Click to listen highlighted text! Powered By GSpeech
Get Adobe Flash player
مستمرين معاكم بإذن الله 2008-2024 **** #لان_لجيشنا_تاريخ_يستحق_أن_يروي **** ***** إنشروا تاريخنا وشاركونا في معركة الوعي **** تابعونا علي قناة اليوتيوب 1100+ فيديو حتي الان **** تابعونا علي صفحات التواصل الاجتماعي** أشتركوا معنا في رحلاتنا لمناطق حرب أكتوبر **** يرجي استخدام خانة البحث **** *** تابعونا علي تليجرام - انستجرام - تويتر

صراع في السماء - اللواء طيار محمد عكاشه - الجزء الخامس

الفصل الخامـس

أحـداث مـن قلـب الأحـداث

  • قبل أربع سنوات من حرب يونيو1967 وقع حدث مهم له دلالات كثيرة، لكن ولأن القيادة المصرية وأجهزتها وأدواتها كانت كلها متفقة على أنه "كله تمام" وأن مصر تحقق الانتصار تلو الانتصار، فإن الدخول فى لعبة الفوز والانتصارات الوهمية يكون دافعاً للكثيرين فى دخول اللعبة.

خــداع شعــب :

فى 23 يوليو 1963 أذاعت مصر بيانا عسكرياً فى الثانية ظهراً يقول.. إنه أثناء العرض العسكري الذي أقيم صباح هذا اليوم حاولت 4 طائرات إسرائيلية اختراق المجال الجوي لمصر وتصدت لها مقاتلاتنا المصرية فى سيناء وحدث اشتباك جوي معها أسفر عن إسقاط طائرة إسرائيلية ولاذت باقى الطائرات بالفرار وعادت طائراتنا إلى قواعدها سالمة.

وفى مساء نفس اليوم، وكان يقام حفل ساهر فى نادي الضباط يحضره الرئيس وكبار رجال الدولة وكثير من ضباط القوات المسلحة. وقف على المسرح الفريق أول محمد صدقي محمود قائد القوات الجوية وخلفه الطياران اللذان قاما بالاشتباك مع الطائرات الإسرائيلية فى الصباح، وألقى كلمة قصيرة اختتمها بأن ما حدث فى الصباح هو هدية متواضعة لمصر وللرئيس جمال عبد الناصر بمناسبة الاحتفال بذكرى ثورة 23 يوليو. وأن الرئيس قد منح قائد التشكيل أعلى وسام عسكري فى الدولة ومنح الطيار رقم 2 وسام أقل. ودوى التصفيق فى حديقة النادي التي تستوعب حوالي ألف ضابط من مختلف أسلحة القوات المسلحة وتبادل الجميع التهنئة وعم الحضور جميعا الزهو والسرور بالانتصار .

ولأيام متتالية كانت الصحافة والتليفزيون تلاحق قائد التشكيل بالحوار والصور  والأسئلة وقائد التشكيل يجيب باستفاضة كيف تم تدمير الطائرة الإسرائيلية. وعاشت مصر كلها فى فرحة لا توصف ، وكيف لا وقد حقق أحد أبنائها نصراً كبيراً على العدو الإسرائيلي.

 

ولكن الحقيقة كانت غير هذا ، فقائد التشكيل ورفيقه كانا فى طلعة تدريبية على ارتفاع 2كم فى وسط سيناء وقبل انتهاء الطلعة بدقائق فوجئا ، وأقول وأكرر فوجئا، بطائرتين إسرائيليتين تهاجمهما على مسافة 1 كيلو متر تقريباً ، وفى لحظة حاسمة قام رقم 2 بإبلاغ قائد التشكيل ونفذ التشكيل مناورة مضادة أفسدت الهجوم، واستمرت المناورة بين التشكيل المصري والتشكيل الإسرائيلي كل يبغي إسقاط الآخر. لكن بعد دقائق انسحب رقم 2 من التشكيل المصري من الاشتباك لقرب نفاد وقود طائرته وظل قائد التشكيل بمفرده يناور مع التشكيل الإسرائيلي وأطلق كل منهم  النيران على الآخر وانتهى الاشتباك بعودة الطائرتين الإسرائيليتين وعاد قائد التشكيل المصري وهبط فى القاعدة وصرح بأنه أسقط طائرة إسرائيلية ، وتلقفت القيادات الحدث وعلى الفور تم تصعيده إلى أعلى وفى الثالثة عصراً كان الطياران بصحبة قائد القوات الجوية أمام المشير عبد الحكيم عامر فى منزله يتلقيان التهنئة.

حدث كل هذا دون أن نسأل كيف دخلت الطائرات الإسرائيلية إلى سيناء ولم تكتشف بالرادار، وأيضاً دون وجود شيء مهم ، ألا وهو حطام الطائرة الإسرائيلية ، فالاشتباك وقع فى وسط سيناء أي على بعد حوالي 80 كيلو متراً على الأقل من الحدود الإسرائيلية ولم ينشر أي شيء عن العثور على حطام الطائرة، فالطائرة المضروبة كانت ولابد أن تسقط فى الأراضي المصرية ، بل وإن مدفع الطائرة المصرية مرتبط بكاميرا تصوير توضح صورة الطائرة أثناء التنشين ثم أثناء الضرب عليها ثم وهي محترقة ، لم تظهر أية صورة من هذه الصور بل ولم يسأل القادة عنها على اختلاف مواقعهم ، ومر الحدث (لأن كله تمام) دون دراسة أو تحقيق رغم وجود خلل وقصور شديد فى الكشف الرادارى.

كان القادة جميعاً يبحثون عن إنجاز، عن نجاح ، كانت لعبة السياسة والانتصار الوهمي يعمي الجميع ، واستخدمت فى ذلك القوات المسلحة ، خرج ضباط القوات المسلحة من الحفل وهم مصدقون ومتأكدون أن هذه هي قواتنا الجوية. ولم يكن يعرف الحقيقة وقتها إلا الطيارون المصريون، لكن علمهم ومعرفتهم بالحقيقة لم يكن يغير من الأمر شيئاً ، فقد أصبح قائد التشكيل بطلاً يحمل وسام نجمة الشرف العسكرية التي تعطيه الكثير من المزايا المادية والأدبية ، وبنظرة على مانشيت الصفحة الأولى من الأهرام فى اليوم التالي توضح ما كان عليه حجم الخيال فى مصر. فالصورة المنشورة فى الأهرام لا تبين ولا تثبت إصابة أو تدمير الطائرة الإسرائيلية. وبنظرة إلى الصورة المقابلة لها نعرف كيف تظهر صورة طائرة تم إسقاطها فى اشتباك جوي.

 

 

 

 

 

 

 

دمـوع المشيـر عامـر :


  • علم المشير عبد الحكيم عامر وهو فى الجو من قائد الطائرة نبأ هجوم  الطائرات الإسرائيلية على القواعد الجوية المصرية، وعادت الطائرة على الفور، وهبطت فى مطار القاهرة الدولي ، حيث استقل المشير عامر ومعه الفريق أول صدقي محمود قائد القوات الجوية "تاكسي" ووصل إلى مقر القيادة العامة فى مدينة نصر الساعة 10:30 تقريباً، ودخل وهو مذهول من الهجوم الإسرائيلي، وتوجه الفريق  صدقي محمود إلى مقر قيادته فى الجيوشى، وهناك علم بأنه فقد حوالي 75% من القوات الجوية المصرية ولم يتبق له سوى 30 طائرة مقاتلة ميج17، ميج21.

كانت علامات الوجوم والصدمة تكسو وجوه الموجودين فى مقر القيادة من قادة وضباط، غير مصدقين وغير متأكدين بما يدور فى الجبهة وفوق القواعد الجوية، وبمرور الوقت وتوالى البلاغات عن الطائرات الإسرائيلية التي كانت تدك وتدمر قوات مصر المسلحة بدأت الفوضى والعشوائية تدب فى الاتصال بالقادة وبالقرارات الصادرة إليهم. وظهر وهم كاذب لا نعرف مصدره عن أعداد الطائرات الإسرائيلية التي تم إسقاطها بواسطة الدفاع الجوي المصري ، وأقنع المشير عامر نفسه بصحة هذه الأرقام علها تخفف من صدمته وتوتره ، ولم يجرؤ أحد من الموجودين حول المشير عامر على التشكيك فى صحة هذه الأرقام ، لكن الأمر لم ينحصر داخل مركز القيادة العامة فقط بل وصل الحماس إلى حد البلاهة فبدأت القيادة العامة تذيع على الشعب المصري بلاغات عسكرية رسمية تفيد إسقاط العديد والعديد من الطائرات الإسرائيلية.

ولما كان الشعب المصري قبل سنوات قد سلم زمام الأمور إلى القيادة السياسية والعسكرية تدير له أموره وأحلامه ومستقبله، فقد صدق هذه البلاغات على الفور وعاش نشوة النصر الكاذب لمدة يومين رغم أن حقيقة الهزيمة كانت واضحة من الساعة الأولى.

وفى الحادية عشرة صباحاً تقريباً وصل الرئيس جمال عبد الناصر إلى مقر القيادة العامة فى مدينة نصر للاطمئنان بنفسه على سير الأمور ومعرفة آخر موقف لقواتنا المسلحة بعد الهجوم الجوي الإسرائيلي ، ولمس بنفسه الفوضى والعشوائية التي تعم المكان والتي تدار بها الأمور. وحاول أن يستفسر عن حجم خسائرنا بعد الضربة الجوية لكن المشير عامر  كان يجيبه ببيان عدد الطائرات الإسرائيلية الوهمي التي أسقطت ، كما وأخبره بأن عدد الطائرات المهاجمة الإسرائيلية أكبر من طاقة وقوة إسرائيل وأنه لابد وأن هناك دعماً بطائرات أمريكية شاركت فى الهجوم، لكن عبدالناصر رفض هذا التفسير وطلب إثبات ذلك بدليل مادي ملموس مثل طائرة أمريكية أسقطت أو طيار أمريكي أسير. وإن كان تراجع عن هذا بعد ذلك، وأصدر بياناً يتهم فيه أمريكا بالعدوان علينا.

ولم يمكث الرئيس عبد الناصر طويلاً فى مقر القيادة وغادر عائداً إلى مكتبه مهموماً بعد أن استشعر حجم الخسائر وعنف الضربة الجوية الإسرائيلية دون أرقام أو بلاغات، كانت بوادر الهزيمة تلوح أمام عينيه ، لا ندرى ماذا كان يدور فى فكر الرئيس عبد الناصر فى هذه اللحظة لكن من المؤكد أن الاجتماع الذي عقده الرئيس عبد الناصر مع اللجنة التنفيذية العليا هو ما جاء على ذهنه فى هذه اللحظة، وقد وصف الرئيس السادات هذا الاجتماع "جمعنا عبد الناصر على هيئة لجنة تنفيذية عليا فى  أواخر مايو1967، كان فيها عامر وزكريا محيي الدين وحسين الشافعي وأنا وعلى صبري وصدقى سليمان رئيس الوزراء فى ذلك الوقت. وقال لنا أن حشدونا فى سيناء تجعل الحرب محتملة 50% أما إذا قفلنا المضايق فالحرب مؤكدة 1،% ثم التفت إلى عامر وقـال له : هل القوات المسلحة جاهزة يا عبد الحكيم ؟ فوضع عامر يده على رقبته وقال : برقبتي يا ريس، كل شيء على أتم استعداد".

"كنا نعلم أن تسليحنا كامل دون شك، ولذلك عندما سألنا عبد الناصر عن رأينا، وافقنا بالإجماع على إغلاق المضايق ما عدا صدقي سليمان الذي طلب التروي، وأن نأخذ فى الاعتبار حالتنا الاقتصادية والخطط الطموح التي لم تستكمل وأكثرها لم ينفذ، لم يعر عبد الناصر اعتراض صدقي سليمان أي اهتمام، فقد كان ميالا إلى إغلاق المضايق حتى يوقف مزايدات العرب عليه وحتى يحتفظ بمكانته الكبيرة فى الأمة العربية"([1]).

ظهرت القيادة العسكرية المصرية بحجمها الحقيقي فى هذه اللحظات ، فالمشير عبد الحكيم عامر القائد العام للقوات المسلحة لم يكن على علم أو خبرة تؤهله لذلك. فحين قامت الثورة فى يوليو1952 كان برتبة الرائد ومدة خدمة قدرها 12 سنة  فقط ، وقفز إلى رتبة اللواء بعد الثورة وتولى قيادة الجيش فقط لأنه كان الصديق المخلص والقريب إلى جمال عبد الناصر، الذي كان يبغي من ذلك السيطرة على القوات المسلحة وتأمين الثورة خشية حدوث انقلاب عليه من بعض الضباط مثلما فعل هو وزملاؤه.

"ومن الأمور العجيبة التي حدثت يوم 5 يونيو المشئوم أنه بمجرد هبوط طائرة عامر (بعد عودته للقاهرة) وإدراكه ما حدث، أرسل فى طلب السفير السوفيتي لكي يطلب منه وقف إطلاق النار بعد بدء الحرب بساعة واحدة. وكان هذا سر وجود السفير السوفيتي فى القيادة العامة صباح ذلك اليوم"([2]).

كان المشير عبد الحكيم عامر خلال هذا الموقف يحاول أن يثبت ذاته.. كما وأن أحداً لا يمكن يشكك فى وطنيته ، لكن إثبات الذات والوطنية لا تتم بالقرارات والأوامر الحماسية التي لا طائل منها ولا مردود لها ، كان المشير عامر مشلول التفكير ومصاباً بصدمة، حتى أنه قام بالاتصال بقائد قاعدة فايد الجوية قائلاً "أنا عايز بأية طريقة طيارات لنا فى الجو" كلمات تنم عن إنه لم يكن يدرك ما حدث للقوات الجوية المصرية ، ولا يدرك ماذا يمكن أن تفعل بعض الطائرات المصرية أمام هذا الهجوم الإسرائيلي ، وتوالت أمامه البلاغات السيئة طوال اليوم عن خسائر تتلوها خسائر فى كافة وحدات القوات المسلحة ،

وفى مساء الخامس من يونيو وفى لحظة إنسانية لم تكن غريبة على المشير عامر بكى وفاضت عيناه بالدموع ، فما كان من السيد شمس بدران وزير الحربية والملازم له فى مقر القيادة إلا أن عاتبه بلطف قائلاً :

- إيه يا فندم ، بتعيط ليه ، ؟!؟ ، هو فيه إيه ، !؟!؟ كان السيد شمس بدران وزير الحربية حقا يتساءل "هو فيه إيه ؟؟"، وهو محق فى هذا التساؤل لأنه رغم وجوده على قمة القيادة العسكرية مع المشير عامر لم يكن يدري أو يهتم أو يعرف شيئاً عن القوات المسلحة إلا الأمن وضمان الولاء من الضباط له وللمشير عامر ، وقد استخدم لذلك أساليب عديدة أغلبها غير نظيف ،

ولو استعرضنا تاريخ السيد وزير الحربية نجد أنه وقت قيام ثورة يوليو1952 كان برتبة النقيب وبمدة خدمة قدرها 4 سنوات فقط ، لكن مثلما حدث مع المشير عامر حدث مع السيد وزير الحربية. فبعد أقل من عشر سنوات خدمة بجوار المشير عامر أصبح هو المسيطر الفعلي على القوات المسلحة المصرية من خلف ستار المشير، وكان طبيعيا أن يتولى منصب وزير الحربية دون خبرة أو تأهيل له على الإطلاق. لكن مبدأ أهل الثقة كان هو المتغلب على أهل الكفاءة.

كانت تلك قمة قيادة القوات المسلحة المصرية. القائد العام للقوات المسلحة المشير عبدالحكيم عامر، والسيد شمس بدران وزير الحربية ، والعجب وكل العجب أن يقوم الرئيس جمال عبد الناصر بعد ثلاثة أيام فقط من بدء الحرب وفى أحلك لحظات كانت تمر على مصر بالاتفاق مع المشير عبد الحكيم عامر على أن يتولى السيد شمس بدران حكم مصر (رئيسا للجمهورية) ، ومازال السيد شمس بدران يردد فى كل وسائل الإعلام أن الرئيس عبد الناصر قام بخديعة كبرى حين تنحي حيث استبدله بالسيد زكريا محيي الدين ، كان حكم مصر وشعب مصر يتداول بين ثلاثة أو أربعة أشخاص - أياً كان قدرهم - ومازال آلاف الشهداء لم يدفنوا فى الصحراء ، وآلاف الجرحى دماؤهم تنزف فوق رمال سيناء.

نائب الرئيس فى موقع المشاهدة :

هبط السيد حسين الشافعي نائب رئيس الجمهورية والوفد العراقي برئاسة رئيس وزراء العراق بالطائرة فى قاعدة فايد الجوية قبل الهجوم الإسرائيلي عليها بدقائق. وشاهد بنفسه الطائرات الإسرائيلية وهي تهاجم وتدمر القاعدة الجوية بما فيها دون أي اعتراض لها ،

وقد ذكر بنفسه هذا المشهد حيث يقول "استطاعت الطائرة أن تهبط على أرض المطار وقد انفجرت قنبلتان بالقرب منها ، ونزلنا من الطائرة وانتشرنا فى أرض المطار وكل  منا اتخذ ساتراً منبطحاً على الأرض نرى ونرصد كل ما يحدث دقيقة بدقيقة. وكانت طائرات العدو تأتي بفاصل من عشر دقائق إلى 15 دقيقة فى طلعات قوامها من ثلاث إلى أربع طائرات، ولم يكن يشغلها شاغل إلا القضاء على الطائرات وهي جاثمة على أرض المطار والجناح ملاصق للجناح وكأنها أعدت بتدبير وإحكام ليتم تدميرها فى أقل وقت ممكن ودون جهد أو عناء، وكل طلعة تنتهي باحتراق طائرة أو طائرتين، لم يتعرض طيران العدو لأي نوع من المقاومة لا من الطائرات ولا من الدفاع الجوي، وإذا كان الرادار لا يرصد الطيران المنخفض، فلنقل ذلك على الطلعة الأولى، فماذا عن الطلعات التالية التي استمرت حتى الساعة 11:30 صباحاً"([3]).

وبعد انتهاء الغارة الإسرائيلية توجه السيد حسين الشافعي مصطحباً معه الوفد العراقي إلى نادي الضباط بفايد بعيداً عن القصف الإسرائيلي للقاعدة ،

ولما ثبت لقائد القاعدة أن الممرات دمرت وليس هناك أمل فى إقلاع أي طائرات. وخوفاً على حياة الطيارين أصدر أوامره إليهم بالتوجه إلى نادي ضباط فايد، وما إن التقى بهم السيد حسين الشافعي حتى قام وخطب فيهم "نحن لن ننهزم ، يجب أن نتماسك كي نرد هذا العدو ، سننتصر بإذن الله ،،،الخ. كانت كلمات طيبة بلا شك لكن فى غير محلها فالصمت كان أطيب كثيراً خاصة مع طيارين مقاتلين يملأهم الغيظ والحسرة على موقفهم فى الحرب من اللحظة الأولى.

والغريب أن السيد حسين الشافعي الذي شاهد بعينيه ما حدث يطالب بأن  يتصدى الطيارون للهجوم الثاني والثالث رغم أنه رأى بعينيه تدمير الممر الرئيسي والفرعي. أفلم يخطر على تفكيره – وهو الضابط السابق حتى رتبة العقيد - كيف ستقلع الطائرات؟، بل وظل طوال سنوات بعد 1967 يتهم القوات المسلحة بوجود بعض الخونة بين صفوفها ، وحدث سجال بينه  وبين قائد المنطقة الجوية الشرقية اللواء طيار عبد الحميد الدغيدي ، وقد شارك المؤلف بمقال فى هذا السجال نوهت فيه إلى أنه لم يكن هناك خيانة وإنما إهمال بقدر أكبر بكثير من الخيانة.

 

 

مسئول مع إيقاف التنفيذ :

 فى جيوش العالم كافة شرقاً وغرباً تعمل القوات المسلحة بكافة أفرعها البرية والجوية والبحرية فى إطار تنظيمي محدد الملامح يوضح مسئولية كل وحدة وقائدها  أمام القيادة الأعلى له حتى نصل إلى قمة الهرم التنظيمي الذي يشغله منصب رئيس أركان حرب القوات المسلحة والذي يتبع بدوره القائد العام للقوات المسلحة. وهو منصب عسكري سياسي يقع على عاتقه تنفيذ التوجيهات التي تقررها القيادة السياسية للبلاد بواسطة القوات المسلحة الخاصة بها.

وتكون مسئولية رئيس أركان حرب هي إعداد وتجهيز القوات المسلحة بكافة أفرعها ووضع الخطط اللازمة لتنفيذ ما يطلب من مهام تقررها القيادة السياسية. وعلى هذا يكون المحرك الفعلي لنشاط القوات المسلحة هو رئيس أركان حرب بواسطة الأجهزة التابعة له.

كان المشير عبد الحكيم عامر يشغل منصب القائد العام قبل سنوات عديدة من حرب 1967 وتم تعيين الفريق محمد فوزي رئيساً لأركان حرب عام 1964 خلفاً للفريق على عامر الذي تولى قيادة القيادة العربية المشتركة ، لكن هذا التعيين لم يكن على هوى المشير عامر إضافة إلى أن ترتيب الأقدمية جعل رئيس أركان حرب الذي تتبعه أفرع القوات المسلحة أحدث فى الرتبة من قائد القوات الجوية ومن قائد القوات البحرية ومن قائد قوات السواحل وحتى من قائد قطاع غزة ، وفى هذا يقول الفريق فوزي "وكان موقفي الموضوعي خلال ممارستي للمهمات الرمزية القليلة طوال مدة عملي بهذا المنصب غريباً، إذ أنني لا أتذكر أنني قمت خلال هذه الفترة بعمل ما فى القوات المسلحة. وكنت صابراً لثقة وأمل الرئيس عبد الناصر فى شخصي من جهة ورغبة المشير عامر وحرصه على سحب مسئولياتي وسلطاتي من جهة أخرى" ، "والغريب فى الموضوع أنه بقدر ما كان المشير يظهر لي رغبته فى سماع آرائي، ويصر على بقائي معه أكثر من الوقت المألوف للمقابلات عادة، بقدر ما كان يتجاهل - فى التنفيذ - هذه الآراء والأفكار"([4]).

وبهذا الوضع الذي تم فيه إلغاء منصب رئيس أركان حرب ، أصبحت القوات المسلحة تفتقد إلى أهم عامل من عوامل نجاح الحرب ألا وهو تنسيق الجهود للتعاون بين كافة أفرع ووحدات القوات المسلحة.

ولما تم رفع درجة الاستعداد للقوات المسلحة فى 14/5/1967 بناء على المعلومات المزيفة التي روج لها الاتحاد السوفيتي، كلف المشير عامر الفريق فوزي بالسفر إلى دمشق لمعرفة مدى صحة المعلومات عن الحشود الإسرائيلية على حدود سوريا ، وكان هذا التكليف خطوة موفقة وعلى الطريق الصحيح، وسافر فى نفس اليوم الفريق محمـد فوزي إلى دمشق. ومكث هناك 24 ساعة اجتمع فيها مع المسؤولين السوريين فـى رئاسة الأركان وفى قيادة الجبهة السورية واستوضح منهم ما يدور من قبل الجانب الإسرائيلي على الجبهة السورية "وكانت النتيجة أنني لم أحصل على أي دليل مادي يؤكد صحة المعلومات بل العكس كان صحيحاً، إذ أنني شاهدت صوراً فوتوغرافية جوية عن الجبهة الإسرائيلية، التقطت بمعرفة الاستطلاع السوري يوم 13،12/5/1967 فلم ألاحظ أي تغير للموقف العسكري العادي" ، "عدت إلى القاهرة يوم 15/5/1967 وقدمت تقريري إلى المشير عبد الحكيم عامر وهو التقرير الذي  ينفي وجود أية حشود إسرائيلية على الجبهة السورية. فلم ألاحظ أي ردود فعل لديه  عن سلبية الوضع على الحدود السورية الإسرائيلية، ومن هنا بدأت اعتقد أن موضوع الحشود الإسرائيلية على حدود سوريا هو من وجهة نظر المشير، ليس سبباً وحيداً أو رئيسياً فى إجراءات التعبئة والحشد التي اتخذتها مصر بهذه السرعة"([5]).

وعلامات الاستفهام هنا كثيرة ، وعشرات الأسئلة تطرح نفسها ، لأن هذا التقرير وإن كان يجيب على الأسئلة إلا أنه يشير بإصبع اتهام إلى القيادة السياسية والعسكرية معا عما حدث بعد ذلك حتى وقعت الهزيمة.

فالمبادرة كانت من مصر، وتصاعد الأحداث كان بخطوات وقرارات من مصر، كنا كمن يدفع إسرائيل إلى دخول الحرب ، فهل من المقبول بعد الحشد والتعبئة للقـوات المسلحة بيوم واحد وثبوت زيف المعلومات السوفيتية أن تواصل أعمال التصعيد ؟؟. زيف المعلومات ثبت بواسطة رئيس أركان حرب القوات المسلحة بعد أن شاهد صوراً جوية تم التقاطها قبل 24و48 ساعة من الحشد.!!

كيف لم يهتم المشير عامر بهذا التقرير ولم يأخذ به على الإطلاق ؟ وشواهد الأحداث والقرارات تؤكد ذلك ، هل أبلغ المشير عامر الرئيس جمال عبد الناصر  بهذا التقرير الذي قدمه الفريق فوزي ؟؟ أم لم يعلم الرئيس عبد الناصر بنتيجة زيارة الفريق فوزي إلى دمشق. هل كان من الصعب أن يستدعي الرئيس عبد الناصر الفريق فوزي ويستمع منه ؟ خاصة وأنه لابد كان على علم بسفر الفريق فوزي إلى دمشق، أم كان هناك هدف آخر من الحشد المصري فى فكر عبد الناصر وعبد الحكيم عامر، كما لاحظ الفريق فوزي نفسه ؟. المرة الوحيدة فى فترة الحشد والتعبئة التي مارس  فيها رئيس أركان حرب القوات المسلحة إحدى مهامه لم يؤخذ بها ، وكلفنا ذلك الكثير والكثير.

ظل الفريق محمد فوزي يمارس مهامه كرئيس أركان حرب القوات المسلحة بصورة مظهرية لا تتعدى سوى تكرار أوامر المشير عامر أو تعليماته وتفسيرها وتوزيعها على وحدات القوات المسلحة. إلا أن الأقدار رتبت له أن يعمل فى موقفين حاسمين. كان من الممكن لو أخذ برأيه فى تلك المواقف أن نتجنب الكثير والكثير من الخسائر، كان أحد هذيـن الموقفيـن هـو رحلته إلى دمشق والتي أشرنا إليها، وكان الموقف الآخر يوم 6/6/1967.

فبعد أن توالت البلاغات طوال يوم 5/6/1967 عن اختراق المدرعات الإسرائيلية للقوات المصرية فى الخط الأول، وبعد خروج القوات الجوية المصرية من المعركة من الساعات الأولى. لاح فى فكر المشير عامر تكرار ما حدث فى عام 1956 حين انسحبت القوات المصرية إلى غرب قناة السويس دون خسائر جسيمة ، وظل هذا الخاطر يلح على فكر المشير عامر - ولا ندرى إن كان تشاور مع الرئيس عبدالناصر فيه أم لا - وظهرت بوادر هذا الخاطر فى صباح يوم 6/6/1967 حين تم إرسال إشارة الساعة السادسة صباحاً إلى قائد منطقة شرم الشيخ بإعداد خطة  للانسحاب بقواته إلى غرب القناة.

وبعد ظهر يوم 6/6 تذكر المشير عامر أن هناك رئيس أركان حرب للقوات المسلحة فقام باستدعاء الفريق فوزي "عاوزك تحط لي خطة سريعة لانسحاب القوات من سيناء إلى غرب قناة السويس، ثم أضاف ، أمامك 20 دقيقة فقط ، - ويقول الفريق فوزي - فوجئت  بهذا الطلب، إذ أنه أول أمر يصدر لي شخصيـاً مـن المشيـر !!! - علامات التعجب من المؤلف - الذي كانت حالته النفسية والعصبية منهارة بالإضافة إلى أن الموقف لم يكن يسمح بالمناقشة أو الجدل، أو معرفة دوافع التفكير فى مثل هذا الأمر. فقد كانت القوات البرية فى سيناء عدا قوات الفرقة 7 مشاة متماسكة حتى هذا الوقت، ولم يكن هناك ما يستدعي إطلاقاً التفكير فى انسحابها"([6]).

وعلى الفور قام الفريق فوزي باستدعاء اثنين من مساعديه لدراسة الأمر  ووضع الخطة المناسبة لهذا الانسحاب ، ونظراً لضيق الوقت المحدد بـ20 دقيقة كانت الخطة عبارة عن خطوط عامة دون الدخول فى تفاصيل يتم وضعها لاحقاً، "توجهنا نحن الثلاثة إلى المشير، وكان منتظراًً واقفا خلف مكتبه. واضعاً إحدى ساقيه على كرسي المكتب، ومرتكزاً بذقنه على ساقه الموضوعة فوق الكرسي ، بادرت المشير بقولي ، على قدر الإمكان وقدر الوقت، وضعنا خطوطاً عامة لتحقيق فكرة سيادتك، ونرجو الأذن بأن يقرأها اللواء تهامي، وبدأ اللواء تهامي فى القراءة بقوله ، ترتد القوات إلى الخط كذا ، يوم كذا ، ثم إلى الخط كذا ، وأن يتم ارتداد القوات بالتبادل على هذه الخطوط لحين وصولها إلى الخط الأخير غرب قناة السويس بعد أربعة أيام من يوم بدء الانسحاب ، أي أن يتم الانسحاب فى أربعة أيام وثلاث ليال، عندما سمع المشير الجملة الأخيرة الخاصة بتحديد مدة الانسحاب، رفع صوته قليلا موجها الحديث لي ، أربعة أيام وثلاث ليال يا فوزي ، أنا أعطيت أمر الانسحاب خلاص"([7]).

فالرأي الذي أبداه الفريق أول محمد فوزي عن حشود إسرائيل أمام سوريا، والرأي الذي أبداه للمشير عامر فى انسحاب القوات لو أخذ به لكان أنقذ مصر من الهزيمة.

وكما ذكرنا سابقاً بأن المشير عامر لم يكن مؤهلاً أو ذا خبرة لقيادة قوات  مصر المسلحة، فهو لم يكن يدرى أن الانسحاب بمثابة معركة تدار بتكتيكات وخطط وإلا تحولت  إلى فرار وهرولة أمام العدو ، ولا ندرى إن كان قد درس أو قرأ عن انسحاب روميل بعد موقعة العلمين الذي اعتبر عملاً عسكرياً ناجحاً أضيف إلى أعمال  الماريشال روميل السابقة ،

وبذكر موقعة العلمين فهناك قصة لابد من ذكرها لأن لها دلالة تؤكد ما نقوله، فقد وافق فى أبريل 1967 ذكرى مرور 25 عام على معركة العلمين التي دارت أثناء الحرب العالمية الثانية عام 1942 وانتهت بانتصار الفيلد مارشال مونتجومرى القائد الإنجليزي على القوات الألمانية بقيادة الماريشال روميل ، وتم دعوة مونتجومرى للاحتفال باليوبيل الفضي لهذا النصر على أرض المعركة، وتم ترتيب محاضرة لمونتجومرى فى أكاديمية ناصر العسكرية العليا حضرها العديد من قيادات القوات المسلحة المصرية من رتبة الفريق واللواء ، وبعد المحاضرة سأل أحد الحاضرين مونتجومرى عن موقف القوات المسلحة المصرية إذا قامت حرب مع إسرائيل ، فكان رد الفيلد مارشال مونتجومرى صاحب الانتصارات الباهرة فى الحرب العالمية الثانية بأن القوات المصرية إذا قررت عبور قناة السويس فلا يجب أن تتوقف إلا عند القتال على الحدود الإسرائيلية ، لأن القوات التي ستتوقف لأي سبب فى سيناء ستقع فيها خسائر فادحة ، وقد فعلت القيادة السياسية المصرية والعسكرية عكس هذا تماماً،  فكان ما كان.ويثبت هذا الرأى من  مونتجومرى ماقاله وعمل به محمد على بأن الدفاع عن مصر يجب أن يكون فى منطقة الشام ( فلسطين , سوريا , الأردن )

 

فضيحــة التآمــر :

فى 29 مايو 1967 وصلت السفينة ليبرتى إلى روتا فى إسبانيا قادمة من  غرب نيجيريا حيث كانت تتابع الحرب فى نيجيريا بين الحكومة وإقليم بياقرا المنشق، وقامت بالتموين فى روتا وقامت بتخزين مواد تكفي رحلة طويلة (4 أسابيع)، ولكن ما يلفت النظر أنه أثناء التموين بالوقود والأغذية تم استبدال عمال اللاسلكي والشفرة  الذين يتكلمون لغة الهاوسا والأميو بآخرين يتكلمون العربية والعبرية.

وصدرت الأوامر للسفينة يوم 2/6/1967 بأن تسرع بالإبحار بقدر الإمكان حتى تصل إلى منطقة فى البحر ثم تحديدها شمال العريش ، وتبعها بيوم إبحار الغواصة الذرية آندرو جاكسون إلى نفس الموقع مع التنبيه عليها بعدم الاتصال باللاسلكي إلا فى الحالة القصوى ، ووصلت السفينة ليبرتى إلى موقعها فى منتصف نهار 5/6/1967 بعد أن بدأت الحرب بساعات قليلة. وكانت الأجهزة الموجودة على السفينة تراقب وتسمع كل ما يدور من تحركات واتصالات على كلا الجانبين المصري والإسرائيلي ، وعلى ذلك كانت على علم تام بتحركات ومواقع الجنود والمدرعات والطائرات لحظة بلحظة، وكانت هذه المعلومات ترسل على الفور إلى وكالة الأمن القومي فى أمريكا،

كان واضحاً للعاملين على السفينة ولمن يتلقون التقارير فى أمريكا أن الحرب فى صالح الجانب الإسرائيلي منذ اللحظة الأولى. كما وضح لهم أيضاً أن إسرائيل قد اخترقت شبكة الاتصالات المصرية تماماً وتقوم بالتشويش عليها وقت اللزوم كما تقوم باحتجاز الرسائل على الشبكة المصرية وتعديلها وإعادة بثها دون أن يلاحظ أحد التأخير، وكانت أشهر هذه الرسائل هي رسالة من القاهرة تخبر الملك حسين بأن الموقف فى سيناء سيئ وأن إسرائيل متفوقة فى الجو بعد تدمير الطائرات المصرية ، هذه الرسالة تم احتجازها وتعدلت بحيث تفيد بأن الطيران الإسرائيلي فقد الكثير من طائراته فوق مصر وأن الطائرات المصرية على الرادار الأردني واضحة وهي تتجه شرقاً لتدمير إسرائيل ، والحقيقة أن الرادارات الأردنية كانت تلتقط طائرات متجهة شرقاً حقاً، لكنها كانت طائرات إسرائيلية عائدة من قصف المطارات المصرية.

وهكذا استمرت السفينة ليبرتى فى التنصت والمراقبة على كل ما يدور فى أرض المعركة ثم إرسال هذا الكم من المعلومات إلى القيادات فى أمريكا ، وبهذا أصبحت الولايات المتحدة على علم كامل بكل ما يدور فى الحرب حتى يوم 8/6/1967 ، وفي الحادية عشر صباحاً تم استطلاع السفينة بواسطة طائرتين من على ارتفاع 100 متر لكن اتجاههما إلى الشرق أشار إلى أنها طائرات إسرائيلية، وتكرر نفس المشهد بعد نصف ساعة ، وسيطر القلق على قائد السفينة من أن تكون هذه الطائرات مصرية وتكتشف ليبرتى والغواصة الذرية المختبئة تحت الماء. أو أن تكون طائرات سوفيتية مما قد يصعد الأمر بين السفن السوفيتية الموجودة قريباً وبين الأسطول السادس الأمريكي الموجود فى البحر الأبيض. وكإجراء روتيني قام قائد السفينة ليبرتى برفع درجة التأهب للطاقم فى الواحدة والنصف ظهراً ،

وبعد دقائق من إعلان حالة التأهب فوجئ طاقم السفينة بثلاث طائرات ميراج إسرائيلية تهاجمها بالصواريخ ثم بالمدافع ، قامت الطائرات بثلاث هجمات أصابت السفينة إصابات مؤثرة. ثم تبعها بعد عدة دقائق هجوم بطائرة منفردة ، وأمر قائد السفينة بإرسال إشارة الاستغاثة الدولية المعروفة "ماى داى" لكن معظم الأجهزة كانت قد توقفت عن العمل لأن الصواري قد تحطمت. أصيبت السفينة ليبرتى بـ821 طلقة فى أماكن متعددة عدا الصواريخ ، وبعد دقائق من هجوم الطائرات المتكرر ظهر ثلاثة زوارق طوربيد إسرائيلية وهاجمت السفينة بثلاث طوربيدات لكن لم تصب إلا بواحد  فقط نتيجة مناورة قائد السفينة ،

ونجح مهندس السفينة فى تشغيل المحركات وقرر قائد السفينة الهروب من الموقع ليصل إلى موقع تواجد الأسطول على الأقل ، وكان عدد القتلى النهائي 34 قتيلا إضافة إلى 171 جريحاً.

وعلى الفور اجتمعت رئاسة الأركان الأمريكية فى واشنطن وكان القرار هو إصدار الأمر بالقيام بضربة جوية للقاعدة البحرية الإسرائيلية الموجودة فى حيفا ، لكن الرئيس الأمريكي ألغي هذا القرار على الفور.

وتشكلت لجنة تحقيق فى 11/6/1967 كان أهم ما جاء فيها "الجانب الذي يعتبر غير عادي إلى حد بعيد فيما يتعلق بعملية الهجوم ليس هو الضربة للسفينة فى حد ذاتها، ولكن عملية فقد ثلاث رسائل من وكالة الأمن القومي فى واشنطن إلى السفينة ليبرتى تحذرها فيها من أن الإسرائيليين قد اقتحموا نظام الشفرة وأنهم يتلصصون على عمليات الإرسال الأمريكية ، ونصحت ليبرتى بإلغاء المحطات فوراً، والتراجع فى اتجاه الشمال الغربي للانضمام إلى الأسطول السادس([8]) ولن نتوقف أمام قصة السفينة ليبرتى إلا فى موقفين فقط وهما :

الأول موعد صدور الأمر للسفينة بالتحرك يوم 2 يونيو وتغيير الطاقم بالمتحدثين بالعربية والعبرية ، ثلاثة أيام قبل بداية الحرب ، دارت فى هذه الأيام الثلاثة اتصالات عديدة بين الولايات المتحدة وموسكو وبين الولايات المتحدة ومصر، وبين مصر والاتحاد السوفيتي، كانت بمثابة قنابل الدخان لتعمية الجانب المصري عن رؤية ما يخطط له ، ولمن لا يعترفون بأن هناك مؤامرة علينا نقول بماذا نسمى هذا ؟ أليس هذا لب وعين التآمر.

الموقف الثاني ضياع ثلاث رسائل تحذير من وكالة الأمن القومي إلى السفينة وهو شيء لا يقبله منطق أو عقل ، فبدون تحقيق وبدون وثائق، هل يشك  أحد فى كفاءة الاتصالات الأمريكية ومدى سرعتها ودقتها فى نقل المعلومة إلى أي مكان فى العالم؟؟. فكيف تضل الرسائل الثلاث رغم أهميتها طريقها بهذه البساطة ؟؟

وما يشير بإصبع الاتهام إلى مسئولين أمريكيين بالتواطؤ فى حادث السفينة ليبرتى هو ما انتهى إليه الموضوع بأكمله. فقد تم إغلاق الموضوع والحديث عنه فى الصحف بصورة مريبة وتم تكريم الأحياء من السفينة فى حفل يكاد يكون سرياً.

رغم أن شواهد عديدة وأحاديث تناثرت بعد الحرب تبين أن إسرائيل كانت على علم بأن السفينة أمريكية بعكس ما ادعت فى اعتذارها، وكانت تعلم موقعها من لحظة وصولها وأيضاً مهمتها ، لكن لأن إسرائيل أرادت الخروج عن نص ما تم الاتفاق عليه بينها وبين الولايات المتحدة فقد رأت أن تحرم أمريكا من مصدر معلوماتها حتى تتمكن من تنفيذ خططها الخاصة دون أي تدخل أو ضغط أمريكي. بل ومن شبه المؤكد أن الذي أعطى الأمر بمهاجمة السفينة هو موشى دايان وزير الدفاع شخصياً.

نظرة على قادة إسرائيل :

سيظل فى التاريخ الإسرائيلي أن دافيد بن جوريون هو صاحب الفضل الأكبر فى إعلان دولة إسرائيل عام 1948 بفضل دوره السياسي والعسكري فى مجريات الأحداث حينئذ. وتعاظم هذا الدور بعد ذلك حتى وصل ذروته فى عام 1956 حين  نجح فى الاشتراك فى العدوان الثلاثي الذي جعل من إسرائيل أمراً واقعاً فى المنطقة وليس دولة مزعومة كما كانت تردد مصر والدول العربية.

وكان لـ "بن جوريون" تلاميذ وأبناء تربوا على فكره ومعتقداته، وتقدم بهم العمر فأصبحوا فى الستينيات من قادة إسرائيل فى مجالات متعددة، كان هؤلاء التلاميذ يرجعون إلى بن جوريون كثيرا ويأخذون بنصيحته فى غالب القرارات الحاسمة. ومن أهم تلاميذ بن جوريون فى هذه الفترة موشى دايان وإسحاق رابين.

كان موشى دايان رئيساً للأركان فى عدوان 1956 ثم توارى وترك الجيش فى أوائل الستينيات حين تولى ليفى أشكول منصب وزير الدفاع إلى جانب رئاسته للوزراء ، لكن حين دخلت الأزمة فى مايو 1967 منعطفاً حاداً، وبضغط من بن جوريون الذي يحترمه ويخشاه الجميع فى إسرائيل تم تعيين موشى دايان وزيراً للدفاع فى أول يونيو قبل الحرب بأيام ، بل كان تعيينه فى هذا المنصب علامة على اتجاه إسرائيل نحو الحرب.

وبمجرد بداية الأزمة فى 14/5/1967 دعا إسحاق رابين رئيس الأركان الإسرائيلي ستة رؤساء سابقين للجيش الإسرائيلي إلى الاجتماع بعد يومين من بداية الأزمة، دارت مناقشات بينهم جميعاً أثناء جولة تفقدية، وفى الحوار الذي كان رابين يقوم فيه بشرح الموقف الحالي للقوات المصرية قال "وليس هناك شك فى أن الأمر يتعلق باستعراض للقوة، ولكن ما الذي يفعلونه بعد ذلك ؟، وقاطعه موشى دايان :  أني أستطيع أن أقول ماذا سيفعلون ، أنهم سيطلبون سحب قوات الأمم المتحدة. وهذه القوات ستجد نفسها مرغمة على الإذعان لأنها ترابط فى أرض مصرية، وإذن فإذا كان عبد الناصر يرغب فى القيام بخطوة أخرى إلى الإمام فإنه يستطيع إغلاق مضايق تيران"([9]) ، كانت خطوات مصر السياسية وخطوات جمال عبد الناصر كتاباً مفتوحاً أمامهم.

وما إن تولى موشى دايان منصب وزير الدفاع حتى اجتمع بقادة الجيش طالبا الإطلاع على خطط العمليات المقبلة مع القوات المصرية ، ولما كانت إسرائيل قد قامت بدراسة سيناء بالكامل أثناء فترة احتلالها عام 1956، فقد كان الجيش الإسرائيلي على دراية كاملة بكل المحاور التي يمكن التقدم عليها سواء المتوقعة والمعروفة لدى المصريين أو غير المعروفة. وقد مكن هذا القوات الإسرائيلية من المناورة العالية فى التقدم مما أربك المصريين بصورة كبيرة.

كانت الخطة تقضي باختراق الجبهة المصرية فى قطاعين، أولهما على المحور  الساحلي رفح - العريش بمجموعة عمليات يقودها البريجادير إسرائيل تال، والثانية بمجموعة عمليات على الطريق الأوسط بقيادة البريجادير أرئيل شارون، ودفع مجموعة عمليات ثالثة بقيادة البريجادير يوفى أثناء إدارة المعركة فى الاتجاه غير المتوقع من القوات المصرية وبناء على نجاح مجموعتي العمليات الأخرى. وكانت تعليمات دايان حاسمة وواضحة بأن تكون الضربة ضد القوات المصرية عنيفة لأقصى درجة لتدمير الحجم الأكبر من القوات والأسلحة المصرية، وإلحاق هزيمة منكرة يظل أثرها طويلاً فى نفوس الضباط والجنود المصريون.

وكان إسحاق رابين حتى قبل توجيهات موشى دايان أو توليه منصب وزير الدفاع قد  أعد كافة الخطط اللازمة ووفر كل التجهيزات المطلوبة لها، كما تم التدريب عليها، ولهذا لم يضف موشى دايان أي شيء على ما قام به رابين مسبقاً، حتى خطة الخداع التي ابتلعها الكثيرون ممن كانوا يراقبون الأحداث ، ففي 3 يونيو 1967 أي قبل الحرب بيومين فقط تعمدت القيادة العسكرية الإسرائيلية إظهار الجنود الإسرائيليين وكأنهم ذاهبون إلى منازلهم فى أجازة ، ونشرت فى الصحف ووسائل الإعلام العديد من الصور لشباب المجندين والمجندات على الشواطئ الإسرائيلية ، وكان من المعروف لدى هؤلاء الشباب أنه سيتم استدعاؤهم بكلمة سر تذاع فى الراديو.

"وعندما رأى أرثر جولدبرج المندوب الأمريكي فى الأمم المتحدة صور الجنود الإسرائيليين فى أجازة والتي نشرت فى اليوم التالي أكفهر وجهه وقال : إن هذه الحكايات المتعلقة بالجنود الإسرائيليين الذين حصلوا على أجازات لا تثير سروري، وحيث أنني أعرف هؤلاء الإسرائيليين ، فإن هذه الحكايات ربما تعنى أنهم سيعلنون الحرب غدا ،

فـى القاهـرة ، قام سفير الاتحاد السوفيتي بزيارة عبد الناصر فى هذا المساء (السبت 3 يونيو) وقال له طبقاً لما تلقاه من حكومته من معلومات : إن الأزمة فى طريقها إلى الهدوء، وأن إسرائيل لن تقوم بالهجوم"([10]).

وبعد بداية الهجوم الإسرائيلي بحوالي 30 دقيقة وفى التاسعة وعشر دقائق صباحاً  "قطع راديو صوت إسرائيل إذاعته ليعلن : فيما يلي بلاغ لمتحدث عسكري، تدور  منذ الصباح معارك عنيفة فى الجبهة الجنوبية بين القوات الجوية والمدرعة المصرية التي تحركت نحو إسرائيل، وقواتنا التي اشتبكت معها لردها على أعقابها"([11]).

وانتهت الحرب بالنصر الإسرائيلي المدوي إعلاميا ، فقد تسابقت وسائل إعلام أمريكا وأوروبا وإسرائيل من صحافة وتليفزيون فى إظهار مدى قوة وعظمة الجيش الإسرائيلي، بإضفاء هالة من الدعاية عن الجندي الإسرائيلي والقائد الإسرائيلي  والخطط الإسرائيلية ، ورغم اعترافنا بالنصر الإسرائيلي إلا أن أخطاء الجانب المصري وتقصيره وإهماله هو الذي أظهر النصر الإسرائيلي بهذا الحجم الضخم.

ولم يدع موشى دايان الفرصة تفلت منه فبدأت صورته تنشر فى كافة وسائل الإعلام بصورة تكاد تكون يومية ، وكان أشهر هذه الصور وهو يدخل مدينة القدس محققاً للإسرائيليين الحلم التوراتي الملازم لهم من سنوات بعيدة ، وبلغ به الإحساس بالنصر أنه قال قولته الشهيرة بأنه ينتظر على التليفون ليسمع من العرب قبولهم بإسرائيل وما تقوله إسرائيل,للتوقيع على معاهدة الصلح .

ورغم تسليمنا لموشى دايان بأنه انتصر فعلاً على العرب كدول وقيادات فى هذه الحرب إلا أن الجندي المصري والضابط المصري لم يعترف بهذا الانتصار وكان لهما رأى آخر، بدأ ذلك جليا فى رسالة إلى دايان بعد أيام فقط من انتهاء الحرب فى موقعة رأس العش ثم ما تبعه بعد ذلك على مدى سنوات حتى أكتوبر الذي سنعرف فيه ماذا قال دايان وقتها عن الحرب. وسنرى نهاية هذا القائد الذي أعماه النصر غير المتوقع عن رؤية الأحداث بحجمها الحقيقي.

مقاتلـون فـى صمـت :

انهزمت مصر فى 5 يونيو1967 هزيمة منكرة، لكن الهزيمة كانت للدولة وقيادة الدولة. ولقد أشرنا سابقا إلى ما قامت به القيادة السياسية والقيادة العسكرية  لمصر من خطوات وقرارات سنقوم بدراستها وتحليلها فى الفصل القادم، وهي التي أدت إلى تلك الهزيمة. أما الجندي والضابط المصري فقد دفعته قيادته السياسية والعسكرية دفعا إلى حرب لم يستعد لها، وإلى قتال لم يكن جاهزا له ،وكأن قيادته قد تحالفت مع القيادة الإسرائيلية على هزيمته وإظهاره أمام العالم بهذه الصورة المهينة ،

وفى ظلام الهزيمة كان من الطبيعي أن تتواري بطولات وتضحيات عديدة قام بها أفراد عظماء، كانوا مستعدين للتضحية حتى آخر قطرة دم، وبذل آخر نقطة عرق، وسنعرض لبعض من هؤلاء الأفراد حتى نعرف حقيقة الإنسان المصري ومدى إيمانه وحبه لهذا الوطن ،

أولهما الملازم طيار/ عبد الحميد مصطفي ، ضابط صغير فى الحادية والعشرين من عمره ضمن تشكيل المقاتلات الميج21 فى مطار الغردقة ، بعد  الهجوم الجوي الإسرائيلي كان فى تشكيل مظلة جوية فوق المطار وصدرت الأوامر  من قيادة القوات الجوية لقائد التشكيل بالهبوط بالطائرتين فى مطار المنصورة فى الساعة 10:، صباحاً وتم تنفيذ الأمر وهبطت الطائرتان، لكن بعد 40 دقيقة من الهبوط فى مطار المنصورة قامت الطائرات الإسرائيلية بمهاجمة المطار وتم تدمير الممر الرئيسي والفرعي والطائرتين ، ولم يكن هناك مكان يحتمي فيه الطياران من طلقات الطائرات الإسرائيلية إلا ترعة بجوار المطار، خرجا منها بعد انتهاء الهجوم الإسرائيلي وملابسهم مبللة بالمياه تماماً ، ولم يعد هناك سبب للبقاء فى مطار المنصورة، وبواسطة أحد الأطباء المدنيين قام بتوصيلهم بعربته الخاصة إلى مطار القاهرة الدولي فى الرابعة مساء ، واستبدل كل منهم أفرول الطيران المبتل بالمياه بأفرول آخر من أحد الجنود. وفى مساء الخامس من يونيو صدرت الأوامر بأن يستعد عدد من الطيارين للذهاب إلى الجزائر فجر اليوم التالي.

ووصل عدد من الطيارين إلى الجزائر صباح يوم 6/6/1967 وكان عبد الحميد مصطفي ضمن هؤلاء الطيارين ، وكان فى استقبالهم فى المطار الرئيس الجزائري هوارى بومدين الذي انفرد بأقدم رتبه من الطيارين سائلا ومتلهفا على معرفة ماذا  حدث فى مصر؟ وكيف حدث ؟ ، وتم شرح الموقف له وأن الهجوم الإسرائيلي قد دمر معظم طائرات القوات الجوية المصرية ، وعلى الفور أمر الرئيس هوارى بومدين القادة الجزائريين بدعم مصر بأي عدد يطلبونه من الطائرات المقاتلة والقاذفة، وهو موقف لابد وأن يذكر للرئيس بومدين ، وتوالى سفر الطيارين المصريين إلى الجزائر أيام 7،8 يونيو لإحضار طائرات جزائرية. لكن تم إيقاف إرسال الطائرات فى التاسع من يونيو، بل وصدرت الأوامر بعودة الطائرات مرة أخرى إلى الجزائر بعد أن كانت قد وصلت إلى ليبيا. ويبدو أن هذا الأمر قد صدر حين علم الرئيس بومدين أن مصر قد قبلت وقف إطلاق النار،

ووصلت الطائرات الجزائرية إلى مطار القاهرة الدولي فى صباح يوم 8/9/1967 فى الحادية عشر صباحاً تقريباً بعد رحلة شاقة استغرقت يومين هبطت فيهما الطائرات فى تونس وليبيا ،

وفى الثامن من يونيو وبعد وصول طائرات المجموعة الأولى من الجزائر وفى الساعة الرابعة عصرا كلفت قيادة القوات الجوية تشكيلا من أربع طائرات ميج21 بحماية قواتنا البرية المنسحبة شرق القناة وانطلق التشكيل لتنفيذ المهمة ولكن اشتبك مع طائرات إسرائيلية واستشهد فى الاشتباك الملازم طيار/ عبد الحميد مصطفي.

وثانيهما كل من الملازم أول طيار/ صلاح دانش وسعد زغلول قاسم. فى يوم السادس من يونيو وفى العاشرة صباحاً كان أولهما فى اشتباك جوي مع طائرات إسرائيلية وحاول الهجوم على إحداها لكن طيار إسرائيلي آخر قذفه من الخلف بصاروخ وقفز بالمظلة فى وسط سيناء وتكرر نفس الأمر مع الثاني فى الرابعة عصراً وتمكنت الطائرات الإسرائيلية من إسقاطه ونجح فى القفز بالمظلة أيضاً، وهبط بجوار منجم فحم المغارة فى وسط سيناء والذي كانت تديره شركة مدنية ، وهناك التقى بزميله صلاح دانش. كان بموقع الشركة مئات من العمال وبعض المهندسين المدنيين حديثي الخدمة فى سيناء. وكان الاتصال بينهم وبين إدارة الشركة فى القاهرة مقطوعاً، فظلوا فى مواقعهم بالمنجم غير قادرين على اتخاذ قرار رغم بدء القتال حولهم قبل 36 ساعة ، وفى المساء توجه الطياران إلى معسكر الإعاشة الخاص بالشركة لتناول العشاء، وفى مخيلة كل منهما أن إسقاطهما حدث عارض وأن القوات البرية تقاتل معركتها مع العدو الإسرائيلي. لكن وفى العاشرة مساء السادس من يونيو حملت إليهم عربة كانت تمر بجانبهم وبها ملازم أول مدرعات/ أحمد وحش وبعض الجنود أنباء انسحاب القوات المصرية إلى غرب القناة ، واجتمع الضباط الثلاثة مع مدير الموقع واتفقوا على الانسحاب سيراً على الأقدام حيث مدير الموقع ليس لديه أوامر باستخدام العربات. وتخفوا فى ملابس مدنية، وبدأت رحلة الانسحاب بحوالي 70 عامل ومهندس وفى الأمام سعد زغلول ومعه دليل من أهالي سيناء على جمل ويحمل معه بعض من المياه وفى الخلف كان صلاح دانش وأحمد بالعربة لالتقاط من يقع فى الطريق.

واستغرقت هذه الرحلة سبعة أيام حتى وصلوا إلى شاطئ القناة، وقع خلال هذه الأيام السبعة أحداث ومواقف يعجز القلم عن وصفها. ما بين التعرض لهجمات جوية إسرائيلية ، إلى جرحى تم تركهم فى الصحراء بعد أن نفد وقود العربة ، إلى وفاة بسبب العطش والجوع ، إلى انهيار وهستيريا لكثيرين، وانفرط عقد المجموعة كلها وأصبحوا جماعات متفرقة. وفى اليوم السادس كان صلاح دانش محتمياً تحت دبابة من الشمس الحارقة وإذا بصاروخ يصيب الدبابة وينجو صلاح دانش من موت محقق لكنه يقع فى الأسر ويقضى ثمانية أشهر فى السجون الإسرائيلية منها ستة أشهر فى زنزانة انفرادية فى محاولة لتحطيمه. ورغم قسوة التجربة لكنه عاد وقاتلهم فى 1973. ويلتقي فى الشهر الثامن مع أحمد وحش ضابط المدرعات الأسير. أما سعد زغلول فقد وصل إلى شاطئ القناة ومعه 50 عامل فقط. وعند شاطئ القناة تم تقسيمهم إلى مجموعتين بواسطة ضابط إسرائيلي برتبة صغيرة، فتح نيران مدفعه على مجموعة منهم فقتلوا جميعاً، وأمر المجموعة الأخرى وكان فيها سعد زغلول بعبور القناة سباحة إلى الشاطئ الغربي.

غرائــب وغرائــب :

*** خلال الأربع والعشرين ساعة قبل بداية الحرب وقعت أحداث غاية فى الغرابة إلى حد عدم التصديق ، سنعرض لها كشاهد على التخبط والإهمال فى القيادة والذي انعكس بدوره على كثير من القيادات الصغرى والضباط ، ففي صباح 4 يونيو وصل قائد الستارة المضادة للدبابات والتي ستعمل على إيقاف المدرعات الإسرائيلية حين تخترق الخط الأمامي لقواتنا فى سيناء. وصل قائد هذه الستارة إلى موقعه قبل بداية الحرب بساعات ، والأغرب أنه كان يشغل منصب الملحق العسكري المصري فى باكستان. وحين وصل إلى موقع قيادته وجد أن القوة المخصصة لعمل هذه الستارة ينقصها الكثير من المعدات وأن الأفراد تحت قيادته من الجنود الاحتياط غير المدربين وينقصهم معدات كثيرة وأسلحة لأزمة لعمل هذه الستارة.

*** فى مساء الرابع من يونيو قامت الشئون المعنوية للقوات الجوية بعمل حفل ترفيهي لأفراد القوات الجوية والدفاع الجوي فى قاعدة أنشاص الجوية ، ولم يكن الحفل الترفيهي غريبا فى حد ذاته بل الغريب هو توقيت إقامته. مساء الرابع من يونيو ورئيس الشئون المعنوية يتبع قائد القوات الجوية ولابد وأنه استأذنه لإقامة هذا الحفل.  وإن كان عدم إقامة الحفل لم يكن ليؤثر فى نتيجة الهجوم الإسرائيلي، لكن هذا الحدث يبين أن كل قائد كان له تصور عن قيام الحرب يختلف عن الآخر.

*** وتصاعدت غرابة الأحداث ففي ليلة 4/5 يونيو كان الجيش الإسرائيلي يحشد قواته التي ستقوم بالهجوم فى صباح 5 يونيو أمام الحد الأمامي لقواتنا. وشاهدت دورياتنا الأمامية الحشد الإسرائيلي من كثافة الأنوار وصوت الجنازيـر، وفى الساعة 4:، صبـاح  5 يونيو وصلت هذه المعلومات إلى مكتب مخابرات العريش الذي تأكد من صحة المعلومات لكن تحليله لهذه المعلومات كان غاية فى الغرابة فقام قائد المكتب بإرسال إشارة فى السابعة صباحاً تفيد كثافة تحركات وحشد للقوات الإسرائيلية وعلى المحور الشمالي والمحور الأوسط لكنه فسرها بأن هذا التحرك والحشد بسبب غيار القوات الإسرائيلية على الحد الأمامي لها. ولم تكن هذه القوات إلا مقدمة الجيش الإسرائيلي الذي سينفذ الهجوم بعد ساعة ونصف من إرسال الإشارة.

والأغرب وغير المعقول أن الإشارة تم إرسالها إلى مكتب وزير الحربية ، وقد قام الضابط المناوب فى مكتب الوزير بإرسال الإشارة على الفور إلى مقر القيادة العامة بمدينـة نصـر، وتم عرضها على المشير عبد الحكيم عامر لكنها لم تلفت انتباهه، ولا ندرى كيف لإشارة بهذه الدرجة من الأهمية ألا تلفت نظر المشير عامر؟؟، وكيف لم تصل إلى قائد الجيش الميداني أو قائد الجبهة وهما المعنيان بالأمر ؟؟، كانت تعليمات تنظيم الاتصال أن تصل الإشارة إلى مكتب وزير الحربية السيد شمس بدران حتى لا تسقط منه أي معلومة عن الجيش. وقد وصلت الإشارة إلى هيئة عمليات القوات المسلحة وهي الجهة المعنية بعد ساعة من بدء القوات الإسرائيلية هجومها البري.

*** كان فى قرية عجلون بالأردن محطة رادار للإنذار، وكانت القرية على ارتفاع 1000 متر تقريباً عن سطح البحر مما يجعل الأجواء الإسرائيلية مكشوفة تماماً للرادار الأردني حتى ولو كان ارتفاع الطائرات 10 أمتار، وقام الفريق عبد المنعم رياض والعميد طيار مصطفي الحناوى باستغلال موقع الرادار الأردني فى كشف أي تحركات جوية إسرائيلية. وتم ربط جهاز الرادار الأردني بمركز عمليات القوات الجوية المصرية فى الجيوشى وبمركز استقبال فرعي أيضاً فى مكتب وزير الحربية.

وفى الثامنة صباح 5 يونيو اكتشف الرادار الأردني موجات الطائرات الإسرائيلية وهي تتجه غرباً لتنفيذ الهجوم الجوي على القواعد المصرية وأرسلت  الإشارة المتفق عليها فى جدول الشفرة "عنب ، عنب ، عنب" وكانت تعني أن  هناك هجوم جوي على مصر، لم تصل الإشارة إلى مركز عمليات القوات الجوية لأن عريف الإشارة النوبتجي على جهاز الاستقبال كان قد غير التردد فى الصباح تبعا لجدول التشغيل دون أن يختبر التردد الجديد مع رادار عجلون ، أما مكتب السيد شمس بدران وزير الحربية فقد استقبل الإشارة بواسطة الضابط المناوب لكنه لم يخطر أحداً بها حيث لم يكن الوزير فى مكتبه.

 

 


([1]) الرئيس السادات - البحث عن الذات - ص224-225.

([2]) المشير محمد الجمسي - حرب أكتوبر1973 - ص90.

([3]) حسين الشافعي - مجلة أكتوبر - العدد 565 بتاريخ 23/8/1987.

([4]) الفريق أول محمد فوزي - حرب الثلاث سنوات - ص54-55.

([5]) الفريق أول محمد فوزي - حرب السنوات الثلاث - ص71-72.

([6]) الفريق أول محمد فوزي - حرب الثلاث سنوات - ص151.

([7]) المصدر السابق - ص152.

([8]) انتوني بيرسون - مؤامرة الصمت - ص73.

([9]) محمود عوض - ممنوع من التداول-ص96-نقلاً عن ميشيل بارزوهار- التاريخ السري لحرب إسرائيل.

([10]) المصدر السابق - ص144-145.

([11]) المصدر السابق - ص149.

Share
Click to listen highlighted text! Powered By GSpeech