كتب عادل حموده في الاهرام
تطلع ضابط الجوازات في مطار القاهرة إلي وجه السائح الأوروبي الأشقر أمامه
هو وزوجته في هدوء وثقة.. لكن.. أكثر من شيء أثار الشك والريبة في نفس الضابط.
إن السائح يحمل اسما مصريا هو حسن كامل
وفي الوقت نفسه لايعرف كلمة عربية واحدة, كما أنه ألماني, ولكنه يحمل الجنسية السويسرية, كذلك فإن فترة بقائه في مصر تمتد شهورا طويلة, لكن قبل أن يفصح الضابط علي ما جال في خاطره فوجئ برئيسه في الوردية يشير إليه بوضع ختم الخروج علي جواز سفر السائح وتركه يمر, فنفذ الأمر بسرعة وإن لم يبعد نظره عن الرجل وزوجته حتي اختفيا بعيدا في صالة السفر.
سافر حسن كامل هو وزوجته إلي جزيرة سيلت القريبة من الحدود الدانماركية الألمانية, وهناك قضيا عدة أيام للاستجمام قررا بعدها السفر إلي مسقط رأسه دسلدورف علي متن طائرة خاصة استأجرها, لكن قبل الإقلاع بساعات حدث شيء ما جعله يلغي رحلته, وترك زوجته تسافر بمفردها, وبعد أن أقلعت طائرتها بدقائق انفجرت في الجو.
كان ذلك في صيف1962 بعد أيام معدودة من تجربة إطلاق الصاروخين القاهر والظافر, التي شهدها جمال عبد الناصر في قاعدة غرب القاهرة الصحراء الجوية أمام عدد هائل من مراسلي الصحف العالمية, وكان حسن كامل أو الدكتور بول جيركه قد شارك في صناعتهما ثم غادر القاهرة وكان ما كان, فقد زوجته في انفجار مدبر كان متوقعا أن يذهب هو أيضا ضحيته, ولم يكن من الصعب اتهام المخابرات الإسرائيلية بارتكاب الحادث فقد صاحبه حملة دعائية صهيونية ضد مصر التي تستخدم علماء نازيين في تطوير أسلحتها التقليدية, كما أن تجربة إطلاق صاروخين مصريين بنجاح ما كانت تمر دون إسالة دماء كثيرة, فاسرائيل منذ زمن بعيد تصر علي أن تتربع هي وحدها علي عرش الأسلحة غير التقليدية في المنطقة بأسرها, تقتل في سبيل الحصول عليها, وتقتل حتي تمنع العرب وعلي رأسهم مصر من الحصول عليها.
كان العلماء الألمان قد تشردوا في الأرض بعد هزيمة بلادهم في الحرب العالمية الثانية وعملوا في الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي وفرنسا وبريطانيا وكندا ليقدموا خبرتهم مقابل إقامة وحماية وجواز سفر, وكانت مصر من الدول التي فتحت أبوابها لهم قبل ثورة يوليو أيام الملك فاروق, وكان من بينهم الدكتور ويلهام فوس خبير الذخائر الحربية, والدكتور بول جيركه المتخصص في الإلكترونيات وصناعة الصواريخ, والدكتور جوهانيس فون ليرز مساعد الدكتور جوزيف جوبلز وزير الدعاية النازية الشهير, وحسب المصادر الإسرائيلية كان في مصر نحو500 عالم ألماني علي مستوي عال من الخبرة والكفاءة, وقد فضل بعضهم الامتزاج التام بالمجتمع وغيروا أسماءهم إلي أسماء عربية, مثل جورجن كنيتش ضابط الثقافة النازية السابق في يوجوسلافيا الذي عرف باسم محمد حسين, ومثل ضابط الصاعقة أورلنج كراوس الذي عرف باسم محمد أكبر, ومثل ضابط المخابرات النازية البروفيسور ويلهام فاهرمباخر الذي عرف باسم الدكتور عمر أمين, ولم يجد جمال عبد الناصر أفضل منهم في تأسيس جهاز مخابراته والعمل كخبراء تسليح, وشجع ذلك غيرهم إلي اللجوء إلي مصر, فكان أن وصل إلي القاهرة سرا البروف
يسور فولفاجنج بيلز الرجل الثاني في صناعة الصواريخ الألمانية.
يقول ريتشارد ديكون مؤلف كتاب المخابرات الإسرائيلية المنشور في لندن عام1979 عن دار شبربوكس:إنه في نوفمبر1959 وقع مدير مخابرات الطيران محمد محمود خليل عقدا باسم الحكومة المصرية مع مصانع ويلي شميت للاستفادة بخبرتها في صناعة الطائرات التي تبيعها إلي حلف الأطلنطي, وبعد توقيع العقد انضم إلي العلماء الألمان في مصر البروفيسور يوجين سانجر مدير معهد دراسات الدفع النفاث في شتوتجرت المتخصص في أبحاث الصواريخ, وقد جاء ومعه12 مهندسا وعالما من ألمع تلاميذه, وطبقا للعقد بين مصر ومؤسسة ويلي شميت انشيء مصنع36 حربي لتصنيع أجزاء الطائرات الأسرع من الصوت, لكن سرعان ما تعرضت هذه المؤسسة إلي ضغوط هائلة من المخابرات الأمريكية والإسرائيلية جعلتها تفسخ العقد وتسحب خبراءها, وراح المصريون يبحثون عن مواهب بديلة مشابهة.
وحسب معلومات ريتشارد ديكون( وهو ضابط سابق في المخابرات البريطانية وثيق الصلة بالموساد), أن المصريين بمساعدة العلماء الألمان قطعوا شوطا كبيرا في مجالات تصنيع الأسلحة المتطورة, فقد اقتربوا من صناعة الطائرة النفاثة بمساعدة البروفيسور فرديناند براندر, وابتكروا طريقة لحقن الصواريخ بالفضلات النووية( كوبالت)60 من خلال مشروع يسمي أبيس, وأعدوا كل مايلزم لإنتاج سلاح ذري بسيط أطلقوا عليه مشروع كليوباترا, وأجروا عدة تجارب علي القن
الجرثومية بمساعدة كيميائية شابة عاشت في القاهرة وعملت مع خبير في هذا المجال هو الدكتور هانز أيسيليه, وفكروا في إنتاج عينات من غاز الأعصاب الذي يعرف باسم تابون,وفي خريف1960 بدأوا تجارب إطلاق الصواريخ في الصحراء الغربية واستمرت هذ التجارب عامين, وعندما نجحت أطلق الصاروخ القاهر والصاروخ الظافر في الساعة التاسعة والدقيقة السابعة والأربعين من صباح يوم23 يوليو عام1962, كان مدي القاهر375 ميلا وكان مدي الظافر175 ميلا, وفي كتابه جاسوس في القاهرة يكشف محمود مراد أن الاسم السري للصاروخ المصري هو الأستاذ, وأن عدد الصواريخ التي أطلقت في ذلك اليوم أربعة, اثنان من كل طراز, وانهال الصحفيون الأجانب علي جمال عبد الناصر بالأسئلة:
س:ما هو الغرض من صنع الصواريخ؟
ج:الغرض من صنع الصواريخ هو صنع الصواريخ
س:إلي أي مدي يستطيع أن يصل الصاروخ؟
ج:القاهر يمكن أن يصل إلي جنوب لبنان
س:هل يصل الصاروخ إلي إسرائيل؟, وهنا قال جمال عبد الناصر كل صاروخ وأنتم طيبين.
في تلك اللحظة كانت إسرائيل في حالة هستيرية, وصرخ موشي ديان الجنرال المعجزة للعسكرية الإسرائيلية:إن المصريين سيقتلوننا عن بعد, سيقضون علينا دون أن يتركوا مدنهم, وعلي الفور وضعت خطة لتدمير قاعدة الصواريخ المصرية بضربها بالطائرات الإسرائيلية التي ستخترق المجال الجوي للقاهرة, ولكن بعد أسابيع من التدريب علي الخطة تراجعت القوات الجوية الإسرائيلية عن تنفيذها, وتركت فرصة للموساد كي يتصرف بطريقته الخاصة تصفية كل العلماء الأجانب الذين يعملون في برامج تطوير الأسلحة غير التقليدية في مصر, فكانت البداية تفجير الطائرة الخاصة التي كانت عليها زوجة بول جيركه, ثم بدأت التفجيرات تتوالي.
في10 سبتمبر من ذلك العام تقدمت زوجة هانز كروج ببلاغ إلي شرطة ميونخ باختفاء زوجها مدير مكتب شركة إنترا بشارع شيرلي, وهي شركة تجارية تبيع محركات الصواريخ وأجهزة التحكم الإلكترونية فيها, ويقول ريتشارد ديكون:إن هانز كروج باع من هذه البضاعة للمصريين بوفرة, وثبت من تحريات الشرطة أنه شوهد في يوم اختفائه يغادر مكتبه بصحبة رجل آخر اتضح فيما بعد أنه إسرائيلي, وبعد يومين وجدت سيارته مهجورة في مكان ناء خارج المدينة وسرت شائعة أنه قتل, وهكذا واصل الإسرائيليون الإرهاب.
وفي27 نوفمبر من تلك السنة وقع الحادث الثالث, كان الهدف هذه المرة البروفيسور فولفاجنج بيلز أحد العلماء الألمان في مصر, وكان قد حل محل البروفيسور يوجين سانجر, في ذلك اليوم فتحت سكرتيرته الحسناء هانيلور ويندي طردا باسمه مرسلا من محام في هامبورج, فإذا بالطرد ينفجر في وجهها فشوهه, وشوه رقبتها وصدرها ويديها, وفي اليوم التالي وصل طرد آخر عبارة عن صندوق من رقائق الخشب جاء من شتوتجارت جوا مرسل من مكتبة هناك وفيه أربعة كتالوجات, وما كاد يفتح بواسطة لجنة خاصة من رقابة البريد حتي انفجر في أعضائها, فمات خمسة منهم وجرح وأصيب تسعة غيرهم, وبعد أيام وصل طرد ملغوم ثالث من هامبورج مرسل إلي الدكتور بول جيركه في القاهرة كان يحتوي علي عدة كتب, لكن خبراء المفرقعات أبطلوا مفعولها, ونجا الرجل للمرة الثانية من الموت علي يد الموساد.
كان الهدف من وراء هذه الرسائل التي تحمل الموت في أحشائها هو إفزاع العلماء الألمان لإجبارهم علي ترك مصر, وعدم استكمال تلك البرامج الطموح لتطوير الأسلحة غيرالتقليدية, لكن السلطات المصرية لم تشر إلي تلك الحوادث طيلة خمسة أشهر, وكانت الإشارة فيما بعد عابرة في حديث صحفي أدلي به جمال عبد الناصر لجريدة غير مصرية ـ لكن المؤكد ـ كما يصف ريتشارد ديكون:أن المخابرات المصرية راحت تتحري الأمر في مصر وألمانيا, وتوصلت إلي أن أفرادا من أسر هؤلاء العلماء تلقوا تهديدات تليفونية ـ لم يعلن أصحابها عن أنفسهم ـ من الموت إذا ما استمر ذووهم في مصر يساندون برامجها النووية والصاروخية, وسرعان ما أصبح التهديد فعليا.
في فبراير1963 غادر خبير تركيب الصواريخ الدكتور هانز كلاينفاختر القاهرة في زيارة قصيرة إلي ألمانيا حيث كان لايزال يحتفظ بمعمل أبحاثه في مدينة لوراخ القريبة من الحدود السويسرية, وذات يوم هناك وبينما كان يقود سيارته في زقاق ضيق علي مقربة من بيت انحرفت فجأة وعن عمد سيارة أمامه وأرغمته علي التوقف, كان في السيارة ثلاثة أشخاص, نزل واحد منهم وتقدم إليه بعد أن اطمئن إلي أن الزقاق خال من البشر, ومن جانبه لم يشعر الدكتور هانز كلاينفاختر بالارتياح لمنظره فقد بدا أن شيئا ما شريرا فيه, أما الاثنان الآخران فقد بقيا في السيارة لايتكلمان سأله
الرجل:هل تعرف أين يقيم الدكتور شنكر؟, كان السؤال بريئا لكن الغرض لم يكن كذلك, كان الغرض دفعه إلي التفكير بعيدا, ولم تمر سوي ثوان حتي أخرج الرجل مسدسا كاتم الصوت وضغط علي الزناد, كان العالم الشهير الألماني محظوظا إذ حطمت الرصاصة زجاج السيارة الأمامي, غير أنها لم تصبه بأذي فقد دفنت في تلفيحة شتوية سميكة كان يلف بها رقبته, وحسب ما أضافه ريتشارد ديكون فإن الجاني أسرع إلي سيارته التي انطلقت علي الفور.
كان الهدف ترك رسالة إلي المصريين نحن وراء علمائكم في كل مكان, إننا من القوة بحيث لايصعب علينا هدف, وبالرغم من ذلك عاد الرجل إلي عمله في القاهرة.
في مارس1963 تلقت هايدي ابنة العالم بول جيركه مكالمة تليفونية في بيت عائلتها في مدينة فرايبورج حيث تعيش مع جدتها وشقيقها رينيه, كانت المكالمة من عالم نمساوي اسمه إوتو فرانك جو ليك, كان يعمل مع والدها في القاهرة ثم ترك العمل بحجة الخوف علي حياته, لكنه في الحقيقة كان قد اقتنع بأن يكون عميلا لإسرائيل. قال جوليك:هايدي إن حياتكم في خطر إذا لم يمتنع والدك عن تصنيع الأسلحة للمصريين, ثم طلب منها أن تلقاه في فندق دراي كوينجين, أو الملوك الثلاثة في مدينة بال السويسرية, واعتقدت الشرطة التي كانت ترقب ما يجري أن ثمة تهديدا وراء اللقاء, وطلبت الشرطة الألمانية من سلطات مدينة بال المراقبة وتسجيل اللقاء, وفي الموعد المحدد جاءت هايدي وشقيقها رينيه وبعد دقائق انضم إليهما جو جوليك وكان معه إسرائيلي اسمه يوسف بن جال, ومن جديد كرر جوليك تهديده طالبا من هايدي التأثير علي أبيها حتي يعود, وأضاف بن جال:بل عليك أن تسافري إليه وتعودي وهو معك ونهضت هايدي منفعلة, وغادر الرجلان الفندق.
ويكمل ريتشارد ديكون روايته قائلا:إن الرجلين استقلا القطار إلي زيوريخ وهناك تناولا الطعام في مكان قريب من البحيرة ثم عاد جو جوليك إلي محطة القطار, وهناك قبض عليه, بينما اتجه بن جال إلي القنصلية الإسرائيلية ولكن قبل أن يدخلها اعتقل, وبعد أسبوعين اتهما جنائيا بأنهما عميلان لدولة أجنبية قاما بتهديد الآنسة هايدي جيركه, لكن الأهم أن ما جري تسبب في استقالة رئيس الموساد في ذلك الوقت إيسرهرئيل بعد أن توترت العلاقات بين ألمانيا وسويسرا وإسرائيل, ونشاط الموساد المشبوه هناك.
لقد كون الموساد جمعية سرية اسمها الحركي جيدون, هي المسئولة عن الطرود الملغومة المرسلة إلي مصر, ولم ينف إيسرهرئيل ذلك, ولم يتبرأ من عملائه الذين وصل بهم الأمر إلي الفضيحة والمحاكمة, لكن في الوقت نفسه استثمرت إسرائيل ما جري في دعاية مبالغ فيها ضد ما وصفته بأسلحة الدمار المصرية التي يصنعها جمال عبدالناصر بمعاونة العلماء الألمان الذين وصفتهم بالهتلرية, وقال دفاع جوليك وبن جال:إن المصريين اشتروا من ألمانيا خامات وأجهزة تكفي لتصنيع900 صاروخ سينتجوها في مصنع333 الحربي, وزعم جوليك أنه ترك عمله في مصر حينما شعر أن النية تتجه لإبادة اليهود, ويعترف ريتشارد ديكون بأن ضغوطا ما مورست علي سويسرا جعلتها تخفف الحكم علي المتهمين فلم يزد علي السجن لمدة شهرين, وهي مدة أقل من التي قضياها علي ذمة القضية.
ورغم أن ديفيد بن جوريون اعترف في مذكراته إسرائيل تاريخ شخصي, إن ماقيل عن تصنيع مصر لأسلحة الدمار هو أمر مبالغ فيه فإن ذلك لم يمنعه من أن يفعل المستحيل للقضاء علي كل هذه المحاولات في مهدها, إن مافعلته إسرائيل مع مصر في الستينيات هو نفسه ما تفعله الولايات المتحدة لمصلحة إسرائيل الآن, القانون واحد, والأسلوب واحد, وما أشبه الليلة بالبارحة.
المصدر
http://www.ahram.org.eg/Archive/2003/3/22/WRIT2.HTM