قبل أن يواصل طريقه. كان الضابط المسؤل عن المعديه برتبه رائد علي ما أذكر ، وعندما رآنا ونحن نتجه نحو المعديه صرخ فينا بأعلي صوته 'يا جبنا ها تسيبوا سينا تاني'. كأن كلماته وصوته مازالت تتردد في أذني حتي اليوم. ضابط شهم وشجاع ومصري حتي النخاع ، وكان يمارس مهامه في ظروف غايه في الصعوبه والخطورة ، فقد كانت المعديه نفسها تعتبر هدفا للعدو ومعرضه للقصف في اي وقت. وكان لابد للضابط محمود رفعت أن يشرح له موقفنا باختصار وكيف كانت مهمتنا ان نمد خط مياه من القناه حتي تصل الي جنودنا في الجيش الثالث ، وللأسف فان العدو قام بقصف الخط وفقدنا معه كل ماكان معنا من مهمات علاوه علي خسائرنا في الأفراد. بعد هذه المناقشه القصيره ، سمح لنا الرائد بالصعود الي المعديه علي ان ننقسم الي مجموعتين حتي تتسع المعديه لنا ولأفراد آخرين كانوا أيضا يريدون العبور للجانب الآخر من القناه.
كانت تلك اللحظات آخر عهدي بأرض الفيروز وأنا أغادرها وفي القلب غصه، لأبدأ بعدها تجربه أخري استمرت حتي شهر فبراير ١٩٧٤. أتكلم هنا عن فتره الحصار التي قضيتها في مدينه السويس الباسله والتي تعرضنا فيها الي كل أنواع المعاناه من جوع وعطش وقلق وانتظار واشتباكات مع العدو تكاد تكون بصوره يوميه. فتره طويله كنا نتأرجح فيها بين اليأس والرجاء والأمل والألم ، فتره طويله تجلت فيها صلابه الجندي المصري وقدرته علي الصمود والتحدي في ظروف شديده القسوه ؛ فتره طويله أظهرت تلاحم أبناء السويس مع جنود الجيش الثالث بصوره رائعه ، حيث شهدت هذه الفتره الكثير والكثير من البطولات سواء من افراد المقاومه الشعبيه او جنود الجيش الثالث وأفراد الصاعقه المتواجدين بالمدينه.
ان شاء الله ربما أعود لتوثيق بعض مشاهد فتره الحصار كما عشتها ، لأنها فعلا تستحق أن يعلمها هذا الجيل والأجيال القادمه