Click to listen highlighted text! Powered By GSpeech
Get Adobe Flash player
مستمرين معاكم بإذن الله 2008-2024 **** #لان_لجيشنا_تاريخ_يستحق_أن_يروي **** ***** إنشروا تاريخنا وشاركونا في معركة الوعي **** تابعونا علي قناة اليوتيوب 1100+ فيديو حتي الان **** تابعونا علي صفحات التواصل الاجتماعي** أشتركوا معنا في رحلاتنا لمناطق حرب أكتوبر **** يرجي استخدام خانة البحث **** *** تابعونا علي تليجرام - انستجرام - تويتر

وثائق المخابرات الامريكيه - الجزء الثاني

 

 

الفدائيون.. وحركات المقاومة 

 

1.     المقدمة

في العناوين التالية من وثائق المخابرات الأمريكية التي أفرج عنها مؤخراً، يتم تناول موضوع الفدائيين وحركة فتح ومنظمة التحرير الفلسطينية، حيث تلقي الأضواء على المراحل الأولى لتأسيس حركة فتح وأسباب انطلاقة العمل الفدائي ضد “اسرائيل” والعمليات الفدائية الأولى، واختيار الأردن كقاعدة لانطلاق العمليات، ثم انتقال الفدائيين إلى سوريا، ومواقف الدول العربية من العمل الفدائي.

كل ذلك في إطار تقارير سرية كانت تجمعها وكالة المخابرات المركزية الأمريكية في تلك الآونة وتصنفها على أنها “سرية جداً”.

 

2.     عبد الناصر تدخل لدى موسكو لاستقبال عرفات

تأسست فتح التي هي اليوم أهم الجماعات الفدائية، في الخمسينات من قبل الفلسطينيين الميالين للقتال، الذين لم يرضوا عن خمول المنظمات الفلسطينية الأخرى، ويعني اسمها “الغزو والاخضاع” واسمها يتألف من عكس الحروف الثلاثة الأولى في عبارة “حركة التحرير الفلسطيني” (حتف)، وكان زعماء فتح يشعرون أن تردد العرب في المبادرة إلى شن حرب ضد “اسرائيل” ناجم عن الافتقار إلى الإرادة، لا عن الدونية العسكرية، وكانوا يرون ان دور فتح هو دور المحفز، أي رفع درجة التوترات بين العرب و”الاسرائيليين” من أجل إحداث الحرب، وقد تأسس الجناح العسكري لفتح (قوات العاصفة) في يناير/ كانون الثاني ،1964 وفي أوائل سنة 1965 شرع في حملة غارات “تخريبية” ضد “اسرائيل”، (هامش: انتظرت “اسرائيل” حتى مايو/ أيار 1965 قبل ان تقتص للمرة الأولى من العاصفة، وفي ذلك الوقت دمرت قاعدتين للعاصفة في الأردن في محاولة لاجبار الأردن على كبح جماح الفدائيين).

وكانت غالبية مهات العاصفة تنفذ من قبل فرق تتكون الواحدة منها من أربعة أو خمسة أعضاء من العاصفة، كانوا يتسللون إلى الأردن من سوريا، ثم يعبرون إلى “اسرائيل” لتوجيه ضربات سريعة، وفي أواخر سنة 1966، كانت العاصفة تستخدم كذلك من قبل سوريا لتمويه عمليات على الحدود “الاسرائيلية” تنفذها وحدات الجيش السوري وساهمت هذه الزيادة في الغارات عبر الحدود السورية  “الاسرائيلية” في رفع درجة التوتر، وأسفرت عن هجوم  “اسرائيل” على سوريا في نوفمبر/ تشرين الثاني 1966، وتصعيد التهديدات والتهديدات المضادة، (هامش: في نوفمبر/ تشرين الثاني 1966 هاجمت  “اسرائيل” كذلك قرية السموع في الأردن انتقاماً من غارات فتح عبر الحدود) ويطابق هذا السيناريو، السيناريو الذي وضعته حركة فتح.

وذكرت التقارير أن مؤسسي حركة فتح أعضاء في حركة الأخوان المسلمين وحزب التحرير الاسلامي، وكلاهما من الجماعات المحافظة التي تقيم علاقات قوية مع العربية السعودية والكويت. وهكذا كانت فتح تنتفع دائماً من الناحية المالية من تبرعات الفلسطينيين الأثرياء في هاتين الدولتين. ولكن، ومما ينطوي على مفارقة إلى حد ما، أن الجهة المنتفعة الرئيسية من فتح في أيامها الأولى، كانت سوريا، احدى أشد الدول العربية راديكالية، ونشأت هذه المفارقة الظاهرية من أن فتح، بينما كانت محافظة سياسياً فيما يتعلق بالقضايا الداخلية في الدول العربية، كانت في الوقت ذاته اكثر الجماعات الفلسطينية من حيث النشاط العسكري المناوئ ل “اسرائيل”، وهذا جعلها جذابة للسوريين.

وخلال أواسط الستينات، وبخاصة منذ استيلاء جماعة بعثية أشد ميلاً للقتال على السلطة في سوريا في فبراير/ شباط 1966، وحتى حرب يونيو/ حزيران 1967، كانت سوريا توفر لفتح التدريب، والاسلحة، والاعلام، والمساعدة في التخطيط، وبالاضافة إلى ذلك، رتبت الحكومة البعثية السورية اتصالات بين فتح والصين، وكوبا، وفيتنام الشمالية وأدى ذلك إلى تزويد الصين لفتح ببعض المعدات، والمعونات الطبية والمالية، وحتى بعض التدريب لفتح في هذه الفترة التي سبقت الحرب.

وشهدت حرب يونيو/ حزيران 1967 بداية ابتعاد فتح التدريجي عن الاعتماد على سوريا، وحتى قبل الحرب، كانت فتح تقاوم المحاولات البعثية السورية لفرض السيطرة عليها، وكان من شأن هزيمة سوريا وما رافقها من انحدار في هيبة البعث السوري، بالاضافة الى تصاعد هيبة فتح ذاتها، أن شجعت فتح على ان تنشد الاستقلال، وان تبحث عن العون في مكان آخر، وقد وجدت بالفعل بين الدول العربية، من يرغب في مساندتها ودعمها، طمعاً في الافادة من شعبيتها.

وفي هذه الأثناء، وفي الشطر الأخير من سنة 1967 وأوائل 1968، ذكر أن الوحدات العراقية التي تمركزت في الأردن بعد حرب يونيو/حزيران، كانت تساعد في تقديم المعونات إلى العاصفة في الاردن وفي توفير المساندة العامة، وكان ذلك في غاية الاهمية قبل ان تبني فتح قاعدة مساندة شعبية. وفي أعقاب هجوم “اسرائيل” على بلدة الكرامة، ازدادت شعبية فتح، وانحسرت اهمية المساندة العراقية. (وقد أكد هاني الحسن، الناطق الرسمي باسم فتح في ديسمبر/كانون الأول 1969 ان عدد مقاتلي فتح بعد معركة الكرامة، ازداد من 720 إلى 3 آلاف) ولعل ما أثار اهتمام العراق بدعم فتح، كان إلى حد بعيد فتور علاقات فتح مع النظام البعثي المنافس في سوريا، ورغبة بغداد في بسط نفوذها بين الفدائيين. وذُكر ان العراق وافق في صيف سنة 1968 على طلب عرفات تدريب أعضاء العاصفة في الدفاع المضاد للطائرات.

وكذلك تلقت فتح كميات كبيرة من الأسلحة الخفيفة من الجزائر في خريف 1968. (يوجد حذف هنا) كان هذا عبارة عن قرار اتخذه بومدين  لا طلباً  من فتح. وفي ديسمبر/ كانون الأول (حذف) ال (حذف) كان قد قال ان الجزائر قد حولت دعمها (بالمال والبعثات الدراسية) من منظمة التحرير الفلسطينية إلى فتح، ولعل هذا التحول كان يعكس تزايد شعبية فتح، إلى جانب تفضيل موقف فتح المستقل على تبعية منظمة التحرير الفلسطينية التي ما تزال تتحكم بها الجمهورية العربية المتحدة.

وفي معرض بحث فتح عن التمويل، تحولت كذلك نحو الاتحاد السوفييتي. وفي 2 يوليو/تموز 1968، قبل مغادرة عبد الناصر في زيارة إلى موسكو، وصل عرفات زعيم فتح إلى القاهرة، وكانت قد تمت تسمية عرفات رسمياً ناطقاً باسم فتح في ربيع سنة 1968، رغم انه كان أحد زعماء المنظمة منذ بدئها، وكان في السابق الرئيس الاقليمي للعاصفة.

ويبدو ان عرفات قد طلب من عبد الناصر حينها ان يتوسط لدى السوفييت لكي يغيروا موقفهم نحو الفلسطينيين، ويفترض انه ربما شعر بأن التضامن العربي الذي يقف خلف الفدائيين ويساندهم قد وهن بسبب الافتقار الى الدعم الشيوعي العربي، مع انه يبدو من الأرجح ان دافع عرفات الأكبر كان الامل في الحصول على مساعدة مادية، ونيل قدر أكبر من الاحترام السياسي، من خلال وساطة عبد الناصر وما يجود به من شفاعة. وعلى أية حال، وافق عبد الناصر وعرفات إما صاحبه أو تبعه إلى موسكو، وكان هناك العديد من التقارير اللاحقة عن وعود سوفييتية بمد يد العون، وتقديم الدعم، لكن الأدلة على ان السوفييت وفوا بوعودهم أو بأي من مثل هذه الوعود شحيحة جداً. وزعم السوفييت لاحقاً (ثمة حذف هنا) انهم أرسلوا سفينة محملة بالأسلحة إلى فتح عبر الاسكندرية، لكن عرفات أنكر انه تلقى شيئاً من هذا القبيل ونفى تماماً أنه استلمها.

وفرّخ نأي فتح عن نهج توطيد عرى أواصر حميمة مع دمشق بعد حرب 1967، حشداً من المشكلات الجديدة، وعلى كل الصعد، سواءً في التنظيم أو القيادة أو الايديولوجية. وذكرت التقارير انه كان لدى فتح نحو 3 آلاف رجل تحت السلاح من الأعضاء النشطين في خريف عام 1968. وكانت هيئتها التنفيذية العليا بمثابة قيادة عامة تتكون من تسعة أعضاء، وكان القائد الأعلى ياسر عرفات قد انتخب من قبل الأعضاء الآخرين في القيادة.

هامش: المناصب الأخرى في القيادة العامة كانت على الشكل التالي: نائب القائد الأعلى عرفات  هاني القدومي، الذي تحددت مهامه في سبتمبر/ايلول من عام 1967 بصفته مسؤولاً عن المالية في الكويت، ورئيس اللجنة العسكرية – فاروق نسيبة، ورئيس اللجنة المالية، ومحمد قطان، قائد الفرع اللبناني من فتح، ومدير فرع بيروت من البنك الإفريقي العربي، ورئيس التنسيق – خالد الحسن، قائد فرع فتح في الكويت، ورئيس التنظيم  خالد الحسن، قائد فرع فتح في الكويت، ورئيس التنظيم  وليد الخالدي، بروفيسور الفلسفة في الجامعة الأمريكية في بيروت، ومنظر فتح الايديولوجي، ورئيس الشؤون الاعلامية – عمر إسماعيل الخطيب، قائد فرع فتح في الاردن، ورئيس شؤون الأفراد – زهدي الخطيب، وقائد فرع فتح في العراق، ورئيس لجنة الاستخبارات  عبدالرحمن بركات.

وفي بداية عام 1968 ذكرت التقارير أن فتح نقلت مقر قيادتها العامة من دمشق الى عمان، وافتتحت في ذلك الصيف عدداً من المكاتب الاقليمية، وكان لدى المكاتب الفرعية للحركة في الجزائر وبغداد والقاهرة ودمشق أقسام لـ “الدعاية والإعلام” لكل منها، وكانت مسؤولة عن الصلات مع الصحافة، كما جرى التخطيط لإقامة قسم عسكري لكل مكتب من هذه المكاتب.

وبحلول خريف عام 1968 بات واضحاً ان فتح كانت أقوى جماعات الفدائيين على الاطلاق، وبهامش تفاوت كبير، على صعيد أعداد المقاتلين والمالية والعمليات، والدعم الشعبي في البلدان العربية.

هامش: (يوجد حذف هنا) في فبراير/شباط من عام 1969 كان لفتح حينها 75 قاعدة في الاردن، وفي كل منها نحو 30 فدائياً في المتوسط، وكان لها قاعدتان في سوريا، في كل منهما نحو 150 فدائياً وثلاث قواعد في لبنان، في كل منها 200 فدائي.

وتجلى نجاح فتح في رغبة حشد كبير من الدول العربية في دعمها، وفي قدرتها على اجتذاب المنظمات الأصغر حجماً لتندمج معها.

هامش: ضمت هذه “جبهة فلسطين الثورية” و”طلائع الفداء” والأرض، وهي داخل “اسرائيل” ومسؤولة عن كثير من العمليات داخل “اسرائيل”.

وبرزت أوجه ضعفها في حقيقة أنها كانت جماعة مشرذمة ليس لها برنامج راسخ الأركان وتفتقر الى الانسجام والتماسك، ناهيك عن أن الشقاق الحزبي نخرها ومزقتها الانقسامات.

في صيف وخريف عام 1968 شهدت فتح سلسلة نزاعات وخلافات ضمن صفوفها، واشتمل الجدل المحتدم بشأنها على قضايا عدة، وكان أحد هذه النزاعات يتعلق بمحاولة الجناح الموالي لسوريا في حركة فتح ابقاء الحركة في المعسكر السوري.

واشتمل خلاف آخر على قضية توحيد المنظمات الفلسطينية وعلى مسألة ما إذا كان على فتح أن تخاطر بخسران بعض مقومات استقلاليتها من أجل توحيد المنظمات. ويبدو من الواضح ان قيادة عرفات للحركة كانت عرضة لهجوم شديد، ولربما شكل الجناح الموالي لسوريا رأس الحربة والعمود الفقري في هذه الهجمة. وتلقى عرفات خلال هذه الفترة عدداً كبيراً من سهام الانتقاد لأسباب شتى: فبعض الأعضاء في فتح هاجموه لصلاته الوثيقة بالحكومات “الرجعية” وبجماعة الإخوان المسلمين، وزعم البعض أنه كان يعمل لخدمة مصالحه الخاصة وأنه كان ينتفع مما تتلقاه فتح من مساهمات، واتهمه آخرون بأنه ينزع الى الدكتاتورية بشكل متزايد وبأنه يرفض توضيح غموض ولغز وفاة صبحي ياسين.

هامش: كان ياسين قائد “طلائع الفداء”، وهي جماعة فدائية ناصرية. وجرى اغتياله في اكتوبر/ تشرين الأول من عام 1968. (يوجد حذف هنا). وكانت فتح هي من اغتاله، لأن لجنة الاستخبارات علمت أن جماعة ياسين لم تنضم الى فتح إلا لغرض واحد، وهو اخضاع فتح للهيمنة الناصرية. ولربما كان مثل هذا الانتقاد الداخلي يعكس بحق النقمة من أن عرفات كان يزداد قوة مع تنامي فتح، إلا أن عرفات برز على أي حال وبصورة متزايدة بصفته الناطق باسم فتح في جميع القضايا المهمة. وفي مقابلة أجرتها معه مجلة “الصياد” بتاريخ 22 يناير/كانون الثاني من عام 1969 استفاض عرفات في الحديث عن ايديولوجية فتح (أو بالأحرى افتقارها الى الايديولوجية) وكان مما قاله: “ما معنى الهوية الايديولوجية؟ هل تعني أنه ينبغي أن انهض وأدلي بتصريح أقول فيه إنني أؤمن بالماركسية؟ وهل هذا هو الوقت المناسب لتعريف المحتوى الاجتماعي لعضو في فتح؟ وإنني لأقسم بالله العظيم على أنه لا يوجد في صفوف كوادر فتح رأسماليون أو احتكاريون، أو بورجوازيون، ونحن جميعاً، لسنا فقراء فحسب بل قد فقدنا حتى وطننا، فأي معنى لليمين أو اليسار بالنسبة لي وأنا أخوض كفاحي لتحرير وطني؟

وتابع عرفات حديثه فقال: “إن الفلسطينيين هم أكثر شعوب الأرض يسارية، بل هم أشد نزوعا الى اليسارية من الاتحاد السوفييتي ذاته”. وكان مما قاله: “الاتحاد السوفييتي يؤيد تسوية سلمية لأزمة الشرق الأوسط ويدعو لهذا ويتقدم بمقترحات من أجل هذه التسوية، ونحن نرفض التسوية السلمية وجميع المقترحات الأخرى.. فهل يفترض أن أمتنع عن المال السعودي وأرفضه لمجرد أن المملكة العربية السعودية يمينية؟ وها أنذا استخدم المال السعودي لشراء أسلحة من الصين. فكيف تصف هذا التصرف؟ أهو اتجاه يميني أم يساري؟”.

وافتقار فتح إلى الأيديولوجية هذا كان في الوقت ذاته مصدر قوة فتح ونقطة ضعفها وهشاشتها، وبسبب خواء الايديولوجية هذا حظيت الحركة بمساعدات من حشد كبير ومتنوع من المصادر واجتذبت إلى تنظيمها أولئك النفر من الفلسطينيين الذين يكمن دافعهم الأكبر في الانضمام إلى هذه الحركة في رغبتهم الجامحة بتحرير وطنهم واسترداده. كما جعلت هذه الثغرة فتح عرضة للانتقاد من الجناح الراديكالي لحركة الفدائيين، مع أنه في الحقيقة، وفيما تحولت الحركة في مجملها وبصورة متزايدة لتصبح أكثر تناغماً واصطفافاً إلى جانب الدول العربية الراديكالية والقوى الشيوعية في العالم، دفعت فتح لتبني موقف أشد وضوحاً وصراحة في راديكاليته.

 

3.     “فتح” تسحب البساط من تحت منظمة التحرير الفلسطينية

أنشئت منظمة التحرير الفلسطينية في يناير/ كانون الثاني 1964 خلال مؤتمر قمة الدول العربية في القاهرة، وجاء إنشاء المنظمة عقب إعلان “اسرائيل” إكمال مشروع تحويل مياه نهر الأردن الذي ردت عليه سوريا بالدعوة إلى الحرب، واقترحت الجمهورية العربية المتحدة، بدعم من الأردن، إنشاء منظمة التحرير الفلسطينية، أملاً منها بذلك في إرضاء السوريين بتقديم واجهة قتالية، بينما كانت تخفي في الواقع رغبة في الإرجاء.

وفي فبراير/ شباط 1965، تم وضع جيش التحرير الفلسطيني  وهو الجناح العسكري لمنظمة التحرير الفلسطينية  تحت القيادة العربية الموحدة، وهي هيئة الأركان الجديدة التي أنشأها مؤتمر القمة لتنسيق التخطيط العسكري للدول العربية ضد “اسرائيل”. وفي 1967 كان تعداد أفراد جيش التحرير الفلسطيني حوالي 15000 مقاتل، وشكلت قواته وحدات خاصة عملت كأجزاء أساسية في جيوش سوريا والعراق والجمهورية العربية المتحدة. وهكذا لم يعمل جيش التحرير الفلسطيني على نحو منفصل، ولم ينفذ عمليات عسكرية ضد “اسرائيل”. وفي يونيو/ حزيران 1965، انتقد رئيس منظمة التحرير الفلسطينية أحمد الشقيري فتح بسبب عملياتها القتالية، وقال إن جيش التحرير الفلسطيني لن يخوض أعمالاً حربية.

وعموماً، ومع تصاعد التوتر بين “اسرائيل” والدول العربية في أواخر عام 1966 وبداية 1967 زادت هيبة فتح، التي كانت تصعد عملياتها داخل “اسرائيل”، في حين تراجعت هيبة منظمة التحرير الفلسطينية المدعومة من الجمهورية العربية المتحدة. وبموافقة من عبد الناصر، ولا ريب، قرر الشقيري أن الوقت قد حان لمنظمة التحرير الفلسطينية كي تتصرف. وفي 22 نوفمبر/ تشرين الثاني 1966 أعلن الشقيري عبر إذاعة صوت فلسطين من القاهرة أن قوات جيش التحرير الفلسطيني الملحقة بالجمهورية العربية المتحدة  والتي سبق أن رفض السماح لها بدخول الأردن  ستدخل الأراضي الأردنية الآن وستنفذ عمليات داخل “اسرائيل”، ولكن وحتى مايو/ أيار 1967، كان الشقيري لايزال يحاول من دون أن يصيب نجاحاً يذكر، إقناع الملك حسين بالسماح لقوات جيش التحرير الفلسطيني بدخول الأردن. وتجدر الإشارة في هذا الصدد إلى أن الشقيري كان قد صرح في عام 1966 أن تحرير فلسطين ينبغي أن يبدأ بتحرير الأردن. وفي ديسمبر/ كانون الأول من ذلك العام، أعلن تشكيل مجلس ثوري هدفه الإطاحة بالملك حسين. وقد رد الملك حسين برفض الاعتراف بالشقيري رئيساً لمنظمة التحرير الفلسطينية. ولكن مصالحة تمت بين العاهل الأردني الراحل والشقيري قبل نشوب حرب يونيو/ حزيران 1967.

ولم يصدر عن منظمة التحرير الفلسطينية عمل ذو طابع فعال خلال النصف الأول من عام 1967، ولكنها شكلت جناحاً فدائياً لجيش التحرير الفلسطيني حمل اسم “قوات التحرير الفلسطينية”، وهي قوة لم تتشكل في تنظيم حقيقي قبل حرب يونيو/ حزيران 1967، وخلال الحرب تفككت وحدات جيش التحرير الفلسطيني الملحقة بالقوات المصرية والسورية وتراجعت هيبة منظمة التحرير الفلسطينية أكثر وأكثر.

وفي ديسمبر/ كانون الأول 1967 حل محل الشقيري في قيادة منظمة التحرير الفلسطينية يحيى حمودة وهو محام وشيوعي سابق، وفي يوليو/ تموز 1968 تعرضت المنظمة لهزة أخرى جراء محاولة لاستبدال ضباط جيش التحرير الفلسطيني ذوي التوجهات السورية، وربما كانت المحاولة مدعومة من عبد الناصر.

وشمل ذلك تعيين رئيس جديد لأركان جيش التحرير الفلسطيني هو عبدالرزاق اليحيى، وهو تعيين أدى إدى تمرد داخل جيش التحرير الفلسطيني قام به ضباط مؤيدون لسوريا، وقد تم وضع اليحيى نفسه رهن الاعتقال المنزلي في دمشق. وألمح اليحيى إلى أنه سيتخلى عن المنصب إذا توصلت اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية والضباط المنشقون إلى حل وسط. وفي سبتمبر/ أيلول قررت اللجنة التنفيذية التوصل إلى حل وسط وتم تعيين ضابط محايد هو مصبح بديري في المنصب.

وكان للانقسام داخل منظمة التحرير الفلسطينية وجيش التحرير الفلسطيني تأثيره الهدام في الروح المعنوية داخل جيش التحرير الفلسطيني وجناحه الفدائي “قوات التحرير الفلسطينية” على حد سواء، وقد عملت قوات التحرير الفلسطينية انطلاقاً من قواعد على الضفة الشرقية لنهر الأردن. ولكن، وخلال عامي 1967 و869w لم تكن تلك القوات فعالة بشكل خاص، وتشير التقديرات إلى أن عدد أفرادها تراوح بين 200 و500 رجل في تلك الفترة. وتلقت قوات التحرير الفلسطينية دعماً من فرع جيش التحرير الفلسطيني السوري (قوات حطين) الذي زودها بالأسلحة والرواتب والزي العسكري، وتلقت الدعم كذلك من وحدات جيش التحرير الفلسطيني (لواء القادسية) الملحقة بالقوات العراقية المرابطة في الأردن بعد حرب يونيو/ حزيران 1967.

وبحلول أواخر عام 1968، أصبحت منظمة التحرير الفلسطينية منظمة مضمحلة، ونظراً إلى أنها شكلت أساساً لتمثل واجهة فاعلة، فإنها لم تفعل الكثير الذي يمكن وصفه بأنه ذو طابع عسكري، وحتى قبل نشوب الحرب كانت المنظمة تتراجع أمام فتح التي كانت تسحب البساط من تحتها، وبعد الحرب، وعندما أصبح العمل العسكري مفتاح الشعبية والهيبة، عانت المنظمة أكثر وأكثر. وعلاوة على ذلك، بدأت المنظمة تفقد دعم الدولة التي أنشأتها وهي مصر، وفي عام 1968، كانت منظمة التحرير الفلسطينية تحاول إجراء تغييرات فيها لتصبح منظمة مقاتلة ولكنها لم تتمكن من التغير بسرعة كافية.

 

4.     سيطرة فتح على المنظمة

في فبراير/ شباط 1969 سيطرت فتح فعلياً على منظمة التحرير الفلسطينية. وعلى الرغم من أن العلاقات بين المنظمتين كانت عدائية في جوانب بعينها، أحس كثير من أعضاء منظمة التحرير الفلسطينية بأن تفكك المنظمة بعد حرب يونيو/ حزيران، جعل وجود شكل من التعاون ضرورياً. وكانت فتح بدورها تنظر بشيء من الحسد إلى هيبة منظمة التحرير الفلسطينية كضيفة رسمية للدول العربية.

وخلال أواخر عام 1967 وبداية 1968 قامت كل من منظمة التحرير الفلسطينية وفتح بمحاولات غير ناجحة لتحقيق شكل من أشكال التعاون مع بعضها بعضاً والمجموعات الفدائية الأخرى، ولكن كلتا المنظمتين لم تكن تريد التضحية بأي من استقلالها*. (هامش: عقدت كل واحدة من المنظمتين اجتماعات قاطعتها الأخرى ونسبت كل واحدة منهما لنفسها بعدها قيادتها لحركة موحدة. وتعرضت هيبة الشقيري لهزة أخرى جراء تلك المحاولات الفاشلة، وربما كان ذلك أحد العوامل التي أدت لإقصائه في ديسمبر/ كانون الأول 1967). وتحققت خطوة تجريبية نحو درجة من الوحدة في مارس/ آذار 1968 عندما أصدرت منظمة التحرير الفلسطينية وحركة فتح وثالث أكبر منظمة فلسطينية وهي الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، بياناً دعت فيه إلى “توحيد الكفاح الفلسطيني في المجالات السياسية والعسكرية”. وتقرر تشكيل مجلس وطني فلسطيني جديد**. (هامش: كان المجلس الوطني الفلسطيني يمثل في الأساس الهيئة العليا لمنظمة التحرير الفلسطينية حسب تأسيسها، وكان يتألف من 450 عضواً. وقد تفرق أعضاء المجلس نتيجة لحرب يونيو/ حزيران 1967، إضافة إلى ذلك، كانت لمنظمة التحرير الفلسطينية لجنة تنفيذية مكلفة  بتسيير الشؤون اليومية) يتم توزيع أعضائه المائة بين المجموعات الفدائية والنقابات العمالية الفلسطينية المختلفة. واتسمت تحضيرات تشكيل المجلس الذي انعقد في يوليو/ تموز 1968 بعداء بين فتح والجبهة الشعبية لتحرير فلسطين ذات التوجهات الأكثر راديكالية ولم يحقق الاجماع ذاته شيئاً. وبسبب الفشل في التوصل لاتفاق تم ببساطة التمديد للجنة التنفيذية السابقة لمنظمة التحرير الفلسطينية لستة أشهر أخرى.

وفي ما يتعلق بالمفاوضات الخاصة بتكوين مجلس وطني فلسطيني جديد، فقد هيمنت عليها فتح التي قاطعت منافستها الرئيسة، وهي الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، الاجتماعات. ولذلك، تمتعت فتح بالسيطرة الفعلية على المجلس عندما انعقد في مطلع فبراير/شباط 1969 في القاهرة، ولم يحضر كثير من قادة منظمة التحرير الفلسطينية وجيش التحرير الفلسطيني الاجتماعات وقاطعت الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين الاجتماعات مقاطعة تامة، ونجحت فتح في وضع ثلاثة من اعضائها في عضوية اللجنة التنفيذية المؤلفة من 11 عضواً علاوة على ياسر عرفات الذي اصبح الرئيس الجديد لمنظمة التحرير الفلسطينية ومدير شؤونها العسكرية *** (هامش: كان الأعضاء الآخرون في اللجنة التنفيذية الجديدة هم:

فتح: فاروق قدومي – مدير التنظيم الشعبي وقد تم تعريفه ايضاً كعضو في الصاعقة

خالد الحسن – مدير الشؤون السياسية

محمد النجار

الصاعقة: يوسف برزي

أحمد شهابي

مستقلون: ابراهيم بكر – نائب الرئيس

كمال ناصر – مسؤول المعلومات الارشادية

ياسر عمرو

منظمة التحرير الفلسطينية: حامد أبوستة: مدير شؤون الوطن

عبدالمجيد شومان – الصندوق الوطني الفلسطيني

ومن بين الاجراءات الأولى امام اللجنة التنفيذية الجديدة نقل مقر منظمة التحرير الفلسطينية من القاهرة إلى عمان، وبذلك تنقطع رمزياً العلاقة بين منظمة التحرير الفلسطينية والجمهورية العربية المتحدة، وعينت اللجنة ايضاً مجموعة ضمت يحيى حمودة (الذي حل محل الشقيري كرئيس لمنظمة التحرير الفلسطينية ويعمل حالياً رئيساً للمجلس الوطني الفلسطيني) وثلاثة آخرين، للاستمرار في الحوار مع اولئك الذين قاطعوا المجلس الوطني الفلسطيني، وشكلت اللجنة التنفيذية ايضاً (في ابريل/نيسان) لجاناً للتنظيم الشعبي والشؤون العسكرية والشؤون التعليمية والضرائب واللجان الثقافية.

في فبراير/شباط، وبعد عدة أيام من انعقاد أول اجتماع للجنة التنفيذية التقى عرفات في عمان بمجموعة من مديري مكاتب منظمة التحرير الفلسطينية، ليتبين لاحقاً أنها كانت مجابهة غير سارة: (هامش: كان النشاط الوظيفي لهذه المكاتب الاقليمية مماثلاً على الأرجح للوظيفة المنوطة بمكتب بيروت، مع أن مكتب بيروت كان أهمها على الإطلاق. واشتملت واجباتها على مهام الاتصال بالحكومة اللبنانية، وإصدار التقارير الصحافية باسم منظمة التحرير الفلسطينية، وتقديم العون القانوني للفلسطينيين في لبنان، وتجنيد متطوعين وجمع الأموال، وتعزيز الترابط والتواصل مع المنظمات الفلسطينية الأخرى، وأخيراً، وكما رأينا من قبل، الاتصال بالسوفييت والتواصل معهم).

وأفصح المسؤولون في هذا اللقاء عن شكوكهم بخصوص مطامح عرفات الشخصية والرغبة في جعل فتح تهيمن على منظمة التحرير الفلسطينية، ورغم أن عرفات حاول استرضاء هؤلاء المسؤولين إلا أنهم تشبثوا باعتقادهم بأنه كان ينوي استبدالهم.

وكانت هواجسهم تستند إلى أسس متينة، إذ إنه بعدها بعدة أشهر أمرت اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية بإعادة تنظيم وهيكلة مكاتبها الوطنية، وباستثناء شفيق الحوت، مدير مكتب بيروت، ومدير آخر، كان سيتم استبدال مديري كافة المكاتب الوطنية. وعلاوة على ذلك، ستشكل في كل مكتب هيئة قيادية سيطلق عليها بعدئذ اسم مجلس شؤون منظمة التحرير الفلسطينية، كما سيكون من بين اعضائه أي عضو فلسطيني من أعضاء المجلس الوطني الفلسطيني المقيمين في ذلك البلد، وينضم إلى هذا المجلس أيضاً رؤساء المنظمات الفلسطينية في ذلك البلد، وسيخدم مدير المكتب بصفته سكرتيراً للجنة، وهذا لتنظيم الجديد وترتيب الأمور على هذه الشاكلة وزع سلطة منظمة التحرير الفلسطينية الاقليمية على مساحة أوسع، ما منح قوة جديدة للمنظمات الأخرى، ولا سيما لفتح. (هامش: على سبيل المثال، في أواخر ابريل/نيسان، جرى إبلاع مكتب منظمة التحرير الفلسطينية في بيروت أن مجلسه سيضم شفيق الحوت وخالد اليشرطي من فتح، ويحيى عاشور، ممثل فتح في بيروت، وصلاح الدباغ (مستقل)، وقال الحوت إنه على الرغم من الترتيب الجديد، فإنه شخصياً ظل يلتجئ مباشرة إلى خالد الحسن، رئيس قسم الشؤون السياسية في منظمة التحرير الفلسطينية ملتمساً منه العون).

وفيما هيمنت فتح على جهاز منظمة التحرير الفلسطينية السياسي، فإن بيانات وتصريحات سياسة منظمة التحرير الفلسطينية، امتزجت ببيانات فتح، وفي الشهر الذي اعقب اجتماع المجلس الوطني الفلسطيني اتخذت منظمة التحرير الفلسطينية المواقف العلنية التالية التي تتطابق مع مواقف فتح:

1- رفضت قرار مجلس الأمن الدولي لشهر نوفمبر/تشرين الثاني من عام 1967، وغيره من مقترحات السلام، بما فيها خطة السوفييت المجدولة زمنياً.

2- دعت إلى إقامة مجتمع “حر” وديمقراطي، في فلسطين يحتضن كل الفلسطينيين من مسلمين ونصارى ويهود، كي ننقذ فلسطين بذلك من الصهيونية. (هامش: بسط مقال نشر في جريدة الحزب الشيوعي الإيطالي “ليونيتا” بتاريخ 25 مارس/ آذار 1970 ونسب إلى حركة فتح وجهات نظرها بشأن دولة فلسطينية في المستقبل. ونادى المقال بقيام فلسطين العلمانية والديمقراطية التي تتكون من المسلمين والنصارى واليهود، وطالب بإنهاء مشاعر الانتقام ووضع حد لمسألة اعتبار جميع اليهود في العالم صهاينة. وقال المقال: “إن جميع اليهود الذين يعيشون في فلسطين، إضافة إلى أولئك المنفيين عنها سيكون لهم حق أن يصبحوا مواطنين فلسطينيين، رافضين بذلك أطروحة أن الذين كانوا هناك قبل عام 1948 أو 1918 هم فقط من سوف يتم قبولهم” وذكر المقال أن فلسطين ما قبل 1948 ينبغي أن تشكل أراضي الدولة الجديدة، وأن هياكل وصروح “اسرائيل” المصطنعة، وربما صروح وهياكل الأردن أيضاً (بالشكل الذي انشئت عليه بعد 1948) سوف تختفي.

3- وأن مستقبل الوطن العربي يعتمد على تحرير فلسطين، ودعت كلّ الدول العربية إلى دعم الحركة الفلسطينية.

4- دعوة جميع فصائل المقاومة الفلسطينية إلى التوحد.

5- وجوب ضم جيش التحرير الفلسطيني ودمجه في الثورة مع البدء بصياغة تصور يرمي إلى التخطيط ومن ثم بلورة قضية تنظيم حرب تحرير شعبية.

 

5.     فتح تحاول السيطرة على جيش التحرير الفلسطيني

في خضم انهماك عرفات بهز كيان التنظيم السياسي لمنظمة التحرير الفلسطينية، شرع أيضاً بشن حملة ترمي إلى إخضاع جيش التحرير الفلسطيني لهيمنته، وكان كل من جيش التحرير الفلسطيني وجبهة تحرير فلسطين قد قاطعا اجتماع المجلس الوطني الفلسطيني، إلا أن البديري بين أن جيش التحرير الفلسطيني سينفذ التوجيهات والأوامر الصادرة عن القيادة السياسية إذا كانت تستند إلى قرارات المجلس. وكان من بين أولى التحركات التي قامت بها اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية في فبراير/شباط من عام 1969 أن أنشأت قيادة الكفاح المسلح الفلسطيني، الذي أريد منه أن يخطط لكافة القضايا الفدائية وينسق شؤونها، بما فيها العمليات. وجرى تعيين عبدالرزاق اليحيى الذي شغل لفترة وجيزة منصب قائد جيش التحرير الفلسطيني في أوائل عام 1968، رئيساً لعمليات قيادة الكفاح المسلح هذه.

هامش: (في مارس/ آذر أوضح اليحيى في تصريح له أنه من الآن فصاعداً سوف تقوم قيادة الكفاح المسلح بإصدار كافة المذكرات التي تصدرها منظمات لها صلة بقيادة الكفاح المسلح الفلسطيني. وقال أيضاً إنه كان يخطط لتوحيد مسألة التسلح وتدابير الحصول على السلاح).

وكان من الجلي أن القصد من إقامة هذه المنظمة إنما هو مضاهاة جيش التحرير الفلسطيني وإحداث نوع من التوازن معه، سيما وأن التقارير ذكرت أن قائد الجيش البديري كان يبغض عرفات ويميل إلى سوريا.

وفي مايو/أيار من عام 1969، قيل إن عرفات والبديري اختلفا بعد أن زار البديري لبنان من دون الحصول على إذن مسبق من عرفات. وندد عرفات بالبديري، ليس فقط بسبب الرحلة التي قام بها من دون تفويض، بل ولأنه تصرف في لبنان، حسبما راجت المزاعم، ببذخ وغطرسة أسطورية وكأنه امبراطور. وبعدها بوقت قصير، في يونيو/حزيران من عام 1969 حل اليحيى محل البديري وأصبح القائد الأعلى لجيش التحرير الفلسطيني وعين فتحي سعد الدين نائباً له، وأصبح عثمان حداد رئيس أركان هذا الجيش.

وفي هذه الأثناء كثف عرفات تحركاته وقد استحوذت على أفكاره حرب التحرير الشعبية، وكيف يعيد تنظيم المؤسسات والهياكل الإدارية على أسس جديدة لخوض مثل هذه الحرب، لذا سعى إلى تحويل جيش التحرير الفلسطيني إلى قوة قتال ميداني فعلي تشارك في مقارعة “الاسرائيليين” في ساحات القتال ضمن منظور حرب العصابات، وليس بصفتها جيشاً نظامياً كسائر جيوش الدول العربية.

وفي مارس/آذار من عام 1969 صرح عرفات بأن جيش التحرير الفلسطيني ينبغي أن يتحول من “جيش نظامي كلاسيكي” ليصبح نواة الجيش الثوري الفلسطيني وحجره الأساس.

وجادل عرفات وحاجج وطرح تصوره بأن قوات جيش التحرير الفلسطيني ينبغي تحريكها إلى مواقع قتالية تهاجم منها العدو وتضربه. (هامش: في تلك الآونة كان نحو 60% من قوات جيش التحرير الفلسطيني ملحقاً بجيش الجمهورية العربية المتحدة لواء عين جالوت، الذي يتكون من نحو 5000 رجل وكان نحو 30% من هذا الجيش ملحقاً بالجيش السوري “لواء حطين، نحو 2500″ 10% في العراق “لواء القادسية نحو 1000 رجل”).

وفي مارس/آذار ذكرت جريدة الأهرام أن قوات جيش التحرير الفلسطيني سيتم تحريكها لترابط مع القوات المقاتلة لمنظمات المقاومة الفلسطينية، كما قالت الصحيفة إن منظمة التحرير الفلسطينية قررت رصد الشطر الأعظم من ميزانيتها لجيش التحرير الفلسطيني. وفي أوائل أغسطس/آب امتدحت إذاعة صوت فتح المثل الأول لمشاركة جيش التحرير الفلسطيني في العمل الفدائي.

وعلى الرغم من النفي العلني والإنكار الرسمي، فإن وحدة من وحدات جيش التحرير الفلسطيني الملحق بالجيش السوري، وهي لواء حطين، قامت بالفعل، حسببما أوردت التقارير بالتسلل إلى شمال الأردن في ربيع 1969. وكانت قوات جيش التحرير الفلسطيني التابعة للعراق (لواء القادسية) مرابطة هناك أصلاً.

وفي أواخر عام 1969 وبداية عام 1970 وردت تقارير عن تزايد استياء قيادة جيش التحرير الفلسطيني من قيادة فتح، وتركزت النقمة بوجه خاص على اتهام فتح بأنها هي ذاتها من يسعى حثيثاً لحيازة أسلحة جديدة في حين تحجب التمويل عن جيش التحرير الفلسطيني. وفي ديسمبر/ كانون الأول من عام 1969 ذكرت التقارير أن ضباط جيش التحرير الفلسطيني سلموا عرفات لائحة شكاوى بواسطة اليحيى الذي قدم استقالته في الوقت ذاته. ورفض عرفات الاستقالة ووعد بالتماس التمويل لجيش التحرير الفلسطيني وتدبير أمر إمداده ودعمه في مؤتمر قمة الرباط في ذلك الشهر، ومن غير الواضح ما إذا كان جيش التحرير الفلسطيني قد حصل على بعض التمويل الذي خصص للفدائيين في الرباط، إلا أن اليحيى صرح في ابريل/ نيسان من عام 1970 أن رواتب جيش التحرير الفلسطيني غالباً ما كانت تتأخر لأن عرفات أصر على توقيع تفويض الصرف بنفسه، وأنه رفض الافراج عن الأموال التي خصصتها منظمة التحرير الفلسطينية لجيش التحرير من أجل مشترياته من الأسلحة.

وعلى أية حال، استمر الصراع بين عرفات وجيش التحرير الفلسطيني.

(هامش: زاد من تعقيدات العلاقة بين منظمة التحرير الفلسطينية وجيش التحرير الفلسطيني حقيقة أن وحدات جيش التحرير الفلسطيني تعتمد في الحصول على الدعم على منظمة التحرير الفلسطينية وعلى الدول العربية التي يخدمون في صفوف جيوشها، لذا فإن ولاءها موزع وميولها واتجاهاتها مختلفة بحسب البلد الذي تخدم فيه، وقادة منظمة التحرير الفلسطينية المحليون ربما لم يكن لهم في الحقيقة سوى تأثير طفيف لا يكاد يذكر في هذه القضية. فالجمهورية العربية المتحدة مثلاً يبدو أنها تحتفظ بهيمنة محكمة شبه مطلقة على قطعات جيش التحرير الفلسطيني الملحقة بجيشها، وتلك القطعات الملحقة بالجيشين السوري والعراقي تبدو أكثر ميلاً إلى الاتجاهات والتيارات السائدة في البلدين اللذين تخدم بين ظهراني جيشيهما. (حذف هنا) وجيش التحرير الفلسطيني، وقد اعتبر نفسه قلعة المعارضة الأخيرة التي تقف لتجابه هيمنة فتح، شكل في أوائل عام 1970 أركاناً عامة “تتكون من اليحيى والعقيد سمير الخطيب والعديد من الضباط الآخرين” ظل مصمماً على ألا يقبل سوى الأوامر الصادرة عن اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية التي اتفقوا معها، ورغم أنه لم يتم التحقق من هذا التقرير ولا التثبت من صحته أبداً، فإن جيش التحرير الفلسطيني مارس من بعدها قدراً ما من الاستقلالية على ما يبدو، لأن التقارير أوردت في ابريل من عام 1970 أن عرفات بعث برسالة إلى جيش التحرير الفلسطيني يقول فيها إنه هو القائد الأعلى ويشتكي من أن جيش التحرير الفلسطيني دأب على الامتناع عن رفع التقارير إليه، ومحذراً من أنه إذا تكرر هذا فسوف يتم اتخاذ الإجراءات المناسبة.

واشتد الصراع بين فتح وجيش التحرير الفلسطيني عام 1969 وأوائل عام 1970 جراء مفاوضات كانت تجري مع الاتحاد السوفييتي بشأن الزيارة المقترحة لوفد إلى موسكو (وفي سبتمبر/ ايلول من عام 1969 ذكرت التقارير أن السوفييت وجهوا الدعوة إلى اليحيى والخطيب لزيارة موسكو إلا أنهم بينوا أنهم لم يكونوا يرغبون في مجيء أي عضو من أعضاء اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية، نظراً لأنهم شخصيات سياسية، غير أنه بحلول ديسمبر/كانون الأول جرى توسيع دائرة هذه الدعوة لتشمل اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية.

وكان هناك بعض التأخير بشأن قبول الدعوة، وكان السبب على ما يبدو الجدل الذي احتدم حول ما إذا كان ينبغي للوفد أن يذهب، ثم إذا ما توجب الذهاب، فمن ذا الذي يذهب، ويبدو أن عرفات لم يكن يرغب في إرسال وفد أساساً، إلا أنه جرى اقناعه في نهاية المطاف من قبل الأعضاء الآخرين في اللجنة التنفيذية، وكان نفور عرفات في هذه الآونة من زيارة موسكو، ومن ثم قبوله ذلك على مضض في تضاد صارخ مع التلهف الذي أبداه في عام 1968، وربما كان هذا التغير يشي بتشككه بشأن تلقي أي دعم أو تأييد سياسي، أو لربما كان ينم عن قلقه من أن يحجب إما السعوديون أو الصينيون دعمهم لفتح جراء استيائهم من مثل هذه الزيارة.

أما وقد أرغم على المسايرة والنزول عند رأي الآخرين والقبول بالزيارة على كره منه، فقد حاول عرفات إقصاء عبدالرزاق اليحيى عن الوفد. غير أن جيش التحرير الفلسطيني صرح بأنه لن يشارك إطلاقاً إذا لم يذهب اليحيى فأذعن عرفات ورضخ للأمر الواقع. وكان اليحيى ذاته قد أكد هذه الرواية، وذكر بعدها أن السوفييت أبلغوا الوفد في موسكو أنهم لن يتمكنوا من تقديم أي مساعدات للمنظمات الفدائية ما لم تكن هذه المنظمات موحدة، لكن السوفييت يمكن أن يساعدوا جيش التحرير الفلسطيني الذي كان جيشاً تكون بشكل شرعي، وأنهم كانوا على استعداد في الحقيقة لإمداد جيش التحرير الفلسطيني بالأسلحة حيث سيتم تسليمها عبر سوريا وبواسطة السوريين.

ووفقاً لهذا المصدر ذاته فإن اليحيى انتقد فتح أيضاً بعد زيارة موسكو واتهمها بأنها كانت تسعى إلى تدمير جيش التحرير الفلسطيني، واستشهد للتدليل على كلامه بالجهود التي بذلتها فتح لاستبدال فرقة قيادة الكفاح المسلح في لبنان، التي كانت قد سحبت من جيش التحرير الفلسطيني، بوحدات من فتح بحيث تتمكن فتح من الهيمنة على مخيمات اللاجئين الفلسطينيين في لبنان، والأدهى من ذلك، كما قال اليحيى إنه في مارس/آذار من عام 1970 قررت اللجنة التنفيذية في منظمة التحرير الفلسطينية (التي كانت تهيمن عليها فتح وعرفات) أن تسحب قوات التحرير الفلسطينية من تحت سيطرة جيش التحرير الفلسطيني وأن تخضعها لهيمنة اللجنة التنفيذية. ورفض اليحيى الرضوخ لهذا، وأخبر عرفات أنه إذا أصرت منظمة التحرير الفلسطينية على موقفها وواصلت جهودها لتدمير جيش التحرير الفلسطيني فسوف يتمخض عن هذا تمرد مسلح.

وفي أوائل يوليو/تموز 1970 أصدر عرفات أمراً بإعفاء عثمان حداد من منصبه كرئيس لأركان جيش التحرير الفلسطيني متهماً إياه بالتمرد. (هامش: شارك حداد في مؤامرة للحصول على أسلحة لجماعة الفدائيين الشيوعية، قوات الأنصار، خلافاً لرغبات عرفات). وفي ذلك الوقت كان حداد في دمشق، وقد رفض قبول الإعفاء وتلقى الدعم من عدد من وحدات جيش التحرير الفلسطيني وجبهة التحرير الفلسطينية، وبخاصة الموجودة في سوريا. واتهم حداد عرفات بأنه قد عزله بعد أن اعترض حداد على الأوامر التي أصدرها عرفات بحظر دفع رواتب قوات حطين. وفي مقابلة أجريت معه في 4 يوليو/ تموز، قال حداد متهماً ان قراراً صدر مؤخراً بوضع تنقلات وتعيينات قادة منظمة التحرير الفلسطينية تحت سيطرة عرفات، هو بمثابة مقدمة لحل جيش التحرير الفلسطيني. وأكد أن قادة وضباط منظمة التحرير الفلسطينية لم يعترفوا بعرفات قائداً للجيش. وفي 7 يوليو/تموز التقى وفد من منظمة التحرير الفلسطينية بياسر عرفات في عمان وطالب بالإبقاء على حداد في منصبه، والموافقة على ميزانية جيش التحرير الفلسطيني، وأن يكون هذا الجيش مستقلاً، وإلغاء قرارات عرفات التي تتعارض مع أنظمة الجيش. وفي اليوم التالي أعاد ناطق باسم منظمة التحرير الفلسطينية توكيد قرار عزل حداد. وظل عبدالرزاق اليحيى الذي كان فيما يبدو غير صديق لحداد بمعزل عن النزاع. (هامش: في صيف 1969، أشار اليحيى إلى أنه بعد أن استعاد قيادة جيش التحرير الفلسطيني وجبهة التحرير الفلسطينية، فإنه ينوي الآن إنهاء خدمة هؤلاء الضباط الذين أساءوا معاملته خلال ولايته القصيرة السابقة. وخص بالذكر حداداً الذي كان قد سمي مؤخراً رئيساً للأركان). وكان من الواضح أن وضعاً يقرب من التمرد قد تم إيجاده ضمن أوساط جيش التحرير الفلسطيني نتيجة لعزل حداد.

وهكذا، بينما كان استيلاء فتح على الآليات السياسية في منظمة التحرير الفلسطينية تاماً تقريباً، بحلول أواسط سنة 1970، لم تنجح جهودها لتحقيق السيطرة على جيش التحرير الفلسطيني. وفي حقيقة الأمر، جاء أحد تكتيكات عرفات بنتيجة عكسية فقد عين اليحيى رئيساً لقيادة الكفاح المسلح الفلسطيني ثم لجيش التحرير الفلسطيني، ومن الواضح أنه فعل ذلك على أمل السيطرة على كليهما، وقد أظهر اليحيى منذئذ استقلاله عن عرفات ورغبته في إبقاء جيش التحرير الفلسطيني مستقلاً. وغدت هذه العلاقات أكثر تعقيداً بفعل الانشقاق الذي ظهر داخل جيش التحرير الفلسطيني بين اليحيى وفصيل تدعمه سوريا ويرأسه حداد.

 

6.     فتح تحتفظ بهويتها

في غمار عملية ممارسة السيطرة على الجهاز السياسي لمنظمة التحرير الفلسطينية، احتفظت فتح بهويتها الخاصة واستقلالها، على الرغم من أن تركيبها تغير إلى حد ما. وقد أدى نموها السريع سنة 1969، إلى إحداث إجهاد كبير لتنظيمها، وفي مارس/آذار 1969، ذكر أن القيادة العامة لفتح قد استبدلت بلجنة مركزية، يخضع لها “جناحان”: سياسي وعسكري (هامش: كانت اللجنة المركزية تضم: عرفات، خليل الوزير، هاني الحسن، خالد الحسن، فاروق قدومي، هاني قدومي، ممدوح صبري، أبوصيدم، محمود مسعدة، صلاح خلف، محمد النجار، مختار بعبع، وداود قطب).

ومن هؤلاء كان فقط عرفات، وهاني القدومي وخالد الحسن في القيادة العامة في أوائل 1968.

وحسب تقرير أمني أردني، ترأس خليل الوزير الجناح السياسي، بمساعدة صلاح خلف (الذي وصف فيما بعد بأنه الرجل الثاني في فتح، وأنه متعاطف مع وجهات النظر الراديكالية). وذكر أن هذا الجناح كان يضم دائرة مخابرات يديرها هاني الحسن، ومجموعة لتنظيم الشبان، ومكتب إعلام مسؤولاً عن الدعاية والبلاغات. والمكتب الأخير يدير برنامج الإذاعة الدعائي للمنظمة الذي يسمى صوت فتح، والذي ظل يبث من القاهرة حتى أواسط سنة 1970 عندما علق عبد الناصر عملياته. كما كان يصدر كذلك مجلات فتح ومن بينها: مجلة العاصفة ومجلة الثورة الفلسطينية. ومن المحتمل أنه كان مسؤولاً عن جريدة “فتح” اليومية، التي كانت في الأساس نشرة يومية، تم توسيعها فيما بعد لتصبح جريدة تتكون من أربع صفحات خلال أزمة يونيو/حزيران 1970 في الأردن.

وفي أواخر 1969 غدت وحدات فتح الإقليمية أشد تعقيداً. (يوجد حذف هنا). كانت اللائحة التنظيمية للجهاز الإقليمي في العربية السعودية تشبه الهرم: الجماعة، وهي أصغر وحدة تتكون من أربعة أعضاء، مسؤولة أمام الجناح، الذي يتكون من أربعة ممثلي مجموعات، وتشكل كل أربعة أجنحة قطاعاً، والأربعة قطاعات لجنة محلية، وكل أربع لجان محلية تشكل لجنة أمانة سر في المنطقة يترأسها الأمين العام للمنظمة، ولكل منطقة لجنة إعلام ومحكمة انضباط ثورية للتعامل مع انتهاكات الأنظمة، والنزاعات وما إلى ذلك، ولكل منطقة لجنة تنسيق تتألف من الأمين العام للمنظمة ومسؤول الإعلام، ومسؤول الرصد (رئيس لجنة الرصد الثوري التابعة للجنة التنسيق، المسؤولة عن أمن المنطقة)، والمسؤول المالي، ومسؤول التعبئة العامة. وهذه اللجنة مسؤولة أمام اللجنة الإقليمية، وهي أعلى تنظيم لفتح في كل دولة.

 

7.     صراعات داخل فتح وضغوط على قيادة عرفات

خلال ربيع وصيف 1969، كانت هنالك تقارير عن نزاعات مستمرة داخل فتح، ومن بينها الخلافات التكتيكية، والخلافات الايديولوجية، والاحتكاكات اليومية الناجمة عن ادارة جيش متنام. (هامش: قال أحد قادة فتح، وهو هاني الحسن، ان مشكلة فتح كانت في نموّها السريع الذي أدى إلى وجود بنية غير ملائمة للتحكم والارشاد في فتح). وفي يوليو/ تموز ذكر انه جرى التعبير عن التمرد على أيدي شخصيات عسكرية من فتح في الأردن، رفضت أوامر فتح الداعية إلى تنسيق عملياتها مع السلطات الأردنية؛ وقيل ان هذه المجموعة لها علاقات بمنظمة فتح في سوريا.

ولكن الصراع الداخلي الرئيسي، يبدو انه يتمحور حول الموقف الايديولوجي لفتح. ويبدو ان مجموعة من “المتعصبين” داخل فتح بدأت تعبر عن معارضة متزايدة للقيادة “البرجوازية” متمثلة في عرفات. وكانت هذه المعارضة الثورية، التي تضم كلاً من البعثيين اليساريين، والماركسيين اللينيين، تطالب بالانفصال عن الأنظمة غير الثورية واستعمال تكتيكات مشابهة للتكتيكات المستعملة في كوبا وفي فيتنام. وكان ذلك يعني فيما يبدو ان هذه المعارضة تريد من فتح أن تقيم قواعد داخل المناطق التي تحتلها “اسرائيل”، وتعمل منها، على الرغم من صعوبة ان لم يكن استحالة، فعل ذلك.

ولعل مما له علاقة بتطور هذه المعارضة الراديكالية ضمن فتح، استقبال تقارير عديدة خلال صيف سنة 1969 عن منظمات سرية لفتح يجري تأسيسها في العربية السعودية والكويت والأردن. وقيل ان مجموعة الأردن كانت مكلفة باغتيال أشخاص يعتبرون قابلين لإلحاق الأذى بالقضية الفلسطينية. وعندما علم عرفات بوجود المجموعة في الأردن في أوائل سبتمبر/ أيلول 1969، قيل انه أمر باعتقال منظميها.

وفي أوخر 1969 وأوائل 1970، كان هنالك المزيد من التقارير عن عدم الرضا عن قيادة عرفات، وعن خطط ومحاولات لاغتيال عرفات. وقال أحد المصادر ان بعض أعضاء القيادة العامة كانوا يشعرون بأن حكمه على الأمور من الناحيتين الاستراتيجية والتكتيكية ضعيف، وانه يحول دون توحيد سائر المنظمات الفدائية معاً. وفي 31 ديسمبر/ كانون الأول، ذكرت وكالة الشرق الأوسط للأنباء في دمشق، ان جريدة “الجمهورية” اللبنانية اليمينية قالت ان اعادة ترتيب للأمور سوف تجري داخل حركة فتح. ويفترض ان يعكس هذا التغيير حاجة فتح إلى اتخاذ موقف أكثر ثورية، ويعتبر وجود قيادة سياسية وعسكرية ضرورياً له.

ويبدو ان الضغط على قيادة عرفات قد اشتد في صيف وأوائل خريف 1970، وكان الضغط مرة أخرى يأتي من قبل الذين يسمون يساريين في المنظمة، الذين ذكر انهم يؤيدون رفض التعاون مع الدول العربية ويتبنون خطاً أكثر راديكالية وبخاصة في الدول العربية اليمينية. وقيل ان فصيلاً أكثر محافظة

يترأسه عرفات، كان يفضل استمرار استراتيجية فتح، المتمثلة في اقتصار التكتيكات على محاربة “اسرائيل” وعدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول العربية.

وفي أواخر اكتوبر/ تشرين الأول أشار عصام سرطاوي الذي ينتمي للهيئة العاملة لتحرير فلسطين، إلى أن الجناح المحافظ في فتح بقي مهيمناً.

تضافر عدد من التقارير ليوحي في المجمل بأن عرفات قد جوبه بتحدي صلاح خلف له، وهو الرجل الذي كان يليه في التسلسل القيادي، ويبدو ان وزن هذا الدليل يؤكد أن ثمة صراعاً ما بين عرفات وخلف. (هامش: في حين حاول [حذف هنا] اسقاط هذه التقارير عن حدوث نزاع داخلي والغمز من قناتها والتشكيك في صحتها باعتبارها مجرد “كلام يقال والقصد منه الاستهلاك المحلي”، فإنه لم يطرح أسبابا أو غايات تكمن وراء مثل هذا الزعم، لذا فإن هذا التأويل يبدو متهافتاً وهزيلاً).

وفي 4 نوفمبر/ تشرين الثاني عام 1970 انتقدت جريدة فتح أولئك الذين “استسلموا” خلال أزمة الأردن في سبتمبر/ أيلول ودعت إلى ازالتهم. وربما كانت هذه اشارة إلى صلاح خلف، وهو أحد أربعة من قادة الفدائيين الذين أسروا أثناء القتال والذين قبلوا باقتراح وقف اطلاق النهار الأردني الذي شجبته فتح لاحقاً. (هامش: ربما انهالت الجريدة بسهام انتقادها أيضاً على كمال ناصر، الذي طالما شغل لدهر طويل منصب الناطق الرسمي باسم فتح ومنظمة التحرير الفلسطينية، والذي أزيح عن منصبه، حسبما أفادت التقارير، في خريف 1970 لادلائه بتصريحات لم يكن مخولاً الادلاء بها). [حذف هنا] جرى في الحقيقة استبدال خلف بصفته نائباً لرئيس فتح ورئيساً للاستخبارات في أواخر أكتوبر/ تشرين الأول.

ومن المحتمل أن تستمر التجاذبات ويتواصل التوتر داخل فتح، كما يتوقع استمرار الضغط على “الحرس القديم” في فتح، وهم القيادة المحافظة، من قبل الأعضاء الأصغر سناً والأكثر ميلاً إلى الاتجاه اليساري. فإذا قدر في يوم من الأيام ان يزاح عرفات بصفته زعيماً لفتح، فمن الممكن توقع أن تتخذ هذه المنظمة موقفاً أكثر راديكالية من منظور العالم العربي وفيما يتعلق بشؤونه. وأخيراً فإن عرفات ذاته إذا تم تعريضه لضغوط كافية مثل هذه من قبل التيارات داخل منظمة فتح، فساعتها يمكن تصور ان يرغم على الاتجاه يساراً متصادماً بذلك مع ميوله الأصلية ونزعته الفطرية.

 

8.     تكتيكات فتح وعملياتها

كما رأينا من قبل، فإن أسلوب فتح من حيث المبدأ ومقاربتها فيما يتصل بتصوراتها عن العمليات العسكرية كان يتمثل في تسلل فرق صغيرة من الرجال إلى الأراضي الفلسطينية المحتلة “الاسرائيلية” ومن ثم تقوم هذه الفرق بعد اختراقها لهذه الأراضي بتنفيذ عمليات زرع ألغام، وغيرها من عمليات “التخريب”، التي عادة ما تشن ضد أهداف عسكرية (مثل الدوريات والمخافر والقواعد العسكرية الأمامية، والمركبات والآليات العسكرية، وقوافل الإمداد العسكري اللوجستي)، إلا أنه يحدث أحياناً، ان تشن هجمات ضد السكان المدنيين، كذلك. [هامش: في الثالث من يناير عام 1970 أوردت صحيفة "برافدا" تقديرات فتح لعدد العمليات التي قامت بتنفيذها. فحسبما أوردت التقارير، نفذت فتح 2442 عملية في عام 1969، مقارنة بنحو 59 عملية في عام 1966 و727 عملية في عام 1968. ولم تذكر "برافدا" عدد العمليات في عام 1967]. وكانت هذه الاستراتيجية اخفاقاً عسكرياً كاملاً. وتقارير “الاسرائيليين” تذكر أنهم قتلوا ما يقدر عدده بنحو 1800 فدائي. [هامش: لم يخترق الأراضي "الاسرائيلية" منهم سوى 30 فدائياً، كما لم يتمكن من اختراق الأراضي المحتلة إلا 185 فدائياً، وأما البقية فيزعم "الاسرائيليون" أنهم قتلوهم عند أو قرب خطوط وقف اطلاق النار] وانهم أسروا 2500 فدائي آخر منذ حرب يونيو/ حزيران عام 1967. كما ذكرت تقارير “الاسرائيليين” أن الفدائيين لم يقتلوا سوى 300 شخص فقط. وتتضح أهمية هذه الأرقام حين نأخذ في الحسبان أنه كان لدى فتح قرابة 7000 رجل مسلح في خريف عام 1970، وان قوات تحرير فلسطين التي تستخدم ذات التكتيكات وتتعاون في الغالب مع فتح كان لها ألف رجل مسلح. ومنذ حرب سبتمبر/ أيلول عام 1970 بين الجيش الأردني والفدائيين الفلسطينيين لم تشن أي من هذه الجماعات (ولا أي من المنظمات الفدائية الأخرى) أي غارة على “اسرائيل” ولم تقم بأي عملية.

ولم تتأكد، ولم يتسن التثبت من الاشاعات الكثيرة التي راجت ومفادها ان فتح توشك ان تتخلى عن تكتيكاتها التقليدية. وفي ربيع عام 1969، ومرة أخرى في ربيع 1970، وردت تقارير عن أن فتح خططت لاغتيال زعماء عرب كانوا يعملون من أجل تسوية سلمية. وفي حين أن العديد من هذه التقارير أتى من أعضاء رفيعي المستوى في حركة فتح، فإن عرفات نفسه دأب باصرار على رفض مثل هذه التكتيكات. وعرفات، على ما يبدو، لا تزال له اليد الطولى والكلمة الأقوى في صفوف تنظيم فتح.

وتحتفظ فتح بمكاتب في جميع الدول العربية. (هامش: لمنظمة التحرير الفلسطينية كذلك مكاتب في كل أنحاء الوطن العربي. وبالاضافة إلى ذلك، لها مكتب في نيويورك، كان يحاول في أوائل سنة 1970 الحصول على مساندة جماعات معارضة في الولايات المتحدة. كما كانت منظمة التحرير الفلسطينية متورطة كذلك سنة 1970 في محاولة انشاء مكاتب في أمريكا اللاتينية). وكذلك لفتح مكاتب في عدد من الدول الأوروبية، بما فيها فرنسا، وألمانيا ودول أوروبية شرقية عديدة. وفي سنتي 1969 و1970، أرسلت بعثات إلى دول عديدة للتفاوض على فتح مكاتب. وذكر ان ايران وتركيا رفضت مثل تلك الطلبات. (هامش: قد يكون ذلك عائداً إلى أن فتح كانت تجند فيما ذكر، مواطنين ايرانيين وأتراك كمتدربين؛ وقد اعتقلت كلتا الدولتين عدداً من المجندين واتهمتهم بالتخطيط للقيام بأعمال تخريبية).. وقد وافقت ماليزيا في ابريل/ نيسان 1969 على فتح مكتب لفتح. وفي غمار الجهود التي تبذلها حركة فتح للحصول على الاعتراف والمساعدة الدولية، دعت مجموعات من الأمريكيين والأوروبيين للمشاركة في مساقات تدريب وتوجيه عقائدي في فصل الصيف من السنوات 1968 إلى 1970. وحسبما ذكرت صحيفة “نيويورك تايمز” (27 أغسطس/ آب 1970)، كان لعرفات كذلك تعاملات مع منظمة الفهود السود، والتقى مع الدريج كليفر في الجزائر في صيف 1970، وقام بتدريب بعض الفهود السود في معسكرات فتح في الأردن سنة 1969.

بينما كانت فتح تشغل مكاتبها علناً في عدد من الدول، كانت تنخرط كذلك في عمليات استخبارية. وحسبما ذكر شفيق الحوت، ممثل منظمة التحرير الفلسطينية في بيروت، تملك فتح وحدات استخبارات في دول عربية عديدة، وفي غرب أوروبا، والولايات المتحدة، وقد تم تدريب معظم أعضاء هذه المجموعات إما في الصين أو في الجمهورية العربية المتحدة. ويقال ان عملية فتح في عمان هي الأكثر فاعلية، حيث اخترقت بنجاح الشرطة الأردنية، والجيش وأجهزة المخابرات. ويقال إن فتح تحاول تجنيد أجانب لهم منفذ على “اسرائيل”، ومن ثم يسهلون العمليات هناك. ويقال ان لفتح عملاً سياسياً في انجلترا، وهو عمل منظم حيث توجد خلايا يضم كل منها أربعة أو خمسة رجال، وتدار على أساس وظيفي، ويقال إنها تصدر مجلة شهرية في المملكة المتحدة تسمى “فلسطين الحرة”، وتساند المظاهرات والاجتماعات، وتقوم بعمليات التجنيد.

 

 

 

9.     تمويل فتح

ميزانية فتح ضخمة، وبالاضافة إلى الرواتب التي تدفعها لجنودها وموظفيها، تدفع مخصصات لأسر “الشهداء”، كما يجب على فتح كذلك ان تدفع ثمن معظم أسلحتها. وذكر ان فتح لم تستطع سنة 1969 ان توازن ميزانيتها على الرغم من تلقيها وعوداً بزيادة العون. وأكبر مصادر تمويل فتح هو المملكة العربية السعودية (التي يذكر انها تقدم نحو 2 إلى 4 ملايين دولار سنويا). وتقوم آلية جمع الأموال في تلك الدولة على وجود لجنة تدعى لجنة مساعدة أسر الشهداء؛ وهي تجمع ما يبلغ درجة اقتطاع اجباري نسبته 5% من رواتب الفلسطينيين في السعودية، و1% من رواتب السعوديين. ولا تساهم الحكومة بالتبرع رسمياً، ولكن الملك فيصل وغيره من أعضاء العائلة الملكية يقدمون تبرعات شخصية.

وقد وضع اعتماد فتح المالي على العربية السعودية بعض القيود على حرية عمل المنظمة. وعلى سبيل المثال، شعر عرفات بعد زيارته لموسكو في أوائل سنة 1970، انه مضطر لزيارة العربية السعودية لشرح زيارته. وذكر انه كان ثمة انخفاض في التبرعات في الأسابيع التي تلت زيارته لموسكو. ودافع عرفات عن علاقات فتح بالدول الشيوعية قائلاً إنها ضرورية لتأمين توفير الأسلحة الأساسية، ولكنه طمأن السعوديين بأن فتح تظل بمعزل عن العقيدة الشيوعية، وانها تسيطر على العناصر اليسارية في تنظيمات فتح. وذكر ان السعوديين ظلوا غير مطمئنين ولكنهم كانوا غير راغبين في هذا الوقت في قطع المعونة، خوفاً من ان يضعف ذلك التأثير المحافظ على فتح. وفي أواخر سنة 1970، كانت هنالك تقارير عديدة تفيد بأن العربية السعودية كانت آخذة بالتحرر بصورة تدريجية من سحر فتح وانها ماضية في خفض عمليات جمع الأموال التي تقوم بها.

وليس حجم تبرعات الكويت لحركة فتح ومنظمة التحرير الفلسطينية واضحاً. وبينما ذكر ان كلتيهما تستفيدان من الضرائب والاقتطاعات الكويتية، بالاضافة إلى الاستفادة من اسهام كويتي رسمي في الميزانية، فقد ذكر في ربيع 1969 ان الكويت كانت ترفض الافراج عن الأموال التي كانت تحتفظ بها لهذه التنظيمات. وتتلقى فتح اسهامات ضخمة من امارات الخليج النفطية، وعلى رأسها قطر وأبوظبي، ويأتي معظم هذه الأموال من اقتطاعات من رواتب الفلسطينيين. وقبل الثورة في ليبيا في أواخر 1969، كان ذلك البلد يمنح فتح نحو2،8 مليون دولار من ميزانيته السنوية كل عام بالاضافة إلى التبرعات من القطاع الخاص. وبعد الثورة وعدت الحكومة الجديدة منظمة التحرير الفلسطينية، وبأسلوب مبهرج، بمبلغ 56 مليون دولار بالاضافة إلى الهبات الشخصية؛ ولم تكن المدة الزمنية محددة. وفي أوائل مايو/ أيار 1970 قيل ان معمر القذافي قرر ان ليبيا سوف تتبرع بنحو 10 ملايين دولار كل ربع عام للفدائيين، حيث يذهب نحو ثلثي ذلك المبلغ إلى فتح، ويذهب الباقي إلى الجماعات الأخرى. ولكن زعماء ليبيا مشهورون بالوعود العاطفية، بيد ان تنفيذهم لتلك الوعود يظل موضع تساؤل.

وحتى وقت قريب كانت الدول العربية الراديكالية أقل استعداداً في تبرعاتها لفتح ومنظمة التحرير الفلسطينية. ومن بين جميع الدول العربية الراديكالية برزت الجزائر كأفضل أصدقاء فتح. وقد وفرت لهذه المنظمة كلاً من الدعم الدعائي والمساندة الدبلوماسية الدولية. (هامش: في صيف 1970، على سبيل المثال، طلب الجزائريون من المسؤولين العراقيين والسوريين ان يتوقفوا عن دعم منظماتهم، وان يساندوا حركة فتح بدلاً من ذلك). ويقال إن الجزائر تشكل أحد المراكز الرئيسية لتدريب فتح، وتقوم بدور الوسيط في توفير السلاح لها، كما انها قناة لتوصيله إليها. ويضاف إلى ذلك ان الجزائر نفسها كانت تزود “فتح” بالأسلحة، ففي أغسطس/ آب 1970، أرسلت حمولة سفينة من الأسلحة إلى فتح هدية من الجزائر والمغرب عن طريق اللاذقية. وفي أغسطس/ آب قيل ان بومدين وافق على الاستمرار بدعم فتح وحتى على ارسال “بعض” القوات الجزائرية إلى الأردن.

وأصبح النظامان البعثيان الراديكاليان المتنافسان في العراق وسوريا متبرعين لماماً وعلى نحو لا يعتمد عليه لفتح. في ربيع 1969، ذكر ان العراق قطع كل المعونات عن فتح لكي يعطي كل معوناته للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين. ولكن، في أواخر 1969 أشار أحد قادة فتح وهو هاني القدومي إلى أن العراق وافق كارهاً على مساعدة فتح، ولكنه يفضل تركيز مساندته لجماعة الفدائيين الخاصة به، وهي جبهة التحرير العربية. وقال ان فتح تواجه المشاكل ذاتها مع سوريا، التي تريد الآن التركيز على الصاعقة. ولكن كلاً من هذين البلدين استمر في تدريب أعضاء فتح على الأقل حتى صيف 1970.

 

10.   صعود حركة القوميين العرب وانقسامها بين حبش وحواتمة وجبريل

في مؤتمر القمة العربي الذي عقد في الرباط، بالمغرب، في ديسمبر/كانون الأول 1969، أحرز عرفات نصراً رئيسياً تمثل في أن دعم الحركة الفلسطينية كان أحد الموضوعات القليلة التي تم الاتفاق عليها. وذكر أن المؤتمرين في الرباط قرروا تخصيص نحو 26 مليون جنيه للفدائيين، أي أقل بأربعة ملايين دولار فقط عما طلبه عرفات، وكان من المقرر أن يذهب مجمل ذلك إلى منظمة التحرير الفلسطينية.

وقد تذبذبت علاقات فتح مع الجمهورية العربية المتحدة عبر السنوات. وكانت العلاقة بين الطرفين تتسم بالشك المتبادل والخصام، حيث كان كل منهما يرى الآخر تحدياً لشعبيته وهيمنته. وفي حين كانت الجمهورية العربية المتحدة غير متحمسة لفتح ولا تدعمها علناً، سمحت لفتح بالعمل، وهي أقوى الجماعات الفلسطينية في ذلك البلد كما أنها تهيمن على مجموعات اتحاد التجارة الفلسطيني المحلي. وبالإضافة إلى ذلك، وكما أشرنا آنفاً، كانت الجمهورية العربية المتحدة تسمح لصوت فتح بالعمل من القاهرة.ولكن، بعد قبول عبد الناصر مقترح السلام الأمريكي في يوليو/تموز 1970 والانتقاد الفلسطيني لذلك التحرك، أوقف عبد الناصر استعمال الفلسطينيين لمرافق الإذاعة، وذكر أنه وضع الفدائيين في الجمهورية العربية المتحدة تحت المراقبة الشديدة، حتى أنه أبعد بعض المتطرفين، كما أشار عبد الناصر إلى أنه لن يستأنف ذلك قبل أن يتوصل إلى اتفاق معهم.وحتى قبل هذا لم تتلق فتح أبداً أكثر من عون رمزي محدود ومتقطع من الجمهورية العربية المتحدة. (هامش: صرح مصدر مصري رفيع المستوى من القاهرة في أواسط عام 1969 أن الجمهورية العربية المتحدة زودت فتح بأقل من 5% من احتياجاتها من الأسلحة الخفيفة، مقارنة بالجزائر التي أمدتها بنحو 15% من هذه الأسلحة). وهكذا نرى أن ناصر أفصح لعرفات في أوائل عام 1969 عن فزعه من وجهات نظر معينة معادية للسوفييت جرى الترويج لها في أوساط الفدائيين، ونتيجة لذلك كانت الشحنة التالية من الأسلحة أقل بكثير مما كانت فتح قد وعدت به. وأشار عرفات إلى أنه شعر بأن عليه أخذ هذا التلميح بالحسبان والتعامل معه بمنتهى الجدية، لئلا يخسر المزيد من العون. وأمدت الجمهورية العربية المتحدة فتح بقدر لا بأس به من برامج التدريب التي كانت تجري في لبنان، وكانت تؤكد على الخدمات الاستخباراتية والأمنية، كما دربت الجمهورية العربية المتحدة أعضاء من فتح ليصبحوا رجال ضفادع وطيارين حربيين، رغم أنهم حسبما أوردت التقارير أوقفوا برامج التدريب على الطيران في يوليو/تموز من عام 1970.وأخيراً، تلقت فتح عوناً لا بأس به من الصين الشعبية على مدى السنوات الخمس الماضية، ولا سيما ما يتعلق بالأسلحة الخفيفة والتدريب، كما يتدرب أعضاء فتح في كوبا، وفي ربيع عام 1970 كانت جماعة من فدائيي فتح أول مجموعة عربية تتخرج من كلية هافانا العسكرية. وذكرت التقارير أن أعضاء فتح يذهبون في مجموعات مكونة من 15 إلى 20 رجلاً إلى كل من الصين وكوبا بانتظام، وذهب فريقان من هذه الفرق إلى فييتنام الشمالية، إلا أنه يقال إن قادة فتح شعروا بأن ثمة قدراً هائلاً من الدعاية التي تجنى من هذه البرامج في حين لم يكن هناك ما يكفي من التدريب الذي يعتد به في برامج جمهورية فييتنام الديمقراطية.

وفي أواخر حقبة الأربعينات من القرن العشرين قامت مجموعة من المثقفين والمفكرين الشباب في الجامعة الأمريكية في بيروت بتنظيم حركة القوميين العرب، وهي أولى المنظمات الفلسطينية، وعكست الايديولوجية الأساسية لحركة القوميين العرب، الذين هز ضمائرهم وألهب مشاعرهم إنشاء “اسرائيل” وطرد الفلسطينيين من وطنهم، ما كان يتضمنه اسمها وعنوانها- أي الرغبة في اتحاد الدول العربية كافة، وأمنية إقصاء النفوذ الأجنبي من العالم العربي، إضافة إلى الدافع الأكبر المستحوذ عليهم، وهو اجتثاث دولة “اسرائيل”. وما أن أفضينا إلى أواخر حقبة الخمسينات عندما كان كثير من الطلبة قد عادوا إلى بلدانهم حتى استطاعت الحركة تأسيس فروع لها في بلدان عربية مختلفة، ولم يكن هذا التنظيم متراصاً متماسكاً أبداً، ولم يكن متناغماً أيضاً، وشكلت فروع التنظيم الوطنية تحالفات محلية على أسس مصلحية انتهازية. (هامش: ثمة مؤسسات فرعية تابعة لحركة القوميين العرب وتنتشر في 11 بلداً عربياً، لكن بعضها لا أهمية تذكر له. وكانت تلك التي استولت على السلطة في اليمن الجنوبي في نوفمبر من عام 1967 وحدة إقليمية من حركة القوميين العرب، وهي التي أحرزت للحركة نجاحها الأول والوحيد حتى تاريخه).

وفي عام 1955 أرغم زعيم حركة القوميين العرب الدولية جورج حبش، وهو طبيب بسيط فلسطيني من مدينة اللد وكان يعمل في الأردن، على مغادرة ذلك البلد لتورطه، في نشاطات تخريبية هدامة، وقضى حبش سنة في سوريا، ثم عاد إلى الأردن وقد تسلح بمساعدات مالية سورية لتنظيم جماعته، ثم طرد من الأردن ثانية في عام 1959. فذهب إلى دمشق خلال فترة الوحدة المصرية السورية، وانتبهت الاستخبارات المصرية لحركة القوميين العرب فبسطت رعايتها عليها، وأصبح كثير من أعضاء حركة القوميين العرب عناصر في أجهزة استخبارات الجمهورية العربية المتحدة، وفي أغسطس من عام 1959 عقد في لبنان اجتماع لوحدات حركة القوميين العرب الإقليمية وتبني سياسة موالية ومناصرة للجمهورية العربية المتحدة، وفي تلك الآونة أسس المؤتمر أيضاً القيادة العليا لتقوم بمهمة هيئة تنسيق.

وعندما وقع الانفصال وانفرط عقد الوحدة المصرية السورية في عام 1961 انتقل مقر قيادة حركة القوميين العرب الرئيسي من دمشق إلى بيروت، مع أن الجمهورية العربية المتحدة واصلت تمويل حركة القوميين العرب لغاية سنة 1966 على الأقل، وفي عام 1965 حاولت الجمهورية العربية المتحدة فرض اندماج بين حركة القوميين العرب والجماعة الحديثة التكوين والتي يهيمن عليها المصريون، وهي الاتحاد الاشتراكي العربي الذي نادت شعاراته بتوحيد العرب. (هامش: ينبغي عدم الخلط بين هذه الجماعة وبين حزب ناصر المصري المحلي داخل مصر والذي يحمل الاسم ذاته). إلا أن حركة القوميين العرب واصلت أداء مهامها والنهوض برسالتها لوحدها وبجهودها الذاتية. ونجم عن هذا مصاعب مع المصريين، ومع بداية عام 1967 كان ناصر قد فصم عرى علاقاته الودية مع حركة القوميين العرب. (هامش: كان موقف حركة القوميين العرب من ناصر نفسه متذبذباً إلى حد ما بتعاقب الأعوام، ففي رأي كثير من أعضائها في ناصر القائد العربي الوحيد الذي له من الوزن والمنزلة ما يكفي ليبث الأمل في أفئدة من يحاولون توحيد العرب، تبددت الأوهام لدى معظم أعضاء الحركة بعد ذلك، وفي أعقاب حرب يونيو عام 1967، رأى كثير من أعضاء الحركة في الزعيم الجزائري هواري بومدين بسياسته الصلبة التي لا تلين وبشعار “مواصلة القتال” بديلاً أكثر جاذبية).

بعد حرب عام 1967 نخرت صفوف حركة القوميين العرب الانقسامات فصارت كياناً تمزقه التحزبات، حيث شهدنا إحدى تلك الجماعات وهي تجنح إلى تبني نهج أشد راديكالية ويبشر بالثورة التي تتفجر في جميع أرجاء العالم العربي، في حين تبتغي الأخرى التركيز على تحرير فلسطين.

والفصيل الآخر (التي سنشير إليها في هذا السياق بصفتها معتدلة)، كان يقودها جورج حبش، إلا أنه في ربيع عام 1968 سجن حبش في سوريا، مما خلق فراغاً في القيادة في حركة القوميين العرب، وسرعان ما اقتنص العضو الأردني في حركة القوميين العرب، والماركسي اللينيني نايف حواتمة الفرصة وهو المتلهف على الانتفاع من أي ثغرة فتسلل من خلال هذا الصدع.

مع انتخاب نايف حواتمة مبعوثاً لدى المؤتمر القومي لحركة القوميين العرب سنة 1968، حاز على دعم العديد من الوفود وعندما انتخبت القيادة الجديدة، كانت الغالبية من مؤيدي حواتمة ومسانديه، ورفض مؤيدو حبش قبول هذا التحكم وتم انتخاب زعامة مؤقتة كان لفصيل حبش فيها أغلبية رجل واحد، ولكن، وحتى بقية سنة 1968، استمر حواتمة في اكتساب القوة في حركة القوميين العرب. وفي أعقاب فرار حبش من السجن في أواخر 1968، انقسمت بقايا حركة القوميين العرب إلى فصيلين متناحرين، حيث كان الفصيل “المعتدل” الذي يرأسه جورج حبش مكرساً أساساً، ومن الناحية النظرية على الأقل، لحل القضية الفلسطينية وتأجيل النشاط السياسي في العالم العربي ككل، وجناح راديكالي بقيادة حواتمة مكرس لتطوير حركة ماركسية في الشرق الأوسط، حيث تعامل القضية الفلسطينية كجزء واحد فقط من هدف أشمل. وقد دمر هذا التمزق في نهاية المطاف حركة القوميين العرب، ولكن الأحزاب السياسية المحلية المنبثقة عن المنظمة الأصلية والمستقلة تماماً عنها استمرت في العمل، على الرغم من أن بعضها انشق عن طول خطوط مماثلة لتلك التي شقت حركة القوميين العرب الدولية، وكان لانقسام حركة القوميين العرب، تأثير قوي الفعل على البنية شبه العسكرية لهذه الحركة.

 

11.   خلفية الأجنحة الفدائية لحركة القوميين العرب

قبل يونيو/حزيران 1967 كان لحركة القوميين العرب تنظيم شبه عسكري قوامه نحو 50 رجلاً تلقوا بعض التدريب في مصر، وفي خريف 1967، اندمجت هذه الجماعة التي تسمى “شباب الثأر” مع مجموعتين أخريين، هما أبطال العودة (وهي مجموعة مستقلة بقيادة فايز جابر) وجبهة التحرير الشعبية، بقيادة أحمد جبريل، لتشكل الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين.

كما تولى جورج حبش، زعيم الجناح المعتدل في حركة القوميين العرب السيطرة على الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين شبه العسكرية. وقد نفذت هذه الجبهة عمليات مختلفة داخل الأراضي المحتلة، وقبل أن تنقسم هذه المنظمة مرة أخرى في أواخر سنة 1968، كانت قد أصدرت 54 بلاغاً.

وفي ربيع 1968، تم اعتقال حبش في سوريا، حيث شعر السوريون فيما يبدو أنه وحركة القوميين العرب/ والجبهة الشعبية لتحرير فلسطين ضد نظام البعث في سوريا وفي مسعى للتخفيف من حدة هذا الشك، أصدرت حركة القوميين العرب والجبهة الشعبية لتحرير فلسطين بيانين ادعيا فيهما أنهما غير مرتبطين بجورج حبش، كما نفى بيان الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين تورطها في أي مؤامرة لقلب النظام السوري (هامش: كانت حركة القوميين العرب قد شاركت في حقيقة الأمر في تنظيم للمنفيين السوريين مقيم في بيروت، يدعى الجبهة التقدمية القومية (بزعامة اكرم حوراني). وكان نظام دمشق يخشى نوايا هذه الجماعة، وقد انفصلت حركة القوميين العرب عن هذه الجماعة في يوليو/ تموز 1968 عندما قبل حوراني عضوية بعثي يميني هو أمين الحافظ. وعندما كان حبش في السجن في سوريا، تطورت المعركة الفئوية ضمن حركة القوميين العرب، وحسبما ورد في تقرير غير مؤكد، كانت جماعة حواتمة في حقيقة الأمر تتلقى الدعم من السوريين، الذين كانوا يرغبون في تحطيم حبش ومنظمته.

وفي غمار هذه الحروب السياسية على المسار الايديولوجي الذي ينبغي على حركة القوميين العرب أن تتبعه وسجن زعيم الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، كان الضباب يلف المهمة شبه العسكرية لحركة القوميين العرب. وفي خريف 1968، أعلن أحمد جبريل الذي كانت جماعته أحد المكونات الثلاثة الأصلية للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، انسحابه من الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين وحركة القوميين العرب، وتشكيل جماعة فدائية جديدة اختار أن يسميها الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين- القيادة العامة، وكان جبريل ضابطاً سابقاً في الجيش السوري، كما كان قد تلقى أموالاً من خلال جنرال سوري لتشكيل تنظيم فلسطيني، وفي وقت حرب يونيو/حزيران 1967 كان تعداد جماعته ما بين 100 و150 رجلاً. وكان الدافع لابتعاده عن الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين ما شعر بأنه محاولة من قبل حركة القوميين العرب للسيطرة على الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين ايديولوجياً. (هامش: ادعى جبريل أن حركة القوميين العرب كانت قد أصرت على أنه وجماعته قد ألحقوا أنفسهم باتجاه حركة القوميين العرب. كما قال إن حركة القوميين العرب كانت تخطط للتدخل في شؤون الدول العربية الأخرى وان ضباطاً عسكريين كان يجري استبدالهم بعقائديين أشد اهتماماً بالحصول على سلطة سياسية من اهتمامهم بحل القضية الفلسطينية، وقال إن حركة القوميين العرب كانت تستخدم جماعته شبه العسكرية الأصلية (شباب الثأر) لكسب السيطرة على الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، وفي أكتوبر/تشرين الأول 1968 قاد محاولة لإبعاد “شباب الثأر” عن الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، وقد انحاز “أبطال العودة” إلى جانب شباب الثأر، وكانت نتيجة لهذا الصد أن جبريل ذاته قد ترك الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين.

 

12.   الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين تغرق في الفوضى

في نوفمبر/تشرين الثاني 1986، تم انقاذ حبش بطريقة مؤثرة من خاطفيه السوريين على أيدي بعض اتباعه من الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، أثناء نقله من سجن إلى آخر، كما ذكر، وفي هذا الوقت كانت الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين غارقة في الفوضى فجبريل انسحب منها، وكان اتباع حبش وحواتمة يتنافسون في السيطرة على كل من حركة القوميين العرب والجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، وعلى الرغم من ان حقيقة وجود انقسام لا يماري فيها أحد، كانت كل جماعة تدعي لنفسها الحق في اسم المنظمة وموجوداتها.

(يوجد حذف هنا)

وقد استخدم انصار حبش في الأردن في يناير/كانون الثاني القوات العسكرية المتاحة لهم لتخويف جماعة حواتمة، في جهد لضمان انتخاب الموالين لحبش للسيطرة على تنظيم حركة القوميين العرب في الأردن، وازدادت العداوة عندما “اعتقل” عناصر حبش نحو 14 عضواً من جماعة حواتمة واحتفظوا بهم كأسرى في مقر الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين في عمان، وفي منتصف فبراير/شباط أصدر فصيل حبش بياناً يدعي فيه انه أبعد حواتمة واتباعه عن الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين وان هذه المنظمة يجب عليها ان تختار لها اسماً آخر، وفي اعقاب صدام آخر، طلب من عرفات التوسط، وقيل إنه هدد بتدمير جماعة حبش إذا لم توقف هذه الحرب، كما مارس بنجاح الضغط على حبش لكي يطلق سراح الأسرى الأربعة عشر الذين يحتجزهم.

وقيل إن عرفات قال إن من المستحيل توحيد الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين وان الفصيلين يجب عليهما الافتراق رسمياً، حيث يحتفظ حبش، باسم المنظمة، باعتباره مؤسس الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، وقد وافق كل من حبش وحواتمة، وأعلن هذا الحل في 23 فبراير/شباط، وانشأ حواتمة ومجموعته الجديدة المكونة من نحو 90 عضواً لجنة مركزية مؤقتة، واختار اسم “الجبهة الشعبية الديمقراطية لتحرير فلسطين”.

 

13.   استراتيجية الجبهة الشعبية

تصف الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين التي أحكم جورج حبش سيطرته عليها، ايديولوجيتها باللينينية الماركسية الثورية. وأعلن حبش أن دولة فلسطين المستقبلية ستقوم على مبادئ ماركس- لينين، وأن الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين ستكون قائدة الثورة. وحبش يتبنى وجهة النظر التي تقول ان الثورة يجب أن تقوم في النهاية في جميع أنحاء العالم العربي. فقد قال، على سبيل المثال، انه بعد تحرير فلسطين (عملية يقول انها ستستغرق بين 20-30 سنة)، لن تتحرر فلسطين فقط من الصهيونية، بل أيضا سيتخلص لبنان والأردن من “الرجعية”، وسوريا والعراق من برجوازياتهما الصغيرة. وعلى كل حال، يبدو أن هذه الايديولوجيا الثورية ليست القضية الجوهرية بالنسبة لحبش، بل ان هدف الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين هو تدمير دولة “اسرائيل”، وهو الأمر الذي يجب أن تكون له الأولوية حسب رأي حبش، على كافة محاولات التغيير في بقية العالم العربي.

هامش: في مقابلة مع مجلة “لايف” في يونيو 1970، بدا حبش كأنه قد حوّل تركيزه الى حد ما: ما أراده هو حرب على غرار حرب فيتنام، ليس فقط في فلسطين بل في كافة أنحاء العالم العربي. وذهب الى حد القول ان الأمة العربية برمتها يجب أن تدخل الحرب، وأنه خلال 3 أو 4 سنوات ستنهض القوى الثورية في الأردن وسوريا ولبنان، لمساعدة الفلسطينيين.

وفي حين أنها ما تترك مناسبة الا وتنكر فيها أن هدفها الرئيسي هو قلب الأنظمة المفروضة بالقوة، لا تشعر الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين أنها ملتزمة بمساعدة الحكومات على البقاء في السلطة في الدول التي تعتبرها رجعية. وعليه فانها تعتبر نفسها حرة في تقويض الأردن ولبنان ورفض أية اتفاقيات بين هذه الدول والمنظمات الفدائية الأخرى. وحبش يحكم على حلفائه من خلال درجة عدائهم ل “اسرائيل”. وهكذا، في يونيو عام 1970، صرح أن “الصين هي أفضل صديق لنا” لأن الصين ترغب في ان تُزال “اسرائيل” من الخريطة.

(يوجد حذف)

ومن أجل تحقيق هدفها في تدمير دولة “اسرائيل”، أعلنت الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين أنها ستقود صراعا شاملا على مستوى العالم ضد “اسرائيل” وأعوانها. ونظرا لحجمها الصغير وافتقارها للمال والسلاح، اعتمدت الجبهة على القيام بعمليات دولية ملفتة، مثل خطف الطائرات، لكسب اهتمام ودعم متزايدين، فهي الجهة المسؤولة عن معظم العمليات الارهابية الدولية المنسوبة الى الفلسطينيين.

هامش: قبل انقسامها في فبراير 1969، قامت الجبهة بخطف طائرة العال الى الجزائر (يوليو 1968)، بالهجوم على طائرات العال في أثينا (ديسمبر1968) وزيوريخ (فبراير 1969). وبعد الانقسام، تبنت الجبهة عملية تفجير خط انابيب التابلاين عبر البلاد العربية (مايو 1969)، واختطاف طائرة تي دبليو ايه الى دمشق (أغسطس 1969)، وتفجير مكتب شركة “ZIM” للشحن في لندن (أغسطس 1969)، وسفارتي “اسرائيل” في لاهاي وبون (سبتمبر 1969)، ومكتب شركة “العال” في بروكسل (أيضا في سبتمبر 1969).

وتتمثل أبرز عملياتها حتى اليوم في محاولة خطف أربع طائرات (نجحت في ثلاث منها) في 6 سبتمبر 1970، ومن ثم عملية الاختطاف الناجحة لطائرة بعد عدة أيام. ورغم رد فعل العالم الذي استنكر تلك العمليات، حظيت الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين باهتمام عالمي حين كانت تفاوض على اطلاق سراح الرهائن.

في يونيو 1970، استخدم حبش الأسلوب الكلاسيكي للارهاب في تبرير أعمال الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين قائلا: “نعتقد أن قتل يهودي بعيد عن أرض المعركة له تأثير أكبر من تأثير قتل 100 منهم في ميدان القتال، لأن ذلك يلفت قدرا أكبر من الانتباه. وعندما نضرم النار في مخزن في لندن، فان ألسنة اللهب القليلة تلك تعادل تدمير مزرعتين يهوديتين. ولأننا نجبر الناس على التساؤل عما يجري، فانهم سيدركون المأساة التي نعيشها”.

(يوجد حذف)

وتبرر الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين هذه العمليات من منظور استراتيجي عسكري، وتقول ان “اسرائيل” هي جزيرة خطوط اتصالها الوحيدة عبر البحر والجو فقط، وان قطع هذه الخطوط يعتبر استراتيجية جيدة.

وفي يوليو 1970، شرح غسان كنفاني، أحد قياديي الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، بشكل أوضح التكتيكات التي تقوم بها منظمته قائلا: الرأي العام العالمي منقسم ضمن ثلاث مجموعات هي: (1) الموالون ل “اسرائيل” الذين سيكون من الصعب التأثير عليهم، (2) الناس المتأثرون بالدعاية “الاسرائيلية” وهؤلاء يجب تحييدهم، (3) الدوائر اليسارية المتعاطفة مع صراعات التحرر الوطني والتي يمكن كسب دعمها. وقال كنفاني ان هدف عمليات الجبهة هو استقطاب مؤيدين، وان المنظمة حسب زعمه بخلاف مجموعات أخرى، حريصة على التزامها بمبدأ عدم الحاق الأذى بالأطراف المحايدة.

وكانت هناك عدة تقارير خلال عام 1970 حول العمليات التي خططت لها الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، وقد تأكدت صحة بعضها. ففي أوائل مارس 1970، هدد حبش بهجمات ضد مصالح الولايات المتحدة الأمريكية في الشرق الأوسط، وفي 28 و29 تم شن عدد من الهجمات الصاروخية على منشآت أمريكية رسمية في لبنان قيل ان الجبهة مسؤولة عنها. وفي أواخر مارس 1970، أعلن عدد من قيادات الجبهة أن هناك خططا لخطف دبلوماسيين وخصوصا الأمريكيين والبريطانيين، على الطريقة الأمريكية اللاتينية. وخلال الأزمة بين الحكومة والفدائيين في الأردن في يونيو 1970، احتجزت الجبهة عددا من الرهائن الأمريكيين والبريطانيين والألمان الغربيين الى أن استجاب الملك حسين لمطالبها، كما اختطفت فيما بعد عددا آخر من المسؤولين.

ولم تتجسد التهديدات الأخرى لخطط الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين حتى الآن على الأقل. فقد كانت هناك تقارير تفيد بأن الجبهة خططت للقيام بأعمال تخريبية في الولايات المتحدة، وأنها ستستهدف منشآت النفط الأمريكية والبريطانية في المملكة العربية السعودية والخليج، وستستهدف أيضا عمليات الشحن الدولية، وستقوم بعمليات ارهابية في مختلف أنحاء العالم ضد المصالح والمواطنين الأمريكيين، وسترسل مجموعات الى نيويورك لاغتيال شخصيات كبيرة لها علاقة في مباحثات السلام في الأمم المتحدة.

واضافة الى عملياتها الارهابية الدولية، زعمت الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين أنها قامت بعمليات ارهابية ناجحة داخل “اسرائيل”: مثال: تفجير حافلة في ايلات (مارس 1968)، وتفجير محطة حافلات في تل أبيب (يونيو 1986)، وتفجير مقهى في مستوطنة قرب تل أبيب (إبريل 1970). كما قامت الجبهة أيضا بعدد من عمليات التلغيم ونصب الكمائن ضد القوات العسكرية “الاسرائيلية” في “اسرائيل” والأراضي المحتلة، ولكن تلك العمليات كانت على هامش عملياتها الارهابية.

هامش: هذا يبدو صحيحا رغم زعم حبش في يونيو 1970 بأن الجبهة مسؤولة عن 85% من العمليات العسكرية في “اسرائيل”، وتقريبا 100% من العمليات في غزة، و50% منها في بقية المناطق المحتلة.

في أعقاب الحرب الأهلية في الأردن، ظهرت عدة تقارير تفيد بأن الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين قد تأذت بشكل كبير، وكانت تفقد أعضاءها، وتفكر في احداث تغيير في تكتيكاتها. (يوجد حذف) الجبهة كانت تعمل على تشكيل منظمة سرية لتتولى الاغتيالات السياسية في البلدان العربية، وتدمير مصالح العدو، وأفاد تقرير آخر بأن حبش كان ينشئ في بيروت قاعدة لشن هجمات ضد المصالح الأمريكية والبريطانية والألمانية الغربية في لبنان، ومع ذلك هناك تقرير آخر يشير الى أن الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين ستتحول للعمل السري كمنظمة ارهابية تستهدف المصالح العربية والغربية على أمل أن يقود ذلك الى انتفاضة جماهيرية عامة.

 

14.   الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين تتجه نحو الاعتدال

(ثمة حذف هنا). وأشار من ناحية أخرى إلى أن الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين قد خططت حالياً لإضفاء سمة الاعتدال على تكتيكاتها وأنها كانت تتحرك نحو المصالحة مع فتح. ونظراً لأن ما قامت به من عمليات خلال أزمة الأردن نفّر منها وأبعد عنها معظم المنظمات الأخرى، فإن الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين كانت تواجه في تلك الآونة خطر الاندثار، لذا شعرت بأن عليها التعاون مع الآخرين. ويدعم هذا التحليل تقارير فحواها أنه نتيجة للانتقاد الصيني بعث حبش برسالة إلى عرفات في اكتوبر/تشرين الأول يعرب فيها عن دعمه لمواقف فتح في الأردن. وقال ابراهيم بكر في مؤتمر صحافي عقد في 6 اكتوبر/تشرين الأول إن حبش بالفعل كاتب عرفات ليدعم قرارات اللجنة المركزية لمنظمة التحرير الفلسطينية، ويفترض ان ينطوي هذا ضمناً على القبول بوقف لإطلاق النار في الأردن.

ولا يعني هذا بالضرورة أن ثمة تناقضاً في التقارير بين من ذهب إلى أن الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين خططت للاتجاه نحو العمل السري والنزول تحت الأرض، ومن قال إنها تتجه الى الاعتدال في سياساتها في هذه الآونة. وكان من الواضح أن هذه المنظمة تواجه متاعب لا يستهان بها في أعقاب أزمة الاردن. فالجبهة الشعبية التي كان يتهددها الاندثار ارتأت على ما يبدو ان تساير الجماعات الأشد قوة وتحاول التناغم معها كي تحمي نفسها، وفي الوقت ذاته تعيد تنظيم عملها وتخطط للمستقبل.

 

15.   تنظيم الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين

تتفاوت التقديرات بخصوص حجم الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين فهي تتراوح ما بين 200 إلى 500 رجل في أوائل عام 1969 الى ما يقدّر بنحو ألف رجل في اكتوبر/تشرين الأول من عام 1970، ومن المحتمل ان الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين أحرزت نجاحاً أكبر في مضمار تجنيد المزيد من المتطوعين بفضل عملياتها التي تتسم بالإثارة، إلا أنها عانت على ما يظهر من خسائر فادحة في سبتمبر/أيلول من عام 1970 حين احتدمت المعارك بين المنظمات الفدائية والجيش الاردني خلال الحرب الأهلية. ومما يزيد من تعقيدات تقدير أعداد أفراد الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين (والجبهة الشعبية الديمقراطية لتحرير فلسطين) وحجمها وجود جماعات سياسية انبثقت عن منظمة حركة القوميين العرب القديمة. ويقال: إن إحدى هذه الجماعات في لبنان كان لها، اضافة إلى عضويتها السياسية عدة آلاف من الأعضاء المسلحين الذين يتميزون عن فدائيي الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين. وتعتبر الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين عموما من بين أكثر المنظمات تعبئة فكرية واحتشاداً بالمثقفين، اذا ما قورنت بالمنظمات الفدائية الاخرى، ولربما كان السبب في هذا خلفيتها ونشأتها في محاضن حركة القوميين العرب.

وللجبهة الشعبية لتحرير فلسطين قيادة سياسية (أو المكتب السياسي)، وقيادة عسكرية، وكان حبش يرأس القيادتين، وكلتاهما كانت تتخذ من مقراً رئيسياً لها حيث كان حبش يقضي معظم وقته.

(هامش: الأعضاء الأهم في هذه القيادة كانوا: البرفيسور وليد الخالدي، من اساتذة الجامعة الأمريكية في بيروت، وهاني الهندي، الناصري الهوى والميول، والذي كان يعرف سابقاً بأنه رئيس استخبارات الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين). وفي أغلب الأحيان، ولأسباب أمنية كان حبش والقيادتان يتحركون ويتنقلون ولا يمكثون في مقر واحد. وإضافة الى ذلك، قيل إنه كانت هناك لجنة سياسية في لبنان مسؤولة عن الاستراتيجية العامة للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، كما كان للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين لجنة أيديولوجية، كما كانت تنشر مجلة “الهدف” الشهرية في بيروت.

وفي حين أن الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين كانت تبدو في الغالب، ومن حيث المبدأ، منظمة يهيمن عليها رجل واحد، فثمة كثير من الإشارات التي ظهرت مؤخراً والتي توحي بأن هيمنة حبش المطلقة في أوساط هذه المنظمة باتت تجابه لوناً من التحدي الذي يتأتى في جوهره من وديع حداد، عضو المكتب السياسي للجبهة. ففي فبراير/ شباط من عام 1969 كان حداد يعرف بأنه المسؤول الأول عن مكتب الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين. وبحلول ربيع عام 1970 كانت أموال المنظمة مودعة باسم حداد وفي حسابه في أحد بنوك بيروت، وأوردت التقارير رفضه الإمضاء على نفقات ومصاريف “العمليات الأجنبية” التي كان يشعر بأنها مكلفة جداً (ثمة حذف هنا). وتردد أن حداد قد “تجاهل” قراراً للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين (يحتمل أن يكون قراراً اتخذه حبش) بطرده من صفوفها. وحسب تقرير آخر، يرجع تاريخه إلى منتصف عام 1970، كان حداد مسؤولاً في الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين عن العمليات العسكرية الرديفة، اضافة إلى العمليات في الخارج ووراء البحار، ويرأس مجموعة منتقاة مسؤولة عن عمليات الاختطاف.

(هامش: تعكف الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين على التخطيط والتحضير لعملياتها بدقة بالغة وحرص شديد ولا تغفل حتى أتفه التفاصيل).

ويسافر أعضاء الجبهة بأوراق ووثائق ثبوتية عربية “مستعارة” وغالباً ما تكون مزورة. وتستخدم النساء وحتى الاطفال بشكل مكثف في عمليات الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين. وحظي هذا التأكيد بدعم في سبتمبر/أيلول من عام 1970 عندما شغل حداد منصب الناطق الرسمي باسم الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين في أعقاب عمليات الاختطاف التي نفذت بتنسيق محكم.

ويوحي هذا الدليل بأن لوديع حداد نفوذاً كبيراً وهيمنة ضمن صفوف الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، وان سيطرة حبش المطلقة وسطوته كانت تواجه تحدياً. وحقيقة أن حبش كان في كوريا الشمالية إبان عمليات الاختطاف في سبتمبر/أيلول تشير، هي والمفاوضات، إلى أنه لم يكن المسؤول المباشر عن هذه العملية. وكان ناطق باسم الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين لم يشأ الكشف عن اسمه قد صرح بأن غياب حبش عن المشهد خلال العملية ما كان ينبغي ان يدهش أحداً أو يجعله يتعجب، لأن الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين منظمة ماركسية  لينينية تلتزم بمبدأ القيادة الجماعية وليس لها ميول نحو تقديس الاشخاص. ولكن حبش تحدث في الماضي، باسم الجماعة. (هامش: حسب تقرير أوردته صحيفة بالتيمور صن في منتصف سبتمبر/أيلول فإن هاني الهندي، الذي شارك مع حبش في تأسيس حركة القوميين العرب كان أحد أعضاء جماعة اتخاذ القرارات خلال غياب حبش. وثمة رجل آخر هو “الكابتن صدقي”. الذي يعتقد انه كان مسؤولا عن العمليات العسكرية للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين. وهناك آخر (حذف هنا) وصف صالح رأفت وحداد بأنهما من كبار رجال الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين الأقوياء. ونعت رأفت بأنه كان المخطط الرئيسي لعمليات الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين وعمليات الاغتيال التي كانت تضطر إليها.

وقبل شهرين من اندلاع حرب سبتمبر/أيلول، في أواخر يوليو/تموز من عام 1970 برز دليل آخر يفيد بأن مكانة حبش بدأت تتآكل وأن هيمنته أخذت تتراجع. وكشف تقرير ورد في تلك الفترة عن خلاف وتنازع داخل الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين يتمحور حول الموقف الذي ينبغى اتخاذه بخصوص اتفاق الفدائيين مع الأردن، وحسبما راج افتراض التقارير، فإن حبش كان يعارض قبول الاتفاقية التي توصلت إليها قيادة الفدائيين الموحدة، في حين كانت لجنة الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين الايديولوجية تحبذ قبولاً ظاهرياً لمنح الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين وقتاً إضافياً للمناورة، إلا أنها ظلت تتبع نهجاً ايديولوجياً يعارض الاتفاق، وشعرت اللجنة بأن حبش كان استبدادياً وأن تصرفاته أنانية تضر بالجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، ووردت تقارير عن أحاديث دارت وفحواها أنه يجب “تصفية” حبش.

 

16.   تمويل الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين

ابتليت الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين بنقص في الامداد والافتقار إلى التمويل منذ تأسيسها، ولا سيما منذ انشقاق فبراير/ شباط عام 1969 الذي نجم عن خسارتها لمعظم تمويلها الذي كانت حركة القوميين العرب هي مصدره، واعتباراً من يوليو 1970 كان الوضع المالي للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين قد أخذ بالتدهور حسبما أوردت التقارير، إذ إن العراق والسودان كانا قد قلصا إلى حد كبير المدفوعات المباشرة التي كانا يمدان الجبهة بها، وفي مايو/ أيار من عام 1970 تلقت الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، حسبما أوردت التقارير نحو 850 ألف دولار من ليبيا، من دون علم العقيد معمر القذافي، إلا أن التقارير أكدت أيضا أن مدفوعات ليبيا للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين قد توقفت بالكامل في يوليو/ تموز من عام 1970.

هامش: (حذف هنا) اوقفت المعونات المالية لأن ليبيا كانت تعتقد أن الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين كانت متورطة في محاولة الانقلاب التي جرت في أواخر مارس/ أذار في ذلك البلد، ووفقاً لتقرير آخر في مايو/ أيار، فإن النظام الليبي استولى على منشورات ومستندات للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين تتهم ليبيا بالتدخل في الشؤون الفلسطينية الداخلية بدعمها لفتح).

(ثمة حذف هنا)، قد صرح بأن الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين كانت تمولها منذ ذلك الحين وبشكل أساسي الاشتراكات الفردية والاسهامات التي يقدمها الفلسطينيون، ودعم هذا التأكيد أبو خالد في منتصف يونيو/ حزيران من عام 1970، حيث قال أبوخالد، ممثل الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين في قيادة الكفاح المسلح الفلسطيني، إن الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين لم تكن تحظى بتمويل سوى ذاك الذي كانت تتلقاه عن طريق الاشتراكات والاسهامات الشخصية ولم تكن تتلقى أي تمويل حكومي (بما فيه التمويل من الاتحاد السوفييتي).

وهكذا تضافرت الاشارات لتوحي بأنه بحلول منتصف عام 1970 لم تكن الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين تتلقى سوى نزر يسير من العون من الحكومات العربية، وقبل هذا المنعطف تذبذبت علاقات الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين مع مختلف الدول العربية، إذ إن هذه الدول كانت تحاول استغلال هذه المنظمة والتحكم بها، وكما بينا آنفاً ظلت الجمهورية العربية المتحدة، وعلى مدى سنوات طويلة هي المصدر الرئيسي لتمويل حركة القوميين العرب، وكان كثير من مسؤولي هذه الحركة في الحقيقة عملاء استخبارات للجمهورية العربية المتحدة، ولهذا السبب ربما كان متوقعاً منها أن تحاول بسط نوع من الهيمنة على الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين وكان تصريح لحبش قد أوحى بأن مثل هذه المساعي قد بذلت بالفعل من قبل المصريين.

وصرح حبش في يوليو/ تموز من عام 1969 أنه التقى ناصر مرتين في الأشهر السابقة وأن ناصر أعرب عن تعاطفه مع الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين وعن استعداده لدعمها مالياً، إلا أن حبش أظهر كذلك أن المساعدة التي قدمت حقيقة كانت هزيلة جداً لا يعتد بها، أي بضع قطع من الاسلحة الخفيفة والعون الطبي.

وأيد (حذف هنا) آخرون مقولة حبش حين بين أنه على الرغم من الوعود بتقديم العون فإن الجمهورية العربية المتحدة لم تفعل شيئاً. ويشي هذا بالطبع بالشكوك التي كانت الجمهورية العربية المتحدة تكنها للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين حسبما أوردت التقارير، والريبة من توجهات الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين المتطرفة وعدم رضاها، الذي ظهر في مناسبات عدة عن التكتيكات العسكرية للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين. وعليه كانت ردود أفعال الجمهورية العربية المتحدة سلبية، حتى مايو/ أيار من عام 1969 حين وقعت عملية تخريب خطوط أنابيب النفط التي تمر بالجزيرة العربية، وفي ديسمبر/ كانون الأول من عام 1969 طلبت القاهرة من الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين أن توقف هجماتها على المرافق والمنشآت “الاسرائيلية” في الخارج على أساس أن مثل هذه الهجمات كانت تضر بعلاقات العرب بالبلدان التي تقع فيها تلك العمليات، ناهيك عن أن الطائرات العربية كانت مكشوفة وعرضة للعمليات الانتقامية “الاسرائيلية”.

وكان لحبش رحلة غزل طويلة متواصلة مع العراق، الذي أوردت التقارير أنه تلقاه بحميمية وحرارة وترحاب بالغ في أعقاب هربه عام 1968، من النظام البعثي المنافس للعراق في سوريا. في ذلك الوقت، أوردت التقارير ان العراق وعد حبش بأسلحة، إلا أن حبش قال لاحقا: إن الكمية التي جرى تسلمها بعد ذلك كانت “متواضعة” ووفقا لأحد المصادر فإن العراق قلص ما كان يمد به الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين من تمويل بحلول صيف عام 1970، وحسب مصدر آخر فإن العراق أوقف هذه المدفوعات بشكل كامل لأنه شعر بأن الجبهة الشعبية  لتحرير فلسطين كانت تتودد آنذاك إلى نظام سوريا المنافس للعراق، وثمة دليل على أنه برغم ما لقيه حبش سابقاً من معاناة وحبس في السجون السورية فإنه كان يتطلع في الحقيقة إلى الحصول على مساعدة سوريا في منتصف عام 1970 لأن وضع الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين المالي كان بائساً وآيلاً إلى الانهيار.

وفتش حبش كذلك عن العون خارج نطاق الشرق الأوسط، وفي حين أعرب حبش عن صداقة حميمية مع الدول الشيوعية فإن هذه البلدان لم ترد له التحية بأحسن منها ولم تمده بعون كبير. وتم ضم بعض أعضاء الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين إلى مجموعات الفدائيين التي كانت تتلقى التدريب في الصين، إلا أن بكين لم تقدم دعما غير هذا، وفي سبتمبر/ ايلول من عام 1970 زار حبش كوريا الشمالية والصين في محاولة للحصول على الدعم. وحسبما أودت بعض التقارير، فإنه تلقى بعض الوعود بعون مالي وعسكري من البلدين إلا أن هذا لم يبلغ مستوى ما كان يأمل فيه، وقال أيضا إنه واجه انتقاداً شديداً من الصينيين بسبب “روح المغامرة” التي طغت على سياسات منظمته وبسبب “اليسارية الطفولية”.

مع أن أحد التقارير زعم في عام 1968 أن تشيكوسلوفاكيا كان ترسل العون إلى الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، يبدو على الأرجح ان “العون” كان في الحقيقة مشتريات من الأسلحة، وخلال الفترة ما بين عامي 1968 و1969 أورد العديد من المصادر تقارير مفادها أن أسلحة الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين جميعها إنما اشتريت نقداً من جهات في القطاع الخاص، وأنها ابتيعت من تشيكوسلوفاكيا وايطاليا والجزائر ومن الجمهورية العربية المتحدة ولبنان. وفي سبتمبر/ايلول من عام 1970 ذكرت التقارير ان مجموعة من ستة مقاتلين من فدائيي الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين كانوا على أهبة السفر للتدريب في الاتحاد السوفييتي، إلا ان “تعثراً” طرأ بغتة، وربما حدث هذا التوقف نتيجة لعمليات الاختطاف أو لتفجر الأزمة في الاردن في سبتمبر/أيلول.

 

17.   الجبهة الديمقراطية تدعو إلى حرب شعبية طويلة الأمد

على الصعيد الإيديولوجي البحت، تعتبر الجبهة الشعبية الديمقراطية لتحرير فلسطين أكثر المنظمات الفدائية الفلسطينية راديكاليةً. ففي يوليو 1969، وصفها زعيمها نايف حواتمه بأنها حزب ماركسي لينيني ثوري مستقل بالكامل عن الأحزاب الشيوعية الرئيسية (كتلك في الاتحاد السوفييتي والصين)، وليست خاضعة لأية سلطات حكومية. وعلى كل حال، تنظر الجبهة الشعبية الديمقراطية لتحرير فلسطين إلى النضال الفلسطيني كجزء لا يتجزأ من النضال من أجل التحرر في بقية أنحاء العالم، كما تدعم التعاون بين جميع القوى المعادية ل “الإمبريالية”، و”الرجعية” في المعسكر الشيوعي خصوصاً.

وكانت الجبهة الشعبية الديمقراطية لتحرير فلسطين قد أصدرت بيانا في نوفمبر/ تشرين الثاني 1969، دعت فيه “الجماهير” إلى التحرك لتدمير المصالح الإمبريالية في الشرق الأوسط والإطاحة بالأنظمة الرجعية. وفي المظاهرة التي نظمتها الجبهة الشعبية الديمقراطية لتحرير فلسطين في ديسمبر 1969 في عمّان، ناشد حواتمه جميع الدول غير المتطورة إلى المشاركة في حركة تحرر وطني نابعة “من رغبة وقوة الجماهير”، وحثت الجبهة الشعبية الديمقراطية لتحرير فلسطين بشكل خاص إخوانها في الكويت والجزائر والعراق والأردن للإطاحة بحكوماتها. وفي مؤتمرها السنوي الذي عقد في أغسطس 1970، دعت الجبهة الشعبية الديمقراطية لتحرير فلسطين، مرة أخرى، إلى تصفية فورية للنظام الأردني عن طريق الحرب الأهلية، وحثت على تشكيل “سلطة ثورية” في الأردن لتهيئة البلد للتصدي لخطة روجرز للسلام. وتقرر خلال هذا المؤتمر أيضا، أن علاقة الجبهة الشعبية الديمقراطية لتحرير فلسطين مع كل دولة غير عربية تقوم فقط على أساس رغبة تلك الدولة في التصدي لأي حل سلمي لقضية فلسطين. وفي الوقت الذي تم فيه إحباط محاولات طرح خط مؤيد لماو تسي تونج، واعتبار الاتحاد السوفييت عدواً للثورة، شجب المؤتمر موقف السوفييت الداعم لحل سلمي.

تتمثل الاستراتيجية العسكرية الرسمية للجبهة الشعبية الديمقراطية لتحرير فلسطين، في حرب شعبية شاملة طويلة الأمد، وقد قال حواتمه إن الشرق الأوسط يجب أن يتحول إلى فيتنام ثانية. والجبهة الشعبية الديمقراطية لتحرير فلسطين تتفق من حيث المبدأ، مع موقف الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، بأن المصالح “الاسرائيلية” والأمريكية في الشرق الأوسط هي أهداف مناسبة لهجمات إرهابية. وعلى كل حال، قامت الجبهة الشعبية الديمقراطية لتحرير فلسطين ببضع عمليات من هذا النوع، ولكنها تختلف مع الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين في أنها يجب أن تنتظر حتى يشتد عودها وتصبح أقوى قبل القيام بعمليات متواصلة. فهي في الوقت الحالي، لا تملك القدرة المالية ولا التنظيمية للقيام بهجمات عديدة، أو حتى عمليات أقل من حرب الشعبية.

 

18.   تنظيم الجبهة الشعبية الديمقراطية لتحرير فلسطين

في ديسمبر/ كانون الأول 1969، أفادت التقارير أن الجبهة الشعبية الديمقراطية لتحرير فلسطين أعادت تنظيم نفسها. وحتى يوليو/ تموز 1970، كان المجلس العام أعلى سلطة في الجبهة، ويضم ممثلين منتخبين من كافة الوحدات التابعة لها.

ويمثل المجلس العام الهيئة التشريعية عملياً، حيث يقوم بصياغة السياسة العامة، وتحديث القوانين الداخلية وغير ذلك. ويعقد المجلس العام اجتماعاً سنوياً ما لم يدع لعقد جلسة طارئة، ومن المفترض نظريا، أنه يختار اللجنة المركزية التي بدورها تختار أعضاء المكتب السياسي الذي يعد عمليا، أقوى هيئة في الجبهة. وهذا المكتب هو الذي يتولى إدارة الجبهة يوما بيوم ويترأسه الأمين العام (حواتمة). [هامش: من بين الأعضاء الآخرين في المكتب التنفيذي في عام 1970، كان هناك صلاح رفعت، الذي يقال إنه يترأس الجناح العسكري في الجبهة الشعبية الديمقراطية لتحرير فلسطين؛ وأديب ربه (المعروف ب ياسر عبد ربه) مسؤول الإعلام والدعاية؛ وبلال الحسن، ممثل الجبهة الشعبية الديمقراطية لتحرير فلسطين في اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية والناطق باسم الجبهة الشعبية الديمقراطية لتحرير فلسطين، وهو شقيق كل من خالد وهاني الحسن، القياديين في فتح؛ وأبو ليلى (الاسم الحركي)، ومحمد كتموتو، وهناك عضو آخر حسب التقارير، هو سامي ضاحي، الذي قيل إن الجبهة الشعبية الديمقراطية لتحرير فلسطين في مايو 1970، ستنفذ فيه حكم الإعدام لقيامه بتعذيب وإعدام أعضاء من الجبهة من دون تحقيق مناسب. وأشار تقرير للمؤتمر السنوي في أغسطس 1970، إلى أن بلال الحسن وخالد هندي قد استقالا من المكتب السياسي اعتراضاً على القرارات التي اتخذت خلال المؤتمر. وعلى كل حال أدرجهما هذا التقرير كعضوين في اللجنة المركزية الجديدة إلى جانب ضاحي، الذي على ما يبدو أنه تمت تبرئة ساحته من تهمة التعذيب غير المصرح به.]

ولدى الجبهة الشعبية الديمقراطية لتحرير فلسطين عدد من اللجان التي تم تأسيسها للبحث في القضايا التنظيمية والتأديبية، وإدارة الخطط والبرامج. وكما هو معروف، فإن أصغر وحدة في الأحزاب الشيوعية هي الخلية التي ترفع التقارير إلى اللجنة المحلية التي بدورها ترفعها إلى اللجنة الإقليمية. فعلى سبيل المثال، هناك لجنة محلية في كل قاعدة عسكرية من قواعد الجبهة الشعبية الديمقراطية لتحرير فلسطين، ويكون قائد القاعدة هو مسؤول اللجنة المحلية، وأيضا عضو اللجنة الإقليمية. ولدى المنظمة مجموعة كبيرة من الضوابط والعقوبات الداخلية.

هناك تباين كبير في التقديرات الخاصة بالقوة العسكرية للجبهة الشعبية الديمقراطية لتحرير فلسطين، ولكنها على الأرجح تصل إلى بضع مئات من المقاتلين كحد أقصى. وتبعا لأحد المصادر، عندما انقسمت الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين في فبراير 1969، كان لدى الجبهة الشعبية الديمقراطية لتحرير فلسطين 30 عضوا فقط، معظمهم من القياديين في حركة القوميين العرب، ولكن بحلول صيف ذلك العام، وصل عدد أفراد الفدائيين في الجبهة إلى 600، وقد تكون هناك مبالغة في ذلك. ففي أغسطس/ آب 1970 ذكر أحد التقارير أن عدد الفدائيين في الجبهة 240 فقط إلى جانب 3900 “عضو” تقريبا، وقد يشير الرقم الأخير الدعم السياسي المتنامي لها في الشرق الأوسط. [هامش: على غرار الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، تقدم الجبهة الشعبية الديمقراطية لتحرير فلسطين الدعم لإحدى المجموعات المنبثقة عن حركة القوميين العرب في لبنان. وتمتلك هذه المجموعة نحو 1000 عضو بينهم 200 مسلح، كما تدعم الحزب الشيوعي اللبناني الموالي لبكين. كما ترتبط الجبهة بعلاقة صداقة مع حزب البعث السوري. في أوائل 1970، أفاد مصدر بأن المجموعة اليسارية اللبنانية المنبثقة عن حركة القوميين العرب (المكافئة للجبهة الشعبية الديمقراطية لتحرير فلسطين) قامت بتأسيس حزبها الخاص وأسمته الحزب الاشتراكي اللبناني، برئاسة محسن إبراهيم (من بين آخرين)، رئيس تحرير مجلة "الحرية" التي تشكل جزءا من المجموعتين. وعليه كانت المجموعتان ترتبطان بعلاقة وثيقة]. ومن جهة ثانية، أشارت تقديرات أخرى إلى أن الجبهة الشعبية الديمقراطية لتحرير فلسطين تمتلك 700 مقاتل. ويقال إن فدائيي الجبهة الشعبية الديمقراطية لتحرير فلسطين صغار في السن – تتراوح أعمار معظمهم بين 15-20 سنة، وليسوا فاعلين كثيرا.

وقيل أيضا إن الجبهة الشعبية الديمقراطية لتحرير فلسطين تعاني من حالة تفكك في أعقاب الحرب الأهلية الأردنية بسبب فشلها في تحقيق صورتها ك “طليعة تقدمية” للثورة ضد النظام، وبالتالي خسرت الدعم الشعبي. وخلال المعارك، بدا حواتمة أنه لا يمتلك قناة اتصال مباشر مع قادة الجبهة الشعبية الديمقراطية لتحرير فلسطين الآخرين، وقام بعرقلة قراراتهم الرامية إلى تقويض سلطته. وعليه، ذهب إلى سوريا في أوائل أكتوبر لإعادة ترسيخ زعامته. وقيل إنه حتى أواخر أكتوبر، كان حواتمة وغيره من قياديي الجبهة الشعبية الديمقراطية لتحرير فلسطين، يديرون المنظمة من دمشق التي أصبحت قاعدة لعمليات الجبهة التي قيل إنها تعاني من أزمات مالية صعبة جدا.

 

19.   تمويل الجبهة الشعبية الديمقراطية لتحرير فلسطين

جابهت الجبه الشعبية الديمقراطية لتحرير فلسطين مشاكل مالية متواصلة في الحقيقة، فمنذ منتصف عام 1969 لم تكن هذه المنظمة، حسبما أوردت التقارير تتلقى تمويلاً من أي دولة، وكانت تعتمد على اسهامات ضئيلة تردها من فروع الجبهة الشعبية الديمقراطية لتحرير فلسطين في بلدان عربية أخرى، لا سيما الكويت، واسهامات من الطلبة العرب ومن جامعات أوروبا وأمريكا، كما اعتمدت أيضا على جماعات تجمع التبرعات في الأردن. وكان حواتمة قد صرح في منتصف عام 1969 أن فدائيي الجبهة الشعبية الديمقراطية لتحرير فلسطين لم يكونوا يتلقون رواتب بل كان الطعام والسكن والكساء هو كل ما يحصلون عليه، وان كل قاعدة من قواعد الجبهة الشعبية الديمقراطية ينبغي أن تعول على الاكتفاء الذاتي، بحيث تجمع الهبات والاسهامات من الأهالي، وبحلول ربيع عام 1970 كانت اسهامات واشتراكات الجبهة الشعبية الديمقراطية قد هبطت بشكل حاد عن المستوى المتدني الذي كانت عليه من قبل، حسبما أوردت التقارير وذلك بسبب سوء الوضع الاقتصادي العام في الأردن. وواجهت هذه المنظمة متاعب جمة لمجرد أنها كانت عاجزة عن تغطية مصاريف وكلفة نشاطاتها التي جرى تعليق الكثير منها جراء ضيق ذات اليد. وقيل بحق تلك الفترة ان الصندوق كان يعاني من المديونية، وكان عاجزاً حتى عن شراء الاسلحة.

لذا كانت حيازة الاسلحة مشكلة مزمنة عويصة لازمت الجبهة الشعبية الديمقراطية لتحرير فلسطين دهراً مديداً وأعياها حلها، وقبل تشكيل قيادة الفدائيين المشتركة للكفاح المسلح الفلسطيني في فبراير/ شباط من عام 1969 التي سمحت للجبهة الشعبية الديمقراطية من خلالها أن تشتري بعض الاسلحة لفترة وجيزة، اضطرت الجبهة الشعبية الديمقراطية الى تكبد كلفة باهظة لشراء الأسلحة من السوق السوداء في الأردن. وفي يونيو/ حزيران من عام 1969، أكد أحد قادة الجبهة الشعبية الديمقراطية لتحرير فلسطين أن الجبهة تواجه تارة اخرى صعوبات في الحصول على الاسلحة لأنه لم تكن هناك حكومة عربية واحدة تمدها بها. (هامش: كانت علاقات الجبهة الشعبية الديمقراطية لتحرير فلسطين سيئة مع معظم الدول العربية، ربما باستثناء سوريا، وأغلقت الجمهورية العربية المتحدة مكتب الجبهة الشعبية الديمقراطية لتحرير فلسطين في القاهرة في يونيو/ حزيران عام 1969، لأنه قيل إن الجبهة كانت تقوم بنشاطات تخريبية هدامة ضد الانظمة العربية “البرجوازية”.وعندما انشقت الجبهة الشعبية الديمقراطية لتحرير فلسطين عن الجبهة الشعبية الديمقراطية التسمت، حسبما أوردت التقارير العون من الكوبيين والصنيين، ولم تعرض كوبا سوى تدريب الفدائيين، وقيل إن الصينيين أيضا رفضوا مد يد العون،. باستثناء توفير بعض التدريب، إلى ان تبدي الجبهة الشعبية الديمقراطية تحولاً نحو ما اعتبرته بكين نهجاً ماركسياً لينينياً أكثر انضباطاً، وكانت بكين تعني بهذا على ما يظهر وبوجه خاص اقامة قاعدة للعمليات داخل المناطق المحتلة وانهاء العمليات الارهابية، التي كانت تنعت من قبل الصينيين بأنها “نزعة مغامرة” وفي يونيو/ حزيران من عام 1969 صرح أحد قادة الجبهة الشعبية الديمقراطية لتحرير فلسطين، واسمه محمد كشلي انه في التحليل النهائي لم يكن الصينيون قادرين على مساعدة العرب، في حين كان بإمكان الاتحاد السوفييتي القيام بذلك، حتى ولو أن السوفييت كانوا يعارضون الحل العسكري للقضية الفلسطينية.كان تصريح كشلي يمثل بداية تحوّل تدريجي في توجهات الجبهة الشعبية الديمقراطية وما تركز عليه من أولويات، ويكشف عن تباعد مذهل ما بين مواقف الجبهة الشعبية الديمقراطية لتحرير فلسطين النظرية (التي تميل نحو الصين) وموقفها العملي (إذ ابتغت العون من الاتحاد السوفييتي).

وفي مارس/آذار من عام 1970 قال حواتمة إنه رفض دعوة وجهتها اليه الصين لزيارة بكين لأنه كان يأمل بتلقي عون سوفييتي. (هامش: في مارس من عام 1970 كان هناك وفد من الجبهة الشعبية الديمقراطية لتحرير فلسطين في موسكو في محاولة للتفاوض من أجل شحن مباشر للأسلحة عبر ميناء اللاذقية السوري، إلا ان الجبهة لم تتلق مثل هذه الشحنة في صيف عام 1970)، ولم يضم وفد منظمة التحرير الفلسطينية الذي زار الصين في مارس/آذار من عام 1970 الجبهة الديمقراطية.

في أواخر يونيو/حزيران من عام 1970 صرّح مصدر في الجبهة الشعبية الديمقراطية لتحرير فلسطين بأن منظمته كانت تعارض في الأصل زيارة وفد منظمة التحرير الفلسطينية لموسكو في فبراير/شباط لأن الجبهة الديمقراطية كانت تعتبر السوفييت “يمينيين”، لكنها تحولت بعد ذلك إلى “موقف مستقل” ينادي بقبول العون من أي مصدر كان. وترجحت بهذا الصدد نظرية أن هذا التحول إنما أملاه الأمل الذي راود الجبهة الديمقراطية بأن يؤمن الاتحاد السوفييتي مثل هذا الدعم إلا ان العديد من المصادر أكدت أنه ومنذ يونيو/حزيران من عام 1970 لم يتم استلام اي عون سوفييتي، وأشار مصدر في الجبهة الشعبية الديمقراطية لتحرير فلسطين إلى أنه على الرغم من تغيير التكتيكات التي طرأت فإن الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين ظلت معارضة للاتحاد السوفييتي من حيث المبدأ لأسباب شتى، بما فيها مواقف السوفييت فيما يتصل بالتسوية السلمية ووجود “اسرائيل”، وأشارت مصادر أخرى في الجبهة الشعبية الديمقراطية لتحرير فلسطين الى الاستياء من استعداد الاتحاد السوفييتي لتقديم العون لفتح “الرجعية”، وأكدت ان السوفييت لا يسعهم تلقين أعضاء الجبهة الشعبية الديمقراطية لتحرير فلسطين وتدريبهم سياسياً لأن هذه المنظمة كانت تعتبر نفسها أكثر لينينية وماركسية من السوفييت أنفسهم.

وتلقت الجبهة الشعبية الديمقراطية لتحرير فلسطين بعض الدعم والمساعدة من فتح في بداية انطلاقتها. وجاء هذا التحالف غير المألوف أو المتوقع ثمرة لرغبة عرفات بتقويض زعامة حبش، الذي كان من الجلي أنه أكبر منافس له على قيادة حركة الفدائيين. وكانت فتح والجبهة الشعبية الديمقراطية لتحرير فلسطين على طرفي نقيض على أية حال، وتباعد بينهما اختلافات جذرية كبرى تستعصي الحفاظ على علاقات ودية وطيدة. وفي أواسط عام 1969 قال مصدر في الجبهة الشعبية الديمقراطية لتحرير فلسطين إن علاقات منظمته مع منظمة التحرير الفلسطينية لم تعد حميمة وإن قيادة الكفاح المسلح الفلسطيني التي تسيطر عليها فتح قد توقفت عن إمدادها بالسلاح وأنها منعت أعضاء الجبهة الشعبية الديمقراطية من النقاش الايديولوجي أثناء اجتماعات قيادة الكفاح المسلح الفلسطيني، لأن هذه القيادة لم تكن تريد ان يرتبط اسمها بالبرنامج والمنهج الايديولوجي والسياسي الراديكالي للجبهة الشعبية الديمقراطية لتحرير فلسطين، وكانت تبتغي النأي بنفسها عن تلك المناخات الجدلية الفكرية.

هامش: “جمدت” أي علّقت الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين علاقاتها مع قيادة الكفاح المسلح الفلسطيني في ديسمبر/كانون الاول من عام 1969.

فيما أشاحت الجبهة الشعبية الديمقراطية بوجهها، وتحولت عن فتح بعد أن تدهورت العلاقات واحتدم الخلاف، أقامت تحالفاً قصير الأجل مع منظمة الصاعقة الفدائية السورية وفي ديسمبر/ كانون الأول من عام 1969 التقى في دمشق زعيم الجبهة الشعبية الديمقراطية لتحرير فلسطين نايف حواتمة ومحسن ابراهيم بصلاح جديد الأمين العام لحزب البعث الحاكم في سوريا، الذي وعدهما بتقديم العون إذا أوقفت صحيفة الجبهة الشعبية الديمقراطية لتحرير فلسطين “الحرية” انتقادها لسوريا. ولم يتم التثبت مما إذا كان السوريون قد قدموا الدعم أم لا، إلا أن هذا التودد كانت النتيجة المنطقية للتحالف الوجيز للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، منافسة الجبهة الشعبية الديمقراطية لتحرير فلسطين مع منافس سوريا، البعث العراقي.

وفي اكتوبر/ تشرين الأول من عام 1968 انسحب أحمد جبريل من الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، وترجح الافتراض بأنه جر معه في غمرة انسحابه العناصر ذاتها التي كان أتى بها إلى الجبهة الشعبية الديمقراطية في ديسمبر/ كانون الأول من عام 1967. وأطلق جبريل على جماعته الجديدة المنشقة اسم الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين  القيادة العامة. وكانت حجته ووجهة نظره التي دفعته للإقدام على هذه الخطوة أن حركة القوميين العرب قد أخلّت باتفاقها الأصلي بألا تسعى لفرض أيديولوجيتها على جماعة من الفدائيين، وزاد جبريل بأن اتهم حركة القوميين العرب بأنها جعلت شغلها الشاغل التدخل بالشؤون الداخلية للدول الأخرى بدل أن يكون قتال “اسرائيل” هو همها الأكبر.

والقيادة العامة هذه جماعة صغيرة جداً (ربما لم يكن عدد أعضائها يربو على المائة)، إلا أنهم كانوا على مستوى عال من التدريب العسكري، كما أوردت التقارير أنهم على درجة رفيعة من الاقتدار التقني والمهارة والكفاءة، ولا سيما عام 1969، كانت “القيادة العامة” ثلاثة أقسام، الجناح العسكري برئاسة جبريل، والجناح السياسي برئاسة فضل شرورو، والجناح المالي برئاسة زكي الشهابي، الذي أنيطت به مهمة جمع التمويل.

ونفت القيادة العامة وجود أي نية لديها أو رغبة بالاطاحة بالحكومات العربية أو التعدي على أو تقويض سيادة تلك الدول.

وكان من المعتاد أن تتخذ القيادة العامة مواقف معتدلة نسبياً تجاه حكومة الأردن. ومن ناحية أخرى، كانت هذه القيادة عضواً في قيادة الفدائيين الموحدة التي أنشئت في فبراير/ شباط عام 1970 لمقاومة الضغوط الأردنية. وعلاوة على ذلك، تبنى جبريل والقيادة العامة موقفاً معانداً ومتصلباً جداً خلال حرب سبتمبر/ أيلول 1970 في الأردن. وكانت هذه المنظمة الناشئة تمانع في وقف إطلاق النار وترفضه.

ويقال إن القيادة العامة تكبدت خسائر فادحة خلال حرب الأردن الأهلية، وقررت في نهاية المطاف مترددة بعد أزمة، الموافقة على الالتزام بشروط وقف اطلاق النار وهي تضمر امتعاضاً شديداً، وذلك كي تحاول إعادة بناء قواتها. ولدى القيادة العامة خطة طوارئ تتحول بمقتضاها إلى العمل السري تحت الأرض إذا ما حاول الأردنيون تصيفتها.

ولطالما عانت القيادة العامة من مشكلة مالية عويصة مزمنة، وتقدمت بطلبات عدة لجهات شتى التماساً للعون. وزار جبريل العراق في عام 1969 في محاولة للحصول على أسلحة. وأوردت التقارير أن القوات العراقية في الأردن وافقت في أوائل عام 1968 على تزويد القيادة ببعض الأسلحة. وأوردت التقارير أن الجمهورية العربية المتحدة قامت في أعقاب انفصال جبريل عن الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين مباشرة في عام 1968 بإمداد جماعته بحوالي 150 قطعة سلاح. ورغم ما راج من تكهنات في تلك الآونة حول أن جبريل كان يحظى بدعم السوريين، لم تظهر إشارات وبينات لاحقة تؤيد مزاعم دعم السوريين لجماعته. وفي أغسطس/ آب من عام 1970 زار ممثل عن القيادة العامة دمشق التماساً للعون، إلا أنه عاد، حسبما قيل بخفي حنين، وأخبره السوريون بأنهم لن يسمحوا أبداً بانطلاق أي عمل فدائي ضد “اسرائيل” تقوم به أي جماعة من الأراضي السورية.

كما زار وفدان من القيادة العامة المملكة العربية السعودية في أواسط عام 1969 في محاولة غير ناجحة للحصول على تمويل. وقيل إن جبريل كان يفكر بمسعى آخر في أغسطس/ آب عام 1969، وخطط كي يقوم التماسه الجديد على أساس ما دعاه بالنهج المحافظ الجديد للقيادة العامة (أي الاتجاه الأكثر مسايرة وموالاة للسعودية)، في أعقاب الردة عن نهجه التي تولتها الأجنحة الناصرية الميول ضمن جماعته (وهي تحمل الآن اسم منظمة فلسطين العربية). وخطط جبريل أيضاً في تلك الفترة على أية حال للتهديد بتخريب خطوط أنابيب التابلاين إذا رفض السعوديون، موضحاً أن جماعته هي الوحيدة التي تمتلك الخبرة لإنجاز مثل هذه المهمة، وأن القيادة العامة هي التي عملت ودربت الجبهة الشعبية على القيام بنجاح بعملية نسف وتخريب الخطوط في مايو/ أيار من عام 1969. وليس ثمة من دليل يؤكد أن توسلاته وتهديداته أجدت نفعاً مع السعوديين.

وفي عام 1969 استطاعت القيادة العامة تدبر أمر شراء بعض الأسلحة من أوروبا الشرقية. وعندما انهارت المفاوضات مع بلغاريا، جرى شراء 150 بندقية كلاشنكوف من البولنديين، وكان نائب جبريل محمد بوشناق هو من نجح في إبرام الصفقة. وتم الاتفاق على شحن البنادق إلى القيادة العامة عبر العراق.

 

Share
Click to listen highlighted text! Powered By GSpeech