Click to listen highlighted text! Powered By GSpeech
Get Adobe Flash player
مستمرين معاكم بإذن الله 2008-2024 **** #لان_لجيشنا_تاريخ_يستحق_أن_يروي **** ***** إنشروا تاريخنا وشاركونا في معركة الوعي **** تابعونا علي قناة اليوتيوب 1100+ فيديو حتي الان **** تابعونا علي صفحات التواصل الاجتماعي** أشتركوا معنا في رحلاتنا لمناطق حرب أكتوبر **** يرجي استخدام خانة البحث **** *** تابعونا علي تليجرام - انستجرام - تويتر

عقيد - مجدي شحاته - بطل الصاعقه- الجزء الثاني


أحداث أول نوفمبر 1973م:

تحركنا قبل آخر ضوء بحوالي ساعتين إلى منطقة خيام البدو وصعدنا جبل يشرف على المنطقة وراقبنا المنطقة بالنظارة المكبرة ووجدنا بعض نساء البدو يوقدون النار ويقمن بإعداد خبز لهم والبعض يجمع الحطب وشابًا يتحرك في المنطقة وبعض الماعز في فناء صغير، وظللنا نتابع وكان بعض البدو يخرجون من الخيام ويعودون مرة أخرى ولم نر عليًا أو صبحي حتى نتحدث إليهم وكدنا نعود إلى مكاننا ولكن وجدنا شاب من البدو يتحرك نحونا ويصعد الجبل في اتجاهنا وثبتنا في مكاننا ووصل إلينا وحيانا ورددنا تحيته وتكلم معنا في شك واضح ولكنه كان بشوش الوجه حلو الملامح صغير السن وكانت لهجته فيها ألفة واضحة، وسألناه عن علي وصبحي فأجاب أنهما موجودان وأضاف ببراءة أنه يريد أن يطمئن على أننا مصريون ولسنا يهودًا، لأنه غير مصدق لوجود مصريين بهذه المنطقة حتى الآن وكان يشك في شكلي بالذات لأنني كنت فاتح البشرة ولون شعري وذقني يميل للاصفرار وضحكنا، ومن كلامنا اطمأن وكان سعيدًا بنا وكان يريد التحدث معنا كثيرًا حيث أنه لم ير مصريين منذ فترة طويلة، وكررنا سؤالنا عن علي وصبحي فأجاب أنهم غير موجودين الآن وعند عودتهم سيبلغهم بحضورنا وسيكونون موجودين غدًا في نفس التوقيت والمكان وقال لنا أين مكانكم، ولكننا قلنا له بأننا سنحضر لهم هنا قبل هذا الموعد بقليل، وعدنا إلى مكاننا نتابع الأحداث ونأكل القليل وكنا نتذكر البدوي إبراهيم - والذي علمنا بعد ذلك أن اسمه عليان - وطريقة حديثه العفوية وإعجابه بنا.

أحداث 2 نوفمبر 1973م:

تحركنا من مكاننا قبل آخر ضوء إلى مكان قريب من مكان خيام البدو ووجدنا عليًا في انتظارنا وأشار علينا بالتحرك إلى أحد الأجناب البعيدة عن الخيام وكان الوقت قبل الغروب واستطعنا رؤية علي وصبحي وكان علي شاب في حدود الثلاثين أو أكثر قليلاً له ملامح البدوي المصري الأصيل يتحدث بسرعة وبلهجة تابعناها بصعوبة وكان يبدو المحرك لباقي إخوانه والأكثر خبرة ودراية وقوة الشخصية، أما صبحي فهادئ الطبع أسمر الوجه يشبه أبناء أسوان وكان يبدو عليه الكرم والطيبة، وكان يبدو على وجه علي الجدية والصرامة وتقدير الموقف الصعب، وبسؤاله عن توفير كمية من المياه والطعام وأننا سنحاول تعويض ذلك ببعض المال.

تحدث علي بصورة جدية مبتدئًا حديثه بكلمة صلوا على النبي، ثم تابع حديثه بأنه يقوم بمساعدتنا لوجه الله تعالى وباسم الإسلام والوطن مصر وأنه في غير حاجة للمال الذي معنا لأنه لو أراد المال لأبلغ عنا العدو الذي يحدد مكافآت مجزية ومغرية جدًا لأي بدوي يرشد عن أي مصري، هذا بالإضافة لتهديد العدو لأي بدوي يتستر على أي مصري بالتنكيل والحبس وأخذ ممتلكاته فأظهر لنا خطورتنا عليه، وقال إنه لا يريد أن يسمع مرة أخرى عن موضوع المقابل وأنه مصري وخدم بالجيش المصري في اليمن من قبل ولا يريد إلا عودتنا بسلامة الله وكذلك يريد أن يعيش بسلام بعيدًا عن بطش العدو فيجب التعاون معه حتى يوفر لنا المكان البعيد عن أعين العدو وأعوانه ونستطيع أن نجد به بعض احتياجاتنا.

ووجد هذا الكلام استحسانًا منا وزاد تقديرنا لهؤلاء البدو الذين لاقوا من ظلمنا وظلم جميع المصريين ووصفهم بالخيانة وبأنهم يبيعون المياه مقابل السلاح للجنود والضباط المصريين وعشرات القصص التي تظهر هؤلاء القوم بصورة خونة وسفاحين في الوقت الذي كنت أفكر فيه كيف يتخلى أي فرد عن سلاحه في سبيل شربة ماء في حين أنه بسلاحه يستطيع أخذ ما يريد إن لم يعطه هذا البدوي المياه بصورة ودية وتعاهدنا على الخير والحضور مرة أخرى في نفس المكان والتوقيت للانتقال إلى منطقة أفضل من التي كنا بها.

أحداث يوم 3 نوفمبر 1973م:

كانت دوريات الطائرات الهليكوبتر قد أصبحت قليلة ومحدودة وسريعة وفي بعض الأيام يتم تكثيف الدوريات فيها وأيام تقل فيها الدوريات ولكن الظاهرة العامة أنها دوريات روتينية ودون تركيز كما كانت من قبل، وكنا بالرغم من ذلك نأخذ الحيطة ونبقى طوال اليوم في أماكننا نتحدث ونتابع أخبار السياسة والموقف السوري على هضبة الجولان ثم تركنا المكان الذي ظللنا فيه مدة طويلة ولكنها كانت خطرًا وحملنا أمتعتنا إذا جاز هذا التعبير حتى وصلنا إلى المكان المحدد في الموعد المحدد ووجدنا علي وصديقه في انتظارنا للتحرك إلى المكان الجديد.

تحركنا ومعنا احتياجاتنا وساعدنا علي وزميله في حمل بعضها وكان عبد الرؤوف حزينًا لأنه لا يستطيع مشاركتنا في حمل شيء وتحركنا بصعوبة مع أحمالنا خاصة بعد أن تزودنا بالمياه والأكل وبدأنا في صعود جبل وعر جدًا ومعنا المسكين الجندي عبد الرؤوف المصاب وكان التحرك شاقًا والأرض وعرة والليل حالكًا وكنا نسير على مدق ماعز بصعوبة شديدة نسير حينًا ونستريح حينًا آخر ونحدث أحيانًا أصواتًا من أثر تحركنا مع حرصنا على أن لا يصدر منا أي صوت وخاصة في الأماكن المرتفعة ولكن كانت هناك لحظات يسقط فيها الفرد أو يختل توازنه فيضطر للسقوط على الجانب العالي للجبل حتى لا يسقط في الجانب الخالي واستمر ذلك حتى وصلنا إلى قمة أحد الجبال قبل الفجر.

سرنا حتى وجدنا مغارة كبيرة متسعة المدخل عميقة لا نهاية لها حيث يمكنها إخفاء كتيبة كاملة وسألناهم ما هذا فأجابوا أنها مغارة منجنيز قديمة مهجورة وهي مكان مؤقت للمبيت وأنهم سوف يتابعون السير للمكان المحدد الذي يكون أكثر أمنًا لنا والذي وصفته لهم سيدة عجوز تسمى أم حميدة وهي زوجة عم علي المتوفي ولها خبرة في خفايا المنطقة وهي ما زالت ترعى الغنم وتعلم هذه الأماكن من قبل وتعلم أن هذا المكان مأمون ولا يصله أي فرد بدوي أو غير بدوي حيث أنه منعزل وبعيد عن طرق القرى والأضرحة.

كان المكان مسيطرًا تمامًا ونرى منه مدينة أبورديس كاملة وكذلك شاطئ الخليج وكان كل شيء واضحًا رغم البعد الكبير الذي يصل إلى حوالي خمسة عشر كيلو متر إلا أن الارتفاع العالي كان يوضح لنا كل شيء، وتكلمت مع علي وكان يحب التحدث معي وكان شكلي يدل على بعض الرفاهية فكان يحاول مناوشتي بصورة فكاهية ولكنه كان لا يستطيع أخفاء إعجابه بنا وبلياقتنا وقدرتنا على مجاراتهم في التحرك رغم الأحمال التي كنا نحملها وكانت العلاقة تزداد ودًا مع استمرار الحديث ويطمئن كل طرف للآخر وبانتهاء اليوم كنا على يقين من أننا نتعامل مع أخوة مصريين لا يقلون عنا وطنية وحماسًا، ونمنا بعد أن أكلنا وشربنا.

أحداث يوم 4 نوفمبر 1973م:

استيقظنا متأخرين من النوم وشاهدنا المغارة صباحًا وكانت كبيرة ومتسعة ومتشعبة وتحول لوننا إلى الأسود من أثر تراب المنجنيز وجلسنا نتناول فطورنا ونحن نشاهد مدينة أبورديس أسفل الوادي والخليج أمامها وتمنيت لو استغللنا هذه المغارات بعد نزول الطائرات على قمم الجبال التي على شكل هضاب كبيرة تصلح للإبرار بكل أمان ويتم منها الاستطلاع وتشوين الاحتياجات في هذه المغارات ثم النزول لتنفيذ المهام والعودة لتلك الأماكن التي يصعب على العدو مهاجمتها أو معرفتها إذا تم دخولها والخروج منها بعد وقبل آخر ضوء ولكن فات وقت التمني وعلينا أن نتعايش مع الواقع.

تحركنا متأخرين قليلاً ولم نتحرك كثيرًا في هذا اليوم ولكن كان واضحًا أن البدو قد اختلط عليهم الطريق وبعد تحرك عدة ساعات بعدنا فيها عن المغارة الكبيرة، وصلنا إلى مغارتين صغيرتين وكانتا غريبتي الشكل وكانت بهم آثار نار قديمة وبعض الآثار لتواجد البدو وقضينا اليوم والليل فيهما نواصل الحديث.

أحداث يوم 5 نوفمبر 1973م:

تحركنا مبكرين في ذلك اليوم وكان التحرك شاقًا وطويلاً وكنا نعبر أراضي مختلفة الشكل واللون والطبيعة نصعد ونرتفع وننزل دون نهاية وأحسسنا أنهم غير واثقين من المكان وكانت إجابتهم نحن المفروض في الطريق الصحيح ولكن لا نستطيع أن نصل إلى المكان وكان ذلك قبل نهاية اليوم وكنا كلما قطعنا مسافة يتحرك أحدهم وينظر إلى المكان حوله ويعود مرة أخرى وهكذا حتى لا يحملونا مشقة المتاهة وخاصة ومعنا عبد الرؤوف المصاب الذي كانت حالته لا توصف من التعب والإرهاق ولكن لم يكن أمامنا غير هذا السبيل وكان يتحمل فوق ما يتحمله البشر حتى لا يشعرنا بأنه عبء علينا وكنا نشعر به ويجب أن يتحمل كل منا حتى نصل في النهاية إلى مكان آمن يمكننا الاستقرار فيه.

استمر بحث علي وصبحي عن المكان المحدد وشعرنا بمدى المجهود المبذول منهم لأجلنا وكادوا يصلوا إلى مرحلة اليأس وبدأوا يصفون السيدة العجوز بأنها جنت وخرفت ولا يوجد مكان يصلح بهذه المنطقة، وجاء أحدهم يهرول مهللاً وقال لقد اقتربنا، وصعدنا إلى أعلى بضعة أمتار ووجدنا سطح مستوي كبير المساحة كالمطار وطبعًا أصابنا اليأس لأنه مكان مكشوف وعال جدًا فكنا نرى الخليج بوضوح، ولكنه أشار إلى مكان ذهبنا إليه وفوجئنا بوجود حفر عميقة صناعية لا نعرف إلى أين تصل وعلمنا بعد ذلك أنها حفر للتهوية لمغارات المنجنيز ولم تستخدم لعدم جدواها وكان ذلك منذ زمن بعيد ولا يوجد أي حواجز عليها بمعنى أنه إذا تحرك أحد ليلاً في هذا المكان وسقط في هذه الحفرة فهو هالك لا محالة، وأخيرًا عثروا بمعجزة على المكان المخفي أسفلنا وفرحوا جدًا لعثورهم على هذا المكان الذي يصعب اكتشافه وسط الجبال، ونزلت بضع خطوات إلى أسفل في اتجاه الوادي ووجدنا مدقًا جانبيًا مخفيًا يؤدي إلى منطقة متسعة أمام مدخل مغارتين واحدة كبيرة وعميقة وفتحتها باتساع حوالي مترين تقريبًا وكان أي منا يستطيع المرور منها ومعه زميلان وبها عروق خشب تدعم الجدران والسقف والمغارة متشعبة لعدة اتجاهات يصعب العودة منها إذا استمر أحد في الدخول فيها بالإضافة للظلام التام بعد حوالي خمسة عشر مترًا من مدخلها حيث تبدأ الممرات الجانبية، كانت المغارة الأخرى صغيرة الحجم وعمقها يصل إلى سبعة أمتار تقريبًا بالإضافة إلى أن مدخلها كان بارتفاع حوالي 120سم، ووضعنا أحمالنا في المغارة الكبيرة وأكلنا وشربنا وقام عبد الرؤوف بالتغيير على الجرح، ونمنا جميعًا في تيار من البرد القارص نتيجة فتحات ودهاليز المغارة.

أحداث يوم 6 نوفمبر 1973م:

استيقظ البدو صباحًا وأوصونا بعدم التحرك بعيدًا والاقتصاد في استخدام المياه ولا داعي لاستخدامها في غير أغراض الشرب وعلمونا طريقة عمل الفراشيح وهو الخبز البدوي، وأحضر أحد البدو صفيحة مياه قديمة من المغارة وقطعها وتم تنظيفها لنخبز عليه ووضعه على الصفيحة التي كانت النار تشتعل داخلها وكان الخبز في بداية الأمر به كثير من الدقيق النيئ ولكنه كان جميلاً جدًا وكان معنا بعض المعلبات من الفول والخضار وكنا نفتحها بحساب ودقة حتى إنه كانت علبة الفول توزع علينا نحن الخمسة كوجبة كاملة طوال اليوم ولابد من الاستفادة من العلبة الفارغة لتكون كوب شاي فارغ (علبة الفول كانت صغيرة الحجم وهي جزء من وجبة الفطور للجندي).

وأوضح لنا البدويان بأنه لابد من الاستعانة ببعض الأعشاب الجافة والجذور لاستخدامها كوقود لأن أقراص الوقود الجاف التي معنا لن تكفي وسيحددون لنا أقرب مكان للمياه في المنطقة في الزيارة القادمة وكذا مكان الملح بالجبل، وكذلك أبلغناهم عن بعض احتياجاتنا الضرورية مثل الملح والكبريت وكنا نخجل من طلب أي شيء لعلمنا مدى فقرهم وضعف إمكانياتهم وكان لابد من أن نعيش بأقل القليل حتى لا نكون عبئًا على مثل هؤلاء المساكين، وتم الوداع والوعد بلقاء قريب وعادوا أدراجهم من حيث أتوا.

كان أول شيء فعلناه هو انتقالنا من المغارة الكبيرة التي بها تيارات هوائية كبيرة إلى المغارة الصغيرة لأنها أدفأ وأفضل، ودخل عبد الرؤوف في آخر المغارة ثم محمد عبد الرحمن فالرقيب السيد محمد علي ثم أنا وعبد الحميد متجاورين أثناء النوم أما في النهار فنجلس في مدخل المغارة في شكل دائرة وداخل المغارة مكان يصلح لوضع الصفيحة (المخبز) وبدأنا في وضع احتياجاتنا وترتيبها بالداخل وجلسنا نتحدث ونحن حامدين الله وشاكرين فضله بهذا المكان وحريصين في بداية الأمر ولكن قبل آخر ضوء خرجت لاستطلاع المكان وكان عبارة عن أرض ممهدة أمام المغارة لمسافة حوالي مترين ثم انحدار للأسفل في اتجاه الوادي ويبدو أنه ليس عميقًا ولكنه في الحقيقة عميق جدًا ثم جبل يواجهنا وجبل على الجانب الأيمن ثم مجرى سيل من هذه الجبال يختفي وراء هيئات أسفل الوادي، وكان المنزل إلى الوادي عبارة عن مجاري سيول مرعبة وحجارة وصخور كبيرة الحجم ومختلفة الشكل يصل بعضها لحجم عربة نقل، وكان الهدوء والسكون يسود المنطقة لا صوت ولا حركة غير بعض الطائرات التي اكتشفنا بعد ذلك أننا في اتجاه الممر الجوي للطائرات القادمة إلى أبورديس وخاصة طائرات النقل القديمة مثل نور أطلس وستراتوكروز وكان مرور الطائرات يزعجنا في بداية الأمر ولكننا تعودنا عليه بعد ذلك.

تحدثنا عن وطنية ورجولة هؤلاء البدو وكم كنا ظالمين لهم ولوطنيتهم وقررنا التقشف إلى أبعد حد حتى يستطيع هؤلاء الرجال تحملنا وخاصة وإننا علمنا أنهم ليس لهم أي عمل الآن بعد الحرب حيث أنهم يعتمدون على ما كانوا يخزنوه قبل الحرب وأن المعونات والإمداد بالدقيق والسكر والأرز قد توقف بعد بدء الحرب وكانوا يتكلمون عن ذلك بعفوية تامة، وكان الماء أول شيء قررنا الاقتصاد في استخدامه وعملنا له معدلاً هو علبة فول صغيرة صباحًا وثلثي كوب شاي لكل فرد وكان المتوفر قليلاً من الدقيق الذي لا يكفي فردًا واحدًا فكنا نخبز منه ثلاثة أرغفة رقيقة ويقطع ويضاف إليه ماء وقليل من الملح ليكون فتة بدوية نلتهمها في ثوان، وكان الأكل جميل المذاق بصورة غير عادية وحتى الشاي كان مذاقه رائعًا.

أحداث الفترة من 7 إلى 15 نوفمبر 1973م:

لم يصل إلينا علي وأصحابه خلال هذه المدة وكانت كمية الدقيق والمياه تتناقص وبدأنا نشعر بأن هناك شيئًا ما حدث لهؤلاء البدو كتعرض العدو لهم كما حدث مسبقًا يوم قاموا بتفتيشهم وإهانتهم لاعتقادهم أنهم يتسترون علي بعد أن رأى العدو آثار أقدامي متجهة إلى الوادي وكنا نقضي اليوم في جمع الجذور الجافة والتعرف على المكان وتجهيز الطعام والتكلم عن الطعام والأكلات الدسمة التي كنا نأكلها، وكان العمل قد توزع علينا بصورة تلقائية أنا وعبد الحميد للبحث عن الجذور وجمعها، ومحمد عبد الرحمن إشعال النار في الجذور وتجهيز النار، والسيد محمد علي إعداد الطعام.

وكان اليوم يمر بطيئًا طويلاً وكنا نتابع الأحداث السياسية وأصبحنا على دراية كبيرة بالأحداث السياسية في ذلك الوقت حتى أصبحت أتوقع الأحداث مسبقًا وكان الجو بدأ في البرودة وكنا نحمد الله على كل حال على وجودنا أحياء سالمين حتى الآن، ولكني كنت أفكر في والدي ووالدتي وماذا يكون حالهما الآن وأنا أكبر أولادهم وحبهم الكبير وكنت المثل الأعلى لأخوتي الستة والمعاون لوالدي على تربيتهم وهم ما يزالون في التعليم الجامعي والثانوي، وكيف يتقبل والدي ووالدتي هذا الوضع وليس لديهم أخبار عني ولكن حصار الجيش الثالث وقوة كبريت بالبحيرات ربما يعطيهم بعض الأمل ويلهمهم الصبر ويتعلقون بأنني ما زلت حيًا في إحدى هذه المناطق، وكان عبد الحميد يفكر في حال أسرته وكذلك باقي الأفراد مثلي تمامًا.

وبينما نحن جلوس ننتظر قدوم علي وزملائه الذي طال كثيرًا سمعنا فوقنا أصوات أقدام كثيرة وحجارة تتساقط وجلبة عالية وأيقنا في الحال مهاجمة العدو لنا في مكاننا وكان لابد من عمل أي شيء وبسرعة ناديت على الرقيب السيد محمد علي ليناولني بندقيتي بسرعة وقذفها لي في الهواء وفي ثوان معدودة كنت خارج المغارة وموجهًا سلاحي إلى صوت اتجاه تقدم العدو وكنت مستعدًا ومتحفزًا للاشتباك مع ظهور أولى أفراد العدو ولكن فجأة سمعت صوت عنزة تلاها أصوات ماعز وجلبة قطيع رعي مما هدّأ من حالة تحفزي، ثم بدأ ظهور قطيع كبير من الماعز وسمعت أصوات بدو ينادون على الماعز وكان موقف صعب للغاية، وأخبرت الزملاء بوصول البدو وذلك بعد ظهور علي وامرأتان (فاطمة زوجته وأم حميدة زوجة عمه المتوفي) وطفلة صغيرة (حميدة) أصغر أبناء السيدة أم حميدة التي توفي زوجها عم علي قبل سنوات وكانت فاطمة سيدة تفوق الوصف في الخلق وعفة النفس والأصالة والرزانة والشخصية رغم بساطتها وجسدها الضعيف ولكن كان لها من رجاحة العقل وحسن التصرف واللباقة ما يجبر المرء على احترامها وكانت في بداية الأمر صامتة تهز رأسها إجابة أو نفيًا ونشعر بضحكتها من عينيها حيث كانت تخفي أنفها وفمها بحجاب على طريقة البدو وكذلك كانت أم حميدة التي كانت أكثرهم كلامًا وحديثًا وضحكًا بطيبة وعفوية وكانت تدخن السجائر اللف البدوية وعرضت علينا السجائر فاعتذرنا، وكانت ابنتها حميدة تنظر إلينا منزعجة بعد أن تغير شكلنا بفعل تراب المنجنيز إلى أشباح سوداء وطالت ذقوننا وكانت تجيب بصوت أجش عن أسئلتنا لها وكانت عيوننا جميعًا متعلقة بقطعة الخبز التي بيدها متمنين أن تتركها لنا أو جزء منها.

كانت فاطمة تحمل عنزة صغيرة تم ولادتها في الطريق وكانت جميلة الشكل وأسماها علي (زبيدة) وكانت بعض الماعز تقف أمامنا وضرعها مليء باللبن الذي سال لعابنا من التفكير في إمكانية شربه ولكن لم نبح برغبتنا تلك حتى لا نحرم البدو من هذا اللبن لشدة حاجتهم إليه وأعطانا علي بعض المياه والدقيق وعلبة سمن وسكر وبعض بقايا أكل العدو التي كان يرميها في منطقة مخلفات ويجلب البدو الفقراء الصالح منها كغذاء للماعز وأربع أو خمس تفاحات في حالة تعفن وكيس من الحلوى علمنا من علي أنها توزع عليهم بصفة دائمة، كذلك بعض معلبات الخضروات المسلوقة المحفوظة والتي لا يضاف لها أي شيء على أن يتم تجهيزها بعد ذلك بالإضافة إلى بعض علب الكبريت والملح.

أسعدتنا جدًا هذه الزيارة ورفعت معنوياتنا ليس بسبب الطعام والمياه فقط ولكن لتعاطف البدو الكبير الذي وضح من كلامهم وتصرفاتهم، وسألنا عن أقرب بئر للمياه نستطيع الحصول على مياه منه ونوفر عليهم مشقة إحضار المياه لنا طول هذه المسافة فوصفت لنا أم حميدة أقرب بئر مياه بوادي بعبع ووعدنا علي أنه في الزيارة القادمة سيحدد لنا المكان بالضبط ويصفه لنا إن شاء الله وكان ذلك يسعدنا سعادة بالغة لإحساسنا أننا يمكننا الاعتماد على أنفسنا مع إمكانية زيادة حصة المياه لكل فرد وقبل أن يترك المكان أشار إلى منطقة قريبة بها عرق ملح أسفل سطح صخرة محفورة بفعل المياه طوال الزمن وكانت هامة بالنسبة لنا لأن الملح أصبح من الضروريات ويضعه البدو على جميع أنواع الأكل حتى التي بها سكريات لابد من إضافة قليل من الملح، وكنت متخصصًا لإحضار الملح الصخري حيث كان يتطلب استخراجه الرقود على الظهر واستخدام السونكي الروسي الصلب في كسر هذه البلورات القوية وأضع ضلع الهايك أسفلها لأجمعها بعد ذلك وكان يتعلق بالملح أحيانًا بعض التراب فنذيبه في الماء ويتم ترسيب التراب ثم نستخدم الماء المملح، وكان هذا المكان قريب من المغارة.

بعد زيارة البدو قررنا الصيام خلال ما تبقى لنا في هذا المكان وخاصة إننا كنا فعلاً لا نأكل غير مرتين باليوم أو مرة واحدة وكان ذلك هو الغالب وقررنا مداومة الصلاة بالتيمم وكانت فكرة صائبة أعانتنا كثيرًا لاحتياجنا للجانب الروحي وكان ذلك بالإضافة إلى قراءة القرآن خلال اليوم بتبادل المصحف الكريم الموجود معنا وبذلك كان ينتهي اليوم بصورة أسرع وأفضل كثيرًا بين الصلاة والإعداد للطعام والصيام وقراءة القرآن ومتابعة نشرات الأخبار والأحداث والتكلم عن الأكل الشهي حيث كنا جائعين بصفة مستمرة حتى بعد تناولنا للوجبات.

أحداث الفترة من منتصف شهر نوفمبر حتى نهاية الشهر:

قام البدو بزيارتنا بعد حوالي عشرة أيام من الزيارة الأخيرة وجاء معهم هذه المرة زائر لم نره من قبل اسمه حسين، أسمر اللون، وهو زوج حامدة أخت صبحي، وكان شابًا خفيف الظل هادئًا ويحترف صيد السمك بالإضافة للعمل مع العدو في الأعمال اليدوية مثل معظم البدو في المنطقة كإعادة إنشاء الطرق في حالة تدميرها بواسطة السيول وكان العدو يدفع لهم أجر أقل بكثير مما يدفع لمواطنيه ولكنه يعتبر أجر عالي بالنسبة للبدو ويحقق لهم حياة كريمة إذا استمر مثل هذا العمل، ولكن معظم أعمالهم كانت موسمية مؤقتة، كذلك كانت أموالهم تضيع في الكماليات والمأكولات الغالية الثمن والتي ازداد ثمنها كثيرًا جدًا وخاصة بعد الحرب.

وكان معهم أيضًا عليان أخو علي الأصغر من أبيه وكان قد أخفى اسمه الحقيقي أول مرة خشية أن نكون من العدو ونحاول الإيقاع به، وكان شغوفًا جدًا بنا وأكثر البدو كلامًا ومرحًا، ووصف لنا طريق البئر وأشار عليه خارج المغارة في أسفل الوادي وبدا لنا ذلك شيئًا بسيطًا سيخلصنا من مشكلة المياه وزودنا بكمية قليلة من المياه وقضينا يومًا سعيدًا معهم قصوا علينا بعض تصرفات العدو وكيف تم حبس حسين في غرفة حبس انفرادية بسبب قذفه لأحد الجنود الإسرائيليين ببراد شاي مغلي بعد أن سبه هذا الجندي مازحًا ولم يتحمل حسين ذلك فقذفه ببراد الشاي أثناء إعداد الشاي له وكانوا يسردون هذه القصص بطريقة عفوية ويضحكون على حسين وكيف كان في الحبس ومعه جردل يقضي فيه حاجته وكان يضحك بخجل وكنا سعداء بسماع مثل هذا الكلام العفوي وأصبح التقارب والألفة أكثر وأكثر.

وتحدثنا مع حسين عن صيد السمك وهل يمكننا الصيد في أماكن بعيدة عن العدو فأوضح لنا أن الصيد ممنوع من بعد الحرب ولا يستطيع أحد أن يقترب من الشاطئ وأخذ يتحدث معنا عن الأسماك الشهية الوفيرة بالمنطقة والتي كانت تحقق له دخلاً لا بأس به، وأعطانا علي بعض الجلاليب البدوية والصنادل والشباشب لنلبسها خلال اليوم بدلاً من الأحذية التي كانت تترك أثرًا في كل مكان نتحرك فيه، وتركنا البدو وتركوا لنا بعض الدقيق والملوخية الناشفة والسكر والشاي ونزلوا في اتجاه الوادي وليس من الطريق العلوي (الذي قدمنا منه إلى المنطقة).

استعددنا ثاني يوم لإحضار مياه من البئر الذي تم وصفه لنا وأخذنا جراكن المياه الفارغة ونزلنا أنا والرقيب السيد علي ومحمد عبد الرحمن ونزلنا لمسافة طويلة حتى وصلنا الوادي أسفل المغارة نظرنا في منتصف الطريق إلى المغارة ولم نجد المغارة ظاهرة، وتقدمنا أكثر حتى وصلنا الوادي ووجدناها مسافة كبيرة تختلف عن المسافة التي قدرناها من أعلى الجبل وصعدنا جبلاً صغيرًا لنصل إلى المنطقة التي أشار إليها علي وفوجئنا أننا فوق جبل آخر ويظهر الوادي أسفل على مسافة بعيدة جدًا وبدأنا التحرك على مدق ماعز يلتف حول بعض التباب حتى وصلنا إلى مكان يسمح لنا بالنزول إلى وادي بعبع وبدأنا النزول إلى الوادي وكانت الأرض صخرية صعبة جدًا وتعاونا في التحرك حتى لا يسقط أحد وفرحنا في بداية الأمر، وخوفًا من دخول الليل علينا أسرعنا بالنزول في أرض صعبة للغاية ولكننا تعودنا على ذلك تمامًا ووصلنا إلى الوادي اللعين قبل آخر ضوء بأقل من ساعة وتم تقسيم الأفراد بأن أقوم أنا ومحمد عبد الرحمن بالبحث عن البئر، على أن يقوم الرقيب السيد علي بتغطيتنا بالسلاح وكان معنا جميعًا سلاحنا وجاهزين للاشتباك الفوري، وبحثنا في كل مكان عن المياه ولم نجد ذلك البئر الذي تصورناه في براءة مبني بطوب ومحفور بعمق كبير وبه كمية كبيرة من المياه وظاهر الشكل بالوادي، ولم نجد مثل هذا البئر ووجدنا الوادي ينتهي داخل الجبل وبه آثار عربات وهو غير مجهز إلا للعربات الجيب والتراك لوجود أماكن رملية وعرة في بعض أماكنه، وكذلك مناطق صخرية في الأماكن الأخرى والجبال حول الوادي عالية تسيطر عليه تمامًا وبحثنا عن ذلك البئر ولم نجده ووجدنا بعض المياه المتناثرة على شكل برك وتذوقنا بعضها فوجدناها مرة الطعم وغير مستساغة ولكن كان علينا إحضار هذه المياه حتى ولو لغسيل الأطباق والنظافة والشرب إذا لزم الأمر.

وصعدنا مرة أخرى إلى الجبل وكان الطريق سهلاً ثم وجدنا صعوبة في التحرك في المنطقة المتوسطة والموصلة للوادي الخاص بالمغارة وبعد جهد شاق استطعنا الوصول إلى الوادي وصعدنا بعد ذلك الجبل الذي توجد به المغارة ووجدنا صعوبة في تحديد مكان المغارة وبعد أن نادينا على الزملاء أجابوا وحددنا مكانهم وصعدنا إليهم وكانوا قلقين علينا جدًا لأنهم كانوا يعتقدون أن المسافة قصيرة كما قال البدو ولكني أوضحت كل شيء وقد أصابهم الحزن لعدم توفيقنا في الوصول للبئر وقررنا الذهاب في اليوم التالي في توقيت مبكر حتى نجد فرصة في البحث عن البئر.

حضر البدو ثاني يوم صباحًا وكان يبدو عليهم الانزعاج وأبلغونا أننا نزلنا أمس للوادي وأن آثار أقدامنا موجودة في كل مكان بالوادي وهو ما يعرضنا للخطر أذا ما شاهد أي بدوي خائن هذه الآثار ولذلك أمر نساء البدو أقاربهم بالرعي في منطقة آثارنا وأبلغونا أنه يفضل لبس الصنادل والشباشب خلال النزول للوادي كما يجب أن تتوخوا الحذر أثناء النزول لتحرك العدو والبدو في هذا الوادي، وسألنا هل وجدتم البئر؟ فأبلغناه بأننا لم نره وأننا لم نترك شبرًا إلا وفتشنا به وأبلغناه بوجود مياه مالحة مرة الطعم فنصحنا بعدم شربها لأنها تسبب الإسهال.

وصف لنا على مكان البئر مرة أخرى وحدده من مكان المياه المُرة ثم تركنا بعد أن شرب الشاي وكان معه صبحي الذي كان على موعد مع سيدة يحبها وسبق لها الزواج من ثلاثة قبله توفوا جميعًا وكانت على جانب كبير من الجمال وتسكن بإحدى القرى المجاورة وكان صبحي يخشى أن يموت مثل أزواجها السابقين وأصبحت مادة فكاهة نضحك لها، وسألنا علي عن إمكانية وجود حيوانات بالجبل مثل الغزلان أو الأرانب فأبلغنا أن بالمنطقة تياتل وهو نوع من الماعز الجبلي الشهي الطعم وكثير اللحم ولكنه نادر وصعب الصيد وتمنينا أن نجده ونقوم بدعوة البدو ردًا لبعض جميلهم وظللنا نحلم بهذا الصيد طوال مدة بقائنا ولم نعثر له على أثر ولم نر في هذا الجبل غير طائر بحجم الفراخ الصغيرة ويطير لمسافات قصيرة ويظهر فجأة لتشابه لونه بالمنطقة وحاولنا الإمساك به كثيرًا ولكنه كان حلمًا أصعب منه حقيقة.

تحركنا بالفعل في اليوم التالي مبكرين وكان معنا عبد الحميد هذه المرة وتركنا السيد علي مع عبد الرؤوف وطبعًا كانت المسافة وصعوبة الأرض مفاجأة لعبد الحميد وتحركنا إلى مكان البئر ووصلنا أخيرًا للمكان الذي وصفه علي وأخذنا نبحث وندقق لوقت طويل وأخيرًا عثرنا على حفرة صغيرة بها ماء. بعمق 75 سم وهذا هو البئر، وتذوقنا المياه فوجدناها صالحة للشرب فشربنا وملأنا الجراكن، وكنا كلما أخذنا من المياه ترتفع مياهًا مكانها في البئر وبمعدل يمكننا الانتهاء من ملء الجراكن في وقت قصير، وسعدنا جدًا لعثورنا على البئر وهو أول شيء يمكننا من الاعتماد على أنفسنا وأعددنا أنفسنا للعودة وكنا قد تركنا أحذيتنا قبل نزولنا الوادي وحفظناها في مكان محدد قبل الوادي مباشرة حتى لا تدل على مكاننا وعدنا إلى هذا المكان وارتدينا أحذيتنا وعدنا إلى المغارة بعد رحلة عناء من أحمالنا وصعوبة الصعود ووعورة الجبل وفقدان الطريق ووصلنا حوالي منتصف الليل.

كانت رحلة ملء جراكن المياه شاقة جدًا وكنا نفطر في يوم ملء الجراكن وكنا أحيانًا لا نفطر طبقًا لكمية الطعام المتبقي لهذا قررنا الاقتصاد في استخدام المياه بأقل كمية ممكنة وخاصة وأن الطقس أصبح باردًا ولا نحتاج إلى كميات كبيرة للشرب فكان استهلاكنا للمياه في حدود نصف زمزمية للفرد على الأكثر بالإضافة إلى الشاي وإعداد الطعام وكان أكبر استهلاك للمياه هو أثناء ملء المياه وإحضارها فكان جزءًا كبيرًا من المياه يتسرب من الجراكن نتيجة الضغط عليها أثناء التحرك به وكذلك نتيجة للشرب لتعويض ما فقدناه نتيجة المجهود المبذول وكانت ملابسنا تبتل تمامًا من المياه والعرق وعند وصولنا كانت تجف من حرارة أجسادنا وتعرضنا للهواء أثناء الطريق وكنا أحيانًا نصل وملابسنا مبتلة من العرق في الشتاء القارص لسرعة تحركنا رغبة في الوصول السريع إلى الكهف للاحتماء به.

وفي نهاية هذا الشهر كان ذكرى ميلادي السادس والعشرين، وكنت متفائلاً معظم الأوقات رغم كل الظروف حولنا التي تبعث على اليأس وكان ما يشغلني فقط هو والدتي وأخوتي الصغار وكنت عندما أشعر بالضيق أتذكر الأيام واللحظات السعيدة مع عائلتي خلال أجازتي عندما يتجمع أخواتي ويحكوا لي حكاياتهم في المدرسة مع بعضهم وكانوا خفاف الظل ويحبونني جدًا وكنت أحاول أن أكون قدوة حسنة ومثلاً طيبًا لهم وكانوا يتركون واجباتهم ويتجمعون حولي لساعات طويلة، وكنت مؤمنًا بعودتنا لوطننا وأهلنا لأننا بوطننا فعلاً.


 

أحداث شهر ديسمبر 1973م:

تحسنت حالة عبد الرؤوف وأصبح يتحرك في حدود المنطقة وكان هزيل الجسم جدًا ولكنه لم يفقد روحه المرحة وهدوء أعصابه وحمده لله دائمًا ويتمتع بضبط وربط عالٍ، خجول جدًا ودائم الابتسام في أصعب المواقف، وكنا نأكل في إناء واحد وبسرعة كبيرة من آثار الجوع وقلة الطعام وكان هو أقلنا أكلاً وكنا نحثه على الأكل السريع ولكنه كان يحمد الله دائمًا، وكنا ننتهي من الأكل جياعًا وأعتقد أنه كان أكثرنا جوعًا، هذا هو الحال مع قلة كميات الطعام وكمية الدقيق التي نعلم مدى مشقة البدو في إحضارها لنا من طول المسافة ووعورة الأرض وضيق ذات اليد وكان يبدو ذلك عليهم أثناء زيارتهم لنا.

كانت زيارات البدو تنتظم أحيانًا وتطول فتراتها أحيانًا وبالسيطرة على الطعام الموجود واجهنا أي تأخير والبدو يأتون رجالاً ونساءً ولم يأت أحد لا يعرفونه غير حامدة زوجة حسين وهي أخت صبحي في نفس الوقت، ومرة أخرى زارتنا زوجة محمد أخو علي وهي سيدة طويلة القامة وتخشى أن تأتي كثيرًا لأن محمد زوجها كان حريصًا أن يكون بعيدًا عن المشاكل والمخاطر ولكنها كانت عندها رغبة في رؤية هؤلاء الغرباء، ولم نر محمد إلا عند رحيلنا وكان الوحيد الذي على علم بنا ولم يأت خوفًا من بطش العدو، وكان نساء البدو ينظرون إلينا كمخلوقات جاءت من كوكب آخر يستحقون الشفقة وكانوا دائمًا يحاولون تسليتنا وتشجيعنا بعفوية وبساطة وأصالة يصعب أن تجدها إلا في أعماق القرى وأقاصي الصعيد حيث الإنسان على فطرته وأصالته التي لم تلوثها ماديات الحضارة الحديثة.

أصبح البرد قارصًا ولم تعد تكفي البطانية الواحدة لكل فرد واستفدنا من كل شيء قد لا يكون له أي قيمة في نظر أي  فرد في الظروف العادية، حيث استفدنا بعروق الخشب التي كانت داخل المغارة المجاورة كوقود، كما استخدمنا برميل مياه قديم لتخزين المياه وأغلقنا المغارة من الخارج بقطعة صاج كبيرة حتى تمنع بعض البرودة والرياح وكذلك تمنع الضوء أثناء الليل إذا قمنا بإشعال النار لشرب الشاي. كنت أنام أنا وعبد الحميد على بطانية وفوقنا بطانية وكنا ننام وظهورنا متلاصقة من شدة البرودة والبطانية صغيرة الحجم نتبادل جذبها طوال الليل ومع ذلك لم يصب أحدنا بأي برد أو زكام خلال هذه المدة بالرغم من كوني شديد الحساسية للبرد الذي كنت أصاب به كثيرًا في حياتي العادية لأتفه الأسباب وما زلت إلى الآن ولكن خلال فترة تواجدي بجنوب سيناء لم أصب بأي برد أو زكام أو تلوث من أي جرح حيث كنت عادة أصاب بتقيح بصورة سريعة ومزعجة وكان ذلك لاستخدام البنسلين ومشتقاته لمواجهة أي جرح أصاب به مهما بلغت ضآلته وكانت نقطة ضعفي وخوفي من أن أصاب بأي جرح يتقيح ويتلوث، ولكن جرحت كثيرًا جدًا أثناء ملء المياه ولم يتقيح لي أي جرح طوال هذه الفترة بل كانت تشفى الجروح بسرعة كبيرة واعتقدت أن ذلك بسبب المنجنيز وكان لطف الله بنا عظيمًا وتحصنت أجسادنا وأرواحنا ضد كل المصاعب وقلة المياه والطعام وتقشفت وجفت أجسامنا وأصبحت أسير دون حذاء أو نعل على الصخر، وكان يتفتت تحت أقدامي كأي بدوي وكان تحركي بدون حذاء في بداية الأمر صعبًا جدًا وكأني أسير فوق أشواك حادة بسبب الصخور الحادة.

وفي أحد أيام الشهر وعند النزول للتزود بالماء وكان معي الرقيب السيد علي وعند اقترابنا من الوادي سمعنا صوت طلقات رصاص متقطعة وقمنا بإعداد سلاحنا والتقدم بحرص لمعرفة ما يحدث ومكانه ومن يقوم به وأكملنا النزول في الوادي المتعرج ومازالت الطلقات وصداها يدوي في المكان، وفجأة ظهر عدد من الجنود الإسرائيليين يقومون بالرماية داخل الوادي وبجوارهم عربة جيب ودفعني الفضول للاقتراب لرؤيتهم أكثر، وتقدمت بحرص وخلفي الرقيب السيد علي، ولكن فجأة وأثناء تحركنا سمعنا صوت العربة تدار وتتحرك بصورة مفاجأة، وتيقنت أنهم لاحظوا تحركنا وتركوا المكان فجأة.

لم نشأ أن نستكمل النزول خشية عودتهم بقوات كبيرة وطائرات وعدنا وتوقعت حدوث رد فعل خلال هذا اليوم أو اليوم التالي وكنت أنا وعبد الحميد ندرس موقف الأرض وتوزيع الأفراد في حالة هجوم العدو من أسفل الوادي أو من أعلى الجبل وكيف نستغل الأرض والمكان الذي أصبح معلومًا لنا ويحقق مزية كبيرة للمدافع وكنت واثقًا لو حاول العدو مهاجمتنا لخسر الكثير أمام قوتنا الصغيرة، وتوالت الأيام والأسابيع بعد هذا الحدث ولم تظهر أي عدائيات بالمنطقة حتى أصبحنا بعد ذلك نحمل بندقية واحدة فقط ليسهل علينا حمل المياه.

كنا ننتظر هطول الأمطار بشغف كبير وندعوا الله أن تأتي الأمطار سريعًا وننتظر أي سحابة قاتمة قد تأتي ببعض الأمطار ونسأل البدو عن المطر وكيف يكون الحال بعد هطوله فكانوا يجيبون بأنه خير وأنهم جميعًا في انتظاره وعندما يأتي المطر يتحول لون الجبل إلى الأخضر وتتواجد المياه العذبة في كل مكان وتنموا الخضرة التي يمكن أكلها مثل اليهج (نوع من الجرجير البري) وكنا نحلم بذلك اليوم الذي نملأ به بطوننا بذلك الجرجير ونملأ المياه من أقرب مكان لنا ويرحمنا الله من ذلك المشوار الطويل إلى الوادي، وكنا نحلم وننتظر وكانت تتلبد السماء بالغيوم ولكن دون مطر وكان البدو دائمًا يقولون أن المطر لا يأتي عندما تأتي الغيوم والسحاب من خلف الجبل (من الاتجاه الشمالي الشرقي) ولكن عندما تنعكس تأتي الغيوم والسحاب الذي ينزل المطر بإذن الله، وكان الأمل عندنا أن تمطر من أي اتجاه.

وفي أحد مرات نزولنا للتزود بالمياه الذي كان يتم بوجودي أو وجود عبد الحميد أو نحن الاثنين معًا، وفي هذه المرة كنت وعبد الحميد ومعنا أحد الأفراد وكان يومًا فيه الرياح شديدة عاتية عند نزولنا وعندما عدنا إلى الوادي قبل المغارة زادت الرياح بشكل لم أشهده من قبل وكان الوقت ليلاً والظلام حالكًا ونسمع بعضنا بصعوبة بالغة وكان البرد قارصًا وحاولنا الوصول إلى المغارة وفقدنا اتجاهنا بمكان كنا نعلمه جيدًا لشدة الريح والصقيع وأخذنا ننادي بأقصى ما يمكننا على زملائنا ولكن كان يصعب سماعنا، ويأسنا في النهاية وكان لابد أن نتوقف في مكاننا في أقرب منطقة تسترنا من شدة هذه الرياح ودعونا ربنا أن يمر هذا اليوم بسلام دون أن نتجمد من البرد، وبعد حوالي ساعة وجدنا نور ينبعث من أعلى وبزاوية من مكان المغارة الصحيح فصعدنا فورًا في اتجاهه وعند اقترابنا سمع الزملاء صوتنا وفرحنا باللقاء الدافئ وعلمنا قيمة المغارة بعد أن أغلقنا الباب الصاج علينا.

استمر تتبعنا للأحداث السياسية وشعرنا بتحسن الأوضاع والأمل في الحل السياسي السريع في خلال شهر أو شهرين والإذاعات أحيانًا تبالغ في جو الود بين قواتنا والعدو وأن الأمور تسير على ما يرام وفي يوم سمعت راديو طهران يذيع نبأ إقامة مباراة كرة قدم بين الجانب الإسرائيلي والجانب المصري العسكري على الحدود، وطبعًا كان تأثير هذا الكلام سلبيًا على الجنود حيث كنا نحرم أنفسنا من كل شيء ونعيش حياة قاسية لا يتحملها أي بشر، وقوات العدو تلاعب قواتنا كرة القدم فلماذا هذا العذاب؟ ولماذا لا نسلم أنفسنا لعدونا ليوصلنا إلى أهلنا سالمين بعد هذه العلاقة الطيبة وكما يعمل مع جميع أسرانا حسب ما سمعنا من الإذاعات الأجنبية من قبل؟ ولكن كنت وعبد الحميد نتناول هذه الموضوعات من الناحية الفكاهية ونذكر بأن العدو إذا وقعنا في يديه سيدمر هؤلاء البدو المساكين الذين وقفوا معنا وقفة أبطال إلى أقصى مدى، هذا بالإضافة إلى كرامتنا التي لا تسمح بهذا مما جعلنا نتكبد هذا العناء.

وفي نهاية شهر ديسمبر وبعد المغرب مباشرة قام علي وصبحي بزيارتنا ومعهم بعض الدقيق وقطعة لحم ماعز صغيرة وهذا شيء بهيج أن نتذوق اللحم بعد هذه المدة الطويلة وسألنا عن السبب فقالوا أن عجوزً بالقرية قد أصابها المرض وعادتهم أن يذبحوا جدي بهذه المناسبة لتأكل منه السيدة فتشفى أو تتذوق اللحم قبل وفاتها وهو شيء من الفكاهة ودعونا للعجوز بطول العمر وسعدنا باللحم وتم سلقه ونحن حوله نشم رائحته بسعادة بالغة ومع أن قطعة اللحم صغيرة في حجمها عظيمة جدًا في مغزاها ودعونا عليًا وصبحي ليأكلوا معنا فقبلوا مشاركتنا ولم يأكلوا كثيرًا واكتفوا بالنظر إلينا ونحن نأكل بصورة غير متحضرة وبنهم شديد، وكانت مفاجأة لي عند نهاية الأكل وبعد وقت قصير أصابني إسهال شديد ولم تتحمل معدتي اللحم بعد حرمانها منه مدة طويلة وحزنت جدًا لفقداني هذا الغذاء الذي لا يأتي بسهولة.

بليت ملابسنا بمرور الوقت وأصبح لونها داكنًا ومجلدة من آثار العرق والمنجنيز والقذارة ولكن كانت رائحتها جيدة بسبب تعرضنا الدائم للشمس بالإضافة إلى عدم وجود أي ملابس داخلية أخرى غير الملابس الداخلية التي بدأت في التمزق، أخذت في التنسيل عند الركبة والكوع والمقعدة وخلعنا الجيوب لنرقع بها أماكن التمزيق وقرر البدو إحضار بعض الأفرولات لنا والتي تخص الأسرى المصريين، وفعلاً في زيارتهم التالية أحضروها وقمنا بفحصها لنعرف لمن تكون وبالفعل وجدنا أفرول يخص الشهيد البطل عادل عبد الفتاح نجم، الذي استشهد نتيجة اصطدامه بلغم بعد أن عاد من الأسر للوطن وكانت تربطني به صلة صداقة قديمة وكنت أحبه كثيرًا لما له من قدرات كبيرة وذكاء وخفة دم ورجولة وفرحت جدًا عندما علمت أنه ضمن الأسرى ومعنى ذلك أنه ما زال حيًا يرزق وسوف أداعبه بهذا الأفرول ضاحكًا إذا كتب الله لي النجاة بإذنه وحده، ولذلك لم ألبس الأفرول إلا في نهاية المدة وعند تحركي للعودة وقضيت المدة كلها بأفرول واحد، وكان مقاس عادل صغيرًا جدًا لأنه رفيع الجسم بشكل ملحوظ ووجدت أن أفروله جيد وعلى مقاسي لأن وزني نقص كثيرًا وزملائي جميعًا بصورة ملحوظة وخاصة عبد الحميد الذي كان ضخم الجسم فوضح عليه ضعف الجسم وكنت أداعبه دائمًا بقولي بأنه أصبح رشيقًا ويجب عليه المحافظة على هذه الرشاقة على قدر المستطاع وأصبح معجبًا بجسمه الهزيل، ومع هذا الهزال كنا نشعر بضعف شديد خاصة عند وقوفنا بعد الجلوس حيث كنا نشعر بدوار شديد وضعف عام.

وفي أثناء هذا الشهر أخبرنا البدو بتأخر وصول إمدادات الدقيق لهم وارتفاع الأسعار وكنا نطرح عليهم أفكارنا للحصول على طعام فكنا نسأل عن إمكانية الصيد بقوارب أو بالشباك ولكن علمنا أن العدو  ما زال يمنع الصيد منذ بداية الحرب، وسألنا عن إمكانية العمل في مغارات الفيروز لاستخراجه وبيعه ولكن البدو مانعوا ذلك بحجة أن ذلك قد يعرضنا للوشاية من قبل البدو وخاصة أن هناك عدة قبائل تعمل في استخراج الفيروز بالإضافة إلى سماعهم أنه تم القبض على أحد المصريين في هذه المنطقة، وكنا نفكر في العودة السريعة لتخفيف العبء على هؤلاء البدو ولكن الحالة الصحية لعبد الرؤوف وخوف البدو الشديد من وقوعنا في أيدي العدو مما يسبب لهم المشاكل الكبرى كان ذلك يجعلهم دائمًا حريصين على استبقائنا حتى تهدأ الأمور ويحين الوقت المناسب.


 

أحداث شهر يناير 1974م:

توطدت العلاقة بيننا وبين البدو كثيرًا وأصبح شعورنا نحوهم شعورًا أخويًا مصريًا حميمًا ويزداد إعجابنا بهم يومًا بعد يوم لبساطتهم في كل شيء وازدادت صراحتهم معنا وكانوا يأتون إلينا كلما سنحت لهم الفرصة وتمنوا لو تم اشتراكهم في معاونة قواتنا في بداية العمليات لأصبح تأثير قواتنا أكثر وأشد لما لهم من خبرة بالمنطقة ومعلومات عن العدو كان يمكن أن نحقق مبدأ أصب واهرب، ولكنهم كانوا غرباء في أرضهم لا يعلمون أي جانب سيضربهم بل كانوا يأمنون العدو أكثر لأنهم يعرفونه على الأقل.

كان علي يداعبني أنا وعبد الحميد أحيانًا ويقول هل تعلم أن العدو أكثر نفعًا لهم من المصريين وكنت أسأله حتى يسترسل لماذا؟ فيقول أن العدو قام بالتعمير ورصف الطرق وصيانتها، كما يقوم بتوزيع الغذاء والمياه عليهم كما أنه يجزل لهم العطاء عندما يعملون معه، بينما لم يفعل المصريين ذلك بل إنهم كانوا يعاملون كل من يعبر سيناء من البدو وكأنه مهرب مخدرات وكانت معاملتهم لنا كأننا غير مصريون معاملة مهينة غير إنسانية فأداعبه وأقول له إذن سوف تعود لكم المعاملة السيئة والمهينة فهنيئًا لكم، فيقول إنني مشتاق لها حيث أشعر بأنها من أخوة مسلمين مهما كانت ولكنها تكون قاسية جدًا على النفس أن أقبل أقل مهانة من العدو الذي كنا نشعر بها بمجرد وجوده على أرضنا.

كان أكثر البدو أسئلة وكلامًا وحماسًا الغلام عليان وكان خفيف الظل متحمسًا وأذكر أنه سألني يومًا عن نوع العربة التي أملكها فأجبته أنني لا أملك عربة وقال لي كيف ذلك والجندي اليهودي الذي يهاجر من روسيا يحصل على سيارة فولفو أو أي ماركة أخرى وكيف تكون نقيبًا وليس عندك سيارة فأبلغته أنه ليس لي حاجة لسيارة حيث المواصلات متوفرة كذلك هناك سيارة مخصصة لي في العمل (وطبعًا كان ذلك غير الواقع) وكنا نسأله عن العدو وقوته وتدريبه وكانت إجابته أنهم خائبون وأن البدو يفوزون عليهم في الكرة دائمًا وهذا يثير غيظهم وكانوا ثقلاء لا يجيدون الجري ومنهم أصحاب الأوزان الضخمة جدًا وكنا لا نعرف كيف قبلهم الجيش وكيف يحاربون وكنا نسخر منهم دائمًا، وكان عليان يحب سماع قصص البطولة وكيف حاربنا العدو وكان سعيدًا لذلك جدًا ومعجبًا بنا.

وأكلنا اللحم للمرة الثانية يوم العيد ولا أذكر أي يوم كان ولكن كان تأثيره هذه المرة أقل ثم أكلنا اللحم للمرة الثالثة عند وفاة العجوز وهي عادة عندهم عندما يموت أحد البدو، وأصبح خبز السيد محمد علي أفضل بكثير كذلك كنا نحاول التنويع في الأكل نغلي بعض الملوخية الناشفة وإضافة بعض الملح وفص ثوم وملعقة مسلى وكان ذلك غذاءً جيدًا لنا مع استخدام الفراشيح (الخبز) والشاي هو الحلو وطعمه جميل لدرجة كبيرة ونحرص على كل فتات خبز لقلة الطعام ولا نستطيع أن نفعل شيئًا غير الشكر لله ثم لهؤلاء البدو الذين شعروا باقتصادنا الشديد في الطعام وكثيرًا ما شجعونا على الأكل ولكننا خزنا كمية من الطعام لمواجهة ظروف طارئة وأحضروا لنا علب خضار مسلوق لنأكلها بمعدل علبة كل عشرة أو خمسة عشر يومًا ومع سوء طعمه كان غذاء نقتات به من حين إلى حين وكان أكثر الأكل فتة بالملح وإذا كانت هناك مناسبة سعيدة جدًا كنا نأكل الفتة وعليها بعض السكر.

لم يسقط المطر حتى الآن وشعرنا أنه لن يسقط هذا العام وكنا مؤمنين بقضاء الله وقدره ننتظر دائمًا على أمل وصول المطر، وخلال هذا الشهر أمطرت السماء قليلاً من المياه لم نستطع الاستفادة منها بجمعها ولكنها كانت مفيدة للزرع البري.

كنا نبحث عن جذور الأشجار الجافة لاستخدامها كوقود لإشعال النيران وكانت بدأت في الانتهاء من المنطقة حولنا فاضطررنا للتحرك إلى مسافات بعيدة لجمعها وأصبح كل منا يأخذ اتجاهًا بعد أن كنا نبحث عنها معًا وكنت قبل الغروب أصعد فوق الجبل وأتحرك لمسافة حوالي مائتي متر أو أكثر حتى أصل إلى خور أجلس على حافته أنظر إلى الخليج والشعلة المضاءة على الجانب الآخر من الخليج وأفكر وأتمنى أن نصل إلى الشاطئ الآخر، وكنا دائمًا نفكر كيف نصل إلى قواتنا هل نسبح أربعين كيلومترًا إلى الشاطئ الآخر من الخليج وكيف يكون ذلك وأنا أسبح أربعمائة متر بصعوبة هل نعود إلى داخل سيناء حتى نصل إلى شرم الشيخ ونعبر المسافة القليلة وهي خمسة كيلومترات تقريبًا ولكن كيف نصل إلى شرم الشيخ، هل نصل إلى إيلات ونتسلل برًا إلى الأردن أفكار كثيرة والإمكانيات غير متوفرة لتحقيقها.

علمنا من البدو أن هناك طائرة مصرية بالقرب من مدخل وادي فيران قد سقطت نتيجة اصطدامها بسلك الضغط الكهربائي العالي وأن أحد أفرادها استشهد وهو ممسكًا بالسلك وكذلك علمنا منهم بالطائرة التي غرست بالقرب من أبورديس وكيف قام العدو بتحريكها وأخذها من مكانها بعد عدة أيام، وعلمنا أيضًا بأن هناك مجموعات وأفراد تم أسرهم من وادي النقب وفي مغارات الفيروز.

كان على وزوجته فاطمة أكثر البدو قربًا لنا وكذلك أكثرهم تأثيرًا ولم يكن عندهم أولاد رغم زواجهم الذي مر عليه حوالي ثماني سنوات وهي ابنة عمته وحملت منه من قبل ويسقط الجنين قبل أن يكتمل أو يموت صغيرًا، وأخذنا ندع الله لهما دائمًا أن يرزقهما بطفل، وكان علي دائمًا يمازح فاطمة بأنه يبحث عن امرأة أخرى تلد له فتضحك بثقة وتقول له أسرع في البحث عن هذه الزوجة ونضحك كثيراً ونقول له إنك لن تجد مثل فاطمة أبداً وكان يعلم ذلك جيداً.

كانت فاطمة ضعيفة الجسم لا تأكل كثيراً تصحو مبكرة وكلها نشاط وتخرج لترعى الغنم طوال النهار وتجمع جذور الأشجار الجافة وتجمع الملح وتأتى بالماء وتعد الطعام لزوجها ووالده وأخيه وتربى بعض الدجاج وتقوم بأى أعمال يدوية مثل صناعة الخيام أو الملابس ثم النوم حتى الصباح الباكر- أما بالنسبة للرجال البدو فهم كسالى جداً يأكلون ويشربون وينتظرون زوجاتهم طوال اليوم- ويعملون فى المواسم وعندما يحتاجون للمال.

وفى نهاية هذا الشهر أبلغنا البدو استعدادهم للرحيل إلى إيلات للعمل هناك لكسب المال لمواجهة المعيشة الصعبة التي أصبحت بعد الحرب أسوأ ما يكون وقمت أنا وعبد الحميد بإبلاغ البدو بأننا سنقوم بالرحيل قبل رحيلهم ونطلب منهم إرشادنا لأول الطريق الصحيح وسنقوم نحن بمواصلة المشوار بإذن الله وظهر عليهم الانزعاج ورفضوا مغادرتنا المنطقة قبل عودتهم التي ستكون لمدة شهر بإذن الله أو أكثر قليلاً وأبلغونا أنه ما زالت الكمائن على الطرق وأنه لا داعي للمخاطرة وأن الطريق طويل وصعب ويجب معاونتهم لنا ويمكن أن يتم ذلك بعد تحركهم في الطريق وجمع الأخبار عنه مسبقا ولا يمكن أن يتم الآن لضيق الوقت وترددنا كثيراً وحاولنا أن نطمئنهم بأننا إذا لم يقدر الله لنا بالوصول للوطن سيكون موتنا مؤكداً لأننا لن نقبل الاستسلام بأي حال بعد كل ما حدث لنا وأنهم في جميع الأحوال في أمان ولكنهم أصروا على تأجيل رحيلنا حتى عودتهم وحتى تتضح الأمور ويتم شفاء عبد الرءوف الكامل وأبلغونا بأن الدقيق سيصلنا عن طريق الحريم والمياه سرعان ما تملأ المنطقة من المطر وستمر الأيام ويعودون ومعهم بعض المال يمكن به إصلاح العربة التي يملكونها (عربة جيب روسي قديمة) وقاموا بتوديعنا وداعاً حاراً وتمنينا لهم العودة سالمين وأوصونا أن نتوخى الحذر أثناء إحضار المياه من البئر والحركة بعيداً عن المنطقة ورحلوا وهم يبكون متأثرين.


 

أحداث شهر فبراير 1974م:

رحل أشقاؤنا البدو وأحسسنا بفراغ أكبر بفراقهم وكنا نتذكرهم بالخير دائما ونتمنى لهم التوفيق جزاءً لما قدموا لنا من معروف وتحملت نساؤهم مسئولية إحضار الدقيق والطعام بانتظام بمعدل مرة كل أسبوع أو عشرة أيام وكانوا يبلغوننا بأخبار رجالهم التي تصلهم من البدو زملائهم في العمل ويحضرن جميعا ويقضون بعض اليوم معنا ويرجعن. وفى مرة أحضرن لنا بيضاً من فراخهم وقمنا بقلي البيض في المسلى وأكلت يومها بيضة كاملة تقريباً ولم أشعر في حياتي بمثل هذا الطعم اللذيذ والرائع للبيض حتى أني كنت أشعر بأن الأكل وطعم البيض لا يمر على معدتي بل يصل إلى رأسي مباشرة وقد تخيلت أن نوع المسلى أو نوع البيض هو السبب ولكن كان الجوع وعدم وجود أي نوع من الغذاء هو السبب في إحساسي بهذا المذاق العجيب.

كانت البدويات يتمسكن بملابسهن البدوية صغاراً وكباراً وأسلوبهن البدوي في إخفاء وجوههن فيما عدا العينين وكنا نعرفهن من أعينهن وأطوالهن وكانت أم حميدة تدخن السجائر التي كان معظمها من الأعشاب البرية وكانت تدخن من خلف الحجاب أيضا وكانت مرحة ومتفائلة دائما ولم تعد ابنتها حميدة تخاف منا رغم مظهرنا الذي أصبح أسوأ كثيراً حيث طالت ذقوننا وأصبح شعرنا طويلاً وبليت الأفرولات واسودت وأيضا وجوهنا من أثر المنجنيز ومن لفحة الشمس نهاراً وضعفت أجسادنا ضعفا بالغاً.

كنا نتابع الموقف السياسي عن طريق الراديو وأحسسنا بأن طريق المفاوضات طويل وأن العدو يناور ولن يترك الأرض بسهولة ولولا شبح حرب أكتوبر وخوفه من تكراره لأصر على التمسك بالأرض، كما كنا نتابع الأغاني الوطنية الجديدة وكانت مشكلة حجارة الراديو مشكلة كبيرة حيث كان معظم الحجارة فارغة وكنا نبدلها بعد وضعها في الشمس ونقتصر على سماع نشرات الأخبار المصرية والعالمية وبعض الأغاني القليلة لرفع المعنويات، كذلك كان الكبريت الخاص بالإشعال مشكلة لعدم توفيره لأن الحطب يحتاج لأكثر من عود حتى يشتعل وقد حاولنا استخدام الطرق المبتكرة من استخدام عدسات النظارة المكبرة لتركيز ضوء الشمس على بعض الأعشاب ولكن لم تنجح هذه الطريقة لصعوبة استمرار بؤرة العدسة في مكان واحد بأيدينا المرتعشة ضعفاً.

كنا حتى ذلك الوقت نأتي بالمياه من الوادي بالجراكن وأصبح الطريق معروفاً لنا ولكنه ما زال شاقا ونتحرك فيه بحرية وثقة أكثر حتى كاد أن يرانا بدوياً يركب جملاً في أحد المرات لولا أن توارينا في اللحظة الأخيرة ليتوقف مصيرنا على مدى وطنية هذا الرجل إذا كان قد رآنا، وكنا نستغل نزولنا كل عدة مرات ونقوم بالاستحمام ليلاً في أحد أركان الوادي ونستخدم بقايا صابون غسيل تركه بعض البدو وهو قليل الرغوة لرداءة نوعه وملوحة المياه ولكنه يؤدى الغرض ونلبس نفس ملابسنا لعدم وجود غيرها وكانت مهلهلة ونعود أدراجنا في طريق شاق وعر يعرضنا للموت في أي وقت ولولا ستر الله وجلدنا فقد تعددت مرات سقوطنا ونحزن على فقد المياه التي تسقط منا ولا نهتم بكسر عظامنا التي أصبحت في قوة الصخر.

وفي مساء أحد الأيام بدأت الأمطار تهطل بغزارة بعد طول انتظار وفرحنا بذلك المطر ودعونا الله أن يستمر أطول فترة ممكنه ونخرج من الكهف أحيانا لنرى مدى أثره، وكان صوت خرير الماء واضحاً وأزداد الصوت لنسمع صوت السيول وصوت تحرك الصخور بفعل قوة السيل ولم نستطع الانتظار فخرجنا ومعنا الجراكن للخارج فور انتهاء المطر ووجدنا تجمعات المياه في كل مكان أسفل وأعلى الجبل وذهبنا لأقرب الأماكن وملأنا الجراكن وعدنا وفرغناها في البرميل حتى ملأنا البرميل وكل الجراكن وأي شيء يحتفظ بالمياه واغتسلنا وصلينا ونمنا نوماً عميقا، وكان مذاق المياه مذاقاً عذباً وأخذنا في التخيل بسرعة نمو نبات اليهج الذي سنأكله قريباً بعد أن بدأت بشائره تنبت في أماكن متفرقة من الجبل.

حتى ذلك الوقت حافظنا على الصلاة والصيام وقراءة القرآن ونفطر أحيانا في المناسبات وأكلنا لا يتعدى الوجبتين وجبه صباحاً ووجبه مساءاً وبينهما شاي وذلك في أيام الإفطار أو وجبة الإفطار مساءاً وبعدها شاي ثم السحور الذي يكون غالبًا شرب مياه، والنوم في أيام الصيام وكانت إجمالي كمية الخبز الذي نأكله جميعًا لا يتعدى كمية أكل فرد واحد في الظروف العادية بل أقل بالتأكيد ولم أشعر مرة واحدة بالشبع العادي أثناء هذه الفترة وبعد الأكل نتحسس أي فتات نأكله وكنا إذا زارنا البدو ومعهم أبناؤهم الصغار ننتظر بفارغ الصبر ترك أحد الصغار لقمة (لبة) بعد أن يشبع ونتقاسمها وكانت اللبة خبز يتم خبزه تحت الرمل الساخن بعد إشعال نار وإزاحة الرمل ووضع العجين داخل الرمل الساخن وهو خبز بدوى جميل الطعم ولكنه يتطلب كمية كبيرة من الدقيق وهو إسراف لم نكن نستطيع تحمله، وكان مظهر الماعز في تلك الفترة هزيلاً لقلة المرعى وعدم سقوط الأمطار وكثيراُ ما تمنينا بعض اللبن القليل.

وقبل نهاية شهر فبراير أمطرت السماء عدة مرات أخرى بعضها شديد وبعضها بسيط وبذلك أصبحنا لا ننزل إلى الوادي بعد أن توافرت المياه حولنا وأخذنا نتابع نمو اليهج ونبحث عن أطول أعشابه في المنطقة ونقطفها للأكل وكانت صغيرة جداً ولكنا جياعاً وفى نهاية الشهر توفر اليهج بكميات كبيرة فنافسنا الماعز في أكله وكان له طعم الجرجير لاذع المذاق ونأكل منه بقدر ما نستطيع ونحمد الله دائما على ما نحن فيه وندعو الله أن يمنح أهلنا الصبر وخاصة بعد أن تم فك اشتباك قوات الجيش الثالث مع عناصر العدو وبدأ تنظيم نزول الأجازات للضباط والجنود وسيكون ذلك آخر أمل للأهل في بقائنا أحياء.

وأخذنا نتذكر أهلنا وما فعلوه من أجلنا وكان عبد الحميد يحكى لي عن أبيه العمدة الصعيدي وإخوته والعادات والتقاليد الصعيدية وكان آخر موقف أنه أحضر تليفزيون هدية لأبيه من ليبيا أثناء تواجدنا هناك قبل الحرب وكذلك بعض الهدايا وبعض أطقم الملابس الصوف الداخلية لوالده وكيف سعد عندما سمع والدته تنقل له إعجاب والده به لإحضاره تلك الأشياء ورضاه عنه وتذكرت ما أحضرته من الكماليات للمنزل عندنا وهدايا لجميع إخوتي وكنت أعاون والدي اعترافا بجميله علي هو ووالدتي ولم أفكر في نفسي كما كان ينصحني الكثير بتوفير شيء لي لأنني شببت ووجدت أبى يكافح بشرف وكد حتى يوفر لنا معيشة كريمة شريفه والأعباء تزداد عليه مع نمونا ودخولنا المدارس في مراحل التعليم المختلفة فكان يتفانى في عمله أملاً في أن يحقق الله له البركة وكان الله يوفقه دائما لأنه يعمل بنشاط وحيوية ووطنية بارزة فرشحه رؤساؤه للأعمال الصعبة والمهام الخاصة ورشح للسفر للخارج بتشيكوسلوفاكيا للدراسة لمدة سبعة أشهر وزار كل من الجزائر وروسيا في مهام خاصة سريعة لمدد بسيطة وكنا نشفق عليه والجميع ينصحه بأن يعمل كما يعمل الجميع بالطرق الروتينية ولكنه كان يحب أن يتميز عن الجميع وكنت أحكى لعبد الحميد بأنني قبل الحرب قضيت أسعد أيام حياتي حيث أكلت جميع أنواع الفاكهة وأنواع الأطعمة احتفالا بي بعد عودتي من ليبيا ونجحت أختين لي في الثانوية العامة ودخلتا الجامعة وجميع إخوتي نجحوا والحمد لله، وكأن الله أراد أن يهبني كل ما تمنيت قبل أن أموت (كما كان شعورنا معظم الوقت) وكنا نضحك أحياناً رغم كل الظروف الصعبة وعدم وجود أي أمل لنا في انسحاب للقوات والعودة كما كنا أحياناً نتكلم عن الزواج وأخذ عبد الحميد يتحدث عن بعض من كان يفكر بالزواج منهن وأسباب عدم تقدمه للزواج منهن بأسباب تتعلق بالعادات والتقاليد الخاصة بأهلهن والتي لا تتناسب مع طباعه وأهله، وهذا شيء غير مرغوب في قرى صعيد مصر وكنا نعرف بعض جيداً ولكن لم يكن أحد باح للآخر بأسراره الخاصة جداً إلا في هذه المنطقة ورويت له أيضا عن عدم تفكيري في الزواج بسبب قراري للوقوف بجانب والدي متحملاً بعض أعباء المعيشة حتى تتزوج بعض أخواتي البنات وبذلك يمكن التفكير في الزواج، ولكن حفاظاً على أنفسنا إذا أراد الله لنا العودة سوف أفكر في الزواج إن شاء الله، وذلك بعد إتمام زواج الأختين المخطوبتين حيث كان في ذلك الوقت قد خطبت إحدى أخواتي والأخرى تمت قراءة الفاتحة لها.

انتهى شهر فبراير وتابعنا خلاله حفل توزيع الأنواط والنياشين وسماع أسماء المكرمين الأبطال لعلنا نسمع أسماء نعرفها وبالفعل سمعنا أسماء بعض من نعرفهم وكنا نتخيل أن يكون الحل وانسحاب العدو بعد الاحتفال وتعود الأوضاع كما كانت وحتى ذلك الحين لم يفكر أحد منا إلا في العودة سالماً إلى أهله وهو أعظم تكريم من الله سبحانه وتعالى.

أصبح منظر الجبل في نهاية شهر فبراير مائلاً للخضرة وانتشرت المياه في كل مكان وكانت حفر المياه في الأماكن المرتفعة تتبخر أولاً ثم تجمعات المياه في أماكن أكبر وهكذا حتى تنتهي في تجمعات مياه كبيره قرب الوادي وكانت كلما نفذت المياه تأتى الأمطار من جديد وتمتلئ ويرتوي الزرع، وظهرت خلال هذه الفترة أعشاب طويلة بالوادي كانت جافة جداً وأصبحت خضراء ولها رائحة الشيح وبناء على نصيحة أحد البدو قمنا بجمعها وصعدنا بها الجبل واستخدمناها كمراتب للنوم عليها وكانت عالية في بداية الأمر ثم تهبط شيئًا فشيئًا وكنا نجمع المزيد لوضعه عليها لنشعر بالراحة أثناء النوم وكانت فكرة جميلة سعدنا لاكتشافها رغم وجودها من فترة طويلة وشعرنا بنوم هادئ جميل على هذه المراتب رغم وجود بعض الأشواك الصغيرة بها ولكنها كانت أكثر راحة من أرض المغارة ذات الصخور البارزة.

وفي أحد المرات التي كنا نجمع فيها العشب وأثناء جمعنا له تقابلنا مع سيدة ترعى الغنم وتعرفنا عليها وهي زوجة محمد أخو علي والتي زارتنا مرة واحدة فقط قبل ذلك وبعد لحظات حضرت ستيت الشقيقة الكبرى لحميدة وقد انتهزنا هذه الفرصة لشكرهم على كل ما يفعلونه من أجلنا.


 

أحداث شهر مارس 1974م:

مرت الأحداث على ما يرام وبشكل روتيني وبدأ شعورنا بالضيق ورغبتنا في العودة للأهل وخاصة بعد أن أتم الله شفاء عبد الرءوف وأصبح يتحرك ويحضر الماء معنا مثلنا تماماً وكان تحركنا في المنطقة أعطى لنا الثقة في التحرك، وبدأنا نسأل السيدات متى يعود علي وأصحابه؟

أصبح اخضرار الأعشاب التي كنا نستخدمها للوقود مشكلة تواجهنا وتأخذ وقتاً ومجهوداً كبيرا للبحث عن أعشاب جافة واضطررنا للدخول لمنجم المنجنيز المجاور لإحضار بعض عروق الخشب لاستخدامه في إشعال النار مع تقديرنا لخطورة سقوط المنجم علينا وخطورة أن نضل الطريق داخل المغارات المنشقة والمتشابهة في الظلام الحالك في سبيل الحصول على العروق الخشبية (وفي أول زيارة لي لهذا المكان بعد تسلم مصر أراضي سيناء وجدت المكان كما هو إلا المغارة المجاورة من التي كنا نعيش فيها قد هدمت وأغلق مدخلها فحمدت الله أن ذلك حدث بعد أن تركنا المكان).

وكانت دائما تراودنا أفكار عديدة للعودة كيف نعود وبأي طريق؟ هل نعود عن طريق دولة السعودية والأردن بعد عبور سيناء للشرق أم نتجه شمالاً حتى نصل إلى عيون موسى، وكان طريق الشمال محفوفاً بالمخاطر فالعدو في كل مكان في طريق التقدم ثم العدو وقواتنا في منطقة عيون موسى وكذلك البوليس الدولي في المنطقة الفاصلة، وكذلك طريق الشرق كان مجهولاً لنا وصعبا لكن البدو يمكنهم مساعدتنا إذا تحركنا في هذا الاتجاه ولكن ماذا سنفعل في الخليج؟ وهل نعبر عن طريق إيلات متسللين؟ ومدى خطورة ذلك؟ وماذا لو تمكن العدو منا بعد كل هذه المدة، كان الجواب واضحاً أنه لن يتمكن العدو منا إلا شهداء.

وكان شهر مارس حاراً وبدأت المياه تجف في المناطق العليا من الجبل فتنزل كل فترة لتعويض المياه ورأينا أحيانا ديدان في بقايا الماء المتجمع واستخدمناها في الشرب بعد إزاحة تلك الديدان وتعودنا على ذلك لأننا مضطرين ولم يشكل لنا أي مشكلة أمام توفير الجهد واستغلال أي تجمع مياه في المنطقة كما بدأ نبات اليهج يتحول إلى نبات به أشواك وطعم غير مستساغ ومع ذلك أكلنا وأصبح الدقيق هو غذاؤنا الرئيسي سواء بالملح في كثير من الأحيان وعلى شكل فتة أو بالسكر أحياناً قليلة في المناسبات.

وتمكن الهزال والضعف منا وأصبحنا نشبه الهياكل العظمية ووضح ذلك من ملابسنا المهلهلة ووجوهنا الشاحبة وكنا نرى وجوهنا على صفحات المياه أثناء ملء الجراكن أو في البرميل داخل المغارة، وأصبح شعر رؤوسنا طويلاُ جدًا وطالت لحانا جداً فطلبنا من البدو مقصاً وقمنا بتهذيب شعورنا وذقوننا بطريقة عشوائية لعدم معرفتنا أصول الحلاقة ولكن شيء خير من لا شيء.

وكان السيد علي مقتضبًا أحيانًا ساهمًا معظم الوقت يفكر في عروسه وقريبته وكذلك كان الجندي محمد عبد الرحمن والذي كان مكتئبًا أحيانًا ومرتفع المعنويات أحيانًا أخرى، أما عبد الرؤوف جمعة فكان دائمًا مبتسمًا ابتسامة الرضا بقضاء الله وقدره خجولاً عند المزاح جادًا عند الشدة، وكان دورنا أنا وعبد الحميد المحافظة على الروح المعنوية لهم ولنا، بحكايات الذكريات العائلية وذكريات الكتيبة وذكر الأصدقاء وكنا نضحك كثيرًا من قلوبنا راضين، ولو أنا هناك من يشاهد بؤسنا وجوعنا وبردنا ومعاناتنا مع الطبيعة لظن أن الجنون قد مسنا.

حافظنا على نظافتنا الشخصية قدر الإمكان كما حافظنا على نظافة سلاحنا لشعورنا بأهمية استخدام ذلك السلاح في الوقت المناسب، وكنا قد جمعنا بعض القنابل اليدوية والطلقات ونقوم بتنظيفها كل فترة كما كنا نحافظ على الصلاة والصوم ولم تنقطع دعواتنا إلى الله بأن يحقق أمنيتنا في الوصول لأهلنا سالمين، وكان ذلك أقصى أمنية لنا أن نصل سالمين ونأكل ما نحبه وما حرمنا منه وننام في أمان ولم يتجاوز تفكيرنا أبعد من ذلك وكان شاغلنا الحقيقي هو موقف أهلنا الآن بعد هذا الوقت وكان الأمل في العودة يراودنا دائما مع تأكدنا من قدراتنا على مواجهة الصعاب بعون الله ثم بإرادتنا الحديدية.

علمنا من البدو في بداية الأمر بوجود مركب تتحرك بين ضفتي قناة السويس منذ حرب
يونيو 67 إلى الآن لنقل بدو سيناء إلى ذويهم في مصر والعكس وذلك بتصاريح من مخابرات الجانبين وكان العدو يستغل هؤلاء البدو في الحصول على المعلومات منهم بالصفة الودية أو الغير ودية حتى امتنع الكثير منهم من السفر إلى مصر لما يلاقونه من عذاب بسبب هذه الزيارة ومنهم علي بركات بالرغم من وجود عمته وأم زوجته فاطمة وكذلك أخت فاطمة وعمه بالسويس والذي هاجر إلى القاهرة بعد ضرب السويس وغيرهم من الأقارب، وكنا على أمل أن تستمر تلك الرحلات حتى يمكننا إرسال ما يطمئن أهلنا وطبعاً ليس خطاباً أو ما شابه ذلك لأن العدو يقوم بتفتيش المسافرين تفتيشاً دقيقاً.

وفي نهاية هذا الشهر وصل الإخوة البدو من إيلات وقاموا جميعا بزيارتنا وأحسسنا بفرق كبير حيث ازدادوا وزناً وارتدوا الملابس الجديدة وظهر عليهم البهجة والسرور، وسعدنا بلقائهم وسعدوا هم كذلك، وقصوا علينا ما حدث وما رأوا خلال زياراتهم والأعمال التي مارسوها وهى أعمال يدوية بسيطة ولكن كان العدو يجزل لهم العطاء بالنسبة لحالتهم وهو يستفيد منهم تماماً لأن مرتباتهم قليلة جداً بالقياس لمرتبات الإسرائيليين في نفس العمل، وأحضروا معهم بطاريات جديدة للراديو وبعض أنواع الحلوى والفاكهة بالإضافة إلى الدقيق وعلبة سمن، وبالطبع قضينا وقتاً سعيداً وكانوا سعداء بأننا ما زلنا بخير وأن الأمور تسير على ما يرام وطبعا كان ملحوظا لهم ضعف أجسامنا ونحافتنا وسوء حال ملابسنا وعاتبونا بأننا لا نأكل جيداً وأننا نقسوا على أنفسنا وعلينا أن نأكل الموجود والله عليه الرزق وشكرنا لهم مودتهم وأبلغناهم أننا والحمد لله بخير ونأكل ولا ينقصنا شيء غير الرحيل، وحاولوا إقناعنا أن نؤجل هذه الفكرة حتى يتم الحل السلمي الذي يقال أنه قريب على حد قول العدو في كل مكان بإسرائيل وهو أفضل لنا ولكم ولكن عندما وجدوا إصرارنا قالوا إن ذلك الأمر يحتاج إلى دراسة وتجهيز وسيتم المناقشة فيه خلال الزيارة القادمة ويكونوا قد قاموا بمعرفة موقف العدو حولهم في المنطقة لأنهم بعيدون عن المنطقة منذ فترة.

وخلال زيارتهم الثانية أبلغونا بأنهم لن يستطيعوا التحرك معنا خلال رحلة العودة التي تصل مسافتها حوالي مائتي كيلو متر وهي رحلة طويلة ومحتمل أن نقع في كمين للعدو أو تعثر علينا دورية أو يرانا أحد العملاء فيبلغ عنا، وأفهمناهم أننا لا نريدهم معنا ولكننا نريد أول الطريق الصحيح وسنحاول نحن العودة وربنا يوفقنا وأنه إذا حدث لنا أي مكروه فلن نمكن العدو من أسرنا فسوف نقاومه حتى الموت الذي لم نعد نخشاه وكذلك لن نبيح بسرهم مطلقا حتى بعد وصولنا إلى مصر خوفاً من تسرب أي معلومات للعدو عنهم ولن نبلغ بأسمائهم أو مكانهم لأي جهة مصرية حتى يتم الجلاء الكامل، وشعرنا بالقلق من عيونهم وقدرنا كيف يحس هؤلاء المساكين بالرعب من العدو في الظروف العادية فما بالك لو علم العدو أنهم يعاونون عناصر صاعقة بالمنطقة وهناك شيء هام بالنسبة لنا وبالنسبة لي شخصياً في هذه الزيارة حيث أبلغني أحد البدو نقلاً عن مجموعة بدو أخرى كان يستخدمها قوات الصليب الأحمر الدولية والبوليس الدولي والقوات المسلحة المصرية والقوات الإسرائيلية في البحث عن الجثث في مناطق القتال وقد تشكلت اللجان من العناصر المقاتلة لكلا الطرفين وتم البحث عن الجثث وأن العدو نقل كل جثث ضحاياه في جنوب سيناء بعد القتال مباشرة وسمع أحد البدو حديثا بين جنديين إسرائيليين في منطقة جبل وتر التي تمت فيها معركتي مع العدو، بوجود قتلى إسرائيليين قتلهم المصريون بعد معركة قاتل فيها المصريين بشراسة غير متوقعة، وسعدت سعادة بالغة لسماعي هذه الشهادة من العدو وسعد كل رفاقي وشعرنا بالفخر أمام البدو الذين كانوا يشعرون بالسعادة بترديد هذا الكلام بينهم وشعرنا بمدى سعادتهم عند إصابة العدو بأية خسائر.

وأمام إلحاحنا على الرحيل طلب البدو إعطائهم الفرصة للإعداد لذلك واختيار الوقت المناسب وإصلاح عربتهم الجيب الروسي القديمة لتوصيلنا بها ليلاً لأطول مسافة ممكنه حيث التحرك بها ليلاً أقل خطورة ويكونون أيضاً تحركوا في المنطقة عدة مرات لاختيار طريق أمثل سواء بالعربة أو على الأقدام طبقا لمناطق نقط تفتيش العدو على الطريق، وكنا نسألهم عن الطريق وطبيعته ومناطق تواجد العدو فكانت إجاباتهم غير واضحة وغير مؤكدة لعدم تحركهم في ذلك الطريق منذ زمن بعيد كذلك لتحركهم بالعربات من تلك المناطق وعدم اهتمامهم بأماكن العدو بالإضافة إلى أن هناك تغييراً كبيراً بعد الحرب وأصبح للعدو مناطق تواجد غير مرئية للمتحركين على الطرق بالعربات.

وظللنا نتابع الموقف السياسي وبدأنا في إعداد أنفسنا معنوياً لرحلة العودة وحاول البدو إقصاءنا عن فكرة العودة في هذا الوقت فرددنا عليهم بأننا الآن لا نجد سببًا لعدم الرحيل وسنعود بإذن الله إلى أهلنا قبل أن يحدث لهم أي مكروه بسببنا، وقمنا بقص شعرنا وازداد معدل الأكل قليلاً وكنا نحلم بعودتنا جميعًا سالمين وكنا نفكر إذا قامت مجموعة من العدو باعتراضنا وكيف سيتم مباغتتهم وضربهم بإصرار حيث لا مفر لنا إلا القتال حتى الموت وهو أصعب أنواع القتال الذي يصعب أن يواجهه أي عدو وكنا على ثقة بالله سبحانه وتعالى ثم أنفسنا ولكن كنا نفكر أحيانًا في الموت الذي هو قريب منا واستمرت صلاتنا ودعواتنا للعودة سالمين، وأصبحنا في انتظار إشارة البدو ببدء رحلة العودة.

وقام البدو بزياراتنا مرة أو اثنتين وكانوا يقولون أن الوقت ليس مناسبًا وقريبًا سيتم التنفيذ بإذن الله، وأثناء وجود عبد الحميد فوق الجبل لإحضار بعض الأعشاب سمعنا صوت طائرة هليكوبتر تحلق على ارتفاع منخفض جدًا وحلقت فوق المغارة وخشينا أن يكونوا قد رأوا عبد الحميد وخاصة أن الجبل مكشوف من قمته التي تشبه المطار المستوي وعاد عبد الحميد يلهث ويقول أن الطائرة كانت قريبة منه جدًا ولكن الحمد لله فقد استغل العشب الكثير الذي كان يحمله معه واختفى أسفله ومرت الطائرة دون أن تراه، وقلقنا بعدها ليوم أو يومين وأعددنا أنفسنا للقتال لو هاجمنا العدو في هذه المنطقة، وانتهى شهر مارس وكنا مستعدين ومنتظرين إشارة البدو.


 

أحداث شهر أبريل 1974م:

في بداية شهر أبريل قام البدو بزيارتنا وأبلغونا بأن المعلومات التي جمعوها قليلة عن الطريق وأن الموقف غير واضح لهم وأن هناك أقوال متضاربة عن تواجد العدو في أماكن عديدة حاولوا توضيحها لنا ولكن كان ذلك يعتبر شيئًا خياليًا حيث يتكلمون عن أماكن وأسماء لا نعلم عنها شيئًا وأبلغونا أنهم ما يزالوا يحاولون إصلاح عربتهم الجيب، وبدأت كميات الدقيق تزداد مع زياراتهم وكثرت الزيارات وبدا لنا أن الوداع قريب، وأصبح الحديث مع البدو يدور عن المستقبل والتفاؤل ودائما نقول بإذن الله إذا أراد الله لنا السلامة سوف نراكم ونزوركم فقد أصبحتم أهلنا الآن وكانوا خائفين علينا وحاولوا مرارًا أن يبعدونا عن فكرة العودة في هذا الوقت ولكننا كنا مُصِرِّين على تنفيذها مهما كانت النتائج.

وفي أحد هذه الزيارات أحضروا لنا أمواس الحلاقة فقمنا بحلاقة ذقوننا التي أصبحت مخيفة وملفتة للنظر وحلقنا رؤوسنا كما أحضروا قطعة صابون للاستحمام وبعض الصنادل حيث بليت أحذيتنا عدا حذاء عبد الحميد الذي أحضره من ليبيا وكان أمريكي الصنع قويًا لم يتمزق ولم تنقطع خياطته طوال مدة بقاؤنا وكان مصدر إعجابنا وهو من الدروس المستفادة وكذلك الأفرول الأمريكي الخاص بالعمليات وبدأنا بمراجعة كل شيء وإعداده فقمنا بتنظيف السلاح والذخيرة وقياس الملابس التي أعددناها لهذه المناسبة وتنظيفها من التراب، وكانت المياه قد قلت في المنطقة القريبة وبدأنا ننزل لها في الأماكن السفلى رغم تخيلنا أن هذه التجمعات التي كانت تشبه حمام السباحة الصغير سوف تبقى مدة طويلة ولكنها جفت سريعًا من تأثير حرارة الجو التي بدأت في الارتفاع خاصة نهارًا.

حضر علي وأصحابه وأبلغونا بالاستعداد فقد تم إصلاح العربة وأنه سيتم التحرك خلال يومين أو ثلاثة إن شاء الله، وبالفعل قمنا ثاني يوم بالنزول إلى بركة مياه كبيرة وحلقنا ذقوننا وصعدنا إلى المغارة وقمنا بخبز كمية الدقيق الموجودة معنا وكثر معدل أكلنا حتى تتحسن صحتنا ونستطيع التحرك في رحلة العودة ولكننا لم نشعر بالشبع وكنا نحلم وكلنا أمل بتحقيق أمنية الوصول بسلام جميعًا ولم نحاول التفكير في المخاطر التي يمكن أن تواجهنا والتي كنا نعلم أننا مقبلون على مجهول.


 

اليوم الأول للتحرك في طريق العودة:

استيقظنا مبكرين في اليوم الأول الذي حددناه للتحرك في طريق العودة وكلنا عزم وتصميم على هذا القرار رغم علمنا بكل المشاق والمخاطر واحتمالات النجاح والفشل التي تحيط بهذا القرار.

وقد وصل الأخ علي بركات حوالي الساعة التاسعة وسألنا هل أنتم مصرون على الرحيل فضحكنا وأبلغناه عن قرارنا فقال عليكم بالاستعداد للرحيل فورًا، وفي دقائق قليلة كنا نحمل سلاحنا والخبز وجميع جراكن المياه وصلينا ودعونا الله بالتوفيق ونظرنا نظرة وداع للمكان وقرأنا الفاتحة ونزلنا مع علي إلى الوادي عند أحد الأماكن التي بها "مَسْك" مياه لم نتخيل وجودها حتى الآن، وكان هذا المسك – كما يطلق عليه البدو وهي كلمة من المَسْك والاحتفاظ بالمياه داخلها- في طريق وعر جدًا لم نسلكه من قبل، وفوجئنا بحجم المياه وجمال المنظر حولها وتخيلنا أنفسنا نقفز في هذه البحيرة الصغيرة للسباحة واللهو ولكن الوقت كان غير مناسبًا بالطبع، ووجدنا فاطمة بانتظارنا ومعها الجدي( زبيدة)، الذي ولد أول يوم وصولنا إلى المغارة وكان قد كبر ومع فاطمة صفيحة مياه فارغة نظيفة، وطلب منا علي أن نستريح وقام بذبح الجدي وأشعلت فاطمة النار وتم سلق الجدي وإعداد لبة خبز وقمنا بأكل الجدي الصغير الذي كان علي بركات قد وهبه لأهل الله الغلابة وقد كانت لفتة جميلة منه، وبعد شرب الشاي ودعنا وحدد لنا مكان اللقاء في نهاية هذا الوادي قبل الغروب وكان النزول صعبًا للغاية بصورة لم نكن نتخيلها وقدرنا مدى معاناة هؤلاء البدو للحضور إلينا ومعهم الدقيق كل هذه المسافة حتى أننا أشفقنا عليهم ولو نعرف المجهود الكبير الذي تحملته نساؤهم لإحضار الطعام لنا لنزلنا نحن لإحضاره، وعرفنا لماذا كانوا يحضرون كميات صغيرة من الدقيق حتى يستطيعون حملها وإحضارها كل هذه المسافة الطويلة الصعبة الشاقة في التحرك الذي يشبه المستحيل.

وواصلنا التحرك حتى وصلنا إلى مدخل الوادي في الوقت المحدد ووجدنا علي ينتظرنا وسعدنا لرؤياه وكان معه أخوه محمد بركات يقود العربة الجيب وتحركنا وكان الليل قد خيم على منطقة خيامهم والتي ظهرت من بعيد وتحركنا لنتفاداها وأثناء التحرك روى لنا علي أنه أخبر والده الشيخ بركات بمعاونته وإخفائه لمجموعة من الجنود المصريين وقال لنا أن والده نهره وغضب منه واعتقدنا أن سبب غضب والده تحمله للمخاطرة وأنه ما كان يجب أن يفعل ذلك، ولكنه تعجب وقال نهره لأنه لم يبلغه حتى يستطيع مشاركته ومساعدته في معاونتنا بخبرته الطويلة بالأماكن التي يستطيع أن يخبئنا بها وبالطرق التي تصلح للسير وأشياء أخرى كان يود الشيخ العجوز القيام بها لمعاونة الجنود المصريين ضد أعداء الوطن وأعداء الدين، وعلمنا من علي أن والده أخبره عن الموعد المناسب للتحرك وأن الفرصة مواتية هذه الأيام لأن العدو يحتفل هذه الأيام بأحد أعيادهم كما أوصاه بالتحرك ليلاً.

وكنا نحن الخمسة نركب العربة ومعنا الماء والفراشيح والسلاح مخفي ولكنه جاهز للاستخدام في أي لحظة، ودارت العربة وتحركت من داخل الوادي إلى خارجه وكان الليل قد خيم ولا شيء حولنا إلا الجبال العالية وكأنه ليس لهذا الوادي مخرج، وأكدنا لعلي أننا لن نكون صيدًا سهلاً للعدو وأنه لابد أن يطمئن على نفسه وعلي عشيرته من أي مكروه لأن العدو لن يصل إلينا أحياء وكان علي ينزعج لذلك ويقول: ولماذا كل هذا ارجعوا معنا ولا داعي للمجازفة وكنا نضحك لأن ذلك أصبح مستحيلاً.

كانت معنوياتنا جميعًا عالية ومتفائلين رغم القلق الداخلي على مصيرنا المجهول ولكننا كنا مصممين أن نصل أو لا نصل جميعًا، وكنا متحمسين جدًا وأخذت العربة تتحرك ببطء داخل الوادي لوعورة الطريق حتى بدأت في الوصول إلى أول الإسفلت في بداية الوادي وتذكرت وقت دخولي لهذا الوادي وظهرت أضواء مدينة أبورديس ومررنا على المنطقة التي دخلتها، وأشرت إليها وشرحت للزملاء كيف دخلت الوادي، وتركنا الجبل وبدأنا نتحرك في أرض مفتوحة نسبيًا وحولنا صخور كبيرة جبلية (طرش جبل) وكان كل شيء هادئًا، وقطعنا حوالي أربعة كيلومترات حتى وصلنا لمدق مخفي وكان كل كيلومتر نتجاوزه بالعربة نشعر بسعادة بالغة لأن ذلك سيوفر جهدًا كبيرًا علينا وأصبحنا متفائلين جدًا، وعبرنا ممرات جبلية مخفية لا يعرفها إلا البدو، وتجاوزنا أخطر المناطق صعوبة وهو كمين أبوزنيمة والذي كان يتخذه العدو كموقع مثالي لتنفيذ الكمائن والسيطرة على التحركات على الطريق الساحلي، ولكن البدو بطريقهم المخفي والموازي لهذا الطريق استطاعوا المناورة وقطع الطريق ولكنهم كانوا لا يعلمون أماكن العدو بعد ذلك، وكانوا خائفين من هذه المنطقة ويتحركون بحذر حتى اجتزنا هذا المكان ودخلنا في منطقة جبلية أخرى ضيقة وتصلح للكمائن والسكون يخيم على المنطقة ولم نر عربة واحدة تتحرك بسبب قلة حركة عربات البدو في هذا التوقيت وكذلك وجود العدو في أيام أعياد ولا يتحرك فيها كعادته إلا للضرورة القصوى.

كنا بملابسنا العسكرية دون رتب وسرنا حتى تركنا تلك المنطقة الجبلية وقطع محمد بنا حوالي من عشرة إلى خمسة عشر كيلومترًا وبدأ يتكلم مع علي بأن هذه هي المنطقة التي لا يمكن التحرك بعدها وطلب علي منه أن يتحرك قليلاً ففعل ثم تناقشا ثانيًا واقتنع علي بأن هذه آخر نقطة لا يمكن التحرك بعدها ووقفت العربة وترجلنا وحملنا أحمالنا وقمنا بوداع الأصدقاء وتمنوا لنا السلامة ووعدناهم بأننا لن نروي أي شيء عنهم حتى يتم تحرير الأرض وذلك خوفًا من أن يصل ذلك لعملاء العدو، وتحركوا عائدين وتحركنا على الطريق الإسفلت الذي قطع الطريق (المدق) الذي سلكناه، كنت أنا وعبد الحميد في المقدمة والباقي في الخلف وكنا نسرع الخطوات ولكن دون أي صوت وبعد تحرك لمدة ساعة وجدنا أنفسنا نمر بمنطقة وادي كثيف الشجر ويبدو أن المنطقة بها سكان وتحركنا بحذر لأن المكان يصلح لعمل الكمائن إلى أن لاحظنا شيئًا أمامنا وتوقفنا فجأة وأخذنا استعدادنا ولكن لم يكن هناك شيء إلا الأشجار الكثيفة التي لم نتعود عليها وبدأنا في الالتفاف والتحرك حتى وجدنا جدارًا وقد تخيلنا أن هناك أشخاص خلفه ولكن لم نجد شيئًا ووجدنا المنطقة خالية، أو أن هناك من يعيش بها ولا نراه لأن مثل هذا المكان لابد من أن أحد يعيش به حيث الأشجار الكثيفة والتي تدل على وجود مصدر مياه دائم، وواصلنا السير مسرعين رغم أحمالنا الثقيلة ولم نعبأ بشيء لأن المكان كله أشجار وبعض المباني المهدمة ولو تحركنا بحذر لن نتقدم بضع مئات الأمتار فتوكلنا على الله وأسرعنا الخطى دون إحداث أي صوت ومتيقظين لأي حركة، وكنا نعتقد أننا سنصل خلال أيام قليلة لو استمر تقدمنا بهذا المعدل والطريق أمامنا لا ينتهي وقبل أول ضوء وجدنا أنفسنا في منطقة فسيحة مكشوفة يصعب الاختفاء بها إذا فاجأتنا أي عربة في الصباح وقمنا بتغيير مسارنا في اتجاه موازي للطريق وبعيدًا عنه وكانت الأرض مفتوحة بصفة عامة وتحركنا بعيدًا عن الطريق حتى وصلنا لتبة من الأرض بها بعض الخيران الصغيرة وكنا نشعر بالإجهاد وحاجتنا لأخذ قسط من الراحة وكان هذا المكان يصلح للراحة وإخفائنا حتى اليوم الثاني.

اليوم الثاني للتحرك في طريق العودة:

استيقظنا حوالي الساعة الثانية ظهرًا وقد استعدنا نشاطنا وبعد تناول وجبة خفيفة وشرب الشاي بدأنا في مراقبة الطريق من على بعد وكان على الطريق تحركات محدودة لعربات العدو وحددنا اتجاه الطريق لنسير بموازاته ولم يكن الخليج قد ظهر بعد وقررنا استكمال نهار هذا اليوم في الراحة لنكون جاهزين للتحرك مع آخر ضوء.

وقبل الغروب وبعد تناولنا الطعام حملنا أمتعتنا وبدأنا التحرك في اتجاه السير الذي كنا قد حددناه نهارًا وكانت حركتنا أبطأ من ليلة أمس كذلك كانت الأرض وعرة أحيانًا ورخوة أحيانًا أخرى حتى خيم الليل علينا وأثناء تحركنا ظهرت أمامنا أنوار فجأة وبدأت تقترب وانبطحنا أرضًا واستعدينا للقتال وكانت الأنوار سريعة، كيف ظهرت هذه العربات فجأة هكذا؟ ثم وجدنا العربات تتحرك في اتجاه آخر واكتشفنا أننا قربنا جدًا من الطريق الذي ينحرف بشدة قبل أن يصل إلينا ولكننا لم نشعر بذلك إلا بمرور العربات من خلف بعض التباب أمامنا وبدأنا في التحرك بعيدًا عن الطريق وتابعنا التحرك حتى وصلنا إلى منطقة مكسرة من الأرض واكتشفنا وجود بعض الخيام في المنطقة وكان الوقت ليلاً متأخرًا والتعب قد حل علينا بالرغم أننا لم نتحرك مسافة طويلة كما كان ينبغي فقمنا بالمبيت في المنطقة على أمل أن نقوم بتعويض المياه التي فقدناها وكنا نستهلك كمية مياه كثيرة نظرًا لمجهود التحرك سيرًا على الأقدام في أراض يصعب السير بها وقد أحسسنا بالإجهاد والتعب ووجدنا أحد الخيران بالمنطقة والتي تصلح للمبيت وقررنا المبيت بها.

اليوم الثالث للتحرك في طريق العودة:

استيقظنا صباحًا على صوت البدو وحركتهم وكنا قد قررنا أن نمكث في أماكننا حتى ينتصف النهار ثم نأخذ ما نحتاجه من المياه والطعام منهم ونواصل التحرك حتى لا يستطيعون الإبلاغ عنا وإذا أبلغوا نكون قد تركنا المكان وتحركنا ليلاً، وكنا نحتاج البدو أيضًا لتصحيح تحركنا وتأكيد خط السير والحصول على معلومات عن العدو والمنطقة إن أمكن والتأكد من أننا في الاتجاه الصحيح للتحرك وجلسنا قليلاً ولكننا لم نستطع أن نخفي أنفسنا أكثر من ذلك وقمنا بمحادثة البدو وقد انزعجوا جدًا في البداية ولكننا هدأناهم وأبلغناهم أننا جنود مصريون ونريد أن نعرف مكاننا واتجاه عيون موسى ونحتاج لبعض المياه والطعام، وكانوا يبدون فقراء جدًا ويبعدون كل البعد عن المدنية والتحضر وأحضروا لنا بعض المياه وأشاروا إلى اتجاه عيون موسى وفهمنا كلامهم بصعوبة وكانوا يتكلمون بطريقة غير ودية خائفين منا، وانزعجنا من أمرهم وأبلغناهم بأننا سنظل النهار معهم ثم نتحرك ليلاً، وقمنا بمراقبتهم حتى لا يتحرك أحدهم ليبلغ عنا وكنا قلقين منهم جدًا.

ثم قررنا التحرك قبل آخر ضوء في الطريق الذي أشاروا إليه وكان واديًا طويلاً موازي لاتجاه الشمال ويحيط به كتفي هضبة صغيرة على امتداد الوادي الطويل وكان بالوادي أشجار كثيفة على امتداد التحرك وكانت تقل أحيانًا وتكثر أحيانًا أخرى وكان الجبل الصغير يقترب أحيانًا ليصبح واديًا ضيقًا وأحيانًا يتسع وتحركنا كثيرًا في ذلك اليوم حتى أصبحنا في منطقة متسعة ثم تقدمنا في اتجاه الشمال وليس هناك أي دلائل عن وجود عربات بجوارنا أو أي حياة، وقد انقضى الليل ونحن نتحرك حتى وجدنا مكانًا يصلح للراحة والمبيت فترة الليل.

اليوم الرابع للتحرك في طريق العودة:

وبظهور ضوء الصباح استيقظنا وتناولنا طعام الإفطار وأخذنا قسط للراحة حيث قررنا التحرك قبل آخر ضوء لاستغلال الظلام في إخفاء تحركنا وقبل الغروب بساعتين بدأنا في التحرك شمالاً وبدأت الوديان تتفرع فسرنا طبقًا لحاستنا، وتابعنا التحرك حتى وجدنا أنفسنا نخرج من وادي صغير إلى ساحة كبيرة جدًا وبها منطقة سكنية بها كثير من العشش والخيام وكانت بها حركة كبيرة ومدقات عربات وأغنام وجمال، وتحركنا في اتجاه المنطقة محاولين الوصول إلى أحد الأكشاك المتطرفة لأخذ بعض المياه والطعام ومواصلة التحرك وتسللنا حتى وصلنا إلى أحد الأكشاك الكبيرة وكان البعض قد أحس بنا ولكنهم كانوا يراقبوننا في ذهول وكأنهم يسألون أنفسهم أي نوع من الرجال هؤلاء، يحملون سلاحًا ويتحركن في ملابس الجيش المصري وأين كان هؤلاء الرجال؟ فهل هم إسرائيليون يتخفون في ذلك المظهر وضلوا طريقهم؟.

وجدنا أنفسنا أمام امرأة ضخمة البدن وهذا أمر جديد علينا أن نرى امرأة بدوية بدينة، وكان مظهرها يدل على الاحترام وأبلغناها أننا جنود مصريون ونحتاج لبعض الماء والطعام ونظرت إلينا نظرة استغراب وشك وقالت سأحضر لكم الماء والطعام ولكنكم لستم مصريون وحاولنا أن نفهمها أننا مصريون ولكنها كانت تشكك في ذلك بصورة واضحة وجلسنا وشربنا وأخذنا نتحدث ثم رأينا فجأة أمامنا إناءً كبيرًا بحجم الطشت الخاص بالغسيل مملوءً بالخبز ووضعت فوقه كمية من السكر والماء الساخن وقطعة من السمن وأصبح طبق فتة شهيًا وأكلنا بنهم وانزعجت السيدة لذلك المشهد الذي كان كفيلاً بأن تصدقنا بأننا مصريون فقد أنهينا على الإناء كاملاً ولم تصدق أن نأكل مثل هذه الكمية التي وضعتها من قبيل الكرم والفخر بما عندها وبالرغم من ذلك لم نشعر بالشبع.

وأثناء تناولنا الطعام حضر شابين صغيرا السن بملابس بدوية عليها سترة سبور ومعهما راديو وأخذا يتحدثان معنا وأثناء حديثهما أبلغانا بأن بعض شباب القرية قد قاما بتوصيل بعض الضباط والجنود المصريين إلى عيون موسى وكان ذلك شبه حلم لنا، وتلقفنا هذا الخيط بسرعة وسألتهم عن كيفية ذلك ومتى كان وقلنا لهم هل تستطيعون أن تدلونا عليهم، فترددوا قليلاً وقالوا سنحاول ولكنهم أكدوا لنا بما قام به هؤلاء الشباب وذكروا بعض الأسماء لزملاء لنا في الصاعقة كنا نعرفهم وكان ذلك مفاجأة لنا، وتحرك الشباب ثم عادوا وقالوا إنهم غير موجودين الآن وكنا قد فكرنا ووجدنا أن ذلك شيء من الخيال فكيف يغامر بعض البدو بأرواحهم في سبيل إرشاد بعض الجنود المصريين على الطريق، ولكن من الجائز أن يحدث ذلك إذا كان هؤلاء الشباب مؤمنين بذلك وتدفعهم إليه وطنيتهم وتبادلنا النظرات أنا وعبد الحميد بظهور هذا الأمل.

وتحدثنا مع السيدة التي عرفنا بأن الجميع يناديها باسم "الحاجَّة" (والتي أتمنى أن تكون على قيد الحياة حتى الآن) وكانت ما زالت بين الشك واليقين وطلبنا منها معرفة الطريق الصحيح فأبلغتنا بأن علينا التحرك في اتجاه هذا المدق ولكن علينا أن نعلم أن هناك منطقة قبل وادي سدر سيصعب التحرك بها لأن العدو قام بترحيل البدو من تلك المنطقة حتى يكتشف أي تحرك بها عن طريق الدوريات بالطائرات الهليكوبتر والدوريات السيارة التي تتتبع الأثر وأن محاولتنا عبور هذه المناطق شيء خيالي ومستحيل ولكننا قلنا لها أن ذلك لابد أن يكون وأن الله معنا، ودعت لنا بالتوفيق وأعطت لنا بعض الفراشيح والمياه وشكرناها واستمرينا في التحرك على المدق الذي أشارت إليه الحاجَّة لمدة حوالي ساعة، وكان التحرك على المدق شيئًا صعبًا حيث تتفرع المدقات بعد فترة ويصعب تتبعها وفقدنا طريقنا واختلفنا على أي طريق نأخذ وقررت التحرك من طريق وقرر عبد الحميد وسيد التحرك من طريق آخر فقمت بالتحرك معهم حتى وجدنا أنفسنا نصعد جبلاً فعدنا مرة أخرى وتحركنا في الطريق الآخر ساعات قليلة أخرى في طرق صعبة ومختلفة حتى وجدنا أنفسنا بالقرب من أحد الخيام التي تضيء مصباحًا وقررنا المبيت حتى نستطيع التحرك نهارًا في هذه المنطقة لصعوبة تحركنا ليلاً.

اليوم الخامس للتحرك في طريق العودة:

وفي الصباح ذهبنا إلى أحد الخيام فوجدنا بدوية جميلة الوجه والعينين بدرجة كبيرة وكانت تتزين بملابس جميلة ويبدو أنها وزوجها من الأثرياء، وانزعجت كالعادة عند رؤيتنا وطمأناها وتحدثنا معها حتى اطمأنت لنا وسألتنا عن موقفنا الغريب وأنها تتمنى النصر لمصر، وعلمنا أن اسمها سلمى وتبادلنا الحديث لفترة وطلبت استضافتنا وأن زوجها بالطريق – وبهذه المناسبة
أطلق عبد الحميد خليفة اسم سلمى على نجلته الأولى وأطلق عبد الرؤوف جمعة اسم فاطمة على ابنته الأولى- وطلبنا منها بعض المياه فأعطتنا، وعند سؤالها عن الطريق أشارت لنا عليه، ويبدو أن الخيمة التي بجوارها لأختها وتعجبنا كيف يبيت مثل هؤلاء البنات والسيدات في هذه المناطق دون رجال يقومون بحمايتهم ولكنها الأعراف في هذه المناطق والحفاظ على الحرمات، وأحسسنا أننا قد نسبب لهم إزعاجًا فقررنا أن نبتعد عن المنطقة وتحركنا بالفعل ولكن ببطء نظرًا لعدم وضوح الاتجاه الصحيح فنتحرك تارة ونستريح بعض الوقت وهكذا حتى قابلنا سيدة معها طفل ويبدو على مظهرها الفقر الشديد وسألناها عن الطريق وأشارت لنا على الطريق وهي تنظر إلينا خائفة.

وواصلنا التحرك في اتجاه الشمال عمومًا حتى وصلنا إلى وادٍ يعترض طريقنا به شجر سنط كثير وخلفه وفي اتجاه تحركنا جبال عاليه على شكل سلسلة مخيفة لا يستطيع أحد أن يخترقها إلا أذا كان يعرف الطريق جيدًا وإلا هلك داخلها وهنا أيقنا جميعًا خطورة الموقف وكان المفروض أن يكون هذا الوادي هو آخر وادي مسموح للبدو التحرك فيه وشمال هذا الوادي ممنوع التحرك.

ونزلنا إلى ذلك الوادي محاولين رؤية أي بدوي في المنطقة التي هي آخر ملاذ لنا ووجدت عبد الحميد ينطلق مسرعًا مذعورًا في الوادي وينادي بأعلى صوته بشكل وصورة أفزعتني وجعلتني أخاف أن يحدث له شيء وأن يصاب بالانهيار فجريت وراءه أحاول اللحاق به وتهدئته وظل باقي الأخوة واقفين منتظرين وناديت عبد الحميد ونظر وراءه ووجدته يجري نحوي عائدًا رافعًا يده ووقفت لأجده يتخطاني فظننت أنه حدث له شيء وعندما نظرت ورائي وجدت أصواتًا عالية وبدوي طويل القامة علمنا أنه يدعى سلمان قادمًا نحونا وتأكدت أن عبد الحميد ما زال واعيًا والتقى الرجل بنا بالأحضان والقبلات وكان ودودًا للغاية، وكان أسود اللون طويل القامة نحيف الجسد وأحسسنا أن الله أرسل لنا ملاكًا في هذا الوقت العصيب في هذه المنطقة وأراد الله أن يمدنا بالأمل من جديد، وقال الرجل إني أبحث عنكم منذ فترة طويلة وقد قابلت زوجتي وأخبرتني عن وجهتكم وتابعت آثاركم حتى وصلت لكم وأنه سمع من الشباب ومن الحاجة عنا فقرر تتبعنا حتى يساعدنا كما فعل من قبل مع زملائنا وأخذ يذكر بعض الأسماء منها الرائد إبراهيم زيادة وأسماء ضباط آخرين مثل محمد حسن كانوا في كتائب أخرى ولكننا كنا نعرفهم وسعدنا لسماعنا هذه الأخبار منه، وأخذنا نسأله عن كل واحد وأخذ يقص علينا كيف قام هو وأصدقاؤه بمساعدة عناصر الصاعقة في المنطقة وكيف قامت الصاعقة بتدمير عناصر العدو والسيطرة على وادي سدر لمدة طويلة وكنا سعداء وفخورين بسماع هذه الأنباء.

وأشار الرجل إلى مكان نستطيع أن نقضي فيه اليوم ويوجد بالقرب منه نبع مياه صغير حيث أنه لن يستطيع عمل شيء اليوم وكنا في لهفة لما يمكنه عمله لنا من مساعدة لعبور هذه الجبال الوعرة، فسألناه عما يمكن تقديمه لنا من عون، فأجاب بأنه سيذهب معنا ليدلنا على الطريق حتى عيون موسى، وكانت مفاجأة لنا أن يقدم لنا هذا العرض ولماذا يعرض نفسه للخطر والمغامرة وكان ذلك شيئًا محفوف بالمخاطر، وتحدثنا معه بصراحة ولماذا هذه المساعدة التي يمكن أن تكلفك حياتك فأجاب بصراحة أنه عمله ويأخذ عنه مقابلاً من المخابرات المصرية وأن هناك عناصر من المخابرات موجودة فعلاً خلف الخطوط ويعلم أماكنهم وكل شيء عنهم ولكنهم لا يعلمون عنا شيئًا وهي مفاجأة كبرى له ولزملائه وأنه كان يشك فينا في بداية الأمر ولكنه بعد تتبع خطواتنا علم أنه لا شك في أننا مصريون.

وتحركنا حتى وصلنا إلى منطقة جبلية قريبة من هذا الوادي وجلسنا نشرب الشاي وتحدثنا كثيرًا عن كيفية معاونتنا بالتفصيل، وقال أن هناك بعض الزملاء سيتم مشاورتهم لتحديد موعد الرحيل وسيكون ذلك خلال يوم أو اثنين على الأكثر وأن هناك مجموعة من رجال الاستطلاع خلف الخطوط سيعودون وإننا سنعود جميعًا معًا وتحدثنا عن بعض الزملاء الذي أخذ يصف لنا أشكالهم وطباعهم حتى يثبت لنا بأنه على حق وكيف قام البدو في المنطقة بمساعدتهم ثم أبلغنا بأنه سيأتي غدًا ليحضر لنا بعض المعلبات والطعام ويخبرنا بموعد التحرك وأشار لنا على المكان الذي سنقوم بالمبيت فيه وودعنا ورحل.

وقمنا بإخلاء المكان واخترنا مكانًا آخر يطل على المكان الذي أشار لنا بالمبيت فيه وبعيدًا عنه لكي يمكن مراقبة المكان من خلاله وكان ذلك تحسبًا واستعدادًا لأن يكون عميلاً ويرشد العدو علينا مع أن هذا احتمال بعيد ولكننا كنا حريصين على أن نحافظ على أنفسنا بعد هذه المدة وخاصة وأننا على بعد أيام قليلة من أهلنا ولا داعي للثقة الكاملة في أي شخص.

وتحركنا فعلاً ونحن سعداء إلى المكان الذي وجدناه مناسبًا لإخفائنا وأخذنا نتحدث غير مصدقين أنه يمكن لهؤلاء البدو مساعدتنا وتعريض أنفسهم للخطر لإرشادنا إلى الطريق والتعاون مع رجال المخابرات المصرية لتوصيلهم من وإلى داخل سيناء، وحمدنا الله على إعادة الأمل لنا بعد يأس وأحسسنا بأن الله معنا وأنه بعد العسر يسر، ومرت بضع ساعات حتى خيم الليل على المكان وقد نالنا الإجهاد وخلدنا للنوم.

اليوم السادس للتحرك في طريق العودة:

استيقظنا متأخرين في هذا اليوم وتناولنا طعامنا وشربنا الشاي وكنت أنا وعبد الحميد نتذكر أيامنا في فرقة الصاعقة والتدريبات الشاقة وخاصة دوريات المناطق الجبلية والتي أفادتنا كثيرًا في كل تحركاتنا وأمضينا باقي النهار في انتظار وصول البدو.

وبعد آخر ضوء بحوالي ساعة سمعنا صوت تحرك في المنطقة ودققنا السمع فوجدنا بعض الأفراد يتحركون ويبحثون في المنطقة التي كان يجب أن نتواجد بها ونزلنا من مكاننا في اتجاه هذه المنطقة واقتربنا وانتظرنا حتى سمعناهم ينادون على أسماءنا بصوت مرتفع وهم يتحدثون إلى أنفسهم بأننا يبدو تركنا المكان ورحلنا، وأثناء اقترابهم ظهرت لهم  وقام زملائي بحمايتي وتحدثنا وفرحوا وتصافحنا وظهر الباقي وكانوا سعداء بنا جدًا وأحضروا معهم بعض المعلبات وتعرفنا عليهم: سليمان الأسود، وراشد الأعراج، وعواد، وأخذوا يتحركون معنا وهم فرحين وأبلغونا بأن هناك عناصر استطلاع مصريين موجودين بالعمق وهم يعرفونهم ويعرفون أماكنهم ولكنهم لا يعرفون عنا شيئًا وأنهم غير مصدقين أننا على قيد الحياة وأحسسنا بأنهم سعداء بنا كما لو كنا هدية ثمينة لهم وسيكون ذلك شيئًا له قيمة، وحاولوا أن يعرفوا مَن كنا معهم من القبائل وأي منطقة وأبلغناهم عن المنطقة عمومًا بأبورديس واعتذرنا عن اسم من كنا معهم وزاد احترامهم لنا وشربنا الشاي وأكلنا وأبلغونا بأنه علينا أن نتأخر عدة أيام حتى يأتي بعض أفراد الاستطلاع من قواتنا ويتم التحرك سويًا وظهر علينا الضيق عندما علمنا أنها عدة أيام ولكنهم قالوا ليس هناك أي قلق في هذه المنطقة والمياه موجودة وأشاروا عن مكانها ووصفوا لنا المكان بدقة وقالوا إنه لن يصعب عليكم الوصول إلى المياه حيث يحيط بها أعشاب وأشجار كثيفة في المنطقة وبوصولكم لهذه الأشجار التي ستكون واضحة في الصباح من هذا المكان وسيكون سهلاً عليكم الوصول إلى المياه، وبعد أن تحدثوا عن زملائنا في المنطقة وذكروا لنا أسماء كل الكتيبة 143 تقريبًا بالاسم وودعونا ورحلوا، ونمنا وكلنا سعادة وأمل بعد أن استولى علينا اليأس عصر اليوم السابق قبل مقابلة البدوي سلمان والذي كنا نشك في تنفيذ ما قاله ولكن بعد أن قابلنا هؤلاء الشباب أحسسنا بالجدية والنية الصادقة لهم.

اليوم السابع للتحرك في طريق العودة:

وفي صباح هذا اليوم استيقظنا وذهبنا إلى مكان المياه وكان مكانًا جميلاً فالأشجار في كل مكان والمياه في المنطقة في شكل برك صغيرة متناثرة والجبال حولها شاهقة وكان طعم المياه ليس عذبًا تمامًا ولكنه يؤدي الغرض وتعجبنا كيف كانت المياه قريبة ولم نكن نراها أو نعرف مكانها وكانت المياه دائمًا مصدر إزعاجنا خوفًا من أن نفقدها، وبالتالي ستكون العواقب وخيمة فكنا بجوار المياه نحس بالأمان وأكلنا وشربنا ناظرين إلى تلك الجبال المتراكمة والتي تشبه السدود المتتالية وكأنها لا تنتهي وشعرنا بفضل الله علينا سبحانه وتعالى بأن نلتقي في طريقنا بهؤلاء الشباب وأمضينا اليوم في تنظيف السلاح وإعداد الطعام والحديث وكان الأمل يملأنا وكنا نضحك من قلوبنا ولكننا شعرنا بالقلق عندما حل المساء ولم نر أحد من البدو ولكننا اعتقدنا أنهم مشغولون في أي شيء ونمنا في المنطقة ليلة أخرى.

اليوم الثامن للتحرك في طريق العودة:

وفي صباح هذا اليوم وجدنا البدو يأتون لنا مهرولين ويستعجلوننا للتحرك لحلول الوقت المناسب الذي يجب عبور وادي سدر فيه حتى لا تكشفنا الدوريات الخاصة بالعدو وأعددنا أنفسنا للتحرك وسألناهم عن المياه أثناء الطريق فأجابوا بأن كل شيء متوفر في الطريق ولا خوف من ذلك وكانوا يحملون جربنديات وقالوا أن بها طعامهم والمياه وجهاز إشارة عاطل وقد تسلموه من عناصر استطلاع قواتنا لتوصيله غرب القناة للإصلاح أو استبداله بآخر صالح، وتحركنا مسرعين معهم نلاحقهم وكانوا ثلاثة شبان (راشد عبيد الله – عواد أبوفريج – سلمي سليم) وكان أكثرهم عقلاً وأكبرهم سنًا أشيب الشعر قليلاً ويتميز بالهدوء والرصانة ولكن يبدوا أنه أقلهم حسبًا ونسبًا وتحرك الجميع وكان هو في المقدمة وخطواته سريعة وكنت أتابع من أين سيبدأ اختراق هذه الجبال لأن ذلك هام جدًا حتى لو تركونا بعد ذلك فيمكن أن نأخذ شوطًا طويلاً متتبعين هذا الطريق (مدق أقدام صغير جدًا) وبدأ اختراق الجبال وأخذنا نعبر أجناب الجبال بعيدًا عن القمم وكان طريقًا صعبًا جدًا ولكنه أسهل بكثير من التحرك دون خبرة ومعرفة طرق هذه المنطقة وكنا نتجه شرقًا وغربًا وشمالاً متتبعين الطريق الذي كان يختفي أحيانًا ويظهر أحيانًا متحركين في جدية ونشاط وكنا أثناء التحرك مستعدين لأي اشتباك وخاصة في بداية التحرك ولكن سرعان ما اطمأننا للطريق وأخذنا نحاول مجاراة هؤلاء البدو بأحمالنا الثقيلة وكيف يتحرك هؤلاء بهذه السرعة رغم أن أحدهم مصاب بشلل أطفال قديم، وأخذت الجبال تتغير في ألوانها وأشكالها وارتفاعاتها وتحركنا طوال النهار وفي آخر راحة قبل أن نصل إلى وادي سدر صارحونا بأنهم كانوا يخشون ألا نستطيع السير معهم ومجاراتهم في التحرك مما قد يسبب تأخرنا في عبور الوادي في الوقت المناسب بعد آخر ضوء وبعد أن يطمئنوا من أن الوادي خاليًا في هذه المنطقة ويكون ذلك قبل آخر ضوء ليتمكنوا من معرفة وجود كمائن للعدو أم لا؟ ومكثنا في هذه المنطقة حتى الغروب، وتحرك أحدهم وذهب في اتجاه الوادي وعاد بعد فترة من الزمن وتحدث معنا ومع زملاءه للمشاورة بعض الوقت حتى حل الظلام.

وتحركنا إلى اتجاه الوادي ووجدنا الوادي أسفل الجبل واضحًا ولا يوجد به أي آثار حتى يستطيع العدو اكتشاف المتسللين وأوضح لنا البدو بضرورة التحرك خلفهم تمامًا مع عدم ترك أي آثار حيث سيطاردنا العدو بالطائرات الهليكوبتر عند اكتشافه للآثار نهارًا ووصفوا لنا كيفية التحرك عبرنا الوادي بهدوء تام وكان البدو ملتزمين تمامًا في هذه المنطقة الخطرة الحساسة بصورة جادة جدًا وكنا بالتالي أكثر التزامًا وتحركوا فوق الصخور عابرين الوادي وكنا خلفهم قدم محل قدم حتى وصلنا إلى الجانب الآخر من الوادي وكنا مستعدين تمامًا للاشتباك وكل منا يأخذ اتجاهًا للرمي في حالة حدوث أي كمين ضدنا، وبعد عبورنا الوادي الخطير وصلنا إلى مكان يشبه الفتحة بالجبل وتحركنا داخله صاعدين هذا الجانب خلف البدو وبعد قليل من الزمن عاد البدو لصخبهم وضحكهم وكأنهم انتهوا من اختبار بغيض، وكلما تحركنا داخل الجبال وعلى قممها كلما أحسسنا بالأمان أكثر وكلما تحركنا ساعة أحسسنا بأننا قربنا أكثر من أهلنا ويشجع بعضنا بعضًا وخاصة عبد الرؤوف الذي كان رجلاً حقيقيًا والذي كان يطمئننا دائمًا على نفسه وأنه دائمًا بخير وكانت السعادة بادية عليه حيث سيصل إلى زوجته التي تركها حاملاً ولا يعلم شيئًا عنها وكنا نقول له إذا كانت بنتًا فسمها فاطمة وإذا كان ولدًا فسمه علي فكان يضحك ضحكته التي كان يشوبها الخجل والتي تعودنا عليها ويقول إن شاء الله، وأمضينا بقية الليل في التحرك العنيف الذي شغلنا عما حولنا من أشكال ومناظر وأرض تختلف في الارتفاع والانخفاض وكانت المياه تنقص مع تحركنا ولكننا كنا مطمئنين لوجود البدو معنا ومعرفتهم الجيدة بالأرض والآبار في المنطقة ولم يحدث شيئًا خلال التحرك ليلاً غير مرور طائرة علينا مرتين أو ثلاث مرات وكنا نعتقد أنها في دورية روتينية، وأثناء التحرك بحث أحد البدو عن شيء حتى وجده وكان جركن مياه يخبئونه في مكان خفي وكان قد مُلئ من هذا المكان أثناء وجود مياه الأمطار ثم تُرك للاستخدام في مثل هذا الوقت وقد كان في وقته لنفاذ كمية المياه معنا تقريبًا، وواصلنا المسير وفجأة وجدت نفسي أصطدم بشيء حاد يصيبني في أنفي وأنزف دمًا واكتشفت أنه سلك شائك لأحد المزارع البدوية (والتي قام العدو بإخلاء البدو منها) وتوخينا الحذر بعد ذلك الحادث العارض ثم عاودنا السير طول الليل دون اكتراث.

اليوم التاسع للتحرك في طريق العودة:

وفي صباح اليوم التاسع كان التعب قد حل بنا فاسترحنا في أحد الأماكن وتناولنا إفطارنا ووجدنا البدو أكثر منا تعبًا بل أنهم اعترفوا لنا بأنهم لم يروا مثلنا جلدًا وقوة وأنهم اعتقدوا أننا لن نستطيع مواصلة السير معهم ولكن هم الذين تعبوا ووجدونا دائمًا نحثهم على المشي ومواصلة السير وضحكنا معهم وقلنا لهم إننا أصبحنا بدوًا، وبدأ راشد يشكو من آلام في قدمه ولكننا شجعناه على مواصلة المسير وطمأننا على نفسه وبعد الراحة تحركنا وكان النهار واضحًا وأثناء تحركنا ظهرت الطائرات الاستكشافية مرتين أيضًا وكنا نختفي عند سماع صوت الطائرة ونتحرك بعد مرورها وكنا نشك أحيانًا بأن العدو قد اكتشف آثارنا بالوادي ولم يكن هناك وقت للتفكير في مثل هذه الشكوك حيث أننا متحركين في وجهتنا ولن نتراجع عن ذلك مهما كانت الأسباب وتحركنا في جميع أنواع الأراضي وكانت هناك أشياء جميلة أثناء التحرك ورأينا آثار المزارع القديمة التي يحيطها أصحابها بالأسلاك وكذلك مخازن المياه المحفورة تحت الأرض والمغطاة بغطاء للاحتفاظ بالمياه لفترة طويلة وشربنا منها وتحركنا صاعدين هابطين ولكننا كنا نتحرك فوق سلسلة جبلية عالية.

وعند الظهيرة وصلنا إلى منطقة منخفضة نسبيًا ووجدنا مخزن مياه كبير جدًا وتعجبنا لوجود المياه به بهذه الكمية وحتى هذا الوقت من السنة لأن معظم هذه الأماكن قد جفت تقريبًا ولكننا وجدناه مليئًا بالمياه وكان منظره جميلاً وشعرنا بالرغبة في الاستحمام به كالعادة ولكنها كانت مجرد رغبة حيث نعلم أن هناك من الكائنات الحية التي تعتمد على مثل هذه التجمعات الناتجة عن المطر وشربنا وأكلنا ثم تحركنا مرة أخرى لعدة ساعات واختلفوا على الطريق ثم اتفقوا مرة ثانية وتحركنا ثم أبلغونا أننا بصدد النزول إلى السهل الساحلي في اتجاه عيون موسى وأحسسنا بشعورهم بالرهبة وأنهم بدأوا في الحذر مرة أخرى ولكننا لم نر شيئًا مريبًا وتحركنا معهم حتى وجدنا أنفسنا فجأة على حافة الجبل وأسفل الجبل رأينا معدات الحفر ورصف الطرق باللون الأصفر الذي يخص شركة عثمان أحمد عثمان (والتي استولى العدو على هذه المعدات بعد حرب 1967) وكان حجمها صغيرًا وظهرت وهي تمهد لرصف طريق أسفل الجبل مباشرة  وقال البدو إن ذلك الطريق يعد خصيصًا لمنع التسرب من هذا المكان وشعرت بحزنهم لذلك ورأينا خليج السويس على مسافة بعيدة جدًا وأشار البدو إلى الطريق الذي سنسلكه تقريبًا ولكنهم فقدوا الطريق الذي يؤدي إلى أسفل الجبل والذي يصعب جدًا النزول إلى السهل الساحلي دون سلوكه حيث أن هناك أماكن لا يمكن استعمالها لانحدارها الشديد وكنا جميعًا منبطحين ونحن نراقب أسفل الجبل وحاولنا أن نجد مكانًا آخر نختبئ فيه لأننا معرضون لاكتشاف أمرنا في حالة مرور أي طائرة للعدو ووجدنا أحد الخيران ونزلنا بها.

وقبل آخر ضوء اكتشف البدو مسرب (منزل حاد النزول) إلى أسفل السهل الساحلي بعد عدة محاولات وبدأنا في التحرك هابطين الجبل في حذر تام ونزلنا حتى وصلنا إلى نهاية الجبل وعبرنا المدق الجديد الذي كان يمهد استعدادًا لرصفه بالأسفلت وتحركنا في اتجاه المعدات التي لم يكن أحدًا بجوارها حيث كان الوقت بعد الغروب مباشرة وكانت الرؤية بدأت في الضعف، وبعد تحرك لمسافة ساعتين وجدنا أنفسنا نسير في مجرى سيل كبير أشبه بشارع منخفض بين كتفين عاليين مليء بأحجار كبيرة متفرقة وأشار البعض بالراحة في أحد الأماكن بالوادي وتحدثنا وعلا صوت البدو وضحكاتهم، وتحرك أكبرهم وقال سأقوم باستطلاع الطريق، لأن هذا الوادي يخترق طريق أسفلتي رئيسي، وعاود الجميع الحديث والضحك وبعد برهة من الزمن عاد الرجل مسرعًا مضطربًا وطلب من زملائه السكون وفزعنا جميعًا وأشار إلينا بالرجوع للخلف من حيث أتينا واستعددنا للقتال ولم نجد البدو بجوارنا وأخذنا نبحث عنهم حتى وجدناهم ولما سألناهم عن سبب انزعاجهم أبلغنا الرجل الأشيب بوجود عربتين مدرعتين للعدو تنصب كمينًا في تقاطع الوادي مع الطريق وكانت مخفاة في كتف الوادي ولا تظهر وعندما صعد على أحد أكتاف الوادي وجدها منتظرة لأي متسلل يعبر الطريق ويبدوا أنهم يعرفون هذا الطريق بأنه الطريق الذي يسلكه المتسللون ولذلك قام العدو بنصب عدة كمائن بمناطق مختلفة في هذا الاتجاه وأبلغناهم هل هناك طريق آخر يمكن أن نسلكه، فقالوا أن المسارب كثيرة ولكنها مفتوحة ولكن هناك مناطق يتحركون في اتجاهها يأملون أن تكون بعيدة عن كمائن العدو.

وقررنا التحرك في اتجاه الشمال الغربي حتى نتجنب هذه العربات وفعلاً وصلنا إلى مكان يصلح لعبور الطريق وبعد استطلاع الطريق قمنا بالعبور بحذر وهدوء وبعد عبورنا الطريق انطلقنا عدوًا في اتجاه تحركنا وكنا متعجلين الوصول وسألناهم عما بقي من التحرك بعد هذا التحرك الشاق الطويل فأجابوا أننا قربنا من خط حدود البوليس الدولي وكان ذلك قبل منتصف الليل وتحركنا حتى سمعنا صوت ينبعث من أحد الراديوهات داخل عربة مدرعة للعدو تحتل كمين في هذه المنطقة ولم نتكلم معًا وإنما انحرفنا جميعًا دون أي إشارة في اتجاه بعيد متلافيين مكان الصوت الذي كان يصدر من أحد الكمائن للعدو بهدوء وصمت وكأن شيئًا لم يحدث ودون أي تعليق وتابعنا السير بقوة لساعات أخرى حتى شممنا رائحة سولار عربات والتي تحتل أيضًا كمائن عشوائية على المناطق الفاصلة القريبة من قواتنا وأخذنا نبحث حولنا عن مكان هذه العربات وبعد فترة وجيزة سمعنا صوت محرك سيارة يدور وحددنا المكان وواصلنا سيرنا دون تعليق وكنا لا نشعر بأوزاننا وكانت خطواتنا سريعة متلاحقة وكنا نسرع بالرغم من شعورنا بالتعب الشديد وظهر في الأفق أنوارًا قويةً جدًا وسألنا البدو عن هذه الكشافات فأجابوا بأنها خاصة بالبوليس الدولي وهي منطقة محرمة على القوات المصرية والعدو في نفس الوقت وسألناهم وماذا لو اصطدمنا بهم قالوا سوف يعيدوننا إلى العدو مرة أخرى فضحكنا لأنه من المستحيل أن نعود للعدو مرة أخرى بعد كل ما حدث.

وأسرعنا حتى نعبر هذه الأضواء القوية وكانت بعيدة وأخذنا نجري بكل قوانا وكنا لا نحس بالتعب مع المجهود الكبير الذي بذلناه طوال الطريق إلا أننا كنا فقدنا الشعور بالتعب ورجانا البدو أن نبطئ الخطى ولكننا كنا نشجعهم على الانتهاء من هذه المسافة بأسرع ما يكون فيتخلفون ونحن نساعدهم وتحمسوا لحماسنا وشعروا بمشاعرنا وكانت علاقتنا بعد هذه الأيام القليلة أصبحت قوية واستجابوا لنا وتحركوا بكل ما يملكون من قوة وشعرنا بأننا نطير فوق الأرض جريًا وكان لا يؤخرنا إلا إذا تأخر أحد منا تعبًا وإرهاقًا يشجع بعضنا بعضًا ولا ننظر إلا في اتجاه عبور الضوء الذي كان يقف بيننا وبين أهلنا على الجانب الآخر وبدأنا نفكر في الموت خطأً بنيران قواتنا، حيث كنا نتحرك من اتجاه الشرق للغرب وهو اتجاه العدو ولكن الأمل يتغلب على كل  مخاوفنا وشعورنا بالخطر يزداد مع كل خطوة من خطواتنا وكل أحاسيسنا مرهفة ومستعدين تمامًا لأي موقف، ورغم سرعتنا ولهفتنا إلا أننا كنا منتظمين ولا يصدر عنا أي أصوات، وكان كلامنا همسًا، وكان البدو غير راضين عن تحركنا عدوًا حيث أصابهم التعب ومع حماسنا كانوا يجرون أحيانًا ويتحركون أحيانًا وكنا نهدئ السير عندما نشعر بتخلف أي فرد ونعدو عندما نشعر بأننا نستطيع أن نجري وكان الوقت يمر طويلاً وقد تحركنا طوال الليل وابتعدنا عن الأنوار ولكنها ما زالت تكشف الطريق أمامنا حيث أصبحت الأرض منبسطة أمامنا وقلت الهيئات والصخور والأرض من وراء الأنوار وكأن لا نهاية لها وكانت فرحتنا كبيرة ببدء عبورنا الأضواء التي كانت تغطي مساحة حوالي 10 كم عرضي وهي الفاصل الأخير بيننا وبين قواتنا.

ولم نتمالك أنفسنا ونحن نعبر هذه الأضواء من التعبير عما يجيش بصدورنا وكأننا أزحنا حملاً ثقيلاً من على صدورنا وابتهجنا بأصوات عالية وتعاطف البدو معنا وكانوا فرحين لفرحتنا وازدادت خطواتنا سرعة وثباتًا وكنا نضحك لأي سبب، وكنا واضحين ويرى كل منا الآخر بسبب الأضواء ونشعر أننا في عالم آخر وليس به أي كائن بشري فالأرض منبسطة على امتداد النظر في جميع الاتجاهات وكان مصدر الأضواء بعيدًا جدًا ولكنه كان قويًا جدًا واستمر سيرنا داخل هذه الأضواء أكثر من ساعة،  وبدأنا نتحدث عما سنفعله إذا قوبلنا بنيران قواتنا على الجانب الآخر وبدأنا نبحث عن الشيلان البيضاء للبدو واستعدادًا لرفعها لقواتنا حتى يعرفوا هويتنا، وكان قلقنا من أن نموت برصاص قواتنا بعد كل تلك الأهوال التي رأيناها لمدة أكثر من مائتي يوم خلف الخطوط وسألنا البدو عن وجهتنا فقالوا أنهم سيذهبون إلى مزرعة تخصهم وتخص بعض أقاربهم وبالقرب من الكرنتينا القديمة وهي على حدود قواتنا
الحالية وننتظر حتى يظهر النهار ويتم مقابلة شيخهم الذي ينتظرهم ليبلغوه بالمعلومات وكان كل ذلك لا يهمنا الآن، المهم هو سرعة إبلاغ أهلنا بأننا ما زلنا أحياء.

وبعد اجتيازنا الأضواء التي ليس لها حدود معينة أحسسنا أننا بعدنا عن الأضواء وكان لابد من المشي الحذر خوفًا من الألغام المنتشرة في المنطقة كما أبلغنا البدو وبدأنا نصطدم بأسوار السلك الشائك لتلك الألغام وأحيانًا تلتف وتطول حتى كنا نخشى أن نصبح داخلها دون أن ندري والبدو يعرفون الطريق جيدًا ويتحركون بعد أن يتشاوروا وأصبح الخوف ليس من قواتنا فقط بل أصبح من الوقوع في الألغام أيضًا وكنا نتحدث بصوت عال ومرتفع حتى تسمعنا قواتنا فلا نقع في كمين مفاجئ ومضينا في السير حتى أشار البدو إلى مكان المزرعة وكان بها بعض أشجار النخيل الصغيرة وبعض الأشجار الأخرى وكان الوقت حوالي الساعة الثالثة أو الرابعة صباحًا، وتوقفنا في أحد الأماكن بالمزرعة ولم يكن بها أي مبنى ولو عشة صغيرة نحتمي بها من البرد الذي شعرنا به بعد توقفنا وكنا لا نشعر بالتعب رغم تحركنا المتواصل لإحساسنا أننا وصلنا لبر الأمان، وتعجبنا من عدم وجود أي قوات لنا تعترضنا أو توقفنا بالرغم من الضوضاء التي أحدثناها، وقمنا بإشعال نار لتجهيز الشاي والطعام والتدفئة حيث كان البرد شديدًا في هذا الوقت ومما زاد إحساسنا بالبرد الشديد بعد توقفنا العرق الغزير وملابسنا المبللة به كأنها مبللة بالمياه ولكن إحساسنا بالبرد الشديد لم يؤثر على معنوياتنا المترفعة وأصبح الكلام بصوت مرتفع والضحكات من القلب ويقبل بعضنا بعضًا وذكرنا فضل الله علينا، وشكرنا تعاون البدو معنا، وبعد هذا المجهود الشاق حل علينا التعب والإجهاد وشعرنا أننا في حاجة لقسط من الراحة وقررنا النوم حتى نستريح ونستعيد نشاطنا في اليوم التالي.

اليوم العاشر للتحرك في طريق العودة:

عند الفجر قررنا أن نقوم بضرب بعض الطلقات لجذب الانتباه إلينا حتى تعلم عناصر قواتنا بوجودنا فيتحركون لأخذنا وخاصة وأن الوقت أصبح فجرًا والنهار على وشك الظهور وقمنا بضرب بعض الطلقات ولكن دون أي استجابة أو أي رد فعل وضربنا بعض الطلقات الأخرى وأحدثنا جلبة وأصواتًا عالية ولكن دون جدوى أيضًا، فانتظرنا حتى ظهر الصباح وتحركنا في اتجاه الكرانتينة ولم نجد أي أحد يعترضنا وعبرنا طريق أسفلتي، وخلال تحركنا وجدت بعض تحركات قواتنا على الطريق وسعدنا برؤية قواتنا وبشكل ساذج وقفنا لنصافح من نقابله من جنود وضباط ولكنهم كانوا ينظرون لنا بتعجب من مظهرنا وطريقتنا الغريبة في المصافحة وبسعادتنا الغير مبررة لهم وكذا ملابسنا وكأننا من كوكب آخر، حيث كانوا لا يشعرون بإحساسنا بالطمأنينة والسلام النفسي الذي فقدناه مدة سبعة أشهر تقريبًا، وأذكر أحد هؤلاء الضباط وكان ملازم يدعى حسن عبد ربه أوقفته وهو متحركًا في سيارة لوري وقمت بمصافحته وتعجب في بادئ الأمر وسألني من أنت ومن أين أتيت فأبلغته بأني النقيب مجدي شحاتة من الصاعقة ووصلت اليوم بحمد الله من خلف الخطوط ففهم الموقف، وبعد حوالي 10 سنوات عمل تحت قيادتي بالصاعقة وذكَّرني وقال لي هل تذكر الملازم الذي صافحته يوم عودتك من جنوب سيناء هو أنا يافندم ويومها قررت الالتحاق بالصاعقة.

وحوالي الساعة التاسعة صباحًا دخلنا الكرانتينا وكان بانتظارنا الشيخ سليمان وهو شيخ بدوي يبدو أنه من الأغنياء من مظهر ملبسه ووجود عربة بيجو 404 معه كذلك يبدو أنه ذو شأن يدل عليه كلامه وشخصيته واستقبلنا أحسن استقبال وكان معه بدوي آخر ودخلنا المبنى القديم وقدم لنا صحنًا كبيرًا به فتة عيش بسكر فأكلنا بنهم وشربنا الشاي وتحدثنا قليلًا وسألناه عن وجهتنا بعد ذلك وقلنا له إننا نريد أن نذهب لبيوتنا فورًا ليطمئن علينا أهلنا فطمأننا بأن كل شيء سيكون على ما يرام وحمدًا لله على سلامتنا وأنه أصبح كل شيء نريده سيتحقق بإذن الله، وأبلغنا بأننا يلزم أن نمر على مكتب مخابرات السويس لكتابة تقرير عما حدث لنا فوافقنا على أن يكون ذلك سريعًا، وركبنا السيارة متجهين إلى السويس على الطريق الأسفلتي.

وبدأت الحركة تدب في المنطقة وواصلنا التحرك مع الحاج سليمان وأخذ يوضح لنا أثناء الطريق الأماكن التي احتلتها قواتنا وكيف دمرت مواقع المدفعية الحصينة بعيون موسى وكيف قاتلت قواتنا بشرف وبسالة، وتحدث بوطنية وفخر ونحن ننظر حولنا للدبابات وعربات ومجنزرات العدو المدمرة في كل مكان، ووصلنا إلى منطقة المعبر حيث عبرنا القناة إلى مدينة السويس حوالي الساعة الواحدة بعد الظهر وتحدث لنا كيف قاومت عناصر الصاعقة والمدنيين بمدينة السويس ضد العدو بروح وطنية عظيمة وتلاحم شعبي لم يستطع العدو اختراقه، وكان لذلك وقع جميل في نفوسنا وكنا فخورين بذلك وشاهدنا داخل مدينة السويس مدى التخريب والدمار الذي حل بالمدينة في كل مكان ما من منزل أو مبنى إلا وأصيب أو دمر بطلقات العدو.

وكانت الحركة داخل المدينة كبيرة بالنسبة لنا لأن ما رأيناه خلال المدة السابقة لم يتعد أفرادًا معدودة والآن نرى وجوهًا كثيرة وملابس مختلفة، ووصلنا أخيرًا إلى مكتب مخابرات السويس ودخلنا وصدمنا لأول وهلة من فتور وبرود المعاملة الغير متوقع، هكذا تصورنا ولكن في الحقيقة كانت المقابلة عادية لأننا كنا نتوقع أن نقابل بالأحضان والترحاب في كل مكان، فوجدناهم يعطوننا بعض الأوراق ويطلبون منا كتابة تقرير عما حدث لنا، وكتبنا التقرير سريعًا جدًا وموجزًا وطلبنا سرعة تحركنا إلى القاهرة حتى نرى أهلنا ونستريح من عناء التعب ونتناول ما نشتهيه من الطعام بعد ما لاقيناه من مشقة طوال الفترة السابقة.

وحوالي الساعة الثانية بعد الظهر تحركنا إلى القاهرة وفي الطريق أبلغنا الحاج سليمان بأننا ربما نقابل شخصيات هامة في القاهرة وعلينا أن نذكر ما يقوم به البدو لمعاونة قواتنا خلف الخطوط وقلنا له أننا عندما نقول ذلك فإننا نقول الحقيقة، وباقترابنا من مدينة القاهرة أبلغنا بأنه عنده أوامر بتوصيلنا إلى جهاز الخدمة الخاصة للمحافظة على مظهرنا حتى مقابلة المشير أحمد إسماعيل أولاً ولكن يجب أن نبقى بالخدمة الخاصة لمدة غير معلومة حتى يسمح وقت المشير بالمقابلة، فاعترضت على ذلك وأبلغته بأنني لن أذهب إلا إذا مررنا على منزلي حتى يطمئن أهلي علي أنني ما زلت حيًا وقال لي بأنه سيتم تبليغهم بعد توصيلي ولكني أصررت على ذهابي بنفسي إليهم حتى ولو لخمس دقائق فأكد ذلك عبد الحميد للرجل ولم يمانع الرجل مع إصراري على أن يقوم أهلي بتبليغ أهل الزملاء جميعًا بعد ذلك وبالفعل توجه إلى المنطقة التي أسكن بها، وقد كنا معروفين في المنطقة بحسن المعاملة والخلق وصداقاتنا محدودة وكان الجيران بصفة عامة طيبين ولنا معزة واحترام خاص عندهم.

وتوقفت العربة أمام المنزل وكانت الساعة تجاوزت الرابعة مساءً وأشار عبد الحميد علي بأن يقوم بتخفيف صدمة لقائي بأهلي فجأة فيسبقني ويبلغهم بأنه رآني منذ فترة قريبة وأنني بخير وما زلت حيًا وذلك حتى لا يسبب دخولي ولقائي فجأة أي صدمة لأمي وأبي وأهلي وخاصة بعد طول هذه المدة من الغياب، وكانت فكرة حسنة ومقبولة وخاصة أن عبد الحميد معروفًا لأهلي كزميل نفس الوحدة، وصعد عبد الحميد إلى منزلي ولم أستطع البقاء لانتظار النتائج وصعدت خلفه بوقت قصير.

وجدت عبد الحميد يحاول إبلاغ والدتي بأنني ما زلت حيًا ووجدت والدتي في شكل غريب علي فقد كبرت عشرات السنين منذ تركتها ووجدتها تبكي وهي تتحدث مع عبد الحميد، وعندما رأتني لم تستطع السيطرة على نفسها وسقطت على الأرض تبكي ممسكة برجلي وحضرت شقيقتي بعد أن سمعت الجلبة وانفجرت هي الأخرى في الصراخ والبكاء بصورة لم أتوقعها ووجدتها تتعلق برجلي الأخرى باكية غير مصدقين يتحسسون جسدي ولا ينطقون، وخشيت عليهم ووجدت نفسي أتحدث معهم لأثنيهم عما يفعلون ولكنهم ظلوا كذلك لا يتحركون، ونظرت حولي فوجدت نفسي محاصرًا من الناس الذين أعرفهم والذين لا أعرفهم رجال ونساء وأطفال لم ينتظروا أحدًا يأذن لهم بالدخول، وجاءوا ينظرون إلي ويتأكدون من شكلي ويصافحونني وحدث ذلك في دقائق معدودة، كيف علم هؤلاء الناس بحضوري بالرغم من محاولة إخفاء شكلي بلبس عمامة البدو، كيف علم هذا الحشد الكبير الذي ملأ منزلنا بصورة لم يسبق لها مثيل؟ لقد كان شعور الناس شعورًا دافقًا وكأنني ابن أو أخ لكل منهم، لقد كان المشاعر مختلفة ولم أدر ماذا أقول، وحاولت التكلم مع والدتي التي كانت تبحلق في معاتبة دون كلام وممسكة بي بقوة وحاولت شرح الموقف لها بأنني يجب علي مغادرة المنزل وسوف أعود لها مرة أخرى، ولم يكن ذلك أمرًا سهلاً، وكأني سأذهب ولن أعود مرة أخرى وحاول عبد الحميد والبعض التوضيح لها وكررت ذلك مرة بالشدة ومرة باللين، وتركتني أخيرًا بعد أن تأكدت بأني ابنها وأنها الحقيقة وليس حلمًا، وسألت عن والدي وبقية أخوتي فعلمت أنهم بالمدارس ووالدي بالعمل، وأخيرًا  أبلغتهم بعودتي بعد يوم أو يومين وعليكم بإعداد أشهى الطعام، وتركت والدتي وشقيقتي بين الضحك والدموع وشققت طريقي على السلم بصعوبة ووجدت الناس من جميع الأجناس تجري في اتجاه منزلنا ويحاول كل واحد أن يصافحني ويتحسسني وكأنه يريد أن يطمئن على أن أعضاء جسدي ما زالت موجودة، وأدركت أن تدفق الناس بأعداد كبيرة قد يعوق خروجي من المنزل لو انتظرت دقائق قليلة فأسرعت بالخروج والجميع يجرون ورائي وفوجئت بحشود غير عادية أسفل المنزل وكانت تزداد والكل يحاول أن يكلمني وأشرت لهم وأنا أحاول الإسراع نحو العربة والحاج سليمان والزملاء يبتسمون، وتحركنا سريعًا إلى الخدمة الخاصة.

فترة تواجدي في الخدمة السرية:

وصلنا إلى مكتب الخدمة السرية حوالي الساعة السادسة مساءً وتم استقبالنا بواسطة الضباط وبدأ التعرف علينا ومناقشتنا لمدة بسيطة وطلبوا منا كتابة التقارير أيضًا والمحافظة على مظهرنا هذا الذي كنا عليه حتى نقابل السيد المشير وأبلغناهم أن هذا الشكل هو أفضل شكل لنا وأن ذلك لا يمت بصلة لما كنا عليه من شكل وضعف وملابس وغيرها أثناء وجودنا على أرض سيناء، وطلبوا البقاء على هذا الحال وضحكنا طبعًا على ذلك وطلبنا أن نأكل كباب وجلسنا في غرفة واحدة نتحدث ونتذكر ما حدث لنا خلال الفترة الماضية وكيف كتب الله لنا السلامة وطال انتظارنا للطعام وطلبناه أكثر من مرة وأخيرًا وصل الكباب وأكلنا كما لم نأكل من قبل، وواصلنا الحديث بسعادة غير مصدقين بأننا في أرضنا وقام العقيد مازن مشرف رحمه الله بزيارتنا وهو صعيدي تربطه صلة قرابة بعبد الحميد وهو ضابط نابغ بالمخابرات وكان عبد الحميد يحدثني عنه كثيرًا وأشاد الرجل بعبدالحميد وعلينا، وكانت المرة الأولى والأخيرة التي أراه حيث استشهد بعد ذلك في حادث طائرة الشهيد الوزير أحمد بدوي بسيوه، ولكنني منذ هذا الوقت وحتى استشهاده كنت أتابع تألقه وتقدمه في مجال المخابرات.

وفي صباح اليوم التالي توافد علينا الأهل والأقارب حيث إقامتنا الحالية بالخدمة الخاصة فحضر أعمامي وحضر والدي الذي ظل محتفظًا بروحه الفدائية الوطنية المعهودة والتي ظهرت بسؤاله لي أمام الجميع هل أحضرت سلاحك معك أم لا؟ فضحكت لأني وجدته ما زال يحتفظ بمعنوياته كما هي والتي كان يحاول أن يخفي بها ما فعلت به الأيام الماضية والتي كانت واضحة على عينيه وصحته العامة حتى أنه أيضًا كبر كثيرًا وكأنه ليس هذا الرجل الذي تركته منذ سبعة أشهر فهل يمكن أن تؤثر أحداث هذه الأيام كل هذا التأثير فيه بالرغم أنه يأكل ويشرب ويعيش وله ستة أبناء آخرين غيري، إنه لشيء عجيب!! إنني لم أشعر بتغير شكلي سوى نقص وزني وشحوبي وتساقط شعري رغم كل ما واجهته من أخطار وحرمان ولكن يبدو أن القلق النفسي الشديد الذي تعرض له أهلي أقوى بكثير من الأهوال والأخطار التي تعرضت لها.

وتابع والدي الحديث بسعادة وفخر وكنت ألمح في عينيه الشفقة علي من نحافتي ومظهري – وقال لي أنه كان متأكدًا من عودتي حتى أمس وأن ذلك كان إحساسًا عميقًا وأكيدًا وأنه اشترى منذ أسبوع بيجامة جديدة لي وأبلغ والدتي بذلك، وفعلاً عند حضوري للمنزل أعطتني والدتي هذه البيجامة وقالت لي والدك أحضرها لك من حوالي أسبوعين وقال لي هذه لمجدي لما يرجع واشترى لحمًا قبل وصولي بيوم واحد وطلب من والدتي إعدادها لأن مجدي سيأكل منها، وكان ذلك يسبب ضيقًا لوالدتي التي كانت ترى عودتي حلمًا فيعطيها كلام والدي الأمل ثم تعود إلى الواقع فلا تجد غير دموعها التي كانت تذرفها ليلاً وسرًا والتي كان يشعر بها والدي أحيانًا فيقوم بتأكيد كلامه لها بأني ما زلت حيًا وأنه يعرفني وأن إحساسه لن يخيب بالرغم من ما شعر به عندما زار وحدتي للسؤال عني فتهرب منه الجميع وحاول البعض التأكيد على أنه غير معروف عني أي أخبار، كذلك حاول البعض الآخر إخفاء ما عرف عن استشهادي وذلك بناءًا على شهود عيان رأوني أستشهد، ولكنهم لم يرغبوا أن يورطوا أنفسهم بكتابة ذلك، وقد سمع والدي بعض الزملاء يتحدثون مشفقين عليه بأن ذلك الرجل المسكين لا يريد أن يصدق أن ولده قد استشهد فنهرهم بشدة وقال لهم إن ولدي ما زال حيًا، كذلك ذهب إلى الرائد إبراهيم زيادة لسؤاله عن مصيري وآخر مرة رآني فيها، فأبلغه الرائد إبراهيم بعد أن أقسم بابنته وكأنه يتحدث عن شهيد بأنه لم ير مثل شجاعتي وأنني قمت بتنفيذ العملية بروح الأبطال ثم رآني أقاتل بعد ذلك عند مهاجمة اليهود لنا وأنتقل من مكان إلى مكان آخر ولم يرني بعد ذلك ولا يعرف عني شيئًا، فاستراح والدي لذلك وكان الرائد إبراهيم يعلم كيف كان الموقف وكان يتحدث عني وكأني شهيد ولكنه لم يستطع إبلاغ والدي لصعوبة ذلك الموقف واستبعاد وجودي حيًا ولكنه لم يشأ أن ينهي على الأمل عند والدي.

وبكي معظم أقاربي عند لقائي وكانوا لا يعرفون ماذا يقولون وينظرون إلي وهم غير مصدقين فقد حزنوا على استشهادي وتصور كل منهم أني قد استشهدت يقينًا فما هو ذلك الشعور الجديد لمقابلة ومواجهة العائد من الموت، كان الجميع يبكون عدا والدي كان متماسكًا كله كبرياء بالرغم من ضعفه الواضح ووزنه الذي نقص ما يزيد عن عشرة كيلوجرامات وكان يبدو وكأنه هو الذي عبر وقاتل ودمر العدو، وعاد والدي وبعض أقاربي مرة أخرى وقد أحضروا بعض الطعام والحلوى والجاتوه وكان معي جميع الزملاء أثناء زيارة أقاربي وأقاربهم وقد زال تمامًا الشعور بالخوف والقلق من نقص المياه والطعام وكنا جميعًا مع اختلاف رتبنا يسود بيننا روح المودة والاحترام المتبادل.

وانتظرنا يومًا آخر وحدث في هذا اليوم تصرفًا غريبًا لو حدث قبل وصولي لكان له أثر سيء للغاية على أهلي فقد حضر مندوبًا من الجيش إلى منزلنا لتسليم مكافأة الاستشهاد إلى أسرتي ولكنه عندما حضر وجد زينة وأنوارًا على المنزل فشعر أن تسليم المكافأة في هذه المناسبة سيسبب أثر سيء على العائلة ولكن عليه الالتزام بتسليم المكافأة اليوم حسب التعليمات الصادرة إليه، وأرسل في طلب والدي ونزل والدي له وطلب منه وبعد مقدمة طويلة والاعتذار بأن يقبل والدي الأمر الواقع وأن يكون مؤمنًا وأن يتسلم المكافأة الخاصة باستشهاده، وعندئذ ضحك والدي وأبلغه بأنه لابد من أن يشرب الشربات أولاً فانزعج الضابط الكبير كثيرًا لذلك وظن أن والدي قد مسه جنون ولكن والدي أسرع بإخباره بأني عدت سالمًا منذ يومين وبعد انتهاء الحرب بسبعة أشهر، ولم يصدق الرجل إلا بعد أن روى له جزءًا من القصة ورفض والدي تسلم المكافأة، وعاد السيد العقيد متعجبًا بعد أن طلب من والدي أن أمر عليه لرؤيتي ليس إلا، ولكنني لم أستطع ذلك لانتظامي في العمل بمدرسة الصاعقة بعد ذلك بعدة أيام وكان معي النقيب عبد الحميد الذي حدث نفس الشيء لأهله، والحمد لله أن ذلك حدث بعد عودتنا وإلا كانت عواقبه في علم الله.

وفي صباح اليوم الثالث من تواجدنا بالخدمة السرية وجدنا حركة غير طبيعية وطلب منا
التوجه إلى مكتب القائد المقدم/ يحيى شبايك، وتحدث معنا بعض الوقت وعجبنا لذلك الرجل الذي يعلم كل شيء عن البدو والقبائل وأماكنهم وأسمائهم وأسماء أبنائهم وكأنه بدوي منهم، وسعدنا به ووثقنا به وكان أول من تحدثنا معه عن اسم قبيلة علي وإخوانه، وأجاب بأنه يعلم مكانهم وولاءهم لمصر وحضر أحد ضباط الخدمة السرية والمكلف باصطحابنا إلى وزارة الحربية وكان معه ميكروباص خصص لهذا الغرض وهناك استقبلنا سكرتير الوزير ومعه اللواء عز الدين مختار وأدخلونا مكتب السيد الوزير فور وصولنا وكنا نتحرك كالآلات من رهبة الموقف ووجدنا أنفسنا أمام الوزير الذي كنا نراه في الجرائد ضخم الجسم – كبير السن ومعه الفريق حسني مبارك قائد القوات الجوية الذي كنا نعرفه جيدًا من روايات زملائنا بالكلية الجوية وتصافحنا وعانقنا السيد الوزير والفريق حسني مبارك بكل حنان وعطف أبوي وكان سعيدًا بنا وتحدث معنا وأبلغنا بأنه فخور بنا وأخذنا نقص عليه بعض ما حدث وموقف البدو معنا وأمر سيادته بالفحص الطبي الشامل علينا ووعدنا بلقاء آخر ليقدم فيه شهادة تقدير بخط يده لنا حتى تأتي فرصة لمكافأتنا مكافأة تليق بما فعلناه حيث لا نجمة سيناء ولا نجمة الشرف توفيكم حقكم (وعلمنا بعد ذلك بأنه صدرت تعليمات من رئاسة الجمهورية بإيقاف منح أي أوسمة أو أنواط بسبب بعض التظلمات والتذمر لاختلاف وجهات النظر للبعض عند توزيع الأنواط والنياشين) وذلك ما كنا لاحظناه بالفعل، وقد تم إعطاء تعليمات إلى قائد وحدات الصاعقة بترتيب مكافأة مؤقتة لنا لحين بحث أسلوب المكافأة التي تليق بنا وأعطى لنا الهدايا التذكارية (قطعة صوف للجنود، وساعة يد لي ولعبد الحميد)، وكنا سعداء جدًا بذلك لأننا لم نفكر في أكثر من ذلك بل كان أقصى ما كنا نحلم به هو مقابلة السيد الوزير وتقديره الشخصي لنا، والتقطت لنا الصور التذكارية ووعدنا بلقاء آخر، ثم قابل مجموعة البدو الذين ساعدونا في العودة بعدنا وقد رأيناهم في ثياب بدوية جميلة وتصافحنا وطلبت من الشيخ سليمان بأن يقوموا بزيارتي لتناول الطعام فقبل الرجل ووعدني وأوفى بوعده وأعددت لهم هو وجماعته وليمة كبيرة عرفانًا ببعض ما قاموا به  نحونا وكان ذلك أقل واجب أقوم به نحو هؤلاء الرجال، وظلت الصلة سنوات بعد ذلك وقلت مع الوقت والانشغال.

وبعد مقابلة السيد المشير توجهنا لمقابلة السيد قائد وحدات الصاعقة العميد/ نبيل شكري، الذي تحدث معنا ومنحنا أجازة عشرة أيام أو أقل على ما أذكر وقرر ضمنا إلى مدرسة الصاعقة لنصبح معلمين بالمدرسة وحدد لنا مكان تسليم السلاح.

وتحركنا في عربة ميكروباص إلى منزلي وفوجئت بحشد كبير من أهل المنطقة المجاملين يريدون تحيتي وحاولت أن يبقى الزملاء بالمنزل ولكنهم اعتذروا لرغبتهم الشديدة في رؤية أهلهم وذويهم أيضًا وتواعدنا على اللقاء وودعوني بالضحكات والإشفاق أيضًا على مصيري مع هذا الجمع الخفير ووجدت نفسي أتابعهم وهم يتركونني ونظري متجه إليهم حتى اختفوا عن بصري فهذه أول مرة نفترق فيها بعد هذا المشوار، ورفضت أن يحملني الناس على أكتافهم تعبيرًا عن فرحتهم وتقديرهم لما قمنا به وأحاطوا بي من كل جانب وكانت الزغاريد تعلوا أصواتها في كل مكان وخجلت من ذلك الاستقبال لطبيعتي العسكرية ولكنني أحسست أنه شعور جارف من القلب غير زائف بالنسبة لي، وكان كل من يلقاني سعيدًا فخورًا أن أكون ابن منطقته، وكان هناك من يبكي ويضحك في آن واحد، وعند صعودي إلى المنزل لم يكن هناك موضع لقدم وقابلت أخوتي وأحبائي وتعانقنا وقابلت والدتي وكانت سعيدة سعادة بالغة وعادت إليها نضارتها وضحكتها بعض الشيء والجميع يهنئها والسعادة تغمرها وأحسست أنها عادت مرة أخرى لشبابها وظلت الأفراح والزيارات عدة أيام لم تنقطع بل كنت أهرب أحيانًا حتى أنام وأستريح، وهكذا بدأ الهدوء يعود شيئًا فشيئًا حتى أصبح ما فعلناه وواجهناه بسيناء رواية أرويها وقصة أكتبها يصدقها البعض ويشك فيها البعض بالرغم أن الحقيقة لا يستطيع أحد أن يسجلها أو يصورها كما ينبغي مهما بلغت قدرته وبراعته في التعبير والوصف.

وبقي الآن بعض الأحداث والأجزاء التي تلت ذلك وكان منها حفل تسليم الشهادات والأوسمة والنياشين لجميع أبطال الصاعقة في عمليات حرب 1973م والتي قام بتسليمها المشير أحمد إسماعيل بمدرسة الصاعقة بعد عدة أشهر وقد اصطف الجميع وأخذ الجميع الأوسمة والنياشين وأخذت أنا وعبد الحميد شهادة تقدير وعند تسلمي الشهادة تحدث إلي السيد المشير مصافحًا يدي بيده، وكان ذلك في آخر أيامه رحمه الله وأبلغني عند مصافحته مرة أخرى بأن ما قمنا به لا يوفي حقنا أي وسام حتى لو كان نجمة سيناء أو الشرف، وإننا نستحق الكثير جدًا من الوطن ولكنه لم يستطع أن يصدق لنا على نجمة سيناء لاعتبارات ستعلمها بعد ذلك ولكني سأكافئكم بطريقة أخرى حتى أحصل لكم على وسامكم الذي تستحقونه وأشار إلى العميد نبيل شكري، لمكافئتنا بالسفر كانتداب لدولة الكويت كمكافأة مؤقتة، وقد حاولت رفض ذلك مفضلاً مكافأتي بنجمة سيناء أو نجمة الشرف ولكن السيد قائد المجموعة العميد/ كمال عطية أقنعني بقبول السفر إلى الكويت انتظارًا لمكافأتي التي وعدني بها السيد المشير بعد عودتي من السفر.

أما عن الأحداث التي وقعت لباقي عناصر الكتيبة 83 صاعقة التي علمنا بها بعد لقائنا مع الزملاء في الكتيبة بعد عودتهم من الأسر والتي ما يزال بعض أبطال هذه الأحداث على قيد الحياة حتى الآن فيمكن إيجازها في الآتي:

مجموعة وادي فيران:

كان ذلك على المحور الذي عملت به:

  • الطائرة التي أقلت النقيب محمد صليحة هبطت بالقرب من الشاطئ ووجد مستعمرة بترولية وعند دخوله إليها وجد بها عاملين وعائلاتهم في طريقهم لركوب سياراتهم فأشار لهم باستمرار التحرك ولم يصدقوا ما رأوه ولاذوا بالفرار وكان صليحة ترك جماعة ساترة ظهرها للجبل وتواجه منطقة شراتيب وفي مكان جيد، واحتل صليحة وباقي القوة الطريق الساحلي داخل المستعمرة البترولية في انتظار تحرك العدو ولكنه فوجئ بحصار العدو من خلفه بقوات كبيرة وأجبرته على الاستسلام بعد تحقيق بعض الخسائر وتحركت قوة العدو في اتجاه الجماعة الباقية ولكنهم فوجئوا بنيران كثيفة لم يستطيعوا مهاجمتهم وأجبروا العدو على اتخاذ ساتر والانبطاح أرضًا وحاول العدو استنزاف ذخيرة هذه الجماعة تحت قيادة الرقيب المجند البطل الذي اضطر للاستسلام تحت كثافة نيران العدو بجميع أنواعها وإجبار النقيب صليحة على طلب استسلامه.

  • الطائرة التي أقلت النقيب سمير سالم كانت منخفضة عند وصولها قبل المنطقة الجبلية ليلاً وكان هناك سلك ضغط عالٍ فاصطدمت به وهو على ارتفاع حوالي 15 متر واستشهد أحد أفرادها متعلقًا بالسلك الكهربائي وأصيب معظم من بها، وحاول النقيب سمير البعد عن مكان الطائرة حيث سيكشف وجودها عن مكانه وجمع الأفراد المصابين والسالمين وبمساعدة بعضهم صعد أحد الجبال القريبة، وفي النهار كان محاصرًا من الجنود الإسرائيليين من كل جانب وقام العدو بصف الجنود ووضع عصابة فوق أعين النقيب سمير وسمع النقيب سمير صوت طلقات نارية ثم قادوه إلى عربة حتى وصل إلى مكان الأسر، وعند سؤاله أجاب بعض الإجابات التي لم تعجب المحقق فقال له النقيب سمير اسأل من كانوا معي فقال له أنت تعلم أن من معك قد مات فسكت ولم يعلق واعتبر ذلك نوع من الضغط النفسي حتى يقوم بإبلاغهم عن كل شيء، وبعد عدة أيام قابل أحد الجنود الذين كانوا معه واسمه الحلفاوي النجار، وكان يعمل نجارًا وهو شاب من القلعة جميل الوجه أبيض البشرة أزرق العينين، وسعد النقيب سمير عندما رآه وكان كله ضمادات أثر إصابات وسأله سمير عن باقي الفصيلة فأبلغه الحلفاوي بتعجب ألم تعلم ماذا حدث لنا؟ فقال له لا، فقال: بعد أن قام العدو بتغطية عيناك قام برمي الرصاص علينا جميعًا ونحن واقفين فلم أشعر بنفسي إلا عندما أفقت ليلاً ونظرت حولي فوجدت جميع زملائي مستشهدين وأنا معهم وتحسست نفسي فوجدت خمسة طلقات في جميع أنحاء جسمي وجرح سطحي في وجهي وكان ذلك الجرح من أثر طلقة بالطبنجة في جميع رؤوس الشهداء ولكن طلقة الطبنجة أحدثت جرح سطحي بالنسبة لي، وقمت بالزحف حتى وصلت إلى الطائرة فأخذت آكل وأشرب منها حتى أتى رجال الصليب الأحمر وأنقذوني من الموت وكنت الجندي الوحيد الذي عاش من هذه الفصيلة.

  • وكانت الطائرة الخامسة في هذا الوادي تحت قيادة الملازم أول محمد الشربيني من المدفعية وكانت تعمل دعم للكتيبة بقوة ستة عشر فردًا من سرية الجراد بي ومعهم القواذف والذخيرة الثقيلة وقد أبر الطيار الطائرة في مكان بعيد جدًا عن منطقة العمل وقام الملازم أول بجهود جبارة للسيطرة على هؤلاء الجنود وضباط الصف الذين عاونوه كثيرًا، وقد حاول التقابل مع قوة الكتيبة ولكنه لم يتمكن رغم المحاولات العديدة التي بذلها وأثناء هذه المحاولات تقابل مع بعض البدو الذين عاونوهم وأخفوهم عن العدو حتى عاد بعد مضي حوالي خمسة أشهر في عربة نقل ومعه جميع الجنود بمعاونة البدو مغطيين ببعض من البضاعة، وقد عاد مصاب بحالة نفسية سيئة نتيجة الضغط النفسي للسيطرة على هؤلاء الأفراد ولمدة كبيرة حتى استعاد طبيعته (وكان حزينًا لعدم مكافأته وما زال حيًا يرزق) والحمد لله.

مجموعة وادي سدري:

  • لم تتمكن هذه المجموعة من العبور بالقوارب وذلك لمهاجمة العدو لها بالضفة الغربية لخليج السويس وكان قرار القيادة العامة تجهيز مجموعة أخرى لتنفيذ عمليات الإغارة بالنيران وقد كلفت سرية بقيادة النقيب/ عمرو منصور والملازم أول/ عبد العال ثابت وذلك بعبور خليج السويس بالقوارب وقد نفذت السرية مهمتها بنجاح.

مجموعة وادي بعبع:

  • تمكن النقيب عادل عبد الفتاح من الهبوط في وادي بعبع ونجح في تنفيذ كمين بالمدخل الشرقي للوادي ونجح في تدمير عربة نصف جنزير وتم مهاجمته بمجموعة معادية وقامت بأسره ومن معه، وبعد العودة من الأسر وأثناء توجهه إلى السويس في طريقه إلى بعبع للإبلاغ عن مكان الشهداء أصيبت السيارة التي يستقلها بلغم واستشهد رحمه الله وكان مثالاً للخلق والذكاء وخفة الدم ومن خيرة شباب مصر ولكنه القدر الذي حدده الله سبحانه وتعالى ليلقى ربه في اليوم والمكان المحدد له.

  • كما استشهد البطل سمير البهي وهو يقاوم العدو في منطقة قاعدة الدوريات ببسالة منقطعة النظير وكان ذلك بشهادة الدكتور الشعراوي الذي أبلى بلاءً حسنًا هو الآخر.

  • وقد أسر قائد الكتيبة ورئيس العمليات وقائد السرية واستشهد قائد أحد الطائرات التي أقلتهم عند تحذيره للجنود من مروحة الطائرة كما ذكرت من قبل، كذلك أسر النقيب مجدي يوسف رحمه لله والذي توفى بعد ذلك، وقد أسر معظم ضباط الكتيبة.

  • وبالنسبة للملازم أول سعيد فتح الله الذي تم دفعه بعد العمليات بعدة أيام بطائرة محملة ببعض المؤن وجهاز لاسلكي في عمق وادي بعبع ولكنه لم يستطع الوصول إلى أحد وقد أسر بعد عدة أيام من تواجده بأحد مغارات الفيروز، كذلك أسر النقيب عاطف سعودي من قيادة المجموعة بنفس الطريقة.

  • أما بالنسبة للرائد إبراهيم زيادة، فبعد أن تخلص من الاشتباك ومعه الدليل (عودة الحرامي) تحركوا في وادي فيران وتم مقابلة 3 أفراد أحدهم مصاب في رأسه وظلوا مختبئين مع أحد القبائل حتى استشهد الجندي الذي كان مصابًا في رأسه بعد شفائه تمامًا وذلك بعد أن سقط من ارتفاع عالٍ من الجبل أثناء إحضاره للمياه وعادت باقي القوة بعد حوالي خمسة أشهر.

  • بالنسبة للدليل (عودة الحرامي) تقابلت معه في القاهرة بعد ذلك واصطحبته لمنزلي وكان سعيدًا لرؤيتي حيث اعتقد أنني استشهدت وأخذ يسرد لي عما حدث بعد مواجهة العدو لنا وكيف استطاع التخلص مع الرائد إبراهيم زيادة والهرب بعد ذلك، وأخذ يحكي لوالدي عن تلك الأحداث وأشاد بي وبما قمت به وكان ذلك بالنسبة لوالدي شيء يفتخر به وجعله يزداد اعتزازًا بي حيث كنت لا أروي شيئًا بالتفصيل عن تلك الأحداث وغضب مني والدي لأني لم أروي له تدميرنا لعدد 2 أتوبيس للعدو وقتالنا ضد العدو ببسالة وكانت آخرة مرة رأيت فيها (عودة الحرامي).

بالنسبة للبدو:

  • قمنا بزيارة الحاج سليمان ومن حضروا معنا للقاهرة من البدو وأقمنا لهم عزومة كبيرة وكذلك عزمونا على أكلة بدوية باللحم في مصر الجديدة وكان معهم عضو مجلس الشعب السيد/"اليماني" في ذلك الوقت.

  • قمنا بزيارة عم علي بالقاهرة بمنطقة دير الملاك وكان مهاجرًا من السويس وسعدنا به ونقلنا له أخبار كل أقاربه.

  • عندما أخلى العدو منطقة أبورديس قام علي بزيارتنا في القاهرة بعد أن أرشده عمه عن العنوان وكان يومًا سعيدًا ثم أعاد الزيارة ومعه زوجته فاطمة وتبادلنا العزومات والزيارات وكان مازال عفيف النفس شهم الطباع.

  • توالت الزيارات من علي وصبحي وعليان.

  • قمت بزيارة المنطقة حوالي عام 1981م وزرت علي وطلبت منه زيارة المغارة التي عشنا فيها ما يقرب من ستة أشهر متواصلة، وبالفعل أحضر سيارة نقل ووصلني حتى الوادي وكان معنا ضابط صف من المخابرات، وصعدنا الجبل وكان ذلك نزهة جميلة بالنسبة لنا ورحلة شاقة جدًا ومرعبة لضابط الصف حتى أحسست بالحرج أمام علي، وبعد وصولنا وجدت المغارة المجاورة لنا قد انهارت وانسدت تقريبًا ووجدت المغارة الخاصة بنا كما هي ووجدت ملابسنا كما تركناها وكل شيء تقريبًا كما هو، وصليت لله شكرًا وعدت مرة أخرى.

  • أصيب حسين بعد ذلك في أحد عينيه ولم أراه بعد ذلك وكذلك لم أرى صبحي إلا عندما قمت بزيارتهم مرة ثانية وكانوا قد انتقلوا بالقرب من مدينة أبورديس.

  • وتزوج صبحي من أحد البدويات التي عاشت لفترة طويلة بالقاهرة، وكان طباعها تختلف عن الطبع البدوي ولكنه كان يحبها وأنجبا ومازال قيد الحياة والحمد لله ولكنه مصاب بفشل كلوي ويقوم بالغسيل من حين لآخر.

  • أما حميدة تزوجت من أحد أقاربها وما زالت أم حميدة كما هي، كذلك الشيخ بركات والد علي وأنجبت "ستيت" عدة أطفال وتزوج عليان أحد بنات أم حميدة وأنجب هو الآخر.

  • وظللنا نتزاور وكانت لفاطمة مكانة خاصة لما لها من سمات وعقل وصفات كثيرة، وزارتني ووالدتها في أحد الأيام عام 1989 وأخبرتني بأن فاطمة بها مرض في معدتها وقد حاولوا عند جميع الأطباء ولكنهم لم يصلوا إلى نتيجة بعد علاج دام حوالي سنة وأنهم عاجزون عن فعل أي شيء وأنهم صرفوا كل شيء دون نتيجة وهي تصر أن لا أعرف حتى لا أزعج نفسي وأتكلف أي مصاريف، وطلب مني علي وكذلك والدتها مكان يحقق لها العلاج والشفاء، ولكن كان الوقت قد تأخر كثيرًا، وقمت بعرض المشكلة على عدة أصدقاء وزملاء وكانت الإجابة ورد الفعل سريع من العقيد معتز الشرقاوي أحد أبطال الصاعقة السابقين وقام الرجل بالتدخل الشخصي لدى مدير مستشفى الهلال الأحمر الفلسطيني والذي كان يعمل فيه في ذلك الوقت، وقد تقرر علاج فاطمة بأقل تكاليف ممكنة (وكنت أتمنى أن تعالج فاطمة على نفقة القوات المسلحة وفي أحد مستشفياتها ولكن بأي صفة تعالج وإذا طلبت ذلك فكم من الوقت يسمح حتى يأتي التصديق بذلك).

  • وكانت فاطمة قد أصبحت في حالة صحية سيئة ودخلت المستشفى وهي نحيفة الجسم، وخضعت لفحص طبي شامل دقيق وتحت إشراف أطباء أساتذة وكانت النتيجة أنها حالة ميئوس منها حيث أنها تأخرت كثيرًا في استئصال ورم سرطاني بالمعدة، ولا يدري الأطباء كيف تحملت هذه السيدة كل هذه الآلام حتى الآن، وقرر الأطباء عمل عملية استئصال للمعدة ووضع كيس بلاستيك طبي بدلاً منها وذلك فقط لكسب الوقت.

  • ووافقنا ووافق زوجها وطلب كميات من الدم اشترك الجميع في شرائها وكان دور العقيد معتز كبيرًا جدًا في ذلك وكذلك بعض الأطباء الشبان الشرفاء أصدقائه في المساعدة المادية والمعنوية، وكان العقيد معتز يعمل ذلك بحماس ووطنية منقطعة النظير لما يعلمه عن دور هذه السيدة الوطنية، وكان يحاول أن يثبت لها ولزوجها ولأمها أن ما يقوم به ليس إلا أقل القليل للوفاء بما قدمته هذه السيدة ولما يجب أن يقدم لها في آخر أيامها، وكان الجميع يعلم بأن النهاية قريبة ولكن كان الأمل موجود، وتناوبنا الزيارة، وتم عمل العملية ولكن للأسف الشديد بعد أن قام الأستاذ الدكتور بفتح المنطقة التي سيتم عمل العملية بها وجد أن المرض اللعين قد انتشر ووصل إلى المريء وقارب الوصول إلى الفم فقام بإعادة الفتحة كما كانت ولم يستأصل أي شيء وأصبح الأمر بيد الله – وطلبت مني أن أنقلها منزلها وحاولنا إقناعها بأن وجودها بالمستشفى تحت الإشراف مع وجود المسكنات أفضل لها ولكنها أصرت على ذلك، وكان شكلها أصبح يشبه شكل سيدة في سن المائة عام حتى أصبح شكل والدتها وكأنها صغرى بناتها وكان ذلك شيئًا صعبًا علينا أن نجدها تتدهور بهذا الشكل دون أن نستطيع عمل شيء، وكان قضاء الله بعد ذلك بيومين وقمت أنا وعبد الحميد - الذي وصل في الوقت المناسب في أجازة من روسيا حيث كان يعمل ملحقًا حربيًا هناك في ذلك الوقت - بعمل جميع الإجراءات وقمنا بالصلاة عليها وتم نقل الجثمان إلى مدينة السويس حيث توجد مقابرهم وذهبت أنا وعبد الحميد وكان الجثمان وصل أول الليل، والقبر على الطريقة الإسلامية معد لاستقبال جثمانها الطاهر، وكانت المشاعل والكلوبات تضيء المقابر كأنها ليلة زفاف وكان الجميع مؤمن بقضاء الله وقدره وفي مشهد مهيب لدفنها فقد كانت محبوبة من جميع أهلها ومن يعرفها وتوارت تحت التراب رحمها الله ورحمنا جميعًا.

 


 

خاتمة

تم إعادة تسجيل هذه اليوميات بعد 39 عامًا من نهاية أحداث ملحمة البطولة والفداء وحوالي 25 عامًا من التسجيل المبدئي لهذه الأحداث والذي سبق أن كلفت به من إدارة الشئون المعنوية للقوات المسلحة، وقد قررت كتابتها عند عودتي من المنصورة بعد دفن البطل السيد محمد علي والذي أرثيه في هذه الخاتمة بعد أن أطال الله عمره وعمرنا 39 عامًا عشناها بكل فخر واعتزاز بعد أن عبرنا هذه الأحداث ونحن على قيد الحياة وقد كتب الله لنا أعمارًا جديدة، كما توفي أيضًا خلال هذه الفترة علي بركات وأم حميدة والحاج بركات أبوعلي.

وأؤكد أن هذه الأحداث من واقع ما عايشته من وجهة نظري وتعايشي للأحداث والتي تعتبر نواة لمواقف بطولة عديدة قام بها رجال الصاعقة ولكل موقف أحداثه وأبطاله وذكرياته ومنها مجموعة
النقيب/ عبد الحميد خليفة وبطولة الجندي الشهيد/ سيد زكريا الشهير بأسد الصحراء كما أطلق عليه الجانب الإسرائيلي إعجابًا وتقديرًا لشجاعته، وكذلك الملازم أول/ حازم طوب صقال والذي استشهد بعد أن قاتل ببسالة ضمن مجموعة وادي غرندل تحت قيادة المقدم/ برادة قائد الكتيبة، كما يشرفني أن أذكر البطولة التي قامت بها كتيبة وادي سدر تحت قيادة المقدم/ محمود عباس والتي تمكنت من إحداث خسائر فادحة كبيرة للواء مدرع للعدو ومنعه من عبور مضيق وادي سدر في اتجاه الغرب وحرمانه من التدخل في أعمال قتال الجيش الثالث، وكذلك أحداث الإمداد للمجموعة المتبقية من كتيبة وادي سدر بواسطة النقيب/ نبيل أبوالنجا والتي تمت بنجاح بالرغم من حصار ونيران العدو.

وأتمنى من الله أن يوفقنا في مرحلة قادمة من تجميع هذه المواقف كاملة لتكتمل صورة البطولة والفداء بهذا الاتجاه الحيوي بجنوب سيناء سواء لقوات وأبطال الصاعقة أو رجال البدو الذين كان لمساندتهم لنا وشجاعتهم ومواقفهم الوطنية أثر كبير في دعم ونجاح عمليات قوات الصاعقة خلال حرب أكتوبر المجيدة.

وأنتهز هذه الفرصة لأتقدم بالشكر والتقدير لمجموعة شباب مؤرخي حرب أكتوبر 1973 (مجموعة 73 مؤرخين) والذين بفضل حماسهم ووطنيتهم ظهر هذا الموضوع إلى النور باستخدام شبكة المعلومات (الإنترنت) ومن خلال مواقع التواصل الاجتماعي وهو ما فاق الوسائل التقليدية من الصحف والمجلات حيث اتساع دائرة النشر لملايين القراء، كما أنتهز هذه الفرصة لتقديم الشكر إلى كل من ساعدوني في صياغة الموضوع بصورة توضح مفهوم الأحداث وتبسط المواقف للقراء من غير العسكريين (المدنيين)، وهم: السيد الفاضل/ عبد الخالق عيسى، والسيد اللواء أ.ح/ محمد عبد الظاهر الشريف.

وحتى الآن لم تنقطع اتصالاتي والعلاقات الطيبة بمن بقي على قيد الحياة من أبطال هذه الملحمة وذويهم سواء من زملائي أبطال الصاعقة أو من البدو الذين أشعر نحوهم بكل الجميل والعرفان لكل ما قدموه لنا بكل إخلاص ووطنية وما زلنا أيضًا نشعر بحنين وشوق لمواقع الأحداث ونقوم بزيارتها ونتذكر كل اللحظات التي مرت علينا كلما سمحت الظروف بذلك.

 

 

Share
Click to listen highlighted text! Powered By GSpeech