Click to listen highlighted text! Powered By GSpeech
Get Adobe Flash player
مستمرين معاكم بإذن الله 2008-2024 **** #لان_لجيشنا_تاريخ_يستحق_أن_يروي **** ***** إنشروا تاريخنا وشاركونا في معركة الوعي **** تابعونا علي قناة اليوتيوب 1100+ فيديو حتي الان **** تابعونا علي صفحات التواصل الاجتماعي** أشتركوا معنا في رحلاتنا لمناطق حرب أكتوبر **** يرجي استخدام خانة البحث **** *** تابعونا علي تليجرام - انستجرام - تويتر

رواية بارون الميج - سمير عزيز - الحلقة الرابعة

 

 

بارون الميج

المؤلف: زين الدين

الاسم كاملاً: محمد السيد طه محمد زين الدين

رقم الإيداع: 25020/2017

الترقيم الدولي:978-977-90-5077-5

            

جميع الحقوق محفوظة للمؤلف, ولا يجوز النشر أو الطبع الا بإذن المؤلف, ولا يجوز الاقتباس دون الاشارة للمصدر.

 

 

سلاح الاتحاد السوفيتي فى يدنا, وسلاح الولايات المتحدة فى يد اسرائيل, خبراء الاتحاد السوفيتي يضعون علمهم تحت تصرفنا, والعسكريون الامريكيون فى جيش اسرائيل, يقاتلوننا من وراء المدافع ومن الطائرات التى تحمل تزويرا وادعاءاً نجمة داود.

- جمال عبد الناصر, فى خطاب امام مجلس الامة والى ملايين العرب عبر موجات المذياع.

 

- مُستودع الجميلات -

تبقى القـرى غارقة فى نعيم النسيان والعزلة حتى يظهر فيها بئر للبترول, منجم للذهب, أو تشق الحكومة أمامها طريق سريع وتضع على جانبه لافتة زرقاء مدون عليها بالقلم الابيض إسم القرية..

بالنسبة لقرية شاوة الصغيرة بإقليم الدقهلية فالوضع مختلف, وجود مطار حربي (مطار المنصورة) داخل حدودها جعل اسمها يتردد فى الصحف العالمية وقنوات التلفاز كثيراً, وجعلها نقطة على الخرائط العسكرية عليها دائرة حمراء, وباتت أثناء الحرب مزارا سياحياً لطيور الميراج والفانتوم الاسرائيلية..

كانت بيوت شاوة والبقلية من الطين والطوب اللبن أسقفها مغطاة بأكوام من القش واعواد القطن الجافة, كانت البيوت مُنسجمة مع الطبيعة والاشجار والنخيل ومع دخول عصر الانفتاح والهجرة الى الخليج فى نهاية السبعينيات كنتُ شاهداً على تحول البيوت بالتدريج الى الطوب الاحمر وأصبحت مثل المسخ, كان الناس لا ينقصهم أيّ شىء وباتوا يعتقدون أنهم ينقصهم كل شىء..

تحتضن حقول شاوة الخضراء المطار من جميع الجهات ويفصل بينهما سلك شائك, حوله مجموعة من الدشم (عنابر الطائرات) مغطي سقفها بكميات هائلة من الطين, تُشبة الدشم البيوت الى حدٍ ما ولكل واحدة مدخنة فى الخلف, تخرج عادم الطائرة.. يطل المطار على شريط للسكة الحديد ثم طريق السنبلاوين السريع..

وصلتُ مطار المنصورة بعد أشهر قليلة من بداية حرب الاستنزاف, أعيد تمركز "السرب 16" من مطار انشاص الى مطار المنصورة وتم تسميته "السرب 46" / اللواء الجوي 104, أصبحت قائد ثان السرب بعد مجدى كمال (قائد السرب), وكان السرب الليلي الوحيد فى مصر, شغل السرب 46 دشم أخر الممر بجوار قرية شاوة, أطلق علينا "سرب شاوة", وشغل السرب 44 دشم أول الممر والاستراحة المُدشمة ناحية عزبة الامشوطى, أطلق عليه "سرب الامشوطى", وشغل السرب 62 الخاص بطائرات الميج 17 دشم مُنتصف الممر..

  

رفعنا شعار: "يا أهلاً بالمعارك, يا بخت مين يشارك, أطلب تلاقي, تلاتين مليون فدائي", وغنت أم كلثوم "أصبح عندي الان بُندقية", وغناها فيما بعد عبد الوهاب.

***

20 يوليو/ حزيران 1969..

قبل أن اقلع بالطائرة مُباشرة تم تلقيني الاتجاهات الموصلة الى تجمع لطائرات إسرائيلية شرق القناة, الطيران zero feet حتى القناة مع الالتزام بالصمت اللاسلكي, ثم الارتفاع ومُحاولة إصطياد طائرة والعودة سريعاً دون الاشتباك, فيما يُعرف بـ "الصيد الحُر" كنتُ أسميه "خطف طائرة فى لمح البرق"..

(فى بعض الاحيان, يكون الصيد الحُر بطائرتين, ويتم تلقين الاتجاهات قبل الاقلاع مباشرة أو فور الاقلاع عبر اللاسلكي, وبعدها تبدأ فترة الصمت اللاسلكي حتى لا يكتشف العدو فريق الصيد.)

كنتُ قد سئمتُ تكرار الخروج للصيد والعودة بدون صيد, فى الموقع, وجدتُ أمام أنف طائرتي قطيع من الطائرات الاسرائيلية, إحداهم شاردة عن القطيع, مُناسبة للافتراس ومُريحة لدرجة جعلتني لا أشعر بالامان والطمأنينة, تسللتُ خلفها, وبينما كنتُ مُنكباً على وضعها داخل دائرة التنشين كان هناك طائرتين خلفي تستعدان لشىء ما, هل كانت الطائرة التى أمامي طعم ابتلعته؟

لا أدري حتى اليوم..

"بص وراك قبل ما تضرب الطيارة اللي قدامك", هذا ما كنتُ أقوله دائماً للطيارين الجدد, نظرتُ فى بيرسكوب القُمرة, وجدتُ طائرتين خلفي, على بعد خطوات, تحاولان ضبط مخالبهما فى اتجاه عنقي, تأخرتا ثانية أو اثنين, أصبحت الطائرة التى أمامي فى مرمى صواريخي, أطلقتُ صاروخ عليها, وقمتُ بمناورة ما قبل الموت, هربتُ من أمام الطائرتين, وافلتُ من صاروخ إحداهما بإعجوبة..

أخذتُ طريق العودة, لم تُطاردني أيّ طائرة, فالطيارين الاسرائيلين يفضلون الاشتباكات المُدبرة والكمائن المُخطط لها جيداً..

هبطتُ على الممر, وكانت الطائرة بصاروخ واحد, سألني مُهندس: "اوومال فين الصاروخ التانى يا أفندم؟", أخبرته أنني أطلقته على طائرة إسرائيلية, ولا أدرى ان كان أصابها أم لا؟, أبلغ قائد السرب ودون ذلك فى كتاب الطائرة "الشيت".

فى نهاية عام 2012 توصلت المجموعة 73 مؤرخين من خلال البحث فى أرشيف سلاح الجو الاسرائيلي, الى ان الطائرة التى أطلقت الصاروخ عليها قد سقطت وقفز قائدها "إيتان بن إلياهو" بالمظلة, كان الموت قريباً منه جدا, لذا أظن أن قائد القوات الجوية الاسرائيلية (ما بين أعوام 1997 2003 تولى بن إلياهو المنصب) سيظل يتذكر طائرتي طوال حياته,لان عقول البشر مبرمجة على تذكر الاشياء التى تسبب صدمة عظيمة لهم أو الاشياء التى تؤثر على بقائهم فى سباق الحياة..

إن كان ماحدث كمين لي, فقد وقع العكس تماماً, لقد إبتعلتُ الطعم وهربت.

***

11 سبتمبر/ أيلول 1969..

على الممر 340 تنتظر اربع طائرات ميج 17 محملة بالقنابل, وهناك أربع طائرات ميج 21 تصطف على الممر الجانبي.. فى تمام العاشرة والنصف صباحاً دوت خرطوشة إسكرامبل فإنطلقت طائرات الميج 17 فى الهواء, بسرعة دخلت طائرات الميج 21 للممر الرئيسي وأقلعت لحماية الميج 17, كان معى "مجدى كمال" و"رضا صقر" و"سليمان ضيف الله " (من جنيفا فى بلد الغريب, السويس), الطيران كالاباتشى على ارتفاع (zero feet) بخطى واثقة حتى الهدف وهو موقع صواريخ هوك مضادة للطائرات بين بالوظة ورمانة فى سيناء..

وصلنا المكان المُتفق عليه, لم نجد شىء, لا أثر للصواريخ, وكل شىء هادىء, بتُ مقتنعاً ان هناك خطأ ما وان الهدف يلعب معنا الاستغماية, وبينما كنا نبحث عن الهدف, نظرتُ خلفي, فوجئتُ بصاروخ ينطلق ناحيتي من الارض خلفه سحابة من الرمال والغبار, وكأن دبوس صغير وكز قلبي, الحمد لله لم يكن الصاروخ موجة جيداً.. بالنسبة اليّ, مواقع الصواريخ تُشبة الحيات والعقارب, إن لم تقترب منها فلن تؤذيك, وإن اقتربت عليك أن تعرف جيداً متى تلدغك؟

نطق الهدف وفضح نفسه, تبع ذلك صواريخ كثيرة دقيقة التوجيه خلفها عاصفة هائلة من الغبار, وكأن الموقع يستعرض قوته, أصبحنا فى مأزق.. لاسكات الموقع, عادت طائرات الميج 17 ودكته بالقنابل قبل أن يُطلق المزيد نحونا, إنفجارات متوازية, مع كل إنفجار يصرخ قلبي من السعادة ويصرخ الهدف من الالم ويتهشم الى شظايا صغيرة, ترتد الينا وسط الرمال كالاعصار الهائج, وترتفع بقعة سوداء كبيرة تُشبة تجمع لمئات الجرذان..

أثناء العودة الى مطار المنصورة, لم يكن عندي رغبة فى الرجوع بدون صيد, تمهلتُ قليلاً, تقدمت الطائرات المصرية ناحية قناة السويس وأصبحت بعيدة عني, سمعتُ الموجه الارضي يُخبر "مجدى كمال" أن هناك طائرات ميراج مُعادية أقلعت من مطار المليز (المُحتل) وتتجه نحوه, وقتها قررت أن ألحق بالطائرات الميج.. حينما وصلتُ كانت امام أنف طائرتي طائرات ميراج اسرائيلية تحاول تدمير طائرات الميج المصرية من الخلف, كانت الصواريخ تتطاير من كل ناحية تجاه الطائرات المصرية..

لم ينتبه أحد لوجودي..

الان أصبحتُ خلف طائرات الميراج مباشرة, فى الهلمت (سماعة الرأس) دوت صافرة الصاروخ فى إذني, كأنها تُغني, تعنى الصافرة أن الصاروخ يُمسك الهدف جيداً, أطلقتُ الصاروخ, أصيبت طائرة اسرائيلية وانفصل ذيلها وخرت على الارض ميتة, أطلقتُ صاروخ تاني فلم يصب أحد..

 
من كتاب الطيران الخاص بي, توضح تاريخ الاشتباك ورقم الطائرة وإسقاط طائرة ميراج

كانت ضربة موجعة, فى نفس اليوم قامت الطائرات الاسرائيلية بالرد وهاجمت مطار المنصورة وظلت الاشتباكات فى السماء حتى الساعة الثامنة مساءاً, قفز سبعة طيارين بالمظلات وأسقط مصطفى جامع طائرة سكاى هوك إسرائيلية فوق مدينة السنبلاوين, قفز الطيار بالمظلة وكُسرت ساقه ونقل الاسير الى مستشفى السنبلاوين..

حصلتُ على نوط الجمهورية العسكرى من الطبقة الاولى, إستلمتُ البراءة فى مطار المنصورة ولم تعطنى معارك حرب الاستنزاف الفرصة كى أذهب الى رئاسة القوات الجوية كى أستلم النوط, ولم أهتم بذلك, ولا أعرف شكله حتى الان.

***

بوم...

بعد أقل من دقيقتين أصبحتُ فى السماء, كانت العاشرة مساءاً وظلام ليلة الثامن من نوفمبر/تشرين الثانى 1969 دامس ولا وجود للقمر, حولت اللاسلكي على قناة العمليات, كان هناك تشويش على اللاسلكي وبالكاد سمعتُ صوت الموجه الاراضي وسط صوت أجراس الكنيسة المُرتفع, تم توجيهي الى مدينة بورسعيد, وبعدي العجمى الذى كان حالة ثانية..

حسناً, ماذا هناك؟

قبل أن اصل بورسعيد رأيت وسط لجة الظلام شىء غير مألوف, نجوم كثيرة تسقط من السماء فى البحر, كانت النجوم تبدو فى عيني مشاعل تتوهج خلف قطعة شفافة من النسيج الابيض, لابد أن هناك طائرات تُلقي قنابل مُضيئة لترى شيئاً ما فى البحر, قلتُ لنفسي: "يبدو انها ليلة تختلف على أخواتها."

تنطلق النيران من البحر وتنقض على المشاعل, فتسكت وتسقط ويسود ظلام دامس, وهكذا يبدو الامر مثل لُعبة الهاتف التى تسقط فيها كرات وعليك أن تدمرها قبل ان تصل الارض..

قمتُ بالاستعانة بالرادار لكنه كان مريضاً وبلا فائدة, قبل أن اصل موقع حفلة النجوم الساقطة, زادت قوة التشويش على اللاسلكى, زادت قوة صوت أجراس الكنيسة, بصعوبة بالغة أستطيع سماع صوت الموجه الارضي والعجمى, توقف سقوط المشاعل, تقدمتُ وسط الظلام حتى رمانة شرق بورسعيد, سمعت وسط أجراس الكنيسة صوت ضعيف جداً يطلب مني العودة الى المطار, لكني أكملت الى البحر وبدأت أفتش السماء بالرادار بحثاً عن طائرات للعدو..

فجأة ظهرت طائرة على شاشة الرادار, تابعتُ النقطة التى تتحرك على الشاشة بسعادة, جذبتني كفتاة جميلة, توجهتُ ناحيتها, كان الظلام حالكاً ولا فرق بين السماء والارض, شعرت أنني افقد إرتفاعي, دخلتُ حدود سيناء, رأيت كتابات بالمشاعل المضيئة على ساتر ترابى, بالتأكيد (48-56-67), قذفتهم بأقبح الشتائم, ظهرت طائرة أخرى على شاشة الرادار واختفت فى لمح البصر..

عدتُ الى بورسعيد, تلاشت الاجراس, سمعتُ صوت العجمي بوضوح يقول لي: "يافندم الموجه بيقولك ارجع"..

حينما وصلتُ المطار علمت ان المدمرتان "الناصر ودمياط" كانتا تضربان مواقع شرق بورسعيد ومخازن وقود وأسلحة, وان طائرات الفانتوم كانت تُلقى القنابل المُضيئة فى المياه كى ترى المدمرتان, وان طائرات الفانتوم انسحبت بمجرد وصولي الى مكان المشاعل وظهور الطائرة على شاشة الرادار الاسرائيلية..

 
من كتاب الطيران الخاص بي, توضح إشتباك المدمرتين

بعد قليل, عادت طائرات الفانتوم مرة ثانية الى ملاحقة المدمرتان, وبدأت فى القاء المشاعل والانقضاض على المدمرتان تباعاً بإستخدام القنابل..

قال مجد الدين فى لقاء صحفى (أقلع لمساعدة المدمرتين فى المرة الثانية): " ما أن تخطيت منطقة بالوظة حتى بهر عيناي استخدام العدو لمشاعل قوة مليون شمعة لأضاءة أرض المعركة ورأيت الطائرات الفانتوم تنقض تباعاً على المدمرة, كان قائدها يناور بها بمهارة حتى تصورت أن المدمرة قد أنقلبت على جانبها.."

كانت النهاية بعد ساعتين, هربت المدمرتان الى عمق البحر بدون خدوش, وذلك بدلا من أن تسيرا بمحاذاة الشاطىء حيث لن يتمكن ايّ رادار بحرى أو جوى من التمييز بينها وبين اشارة الشاطىء.

***

إستدعاني القدر للقاء هام على رصيف حمام سباحة نادى الطيران, على حافة مصر الجديدة, ويبعد عن منزلنا حوالى عشر دقائق بالسيارة, كان الوقت قد تجاوز حر الظهيرة ولم يكن يشغل الرصيف سوى القليل من الشماسى حسنة الترتيب, تُظلل طاولات تعانقها مقاعد فارغة, كانت ماجدة تجلس بجواري.. "مساء الخير", قالها الطاهى النوبي "عم بحر" وأخذ يرص أطباق المكرونة والسكلوب بانية على الطاولة, وهو أحد ابرز الوجوه فى نادى الطيران, وجهه النوبى الطيب البشوش, طوله الفارع, نحافته, بذلته الحمراء الانيقة وخيوطها الذهبية, خليط يجذب الانتباه..

- والله يا أفندم من ساعة الحرب ما قامت, ماحدش من الطيارين عاد فاضى يجي هنا, وكل فترة نسمع الطيار الفلانى استشهد, نفضل نتكلم عنه يوم ولا اتنين لحد ما نسمع عن طيار تانى استشهد ونتكلم عنه برضوا يومين لحد مايوصلنا خبر التالت وهكذا, من ساعة الحرب ما قمت ماعندناش بنسمع أو نتكلم الا عن الموت .........

بينما كان "عم بحر" يتكلم أقبل عليّ "فوزى سلامة" وصافحني, الطيار الصالح لكل المهام, قاد التشكيل الذى أسقط أربع طائرات ميراج فى كمين طليبة الشهير, وحش سرب الـ (f13) النهاري بمطار إنشاص, التهم وحده سبع طائرات ميراج خلال حرب الاستنزاف, كنتُ بين يديه كالتلميذ فى حضرة مُعلمه, نفض رماد سيجارته وهو يخبرني عن انشاء سرب النخبة على غرار السرب 101 الاسرائيلي, وسيضم أمهر الطيارين المصريين, وقد إختارني فى السرب, تلألأت عيناي, ناقش معي تمركز السرب فى أيّ مطار؟

أنا على موعد مع تغيير عظيم فى حياتي, بسرعة, يجب أن أعد حقائبي وصواريخي للانضمام لسرب النخبة, ستكون أيامه ومعاركه الجوية مُثيرة.

***


 

- كنتُ قريباً جداً -

نقط نقطة وكتب فوقها بورسعيد, نقط نقطة أخرى بمحاذاتها وكتب فوقها السلوم, وصل بين النقطتين بالبحر المتوسط, فى عمق البحر رسم طائرة بالخطوط المُستقيمة المتقاطعة, وكتب فوقها (U2), Dragon Lady, ولمن لا يعرفها, فهي طائرة تجسس أمريكيةمتطورة جداً, تطير على ارتفاع شاهق يبلغ عشرين كيلومتر فوق سطح الارض, لذا يرتدى قائدها بذلة الضغط العالى التى تُشبة بذل رواد الفضاء, وسبق أن اسقط الاتحاد السوفيتي واحدة فوق أراضيه واعتقل قائدها..

أخبرني رئيس شعبة عمليات القوات الجوية ان هذه الطائرة تُحلق يومياً ما بين الساعة العاشرة والحادية عشر صباحا, بمحاذاة الشواطىء المصرية, خارج المياه الاقليمية المصرية.. إختارني بنفسه لمهمة إسقاطها فى البحر, ستكون ضربة مؤلمة لـ "CIA" ووجبة دسمة للسمك..

 

 

لن انسي أبداً ليلة الـ U2, كانت رماديّة وريحها فاترة وكئيبة, لم أستطيع خنق صوت الاحتمالات, كنتُ أسيراً لها وإقتادتني الى مناطق مُظلمة, هل سيتركني الاسطول السادس الامريكي الرابض فى البحر المتوسط أقضم التفاحة وأنفذ بجريمتي؟, هل ستهرع طائرات الفانتوم من حاملة طائرات قريبة لأنقاذ الـ U2 ؟, قد أجد نفسي فجأة وجها لوجه مع حشد من طائرات الفانتوم التى لا تحمل قلباً وخارجة عن المألوف فى عالم الطيران الحربي, حتى ان سقطتُ فى بحر لا نهائى سيكون الامريكان الاقرب اليّ, جميع سيناريوهات هذا اللقاء فوق المياه الدولية مُرعبة, ليس بالضرورة أن أعود, سميّتُ المهمة فى دفتر ملاحظاتي "إصطياد شبح المتوسط"..

فى الصباح, كنتُ فى إنتظار الـ U2 داخل قمرة الطائرة, حالة أولى, أرتدى بذلة طيران الارتفاعات الشاهقة, كانت خانقة والجو جحيم داخل الدشمة, ربما تظهر الـ U2 بعد ساعة, أو أقل وربما لسبب ما لا تخرج للعمل اليوم, لكن بمجرد ان تلتقطها شاشات الردادر المصرية, سيتم توجيهي عموديّا على مسارها, بحيث ألتقى معها فى نقطة داخل المياه الدولية, وأدمرها بصاروخين..

طبقا لساعة الطائرة, العاشرة وخمس وثلاثون دقيقة, قُضى الامر, فتُح باب الدشمة, تم توجيهي لاسلكيّا الى البحر المتوسط, من ناحية بحيرة البُرلس, على إرتفاع 13 كيلومتر من سطح الارض, قرب البحر المتوسط, بدأت أنحدر بالطائرة بزاوية خفيفة مع استخدام أقصى قُدرة للمحرك, هبطت الى ارتفاع 11 كيلو متر من سطح الارض لتصل السرعة الى 2 ماخ (2450 كيلومتر فى الساعة), ثم بدأت أتسلق الهواء بزاوية مُتوسطة حتى وصلتُ الى إرتفاع 20 كيلومتر فوق سطح الارض (الطريقة الوحيدة للوصول الى إرتفاع 20 كم بطائرة ميج 21), توغلتُ فى البحر, كانت السُحب أسفل مني, متفاوتة القمم تُشبة البحر الموار, والسماء صافية والرؤية واضحة وأقترب من الهدف بسرعة عالية, وكلما إقتربت من الهدف تعاظم ظهور طائرات الفانتوم فى أيّ لحظة ومن أيّ جهة, بطلتها المُرعبة وجناحيها المُخيفين, تابعتُ على الدوام البيرسكوب (مرآة فى قمرة الطائرة) لإكتشاف أيّ طائرة قد تكون تسللت خلفي خلسة, كنتُ أخشى أن أُصطاد على حين غرة أكثر مما يجب..

بالتأكيد فى تلك اللحظة هناك عدد محدود من الجمهور, يقفون على أقدامهم فى غرفة العمليات, صامتين, مُتحمسين, وجوههم مُنصبة على شاشة الرادار, يشاهدونني نقطة تقترب من الهدف, وكلما إقتربتُ قرّب كل واحدٍ فيهم المسافة بين كفيّه وهيأهما للتصفيق..

ها أنا أقترب وأقترب, أشعر بقشعريرة الكاميرا فى مُقدمة الطائرة وهي تتهيأ لتسجيل تلك اللحظة التى لا تتكرر الا مرة واحدة فى عُمرها, تبدأ العمل بمجرد تحرير الصاروخ من المخزن أسفل جناح الطائرة راكضاً بكل قوة وسرعة ناحية الهدف..

تقاطعتُ مع مسار طائرة التجسس الامريكية U2, كنتُ أتوق لرؤيتها, حركتُ رأسي فى الاتجاهات الممكنة لكني لم أعثر عليها, أين اختفت؟, أخبرني الموجه الارضي (المُرشد اللاسلكي) أنها تجاوزت نقطة الالتقاء, رغم أن سرعتها بطيئة..

أفلتت اليوم, لكنها فى اليوم التالى بالتأكيد لن تفلت, سنكون أكثر دقة فى حساب الوقت والمسافات والسرعات..

قضينا جزء من الليل فى النقاش والتجهيز لإعادة المحاولة فى الصباح, طرحُت سؤالاً على الحاضرين: "هل رصد الامريكان طائرتي وتم تحذير قائد الـ U2 أم ان ما حدث خطأ فى الحساب من ناحيتنا؟", على العموم بالتأكيد تنبه الامريكان الى أن الـ U2 كانت فى خطر, فجأة, هبت فكرة مزعجة داخل عقلي, الكمين, فلو كنتُ مكان الامريكان لاستخدمت الـ U2 فى صنع كمين, حينما أصبحتُ وحيداً فى الاستراحة تبادلتُ الادوار مع الامريكان واخذتُ أضع سيناريوهات الكمين..

فى الصباح, جلستُ فى قُمرة الطائرة, حالة أولى, بصعوبة طردتُ فكرة الكمين من ذهني, قررتُ توظيف أفكاري فى تزويدي بطاقة ايجابية ورفع روحي المعنويّة, يمر الوقت ببطىء فى ساعة الطائرة, التاسعة والنصف, يتسكع, يزحف نحو العاشرة, يتراءى لي أشياء حدثت وربما لم تحدث,على سطح حاملة طائرات أمريكية فى عرض البحر المتوسط, المياه تموج من كل ناحية والامور تسير على ما يُرام, الان (ربما) يُعيد القائد بناء سيناريو الكمين للمرة الاخيرة ويطمئن أن كل طيار يعرف جيداً ما يجب عليه فعله, حتى التفاصيل الصغيرة, لحظات وتخرج الـU2 لاغراء الضحية..

إنتظرتها ثلاث أو أربع صباحات مُتتالية, لكنها لم تخرج للعمل, وتوقفت نهائياً عن التجسس.

***

ثمة لذة أشعر بها فى مخالفة اوامر الطيران, الجميع يعلمون ذلك ولذا قيل أنني دخلتُ نفق بطائرة ميج وخرجتُ من الناحية الاخرى, كان ذلك كذباً فأنا فقط كنتُ أعبر بالطائرة من أسفل جسر فوق النيل يربط مدينة المنصورة بطلخا, ويكاد بطن الطائرة يلمس المياه..

آرجو, الا يقلدني أحد فإنها مغامرة حقاً مميتة..

***

ذات صباح, دُعيتُ هاتفياً الى قاعة مُحاضرات اللواء, وكان ينتظرني رئيس شعبة التدريب بالقوات الجويّة اللواء عبد العزيز بدر, قدمتُ له التحية العسكرية, وصافحته, أشار الىّ أن أجلس على ضفة المنضدة الاخرى, نهض واقفاً, إقترب مني حتى كدت أسمع صوت انفاسه, فرد الخريطة أمامي, وضع أصبعه فوق مدينة على البحر المتوسط, مسحت عيني موقع المدينة, الضبعة بين الاسكندرية ومرسى مطروح, فردتُ ظهري, سندتُ بيدي على مقعد بجواري, للحظة فكرتُ فى هذا الهدف الغريب, ترك اللواء الخريطة فلفت نفسها بنفسها, وضعتُ يدي عليها فتوقفت عن التدحرج, تحرك بعيداً, جلس وقال: "هتعمل طلعة تجربة بأقصى حمولة للميج 21, وهيكون خط السير "المنصورة-الاسكندرية-الضبعة", تروح ترمى قنبلتين فى البحر وتعمل إشتباك وهمى وترجع تانى.."

- إمتى يا افندم؟

- بعد ساعتين, انا بلغتهم أول ما وصلت يجهزوا طيارة ميج بأقصى حمولة..

اذن لي ان أسأله عن مصير سرب النخبة, أخبرني ان قيادة القوات الجوية ترى أنه لا ضرورة له فى هذا الوقت, شعر بصدمتي فاقترب ووضع يده فوق كتفي..

- يا أفندم رغبتي فى الانضمام لسرب النخبة بتخليني أجتهد فى شغلي..

طيب خاطري قائلاً: الطيار الجيد والشجاع هو اللي بيصنع السرب الجيد مش العكس, وانت طيار جيد يا سمير..

داخل إستراحة الطوارىء, فتحتُ الخريطة, كنتُ أنتقل من موقع مدينة الى اخرى, بحثاً عن الهدف الاساسى, خط السير يبدأ من مطار المنصورة, بعد ذلك يُمكن إستبدال الاسكندرية ببورسعيد والضبعة بيافا, وبذلك يكون خط السير الاساسي "المنصورة- بورسعيد – يافا ", الهدف الاساسى مدينة يافا بالقرب من تل أبيب, بالتأكيد ذلك رداً على ضرب الطيران الاسرائيلي العُمق المصري, مفاجأة ليّ, فلم يسبق أن توغلت الميج الى هذا العُمق داخل إسرائيل, إنها رحلة ذهاب فقط, فكرتُفىكمالطائراتوالصواريخالتىستهرعلأعتراض طائرة مصرية تقترب من تل أبيب!!, دونتُ ملاحظاتي على المهمة فى دفتر ملاحظاتي تحت عنوان, "قُبلتين لأمرأة فى أخر العالم"..

لم أنتبه لوجود اللواء عبد العزيز بدر بجواري..

توجهتُ اليه بالسؤال: يا أفندم, هيا الطلعة الاساسية ليافا؟

كان هناك طنين للطائرات فى الخارج يصم الآذان, إختلط مع صوتي, إنتظر اللواء حتى سكتت الطائرات, قال منزعجاً ومراوغاً: إنت عارف هتعمل إية؟

اجبتُ بحزم: تمام, يا افندم..

داخل الدشمة رقم إثنين, تم تحميل طائرة ميج 21 بأقصى حمولة, ثلاث خزانات وقود, وقنبلتين كل واحدة ربع طن, صعدتُ سلم الطائرة, جلستُ على المقعد, أصبحتُ الان جاهزاً للانطلاق, فُتح باب الدشمة, سحبتُ غطاء الكابينة بيدي وأغلقتها, دفعتُ مقبض غلق الكابينة, شغلتُ المُحرك واتجهتُ ناحية الممر..

طبقاً لخطة العمل, التحليق طوال الرحلة بإرتفاع (Zero Feet) بحذر شديد لان الطائرة محشوة بنصف طن مُتفجرات (قنبلتين) وتبعد عن سطح الارض أمتار قليلة, أيّ خطأ ولو تافة سيختل توازنها وتصطدم بالارض فى أقل من لحظة, كما أن القنبلتين ستنفجران غضباً فى وجهي ومعهما ثلاث خزانات وقود تبتلع 1800 لتر جاز أبيض, الاسوأ من إحتراق المرء حيّاً داخل طائرة باهظة الثمن, هو أن يظل بعدها على قيد الحياة, مشوهاً على الاقل, الجيد فى الامر أن المرء إما ان يتفتت ويموت أو يظل حيّا, ليس هناك وسط.. يمكنني تبسيّط ما سبق فى ست كلمات "الطائرة كانت قنبلة موقوتة لأبسط الاخطاء"..

خط السير يبدأ من المنصورة الى الاسكندرية (نقطة فى مُنتصف الرحلة), الطيران بمحاذاة البحر حتى الضبعة مروراً فوق أرض معركة العلمين ومقابر الكومنولث الشاهدة على أشرس معارك الحرب العالمية الثانية, قرب الهدف (مياه البحر), الارتفاع لأكثر من كيلومتر ودك الهدف بالقنبلتين أثناء الانقضاض عليه, يلى ذلك إشتباك وهمى لدقيقتين بـ "الافتر بنر", والعودة (Zero Feet) فى نفس المسار..

على مر جميع العصور, لم يتغير سلوك أهل الارض حينما يكتشفون طائرة تطير قريباً من رُؤوسهم, يتركون كل شىء ويتفرجون عليها ويتابعونها وهى تبتعد حتى تُصبح نقطة, أما الاطفال فيلوحون الى قائدها, ذلك ما حدث مع طائرتي فى ذلك اليوم..

حينمالمست عجلات الطائرة الممر, شعرتُ ان المهمة إستهلكت على محور الزمن وقتاً يعادل قلب صفحة فى كتاب بتأنى, حتى أنه (ربما) الهواء مازال معبأ بعادم الطائرة حينما صعدت الى السماء, نظرتُ الى مؤشر الوقود فور أن أوقفت المظلة الخلفية الطائرة فوق الممر, يُشبة مؤشر وقود السيارات, غير أن كل شرطة تعنى مائتى لتر, كان العقرب يُشير الى انه تبقى فى جوف الطائرة حوالى 1200 لتر, هذا رااائع, فالحد المسموح به 600 لتر, لكننا كثيراً ما كنا نعود بوقود أقل من عتبة حد السماح, وبعد أن تومض لمبة الوقود الحمراء بمدة طويلة..

أصبحت تل أبيب فى خطر.

***

بدأت قصة هذا الكتاب قرب الساعة الثانية عشر من ليل أحد أيام شتاء عام 2017, بقى دقائق قليلة على ميلاد يوم جديد, كانت ليلة رومانسية بلا أثر لصوت أو ضوء, تُشبة ليالى سنوات الحرب مع إسرائيل, بسبب التعتيم كان هناك "صمت ضوئي".. بإيعاز من هايدي قررتُ نشر قصتي مع الميج 21, أردتُ ان تكون للجميع, وقعتُ فيما أسمّيه "حيرة شجر الجنة", الحديث فى أمور فنية مثل الصواريخ وشروط إطلاقها, سرعات الطيران, الارتفاعات وقواعد المناورات الجوية وغيرها يُـفجر ترسانة هائلة من الضيق والممل فى صدر القارىء, لذا قررت (قدر المُستطاع) تجنب الدخول فى امور فنية, معادلة صعبة فكيف يُلقى عالم فلك مُحاضرة دون أن يذكر فيها الشمس والقمر وقانون الجاذبية!!!

الحكاية التالية بذلتُ مجهوداً كبيراً فى تلاشى الولوج فى أمور فنية..

فى يوم من أيام صيف 1970, وبعدما تلاشت آمالي فى قصف تل أبيب أو حتى تسلق أسوارها, كنتُ قائد تشكيل (أربع طائرات), فى دورية غرب مدينة الاشباح المُرحل أهلها والمدمرة, بورسعيد.. كان معي, رضا اسكندر، وصفي بشارة، مجد الدين رفعت.. نتحرك شمالا وجنوبا بسرعة أقل من واحد ماخ للتقليل من استهلاك الوقود, أثناء ذلك أبلغنا الموجه الأرضي بأن هناك طائرتين فانتوم إسرائيليتين تتجهان نحونا بسرعة 1,5 ماخ.. أمرنا الموجه الارضي بتجنب الاشتباك والعودة الى مطار المنصورة (خدوا إتجاه 270)..

امرتُ التشكيل بالتوجه الى الفانتوم والاستعداد للاشتباك, (خدوا إتجاه 90), أخذ الموجه الارضي يصرخ ويكرر طلب تجنب الاشباك والعودة الى المطار.. حسمتُ الامر, وكررت اوامري للتشكيل..

أحسنتُ صنعا, لان الفانتوم تطير بسرعة عالية, وحينما نهرب ستكون خلفنا خلال ثواني معدودة, وحينها تستطيع ضربنا من الخلف بصواريخها المتطورة..

تخطينا تشكيل الفانتوم من أعلى, وقمنا بالدوران يساراً للدخول خلفه, لم نلذ بالفرار وتصرفنا على نحو غير مُتوقع للفانتوم, حينما تأكد قائد التشكيل من اصرارنا على المواجهة, قرر الانسحاب, لكنني أصبحتُ خلف طائرة فانتوم.. فجأة, تخطى وصفي (رقم 3) طائرتي وأصبح أمامي وخلف الفانتوم, إرتفعتُ الى أعلى كى أحمي ظهره, اطلق وصفي صاروخ عليها فأنفجرت, وبخته فى اللاسلكي لانه خطفها من أمامي, أطلق مجد الدين رفعت صاروخ أخر فدخل وسط الانفجار..

فيديو لحوار الطيارين عن تلك الواقعة تم تسجيلة عام 2016 في منزل اللواء مجد الدين رفعت في حضور كل طيارين الاشتباك – أضغط للمشاهدة .

ركضت الفانتوم الثانية هاربة مثل كلب الصيد.

فى صباح اليوم التالى كنت حالة طوارىء أولى, حضر قائد السرب الى الدُشمة, كان يتصبب عرقاً, أخبرني ان كبير الخبراء الروس فى القوات الجويّة فى قاعة مُحاضرات اللواء, فكرتُ انه جاء للاحتفال معنا بسقوط الفانتوم, بجانب ذلك كان لدي إحساس بضرورة عدم استباق أسباب زيـارة الرجل المُهم خصوصاً وأن الخبراء الروس ليسوا ودودين لهذه الدرجة, تسلم احد الطيارين حالة الطوارىء مكاني, وامام باب الدشمة كانت تنتظر سيارة جيب روسي (نظراً لإتساع المطار, نستخدم سيارة للتنقل بداخله)..

انطلق السائق مُتعجلاً على الممر الفرعى, بينما كانت طائرة ميج تفرد مظلتها الخلفية كى تتوقف فوق الممر الرئيسي..

تجولت عيني بقاعة المُحاضرات, جلستُ بجوار رضا اسكندر, كان أمامنا كبير الخبراء الروس ومُترجم ورجل ينسخ ما نتكلم به على آله كاتبة امامه, سردتُ ماحدث بصفتي قائد التشكيل الذى أسقط الفانتوم, وسرد وصفى بالتفصيل كيف أسقط الفانتوم؟, أسوأ ما فى الامر أنني شعرتُ ان كبير الخبراء الروس يستجوبنا ويشكك فيما حدث, وللاسف لم يكن هناك أفلام للتصوير على الطائرة لتسجيل وتوثيق ماحدث..

فى النهاية أخبرنا كبير الخبراء الروس عبر المُترجم أنه يُريد عجلة, قلتُ لنفسي: أية الهبل دة؟

كان يقصد عجلة من عجلات الفانتوم المنكوبة, كان يُريد دليل.

***

قبل عبد الناصر مُبادرة روجرز لوقف إطلاق النار, وفى الثامن من أغسطس/آب 1970 دخلت الهدنة حيز التنفيذ, صمتت المدافع بطول قناة السويس, توقفت العمليات على الجبهة, لن يهم أخر جندى استشهد قبل الهدنة, فبالتأكيد لن يكون الاخير..

انتهت ايام شدة لن أنساها..

بدأت فترة الكساد الكـبير, تدربنا فى إنتظار جذب فتيل الحرب مرة أخرى فكما قال عبد الناصر "ما أخذ بالقوة لا يُسترد الا بالقوة", أما موسوليني فكان أدق حينما قال: "حتى لو قُدمت لي البلاد على طبق من فضة, فإنني لن أدخلها الا بالحرب."

***


 

السرب 46 قتال – مطار المنصورة – اللواء الجوى 104

 

 

 

- على خطى من سبق بممحاة -

بوم..

بدون سابق إنذار, أوقفت الاذاعة برامجها وكذلك التلفاز, وبدلاً منها أخذت جميع المحطات تبث القرأن الكريم بإستمرار, كان واضحاً مثل السماء فى الصيف أن شيئاً هاماً حرك الرمال الساكنة واجبرهم ان يوقفوا له الزمن, يوم الثامن والعشرين من سبتمبر/أيلول 1970.. لم اطيق الانتظار, أحضرتُ مذياع الى إستراحة الطوارىء, كان هناك قلق ولم يخمد لهيب بالونة احتمالات إنفجرت, ماذا حدث؟, هل قتل عرفات الملك حسين (حينما كنتُ أرى الاخير على شاشة التلفاز أو أقرأ اسمه فى الصُحف يتبادر الى ذهني انه يجب ان يتأكد المرء انه يُطلق النار على عدوه حقاً, فلربما يكون صديق أحق بالرصاصة..) هل قتل عرفات الملك حسين بسبب أحداث ما بات يُعرف فى التاريخ الفلسطيني بـ "أيلول الاسود", أم العكس, أم ان اسرائيل عبرت القناة؟

لم يكن أحد يجرأ على التفكير فى انه قد مات, وليغفر الله لرئيس وزراء الصين حينما قال لأحد الاطباء "كيف سمتحم له أن يموت؟"..

مات الرجل الذى لم يكن الناس يجرؤون على نطق اسمه فى الحافلات أو حتى فى بيوت مغلقة بسبعة أقفال, وان حدث كانت الالسنة ترتجف خوفاً من الذهاب خلف الشمس.. مات الرجل الذى منع من اجل الله "أولاد حارتنا" و"الانسان والله" وفى نفس الوقت جعل للشيوعين أيدي ودبابات وطائرات فى مصر.. مات الرجل الذى أخرج الانجليز من مصر ولكن (كما قال الدكتور مصطفى محمود) عاد مكانهم اليهود..

مات عبد الناصر, مات على خشبة المسرح,أصبحنا أيتاماً, عرفتُ الخبر من المذياع مثل الجميع, إستمعتُ الى بيان السادات وانا فى الاستراحة: "فقدت الجمهورية العربية المتحدة وفقدت الامة العربية وفقدت الانسانية كلها رجلاً من أغنى الرجال (سمعتها هكذا, كرر السادات, من أغلى الرجال) وأشجع الرجال وأخلص الرجال....."

بين الفينة والاخرى كنتُ أسمع صراخ حول السادات, وما ان فرغ من قرأة البيان حتى تحدثتُ الى نفسي مثل قليلي العقل, هل السادات متأكد مما قال؟, أوليست الحياة ممتدة امام رؤساء وملوك العرب الى مالانهاية!!!, كنتُ مذهولاً رغم ان يومياتي مليئة بحكايات الموت (فلان أستشهد- يااااة – طب شيش ياك), انه الصديق الوفى, لا يأتى متأخراً, يسكن معنا, يراقبنا ويرافقنا كل يوم فى رحلاتنا الجوية, وببساطة حينما يسرق طيار من بيننا يحل مكانه أخر فى اليوم التالى, فالحياة لا تتوقف عن الدوران عند موت أحد, وكما يقول النصف الثاني من شعار محارب الساموراي "موت الجندي خفيف كالريشة"..

رحل عبد الناصر اذن ولم يستطيع قلم هيكل (وزير الارشاد) أو البوليس السياسي أن يُضيفا الى عمره نفساً, لكنه كما قال "جيلبرت سينويه": والحقيقة ان عبد الناصر كان ميتاً منذ الخامس من يونيو/ حزيران 1967. (قال ذلك ايضاً السادات فى "البحث عن الذات".).. خسر عبد الناصر السباق, لان الجواد الذى يسقط مرة فى سباق لن يربحه..

خرجتُ فى الهواء والتقطتُ أنفاسي, توقفتُ بعد عدة خطوات, ملئت الكآبة الهواء ولفت كل شىء بإحكام, الطائرات, الممرات, الدشم واستراحة الطوارىء.. فى طريقي الى خلوتي الليلية القصيرة كان اول قادم أحد الميكانيكية, يرتدى أفرول كاكي, قلتُ له:

- عبد الناصر مات..

قال بإستغرب وهو يلف كفه نصف دورة:

- عبد الناصر مين؟

- الريس..

- يا أفندم قول كلام غير ده, مُستحيل..

وإنصرف وهو لا يـُصدقني..

إتصلتُ بأمي فوجدتها حزينة, وتأكدتُ من الخبر مرة ثانية, أخبرتني أن الناس لم تتقبل أن يموت الرجل دون مُقدمات وسبب واضح, الناس تملأ الشوارع, وهدير الحشود يتصاعد "إبكي إبكي يا عروبة ع اللى بناكي طوبة طوبة."..

وفى يوم الوداع (حسب لسان صحيفة الاخبار) إحتلت أبناء الدلتا والصعيد القاهرة وتوقفت عن العمل, اغلقت المحلات أبوابها, إمتلأت الشوارع, لف الجثمان بعلم الجمهورية العربية المتحدة ووضع داخل مروحية طافت سماء القاهرة, وبدأت جنازة رسمية وشعبية مهيبة من امام مجلس قيادة الثورة فى جزيرة الزمالك, صلي عليهالشيخ محمد الفحام (شيخ الجامع الازهر) فى مسجد ناصر, ودفن فيه.

كان عليّ الانتظار أسابيع كى أعود الى القاهرة, أهلي وبيتي, كان الحزن مازال يُغطيها وواجهات العمارات عليها بالطول قطع سوداء من القماش والمحلات تُعلق صور للريّس ولافتات عليها رثاء ووعود أننا سنظل على العهد, ذهبت مع صديق الى منشية البكرى لتقديم العزاء الى خالد عبد الناصر, كان صديقي يوما ما..

كانت أمي تجدد موضوع الزواج بإستمرار خلال الاجازات والاحاديث الهاتفية القليلة, شرحتُ لها (كما فى كل أجازة) قائلاً: "ان الموت يمكن أن يتمكن مني فى أيّ وقت, ثم أنني أشفق على المسكينة التى سأتزوجها, فالزواج من طيار أثناء الحرب بمثابة عذاب دائم.."

***

أقسم بالله العظيم أن احافظ مُخلصاً على النظام الجمهورى, وأن أحترم الدستور والقانون وأن ارعي مصالح الشعب رعاية كاملة....................

بتلك الكلمات أصبح السادات رئيساً, أقسم اليمين من ورقة وذهب الى صورة لعبد الناصر وانحنى أمامها, لكن الرئيس الشرفى كان تحت وصاية شعراوى جمعة وعلى صبرى وحسين الشافعى وسامى شرف وزكريا محى الدين ومن أسماهم أبي "نباتات النظام المتسلقة"..

على مائدة الطعام قال أبي: "هيروح فين السادات وسط دوول!!, دة لو كمل سنة يبقى حلو أوووى".. فتحت أمي موضوع زواجي, قلتُ لها: "إن كانت شركة مصر للتأمين تقبل أن تؤمن على حياتي, فسأتزوج فوراً".. بالطبع لا تقبل أيّ شركة تأمين بيع شهادات التأمين على الحياة لمحارب..

قال أبي: "إذا اردت ان تكون راهباً, فلتترك الحياة وتذهب الى الدير وتختر مُعلماً, لكن لا تعش نصف راهب.."

لا يعلم أحد اني ابرمت اتفاق مع نفسي: "الا أتزوج الا حينما تضع الحرب أوزارها."

إستمر السادات فى الزحف بجانب الحائط وتسلق هرم السُلطة ليلاً, تزلج قدمه فيمسك بأظافره واسنانه ويعاود الصعود مرة أخرى, أثناء ذلك زارنا فى مطار المنصورة, كانت التجهيزات متواضعة ولا تليق بزيارة رئيس الجمهورية, وقيل الينا ان سألكم السادات (هكذا بدون كلمة الرئيس لان القيادات كانت تؤمن انه لن يمكث فى الرئاسة كثيرا), قيل الينا ان سألكم السادات "هل أنتم جاهزون للحرب؟", قولوا "لا" بملىء الفم (لغلق جميع النوافذ أمامه), لم أفصح لأحد عما كنتُ أفكر فيه..

داخل احدى الدشم, جلس السادات بين قائد القوات الجوية وقائد اللواء, خلف منضدة طويلة سقفها مُغطى بقطعة قماش تُشبة ملاءة السرير, جلس الطيارين على مقاعد أمام المنضدة مُباشرة.. كان السادات رجلا قوياً ومُتزناً بعكس ما يُـقال (مُهرج, يُميتنا من الضحك), قاتم الوجه أكثر مما كنتُ أتوقع, له شارب, أنيق, يرتدى معطف أسود طويل وقميص أبيض ونظارة شمسية, صوته مميز تستطيع إستخراجه وسط آلاف, متواضع أكثر مما ينبغي (سيتغير تدريجياً).. شرح الوضع الدولى والداخلى وموقفه من الاتحاد السوفيتي, وسألنا: هل أنتم جاهزون للحرب؟, وقبل أن ينطق أحد قلت: "نعم, سيادة الرئيس", نظر الجميع الىّ بدهشة (قائد القوات الجوية, قائد اللواء, قائد السرب, والطيارين), أكملت: "لكن نريد بعض الاشياء اولاً", قال السادات بإهتمام وسرور: "ما هي؟"..

- نريد طائرات تصل الى عمق إسرائيل, واجهزة رادار حديثة, نريد سيطرة جوية فبدونها من المستحيل النصر فى الحرب..

قدمتُ له قائمة طويلة من المطالب.. قال السادات ان الحرب ستكون بما تتمتلكه القوات المُسلحة من إمكانيات..

بعدما غادر السادات وبخني قائد اللواء بشدة.

***

القطة الضعيفة التى وضعت صغارها فوق سطح عمارتنا إنبعثت منها قوة هائلة وتحولت الى ذئب كاد أن يمزق وجهي حينما حاولتُ الاقتراب من أطفالها, فهى لا تمانع من أذيتها اما اطفالها فتدافع عنهم حتى نهايتها, نظرة القطة اليّ بوحشية تمتزج فى ذهني مع زوجة تحمل صينية الطعام فوق رأسها الى زوجها فى الغيط بجوار المطار, وتجلس لتأكل معه, يضع اللقمة فى فمها, يتكرر ذلك المشهد أمام عيني كل ظهيرة خلف السلك الشائك.. تطلعت بشغف لمثل تلك اللحظة وبدأت أراجع نفسي, أحسست بتقدمي فى العمر وأدركتُ انه من المستحيل أن اقضى حياتي هكذا, ولكن...............

أثناء الحروب هناك حفنة من المحاربين يكون فى إنتظار عودتهم اطفال وزوجات, مثل "هشام كامل" , توفى أثناء حرب الاستنزاف, أقلاع بالطائرة ليلا (كنا السرب الليلي الوحيد فى مصر), إخترق السُحب ودخل فى حالة awkward position)) فى هذه الحالة تكون الطائرة مقلوبة لكن الطيار لا يشعر بذلك, إنها من الحالات التى لا يجب أن يثق الطيار فى احساسه, عليه ان يُتابع العدادت فقط.. جذب هشام العصا للتسلق والارتفاع, لكن الطائرة كانت تنزل الى الارض وهو يظن أنها ترتفع الى السماء, فبالنسبة اليه لم يكن هناك فرق بين السماء والارض, ظل ينزل حتى إصطدم بالارض وانفجرت الطائرة.. حتى الطيارين الروس الذين إستدرجتهم الطائرات الاسرائيلية من مطار بنى سويف الى كمين فى منطقة العين السخنة, كان الاشتباك حاراً جداً كعادة إشتباكات صيف 1970, فقد الروس خمس طائرات, وأصيبت طائرة سادسة وهبطت فى مطار انشاص, لابد أن الطيارين الروس كان لهم زوجات واطفال ينتظرونهم فى بلادهم البعيدة, كان على ذويهم أن يتحملوا عذابات الفقد التى تفوق تحمل البشر..

لن أتزوج حتى لا يصبح لدي ما أخشاه, أتتفقون معي فى ذلك؟

***


- أوراق جهاز الارسال على الطاولة -

فشلت كل محاولات إنقاذه وإستعادته, ظلت المروحيات تبحث عنه لايام وسط الجبال, لكن لا أثر له, لم تلتقط أيّ اشارة من جهاز الارسال الذى معه, على الاغلب به عطل.. وبعد ذلك ظهرت من السماء مظلة طيار بين الجبال, بالتأكيد هو أحمد نور الدين.. المظلة بجوارها جسد إلتهمته الذئاب وجهاز إرسال روسي لعين لا يعمل مداه ثمانية كيلومترات..

الحياة مرة واحدة, هكذا أراد الله, لكن لو عاد أحمد نور الدين الى الحياة لسرد لنا قصة رائعة تُشبه حكايات ألف ليلة وليلة, شعوره حينما قام بتوصيل جهاز الارسال بالبطارية ولم يعمل.. كيف صارع الذئاب برجل مكسورة!!, لابد أنه قاومهم حتى أصبح من المستحيل ان يُـكمل..

كان جهاز الارسال المسئول عن عدم العثور عليه, لو كان يعمل لامكن تحديد مكانه بسهولة, ووصلت اليه المروحيات قبل الذئاب..

بعد أن يقفز الطيار المصري بالمظلة يجب أن يقوم بتوصيل جهاز الارسال ببطارية ضخمة, ويصل مدى إشارته الى ثمانية كيلومترات.. اسرائيل لديها جهاز إرسال فى جحم علبة سجائر, يعمل من تلقاء نفسه بمجرد ان يقفز الطيار بالمظلة, ويصل مدى إشارته الى ثمانين كيلومتر.. حدث مرة ان قفز طيار اسرائيلي بالمظلة فى البحر المتوسط, وقبل وصول قوات البحرية المصرية اليه, وصلت مروحية إسرائيلية وانتشلته من المياه..

فيما بعد, عُقد مؤتمر فى مطار إنشاص حضره على صبرى, نائب رئيس الجمهورية, وكان طياراً سابقاً, ذكرتُ له بنبرة حادة عيوب الاجهزة الروسية, ومنها جهاز الارسال الذى يكون مع الطيار, ووصفت أحد الخبراء الروس بأنه مخترع ناجح للمشاكل..

بعد المؤتمر قال لي أحد قادة الالوية الجوية: "انت كدة أذيت نفسك, على صبرى شيوعي وانت انتقدت الاتحاد السوفيتي بشدة..", أخبرته انني لم أنتقد الشيوعية ولكني انتقدتُ الاتحاد السوفيتي..

فى اليوم التالى تلقيتُ إتصال غير ودى تماماً من شخص لم يُفصح عن اسمه, طلب مني ان أسمعه جيداً, إستعرض سُلطته بفخر, هددني بأن يرسلني خلف الشمس وطلب مني ان أفكر فى مُستقبلي وأمي وأبي وان أهتم بشئون نفسي فقط, اغلق الخط دون ان يمنحني رفاهية الرد..

عاود الاتصال بي فى المساء, كان صوته واضحاً مثل الشمس وبرغم ذلك اخبرته انني لا أسمع الصوت جيداً وأغلقتُ الخط..

كنتُ أجهل أن على صبرى من الشيوعيين, ولم أكن أعلم ان احفاد ستالين متوغلين فى السُلطة لهذه الدرجة, فنحن فى دولة إشتراكية, حتى حينما كان عبد الناصر يذهب الى موسكو كى يرمى البلاد فى حجر الدب الشيوعي, كان صديقه فى الاهرام يـُـبرز فى صدر الصحيفة انه حرص على الصلاة فى أحد مساجد موسكو..

وجها لوجه صارحت الرجل الاكثر نفوذاً فى الدولة (أقوى من الرئيس نفسه), صارحته بما لم يكن احد يُريد قوله, أصابتني عدواته وربما أتلقى ركلة خلال الايام القادمة وذلك إن لم يتلقى هو ركلة خارج لعبة السُلطة التى تُشبة كثيراً لعبة الكراسي الموسيقية التى كنا نلعبها فى المدرسة.

Share
Click to listen highlighted text! Powered By GSpeech